الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الباب الثالث: دحض شبهات المشركين
الفصل الأول: دحض شبهات المشركين حول بعض المسائل الغيبية
المبحث الأول: حقيقة الملائكة وأراجيف المشركين حولهم
…
الباب الثالث: دحض شبهات المشركين: ويشتمل على ما يلي:
الفصل الأول: دحض شبهات المشركين حول بعض المسائل الغيبية
المبحث الأول: حقيقة الملائكة، وأراجيف المشركين حولهم:
الملائكة في الأصل جمع ملأك، ثم حذفت همزته لكثرة الاستعمال، فقيل: ملك، وقيل: أصله مألك بتقديم الهزة من الألوك، وهي الرسالة، ثم قدمت الهمزة وجمع1.
وسميت الملائكة ملائكة بالرسالة، لأنهم رسل الله بينه وبين أنبيائه، ومن أرسلت إليه من عباده2.
وهم أرواح قائمة في أجسام نورانية قادرة على التمثل بأنواع مختلفة الشكل بإذنه تعالى، مناسبة للحال التي يأتون فيها، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم"3.
وقد أخبر الله تعالى عن المشركين أنَّهم جعلوا الملائكة {الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} وجعلوهم بنات الله، وعبدوها معه، فأخطأوا خطأ
1 انظر: لسان العرب لابن منظور 10/496، والنهاية لابن الأثير 4/356.
2 انظر: تفسير الطبري 1/198.
3 صحيح مسلم 4/2494 كتاب الزهد، باب أحاديث متنوعة، رقم:60.
كبيراً في كل مقام من هذه المقامات الثلاث1.
وقد جادل القرآن الكريم هؤلاء المشركين في عدة مواضع، وألزمهم بالحجة البالغة، وبين سخافاتهم الوثنية، من ذلك قوله تعالى:{وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ} 2.
لقد اختاروا لأنفسهم البنين، مع كراهتهم للبنات واحتقارهم لهنَّ، فإنَّ أحدهم إذا أخبر بولادة بنت، صار وجهه متغيراً من الغم والحزن، ومسوداً من الغيظ والكآبة، ولذلك فإنه يتوارى من قومه خجلاً من العار الذي قد يلحقه بسبب مجيء البنت، وكأنها في نظره بلية من البلايا، وليست هبة إلهية من الله تعالى.
ثم يفكر فيما يصنع بهذه البنت، أيمسكها على الذل والهوان، أم يدفنها في التراب وهي حية، وهذا هو المذكور في قوله تعالى:{وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} 3.
1 تفسير ابن كثير 2/621.
2 سورة النحل الآيات: 57-59.
3 سورة التكوير الآيتان: 8-9.
وقوله تعالى: {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} في آية النحل، أي: ساء وقبح حكمهم في نسبتهم لخالقهم البنات، وهن عندهم مستحقرات، وإضافتهم لأنفسهم البنين لشرفهم عندهم، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
وهذا الكلام يشتمل على أمرين:
الأول: إثبات البنات لله، وذلك باطل؛ لأن العرب كانوا يستنكفون من البنت، والشيء الذي يستنكف المخلوق منه، كيف يمكن إثباته للخالق؟
الثاني: إثبات أنّ الملائكة إناث، وهذا أيضاً باطل، لأنَّ طريق العلم إما الحس، وإما الخبر، وإما النظر.
أما الحس فمفقود ههنا، لأنهم ما شاهدوا كيفية خلق الله للملائكة،
1 سورة الصافات الآيات: 149-159.
وهو المراد من قوله: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} .
وأما الخبر فمفقود أيضاً، لأنَّ الخبر إنما يفيد العلم، إذا علم كونه صدقاً قطعاً، وهؤلاء الذين يخبرون عن هذا الحكم كذابون أفاكون، لم يدل على صدقهم لا دلالة ولا أمارة، وهو المراد من قوله تعالى:{أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
وأما طريق النظر، فمفقود وبيانه من وجهين:
الأول: إنَّ دليل العقل يقتضي فساد هذا المذهب، لأنّ الله تعالى له الكمال المطلق، والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس، وهو المراد من قوله:{أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} .
يعني إسناد الأفضل إلى الأفضل أقرب عند العقل من إسناد الأخس إلى الأفضل، فإن كان حكم العقل معتبراً في هذا الباب، كان قولهم باطلاً.
الثاني: أن نترك الاستدلال على فساد مذهبهم، بل نطالبهم بإثبات الدليل الدال على صحة مذهبهم، فإذا لم يجدوا ذلك، ظهر ضده وهو خلو الدعوى من أي دليل يدل على صحة قولهم، وهذا هو المراد من قوله تعالى:{أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} .
فثبت بما ذكر أن القول الذي ذهبوا إليه لم يدل على صحته لا
الحس، ولا الخبر، ولا النظر، فكان المصير إليه باطلاً قطعاً1.
فهذه الآيات الكريمة، هي على شاكلة الآيات السابقة في معالجة مفتريات المشركين في الملائكة، بالأدلة العقلية، ومناقشتهم بمنطق الحجة والبرهان.
والآيات الكريمة تناقشهم فيما يلي3:
1 انظر: تفسير الفخر الرازي 26/127-128 بتصرف.
2 سورة الزخرف الآيات: 15-23.
3 انظر في ذلك: تفسير ابن كثير: 4/143، والتفسير الكبير للفخر الرازي 27/200 وما بعدها، وتفسير المراغي 25/76-81.
1-
جعلهم لله جزءاً من عباده، وقد أنكر القرآن عليهم ذلك في قوله تعالى:{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} ، ومعنى ذلك أنَّهم أثبتوا لله ولداً، فإن ولدَ الرجل جزء منه، ولا شك أن إثبات الولد لله تعالى محال قطعاً، لذلك فقد أكد الله سبحانه كفرهم بقوله:{إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ} ، أي: إنَّ الإنسان بجحوده بنعم الله التي أنعمها عليه ظاهر الكفر، لمن تأمل حاله وتدبر أمره.
2-
مناقشتهم عن سرّ اختيارهم للبنين، وجعلهم البنات لله رب العالمين، جاء ذلك في الإنكار عليهم في قوله:{أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ} ، وقد تقرر عند هؤلاء المشركين تفضيل البنين على البنات، فلو كان مرجع القسمة إلى العقل، لكان اللهُ أولى بالبنين من البنات، ولو كان مرجعها إلى العدل -بصرف النظر عن استحالة ذلك أو إمكانه- لكان العدل يقتضي على أسوأ تقدير، التسوية في القسمة، ولكنهم تجاوزا في الطغيان والسذاجة حدود المألوف من الذوق والفطرة الإنسانية، قال تعالى:{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} 1، أي: قسمة جائرة، وغير عادلة.
1 سورة النجم الآيتان: 21-22.
3-
بينت الآيات أنَّ الأنثى محل نقص في الظاهر والباطن، في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي وما في معناه، ليجبر من نقصها، كما قال بعض شعراء العرب:
وما الحلي إلا زينة من نقيصة
…
يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفرا
…
كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا1
وأما نقص معناه، فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار عند الانتصار، لا عبارة لها ولا همة، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت:
ما هي بنعم الولد، نصرها بكاء، وبرها سرقة2.
وهذا مما يبين سوء نظرتهم للبنت.
قال صاحب التسهيل عند هذه الآية: "والمقصد الردّ على الذين قالوا الملائكة بنات الله، كأنه قال: أجعلتم لله من ينشأ في الحلية؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفة النقص.
ثم أتبعها بصفة نقص أخرى فقال: {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} ، يعني: أنّ الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت، لم تقدر أن تبين حجتها لنقص عقلها، وقلما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف ينسب لله
1 انظر: تفسير ابن كثير 4/134.
2 المرجع السابق والصفحة.
من يتصف بهذه النقائص"1.
وقد زادت الآيات المشركين توبيخاً وإنكاراً في قوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} .
والمعنى أنَّ الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحد، فكيف يجوز للعاقل إثباته لله تعالى؟
وعن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا
يظل في البيت الذي يلينا
غضبان ألا نلدَ البنينا
وليس لنا من أمْرنا ماشينا
وإنّما نأخذُ بالذي أعطينا2
وفي قوله: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} ، كفر آخر تضمنه قولهم الشنيع، وهو اعتقادهم بأن الملائكة -الذين خلقوا لعبادة الله وطاعته- إناث.
وقد ردّ اللهُ عليهم مقالهم هذا، فقال:{أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} ، أي:
1 التسهيل لعلوم التنزيل 4/47.
2 الفخر الرازي 27/202، وروح المعاني للألوسي 25/70.
أحضروا وقت خلق الله لهم، حتى يحكموا بأنهم إناث؟
وفي هذا تجهيل للمشركين ورمي لهم بالسفه والحمق، ثم توعدهم على مقالهم بقوله:{سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} ، أي: ستكتب هذه الشهادة التي شهدوا بها في الدنيا في ديوان أعمالهم، ويسألون عنها يوم القيامة، ليأتوا ببرهان على صحتها، ولن يجدوا لذلك سبيلا.
4-
مناقشتهم في احتجاجهم بالقدر لعبادتهم الباطلة، جاء ذلك في قوله:{وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم} ، أي: وقالوا لو شاء الله لحال بيننا وبين عبادة الملائكة والأصنام، فإنه تعالى عالم بذلك، وقد أقرنا عليه.
قال ابن كثير: "وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً، فإنه تعالى قد أنكر ذلك عليهم أشدّ الإنكار، فإنه منذ بعث الرسل، وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له، وينهى عن عبادة ما سواه.."1.
وقال القرطبي: "وهذا منهم كلمة حق أريدَ بها باطل، فكل شيء بإرادة الله، والمشيئة غير الرضى، ولا يصحُّ الاحتجاج بالمشيئة، فإنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنّ الله أراد منهم ذلك"2.
ونستطيع أنْ نقول بأنَّ مشيئة الله تعالى وإرادته نوعان: مشيئة قدرية
1 تفسير ابن كثير 4/134.
2 الجامع لأحكام القرآن 16/73.
كونية، ومشيئة شرعية.
فالمشيئة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.
والمشركون جعلوا المشيئة الكونية والعامة دافعة للأمر والنهي، ولم يذكروها على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمر الله، دافعين بها شرعه1.
5-
إفهام المشركين بأنَّ عباداتهم في ذلك كله، ليس لها دليل ولا برهان، بل مجرد الآراء والأهواء وتقليد الآباء والأجداد {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَاّ يَخْرُصُونَ} ، أي: ما لهم على ما قالوا مستند يستندون إليه في تأييد دعواهم، وما هم إلا متقولون على الله زوراً وبهتاناً.
ولما بين تعالى بطلان قولهم بالعقل، أتبعه ببطلانه بالنقل، فقال تعالى:{أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ، أي: هل أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل هذا القرآن، ينطق بصحة ما يدّعون حتى يعولوا عليه، ويتمسكوا بتوجيهاته؟
ولما لم يكن لهم حجة على ما زعموا، اعترفوا بأنّه ليس لديهم
1 انظر: شرح الطحاوية لأبي العز الحنفي ص: 116، 154، ومجموع الفتاوى لابن تيمية 2/409-410 و 3/111.
مستند سوى تقليد آبائهم الجهلة {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} ، فلما عجزوا عن الإتيان بما يبرر هذا الافتراء، بطل قولهم، وسقطت شبهتُهُم، وظهر أمرُ الله متمثلاً في عقيدة التوحيد الخالصة من أدران الشرك ورواسب الوثنية.
ثم بين سبحانه وتعالى أن مقال هؤلاء سبقهم إلى مثله أشباهُهُم من الأمم المكذبة للرسل، فقال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَاّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} ، وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن التقليد في مثل ذلك ضلال قديم، وأسلافهم لم يكن لهم سند منظور يعتد به"1.
بيان القرآن لحقيقة الملائكة:
والقرآن الكريم يخبرنا بالكثير عن حقيقة الملائكة وأعمالهم في الكون، وعلاقتهم بالإنسان في الدنيا والآخرة.
ومن أهم أعمالهم وأبرزها إبلاغ الوحي الإلهي إلى الرسل عليهم السلام، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
1 انظر: تفسير البيضاوي 2/365، والمراغي 25/80.
شَيْءٍ قَدِيرٌ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 1.
وأخبر الله تعالى أنَّ الملائكة تظهر في صفوف منتظمة، تسبح له وتتلو آياته، فتلهم الحق والخير، وتزجر عن الكفر والشر، وقد أقسم اللهُ تعالى بها، وذلك في قوله تعالى:{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} 2.
ظهور الملائكة في صور البشر:
وقد تظهر الملائكةُ في صور رجال من البشر، لكن هذا لا يعني أنها تمارس ما يمارسه البشر من طبائع وغرائز، مثل الأكل والشرب وغيره.
فقد جاءت الملائكة إبراهيم عليه السلام تبشره بمولد ابنه إسحاق على هيئة رجال من البشر، ولما كان إبراهيم عليه السلام لم يعرفهم بعد، فإنَّه سارع بإعداد وليمة لإطعامهم، لكن الملائكة امتنعت عن الأكل الذي قدمه لهم إبراهيم، ولم تمتد له أيديهم، فشعر إبراهيم عند ذلك
1 سورة فاطر الآيتان: 1-2.
2 سورة الصافات: 1-5.
بالخوف والريبة، ولكنهم أخبروه بأنهم رسل الله إلى قوم لوط عليه السلام.
ومن ظهور الملائكة في صورة البشر، ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن جبريل عليه السلام كان يأتيه في صورة رجل أعرابي حسن المنظر.
من ذلك حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه
1 سورة هود الآيات: 69-73.
إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد أخبرني عن الإسلام؟ فقال: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسول الله
…
" 1 الحديث.
وفيه قال: "ثم انطلق فلبث ملياً، ثم قال: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنّه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم".
طاعة الملائكة لربهم، وشهادتهم بوحدانيته:
والملائكة يخشون الله تعالى، ويخافون عقابه، ومن طبيعتهم الطاعة وعدم العصيان، قال الله تعالى:{وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2.
وهم يشهدون بوحدانية الله تعالى: {شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3.
ويشهدون على صحة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم:
1 صحيح مسلم 1/37 كتاب الإيمان، حديث رقم:1.
2 سورة النحل الآيتان: 49-50.
3 سورة آل عمران الآية: 18.
وهم يحملون عرش ربهم، ويستغفرون للمؤمنين:{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} 2.
وهم درجات عند ربهم، ولكل منهم مقام لا يتعداه، قال تعالى:{وَمَا مِنَّا إِلَاّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} 3.
حفظ الملائكة للإنسان في الدنيا بإذن الله:
ولقد جعل الله تعالى من الملائكة من يحفظ الإنسان من الأذى، إلى نهاية أجله.
قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء
1 سورة النساء الآية: 166.
2 سورة غافر الآية: 7.
3 سورة الصافات الآيات: 164-166.
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ} 1.
وقد أيد الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالملائكة في هجرته من مكة إلى المدينة، قال تعالى:{إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3.
مشاركة الملائكة المسلمين في بعض الغزوات:
وفي غزوة بدر، حيث كان المسلمون في قلة من العدد والسلاح، لا يتميزون إلاّ بما اطمأنت به قلوبهم من عقيدة التوحيد الخالص، والثقة في
1 سورة الأنعام الآية: 61.
2 سورة الرعد الآية: 11.
3 سورة التوبة الآية: 40.
نصر الله الذي سعوا إليه بالعزم الصادق، والتضرّع الخالي من الغرور والكبرياء، أمد الله المسلمين بألف من الملائكة مردفين، قال تعالى:{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ} 1.
وفي غزوة الأحزاب، نزلت الملائكة، وكان ما فعلته بالكفار، وما ألقته في قلوبهم من الرعب كفيلاً بردّهم خائبين. قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 2.
وفي يوم حنين نزلت الملائكة، ونكّلت بالكافرين جزاء لهم على كفرهم وبغيهم على المؤمنين بالله تعالى، قال سبحانه:{وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ} 3.
تسجيل الملائكة لأفعال العباد:
ومن الملائكة المكلفين بمراقبة الناس في جميع حركاتهم وسكناتهم،
1 سورة الأنفال الآية: 9.
2 سورة الأحزاب الآية: 9.
3 سورة التوبة الآية: 26.
وتسجيل كل ما يصدر عنهم من خير وشر.
وقال الله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} 2.
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} 3.
تنزيل الملائكة لتثبيت المؤمنين عند الموت:
وليست علاقة الملائكة بالناس في الحياة فحسب، بل إنها تتنزل عند الموت على الذين آمنوا بالله صدقاً وأخلصوا العمل له، بأنّ لا يخافوا مما يقدمون عليه من أهوال القيامة، ولا يحزنوا على ما تركوه في الدنيا من الأهل والمال والولد، وأنَّ لهم الجنة، وأنَّ الملائكة أنصارهم وأولياؤهم في الدنيا والآخرة، يرشدونهم إلى ما فيه الخير والسعادة.
1 سورة ق الآيتان: 17-18.
2 سورة الإنفطار الآيتان: 10-11.
3 سورة الزخرف الآية: 80.
وحين يتعرض المؤمنون لغمرات الموت، فإنَّ الملائكة تبشرهم بالجنة، وتبعث في نفوسهم الأمن والسكينة، قال تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ المَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} 2.
حسن استقبال الملائكة للمؤمنين في الآخرة:
وتستقبل الملائكةُ المؤمنين على أبواب الجنة، يهنئونهم بما هم قادمون عليه، فلا تخيفهم أهوال يوم القيامة، قال تعالى:{لَا يَحْزُنُهُمُ الفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ المَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} 3.
وفي الجنة ينعم المؤمنون بتسليم الملائكة عليهم، وترحيبهم بهم، قال
1 سورة فصلت الآيات: 30-32.
2 سورة النحل الآية: 32.
3 سورة الأنبياء الآية: 103.
تعنيف الملائكة للكفار عند قبض أرواحهم:
وعلى النقيض مما سبق، يكون موقف الملائكة مع الكافرين الجاحدين، ذلك أنه من بدء سكرات الموت، فإنَّ الملائكة تتلقف أولئك الخاسرين بالتعنيف والأذى، والحساب العسير، على ما فرطوا في جنب الله، واتباعهم للعقائد الضالة، ثم يعرضون عليهم مشاهد مما ينتظرهم من عذاب يوم القيامة.
1 سورة الرعد الآيتان: 23-24.
2 سورة الأنعام الآيتان: 93-94.
لعن الملائكة للكفار:
وهم يلعنون الكفار مع لعن الله لهم والناس أجمعين، قال تعالى: {إِنَّ
1 سورة الأنفال الآيتان: 50-51.
2 سورة النحل الآيتان: 28-29.
3 سورة النساء الآية: 97.
الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} 1.
الملائكة لا يملكون من الأمر إلا ما شاء الله:
وعلى الرّغم مما رأينا من الصّلة الوثيقة بين الملائكة والإنسان في جميع مراحله المختلفة، سواء أكان ذلك قبل الموت أم بعده، فإنها لا تملك من أمره شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة، وكلُّ ما يمكن قوله إنَّ الملائكة جنود الله وعبيده، منفذون لأوامره، كما قال تعالى:{لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} 2.
أما الأمر فكله لله تعالى، لا يشاركه فيه من خلقه مشارك، ولو كان نبياً مرسلاً، أو ملكاً مقرباً، قال تعالى:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 3.
1 سورة البقرة الآية: 161.
2 سورة التحريم الآية: 6.
3 سورة الأنبياء الآية: 26-29.
وقال تعالى: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَاّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} 1.
الأمر بالإيمان بالملائكة:
وقد أمر الله تعالى عباده بالإيمان بهم، والتصديق بوجودهم، بل
1 سورة النجم الآية: 26.
2 سورة آل عمران الآية: 80.
3 سورة النساء الآيتان: 172-173.
وقرن الإيمان به تعالى بالإيمان بهم، قال تعالى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} 1.
وجعل تعالى إنكارهم كفراً وضلالاً، قال تعالى: {
…
وَمَن يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيدًا} 2.
خلاصة ما تقدم:
ومن هذا يتبين لنا أنّ القرآن الكريم بين منزلة الملائكة عند الله تعالى بما لا يحتملُ الجدل والمناقشة، فما الملائكة إلاّ عباد مكرمون، يفعلون ما يؤمرون، وهم يحصون أعمال العباد، وهم حملة عرش الرحمن تبارك وتعالى، يطُوفوُن حوله ويسبحون بحمد ربّهم، وينزلون فيما عظم من الأمور بإذن الله تعالى، ويشهدون بوحدانيته، ويشهدون على صحة ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن وحمل الرسالة.
وهم يُثّبتُون المؤمنين في جهادهم، ويصلون عليهم، ويتلقونهم عند وفاتهم بالبشرى والتحية الطيبة، والتكريم الحسن والاستغفار لهم، في حين أنّهم يعاملون الكفار عند الوفاة بالشدة والقسوة، ويتلقونهم في الآخرة بمثل ذلك ويلعنونهم.
1 سورة البقرة الآية: 285.
2 سورة النساء الآية: 136.
ومع ذلك كله، فإنَّ الملائكة مهما علت منزلتهم عند ربهم، فإنَّهم لا يخرجون عن كونهم عبيداً لله تعالى، خاضعين له، مشفقين من خشيته، عارفين لحدودهم، فلا يتكلمون ولا يشفعون إلاّ بإذن ربهم ورضاه.
وفي ذلك كله الردّ القاطع على مفاهيم المشركين الخاطئة نحو الملائكة، والتصحيح لما في أذهانهم من انحرافات وخرافات.