المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌مقدمة المحقق 1 - تعريف بالمؤلف: ولد أحمد بن محمد بن أحمد - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌ ‌مقدمة المحقق 1 - تعريف بالمؤلف: ولد أحمد بن محمد بن أحمد

‌مقدمة المحقق

1 -

تعريف بالمؤلف:

ولد أحمد بن محمد بن أحمد المقري المكنى بأبي العباس والملقب بشهاب الدين سنة 986 بمدينة تلمسان، وأصل أسرته من قرية مقرة - بفتح الميم وتشديد القاف المفتوحة - وقد بين حال هذه الأسرة وشئونها عندما تحدث عن جده الأعلى أحمد المقري حديثا ضافيا (في المجلد الخامس من النفح) . أما عن صلة الأسرة بتلمسان وصلته هو بها فقد قال (في المجلد السابع) : " وبها ولدت أنا وأبي وجدي وجد جدي، وقرأت بها ونشأت إلى أن ارتحلت عنها في زمن الشبيبة إلى مدينة فاس سنة 1009 ثم رجعت إليها آخر عام 1010 ثم عاودت الرجوع إلى فاس سنة 1013 إلى أن ارتحلت عنها للمشرق أواخر رمضان سنة 1027

".

إذن فإن أبا العباس المقري نشأ بتلمسان وطلب العلم فيها

وكان من أهم شيوخه التلمسانيين عمه الشيخ سعيد المقري، ولما فارقها إلى فاس كان

ص: 1

في حدود الرابعة والعشرين من عمره، وفي فاس مضى يطلب العلم على شيوخها إلى أن حل فيها الفقيه إبراهيم بن محمد الآيسي أحد قواد السلطان أحمد المنصور الذهبي، فأعجب بالمقري الشاب واصطحبه معه إلى مراكش وقدمه إلى السلطان، وهناك التقى بابن القاضي وبأحمد باب التنبكي صاحب نيل الابتهاج وبغيرهما من علماء مراكش وأدبائها وكانت هذه الرحلة مادة كتابه " روضة الآس " الذي أخذ في كتابته حين عودته إلى فاس ومنها إلى بلده تلمسان، ليقدمه إلى السلطان المنصور، ولكن السلطان توفي (سنة 1012) والمقري ما يزال في بلده. ومع ذلك فإن الهجرة من تلمسان كانت قد ملكت عليه تفكيره فلم يلبث أن غادر مسقط رأسه نهائياً إلى فاس (1013) وأقام فيها حوالي خمسة عشر عاماً؛ يقول في النفح:" وارتحلت منها إلى فاس حيث ملك الأشراف ممتد الرواق فشغلت بأمور الإمامة والفتوى والخطابة وغيرها ". والحق أن المقري أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال أصبح في هذه الفترة من صدور العلماء المرموقين، ولكن اضطراب الأحوال في المغرب بعد وفاة المنصور الذهبي وصراع أبنائه على الحكم، وتعرض مدينة فاس نفسها لأعمال المد والجزر في تلك الظروف المتقلبة، كل ذلك لم يكن يكفل للقاطنين فيها شيئاً من الهدوء؛ ولم تكن بلاد المغرب حينئذ فريسة للأطماع الداخلية وحسب، بل تعرضت لغزوات الأسبان والبرتغاليين، وفي سنة 1016 كان المقري يشهد - عن كثب - انقطاع آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس حين تفرقت الجالية الأندلسية تطلب لها مأوى في سلا وتونس وغيرهما من البلاد المغربية؛ وبعد ذلك بثلاث سنوات كان الأسبان (الإصبنيول) يستولون على مدينة العرائش في المغرب بمواطأة الشيخ المأمون أحد أبناء المنصور؛ ولقي هذا العمل استنكاراً من الناس، فلجأ الشيخ إلى الفقهاء ليفتوه في الأمر: لقد كان هو لاجئاً عند صاحب إسبانيا يطلب منه المعونة فوعده بها لقاء إعطائه العرائش

ص: 2

وما سمح له بمغادرة بلاد إسبانيا إلا بعد أن قدم له أولاده رهينة حتى يفي بوعده. فهل من حقه أن يفدي أولاده بهذا الثغر أم لا؟ وكان هذا السؤال امتحانا عسيرا للمتذممين من المفتين، ولذلك هرب جماعة منهم واختفوا عن الأنظار، وكان المقري واحدا من أولئك الذين لجأوا إلى الاختفاء.

غير أن هذه الحادثة لم تدفع بالمقري إلى مغادرة فاس، بل بقي فيها عدة سنوات أخرى، أحرز فيها منصب الإفتاء رسميا بعد وفاة شيخه محمد الهواري (1022) . فهل ثمة من سبب مباشر دفعه إلى الرحلة عنها؟ يقول الأستاذ محمد حجي متابعا السيد الجنحاني: " وكان خروج المقري من فاس بسبب اتهامه بالميل إلى قبيلة شراكة (شراقة) في فسادها وبغيها أيام السلطان محمد الشيخ السعدي فارتحل إلى الشرق

الخ "؛ ولكن المصادر لا تذكر شيئا عن هذا السبب، وكل ما قاله المقري نفسه " ثم ارتحلت بنية الحجاز، وجعلت إلى الحقيقة المجاز "، بل إنه استأذن عبد الله بن شيخ نفسه في السفر، فأذن له. غير أن إلصاق التهمة به ليس مستبعداً، فقد كان المقري عند هذا السلطان خيلت لبعض سكان تلك المدينة أن المقري ضالع مع سلطانه ومع تلك القبيلة نفسها ضد الفاسين. وبغير ذلك - أو ما يشبهه - لا يمكن أن نفسر عدم عودة المقري إلى المغرب، مع شدة حنينه إلى وطنه وقسوة ما لقيه في الترحال، وخاصة ما لحقه من المضايقات أثناء وجوده في مصر.

ص: 3

وفي أواخر رمضان عام 1027 غادر مدينة فاس متوجهاً إلى المشرق فوصل تطوان (تطاون) في ذي القعدة من ذلك العام، ومن هناك ركب السفينة التي عرجت به على تونس وسوسة حتى وصلت الإسكندرية، ومنها إلى القاهرة فالحجاز بحراً، فوصل مكة في ذي القعدة من العام التالي وبقي فيها بعد العمرة ينتظر موسم الحج، ومنها توجه إلى المدينة لزيارة قبر الرسول (ص) ثم عاد إلى مصر (محرم 1029) وفي شهر ربيع زار بيت المقدس وأخذ يتردد إلى مكة والمدينة حتى كان في عام 1037 قد زار مكة خمس مرات والمدينة سبع مرات، وقد أوفى هذا الجانب تفصيلاً في كتابه ((نفح الطيب)) ، قال: ((وحصلت لي بالمجاورة فيها [مكة] المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يحيل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضاءت تلك الأنوار، وألفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع

ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة 1037 للهجرة)) .

وفي أوائل رجب من العام المذكور قصد إلى زيارة بيت المقدس، فبلغه أواسط رجب وأقام فيه نحو خمسة وعشرين يوماً، وألقى عدة دروس بالأقصى والصخرة، وزار مقام الخليل إبراهيم ومزارات أخرى؛ وفي منتصف شعبان عزم على التوجه إلى دمشق، وهناك تلقاه المغاربة وأنزلوه في مكان لا يليق به، فأرسل إليه الأديب أحمد بن شاهين مفتاح المدرسة الجمقمقية، فلما شاهدها

ص: 4

أعجبته وتحول إليها؛ وقد أسهب في ذكر حاله بدمشق وما تلقاه به أهلها من حسن المعاملة، ويكفي هنا أن ننقل بعض ما قاله المحبي: ((وأملي صحيح البخاري بالجامع تحت قبة النسر بعد صلاة الصبح، ولما كثر الناس بعد أيام خرج إلى صحن الجامع، تجاه القبة المعروفة بالباعونية، وحضره غالب أعيان عليماء دمشق، وأما الطلبة فلم يتخلف منهم أحد، وكان يوم ختمة حافلاً جداً، اجتمع فيه الألوف من الناس، وعلت الأضواء بالبكاء، فنقلت حلقة الدرس إلى وسط الصحن، إلى الباب الذي يوضع فيه العلم النبوي في الجمعيات من رجب وشعبان ورمضان، وأتي له بكرسي الوعظ فصعد عليه، وتكلم بكلام في العقائد والحديث لم يسمع نظيره أبداً، وتكلم على ترجمة البخاري

وكانت الجلسة من طلوع الشمس إلى قريب الظهر

ونزل عن الكرسي فازدحم الناس على تقبيل يده، وكان ذلك نهار الأربعاء سابع عشري رمضان سنة 1037، ولم يتفق لغيره من العلماء الواردين إلى دمشق ما اتفق له من الحظوة وإقبال الناس)) . وكانت إقامته بدمشق دون الأربعين يوماً، وقد خرج جمهور كبير من علمائها وأعيانها في وداعه، عندما اعتزم العودة إلى مصر.

وحدث تلميذ له كان يلازمه ويرافقه في تقلباته بدمشق وزياراته لمعالمها - وهو الشيخ مرز الشامي - قال: إنه ذهب معه ذات يوم لزيارة قبر الشيخ محيي الدين ابن العربي في خارج المدينة، قال: وكان خروجنا بعد صلاة الصبح، ووصلنا إلى المزارة عند طلوع الشمس، فلما جلسنا عنده قال لي الشيخ المقري: ((إني ابتدأت عند خروجنا إلى الزيارة ختمة من القرآن لروح هذا الشيخ وقد ختمتها الآن - وهذا شيء مستغرب لقصر المدة التي تمت فيها الختمة.

وفي شوال من العام نفسه كان بمدينة غزة، فنزل فيها ضيفاً على الشيخ

ص: 5

الغصين، وكانت للمقري مكانة عند أمير غزة، فسأله تلميذه الشيخ عبد القادر ابن الشيخ الغصين أن يتوسط لدى الأمير بأن يسمح له ببناء بيت ببعض رحاب المسجد (إذ كانت دار الغصين بعيدة عن المسجد وكانت مهمته أن يقرأ ويقرئ في المسجد نفسه) فقال له المقري: لا بد من حضورك معي عند الدخول على الأمير، فلما دخلا عليه قدم المقري للأمير مقدمات في فضل بناء المساجد والمدارس، ثم أنني على الشيخ عبد القادر، وقال له: إنه من أهل العلم وليس ببلدكم مثله، وأراد أن تأذنوا له في بناء المساجد يقرأ فيه ويقرئ، فقال الباشا: مثلك لا يليق له البناء في المسجد ولكن هنا موضع نحبسه عليك - وهو موضع المدرسة - فكان إنشاء تلك المدرسة بفضل وساطة المقري؛ وقص الشيخ عبد القادر أيضاً حكاية تدل على تواضع المقري أثناء إقامته بغزة، وذلك أن الشيخ الغصين قال له:((يا سيدي أحمد إنا نشتهي الطعام المسمى عند المغاربة بالكسكس فهل في أصحابكم من يحسن صنعه؟)) فما كان من المقري إلا أن صنعه لهم بنفسه؛ وكان عبد القادر يحتفظ بنسخة من كتاب شيخه المقري المسمى ((إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة)) وعليها تعليقات بخط المؤلف قيدها لدى مروره بمدينة غزة في تلك السفرة.

عاد المقري إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، وكان أثناء إقامته الطويلة بمصر قد تزوج امرأة من عائلة السادة الوفائية، رزق منها بنتاً، توفيت عام 1038، ويبدو أن العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن موشحة بالوفاق، مما اضطره إلى تطليقها؛ وقد زادت هذه الحادثة من تنغيص حياته بمصر، ويقول الخفاجي: إنه وجد بمصر الحسد والنفاق، وتجارة الآداب ليس لها بسوقها نفاق، وفيما كان يزمع الهجرة من مصر ليستطون الشام، وافته منيته في جمادي الآخرة

ص: 6

سنة 1041.

2 -

مؤلفات المقري

ترك المقري عدداً من المؤلفات، وفي ما يلي ثبت بأسماء بعضها:

1 -

روضة الآس العاطرة الأنفاس في ذكر من لقيته من أعلام الحضرتين مراكش وفاس، ألفه حوالي 1011 - 1012 ليقدمه إلى المنصور أحمد الذهبي (طبع بالمطبعة الملكية بالرباط عام 1946 بتحقيق الأستاذ عبد الوهاب بن منصور) .

2 -

أزهار الرياض في أخبار عياض، ألفه أثناء إقامته بفاس 1013 - 1027 ولم يطبع منه إلا ثلاثة أجزاء بتحقيق الأساتذة مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي (القاهرة 1939 - 1942) .

3 -

إضاءة الدجنة بعقائد أهل السنة، منظومة بدأ بتأليفها أثناء زيارته للحجاز سنة 1929 ودرسها في الحرمين الشريفين، وأتمها في القاهرة سنة 1630، وقد قال عبد القادر الغصين إنه كان السبب في تأليفها، قال:" فإني كنت أقرأ عليه صغر الشيخ السنوسي بمصر، فسألنا منه نظماً في العقائد، فكان كلما قرأ درساً نظمه فيقرأه غداً كذلك إلى أن ختمه " وكانت عند عبد القادر نسخة منها عليها تعليقات للمقري، ومن جملة ما كتبه على حاشيتها، عند قوله " وكان إتمامي له في القاهرة ":" هو جملة التاريخ لأن عدة حروفة بالجمل 1036 وكتب المقري في آخر تلك النسخة ما نصه: " يقول مؤلف هذه العقيدة العبد الفقير أحمد المقري المالكي - جبره الله - إني صححت هذه النسخة جهد استطاعتي

ص: 7

وأصلحت فيها ما عثرت عليه، وقد كتب من هذه العقيدة فيما علمت بمصر المحروسة والشام والحجاز والمغرب نيف على ألف نسخة، ولله الحمد، وكتبت خطي على نحو المائتي منها، وقد كتبها غالب طلبة مكة لما قرأتها هناك، وأهل بيت المقدس لما قرأتها به أيضاً، وأهل دمشق حين درستها بها، وأخذ منها أصحابنا إلى المغرب والصعيد نسخاً، وكتب لي بعض أصحابنا بالصعيد أنه كتب منها هناك نيف على مائة نسخة، وكذلك برشيد والإسكندرية، جعلها الله خالصة لوجهه الكريم، وكتب لشوال سنة 137 " (طبعت بمصر سنة 1304 بهامش شرح العقيدة السنوسية للشيخ عليش) .

4 -

ادحاف المغرم المغرى في شرح السنوسية الصغرى، وقد تقدم (رقم: 3) أنه كان يدرس السنوسية لطلبته بمصر (ومن شرحه لها نسختان بالخزانة الملكية بالرباط رقم 3544، 5928) .

5 -

أجوبة على مسائل أرسلها إليه أستاذه محمد بن أبي بكر الدلائي سماها " أعمال الذهن والفكر في المسائل المتنوعة الأجناس

" (توجد ضمن كتاب البدور الضاوية بخزانة الرباط) .

6 -

حاشية على شرح أم البراهين للسنوسي (ذكرها المحبي واليواقيت) .

7 -

عرف النشق من أخبار دمشق (ذكره المحبي، ولعله كان مشروعاً لم يتم) .

8 -

شرح مقدمة ابن خلدون (ذكره حاجي خليفة 2: 106) .

9 -

قطف المهتصر في شرح المختصر، شرح على حاشية مختصر خليل (ذكره المحبي) .

ص: 8

10 -

فتح المتعال في مدح النعال (طبع بالهند) ؛ ولما اطلع الرحالة أبو سالم العياشي على كتاب بمكة اسمه " منتهى السول من مدح الرسول " ووجد فيه مجموعة من الشعر في مثال نعل الرسول (ص) قال: " ولم يطلع على هذا التأليف شيح مشايخنا الحافظ سيدي أبو العباس أحمد المقري، مع سعة حفظه وكثرة اطلاعه ومبالغته في التنقير والتفتيش عما قيل في النعل، ولم يلغ لمن قبل عصره إلا على عدد أقل من هذا بكثير، وغالب ما أودعه في كتابه " فتح المتعال في مدح النعال " كلامه وكلام أهل عصره، ولو اطلع على هذا الكتاب لاغتبط به كثيراً ".

11 -

وكان المقري قد ختم كتابه السابق برجز في النعال الشريفة ثم أفرده في نسخة بعث بها إلى شيخه الدلائي (المخطوط رقم 565 بالخزانة العامة بالرباط) ولعله المسمى " النفحات العنبرية في نعل خير البرية ".

12 -

وللمقري أراجيز كثيرة أخرى منها " أزهار الكمامة في شرف العمامة "(الخزانة العامة بالرباط؛ المخطوطة 984د) .

13 -

والدر الثمين في أسماء الهادي الأمين (ذكره المحبي واليواقيت) .

14 -

ورجز " نيل المرام المغتبط لطالب المخمس الخالي الوسط "(مخطوطة الرباط 2878 ك) .

15 -

البلدة والنشأة (ذكره المحبي واليواقيت) .

16 -

الغث والسمين والرث والثمين (ذكره في اليواقيت) .

17 -

حسن الثنا في العفو عمن جنى (طبع بمصر في 47 ص؛ دون تاريخ) .

18 -

الأصفياء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالة بعث بها إلى المقري) .

19 -

الشفاء في بديع الاكتفاء (ذكره أحمد الشاهيني في رسالته) .

ص: 9

20 -

القواعد السرية في حل مشكلات الشجرة النعمانية.

21 -

النمط الأكمل في ذكر المستقبل.

22 -

أرجوزة في الإمامة.

23 -

نظم في علم الجدول (ذكره في اليواقيت) .

24 -

وذكر في النفح أنه كان يزمع تأليف كتاب في تلمسان يسميه: ((أنواء نيسان في أنباء تلمسان)) ويبدو أنه لم يحقق ذلك.

25 -

شرح له على قصيدة ((سبحان من قسم الحظوظ)) (ذكره في اليواقيت) .

26 -

ونسبت له المصادر كتاب ((الجمان من مختصر أخبار الزمان)) إلا أن الأستاذ الجنحاني يشك في نسبة هذا الكتاب إليه.

27 -

رسالة ((إتحاف أهل السيادة بضوابط حروف الزيادة)) (ذكرها في النفح 3: 457 ولعله لم يفردها) .

28 -

وأخيراً كتاب ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب)) الذي سأتحدث عنه في ما يلي:

3 -

كتاب نفح الطيب:

حدثنا المقري في مقدمة كتابه عن جميع المرحلة التي سبقت تهممه لتأليف هذا الكتاب، ومنه نفهم أنه ثمرة لزيارته التي قام بها لدمشق، فقد حدث تلامذته فيها عن لسان الدين ومكانته السياسية والأدبية فأثار في نفوسهم حب الاستطلاع إلى مزيد من البيان عنه، وكان أحمد الشاهيني المدرس بالجمقمقية

ص: 10

أشدهم إلحاحاً في ذلك، ولهذا نزل المقري عند رغبته، ووعده ((بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية)) ، وبعد أن قطع في العمل شوطاً بدا له أن هناك صعوبات لا يستطيع التغلب عليها، فخامره التردد من جديد، وعاود ابن شاهين الإلحاح وكان اطلع على بعض ما جمعه المقري، فأحس بخيبة أمله لأن المقري لم يدرج في فاتحة الكتاب المجموع ما دار بينها من محاوره، مما اضطر المقري إلى معاودة العمل على نسق جديد، وتخصيص قسم من المقدمة ومن الكتاب لذكر دمشق وأصحابه فيها، وكان في البداية يزمع أن يسميه ((عرف الطيب في التعريف بالوزير ابن الخطيب)) فلما رأى أن المادة التي اجتمعت لديه قد استفاضت بحيث شملت تاريخ الأندلس وأدبها غير اسم الكتاب وجعله ((نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب وذكر وزيرها لسان الدين ابن الخطيب)) . وعلى هذا النحو أصبح الكتاب قسمين: قسم خاص بالأندلس عامة وقسم خاص بلسان الدين وما يتعلق به من شئون. وفي كل قسم من هذين القسمين ثمانية فصول. وقد فرغ من كتابته ((عشية يوم الأحد المسفر صباحها عن 27 رمضان سنة 1038 بالقاهرة)) ثم ألحق فيه كثيراً في السنة التالية بعدها فيكون جميعه في آخر ذي الحجة الحرام تتمة سنة 1039.

والحق أن زيارة المقري لدمشق كانت ارتباطاً ((بوعد)) ساعد المقري على إنجاز الكتاب، ولكني أرجح أن فكرة الكتاب كانت تجول في ذهنه، قبل ذلك؛ لأسباب منها:

1 -

أن إعجابه بلسان الدين ابن الخطيب، بحيث يقلده في طريقته الإنشائية ويحفظ الكثير من رسائله وشعره، كان قميناً بدفعه إلى كتابه مؤلف عنه، وخاصة لإحساسه بالغربة والوحشة اللتين أحس بهما ((مثله الأعلى)) حينما لجأ إلى المغرب.

ص: 11

2 -

أن مثل هذا الكتاب كان كفيلاً بأن ينفس عنه كربه، ويعود به من خلال أشعار الحنين ومن خلال التاريخ الماضي والقريب إلى وطنه، عودة نفسية وروحية.

3 -

أن المنهج للتأليف في لسان الدين كان سهلاً مفتوح المسارب أمام عينيه لأنه قد مارس مثل هذا المنهج حينما كتب عن القاضي عياض كتاباً سماه ((أزهار الرياض)) .

4 -

أن انفصام آخر الروابط الإسلامية من الأندلس لم يكن قد مضى عليه إلا سنوات، فكانت صورة ((المأساة)) ما تزال تلح على مخيلة المقري، وكان الربط بين الماضي والحاضر من الأمور التي تعين على التذكر والتذكير والعبرة في آن واحد؛ وكل من درس ((نفح الطيب)) بتأمل، سيشعر بهذه الناحية، ويكفينا مثلاً على ذلك تلك الوقفة الطويلة التي وقفها المقري وهو يستعيد صورة المنصور بن أبي عامر الذي يمثل البطولة العربية بالأندلس في أوجها.

5 -

كان المقري كغيره من المغاربة يحس مدى إهمال المشارقة للتراث الأندلسي والمغربي، وكان ذلك الإهمال في القديم للاعتداد بالثقافة المشرقية، أما في عصر المقري فكان سببه ضعف الثقافة عامة، وحسبك أن تجد لسان الدين - وهو من هو في المغرب والأندلس - محتاجاً إلى من يعرف المشارقة به ويحدثهم عن أخباره؛ ولهذا وجد المقري أن كتابه مؤلف جامع شامل تحقق هذا الغرض، وكان في البدء يزمع أن يقصره على لسان الدين، ثم وجد أن صورة لسان الدين لا يمكن أن تتضح إلا على محمل من التطور الأدبي والسياسي في الأندلس. وفي الوقت نفسه كان الكتاب يحقق تبيان الصلة الثقافية بين المشرق والمغرب، ولهذا خصص جزءاً كبيراً من كتابه للرحلتين: رحلة المغاربة إلى الشرق ورحلة المشارقة إلى الأندلس والمغرب، وفي هذه الناحية الثانية كان المقري يحس أنه حلقة في تلك السلسلة الطويلة، وكأنه في مقدمة الكتاب وفي بعض

ص: 12

فصوله الأخرى سجل طرفاً من رحلة، كما سجل أسلافه من قبل أخبار تنقلاتهم. وبذلك أسعفه مؤلفه هذا على أن يحقق ما قد نسميه ((نزعة مغربية)) وهي نزعة لا تقتصر على الرحلة وإنما كانت تشمل نقل التراث المغربي الخالص والأندلسي إلى المشارقة.

ولست أرى المقري مغالياً أو مترسماً لتقليد معين حين يعلن عن تهيبه من الإقدام على هذا التأليف؛ نعم كان المنهج أول الأمر واضحاً في مخيلته، ولكنه ما إن بدأ العمل حتى واجهته أكبر صعوبة يمكن أن تواجه من يتصدى لذلك، أعني ندرة المصادر الأندلسية والمغربية في المشرق. ولسنا ننكر أن الرجل كان ذا ذاكرة قوية، ولكن الذاكرة القوية لا يمكن أن تسعفه في كل وجه، ولو كانت كذلك حقاً لأنقذته من التكرار الكثير الذي يقع في صفحات متقاربات أحياناً، ثم هناك أشياء قد اختلت عن صورتها الأولى في ذاكرته لأنه حفظها حفظها منذ عهد بعيد، وإذن فما العمل؟ إن كل من يقرأ النفح يحس أن المقري لم يكن لديه نسخة من الذخيرة أو من المقتبس أو من زاد المسافر أو من الصلة لابن بشكوال، ولم يتح له أن يطلع على صلة الصلة والذيل والتكملة والحلة السيراء وتحفة القادم وجذوة المقتبس ومعجم أصحاب الصدفي

إلخ؛ وإذا رأيته يذكر هذه الكتب فهو إنما ينقل عنها بالواسطة. ولهذا كله انقض على مصادر معينة فأسرف في النقل عنها لأنه لا يملك سواها، فقد وجد لديه من مؤلفات ابن سعيد المغرب والقدح المعلى (أو اختصار القدح) ووجد للسان الدين نفسه الإحاطة وللفتح ابن خاقان المطمع والقلائد، وكان بين يديه كتاب ابن الفرضي في العلماء والرواة وكتاب المطرب لابن دحية ودرر السمط وكتاب التكملة لابن الأبار، وتاريخ ابن خلدون ونيل الابتهاج لشيخه أحمد بابا، وأمعن في التفتيش عن كل ما دونه المشارقة من أخبار الأندلس فاستعان بابن خلكان وبالخريدة وبكتاب بدائع البدائه لابن ظافر، ونقل أكثر ما فيها من حكايات وأخبار أندلسية، وكان مما جرأه على الاضطلاع بذلك العبء، أنه كان قد نقل كثيراً من المادة

ص: 13

اللازمة (أصالة أو استطراداً) في كتابه أزهار الرياض وروضة الآس، فارتاحت نفسه إلى إعادة جملة غير قليلة من مادة كتابيه هذين.

هذه الصورة قد تخيل للقارئ أن الجهد في تأليف النفح لم يتعد تكديس المادة من المصادر التي تيسرت حينئذ للمؤلف. ولكن من الجور على المقري ألا نعترف له بفضله الكبير وهو قدرته - رغم الاستطرادات - على تسخير مادته لتصوير الحياة السياسية والاجتماعية والأدبية بالأندلس وحرصه على أن يستنفذ من يد النسيان والضياع كثيراً من الأخبار عن الأندلس والمغرب؛ وما يزال قسم كبير من كتابه منقولاً عن أصول ضاعت ومستوعباً لأصول أخرى لا نجدها في سواه. وقد ظهر كثير من المصادر التي نقل عنها في خلال الأعوام المائة الأخيرة، إلا أن ظهورها لم ينقص من قيمة النفح كثيراً، بل إن وجود النفح كان بمثابة الوثيقة النافعة في تحقيق تلك المصادر. وعلى سبيل المثال أقول: إن المقري قد اعتمد كثيراً على المغرب لابن سعيد ولكن المقارنة الأولية بين نص المغرب المنشور ونص النفح تدلنا على أن المقري اعتمد نسخة أوفى بكثير من هذه التي لدينا؛ كذلك نقل كثيراً عن المطمح ولكن اعتماده على المطمح الكبير الذي لا نعرفه حتى اليوم يجعل نقوله نسخة متفردة في عدة أمور. والأمر يبدو على وجه أوضح إذا تساءلنا أين هو الطالع السعيد، والروض الأريض، وجنة الرضى، وكتب المقري الجد والأزهار المنثورة وغيرها من الكتب الكثيرة التي استعان بها المقري في هذا التأليف؟ إن كتاب النفح قد اتخذ الطابع ((الموسوعي)) الذي يجعله مغنياً عن عشرات الكتب لصعوبة الرجوع إلى تلك الكتب مجتمعة في نطاق، هذا إذا بالغنا في التفاؤل وقدرنا أن جميع مصادر النفح ستكون ذات يوم في متناول أيدي الدارسين.

4 -

تحقيق نفح الطيب:

لهذه القيمة التي لا يزال هذا الكتاب يتمتع بها رأيت أن أتولاه بالتحقيق

ص: 14

العلمي. ومع أن نفح الطيب أقدم كتاب أندلسي ظهر للنور وعرفته المطبعة العربية وكان مصدراً لأكثر ما عرفه المشارقة عن الأندلس في مدى مائة عام أو أكثر فإنه لم ينل من عناية المحققين ما ينبغي له، وخير طبعة ظهرت منه هي تلك التي تولاها بالعناية كل من دوزي ودوجا وكريل ورأيت (ليدن: 1855) فقد اعتمد هؤلاء المستشرقين على النسخ الخطية التي توفرت لهم في باريس ولندن وأكسفورد وغوطة وبرلين وكوبنهاجن وبطرسبرج، ونشروا الكتاب في قسمين يحتوي كل قسم على جزءين وألحقوا بذلك جزءاً صغيراً يضم الفهارس والتصويبات، ومع أن هذه الطبعة لم تشمل إلا القسم الأول من النفح، فليس ذلك مما يحول بيننا وبين كلمة إنصاف لهؤلاء المحققين، ذلك أنهم توخوا الدقة في مقارنة المخطوطات واجتهدوا في مراجعة نصوص النفح على ما تيسر لديهم حينئذ من مصادر، فجاء الكتاب ذا طابع علمي موثق. ولهذا اعتبرت الطبعة أصلاً معتمداً، وأشرت إليها في حواشي الطبعة الجديدة باسم أشهرهم في الدراسات الأندلسية وهو ((دوزي)) ، ولم أحاول أن أعيد النظر في المخطوطات التي اعتمدوها ثقة مني بأمانتهم التي تبلغ حد التزمت في إثبات الفروق بين مختلف النسخ الخطية.

وقد طبع النفح عدة طبعات في المشرق كان أولها طبعة بولاق سنة 1279، وهي على ما فيها من جهد مليئة بالخطأ، وليس فيها ما في الطبعة الأوروبية من دقة علمية؛ ثم كان آخر الطبعات المشرقية طبعة المكتبة التجارية بإشراف الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد (القاهرة: 1949) ، وقد أفاد فيها من الطبعة الأوروبية ومن الطبعات المشرقية، فجاءت في صورة مقبولة نوعاً ما، ولذلك أبحت لنفسي أن أشير إليها باسم ((التجارية)) إشارات قليلة، وإن كنت لا أعدها أصلاً لأنها لم تعتمد على نسخ خطية.

وفي سبيل أن أوفر لهذه النشرة الجديدة ما تتطلبه الأمانة العلمية من جهد راجعت النفح على كل ما استطعت الحصول عليه من مصادره - خطية كانت

ص: 15

أو مطبوعة - وسيجد القارئ في الحواشي والجزء الخاص بالفهارس أنني راجعت في سبيل ذلك عشرات الكتب، ورصدت نقل المقري على نحو يكشف عن أصول كتابه حتى حين يصمت عن ذكر تلك الأصول؛ وترجمت للأعلام ترجمات قصيرة أو أشرت إلى مصادر ترجمهم، وشرحت ما اعتقدت أن الشرح فيه ضروري، ولم أستكثر من الشروح اللغوية لأن ذلك يخرج الكتاب - وهو ضخم بطبيعته - إلى حجم كبير جداً. وأثبت فروق القراءات، لا حيث يكون الخطأ واضحاً، بل حيث تكون القراءة ذات وجه مقبول. وزودت الكتاب بفهارس شاملة، لكي يكون الانتفاع به ميسراً، فإن كثرة الاستطراد فيه وتشعب أجزائه تجعل الإفادة منه - دون فهارس تفصيلية - أمراً بالغ العسر. وأبحت لنفسي ترقيم بعض فقرات هذا الكتاب ووضع عناوين لأجزائه، كي أسهل على القارئ والباحث استعماله ومراجعته.

على أن كل ذلك لم يكن ليعطي لهذا العمل صبغة فارقة لو لم أعتمد على عدد من مخطوطات النفح نفسه أعانتي كثيراً في التحري والتدقيق، وقد راعيت أن تكون هذه المخطوطات مما لم يطلع عليه محققو الطبعة الأوروبية، وهذا ثبت بتلك النسخ التي اعتمدتها:

1 -

النسخة ((ك)) وهي من المكتبة الكتانية التي ضمت إلى الخزانة العامة بالرباط (ورقمها: 2394ك) وتقع في 286 ورقة، تمثل أول ورقتين منها فهرستاً لأهم الموضوعات التي وردت فيها، ويبدأ النص فيها على الورقة الثالثة، وفي كل صفحة من صفحاتها 21 سطراً ومعدل الكلمات في السطر الواحد 11 كلمة؛ وهي مكتوبة بخط مغربي جيد (أندلسي) كثير التشجير وعلى هوامشها عناوين للموضوعات، وهي أكثر المخطوطات اتفاقاً مع الطبعات المشرقية؛ وتنتهي عند آخر الباب الرابع من القسم الأول حسب تقسيمات المؤلف.

2 -

النسخة ((ج)) وهي رقم 768 ج بالخزانة العامة بالرباط؛ وتقع في 205 ورقات إلا أن ما يخص النفح منها ينتهي عند الورقة 183 ويمثل ما بعد

ص: 16

هذه الورقة قطعة من كتاب ((أنس السمير في نقائض الفرزدق وجرير)) وقطعة من الذخيرة تمثل ترجمته ابن عمار. وتحتوي كل صفحة منها 33 سطراً، مكتوبة بخط مغربيس دقيق جداً، وقد سماها ناسخها الجزء الأول من النفح إذ جاء في آخرها: ((انتهى ما وجد في الجزء الأول من نفح الطيب ويتلوه في الجزء الثاني: ولما سألني في الإجازة الفاضل الأديب الشيخ محمد بن علي ابن مولانا عالم الشام الشهير الذكر شيخ الإسلام سيدي ومولاي عمر المعماري حفظه الله

إلخ بحول الله وحسن عونه؛ وكان الفراغ منه ضحى ثامن شهر رمضان سنة 1077 وذلك بحضرة مراكش

على يد الفقير إلى رحمة القدير محمد بن عمر الدعوغي

)) . وتعد هذه النسخة قيمة لقدمها ودقتها، وهي أقرب إلى نسخة ق (التي سيأتي وصفها) من نسخة ك.

3 -

النسخة ((ط)) رقم 268 ك بالخزانة العامة بالرباط وهي في 278 ورقة، في كل صفحة 25 سطراً، وقد كتبت بخط مغربي واضح خال من المد والتعريج، ومجموع ما تحتويه يساوي ما اشتملت عليه نسخة ((ك)) ، غير أنها أقرب المخطوطات إلى ((ق)) ، حتى في القراءات الخاطئة.

4 -

النسخة ((م)) وهي رقم 430 ك، بالخزانة العامة بالرباط وتضم 286 ورقة، في كل صفحة منها 24 سطراً، وخطها أيضاً مغربي واضح، والقلم الذي كتبت به مستعرض قليلاً، بالنسبة للمخطوطات الأخرى، وهي تبدأ بالباب السابع من القسم الأول وتنتهي بنهايته، ويسميها ناسخها ((الجزء الثالث)) من الكتاب. وتتميز هذه المخطوطة عما عداها بحذف المكرر وبالتمهيد المسهب في التقديم للأشعار، وبإيراد زيادات - وخاصة في أشعار الزهد - لا ترد في غيرها من المخطوطات، ويبدو من مجمل النظر فيها أن ناسخها حاول أن يتحكم في نص النفح بالحذف والزيادة، وأن ذلك ليس من صنع المقري نفسه.

5 -

النسخة ((ب)) وهي نسخة خاصة كانت في ملك العلامة المحقق الصديق إبراهيم الكتاني، فلما علم - حفظه الله - بأنني أنوي تحقيق النفح

ص: 17

قدمها إلي، مشكور الفضل مذكوراً بالخير، ولعل هذه النسخة في الأصل كانت كسابقتها إذ أنها تبدأ بالباب السابع من القسم الأول، إلا أنها مبتورة من آخرها، ولم يبق منها إلا 165 ورقة، وفي كل صفحة منها 29 سطراً، وخطها مغربي في غاية الجمال والوضح، وقد عاثت الأرضة في صفحاتها بشدة، كما أن بعض الصفحات فيها خال تماماً من الكتابة.

6 -

النسخة ((ص)) وهي رقم 216 ق بالخزانة العامة بالرباط وأصلها من مكتبة الزاوية الناصرية وتقع في 290 ورقة، وفي كل صفحة من صفحاتها 31 سطراً، وخطها مشرقي نسخي، والاهتمام بالشكل فيها مقصور على النصوص الشعرية، وتسمى ((الجزء الثالث من النفح)) وتبدأ بالباب الثامن من القسم الأول وتستمر حتى نهاية الباب الرابع من القسم الثاني؛ وهي قريبة النسب (دون الخط) بأصل النسخة ((ك)) ، وتقع وسطاً بين الطبعات المشرقية ونسخة ((ق)) .

7 -

النسخة ((ق)) وهي نسخة خاصة يملكها الصديق الكريم والكتبي المفاضل الأستاذ قاسم الرجب صاحب مكتبة المثنى ببغداد، وقد تفضل مبادراً فأعارنيها حين أعلمته أني أقوم بتحقيق الكتاب، وتقع هذه النسخة في 511 ورقة، وهي نسخة كاملة تضم جميع مادة النفح بقسيمه، وفي كل صفحة من صفحاتها 51 سطراً، وقد كتبت بخط نسخ مشرقي جميل وجعلت عناوينها الكبرى والصغرى بالحبر الأحمر، غير أن ناسخها يسهو عند تشابه النهايات، فيسقط مرات أسطراً كاملة؛ كما أن الخطأ الناشئ عن تصوير الكلمة لتطابق صورة الأصل الذي كان ينقل عنه، يتفشى فيها، ومع ذلك فهي من أشد النسخ قرباً من المتن المثبت في طبعة دوزي. وناسخها هو أحمد بن محمد الحمومي العطار، فرغ من نسخها ((عشية يوم الأربعاء المسفر صباحها عن الرابع والعشرين أو الثالث والعشرين لذي القعدة الحرام من شهور سنة 1130)) بمنزله الكائن بمحلة القيمرية من دمشق الشام - وقد قام بكتابتها برسم السيد محمد عاصم أفندي

ص: 18

ابن المرحوم السيد عبد المعطي أفندي الشهير نسبه الكريم بالفلاقسي -.

8 -

((المقتطفات)) وهي أوراق كتب عليها ((قطعة من تاريخ الأندلس)) وتحمل رقم 421 إسكوريال وأكثر المادة فيها مأخوذة من نفح الطيب، ولكني لم أفردها برمز لأني غير واثق أنها تمثل جزءاً من ذلك الكتاب دون زيادات من كتب أخرى؛ وهي في 143 صفحة، في كل صفحة 30 سطراً، وتحتوي على الأخبار التاريخية مثل ترجمة عبد الرحمن الداخل وأخبار المنصور بن أبي عامر والمعتمد بن عباد ومطولات القصائد كقصيدة ابن مقانا الأشبوني وقصائد ابن حمديس في المباني وقصائد لابن زيدون وقصيدة لسان الدين السينية المفتوحة وتشبه أن تكون ((مسودة)) أصلية، إذ مادتها غير مرتبطة، وتضم من أخبار المشرق قطعة كبيرة عن الناصر بن المنصور وشعره.

وحقيق بي بعد هذا كله، أن أعترف بجميل كل من له فضل على هذا العمل، فأتقدم بوافر الشكر لعدد من الأصدقاء، أخص بالذكر منهم الأستاذ إبراهيم الكتاني الذي قدم إلي النسخة ((ب)) هدية خالصة، والأستاذ قاسم الرجب الذي كانت نسخته (ق) معتمدي الأول في التحقيق، والأستاذ عبد الله الرجراجي مدير الخزانة العامة بالرباط الذي ذلل لي صعوبات جمة حين أذن بتصوير كل نسخ النفح الموجودة بالخزانة العامة، فلولا حمية هؤلاء الأصدقاء في خدمة العلم لما استطعت أن أستمد الثقة المسعفة على المضي لبلوغ غاية شاقة.

ويطيب لي أن أنوه بالعون العملي المخلص الذي تلقيته من اثنين من تلامذتي يدرسان في مرحلة الماجستير هما الآنسة وداد القاضي التي تعمل في حقل العلم ببصيرة نافذة وروح علمية سامية والسيد يوسف محمد عبد الله أحد اللامعين من أبناء جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، فقد تكبدا معي - بصبر لا يعرف الكلل ودقة تستحق التقدير والإعجاب - عناء المراجعة للأصول وإعداد الفهارس العامة والنظر في النص قبل ذهابه إلى المطبعة نهائياً، وبذلاً في ذلك من جهدهما ما لا أفيه حقه من الشكر، جزاهما الله عني كل خير، وضوأ مستقبلهما الذي أرجوه لهما

ص: 19

ويرجوانه لنفسيهما بهدي العلم وبركاته.

وما أظنني أتجاوز الواقع في شيء حين أنسب أكثر ما في هذا العمل من خير إلى جهود صديقين عزيزين: هما الأستاذ أنطوان صادر (صاحب دار صادر) والأستاذ مصطفى دمشقية، فأما الأول فقد ضحى براحته ووقته في رعاية هذا العمل خطوة بعد خطوة، وقد آلى على نفسه أن يشمله بروح الإتقان وبراعة الإخراج مهما يكلفه ذلك من بذل ومشقة، وأما الثاني فإن عداوته للخطإ وسهره في تحري الصواب وإعماله النظر النافذة والقلم السديد في صفحات الكتاب أثناء الطبع، قد حقق ما أتيح له من التجويد الواضح الذي يستحق الثناء العاطر والشكر الجزيل.

فأما ما قد يكون هنالك من هفوات فإني أتحمل وزرها وحدي، غير خجل بها، وإن تمنيت السلامة منها، بعد أن قدمت ما في طاقتي في مدة تزيد على عامين، انصرفت فيهما عن كثير من الشئون، لإنجاز هذا العمل على نحو مقبول، مطمئناً إلى أن باب العصمة مرتج دون بني الإنسان، راضياً أن يكون الخطأ القليل علامة على إحراز الصواب الكثير.

والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل.

بيروت في 20 شباط (فبراير) 1968 إحسان عباس

ص: 20

بسم الله الرحمن الرحيم

[مقدمة المؤلف]

[خطبة الكتاب]

يقول العبد الفقير، الذليل المضطر الحقير، من هو من صالح الأعمال (1) عري: أحمد بن محمد الشهير بالمقري، المغربي المالكي الأشعري، أصلح الله تعالى حاله، وجعل في مرضاته حله وترحاله، ومحا بغيث الطاعة والرضوان أمحاله، وأنجح ببلوغ آماله انتحاءه وانتحاله (2) :

أحمد من عرف من حلى الأمصار وعلى الأعيان، على تداول الأعصار وتطاول الأحيان، ما فيه ذكرى لأولي الأبصار وإرساد إلى معرفة الديان، واعتبار بأخبار راع وصفها أو راق. وشرف من صرف المطامح والمطامع، إلى تفصيل ما أفاد لسان الدين من كلم جوامع، وتحصيل ما أجاد من حكم بوالغ بلاغتها هوامع، واقتناء ذخائر المهتدين التي تشنفت بدررها اللوامع الآذان والمسامع، من كل منحط عن رتبة البراعة أو راق. حتى توج

(1) ط: العمل.

(2)

لم ترد هذه الفاتحة في ج ك.

ص: 1

الخطيب المجيد رؤوس المنابر بفرائد الكلام، وحلى الكاتب الأديب المجيد صدور المزابر من فوائد الأعلام، وكحل الحكيم الطبيب الأريب المفيد من إثمد المحابر بمراود الأقلام عيون أوراق.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي ابتدأ الخلق من غير مثال وبرا، وقسم العباد إلى حاضر وباد وظاهر وخامل وقاصر وكامل تشير إليه بالأنامل أيدي الكبرا، وأبدى في اختلاف ذواتهم وأعراضهم وتباين أدواتهم وأغراضهم وتغاير ألسنتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وألوانهم وأكوانهم ومناصبهم ومناسبهم عبرا، وجعل الدنيا لمن أتيح صغراً أو كبراً، ولبس منهم مسوحاً أو حبراً، وأخلد إلى الأرض أو صعد منبراً، جسراً إلى الآخرة ومعبراً، وحكم - وهو الفاعل المختار - على الجميع بالموت فكان لمبتدإهم خبرا، فيا له من داء أعيا كل معالج أو راقٍ.

فسبحانه من إله انفرد بوجوب القدم والبقا، واختص بفضله من شاء فارتقى، وعم تعالى ذوي السعادة والشقا، بالحدوث وألفنا، وأذاق من فراق الدنيا كل من فيها بلا ثنا (1) ، ممن وفق فنفى عن جفنه وسنا، أو خذل فجر في ميدان الاغترار رسنا، وزين له عياذاً بالله سوء عمله فرآه حسناً، طعم شعوب (2) المر الجنى، فلم يغن عن ذوي الغنى والغنا، وأهل السناء والسنا، من استظهروا به من أرباب الصوارم والقنا، وأصحاب النظم والنثر والجدال والفخر والمدح والثنا، فأولئك ألقوا السلاح مذعنين، مستبصرين موقنين، إذ جاء الحق وزهق الباطل وولى الامترا، وهؤلاء تركوا الاصطلاح معلنين (3) ، عالمين أنهم لم يكونوا في التمويه محسنين، وكيف لا وقد اضمحل

(1) الثنا - بكسر الثاء وضمها - إعادة الشيء مرتين، أو الرجوع فيه. وفي ق ك ج: ثنيا.

(2)

طعم: مفعول به للفعل " أذاق ". وشعوب: اسم للمنية.

(3)

ط: معلمين.

ص: 2

الغرور والاجترا، وذهب والله الجور (1) والافترا، وبدل مذق الإطراء بصدق الإطراق (2) .

وأشكره جل وعلا على أن علم بالقلم ما لم نعلم، ونبه بآثاره الدالة على اقتدار إلى سلوك الطريق الأقوام، الواضح المعلم، وأرشد من أشرق فكره وأضا، إلى التفويض لأحكام القضا، ومن ذا يرد ما أمضى أو نيقص ما أبرم، والتسليم على كل حال أسلم، وأمر جل اسمه بالتدبر في أنباء من مضى، والنظر في عواقب أحوال (3) الذين زال أمرهم وانقضى، من صنوف الأمم، ووبخ من دجا قلبه بالإعراض عن ذلك وأظلم، وشتان ما بين اللاهي والمتذكر، والساهي والمتفكر، والناجي والهالك والمتحير، والداجي الحالك والمشرق النير، وما يستوي الظل والحرور، والحزن والسرور، والظلمات والنور، ذو البهجة والإشراق.

وأصلي أزكى الصلاة والسلام، هدية لحضرة سيد الأنام، ولبنة التمام، من زويت (4) له من الأرض المغارب والمشارق، وتم به نظام أنبياء الله ورسوله العظام، وأزاح نوره الضلال والظلام، حتى أضاءت بوسمه المساجد وازدانت باسمه المهارق (5) . وألقى الموفق الموافق لدعوته بيد الاستسلام، وذلك شأن ذوي العقول الراجحة والأحلام، غير خائف من عتب ولا مترقب لملام، فأمن من الطوارئ والطوارق، وتمت كلمة الإسلام الذي اتضح برهانة لذي بصر وبصيرة لا يحتاج إلى زيادة الإعلام، وعلت سيوف توحيد الملك العلام،

(1) ط ق ج: للزور.

(2)

مذق الإطراء: الثناء الكاذب. الإطراق: السكوت.

(3)

أحوال: سقطت من ق.

(4)

زويت الأرض: جمعت وطويت، وفي الحديث " إن الله تعالى زوي لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها ".

(5)

المهارق: الصحف.

ص: 3

من المعاند المفارق المفارق (1) ، وخضبتها بحناء النجيع الرقراق. النبي الأمي الأمين، الداعي جميع العالمين، إلى سلوك منهاج ما له من هاج، ذي أضواء شوارق، سيد الرسل الغر الميامين، ملجإ الأمة جعلنا الله ممن نجا باللجإ إليه آمين، الذي أنزل عليه القرآن، هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وانشق له الزبرقان (2) ، ونبع الماء من بين أصابعه زيادة في الإيقان، وسلمت عليه الأحجار، وانقادت لأمره الأشجار، متفيئة ظلاله الشريفة وخطت في الأرض أسطراً مبدعة الإتقان، إلى غير ذلك من معجزاته الخوارق، فهو صاحب الدعوة الجامعة، والبراهين اللامعة، والأدلة التي سقت الشجرة الطيبة غيوثها النافعة، الصيبة الهامية الهامعة، الصادقة البوارق، فأثمرت النجاة والفوز والفلاح وأرقت بالهدى أحسن إبراق. أسنى رسولٍ بعث إلى الأرض، وأعظمهم جلالة، وأكثرهم تابعاً في الطول منها والعرض، ولم لا وقد ظهر به الحق لمن أمه مسترشداً وجلا له، وأسمى من جاء بتبيين السنة والفرض، وأعمهم دلالة، منقذ البرايا في الدنيا ويوم العرض، الآخذ بحجزهم عن النار والضلالة، الداعي إلى تقديم الخير وحسن القرض، الحريص على هداية الخلق المبلغ لهم أحكام الحق من غير ضجر ولا ملالة، ذو الفضل العظيم الذي لم يختلف فيه من أهل العقول اثنان، والمجد الصميم الثابت الأصول الباسق الأفنان، المنتقى من محتد معد بن عدنان، المنتخب من خير عنصر وأطهر سلالة، شفيعاً وملاذنا وعصمتنا ومعاذنا وثمالنا، الذي نجحت به آمالنا، وزكت به أقوالنا وأعمالنا، ووسيلتنا الكبرى، وعمدتنا العظمى في الأولى والأخرى، وكنزنا الذي أعددناه لإزاحة الغموم ذخراً، وغيثاً وغوثنا وسيدنا ونبينا ومولانا محمد الطيب المنابت والأعراق.

(1) المفارق: جمع مفرق وهو الرأس، وهو مفعول به للفعل " علت ".

(2)

البرقان: القمر.

ص: 4

صلى الله عليه وسلم، ووجه وفود التعظيم إليه، من مفرد في جماله صار لجمع الأنبياء تماماً، وفذ في كماله تقدم في حضرة التقديس التي أسست على التشريف أعظم تأسيس فصلى (1) بالمرسلين إماما، وصدر تحلى بجميل الأوصاف، كالوفاء والعفاف، والصدق والإنصاف، فزكا في أعماله، وبلغ الراجي منتهى آماله، ولم يخلف وعداً ولم يخفر ذماماً، وسيد كسي حلل العصمة، من كل مخالفة وذنب ووصمة، فلم يصرف لغير طاعة ملاوه، الذي أولاه من التفضيل ما أولاه، اهتبالا واهتماما.

وعلى آله وعترته، الفائزين بأثرته، أنصار الدين، والمهاجرين المهتدين، وأشياعه وذريته، الطالعين نجوماً في سماء شهرته، وأتباعهم القائمين بحقوق نصرته، أرباب العقل الرصين، الفاتحين بسيوف دعوته أبواب المعقل الحصين، حتى بلغت أحكام ملته، وأعلام بعثته، من بالأندلس والصين، فضلاً عن الشأم والعراق.

ورضي الله تعالى عن علماء أمته المصنفين في جميع العلوم والفنون، وعظماء سنته الموفين للطلاب بالآراب المحققين لهم الظنون، وحكماء شرعته المتبصرين بحدوث من مرت عليه الأيام والشهور وكرت عليه الآناء والدهور والأعوام والسنون، المتدبرين في عواقب من كان بهذه البسيطة من السكان المتذكرين على اقدر الإمكان بمن طحنته رحا المنون، من أملاك العصور الخالية وملاك القصور العالية وذوي الأحوال التي هي بسلوك الاختلاف حالية، من بصير وأعمى وفقير وذي نعمى ومختال تردى بكبريائه، ومحتال على ما بأيدي الناس بسمعته وريائه، وعاقل أحسن العمل، وغافل افتتن بالأمل، وكارع في حياض الشريعة، وراتع برياض الآداب المريعة، وذي ورع سد عما رابه الذريعة، وأخي طمع في أن يدرك آرابه من الدنيا الوشيكة

(1) فصلى: سقطت من ق ط ج.

ص: 5

الزوال السريعة، ومقتبس من نبراس الرواية، وملتبس بأدناس الغواية، وشاعر هام في كل واد، وقال ما لم يفعل فكان للغاوين من الرواد، وجاهل عمر الخراب، وخدع بالسراب، عن أعذب الشراب، ومحقق علم أنه إذا جاء القدر عمي البصر ممن كان حذر من غراب، وموفق تيقن أن غير الله فان وكل الذي فوق التراب تراب (1) ، ومن متخلق متجرد تصوف (2) ، ومتعلق متفرد تشوق إلى ما فيه رضا الرب وتشوف، وناه ذكر بأيام الله ووعظ وخوف، ولاه اغتر بالباطل، فهو بالحق مماطل، وطالما أخره وسوف، وأبعد الانتجاع، ثم أوى من باطنه إلى بيت قعيدته لكاع (3) ، نفس أمارة بعدما طوف، ومن مادح نظم الآلاء نظم اللآل، وكادح طمس لألاء العز بظلمة ذل السؤال، فجعل القصائد مصايد، والرسائل وسائل، والمقطعات مرقعات (4) ، فآل أمره إلى ما آل، ومن مخبر بما سمع ورأى، حين اغترب عن مكانه ونأى، أو أقام في أوطانه فبلغ ما قدر ووأى (5) ، ومن مجازف لا يفرق بين الغث والسمين والإمرار والإحلام، وعارف ثقة أمين نظم در الصدف الثمين في أسلاك الكتابة والإملاء، وعاشق خنساء فكره ذات الصدار، من الشجون والشعار، تبكي على صخر قلب المحبوب، وتذكره كلما طلعت شمس أو كان للصبا

(1) يسير إلى قول المتنبي:

إذا صح منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب (2) متخلق: لايس أخلاق الثياب، وهو ذو خلق. ومتجرد: عريان، أو قد جرد نفسه للعبادة.

(3)

من قول الحطيئة:

أطوف ما أطوف ثم آوي

إلى بيت قعيدته لكاع والقعيدة اللكاع هنا: نفسه الأمارة بالسوء.

(4)

المرقعات: ملابس المتصوفة، والمعنى أنه جعل مقطعاته الشعرية وسيلة للتصيد كمرقعات المتصوفة.

(5)

وأى: وعد وضمن بعزم.

ص: 6

هبوب (1) ، فتأتي بما يطفي وقود الجوى المشبوب من بحار الأشعار، وليلى شوقه العفيفة عن العار، ترفل في ثوب من التصبر معار، وقيس توقه من ثوب السلو عار، قد توله واشتاق خصوصاً عن انتشاق البشام والعرار (2) ، وقلق لما أرق فلم يقر به قرار، فاعتراه ما براه وألف البكاء بحكم الاضطرار، ولبس ثياب النحول والاصفرار، واسر لما هزمت جيوش صبره وأزمعت الفرار، فتحير مما شجاه وسأل النجاة من أسر الفراق.

سبحان من قسم الحظو

ظ فلا عتاب ولا ملامه

أعمى وأعشى ثم ذو

بصر وزرقاء اليمامه (3)

ومسدد أو جائر

أو حائر يشكو ظلامه (4)

لولا استقامة من هدا

هـ لما تبينت العلامه

ومجاور الغرر المخي؟

ف له البشارة بالسلامه

وأخو الحجى في سائر ال؟

أنفاس مرتقب حمامه

وكما مضى من قبله

يمضي ولم يقض التزامه

والجاهل المغتر من

لم يجعل التقوى اغتنامه

فليرفض العصيان من

يخشى من الله انتقامه

(1) ألم هنا بإشارات إلى الخنساء التي لبست صداراً على أخيها صخر فلم تنزعه حتى ماتت، وكانت تقول في شعرها:

" يذكرني طلوع الشمس صخراً "

(2) فيه إشارات إلى قيس وليلى، واشتداد الشوق عندما يهب النسيم حاملاً معه رائحة البشام والعرار وهما نبتان طيبا الرائحة من نبات نجد.

(3)

أي أن الناس متفاوتون في حظوظهم فمنهم - من حيث الإبصار - الأعمى والأعشى والحاد البصر الذي يشبه زرقاء اليمامة، وهي مضرب المثل في ذلك، وقصة رؤية الجيش الذي غزا اليمامة من مسيرة أيام مشهورة. وفي ق ط ج: أعشى وأعمى.

(4)

مسدد: حسن التوجيه. الجائر: الحائد عن القصد. الحائر: الذي لا هو مسدد ولا جائر.

ص: 7

وليعتبر بسواه من

لصلاحه صرف اهتمامه

فالعيش في الدنيا الدني؟

ة غير مرجو الإدامه

من أرضعته ثديها

في سرعة تبدا فطامه

من عز جانبه بها

تنوي على الفور اهتضامه

وإذا نظرت فأين من

منعته أو منحت مرامه

ومن الذي وهبته وص؟

لاً ثم لم يخش انصرامه

ومن الذي مدت له

حبلاً فلم يخف انفصامه

كم واحد غرته إذ

سرته مخفية الدمامه

فعدت به من حيث لم

يعلم فلم يملك قيامه

أين الذين قلوبهم

كانت بها ذات استهامه

أين الذين تفيأوا

ظل السيادة والزعامه

أين الملوك ذوو الريا

سة والسياسة والصرامه

وبنو أمية حين جم؟

ع عصرهم لهم فئامه

وتمكنوا ممن يحا

ول نقض ما شاءوا انبرامه

وتعشقوا لما بدا

لهم محيا الأرض شامه

وتأملوا وجه البسي؟

طة فانثنوا يهوون شامه

حتى تقلص ظلمهم

وأراهم الدهر اخترامه

أين الخلائف من بني ال؟

عباس والبر القسامه

ص: 8

أين الرشيد وأهله

وبنوه أصحاب الشهامه

ووزيره يحيى وجع؟

فر ابنوه الراوي احتشامه

والفضل مدني من يقو

ل لمن يلوم على الندى مه

أم أين عنترة الشجا

ع وذو الجدا كعب بن مامه

والزاعمون بجهلهم

أن القبور صدى وهامه

والمكثرون من المجو

ن إذا شكا الفكر اغتمامه

أين الغريض ومعبد

أو أشعب وأبو دلامه

أين الألى هاموا بسع؟

دي أو بثنية أو أمامه

وبكوا لفرط جواهم

والليل قد أرخى ظلامه

وتتبعوا آثار من

عشقوا بنجد أو تهامه

وتعللوا، والشوق يغل؟

ب، بالأراكة والبشامه

أضنى النوى قيساً فقا

سى لا عجاً أغرى غرامه

وغوى هوى غيلان مذ

أبدى بميته هيامه

أين الأكاسر والقيا

صرة المجلون الغمامه

أين الذي الهرمان من

بنيانه الحاكي اعتزامه

ص: 9

أم أين غمدان وسي؟ ف والوفود به أمامه

أين الخورنق والسدي؟ ر ومن شفى بهما أوامه

ومدائن الإسكندر ال؟ لاتي لها أعلى دعامه

أين الحصون ومن يصو ن بها من الأعدا حطامه

أين المراكب والموا كب والعصائب والعمامه

أين العساكر والدسا كر والندامى في المدامه

وسقاتها المتلاعبو ن بلب من أعطوه جامه

من كل أهيف يزدري بالغصن إن يهزز قوامه

ذي غرة لألاؤها تمحو عن النادي ظلامه

فالشمس في أزراره والبدر في يده قلامه

يصمي القلوب إذا رمى عن قوس حاجبه سهامه

ويروق حسناً إن رنا ويفوق آراماً برامه

أنى لها ثغر حلا ذوقاً لمن رام التثامه

أنى لها وجه يشب بقلب مبصره ضرامه

أستغفر الله للغ؟ وٍ لا يرى الشرع اعتيامه

بل أين أرباب العلو م أولو التصدر والإمامه

وذوو الوزارة والحجا بة والكتابة والعلامه

كأئمةٍ سكنوا بأن؟ دلس فلم يشكوا سآمه

هي جنة الدنيا التي قد أذكرت دار المقامه

لا سيما غرناطة ال؟ غراء رائقة الوسامه

وهي التي دعيت دمش؟ ق وحسبها هذا فخامه

ص: 10

لنزول أهلها بها إذ أظهر الكفر انهزامه

وأتت جيوش الشأم من باب نفى الفتح انبهامه

فسلوا بها عن جلق إذ أشبهتها في الضخامه

وبدا لهم وجه المنى وأراهم الثغر ابتسامه

وتبوأوها حضرة تبري من المضنى سقامه

بروائها وبمائها وهوائها النافي الوخامه

ورياضها المهتزة ال؟ أعطاف من شدو الحمامه

وبمرجها النضر الذي قد زين الله ارتسامه

وقصورها الزهر التي يأبى بها الحسن انقسامه

يا ليت شعري أين من أمضى بها الملك احتكامه

وأتيح في حمرائها عزاً به زان اتسامه

أين الوزير ابن الخطي؟ ب بها فما أحلى كلامه

فلكم أبان العدل في أرجائها وبها أقامه

ولكم أجار عداً وكم أجرى ندىً وإلى انسجامه

راعت صروف الدهر دو لته وما راعت ذمامه

حتى ثوى إثر التوى في حفرة نثرت نظامه

من زارها في أرض فا سٍ أذهبت شجواً منامه

إذ نبهته لكل شم؟ لٍ شتت الموت التئامه

هذا لسان الدين أس؟ كته وأسكنه رجامه

ومحا عبارته فمن حياه لم يردد سلامه

فكأنه ما أمسك ال؟ قلم المطاع ولا حسامه

ص: 11

وكأنه لم يعل مت؟ ن مطهم بارى النعامه

وكأنه لم يرق غا رب الاعتزاز ولا سنامه

وكأنه لم يجل وج؟ هاً حاز من بشر تمامه

وكأنه ما جال في أمر ولا نهيٍ وسامه

وكأنه ما نال من ملك حباه ولا احترامه

وكأنه لم يلق في يده لتدبير زمامه

مذ فارق الدنيا وق؟ وض عن منازلها خيامه

أمسى بقبر مفرداً والترب قد جمعت عظامه

من بعد تثنيه الوزا رة جاده صوب الغمامه

لم يبق إلا ذكره كالزهر مفتر الكمامه

والعمر مثل الضيف أو كالطيف ليس له إقامه

والموت حتم ثم بع؟ د الموت أهوال القيامه

والناس مجزيون عن أعمال ميل واستقامه

فذوو السعادة يضحكو ن وغيرهم يبكي ندامه

والله يفعل فيهم ما شاء ذلاً أو كرامه

ويشفع المختار في؟ هم حين يبعثه مقامه

وعليه خير صلاته مع صحبه تتلو سلامه

والتابعين ومن بدا برق الرشاد له فشامه

ما فاز بالرضوان عب؟ د كانت الحسنى ختامه

والله سبحانه المسؤول في الفوز والنجاة كرماً منه وحلماً، وفبيده الخير لا إله إلا هو العلي الكبير، العليم الخبير، الذي أحاط بكل شيء علماً، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء من مخلوقاته على الشمول والاستغراق.

ص: 12

[حنين إلى الوطن]

أما بعد حمد الله مالك الملك، والصلاة على رسوله المنجي من الهلك، والرضا عن آله وصحبه الذين تجلت بأنوارهم الظلم الحلك، وعن العلماء الأعلام، الخائضين بحار الكلام، بحار الكلام، المستوين من البلاغة على الفلك - فيقول العبد الحقير، المذنب الذي هو إلى رحمة ربه الغني فقير، المقصر المتبرئ من الحول والقوة، المتمسك بأذيال الخدمة للسنة والنبوة، وذلك بفضل الله أمان وبراءة، الضعيف الفاني، الخطاء الجاني، من هو من لباس التقوى عري، أحمد بن محمد بن أحمد الشهير بالمقري، المغربي المالكي الأشعري، التلمساني المولد والمنتشإ والقراءة، نزيل فاس الباهرة ثم مصر القاهرة، أصلح الله أحواله الباطنة والظاهرة، وجعله من ذوي الأوصاف الزكية والخلال الطاهرة، وسدد في كل قصد أنحاءه وآراءه، ووفقه بمنه وكرمه للأعمال الصالحة، والطاعات الناجحة الراجحة، والمتاجر المغبوطة الرابحة، والمساعي الغادية بالخير الرائحة، ووقاه ما بين يده ووراءه، وكفاه مكر الكائد وافتراءه، وجدال الحاسد المستأسد ومراءه، وجعل فيما يرضيه سومه وشراءه، آمين:

إنه لما قضى الملك الذي ليس لعبيده في أحكامه تعقب أو رد، ولا محيد عما شاءه سواء كره ذلك المرء أو رد، برحلتي من بلادي، ونقلتي عن محل طارفي وتلادي، بقطر المغرب الأقصى، الذي تمت محاسنه لولا أن سماسرة الفتن سامت بضائع أمنه نقصا، وطما به بحر الأهوال فاستعملت شعراء العيث في كامل رونقه من الزحاف إضماراً وقطعاً ووقصاً:

ص: 13

قطر كأن نسميه نفحات كافور ومسك

وكأن زهر رياضه در هوى من نظم سلك

وذلك أواخر رمضان من عام سبعة وعشرين بعد الألف، تاركاً المنصب والأهل والوطن والإلف:

بلد طاب لي به الأنس حيناً وصفا العود فيه والإبداء

فسقت عهده العهاد وروت منه تلك النوادي الأنداء

وما عسى أن أذكر في إقليم، تعين لحجة فضله التسليم:

أضواؤه طبق المنى، وهواؤاه يشتاقه الولهان في الأسحار

والطبع معتدل فقل ما شئته في الظل والأزهار والأنهار

محل فتح الكمائم، ومسقط الرأس وقطع التمائم:

به كان الشباب اللدن غضاً ودهري كله زمن الربيع

ففرق بيننا زمن خؤون له شغف بتفريق الجميع

لم أنس تلك النواسم، التي أيامها للعمر مواسم، وثغورها بالسرور بواسم، فصرت أشير إليها وقد زمت للرحيل القلص الرواسم:

ولنا بهاتيك الديار مواسم كانت تقام لطيبها الأسواق

فأباننا عنها الزمان بسرعة وغدت تعللنا بها الأشواق

وأنشد قول غيلان:

أمنزلي مي سلام عليكما هل الأزمن اللائي مضين رواجع

ص: 14

وأتمثل في تلك الحدائق التي حمائمها سواجع، بقول من جفونه من الهوى غير هواجع:

تشدو بعيدان الرياض حمائم شدو القيان عزفهن بالأعواد

ماد النسيم بقضبها فتمايلت مهتزة الأعطاف والأجياد

هذي تودع تلك توديع التي قد آذنت منها بوشك بعاد

واستعبرت لفراقها عين الندى فابتل مئزرعطفها المياد

وأحدق النظر إلى روض، لإنسان العين من فراقه في بحر الدموع سبح وخوض:

روض به أشياء لي؟ ست في سواه تؤلف

فمن الهزار ترنم ومن القضيب تقطف

ومن النسيم تلطف ومن الغدير تعطف

وألتفت كالمستريب، والحي إذ ذاك قريب، وحديث العهد ليس بمنكر ولا غريب:

أهذا ولما تمض للبين ساعة فكيف إذا مرت عليه شهور

والآثار لائحة، والشمال غادية بأذكى رائحة:

أرى آثارهم فأذوب شوقاً وأسكب من تذكرهم دموعي

وأسأل من قضى بفراق حبي يمن علي منهم بالرجوع

والنفس متعللة ببعض الأنس، والمشاهد الحميدة لن تنس:

تلك العهود بشدها مختومة عندي كما هي عقدها لم يحلل

ص: 15

غير أن الرحيل، عن الربع المحيل، فصل بين الشائق والمشوق وحيل:

وقفنا بربع الحب والحب راحل نحاول رجعاه لنا ويحاول

وألقت دموع العين فيه مسائلا لها عن عبارات الغرام دلائل

وبالسفح منها كما سقيت لبانها فميلته والسفح للبان مائل

إذا نسمة الأحباب منها تنسمت تطيب بها أسحارنا والأصائل

تثير شجوني ساجعات غصونها فمنها على الحالتين هاجت بلابل

مرابع ألا في مراتع لذتي مطالع أقماري بها والمنازل

فحياها الله من منازل ذات مراتع أقمار سائرة فيها، ومنازه لا يحصى الواصف محاسنها وأمداح أهلها ولا يستوفيها:

حلوا عقود اصطباري عندما رحلوا وفي الخمائل حلوا مثل أمطار

إن المنازل قد كانت منازه إذ باتوا بها وهي أوطاني وأوطاري

ورعى الله من بان، وشاق حتى الرند والبان:

بانوا لعيني أقماراً تقلهم لدن الغصون فلما آنسوا بانوا

عهودهم لست أنساها، وكيف وقد رثى لبيني عنها الرند والبان

وفي مثل هذا الموطن تذوب القلوب الرقاق، كما قال حائز قصب السبق بالاستحقاق، الأديب الأندلسي الشهير بابن الزقاق:

وقفت على الربوع ولي حنين لساكنهن ليس إلى الربوع

ص: 16

ولو أني حننت إلى مغاني أحبائي حننت على ضلوعي

وكما قال بعض من له في هذه الفجاج مسير:

دخولك من باب الهوى إن لو أردته يسير، ولكن الخروج عسير

وأين من له صفاة لا يطمع الدهر القوي في نحتها، وجنات دنيوية لا تجري أنهار الفراق من تحتها:

فسقى رضيع النبت من ذاك الحمى بحيا تدور على الربى كاساته

سفح سفحت عليه دمعي في ثرى كالمسك ضاع من الفتاة فتاته

ولم أزل بعد انفصالي عن الغرب يقصد الشرق، واتصافي في أثر ذلك الجمع بالفرق:

أحن إذا خلوت إلى زمان تقضي لي بأفنية الربوع

وأذكر طيب أيام تولت لنا فتفيض من أسف دموعي

وأتوق وقد اتسع من البعد الخرق، وخصوصا إذا شدا صادح أو أومض برق، إلى ديار لا يعدوها اختيار:

وأربع أحباب إذا ما ذكرتها بكيت، وقد يبكيك ما أنت ذاكر

بطاح وأدواح يروقك حسنها بكل خليج نمنته الأزاهر

فما هو إلا فضة في زبرجد تساقط فيه اللؤلؤ المتناثر

بحيث الصبا والترب والماء والهوى عبير وكافور وراح وعاطر

وما جنة الدنيا سوى ما وصفته وما ضم منه الحسن نجد وحاجر

بلادي التي أهلي بها وأحبتي وقلبي وروحي والمنى والخواطر

ص: 17

تذكرني أنجادها ووهادها عهوداً مضت لي وهي خضر نواضر

إذ العيش صاف والزمان مساعد فلا العيش مملول ولا الدهر جائر

بحيث ليالينا كغض شبابنا وأيامنا سلك ونحن جواهر

ليالي كانت للشبيبة دولة بها ملك اللذات ناه وآمر

سلام على تلك العهود فإنها موارد أفراح تلتها مصادر

وأتذكر تلك الأيام، التي مرت كالأحلام، فأتمثل بقول بعض الأكابر الأعلام:

يا ديار السرور لا زال يبكي فيك إذ تضحك الرياض غمام

رب عيش صحبته فيك غض وعيون الفراق عنا نيام

في لياليٍ كأنهن أمانٍ في زمانٍ كأنه أحلام

وكأن الأوقات فيك كؤوس دائرات وأنسهن مدام

زمن مسعد وإلف وصول ومنى تستلذها الأوهام

وبقول الحائك الأمي، عندما يكثر شجوي وغمي:

لم أنس أياماً مضت وليالينا سلفت وعيشاً بالصريم تصرما

إذ نحن لا نخشى الرقيب ولم نخف صرف الزمان ولا نطيع اللوما

والعيش غض والحواسد نوم هنا وعين البين قد كحلت عمى

في روضة أبدت ثغور زهورها لما بكى فيها الغمام تبسما

مد الربيع على الخمائل نوره فيها فأصبح كالخيام مخيما

تبدو الأقاحي مثل ثغر أشنبٍ أضحى المحب به كئيباً مغرما

وعيون نرجسها كأعين غادةٍ ترنو فترمي باللواحظ أسهما

وكذلك المنثور منثور بها لما رأى ورد الخدود منظما

والطير تصدح في فروعها فنونها سحراً فتوقظ بالهديل النوما

ص: 18

وأميل، إلى بلاد محياها جميل:

كساها الحيا برد الشباب فإنها بلاد بها عق الشباب تمائمي

ذكرت بها عهد الصبا فكأنما قدحت بنار الشوق بين الحيازم

ليالي لا ألوي على رشد ناصحٍ عناني، ولا أثنيه عن غي لائم

أنال سهادي من عيون نواعس وأجني مرادي من غصون نواعم

وليل لنا بالسد بين معاطف من النهر ينساب انسياب الأراقم

تمر إلينا ثم عنا كأنها حواسد تمشي بيننا بالنمائم

وبتنا ولا واشٍ نخاف كأنما حللنا مكان السر من صدر كاتم

وأهفو إلى قصور ذات بهجة، وصروح توضح معالمها للرائد نهجه:

ورياض تختال منها غصون في برود من زهرها وعقود

فكأنما الأدواح فيها غوان تتبارى زهواً بحسن القدود

وكأن الأطيار فيها قيان تتغنى في كل عود بعود

وكأن الأزهار في حومة الرو ض سيوف تسل تحت بنود

وأصبو إلى بطاح وأدواح، تروح النفوس والأرواح:

سقياً لها من بطاح خزٍ ودوح زهر بها مطل

إذ ترى غير وجه شمسٍ أطل فيه عذار ظل

وأنهارٍ جارية، وأزهار نواسمها سارية، وأربع وملاعب، تزيح

ص: 19

عن بصرها المتاعب:

تلك المنازل والملا عب لا أراها الله محلا

أوطنتها زمن الصبا وجعلت فيها لي محلا

حيث التفت رأيت ماءً سائحاً ورأيت ظلا

والنهر يفصل بين وه؟ ر الروض في الشطين فصلا

كبساط وشيٍ جردت أيدي القيون عليه نصلا

وإلى منازل، يستفز حسنها الرائق الجاد والهازل، ويشفي منظرها عليلا، ويكفي مخبرها للمستفهم دليلا:

وجنان ألفتها حين غنت حولها الورق بكرةً وأصيلا

نهرها مسرعاً جرى وتمشت في رباها الصبا قليلاً قليلا

وأتمثل إن ذكرت حال وداعي، بقول الشاعر الأديب الوداعي:

الغرب خير وعند ساكنه أمانة أوجبت تقدمه

فالشرق من نيريه عندهم يودع ديناره ودرهمه

وبقول غيره، إشارة لفضل الغرب وخيره:

أشتاق للغرب وأصبو إلى معاهدٍ فيه وعصر الصبا

يا صاحبي نجواي والليل قد أرخى جلابيب الدجى واختبا

لا تعجبا من ناظر ساهرٍ بات يراعي أنجماً غبيا

القلب في آثارها طائر لما رآها تقصد المغربا

ص: 20

وأهيم كلما حللت من غيران أرضي بمكان، وقد صير السائق جد السير معمولاً ل؟ ((كان)) ، بقول قاضي القضاة العالم الكبير الشمس ابن خلكان:

أي ليلٍ على المحب أطاله سائق الظعن يوم زم جماله

يزجر العيس طاوياً يقطع المه؟ مه عسفاً سهوله ورماله

أيها السائق المجد ترفق بالمطايا فقد سئمن الرحاله

وأنخها هنيهةً وأرحها إذ براها السرى وفرط الكلاله

لا تطل سيرها العنيف فقد بر ح بالصب في سراها الإطالة

وارث للنازح الذي إن رأى رب؟ عاً ثوى فيه نادباً أطلاله

يسأل الربع عن ظباء المصلى ما على الربع لو أجاب سؤاله

ومحال من المحيل جواب غير أن الوقوف فيه علاله

هذه سنة المحبين يبكو ن على كل منزل لا محاله

يا ديار الأحباب لا زالت الأء ين في ترب ساحتيك مذاله

وتمشي النسيم وهو عليل في مغانيك ساحباً أذياله

أين عيش مضى لنا فيك؟ ما أس؟ رع عنا ذهابه وزواله

حيث وجه الزمان طلق نضير والتداني غصونه مياله

ولنا فيك طيب أوقات أنسٍ ليتنا في المنام نلقى مثاله

وأردد قول الذي سحر الألباب، منادياً من له من الأحباب:

أحبابنا لو لقيتم في إقامتكم من الصبابة ما لاقيت في الظعن

لأصبح البحر من أنفاسكم يبساً والبر من أدمعي ينشق بالسفن

ص: 21

وقوله:

وما تغيرت عن ذاك الوداد، ولا حالت بين الحال في عهدي وميثاقي

درسي غرامي بكم دهري أكرره وقد تفقهت في وجدي وأشواقي

وقول المجد بن شمس الخلافة، معلماً أنه لا يريد بدل معهده وخلافه:

يا زمان الهوى عليك السلام وعلي السلو عنك حرام

أي عيش قطعته لو دا م وهل يرتجي لظل دوام

كنت حلماً والعيش فيك خيالاً وسريعاً ما تنقضي الأحلام

لهف على ليالٍ تقضت سلبتني برودها الأيام

فطمتني الأقدار عنها وليداً وشديد على الوليد الفطام

لا تلمني على البكاء من بكى شجوه فليس يلام

وقول أبي طاهر الخطيب الموصلي:

حي نجداً عني ومن حل نجدا أربعاً هجن لي غراماً ووجدا

واقر عني السلام آرام ذاك ال؟ شعب والأجراع الخصيب الفردا

وابك عني حتى ترنح بالوج؟ د أراكاً به وباناً ورندا

فلكم وقفةٍ أطلت على الضا ل بدمعٍ أذاع سري وأبدى

وعلى ألبان كم من البين أذري؟ ت لآلي للدمع مثنى ووحدا

آه والهفتي على طيب عيشٍ كنت قطعته وصالاً ووداً

ص: 22

حيث عود الشباب غض نضير ويد المكرمات بالجود تندى

والخليل الودود ينعم إسعا فاً وصرف الزمان يزداد بعدا

والليالي مساعدات على الوص؟ ل وعين الرقيب إذ ذاك رمدا

كم بها من لبانة لي وأوطا ر تقضت وجازت الحد حدا

فاستعاد الزمان ما كان أعطى خلسة لي ببخله واستردا

وقول بعضهم:

سلام على تلك المعاهد، إنها شريعة وردي أو مهب شمالي

ليالي لم نحذر حزون قطيعة ولم نمش إلا في سهول وصال

فقد صرت أرضى من نواحي جنابها بخلب برقٍ أو بطيف خيال

وقول الجرجاني:

للمحبين من حذار الفراق عبرات تجول بين المآقي

فإذا ما استقلت العيس للبي؟ ن وسارت حداتها بالرفاقِ

استهلت على الخدود انحداراً كانحدار الجمان في الاتساقِ

كم محب يرى التجلد ديناً فهو يخفي من الهوى ما يلاقي

أزدهاه النوى فأعرب بالوج؟ د لسان عن دمعه المهراقِ

وانحدار الدموع في موقف البي؟ ن على الخد آية العشاق

هون الخطب لست أول صبٍ فضحته الدموع يوم الفراق

وقول الخطيب الحصكفي الشافعي:

ص: 23

ساروا وأكبادنا جرحى وأعيننا قرحى وأنفسنا سكرى من القلقِ

تشكو بواطننا من بعدهم حرقاً لكن ظواهرناتشكو من الغرقِ

كأنهم فوق أكوار المطي وقد سارت مقطرةً في حالك الغسقِ

درارئ الزهر في الأبراج زاهرةً تسير في الفلك الجاري على نسقِ

يا موحشي الدار مذ بانوا كما أنست بقربهم لا خلت من صيبٍ غدقِ

إن غبتم لم تغيبوا عن ضمائرنا وإن حضرتم حملناكم على الحدقِ

وما أحسن قول بعضهم في هذا المعنى، الذي كررنا ذكره وبه ألمعنا:

سلام على أهل الوداد وعهدهم إذ الأنس روض والسرور فنون

رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ففاضت لروعات الفراق عيون

وكم أنشدت وليالي النوى عاتمة، قول الأندلسي ابن خاتمة:

أيامنا بالحمى ما كان أحلاك كم بت أرعاه إجلالاً وأرعاك

لا تنكري وقفتي ذلاً بمغناك يا دار لولا أحبائي ولولاك

لما وقفت وقوف الهائم الباكي

فهل لهم عطفه من بعد دلهم تالله ما تسمح الدنيا بمثلهم

آهاً لقلبي على تبديد شملهم ما كان أحلاك يا أيام وصلهم

ويا ليالي الرضا ما كان أضواك

يا بدر تمٍ تناءت عنه أربعنا ولم تزل تحتويه الدهر أضلعنا

ما للنوى البين توجعنا إذا تذكرت دهراً كان يجمعنا

تفطرت كبدي شوقاً لمرآكِ

ص: 24

أحباب أنفسنا كم ذا النوى وكم ويا معاهد نجوانا بذي سلم

تالله ما شبت دمعاً للأسى بدم ولا لئمت تراب الأرض من كرم

إلا مراعاة خل ظل يرعاكِ

عل التعلل يدني منهم وعسى فيعمر القرب ما بالبين قد درسا

كم ذا أنادي مبربعٍ بالنوى طمسا يا قلب صبراً فإن الصبر عاد أسى

ويا منازل سلمى أين سلماكِ

وقول بعض من اشتد به الهيام، فخاطب جيرته مادحاً ليالي القرب وذاماً تقلب الأيام:

أيام أنسي قد كانت بقربكم بيضاً، فحين نأيتم أصبحت سودا

ذممت عيشي مذ فارقت أرضكم من بعد ما كان مغبوطاً ومحسودا

وقول صاحب مصارع العشاق، وقد شاقه من الهوى ما شاق:

بانوا فأدمع مقلتي وجداً عليهم تستهل

وحدا بهم حادي الفرا ق عن المنازل فاستقلوا

قل للذين ترحلوا عن ناظري والقلب حلوا

ما ضرهم لو أنهلوا من ماء وصلهم وعلوا

وقوله حين زحزحته يد الفراق، عن أطاون العراق:

قد فلت والعبرات تس؟ فحها على الخد المآقي

ص: 25

حين انحدرت إلى الجزي؟ رة وانقطعت عن العراق

وتخبطت أيدي الرفا ق مهامه البيد الرقاق

يا بؤس من سل الزما ن عليه سيفاً للفراق

وقوله أيضاً:

يا منزل الحي بذات النقا سقاك دمع مذ نأوا ما رقا

هل سلوة؟ هيهات! لا سلوة قد بلغ الزبى وارتقى

وأنت يا يوم النوى عاجلاً أدال منك الله يوم اللقا

وقولي موطئاً للثالث، وقد تغير لي فيمن حارث

لم أنس معهدنا والشمل مجتمع والعيش غض وروض الأنس معطار

فها أنا بعد بعدٍ عنه قلق وقد نبت بي أرجاء واقطار

تمضي الليالي وأشواقي مجددة وما انقضت لي من الأحباب أوطار

وكلما مررت بمرأى يروق، لمعت لي من ناحية المغنى بالمنى بروق، فتذكرت قول بعض من له على غير من يهوى طروق:

ما نظرت عيني سواك منظراً مستحسناً إلا عرضت دونه

وما تمنيت لقاء غائبٍ إلا سألت الله أن تكونه

وربما رمت انتحائي مذهب السلو وانتحالي، خلال أحوال إقامتي وارتحالي، فلم يتنقل عن تلك الصفات حالي، وأني وجيدي بقلائد البتات حالي:

ص: 26

والشوق أعظم أن يحيط بوصفه قلم وأن يطوى عليه كتاب

والله ما أنا منصف إن كان لي عيش يطيب وجيرتي غياب

وكيف ولآماقي صب، ولأتواقي زيادة إذا سرى نسيم أو هب:

شربت حميا البين صرفاً، وطالما جلوت محيا الوصل وهو وسيم

فميعاد دمعي أن تنوح حمامة وميقات شوقي أن يهب نسيم

فإن لاح سنا بارق شاقني، أو ترنم شادٍ حدا بي إلى الهيام وساقني، أو رنا ظبي فلاة راعني وراقني:

وإني ليصيبني سنا كل بارقٍ وكل حمامٍ في الأرك ينوح

وأرتاع من ظبي الفلاة إذا رنا وأرتاح للتذكار وهو سنوح

ولم يك ذاك الأمر من حيث ذاته ولكن لمعنى في الحبيب يلوح

ولا أستطيع الإعراب عن أمري العجيب، لما بي من النوى المذهل والجوى المدهش والوجيب:

ولا تسألوا عما أجن فليس لي لسان يؤدي ما الغرام يقول

يطارحني البرق الأحاديث كلما أضاء كأن البرق منه رسول

وما بال خفاق النسيم يميلني هل الريح راح والشمال شمول

إذ دموع شؤوني عند الذكرى لا ترقا، وجفوني ليس لها عن الأرق مرقى، وشجوني تنمو إذا صدحت بفننها ورقا:

رب ورقاء في الدياجي تنادي إلفها في غصونها المياده

فتثير الهوى بلحن عجيب يشهد السمع أنها عواده

كلما رجعت توجعت حزناً فكأنما في وجدنا نتباده

ص: 27

فيا لها من ذات طوق، مثيرة لكامن شوق، جالبة له من يمين وشمال وفوق:

ذكرتني الورقاء أيام أنسٍ سالفات فبت أذري الدموعا

ووصلت السهاد شوقاً لحبي وغراماً وقد هجرت الهجوعا

كيف يخلو قلبي من الذكر يوماً وعلى حبهم حنيت الضلوعا

كلما أولع العذول بعتبي في هواهم يزداد قلبي ولوعا

وربما أتخيل قول من قال إنها بالحزن بائحة، وعلى فقد الإلف نائحة، فأنشد قول خليل، وهو بالحب مدنف وعليل:

ورب حمامة في الدوح باتت تجيد النوح فناً بعد فن

أقاسمها الهوى مهما اجتمعنا فمنها النوح والعبرات مني

ولا غرو إن ظهر بائح، فباكٍ مثلي من الشجو نائح:

فرجعت بعد فراق أيام الهوى أصف الصبابة للمحب المولع

دامي الجفون إذا الحمامة غردت من فوق خوط البانة المترعرع

أسقي الديار - وقد تباعد أهلها عنها - عزالي الدموع الهمع

ونواعب الأطلال ليس يجيبني ما بينهن سوى الصدى بتوجع

وهواتف فوق الغصون يجيبني منهن تغريد الحمام السجع

ناحت على عذب الفروع وإلفها منها بمرأى فوقها وبمسمع

ما فارقت إلفاً كما فارقته كلا ولا أجرت سواكب أدمعي

على أوان عيون سعوده روان، وزمان معمور بأماني وأمان، وآمال دوان، وتهان ما بين بكرٍ وعوان، وفي عذر من طال ليله فاضطرب فيه لولوعه، وسكن جواه بجوانحه وضلوعه:

ص: 28

إن طال ليلي بعدهم فلطوله عذر، وذاك لما أقاسي منهم

لم تسر فيه نجومه لكنها وقفت لتسمع ما أحدث عنهم

فأرقي، الزائد في حرقي، أظهر المكنون وأبان، ووجدي بمن نأى وبان، لم يجد فيه تعلل برندٍ وبان:

تنبهي يا عذبات الرند كم ذا الكرى؟ هب نسيم نجد

فلست مثلي في جوى أو أرقٍ وحرفة من فرقة أو صد

عوفيت مما حل بي من جيرةٍ في الغرب لم يرثوا لفرط وجدي

أعلل القلب ببان رامة وهل ينوب غصن عن قد

بانوا فلا مغنى السرور بعدهم مغنى، ولا عهد الرضا بعهد

آهاً من البعد ومن لم يدره لم يشجه تأوهي للبعد

وفي شغل من أبكته الربوع والطلوع، وذهبت برهة من زمانه بين الترحل والحلول، فركب من الأخطار الصعب والذلول، وحافظ على العهود ولم يسلك سبيل الغادر الملول:

سقاها الحيا من أربع وطلول حكت دنفي من بعدهم ونحولي

ضمنت لها أجفان عينٍ قريحةٍ من الدمع مدرار الشؤون همول

ومن الغريب، الذي ينكره غير الأريب، أن الحادي إن سر القلب بكشف رين، فقد تسبب في اجتماع متنافيين متنافرين:

ترنم حاد بالصريم فشاقني إلى ذكر من باتت ضلوعي تضمه

ص: 29

فسر وسار النفس شجواً فربما كلفت به من حيث صرت أذمه

وارتجلت حين مللت من طول السرى، مضمناً ذكر ما أروم له تيسرا، وقد أكثر الرفاق عند رؤية ما لم يألفوه من الآفاق تلهفاً وتحسرا:

قلت لما طال النوى عن بلادي ولأهل النوى جوى وعويل

هل أرى للفراق آخر عهدٍ إن عمر الفراق عمر طويل

ثم قلت مضمناً:

لائمي في ذكر أحباب نأوا لا تلم من أضعف الشوق قواه

إن يوماً جامعاً شملي بهم ذاك عيدي، ليس لي عيد سواه

ثم قلت مضمناً أيضاً:

لك الله من صب أضر به النوى وليس له غير اللقاء طبيب

وإن صباحاً نلتقي بمسائه صباح إلى قلبي المشوق حبيب

ثم عدت إلى التبصر، بعد إمعان النظر والتدبر:

وإني لأدري أن في الصبر راحةً ولكن إنفاقي على الصبر من عمري

فلا تطف نار الشوق بالشوق طالباً سلواً، فإن الجمر يسعر بالجمر

ثم سلكت منهج التفويض والتسليم، منشداً قول ابن قطرال المغربي في مقام النصح والتعليم، ووجهت القصد إلى سكان الضمير بذلك التكليم:

إن أيام الرضا معدودة والرضا أجمل شيء بالعبيد

ص: 30

لا تظنوا لي عنكم سلوةً ما على شوقي إليكم من مزيد

راجعوا أنفسكم تستيقنوا أنكم في الوقت أقصى ما أريد

إن يوماً يجمع الله بكم فيه شملي ذاك عندي يوم عيد

وقول بعض من ندم على البعد عن المعاهد، وأمل العود - والعود أحمد - إلى الشاهد، وغفر للدهر ذنبه إن عاد، وتلهف أن لم يعامله بغير الإبعاد:

لئن عاد جمع الشمل في ذلك الحمى غفرت لدهري كل ذنب تقدما

وإن لم يعد منيت نفسي بعودة وماذا عسى تجدي الأماني وقلما

يحق لقلبي أن يذوب صبابةً وللعين أن تجري مدامعها دما

على زمنٍ ماضٍ بهم قد قطعته لبست به ثوب المسرة معلما

وقول آخر يخاطب أحبابه، ويذكر فواصل بحر النوى الطويل وأسبابه:

أعيذكم من لوعتي وشجوني ونار جوىً تذكى بماء شؤوني

وبرح أسى لم يبق في بقيةً سوى حركات تارةً وسكون

أرى القلب أضحى بعد طارقة الأسى أسير صبابات رهين شجون

وكيف سبيل القرب منكم ودونكم رمال زرودٍ والأجارع دوني؟

سلوا مضجعي هل قر من بعد بعدكم وهل عرفت طعم الرقاد جفوني

سهرنا بنعمانٍ، ونمتم ببابلٍ، فيا لعيون ما وفت لعيون

وفي بعض الأحيان، أتسلي بقول الأندلسيين الأعيان:

لا تكرث بفراق أوطان الصبا فعسى تنال بغيرهن سعودا

فالدر ينظم عند فقد بحاره بجميل أجياد الحسان عقودا

وقول غيره:

فعسى الليالي أن تمن بنظمنا عقداً كما كنا عليه وأكملا

ص: 31

فلربما نثر الجمان تعمداً ليعاد أحسن في النظام وأجملا

وأرغب لمن أطال ذيول الغربة أن يقلصها، وأطلب ممن أجال النفوس في سيول الكربة أن يخلصها:

فنلتقي وعوادي الدهر غافلة عما نروم وعقد البين محلول

والدار آنسة، والشمل مجتمع، والطير صادحة، والروض مطلول

وأضرع إليه - سبحانه - في تيسير العود إلى أوطاني، ومعهدي الذي مطايا العز أوطاني، وأن يلحقني بذلك الأفق الذي خيره موفور، وحق من فيه معروف لا منكر ولا مكفور:

إذا ظفرت من الدنيا بقربهم فكل ذنب جناه الدهر مغفور

وكأني بعاتب يقول: ما هذا التطويل؟ فأقول له: جوابي قول ابن أبي الإصبع الذي عليه التعويل:

أكثرت عذلي كأني كنت أول من بكى على مسكن أو حن للسكن

لا تلح إن من الإيمان عند ذوي ال إيمان منا حنين النفس للوطن

على أنني أقول: اللهم يسر لي ما فيه الخيرة لي بالمشارق أو بالمغارب، وجد لي من فضلك حيث حللت بجميع ما فيه رضاك من المآرب، بجاه نبينا وشفيعنا المبعوث رحمة للأحمر والأسود والأعاجم والأعارب، عليه أفضل صلاة وأزكى سلام، وعلى آله وأصحابه الأعلام، والتابعين لهم بإحسان ما ذر شارق وتعاقب طالع وغارب.

ص: 32

[ركوب البحر وبلوغ مصر]

ثم جد بنا السير في البر أياماً، ونأينا عن الأوطان التي أطنبنا في الحديث حباً لها وهياماً، وكنا عن تفاعيل وصلها نياما، إلى أن ركبنا البحر، وحللنا منه بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله، وتنافي أحواله، ما لا يعبر عنه، ولا يبلغ له كنه:

البحر صعب المرام جداً لا جعلت حاجتي إليه

أليس ماء ونحن طين فما عسى صبرنا عليه

فكم استقبلتنا أمواجه بوجه بواسر، وطارت إلينا من شراعه عقبان كواسر، قد أزعجتها أكف الريح من وكرها، كما نبهت اللجج من سكرها، فلم تبق شيئاً من قوتها ومكرها، فسمعنا للجبال صفيراً، وللرياح دوياً عظيماً وزفيراً، وتيقنا أنا لا نجد من ذلك إلا فضل الله مجيراً وخفيراً، (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) (الإسراء: 67) وأيسنا من الحياة، لصوت تلك العواصف والمياه، فلا حيا الله ذلك الهول المزعج ولا بياه، والموج يصفق لسماع أصوات الرياح فيطرب بل ويضطرب، فكأنه من كأس الجنون يشرب أو شرب، فيبتعد ويقترب، وفرقه تلتطم وتصطفق، وتختلف ولا تكاد تتفق، فتخال الجو يأخذ بنواصيها، وتجذبها أيديه من قواصيها، حتى كاد سطح الأرض يكشف من خلالها، وعنان السحب يخطف في استقلالها، وقد أشرفت النفوس على التلف من خوفها واعتلالها، وآذنت الأحوال بعد انتظامها باختلالها، وساءت الظنون، وتراءت في صورها المنون، والشراع في قراع مع جيوش الأمواج

ص: 33

التي أمدت منها الأفوج بالأفواج، ونجن قعود، كدود على عود، ما بين فرادي وأزواج، وقد نبت بنا من القلق أمكنتنا، وخرست من الفرق ألسنتنا، وتوهمنا أنه ليس في الوجود، أغوار ولا نجود، إلا السماء والماء وذلك السفين، ومن في قبر جوفه دفين، مع ترقب هجوم العدو، في الرواح والغدو، لاجتيازه على عدة من بلاد الجرب، دمر الله سبحانه من فيها وأذهب بفتحها عن المسلمين الكرب، لاسيما مالطة الملعونة، التي يتحقق من خلص من معرتها أنه أمد بتأييد إلهي ومعونة، فقد اعرتضت في لهوات البحر الشامي شجا، وقل من ركبه فأفلت من كيدها ونجا، فزادنا ذلك الحذر، الذي لم يبق ولم يذر، على ما وصفناه من هول البحر قلقاً، وأجرينا إذ ذاك في ميدان الإلقاء باليد إلى التهلكة طلقاً، وتشتت أفكارنا فرقاً، وذبنا أسى وندماً وفرقاً، إذ البحر وحده لا كمى يقارعه، ولا قوي يصارعه، ولا شكل يضارعه، ولا يؤمن على حالٍ، ولا يفرق بين عاطل وحالٍ، ولا بين أعزل وشاكٍ، ومتباك وباكٍ:

ثلاثة ليس لها أمان البحر والسلطان والزمان

فكيف وقد انضم إليه خوف العدو الغادر الخائن، والكافر الحائن، إلى أن قضى الله بالنجاة ما أراد فهو الكائن، وإن نهى عنه وأخطأ المائن، فرأينا البر وكأنما قبل لم نره، وشفيت به أعيننا من المره، وحصل بعد الشدة الفرج، وشممنا من السلامة أطيب الأرج، فيا لها من نعمة كشفت عن وجهها النقاب، يقل شكراً لها صوم الأحقاب وعتق الرقاب، وجعلنا الله بآياته معتبرين، وعلى طاعته مصطبرين؛ ولم نخل في البر من معاناة خطوب، ومداراة وجوه للمتاعب ذات تجهم وقطوب، فكم جبنا منه مهامه فيحاً، ومسحنا

ص: 34

بالخطا منها أثيراً وصفيحاً، وفلينا الفجاج، وقرأنا من الطرق خطوطاً ذات استقامة واعوجاج، وقلوب الرفقة من الفرقة في اضطراب وارتجاج، وربما عميت على المجتهد الأدلة التي يحصل بها على المذهب الاحتجاج، فترى الأنفاس تعثر في زفرة الأشواق، والأجسام قد زرت عليها من التعب الأطواق، هذا والليل بصفحة البدر مرتاب، وقد شدت رحال وأقتاب، وزمت ركاب ورفعت أحداج، وفريت من الدعة بمدية النصب أوداج، وتساوي في السير نهار مشرق وليل مقمر أو داج، وأديم التأويب والإسآد، وحمل الغربة قد أثقل وآد، ثم وصلنا بعد خوض بحار، يدهش فيها الكفار ويحار، وجوب فياف مجاهل، يضل فيها القطا عن المناهل، إلى مصر المحروسة فشفينا برؤيتها من الأوجاع، وشاهدنا كثيراً من محاسنها التي تعجز عن وصفها القوافي والأسجاع، وتمثلنا في بدائعها التي لا نستوفيها، بقول ابن ناهض فيها:

شاطئ مصر جنة ما مثلها في بلد

لا سيما مذ زخرفت بنيلها المطرد

وللرياح فوقه سوابغ من زرد

مسرودة ما مسها داودها بمبرد

سائلة وهو بها يرعد عاري الجسد

والفلك كالأفلاك بي؟ ن حادر ومصعد

ص: 35

وبقول آخر:

انظر إلى النيل الذي ظهرت به آيات ربي

فكأنه في فيضه دمعي وفي الخفقان قلبي

وبقول أبي المكارم ابن الخطير المعروف بابن مماتي في جزيرتها:

جزيرة مصرٍ، لا عدتك مسرة ولا زالت اللذات فيك اتصالها

فكم فيك من شمس على غصن قامة يميت ويحيي هجرها ووصالها

مغانيك فوق النيل أضحت هوادجاً ومختلفات الموج فيك حبالها

ومن أعجب الأشياء أنك جنة تمد على أهل الضلال ظلالها

لعله أراد بأهل الضلال اليهود والنصارى المستولين إذ ذاك على الدولة وتذكرت في مصر قول القاضي الفاضل:

بالله قل للنيل عني إنني لم أشف من ماء الفرات غليلا

وسل الفؤاد فإنه لي شاهد إن كان طرفي بالبكاء بخيلا

يا قلب كم خلفت ثم بثينةً وأظن صبرك أن يكون جميلا

ص: 36

وقول أحمد بن فضل الله العمري:

لمصر فضل باهر بعيشها الرغد النضر

في سفح روض يلتقي ماء الحياة والخضر

وقول آخر:

كأن النيل ذو فهم ولبٍ لما يبدو لعين الناس منه

فيأتي حين حاجتهم إليه ويمضي حين يستغنون عنه

وقول آخر:

ولله مجرى النيل منه إذا الصبا أرتنا به من مرها عسكراً مجرا

بشطٍ يهز السمهرية ذبلاً وموج يهز البيض هنديةً بترا

إذا مد حاكي الورد لوناً، وإن صفا حكى ماءه لوناً ولم يحكه مرا

وقول آخر:

واهاً لهذا النيل؛ أي عجيبة بكرٍ بمثل حديثها لا يسمع

يلقى الثرى في الماء وهو مسلم حتى إذا ما مال عاد يودع

مستقبل مثل الهلال فدهره أبداً يزيد كما يزيد ويرجع

وقول ابن النقيب:

ص: 37

الصب من بعدهم مفرد ودمعه النيل وتعليقه

وخده لما بكاهم دماً مقياسه، والدمع تخليقه

وقول الصفدي:

سقياً لمصر وما حوت من أنسها وأناسها

ومحاسن في مقسها تبدو وفي مقياسها

ومسرة كاساتها تجلى على أكياسها

وسطور قرط خطها ال؟ باري على قرطاسها

ودمى كنائسها، ولا تنسى ظباء كناسها

ولطافة بجلالةٍ تبدو على جلاسها

ونواسمٍ كل المنى للنفس في أنفاسها

ومراكب لعبت بها ال؟ أمواج في وسواسها

وقول ابن جابر الأندلسي:

ما زلت أسند من محاسن أرضها خبراً صحيحاً ليس بالمقطوع

كم مرسلٍ من نيلها ومسلسل ومدبجٍ من هضبها المرفوع

ص: 38

وقول إبراهيم بن عبدون:

والنيل بين الجانبين كأنما صدثت بصفحته صفيحة صيقل

يأتيك من كدر الزواخر مده بممسك من مائه ومصندل

فكأنما ضوء البدر في تمويجه برق تموج في سحابٍ مسبل

وكأن نور السرج من جنباته زهر الكواكب تحت ليل أليل

مثل الرياض مفتقاً أنواره تبدو لعين مشبه وممثل

وقول ابن الصاحب:

فرح الأنام بنيلهم إذ صار أحمر كالسقيق

وتبركوا بشروقه فكأنه وادي العقيق

وقول آخر:

احمر للنيل خد حتى غدا كالشقيق

وقد ترنمت فيه إذ صار وادي العقيق

[زيارة مكة والمدينة]

ثم شمرت عن ساعد العزم بعد الإقامة بمصر مدة قليلة، إلى المهم الأعظم والمقصد الأكبر الذي هو سر المطالب الجليلة، وهو رؤية الحرمين الشريفين، والعلمين المنيفين، زادهما الله تنويها، وبلغ النفوس ببركة من شرفا به مآرب لم تزل تنويها؛ فسافرت في البحر إلى الحجاز، راجياً من الله سبحانه في الأجر الانتجاز، إلى أن بلغت جدة، بعد مكابدة خطوب اتخذت لها من الصبر عدة، فحين حصل القرب، واكتحلت العين بإثمد تلك الترب، ترنمت بقول من

ص: 39

قال، محرضاً على الوخد والإرقال:

بدا لك الحق فاقطع ظهر بيداء واهجر مقالة أحباب وأعداء

واقصد على عزمه أرض الحجاز تجد بعداً عن السخط في نزل الأوداء

وقل إذا نلت من أم القرى أرباً وهو الوصول بإسرار وإبداء

يا مكة الله قد مكنت لي حرماً مؤمناً لست أشكو فيه من داء

فمذ رأى النازح المسكين مسكنه في قطرك الرحب لم ينكب بأرزاء

شوق الفؤاد إلى مغناك متصل شوق الرياض إلى طلٍ وأنداء

ثم أنشدت، عندما بدت أعلام البيت الحرام، قول بعض من غلب عليه الشوق والغرام، وقد بلغ من أمانيه الموجبة بشائره وتهانيه المرام:

وافي الحجيج إلى البيت العتيق وقد سجا الدجى فرأوا نوراً به بزغا

عجوا عجيجاً وقالوا: الله أكبر ما للجو مؤتلقاً بالنور قد صبغا

قال الديلي: ألا عاتوا بشارتكم فمن نوى كعبة الرحمن قد بلغا

نادوا على العيس بالأشواق وانتحبوا وحن كل فؤاد نحوها وصغا

وكل من ذم فعلاً نال محمدةً في مكة ومحا ما قد جنى وبغى

ولما وقع بصري على البيت الشريف كدت أغيب عن الوجود، واستشعرت قول العارف بالله الشبلي لما وفد إلى حضرة الجود:

قلت للقلب إذ تراءى لعيني رسم دارٍ لهم فهاج اشتياقي

هذه دارهم وأنت محب ما احتباس الدموع في الآماق

ص: 40

والمغاني للصب فيها معاني فهي تدعى مصارع العشاق

حل عقد الدموع واحلل رباها واهجر الصبر وارع حق الفراق

ثم أكملت العمرة، ودعوت الله أن أكون ممن عمر بطاعة ربه عمره، وذلك أوائل ذي القعدة من عام ثمانية وعشرين وألف من الهجرة السنية، وأقمت هنالك منتظراً وقت الحج الشريف، ومتفيئاً ذلك الظل الوريف، ومقتطفاً ثمار القرب الجنية، إلى أن جاء الأوان، فأحرمت بالحج من غير توان، وحين حللت مما به أحرمت، نويت الإقامة هنالك وأبرمت، فحال من دون ذلك حائل، وكنت حرياً بأن أنشد قول القائل:

هذي أباطح مكة حولي وما جمعت مشاعرها من الحرمات

أدعو بها لبيك تلبية امرئٍ يرجو الخلاص بها من الأزمات

نلت المنى بمنىً لأني لم أخف بالخيف من ذنب أحال سماتي

وعرفت في عرفات أني ناشق للعفو عرفاً عاطر النسمات

وأن أتمثل في المطاف، إذ حفتني الألطاف، بقول من ربعه بالتقوى مشيد، البغدادي الشهير بابن رشيد:

على ربعهم لله بيت مبارك إليه قلوب الناس تهوي وتهواه

يطوف به الجاني فيغفر ذنبه ويسقط عنه جرمه وخطاياه

وكم لذةٍ أو فرحة لطوافه فلله ما أحلى الطواف وأهناه

ثم قصدنا بعد قضاء تلك الأوطار، لطيبة الشريفة التي لها الفضل على الأقطار، واستشعرت قول من أنشد وطير عزمه عن أوكاره قد طار:

حمدت مرادي إذ بلغت مرادي بأم القرى مستمسكاً بعمادي

ومذ رويت من ماء زمزم غلتي فلست بمحتاجٍ لماء ثماد

ص: 41

فلله سبحانه الحمد على نعمه التي جلت، ومننه التي نزلت بها النفوس مواطن التشريف وحلت:

من يهده الرحمن خير هدايةٍ يحلل بمكة كي يتاح المقصدا

وإذا قضى من حجه الفرض انثنى يشفي برؤية طيبة داء الصدى

وكان حظي في هذه الحال تذكر قول بعض الوشاحين من الأندلسيين الذين كان لهم ارتحال إلى تلك المعاهد الطاهرة، والمشاهد الزاهرة، التي تشتد إليها الرحال:

يا من لعبدٍ به افتقار إلى أيادٍ له جسام

فضلك مدنٍ لخير مدن حل بها سيد الأنام

لم يهف قلبي لحب ليلى ولا سعادٍ ولا الرباب

لاقى شجوناً ونال ويلا من هام في ذلك الجناب

بل مال مني الفؤاد ميلا لمن له الحب لا يعاب

قلبي والله مستطار مذ حل في بيته الحرام

ذا الحجر والركن خير ركن وزمزم الخير والمقام

ذابت قلوب المطي عشقاً وركبها واستوى المراد

إلى حبيب القلوب حقا الحي والميت والجماد

إلى الذي ليس فيه يشقى من حبه داخل الفؤاد

شكوا وقد طالت السفار هم ومطاياهم السقام

فهي قسي من التثني والقوم من فوقها سهام

ولست من سكرتي مفيقا حتى أرى حجرة الرسول

فإن يسهل لي الطريقا فذاك أقصى منىً وسول

ص: 42

متى ترى عيني العقيقا ويفرح القلب بالوصل

كم قلت والصبر مستعار للركب إذ غادروا المنام

ونسمة الشوق حركتني وزاد بي الوجد والغرام

قواموا فقد طال ذا الجلوس وبادروا زورة الحبيب

تاقت إلى طيبة النفوس لا عيش من دونها يطيب

لا حبذا دونها الغروس والماء والشادن الربيب

وحبذا الرمل والقفار والعرب في تلكم الخيام

وأم غيلان ظلتني والأيك والأثل والثمام

يا طيبة حزت كل طيب بسيد فيك ذي حلول

نداء مستضعف غريب في غر أمداحه يقول

وهو من السامع المجيب لمدحه يسأل يسشأل القبول

أنت الغني لي فلا افتقار وأنت عزي فلا أضام

مستمسك منك حسن ظني بعروة ما لها انفصام

بسيد العالمين أجمع بأحمد المجتبي الرسول

ومن هو الشافع المشفع في موقف المحشر المهول

إذ لا كلام هناك يسمع للغير والناس في ذهول

إذ السماء لها انفطار والشهب منثورة النظام

كذا الجبال انثنت كعهنٍ سريعة المر كالغمام

يا أول الرسل في الفضيله وإن تأخرت في الزمن

ص: 43

شفاعة نلت مع وسيله فمن يضاهي علاك من

علت بك الرتبة الجليله وطبت في السر والعلن

فأنت من خيرهم خيار فمن يضاهيك في المقام

والرسل نالت بك التمني وأنت بدر لهم تمام

الوجد قد قر في فؤادي فما لصبر به قرار

ولا عجبي صاعد اتقاد ودمع عيني له انهمار

وها أنا جئت من بلادي لطيبة أبتغي الجوار

فحبذا تلكم الديار والمصطفى مسكة الختام

عليه أزكى الصلاة مني وصحبه الغر، والسلام

وقول أبي جعفر الرعيني الغرناطي - رحمه الله تعالى - وهو من التشريع أحد أنواع البديع:

يا راحلا يبغي زيارة طيبة نلت المنى: بزيارة الأخيار

حي العقيق إذا وصلت وصف لنا وادي منى: يا طيب الأخبار

وإذا وقفت لدى المعرف داعيا زال العنا: وظفرت بالأوطار

ولما من الله تعالى علينا بالحلول في المشاهد التي قام بها وظهر، والمعاهد التي بان الحق فيها واشتهر، والمواطن التي هزم الله تعالى حزب الشيطان فيها

ص: 44

وقهر، ونصرت النبوة وعضدت، وقطعت غصون الكفر وحصدت، ورصت قواعد التوحيد ونضدت، وقرت العيون، وقضيت الديون، أنشد لسان الحال، قول بعض من جيده بمحاسن طيبة حال:

يا من طيبة طابت حلى وعلى ومن بتشريفه قد شرف العرب

يا أحمد المصطفى قد جئت من بلدٍ قاصٍ ولي خلد قاسٍ ولي أرب

وقد دهتني ذنوب قلت إذ عظمت لله منها وطه المرتجى الهرب

ونسينا بمشاهدة ذلك الجناب ما كنا فيه، وسبق الدمع الذي لا يعارض الفرح ولا ينافيه:

أيها المغرم المشوق هنيئاً ما أنالوك من لذيذ التلاقي

قل لعينيك تهملان سروراً طالما أسعداك يوم الفراق

واجمع الوجد والسرور ابتهاجاً وجميع الأشجان والأشواق

وأمر العين أن تفيض انهمالاً وتوالي بدمعها المهراق

هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق

وملنا عن الأكوار، وثملنا من عرف تلك الأنجاد والأغوار، وتملينا من هاتيك الأنوار، وتخلينا عن الأغيار، وتحلينا بحلى الأخيار، وكيف ولا وطيبة مركز للزوار:

إذا لم تطب في طيبة عند طيب به طيبة طابت فأين تطيب

وإن لم يجب في أرضها ربنا الدعا ففي أي أرض للدعاء يجيب

أيا ساكني أكناف طيبة كلكم إلى القلب من أجل الحبيب حبيب

ص: 45

وما أحسن قول عالن الأندلس المالكي اللبيب، عبد الملك السلمي المشهور بابن حبيب:

لله در عصابةٍ صاحبتها نحو المدينة تقطع الفلوات

ومهامهٍ قد جبتها ومفاوزٍ ما زلت أذكرها بطول حياتي

حتى أتينا القبر قبر محمدٍ خص الإله محمداً بصلاة

خير البرية والنبي المصطفى هادي الورى لطرائق الجنات

لما وقفت بقربه لسلامه جادت دموعي واكف العبرات

ورأيت حجرته وموضعه الذي قد كان يدعو فيه في الخلوات

مع روضة قد قال فيها: إنها مشتقة من روضة الجنات

وبمنزل الأنصار وسط قبابهم بيت الهداية كاشف الغمرات

وبطيبةٍ طابوا ونالوا رحمةً مغنى الكتاب ومحكم الآيات

وبقبر حمزة والصحابة حوله فاضت دموع العين منهمرات

سقياً لتلك معاهداً شاهدتها وشهدتها بالخطو واللحظات

لا زلت زواراً لقبر نبينا ومدينة زهراء بالبركات

صلى الإله على النبي المصطفى هادي البرية كاشف الكربات

وعلى ضجيعيه مردداً ما لاح نور الحق في الظلمات

ص: 46

وقول كمال الدين ناظر قوص:

أنخ، هذه والحمد لله يثرب فبشراك قد نلت الذي كنت تطلب

فعفر بهذا الترب وجهك، إنه أحق به من كل طيبٍ وأطيب

وقبل ربوعاً حولها قد تشرفت بمن جاورت، والشيء يحبب

وسكن فؤاداً لم يزل باشتياقه إليها على جمر الغضا يتقلب

وكفكف دموعاً طالما قد سفحتها وبرد جوى نيرانه تتلهب

وقول الرعيني الغرناطي:

هذه روضة الرسول فدعني أبذل الدمع في الصعيد السعيد

لا تلمني على انسكاب دموعي إنما صنتها لهذا الصعيد

ولما سلمت على سيد الأنام، عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، ذبت حياء وخجلا، لما أنا عليه من ارتكاب ما يقتضي وجلا، غير أني توسلت بجاهه صلى الله عليه وسلم في أن أكون ممن وضح له وجه الصفح وجلا:

إليك أفر من زللي فرار الخائف الخجل

وكان مزار قبرك بال؟ مدينة له نفسي بلا خلل

فخذ بيدي غريقٍ في بحار القول والعمل

ص: 47

وهب لي منك عارفة تعرفت ما تنكر لي

وتهديني إلى رشدي وتمنعني من الزلل

وتحملني على سننٍ يؤمني من الوجل

فأنت دليل من عميت عليه مسالك السبل

وإنك شافع بر وموئلنا من الوهل

وإنك خير مبتعث وإنك خاتم الرسل

فيا أزكى الورى شرفاً وشافيهم من العلل

ويا أندى الأنام يداً وأكرم ناصرٍ وولي

نداء مقصر وجلٍ بثوب الفقر مشتمل

على جدواك معتمدي فأنقذني من الدخل

وألحقني بجناتٍ لدى درجاتها الأول

بصديقٍ وفاروقٍ وعثمان الرضى وعلي

فأنت ملاذ معتصمٍ وأنت عماد متكل

عليك صلاة ربك ج؟ ل في الغدوات والأصل

ومذ شممنا من أرج تلك الأرجاء الذاكية، واستضأنا بسرج تلك الأضواء الزاكية، ظهر من الشوق ما كان بطن، ولم يخطر ببالنا سكن ولا وطن، ويا سعادة من اقام بتلك البقاع الشريفة وقطن:

مر النسيم بربعهم فتلذذا حتى كأن النشر صار له غذا

فصحا وصح وصاح لا أشكو أذى قل للصبا ماذا حملت من الشذا

أمسست طيباً أم علاك عبير

ص: 48

يا أيها الحادي الذي من وسمه قصد الحبيب وأن يلم برسمه

هذي منازله فزمزم باسمه بأبي الذي لم تذو زهرة جسمه

لكنه غض الجمال نضير

لله شوق قد تجاوز حده أوفى على الصبر المشيد فهده

يا ناشق الكافور لا تتعده طوبى لمشتاق يعفر خده

في روضة الهادي إليه يشير

فهناك يبذل في التوسل وسعه ويصيخ نحو خطيب طيبة سمعه

ويريق فوق حصى المصلي دمعه ويرى معالم من يحب وربعه

ومحمد للعالمين بشير

صلى عليه الله خير صلاته وحبا معاليه جليل صلاته

ما حن ذو الأشواق في حالاته وأتى مغانيه على علاته

فأتيح حسن الختم وهو قرير

ووقفنا بباب طلب الآمال خاشعين، وتوسلنا إلى الله بذلك المقام العلي خاضعين، وغبطنا قوماً سكنوا هنالك فكانوا لحدودهم متى شاءوا على تلك الأعتاب واضعين:

أكرم بعبد نحو طيبة مسند متوسل مستشفع مسترشد

يفلي الفلاة لها بعزم أيد وافي إلى قبر النبي محمد

ولربعه الأسمى يروح ويغتدي

ص: 49

أزجاه صادق حبه المتمكن وحداه سائق عزمه المتعين

فحكى لدى شجوٍ حمام الأغصن هزجاً يردد فيه صوت ملحن

ويمد للإطراب صوت المنشد

ويقول جئت بعزمةٍ نزاعةٍ ونهضت والدنيا تمر كساعةٍ

لمحل أحمد قائلا بإذاعةٍ هذا النبي المرتجي لشفاعةً

يوم القيامة بين ذاك المشهد

هذا الرؤوف بجاره ونزيله هذا سراج الله في تنزيله

هذا الذي لا ريب في تفضيله هذا حبيب الله وابن خليله

هذا ابن باني البيت أول مسجد

عذا الذي اصطفت النبوة خيمه هذا الذي إعتام الهدى تقديمه

هذا الذي نسقي غداً تسنيمه هذا الذي جبريل كان خديمه

في حضرة التشريف أزكى مصعد

هذا الذي شهد الوجود بخصه بمزية التفضيل من مختصه

وأبانه من وحيه في نصه هذا الذي ارتفع البراق بشخصه

في ليلة الإسراء أشرف مشهد

هذا الذي غدت الطلول حديقةً بجواره وغدت تروق أنيقةً

هذا المكمل خلقةً وخليقةً هذا الذي سمع النداء حقيقةً

ودنا ولم يك قبل ذاك بمبعد

فهناك كم رسلٍ به تتوسل وعلى حماه لدى المعاد يعول

يا ارحم الرحماء أنت الموئل يا خاتم الإرسال أنت الأول

فترق في أعلى المكارم واصعد

ص: 50

الله رفع في سراه مناره وأبان في السبع العلا أنواره

فقفت ملائكة السما آثاره واراه جنته هناك وناره

فمؤبد ومخلد لمخلد

كم ذاد من وجلٍ وجلى ظلمةً وامتن بالرحمى ومتن حرمةً

لما دجى أفق الضلالة دهمةً بعث الإله به ليرحم أمةً

لولاه كانت بالضلالة ترتدي

حاز الشفوف فكل خلق دونه فالغيث يسأل إذ يسيل يمينه

والشمس تستهدي الشروق جبينه والله فضله وأظهر دينه

ووفى لنا فيه بصدق الموعد

نطقي يغادي ذكره ويراوح وبه ينافج مسكةً وينافح

تعيي اللسان محامد وممادح طوبى لمن قد عاش وهو يكافح

عنه يناضل باللسان وباليد

هو صفوة العرب الأولى أحسابهم أسيافهم قرنت بها أسبابهم

فهم لباب المجد وهو لبابهم من آل بين لم تزل أنسابهم

تنبي لهم عن طيب عنصر مولد

شرف النبوة قد رسا في أهلها وسما على الزهر العلا بمحلها

ساق السوابق للفخار برسلها نطق الكتاب كما علمت بفضلها

وقضى به نص الحديث المسند

فوق السماك توطنت وتوطدت وتفردت بالمصطفى وتوحدت

فهي الخلاصة صفيت فتجردت من معدن فيه الرسالة قد بدت

من عصر آدمنا لعصر محمد

ص: 51

طالوا فلم يبقوا لمجد مصعدا صالوا ففي أيمانهم حتف العدا

سالوا فهم لعفاتهم غيث الجدا أهل السقاية والرفادة والندى

والكعبة البيت الحرام المقصد

المطعمون وقد طوى المري الطوى الناهضون إذا الصريخ لهم نوى

العاطفون إذا الطريق بهم ثوى أهل السدانة والحجابة واللوا

أهل المقام وزمزم والمسجد

المصلحون إذا الجموع تخاذعت المنجحون إذا المساعي دافعت

الدافعون إذا الأعادي قارعت المؤثرون إذا السنون تتابعت

وفد الحجيج بنيل كل تفقد

لا يقرب الخطب الملك منيعهم لا يطرق الكرب المخيف قريعهم

والله شرف بالنبي جميعهم من نال رتبتهم وحاز صنيعهم

نال الشفوف وحاز معنى السؤدد

حلوا من الطود الأشم بمنعةٍ في خير معتصم وأسمى رفعةٍ

فهم بمنة في هجعةٍ الله خصصهم بأشرف بقعةٍ

محجوبة محفوفةٍ بالأسعد

لما أتيت لرامة أصل السرى من بعد قصدي مكةً أم القرى

أنشدت جهراً فيه أنثر جوهرا وإليكما يا خير من وطيء الثرى

عذراء تزري بالعذارى الخرد

ص: 52

كل الحسان لحسنها قد أدهشا ما مثلها في تربها شادٍ نشا

سفرت بعزمٍ ما أجد وأطيشا نشأت بطي القلب وارتوت الحشا

زهراء من يرها يهل ويسجد

أمتك تشأى في مداها الألسنا وتري إجادتها المجيد المحسنا

تغدو ولا تثني العنان عن الثنا وأتتك تمرح كالقضيب إذا انثنى

مترنحاً بين الغصون الميد

قد أعلمت في المدح ثاقب ذهنها ترجو الحلول لدى قرارة أمنها

وعسى إذا غذيت بتربة عدنها يجلو لك الإحسان بارع حسنها

والحسن يجلوها وإن لم تنشد

مدحي لخير العالمين عقيدتي ومطيتي بل وطيبتي ونشيدتي

ونتيجتي وهدى اليقين مفيدتي ولئن مدحت محمداً بقصيدتي

فلقد مدحت قصيدتي بمحمد

يا خير خلق الله دعوة حائر يشكو إليك صروف دهر جائر

والله يعلم في هواك سرائري وهو الذي أرجو لعفو جرائري

متوسلاً بجنابك المتأطد

لولا حقوق عينت بمغارب بمكثت عندك كي تتاح مآربي

ويكون في الزرقاء عذب مشاربي حتى أحلي من ثراك ترائبي

وأنال دفناً في بقيع الغرقد

وعليك من ربٍ حباك صلاته وسلامه وهباته وصلاته

ما أم بابك من هدته فلاته لعلاك حتى زحزحت علاته

فأتيح حسن الختم دون تردد

ص: 53

ثم ودعته صلى الله عليه وسلم والقلب من فراقه صقيم، ووقعت من البعد عن تلك المعاهد في المقعد المقيم، وأنا أرجو أن يكون شكل منطقي غير عقيم، وأن أحشر في زمرة من سلك الصراط المستقيم:

يا شفيع العصاة أنت رجائي كيف يخشى الرجاء عندك خيبه

وإذا كنت حاضراً بفؤادي غيبة الجسم عنك ليست بغيبه

ليس بالعيش في البلاد انتفاع أطيب العيش ما يكون بطيبه

[زيارة بيت المقدس]

ثم عدت إلى مصر، وقد زال عني ببركته صلى الله عليه وسلم الإصر، وذلك في محرم سنة 1029، ثم قصدت زيارة بيت المقدس في شهرة ربيع من هذا العام، وقد شملتني بفضل الله جوائز الإنعام، وتذكرت عند مشاهدة تلك المسالك الصعبة، قول حافظ ابن حجر العسقلاني - رحمه الله تعالى - وهو مما زادني في هذه الزيارة رغبة:

إلى البيت المقدس جئت أرجو جنان الخلد نزلاً من كريم

قطعنا في مسافته عقاباً وما بعد العقاب سوى النعيم

فلما دخلت المسجد الأقصى، وأبصرت بدائعه التي لا تستقصي، بهرني جماله الذي تجلى الله به عليه، وسألت عن محل المعراج الشريف فأرشدت إليه وشاهدت محلاً أم فيه صلى الله عليه وسلم الرسل الكرام الهداة، وكان حقي أن أنشد هنالك ما قاله بعض الموقفين وهو مما ينبغي أن تزمزم به الحداة:

ص: 54

إن كنت تسأل أين قد ر محمدٍ بين الأنام

فاصخ إلى آياته تظفر بريك في الأوام

أكرم بعبد سلمت تقديمه الرسل الكرام

في حضرة للقدس وا فاها بعز واحترام

صفوا وصلوا خلفه إن الجماعة بالإمام

للشهب نور بين والفضل للقمر التمام

سلك النبوة باهر وبأحمد ختم النظام

هذا الكتاب دلالة تبقى إلى يوم القيام

شهدت له من بعد عج؟ زٍ ألسن اللد الخصام

خير الورى وأجل آيات له خير الكلام

فعليه من رب الورى أزكى صلاةٍ مع سلام

وربما يقول من يقف على سرد هذه الأمداح النبوية: إلى متى وهذا الميدان تكل فيه فرسان البديهية والروية؟ فأنشده في الجواب، قول بعض من أم نهج الصواب:

لأديمن مديح المصطفى فعل من في الله قوى طمعه

فعسى أنعم في الدنيا به وعسى يحشرني الله معه

وإذا كان القريض في بعض الأحيان كذباً صراحاً، والموفق من تركه والحالة هذه رغبة عنه وله اطراحا، فخير ما كان حقاً وهو مدح الله ورسوله، وبذلك يحصل للعبد منتهى سوله:

ليس كل القريض يقبله السم؟ ع وتصغي لذكره الأفهام

إن بعضاً من القريض هراء ليس شيئاً، وبعضه أحكام

ص: 55

وأجل الكلام ما كان في مد ح شفيع الورى عليه السلام

طيب العرف دائم الذكر لا تأ تي الليالي عليه والأيام

مثل زهرٍ قد شق عنه كمام أو كمسك قد فض عنه ختام

ليس تحصى صفات أحمد بالعد كما لم تحط بها الأوهام

ولو أن البحار حبر وما في ال؟ أرض من كل نابت أقلام

فطويل المديح فيه قصير وحسام ماضٍ لديه كهام

ولسان البليغ للعي ينمي وكذا صيب الفصيح جهام

كيف يحصى مديح مولى عليه ال؟ له أثنى وذكره مستدام

وله المعجزات والآي تبدو لا يغطي وجوههن لثام

فمن المعجزات أن سار ليلاً وجميع الأنام فيه نيام

راكباً للبراق حتى أتى القد س وفيه رسل الإله الكرام

فاستووا خلفه صفوفاً وقالوا صل يا أحمد فأنت الإمام

فعليه من ربه صلوات زاكيات مع صحبه وسلام

[عود إلى مصر ثم إلى القدس]

ثم رجعت إلى القاهرة، وكررت منها الذهاب إلى البقاع الطاهرة، فدخلت لهذا التاريخ الذي هو عام تسعة وثلاثين وألف مكة خمس مرات، وحصلت لي بالمجاورة فيها المسرات، وأمليت فيها على قصد التبرك دروساً عديدة، والله يجعل أيام العمر بالعود إليها مديدة، ووفدت على طيبة المعظمة ميمماً مناهجها السديدة، سبع مرار، وأطفأت بالعود إليها ما بالأكباد الحرار، واستضأت

ص: 56

بتلك الأنوار، وألفت بحضرته صلى الله عليه وسلم بعض ما من الله به علي في ذلك الجوار، وأمليت الحديث النبوي بمرأى منه عليه الصلاة والسلام ومسمع، ونلت بذلك وغيره - ولله المنة - ما لك يكن لي فيه مطمح ولا مطمع، ثم أبت إلى مصر مفوضاً لله جميع الأمور، ملازماً خدمة العلم الشريف بالأزهر المعمور، وكان عودي من الحجة الخامسة بصفر سنة سبع وثلاثين وألف للهجرة، فتحركت همتي أوائل رجب هذه السنة للعود للبيت المقدس، وتجديد العهد بالمحل الذي هو على التقوى مؤسس، فوصلت أواسط رجب، وأقمت فيه نحو خمسة وعشرين يوماً بدا لي فيها بفضل الله وجه الرشد وما احتجب، وألقيت عدة دروس بالأقصى والصخرة المنيفة، وزرت مقام الخليل ومن معه من الأنبياء ذوي المقامات الشريفة، وكنت حقيقاً بأن أنشد قول ابن مطروح، في ذلك المقام الذي فضله معروف وأمره مشروح:

خليل الله قد جئنا نرجو شفاعتك التي ليست ترد

أنلنا دعوةً واشفع تشفع إلى من لا يخيب لديه قصد

وقل يا رب أضياف ووفد لهم بمحمد صلة وعهد

أتوا يستغفرونك من ذنوب عظام لا تعد ولا تحد

إذا وزنت بيذبل أو شمامٍ رجحن ودونها رضوى واحد

ولكن لا يضيق العفو عنهم وكيف يضيق وهو لهم معد

وقد سألوا رضاك على لساني إلهي ما أجيب وما أرد

فيا مولاهم عطفاً عليهم فهم جمع أتوك وأنت فرد

ص: 57

[الرحلة إلى دمشق]

ثم استوعبت أكثر تلك المزارات المباركة كمزار موسى الكليم، على نبينا وعليهم وعلى سائر المرسلين والأنبياء أفضل الصلاة والتسليم، ثم حدث لي منتصف شعبان، عزم على الرحلة إلى المدينة التي ظهر وبان، دمشق الشام، ذات الحسن والبهاء والحياء والاحتشام، والأدواح المتنوعة، والأرواح المتضوعة، حيث المشاهد المكرمة، والمعاهد المحترمة، والغوطة الغناء والحديقة، والمكارم التي يباري فيها المرء شانئه وصديقه، والأظلال الوريفة والأفنان الوريقة، والزهر الذي تخاله مبسماً والندى ريقه، والقضبان الملد، التي تشوق رائيها لجنة الخلد:

بحيث الروض وضاح الثنايا أنيق الحسن مصقول الأديم

وهي المدينة المستولية على الطباع، المعمورة البقاع، بالفضل والرباع:

تزيد على مر الزمان طلاوة دمشق التي راقت بحلو المشارب

لها في أقاليم البلاد مشارق منزهة أقمارها عن مغارب

ودخلتها أواخر شعبان المذكور، وحمدت الرحلة إليها وجعلها الله من السعي المشكور:

وجدت بها ما يملأ العين قرة ويسلي عن الأوطان كل غريب

وشاهدت بعض مغانيها الحسنة، ومبانيها المستحسنة:

نزلنا بها ننوي المقام ثلاثة فطابت لنا حتى أقمنا بها شهرا

ورأينا من محاسنها ما لا يستوفيه من تأنق في الخطاب، وأطال في الوصف

ص: 58

وأطاب، وإن ملأ من البلاغة الوطاب، كما قلت:

محاسن الشام أجلى من أن تسام بحد

لولا حمى الشرع قلنا ولم نقف عند حد:

كأنها معجزات مقرونة بالتحدي

فالجامع الجامع للبدائع يبهر الفكر، والغوطة المنوطة بالحسن تسحر الألباب لا سيما إذا حياها النسيم وابتكر:

أحب الحمى من أجل من سكن الحمى حديث حديث في الهوى وقديم

فلله مرآها الجميل الجليل، وبيوتها التي لم تخرج عن عروض الخليل، ومخبرها الذي هو على فضلها وفضل أهلها أدل دليل، ومنظرها الذي ينقلب البصر عن بهجته وهو كليل:

والروض قد راق العيون بحلة قد حاكها بسحابه آذار

وعلى غصون الدوح خضر غلائل والزهر في أكمامه أزرار

فكم لها من حسن ظاهر وكامن، كما قلت موطئاً للبيت الثامن:

أما دمشق فخضرة لعبت بألباب الخلائق

هي بهجة الدنيا التي منها بديع الحسن فائق

لله منها الصالح؟ ي؟ ة فاخرت بذوي الحقائق

والغوطة الغناء حي؟ ؟ ت بالورود وبالشقائق

والنهر صاف والنسي؟ م اللدائن للأشواق سائق

ص: 59

والطير بالعيدان أب؟ دت في الغنا أحلى الطرائق

ولآلئ الأزهار حل؟ ت جيد غصن فهو رائق

ومراود الأمطار قد كحلت بها حدق الحدائق

لا زال مغناها مصو نا آمنا كل البوائق

وكما قلت مرتجلا أيضا مضمنا الرابع والخامس:

دمشق راقت رواءً وبهجةً وغضاره

فيها نسيم عليل صح فوافقت بشاره

وغوطة كعروسٍ تزهى بأعجب شاره

يا حسنها من رياضٍ مثل النضار نضاره

كالزهر زهراً وعنها عرف العبير عباره

والجامع الفرد منها أعلى الإله مناره

وحاصل القول فيها لمن أراد اختصاره

تذكيرها من رآها عدناً وحسبي إشاره

دامت تفوق سواها إنالةً وإناره

وكما ارتجلت فيها أيضاً:

قال لي ما تقول في الشام حبر كلما لاح بارق الحسن شامه

قلت ماذا أقول في وصف قطرٍ هو في وجنة المحاسن شامه

وقلت أيضاً:

قال لي صف دمشق مولىً رئيس جمل الله خلقه واحتشامه

قلت كل اللسان في وصف قطرٍ هو في وجنة البسيطة شامه

ص: 60

وقلت أيضاً؟:

وإذا وصفت محاسن الدنيا فلا تبدأ بغير دمشق فيها أولا

بلد إذا أرسلت طرفك نحوه لم تلق إلا جنةً أو جدولا

ذا وصف بعض صفاته وهي التي تعيي البليغ وإن جاد وطولا

والغاية في هذا الباب، من الوصف لبعض محاسنها الفاتنة الألباب، قول أبي الوحش سبع بن خلف الأسدي يصف أرضها المشرقة، ورياضها المورقة، ونسيمها العليل، وزهرها الندي البليل:

سقى دمشق الشام غيث ممرع من مستهل ديمةً دفاقها

مدينة ليس يضاهي حسنها في سائر الدنيا ولا آفاقها

تود زوراء العراق أنها تعزى إليها لا إلى عراقها

فأرضها مثل السماء بهجةً وزهرها كالزهر في إشراقها

نسيم ريا روضها متى سرى فك أخا الهموم من وثاقها

قد ربع الربيع في ربوعها وسيقت الدنيا إلى أسواقها

لا تسأم العيون والأنوف من رؤيتها يوماً ولا انتشاقها

ص: 61

وقول شمس الدين الأسدي الطيبي:

إذا ذكرت بقاع الأرض يوماً فقل سقياً لجلق ثم رعيا

وقل في وصفها لا في سواها: بها ما شئت من دين ودنيا

وكأن لسان الدين ذا الوزارتين بن الخطيب، عناها بقوله المصيب:

بلد تحف به الرياض كأنه وجه جميل والرياض عذاره

وكأنما واديه معصم غادةٍ ومن الجسور المحكمات سواره

وكنت قبل رحلتي إليها، والوفادة عليها، كثيراً ما أسمع عن أهلها زاد الله في ارتقائهم، ما يشوقني إلى رؤيتها ولقائهم، وينشقني على البعد أريج الأدب الفائق من تلقائهم، حتى لقيت بمكة المعظمة، أوحد كبرائها الذين فرائدهم بلبة الدهر منظمة؛ عين الأعيان، وصدر أرباب التفسير بها والبيان؛ صاحب القلم الذي طبق الكلى والمفاصل، والفتاوي التي حكمها بين الحق والباطل فاصل، والتآليف التي وصفها بالإجادة من باب تحصيل الحاصل؛ وارث العلم عن غير كلالة؛ ذو الحسب المشرق بدره في سماء الجلالة؛ صاحب المعارف التي زانت خلاله، وساحب أذيال العوارف التي أبانت على فضله دلالة، مفتي السلطان في تلكم الأوطان، على مذهب الإمام النعمان، مولانا الشيخ عبد الرحمن ابن شيخ افسلام عماد الدين، لا زال سالكاً سبيل المهتدين؛ فكان جمل الله عصراً وأواناً، لقضية هذا القياس عنواناً، فلما حللت بدارهم، ورايت ما أذهلني من سبقهم للفضل وبدارهم، صدق الخبر الخبر، وتمثلت

ص: 62

فيهم بقول بعض من غبر:

ألمت بنا أوصافهم فامتلا الفضا عبيراً وأضحى نوره متألقا

وقد كان هذا من سماع حديثهم بلاغاً فصح النقل إذ حصل اللقا

وقابلوني اسماهم الله بالاحتفال والاحتفاء، وعرفني بديع برهم فن الاكتفاء:

غمرتني المكارم الغر منهم وتوالت على منها فنون

شرط إحسانهم تحقق عندي ليت شعري الجزاء كيف يكون

وقابلوني بالقبول مغضين عن جهلي:

وما زال بي إحسانهم وجميلهم وبرهم حتى حسبتهم أهلي

بل الأولى أن أتمثل فيهم بما هو أبلغ من هذا المقول في آل المهلب، وهو قول بعض من نزل بقومٍ برق غير خلب، في زمن به تقلب:

ولما نزلنا في ظلال بيوتهم أمنا ونلنا الخصب في زمن محل

ولو لم يزد إحسانهم وجميلهم على البر من أهلي حسبتهم أهلي

لا سيما المولى الذي أمدحه تحلي أجياد الطروس العاطلة، وسماحه يخجل أنواء الغيوث الهاطلة، صدر الأكابر الأعاظم، الحائز قصب السبق في ميدان الإجادة بشهادة كل ناثر وناظم، الصديق الذي بوده أغتبط

ص: 63

والصدوق الذي بأسباب عهده أرتبط، الأوحد الذي ضربت البراعة رواقها بنادية، والماجد الذي لم يزل بديع البلاغة من كثبٍ يناديه، السري الحائز من الخلال ما أبان تفضيله، اللوذعي الذي لم تزل أوصافه تحكم له بالسؤدد وتقتضي له، والحق أبلج لا يحتاج إلى زيادة براهين، الأجل المولى أحمد أفندي بن شاهين، لا زالت العزة مقيمة بواديه، ولا برحت حضرته جامعةً لبواطن الفخر وبواديه، والسعد يراوح مقامه ويغاديه، والمجد يترنم بذكره حاديه، فكم له أسماه الله ولغيره من أعيان دمشق لدي من أياد، يعجز عن الإبانة عنها لو أراد وصفها قس إياد، ولو تعرضت لأسمائهم وحلاهم، أدام الله تعالى سعودهم وعلاهم، لضاق عن ذلك هذا النطاق، وكان من شبه التكليف بما لا يطاق، فليت شعري بأي اسلوب، أؤدي بعض حقهم المطلوب؟ أن بأي لسان، أثني على مزاياهم الحسان؟ وما عسى أن أقول في قوم نسقوا الفضائل ولاء، وتعاطوا أكواب المحامد ولاء؟ وسحبوا من المجد مطارف وملاء، وحازوا المكارم، وبذوا الموادد والمصارم، سؤدداً وعلاء:

فما رياض زهر الربيع إذا بدت في وشيها البديع

ضاحكة عن شنب الأقاح عند سفور طلعة الصباح

غنى بها مطوق الحمام وصافحتها راحة الغمام

وباكرتها نسمة من الصبا فاصبحت كأنها عهد الصبا

نضارة ورونقاً وبهجه تفدى بكل ناظرٍ ومهجه

ص: 64

أطيب من ثناها عبيرا بين الورى، واسأل به خبيرا

دامت معاليهم على طول الزمن يروى حديث الفضل عنها عن حسن

وثابت وقرةٍ وسعد وأسعفوا بنيل كل وعد

فهم الذين نوهوا بقدري الخامل، وظنوا مع نقصي أن بحر معرفتي وافر كامل، حسبما اقتضاه طبعهم العالي:

فلو شريت بعمري ساعةً ذهبت عن عيشتي معهم ما كان بالغالي

فمتعين حقهم لا يترك، وحبهم لا يخالط بغيره ولا يشرك، وإن أط

لت الوصف فالغاية في ذلك لا تدرك:

يزداد في مسمعي ترداد ذكرهم طيباً ويحسن في عيني مكرره

وإذا كان المديح الصادق لا يزيدهم رفعة قدر، فهم كما قال الأعرابي الذي ضلت ناقته في مدح البدر، والبليغ وذو الحصر في ذلك سيان، والحق أبلج، والباطل لجلج، وليس الخبر كالعيان:

هب الروض لا يثني على الغيث نشره أتحسبه تخفى مآثره الحسنى

وقد تذكرت بلادي النائبه، بذلك المرأى الشامي الذي يبهر رائيه، فما شئت من أنهار ذات انسجام، أترع بها من جريال الأنس جام، وأزهار متوجة للأدواح، مروحة للنفوس بعاطر الأرواح، وحدائق تعشي أنوارها الأحداق، وعيانها للخبر عنها مصداق وأي مصداق:

ص: 65

فهي التي ضحك البهار صباحها وبكت عشيتها عيون النرجس

واخضر جانب نهرها فكأنه سيف يسل وغمده من سندس

وجنان، أفنانها في الحسن ذوات افتنان:

صافحتها الرياح فاعتنق السر وومالت طواله للقصار

لائذ بعضه ببعضٍ كقومٍ في عتاب مكررٍ واعتذر

وبطاح راق سناها، وكمل حسنها وتناهى، كما قلت مضمناً في ذلك المنحنى، لقول بعض من نال في البلاغة مناً ومنحا:

دمشق لا يقاس بها سواها ويمتنع القياس مع النصوص

حلاها راقت الأبصار حسناً على حكم العموم أو الخصوص

بساط زمردٍ نثرت عليه من الياقوت ألوان الفصوص

ولله در القائل، في وصف تلك الفضائل:

إن تكن جنة الخلود بأرض فدمشق، ولا يكون سواها

أو تكن في السماء فهي عليها قد أمدت هواءها وهواها

بلد طيب ورب غفور فاغتنمها عشيةً أو ضحاها

وعند رؤيتي لتلك الأقطار، الجليلة الأوصاف العظيمة الأخطار، فتاءلت بالعود إلى أوطان لي بها أوطار، إذ التشابه بينهما قريب في الأنهار والأزهار، ذات العرف المعطار، وزادت هذه بالتقديس الذي همعت عليها منه الأمطار، وتمثلت بقول الأصفهاني، وإن غيرت يسيراً منه لما أسفرت وجوه التهاني:

ص: 66

لما وردت الصالحي؟ ة حيث مجتمع الرفاق

وشممت من أرض الشآ م نسيم أنفاس العراق

أيقنت لي ولمن أح؟ ب بجمع شمل واتفاقِ

وضحكت من فرح اللقاء كما بكيت من الفراقِ

لم يبق لي إلا تج؟ شم أزمن السفر البواقي

حتى يطول حديثنا بصفات ما كنا نلاقي

وكنت قبل حلولي بالبقاع الشامية مولعاً بالوطن لا سواء، فصار القلب بعد ذلك مقسماً بهواه:

ولي بالحمى أهل وبالشعب جيرة وفي حاجر خل وفي المنحنى صحب

تقسم ذا القلب المتيم بينهم سألتكم بالله هل ينقسم القلب

فيا لك من صب مراع للذمام، منقاد لشوقه بزمام، يخيل له أنه سمع صوت قيان، بقول الأول:

إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً وبالشام أخرى كيف يلتقيان

وفردٍ تعددت جموعه، ووشت، بما أكنت ضلوعه، دموعه، فأنشد وقد تحير، ما بدل فيه من عظم ما به وغير:

كتمت شأن الهوى يوم النوى فوشى بسره من جفوني أي نمامِ

كانت ليالي بيضاً في دنوهم فلا تسل بعدهم عن حال أيامي

ضنيت وجداً بهم والناس تحسب بي سقماً فأبهم حالي عند لوامي

وليس أصل ضني جسمي النحيل سوى فرط اشتياقي لأهل الغرب والشام

ص: 67

وحصل التحير، حيث لم يمكن الجمع ولا الخلو عند التخير، كما قال ابن دقيق العيد، في مثل هذا الغرض البعيد:

إذا كنت في نجد وطيب نعيمه تذكرت أهلي باللوى فمحمرِ

وإن كنت فيهم زدت شوقاً ولوعةً إلى ساكني نجدٍ وعيل تصبري

فقد طال ما بين الفريقين موقفي فمن لي بنجد بين أهلي ومعشري

وبالجملة فالاعتراف بالحق فريضة، ومحاسن الشام وأهله طويلة عريضة، ورياضه بالمفاخر والكمالات أريضة، وهو مقر الأولياء والأنبياء، ولا يجهل فضله إلا الأغمار الأغبياء، الذين قلوبهم مريضة:

أني يرى الشمس خفاش يلاحظها والشمس تبهر أبصار الخفافيشِ

ولله در من قال في مثل هذا من الأرضياء:

وهبني قلت إن الصبح ليل أيعمى العالمون عن الضياء

وقال آخر فيمن عن الحق ينفر:

إذا لم يكن للمرء عين بصيرة فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر

وحسب الفاضل اللبيب، أن يروي قول البدر بن حبيب:

ص: 68

عرج إذا مشت برق الشآم وحي أهل الحي واقر السلام

وانزل بإقليم جزيل الحيا بارك فيه الله رب الأنام

العز والنصر لديه، وما لعروة الإسلام عنه انفصام

من أولياء الله كم قد حوى ركناً بمرآه بطيب المقام

وهو مقر الأنبياء الألى والأصفياء الأتقياء الكرام

كم من شهيد في حماه وكم من عالم فردٍ وكم من إمام

ولذلك اعتنت الجهابذة بتخليد أخباره في الدواوين، وابتنت الأساتذة بيوت افتخاره المنيفة الأواوين، وتناقلت أنباءه البديعة ألسن الراوين، وهامت بأماكنه المريعة هداة الشريعة فضلاً عن الشعراء الغاوين، ومع ذلك فهم في التعبير عن عجائبه غير متساوين، أولا يرى أنهم يأتون من مقولهم، على قدر رأيهم وعقولهم، ولم يبلغ جمع منهم ما كانوا له ناوين:

على قدرك الصهباء توليك نشوةً بها سيء أعداء وسر صحاب

ولو أنها تعطيك منها بقدرها لضاقت بك الأكوان وهي رحاب

[ابن شاهين يقترح على المؤلف تأليف كتاب عن لسان الدين]

وكنا في خلال الإقامة بدمشق المحوطة، وأثناء التأمل في محاسن الجامع والمنازل والقصور، كثيراً ما ننظم في سلك المذاكرة درر الأخبار الملقوطة، ونفيأ من ظلال التبيان مع أولئك الأعيان في مجالس مغبوطة، نتجاذب فيها أهداب الآداب، ونشرب من سلسال الاسترسال ونتهادى لباب الألباب، ونمد بساط الانبساط ونسدل أطناب الإطناب، ونقضي أوطار الأقطار، ونستدعي أعلام الأعلام، فينجر بنا الكلام والحديث شجون، وبالتفنن يبلغ المستفيدون ما يرجون، إلى ذكر البلاد الأندلسية، ووصف

ص: 69

رياضها السندسية، التي هي بالحسن منوطة، وقضاياها الموجهة التي لا يستوفيها المنطق مع أنتها ضرورية وممكنة ومشروطة، والفطر السليمة، والأفهام المستقيمة، بتسليم براهينها قاضية لا سيما إن كانت بالإنصاف مربوطة، فصرت أورد من بدائع بلغائها ما يجري على لساني، من الفيض الرحماني، وأسرد من كلام وزيرها لسان الدين بن الخطيب السلماني، صب الله عليه شآبيب رحماه وبلغه من رضوانه الأماني، ما تثيره المناسبة وتقتضيه، وتميل إليه الطباع السليمة وترتضيه، من النظم الجزل، في الجد والهزل، والإنشاء، الذي يدهش به ذاكرة الألباب إن شاء، وتصرفه في فنون البلاغة حالي الولاية والعزل، إذ هو - أعني لسان الدين - فارس النظم والنثر في ذلك العصر، والمنفرد بالسبق في تلك الميادين بأداة الحصر، وكيف لا ونظمه لم تستول على مثله أيدي الهصر، ونثره تزري صورته بالخريدة ودمية القصر.

فلما تكرر ذلك غيره مرة على أسماعهم، لهجوا به دون غيره حتى صار كأنه كلمة إجماعهم، وعلق بقلوبهم، وأضحى منتهى مطلوبهم، ومية آمالهم وأطماعهم، وصاروا يقطفون بيد الرغبة فنونه، ويعترفون ببراعته ويستحسنونه، ويستنشقون من أزهاره كل ذاك، فطلب مني المولى أحمد الشاهيني إذ ذاك، وهو الماجد المذكور، ذو السعي المشكور، أن أتصدى للتعريف بلسان الدين في مصنف يعرب عن بعض أحواله وأنبائه، وبدائعه وصنائعه ووقائعه مع ملوك عصره وعلمائه وأدبائه، ومفاخره التي قلد بها جيد الزمان ولبته، ومآثره التي ارج بها مسرى الشمال وهبته، وبعض ما له من النثار والنظام، والمؤلفات الكبار العظام، الرائقة للأبصار، الفائقة على كلام كثير من أهل الأمصار، السائرة مسير القمر والشمس، المعقودة

ص: 70

عليها الخناصر بل الخمس، كيما يكون ذلك لهذه الأغراض مشيعاً ويخلع على مطالعه بهذه البلاد المشرقية من أغراضه البديعة ومنازعه وشيعا.

[اعتذار المؤلف عن تلبيته للمطلب]

فأجبته أسمى الله قدره الكبير، وأدام عرف فضائله المزري بالعنبر والعبير، بأن هذا الغرض غير سهل، ولست علم الله له بأهل، من جهات عديدة، أولها قصوري عن تحمل تلك الأعباء الشديدة، إذ لا يوفي بهذا الغرض إلا الماهر بطرق المعارف السديدة، وثانها عدم تيسر الكتب المستعان بها على هذا المرام لأني خلفتها بالمغرب، وأكثرها في المشرق كعنقاء مغرب، وثالثها شغل الخاطر باشجان الغربة، الجالبة للفكر غالب الكربة، وتقسم البال، بين شغل عائق وبلبال، وأني يطيق، سلوك هذا المضيق، من اكتحلت جفونه بالسهاد، ونبت جنوبه عن المهاد، وسدد نحوه الأسف سهمه، وشغل باله ووهمه، وبث في قلبه تبريحاً، وعناء لم يجد منه إلا أن يلطف الله تسريحاً، فما شام بارقة أمل إلا في النادر، ولا ورود منهل صفاء إلا وكدره مكر غادر، وقد كثر الجفاء، وبرح بلا شك الخفاء، واستوخمت الموارد والمصادر، والقلب مكلوم، واللب غير ملوم، إذا كان على تلفيق ما يليق غير قادر، ولا مؤنس إلا شاكي دهر بلسان صريح، أو باكي قاصمة ظهرٍ بجفنٍ قريح، أو مناضل في معترك العجز طريح، أو فاضل دفن من الخمول في ضريح، إذ رمته سهام الأوهام الصوائب، وعضت منه إبهام

ص: 71

الإبهام بنابها النوى والنوائب، فقلوبه من تقلبات أحواله ذوائب، وكم شابت من أمثاله بصروف الدهر وأهواله ذوائب:

على أنها الأيام قد صرن كلها عجائب حتى ليس فيها عجائب

وأدمع أحجارها، تسلط فجارها، فكم من عدو منهم في ثياب صديق، وحسود لنظره إلى نعم الله على عباده تحديق، لا تخدعه المداراة، ولا تردعه المماراة، يتتبع العثرات، ويقنع بألم البثرات، ويتبسم، وقلبه من الغل يتقسم، ويتودد، ومكايده تتجدد فتتعدد:

لا ترم من مماذق الود خيراً فبعيد من السراب الشراب

رونق كالحباب يعلو على الماء ولكن تحت الحباب الحباب

عظمت في النفاق ألسنة القو م وفي الألسن العذاب العذاب

والصديق الصدوق في هذا الزمن قليل، وقد ألف بعض العلماء " شفاء الغليل، في ذم الصاحب والخليل ". وهو غير محمول على الإطلاق، وإن قال به بعض من رهنه من أبناء عصره ذو إغلاق:

أبناء دهرك فالقهم مثل العدا بسلاحكا

لا تغرر بتبسمٍ فالسيف يقتل ضاحكا

وداء الحسد أعيا الأول والآخر، وقد عظم الأمر في هذا الأوان وكثر المزري والساخر، مع أن أسواق الدفاتر كاسدة، وأمزجة المحابر فاسدة:

ص: 72

والدهر دهر الجاهل؟ ن وأمر أهل العلم فاتر

لا سوق أكسد فيه من سوق المحابر والدفاتر

فالمنسوب للعلم في هذا الزمن زمن، وهو بأن ينشد قول الأول قمن:

لأي وميض بارقةٍ أشيم ومرعى الفضل عندهم هشيم

وليت شعري علام يحسد من أبدل الاغتراب شارته، وأضعف الاضطراب إشارته، وأهل بالدموع أنواءه، وقلل أضواءه، وقلل أضواءه، وكثر علله وادواءه، وغير عند التأمل رواءه، وثنى عن المأمول عنانه، وأرهف بالخمول سنانه، حتى قدح سنانه، حتى قدح الذكر حنانه، وملأ الفكر جأشه وجنانه، فهو في ميدان النزوح مستبق، ومن راحة التعب مصطبح ومغتبق:

له أنه المشتاق في كل ساعةٍ تمر وما للثاكلات من الحزن

ومن مرسلات الدمع واقعة الأسى ومن عاديات البين قارعة السن

تثير الذكرى منه كوامن الشجون، وتدير عليه جام الهيام ولو كان بين الصفا والحجون:

وتحت ضلوع المستهام كآبه يخاف على الأحشاء منها التفطرا

ولو أن أحشاء تبوح بما حوت لتمتئن الأرض كتباً وأسطرا

وشتان ما بين الاقتراب والاغتراب، والسكون في الركون والنبو عنها والاضطراب، فذاك تسهل غالباً فيه الأغراض والمآرب، وهذا تتعفر فيه المقاصد وتتكدر المشارب:

ص: 73

وما أنا عن تحصيل دنيا بعاجز ولكن أرى تحصيلها بالدنية

وإن طاوعتني رقة الحال مرة أبت فعلها أخلاق نفس أبية

وكما قلت، عندما صرت إلى الاغتراب وألت:

تركت رسوم عزي في بلادي وصرت بمصر منسبي الرسوم

ورضت النفس بالتجريد زهداً وقلت لها عن العلياء صومي

مخافة أن أرى بالحرص ممن يكون زمانه أحد الخصوم

وكما قال بعض الأكابر، من أهل الزمان الغابر:

لا عار إن عطلت يداي من الغنى كم سابق في الخيل غير محجل

صان اللثيم، وصنت وجههي، ماله دوني، فلم يبذل ولم أتبذل

أبكي لهم ضافني متأوباً إن الدموع قرى الهموم النزل

لا تنكرو شيباً ألم بمفرقي عجلاً كأن سناه سلة منصل

فلقد دفعت إلى الهموم تنوبني منها ثلاث شدائد جمعن لي

أسف على ماضي الزمان، وحيرة في الحال منه، ووحشة المستقبل

ما إن وصلت إلى زمان آخر إلا بكيت على الزمان الأول

لله عهد بالحمى لم أنسه أيام أعصي في الصبابة عذلي

ويرحم الله ابن الإسكندري، إذ قال في معنى التمني المصدري:

ص: 74

لعل زماني بالعذيب يعود فيقرب قرب أو يصد صدود

وأبصر كثباناً وهز روادفٍ عليهن أغصان وهن قدود

وأقطف ورد الخد وهو مضرج وأجنى أقاح الثغر وهو برود

وأدني ذراعي للعناق ذريعة فتنهى عن الإفراط فيه نهود

ويسري إلي البدر وهو ممنع ويغدو إلي الظبي وهو شرود

ونكرع في شكوى الفراق كأننا فوارط هيم راقهن ورود

واكبر مقدار الهوى عن كبيرةٍ وأحمي عفاني دونه وأذود

وفرق ما بين الجوهر والعرض، والصحة البينة والمرض، والدرر والحصى، والحسام والعصا. والرجوع إلى التفويض للأقدار، في أمور هذه الدار، الكثيرة الأكدار، هو المطلوب، والمرجو من الله سبحانه جبر القلوب:

يا رب نفس همومي واكشف كروبي جميعا

فقد رجوت كريماً وقد جعوت سميعا

[إصرار ابن شاهين على رأيه]

ولم يجعل لي المذكور - حفظه الله - فسحة ولا مندوحة، بعد هذه الأعذار المحمودة في الصدق الممدوحة، ولسان حالي وقالي، يثبتان عجزي عن أداء هذا الحق بشهادة من هو واد وقالي، إذ من كان بصفة، غير متمكنة مما تكون به متصفة، واتسم بنعوت مختلفة، وارتسم في غير ذوي الأحوال المؤتلفة، كيف يحير في التصنيف جواباً، أو يتنحى من التأليف صواباً؟ ومن جفنه هام هامل، وقصوره عام شامل، كيف يقبض بالأنامل، على ماء البحر الوافر الكامل؟ ومن لبس من العي ملاه، لا يعبر عمن طبق مفاصل

ص: 75

الكلام وكلاه، وقصرت ألسن البلغاء عن علاه، وزانت صدور الدواوين حلاه، وجمع خلالاً حسناً، وكان للدين لساناً، وزاحمت مفاخره بالمناكب الكواكب، وازدانت بمرآه النوادي والمواكب، ونفحات الأزهار من آدابه، ونسمات الأسحار عطر أذياله وأهدابه، والسحر من كتابته، والسحر من كنايته، وروح النسيم من تعريضه، والنثرة من نثره، والشعري من شعره وقريضه، وحلل المجد لباسه، وأنواره العلم اقتباسه:

له ذهن يغوص ببحر علم فيأتي منه بالدرر النظيم

معانيه الرياض، لأجل هذا سرت ألفاظه مثل النسيم

ومباهيه النجوم، ومضاهيه الغيث السجوم، إلى آباء يحسدهم البدر والشمس، وإباء لو كان للمشرفي لما تحيفه لمس، وشرف لا مدعي ولا منتحل، وهمة لو نالها البدر لا ستخذى له زحل، وبراعة أرهفت سنان قلمه، ويراعه سارت أمراؤها تحت علمه، فكم فتح بفكره أقفالها، ووسم بذهنه الثاقب أغفالها، وسبك معانيها في قالب قلبه إبريزاً، ورقم بيان لسانه برود إحسانه بلفظه البديع تطريزاً، فرفع في ميدان الإجادة لواؤه، وأتيح من أنهار البراعة العذبة إرواؤه، ونال سبقاً وتبريزاً:

وما زمن الشباب وأنت تجري مع الأحباب في لهو وطيب

ووصل من حبيب بعد هجرٍ بأحلى من كلام ابن الخطيب

فقصائده أرخصت جواهر البحور، المنظومة قلائد للبات والنحور، من حسان العقائل الحور:

ص: 76

معان وألفاظ تنظم منهما عقود لآل في نحور الشمائل

وزهر كلامٍ كالحدائق نسجه غنينا به عن حسن زهر الخمائل

وكلماته غدت للإبداع إقليداً، وجمعت طريفاً من البلاغة وتليداً:

كسون عبيداً ثياب العبيد وأضحى لبيد لديها بليداً

ومقطعاته ألذ في الأسماع، من مطرب السماع، وأبهى في الأحداق والنواظر، من الحدائق ذوات الأغصان الملد النواضر، يعترف بفضلها من انتحل الإنصاف ديناً، وانتحل الأوصاف فاختار العدل منها خديناً:

رقيقات المقاطع محكمات لو آن الشعر يلبس لارتدينا

ورسائله كنقط العروس اللائحة في البياض، أو كوشي الربيع أو قطع الرياض، برزت أغصانها الحالية وتبرجت، وتضوعت أفنانها العالية وتأرجت، وقد ألبسها القطر زهراً، وفجر خلالها نهراً، فأخذت زخرفها وازينت، ولاحت محاسنها غير محتجبة وتبينت، فبهرت من لها قابل، أستغفر الله لا بل:

هي الحديقة إلا أن صيبها صوب النهى وجناها زهرة الكلم

وقوافيه، ريشت بها قوادم الإتقان وخوافيه، نبال مجاريها تستدثر الحصر، وباع مباريها يستشعر القصر:

خطها روضة، وألفاظها الأز هار يضحكن، والمعاني ثمار

تبدي لمبصرها وتري، ما قال أبو عبادة البحتري:

وكلام كأنه الزهر النا ضر في رونق الربيع الجديد

ص: 77

مشرق في جوانب السمع ما يخ؟ لقه عوده على المستعيد

ومعان لو فصلتها القوافي هجنت ما لجرول من نشيد

حزن مستعمل الكلام اختياراً وتجنبن ظلمة التعقيد

بل هي أجل مما وصف عند التحقيق، وإمعان النظر الصحيح والتدقيق:

أين زهر الرياض وهو إذا ما طال عهداً بالغيث عاد هشيمها

من قواف كأنها الأنجم الزه؟ ر سناها زان الظلام البهيما

وناهيك بمن أطلعته العلوم على جلائلها ودقائقها، وارته الفنون ما شاء من يانعات حدائقها، وحيته الحكم الرياضية بأزاهرها وشقائقها، وأرضعته الوزارة من ثديها، وحلت به الإمارة صدر نديها، وجعلته المرجوع إليه في تمييز جيد الأمور ورديها، فغرس في أرض الرياسة من نخل السياسة ووديها، وأعلى علم العدل وأغمد سيف الانتقام، ودفع تنين الفتنة الذي فغر فاه للالتقام، إذ ذاك قريب، في وطن الأندلس الغريب، باختلال الحال، وتوالي الإمحال، والتجري على قتل الملوك، والتحري لقطع الطرق ومنع السلوك، حيث أهواءئ المارقين ذات افتراق، وضلوع الصادقين في قلق واحتراق، وأيدي الإحن باطشة، وسيوف المحن إلى الدماء عاطشة، وعرش الحماية مثلول، وصارم الكفاية مفلول، ونطاق الرعاية محلول، ودم الوقاية مطلول، وجيب النصيحة مملول، والتنور السلطاني بنار اختلاف الكلمة ملتهب، والعدو ينتهز الفرصة ويسلب الأنفس والأموال وينتهب

ص: 78

وليس له في غير قطع شأفه المسلمين ابتغاء، وإن عقد المهادنة في بعض الأحيان فهو يسر حسوا في ارتغاء، وكلاب الباطل في دماء أهل الحق والغة، ولله سبحانهع وتعالى في خلقه إرادة نافذة وحكمة بالغة، فرقع لسان الدين ثوب الأندلس ورفاه، وأرغم رحمه الله الكفر الذي فغر فاه، وشمر عن ساعد اجتهاده، وحض باللسان وباليد على دفاعه وجهاده، حتى لاحت للنصر بوارق، وأمنت بالحزم الطوارئ والطوارق، ثم ضرب الدهر ضربانه، وأحرق الحاصد بنار أحقاده أنظر بان، وأظهر ما في قلبه على لسان الدين وأبان، وتقرب الوشاة، وهم ممن كانوا يخدمه ويغشاه، إلى سلطانه الذي كان عزة أوطانه الذي كان يأمنه ولا يخشاه، حتى فسد عليه ضميره، وتكدر - ومن يسمع يخل - نميره، فأحس بظاهر التغير، وصار في الباطن من أهل التحير، وأجال قداح آرائه، وألتفت إلى جهة العدو من ورائه، ففر مشمراً عن ذيله، في لمة من خيله، إلى أسد العريم، سلطان بن مرين وكان إذ ذاك بتلمسان، وهو من أهل العلم والعدل والإحسان، فاهتز لمقدمه، ولقيه بخاصته وخدمه، وأكرم مثواه، وجعله صاحب نجواه، ثم أدرك السلطان الحمام، وكسف بدره وقت التمام، فرجع لسان الدين إلى فاس، واستنشق بها أطيب الأنفاس، وكثر بعد ذلك الأهوال، وتغيرت بسببه بين رؤساء العدوة والأندلس الأحوال، فما نجى من مكر العدا ولا سلم، وآل أمره من الأختيال وما نفع الاحتيال إلى ما علم، على يد بعض أعداءه، الذين كانوا يتربصون الدوائر لإرداءه، فأصبح كأمس الذاهب، وصارت أمواله وضياعه عرضةً للناهب، وغص بذلك من كان من أودائه، وأخذ الله ثاره، من بعض من حبك عليه المكر وأثاره، وتسبب بهلاكه، حتى انتثر الجواهر أسلاكه، ومات بدائه. فالعيون إلى هذا الوقت على لسان الدين باكية، ونفوس

ص: 79

الأكابر وغيرهم مما فعل به شاكية والألسنة والأقلام بمقاماته بالإسلام حاكية.

فمن كان بهذه السمات وأكثر منها موصوفاً، لا يقدر مثلي على تحبير التعبير عنه ويخشى أن تكون فكرته كخرقاء نقظة قطناً أو صوفاً.

[أعتزام المقري إجابة ابن شاهين إلى مطلبه]

ثم أني لما تكرر علي في هذا الغرض الإلحاح، ولم تقبل أعذاري التي زندها شحاح، عزمت على الإجابة لما للمذكور علي من الحقوق، وكيف أقابل بره حفظه الله بالعقوق، وهو الذي يروي من أحاديث الفضل الحسان والصحاح، فوعدته بالشروع في المطلب عند الوصول إلى القاهرة المعزية، وأزمعت السير عن دمشق المعروفة المزية، وألبسني السفر منها من الخلع زيه، ورحلنا عن تلك الأرجاء المتألفة، والقلوب بها وبمن فيها متعلقة:

حللنا دياراً للغرام سرت بها إلينا صبا نجدٍ بطيب نسيم

وبان ردي الأشجار لما تجاذبت أكف المنى فيها رداء نعيم

فما أنشبتنا العيسش أن قذفت بنا إلى فرقة والعهد غير قديم

فإن نك ودعنا الديار وأهلها فما عهد نجدٍ عندنا بذميم

ص: 80

[وداع الشام]

فخرج معنا - أسماه الله - مع جملة من الأعيان إلى داريا، المضاهية لدارين في رياها وحبذا ريا، فألفيناها:

ريا من الأنداء طي؟ بة لها القدر الجليل

تهدي لنا أرجاؤها أرجاً من الزهر البليل

وبها الغصون تمايلت ميل الخليل على الخليل

ووصلنا عند الظهيرة، وسرحنا العيون في بدائعها الشهيرة:

منزل كالربيع حلت عليه حاليات السحاب عقد النطاق

يمتع العين من طرائق حسنٍ تتجافى بها عن الإطراق

وقلنا بها، لما نزلنا بجنابها:

وبتنا والسرور لنا نديم وماء عيونه الصافي مدام

يسايره النسيم إذا تغنت حمائمه ويسيقه الغمام

فيا لك من ليلة أربت في طيب النفح، على ليلة الشريف الرضي بالسفح:

ونحن في روضة مفوفة قد وشيت بالغمائم الوكف

نغفي على زهرها فيوقظنا وهناً هدير الحمائم الهتف

ص: 81

ودوحها من نداه في وشحٍ ومن لآلي الأزهار في شنف

والغصن من فوقه حمامته كأنها همزة على ألف

وما أقرب قول الوزير ابن عمار، من وصف ذلك المضمار، الجامع للأقمار:

يا ليلة بتنا بها في ظل أكناف النعيم

من فوق أكمام الريا ض وتحت أذيال النسيم

وناهيك بمحل قرب من دمشق الغراء، فخلعت عليه حلل الحبور والسراء، وأمدته بضيائها، وأودعته برق حياها وماء حيائها، فصار ناضر الدوحات، عاطر الغدوات والورحات، مونق الأنفاس والنفحات، مشرق السرة والصفحات، هذا والقلوب من الفراق في فلق، ولسان الحال ينشد:

وبي علاقة وجد ليس يعلمها إلا الذي خلق الإنسان من علق

ويحث على انتهاز فرصة اللقاء إذ هي غنيمة، ويذكر بقول من قال وأكف الدهر موقظة ومنيمة:

تمتع بالرقاد على شمال فسوف يطول نومك باليمين

ومتع من يحبك باجتماع فأنت من الفراق على يقين

ثم حضر بعد تلك الليلة موقف الوداع، والكل ما بين واجم وباك وداع، فتمثلت بقول من قلبه لفراق الأحباب في انصداع:

ودعتهم ودموعي على الخدود غزار

فاستكثروا دمع عيني لما استقلوا وساروا

ص: 82

وقول آخر:

يا وحشة من جيرة مذ نأوا علو قدري في الهوى انحطا

حكت دموعي البحر من بعدهم لما رأت منزلهم شطا

وحق لي أن أتمثل في ذلك بقول العزيزي:

لا تسلني عما جناه الفراق حملتني يداه ما لا يطاق

أين صبري أم كيف أملك دمعي والمطايا بالظاعنين تساق

قف معي نندب الطلول فهذي سنة قبل سنها العشاق

وأعد لي ذكر الغوير فكم ما ل بعطفي نسيمه الخفاق

في سبيل الغرام ما فعلت بال؟ عاشقين القدود والأحداق

يوم ولت طلائع الصبر منا ثم شنت غاراتها الأشواق

وبقول غيره:

كنا جميعاً والدار تجمعنا مثل حروف الجميع ملتصقه

واليوم صار الوداع يجعلنا مثل حروف الوداع مفترقه

وقول آخر:

حين هم الحبيب بالتوديع عيروني أني سفحت دموعي

لم يذوقوا طعن الفراق ولا ما أحرقت لوعة الأسى من ضلوعي

ص: 83

كيف لا أسفح الدموع على رب؟ ع حوى خير ساكن وجموع

هبك أني كتمت حالي أتخفى زفرات المتيم المصدوع

إنما يعرف الغرام بمن لا ح عليه الغرام بين الربوع

وقول من قال:

أقول له عند توديعه وكل بعبرته مبلس

لئن قعدت عنك أجسادنا لقد سافرت معك الأنفس

وقول الصابي:

ولما حضرت لتوديعه وطرف النوى نحونا أشوس

عكست له بيت شعر مضى يليق به الحال إذ يعكس

لئن سافرت عنك أجسادنا لقد قعدت معك الأنفس

وقول المهذب بن أسعد الموصلي:

دعني وما شاء التفرق والأسى واقصد بلومك من يطيعك أو يعي

لا قلب لي فأعي الملام فإنني أودعته بالأمس عند مودعي

هل يعلم المتحملون لنجعة أن المنازل أخصبت من أدمعي

كم غادروا حرضاً وكم لوداعهم بين الجوانح من غرام مودعِ

والسقم آية ما أجن من الجوى والدمع بينة على ما أدعي

ص: 84

وقول الكمال التنوخي:

كم ليلة قد بتها أرعى السها جزعاً لفرقتهم بمقلة أرمد

قضيتها ما بين نوم نافر وزفير مهجور وقلب مكمد

لم أنس أيام السرور وطيبها بين السدير وبين برقة ثهمد

والروض قد أبدى بدائع نوره من أزرق ومفضض ومورد

والماء يبدو كالصوارم ساريا فيعيده مر الصبا كالمبرد

والطير بين مسجع ومرجع ومغرد ومعدد ومردد

وقول القاضي بهاء الدين السنجاري:

أحبابنا ما لي على بعد المدى جلد ومن بعد النوى يتجلد

لله أوقات الوصال ومنظر نضر وغصن الوصل غض أملد

أني يطيق أخو الهدى كتمانه والخد بالدمع المصون مخدد

ما بعد مفترق الركاب تصبر عمن أحب فهل خليل يسعد؟

يا سعد ساعد بالبكاء أخا هوى يوم الوداع بكى عليه الحسد

وقول ابن الأثير:

لم أنس ليلة ودعوا صباً وساروا بالحمول

والدمع من فرط الأسى يجري فيعثر بالذيول

وقول الأرجاني:

ص: 85

ولما وقفنا للوداع عشيةً وطرفي وقلبي هامع وخفوق

بكيت فأضحكت الوشاة شماته كأني سحاب والوشاة بروق

وقول ابن نباتة السعدي:

ولما وقفنا للوداع عشية ولم يبق إلا شامت وغيور

وقفنا فمن باك يكفكف دمعه وملتزم قلباً يكاد يطير

وقول بعضهم:

لما حدا الحادي بترحالهم هيج اشواقي واشجاني

وراح يثني القلب عن غيرهم فهو لهم حاد ولي ثاني

وقول الصفدي:

لما اعتنقنا لوداع النوى وكدت من حر الجوى أحرق

رأيت قلبي سار قدامهم وأدمعي تجري ولا تلحق

وقوله أيضاً:

تذكرت عيشاً مر حلواً بكم فهل لأيامنا تلك الذواهب واهب؟

وما انصرفت آمال نفسي لغيركم ولا أنا عن هذي الرغائب غائب

سأصبر كرهاً في الهوى غير طائع لعل زماني بالحبايب آيب

ص: 86

وقول ابن نباتة المصري:

في كنف الله وفي حفظه مسراك والعود بعزم صريح

لو جاز أن تسلك أجفاننا كنا فرشنا كل جفن قريح

لكنها بالعبد معتلة وأنت لا تسلك إلا الصحيح

وقول الحافظ أبي الحسن علي بن الفضل:

عجبت لنفسي بعدهم ما بقاؤها ولم أحظ من لقياهم بمرادي

لعمرك ما فارقتهم منذ ودعوا ولكنما فارقت طيب رقادي

وقد منعوا مني زيارة طيفهم وكيف يزور الطيف حلف سهاد؟

وأعجب ما في الأمر شوقي إليهم وهم في سوادي ناظري وفؤادي

وقوله رحمه الله تعالى:

رعى الله أيام المقام بروضة تروح علينا بالسرور وتغتدي

كأن السقيق الغض بين بطاحها نجوم عقيق في سماء زبرجد

وقول القاضي الرشيد الأسواني:

ص: 87

رحلوا فلا خلت المنازل منهم ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم

وسروا وقد كتموا الغداة مسيرهم وضياء نور الشمس ما لا يكتم

وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى رحلوا وفي قلب المتيم خيموا

نزلوا العذيب وإنما هو مهجتي رحلوا وفي قلب المتيم خيموا

ما ضرهم لو ودعوا من أودعوا نار الغرام وسلموا من أسلموا

هم في الحشا إن أعرقوا أو أينموا أو اشأموا أو أنجدوا أو أتهموا

وقول الشاعر أبي طاهر الأصفهاني، المعروف بالوثابي:

أشاعوا فقالوا وقفة ووداع وزمت مطايا للرحيل سراع

فقلت وداع لا أطيق عيانه كفاني من البين المشت سماع

ولم يملك الكتمان قلب ملكته وعند النوى سر الكتوم مذاع

وقول أبي المجد قاضي ماردين:

رعى الله ربعاً أنتم فيه أهله وجاد عليه هاطل وهتون

ولا زال مخضر الجوانب مترع ال؟ حياض وفيه للنعيم فنون

لئن الله اللقاء وأينعت غصون التداني فالبعاد يهون

وإن حكمت أيدي الزمان بعسرة فكم قضيت للمعسرين ديون

وقول آخر:

ص: 88

غبتم فما لي في التبصر مطمع عظم الجوى واشتدت الأشواق

لا الدار بعدكم كما كانت ولا ذاك البهاء ولا الإشراق

أشتاقكم، وكذا المحب إذا نأى عنه أحبة قلبه يشتاق

وقول أبي الحسن الهمداني:

ويوم تولت الأظعان عنا وقوض حاضر وأرن بادي

مددت إلى الوداع وأخرى حبست بها الحياة على فؤادي

وقول ابن الضائغ:

قد أودعوا القلب لما ودعوا حرقاً فظل في الليل مثل النجم حيرانا

راودته يستعير الصبر بعدهم فقال: إني استعرت اليوم نيرانا

وقول الصدر بن الأدمي مكتفيا:

يوم توديعي لأحبابي غدا ذكر مي شاغلي عن كل شيء

فرنت نحوي وقالت: يا ترى أنت حي في هوانا؟ قلت: مي

وقول غيره:

ولي فؤاد مذ نأى شخصهم ظل كئيبا مدنفا موجعا

ومقلة مهما تذكرتهم تذرف دمعا أربعاً أربعا

ص: 89

وليس لي من حيلة كلما لجت بي الأشواق إلا الدعا

أسأل من ألف ما بيننا وقدر الفرقة أن يجمعا

وقول الرعيني الغرناطي:

محاسن ربع قد محاهن ما جرى من الدمع لما قيل قد رحل الركب

تناقض حالي مذ شجاني فراقهم فمن أضلعي نار ومن أدمعي سكب

وفي معناه قوله أيضا:

وقائلة: ما هذه الدرر التي تساقطها عيناك سمطين سمطين

فقلت لها: هذا الذي قد حشا به أبو مضر أذني تساقط من عيني

وقول الزمخشري:

لم يبكني إلا حديث فراقهم لما أسر به إلى مودعي

هو ذلك الدر الذي أودعتهم في مسمعي أجريته من مدمعي

وقول الزغاري:

قد بعتهم قلبي يوم بينهم بنظرة التوديع وهو يحترق

ولم أجد من بعدها لرده وجها وكان الرد لو لم نفترق

وقول بعض الأندلسيين:

ساروا فودعهم طرفي وأودعهم قلبي فما بعدوا عني ولا قربوا

هم الشموس ففي عيني إذا طلعوا في القادمين وفي قلبي إذا غربوا

ص: 90

وقلت أنا مضمنا بديهة:

لا كان يوم فراق ساق الشجون إلينا

فكم أذل نفوسا يا من يعز علينا

وقلت أيضا مضمنا:

سلا أحبته من لم يذب كمدا يوم الوداع وإن أجرى الدموع دما

يا من يعز علينا أن نفارقهم من بعدكم هدركن الصبر وانهدما

وإن نأى الجسم كرها عن منازلكم فالقلب ثاوبها لم يصحب القدما

وما نسينا عهودا للهوى كرمت نعم قرعنا عليها سننا ندما

وأظلمت بالنوى أرجاء مقصدنا وصار وجدان إلف غيركم عدما

وقلت أيضا مضمنا:

لم أنس بالشام أنسا شمت بارقه جادت معاهده أنواء نيسان

لهفي لعيش قضينا في مشاهدها ما بين حسن من الدنيا وإحسان

وقلت كذلك:

يا جبرة بانوا وأبقوا حسرة تجري دموعي بعدهم وفق القضا

كم قلت إذ ودعتهم والأنس لا ينسى وعهد ودادهم لن يرفضا

يا موقف التوديع إن مدامعي فضت وفاضت في ثرى ذاك الفضا

وكم تفاءلت بقول الأول، مع علمي بأن على الله المعول:

ص: 91

إذا رأيت الوداع فاصبر ولا يهمنك البعاد

وانتظر العود عن قريب فإن قلب الوداع عادوا

وضاقت بي الرحاب، حين مفارقة أعيان الصحاب، وكاثرت دموعي من بينهم السحاب، وزند التذكر يقدح الأسف فيهيج الانتحاب، وقد تمثلنا إذ ذاك والجوانح في التهاب، وذخائر الصبر ذات انتهاب، بقول بعض من مزق البعد منه الإهاب:

ولما نزلنا منزلاً طله الندى أنيقاً وبستاناً من النور حاليا

أجد لنا طيب المكان وحسنه منى فتمنينا فكانوا الأمانينا

وقد طفت في شرق البلاد وغربها وسيرت خيلي بينها وركابيا

فلم أر منها مثل بغداد منزلا ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليهال أرق شمائلا وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا

وبقول من تأسف على مغاني التداني، وهو أبو الحجاج الأندلسي الداني:

أبى الله إلا أن أفارق منزلا يطالعني وجه المنى فيه سافرا

كأن على الأيام حين غشيته يميناً فلم أحلله إلا مسافرا

ص: 92

وتخيلنا أن إقامتنا بدمشق وقاها الله كل صرف، ما كانت إلا خطرة طيف ملم أو لمحة طرف:

وقفنا ساعة ثم ارتحلنا وما يغني المشوق وقوف ساعة؟

كأن الشمل لم يك في اجتماع إذا ما شتت البين اجتماعه

وطالما عللت النفس بالعود إليها ثم إلى بقاعي، منشداً قول الأديب الشهير بابن الفقاعي:

متى عاينت عيناي أعلام حاجر جعلت مواطي العيس فوق محاجري

وإن لاح من أرض العواصم بارق رجعت بأحشاء صواد صوادر

سقى الله هاتيك المواطن والربى مواطر أجفان هوام هوامر

وحيا الحيا من ساكني الحي أوجهاً سفرن بأنوار زواه زواهر

بحيث زمان الوصل غصن وروضه أريض بأزهار بواه بواهر

وحيث جفون الحاسدين غضيضة رمقن بآماق سواه سواهر

ثم حاولت خاطري الكليل، فيما يشفي بعض الغليل، فقال على طريق التضمين، وقد غلب عليه الشوق والتخمين:

بأبي من أودعوا مذ ودعوا قلبي الشوق وللعيس ذميل

جيرة غر كرام خيرة كل شيء منهم يبدو جميل

وعلى الجملة ما لي غيرهم لو أرادوا أن يملوا أو يميلوا

ثم قلت وقد سدد التنائي إلي نبله، موطئاً للبيت الثالث كما في الأبيات قبله:

ص: 93

يا دمشقا حياك غيث غزير ووقاك الإله مما يضير

حسنك الفرد والبدائع جمع متناه فيه فعز النظير

أين أيامنا بظلك والشم؟ ل جميع، والعيش غض نضير

ثم أكثرت الالتفات عن اليمين وعن الشمال، وقد شبهت البيداء والشوق ببدل الكل والاشتمال، وتنسمت من نواحي تلك الأرجاء أريج الشمال، وضمنت في المعنى قول بعض من ثنى الحب عطفه وأمال:

تنسمت أرواحاً سرت من ديار من بهم كان جمع الشمل لمحة حالم

وجاوبت من يلحى على ذاك جاهلاً بقول لبيب بالعواقب عالم

وما أنشق الأرواح إلا لأنها تمر على تلك الربى والمعالم

وما أحسن قول الآخر:

سرت من نواحي الشام لي نسمة الصبا وقد أصبحت حسري من السير ظالعه

ومن عرق مبلولة الجيب بالندى ومن تعب أنفاسها متتابعه

وقلت أنا:

حمدت وحق الله للشام رحلة أتاحت لعيني اجتلاء محياه

وبعد التنائي صرت أرتاح للصبا لأن الصبا تسري بعاطر رياه

فلله عهد قد أتاح بجلق سروراً فحياها الإله وحياه

واستحضرت عند جد السير، قول صفوان بن إدريس المرسي ذكره الله تعالى بالخير:

ص: 94

أين أيامنا اللواتي تقضت إذا زجرنا للوصل أيمن طير

ثم قول غيره ممن حن وأن، وقلق قلبه وما اطمأن:

أحن إلى مشاهد أنس إلفي وعهدي من زيارته قريب

وكنت أظن قرب العهد يطفي لهيب الشوق فازداد اللهيب

وربما تجلدت مغالطاً، متعللاً بقول من كان لإلفه مخالطاً:

حضرت فكنت في بصري مقيماً وغبت فكنت في وسط الفؤاد

وما شطت بنا دار ولكن نقلت من السواد إلى السواد

وقول غيره:

وكن كمن شئت من قرب ومن بعد فالقلب يرعاك إن لم يرعك البصر

وبقول الوداعي:

يا عاذلي في وحدتي بعدهم وأن ربعي ما به من جليس

وكيف يشكو وحدة من له دمع حميم وأنين أنيس

ثم رددت هذه الطريقة، بقول بعض من لم يبلعه السلو ريقه:

لا رعى الله عزمة ضمنت لي سلوة القلب والتصبر عنهم

ما وفت غير ساعةً ثم عادت مثل قلبي تقول لا بد منهم

وبقول ابن آجروم، في مثل هذا الغرض المروم:

يا غائباً كان أنسي رهن طلعته كيف اصطباري وقد كابدت بينهما

ص: 95

دعواي أنك في قلبي يعارضها شوقي إليك، فكيف الجمع بينهما

ثم جد بي السير إلى مصر واستمر، فتذكرت قول الصفدي وقد اشتد بالرمل الحر:

أقول وحر الرمل قد زاد وقده وما لي إلى شم النسيم سبيل

أظن نسيم الجو قد مات وانقضى فعهدي به في الشام وهو عليل

وقول ابن الخياط:

قصدت مصرا من ربى جلق بهمة تجري بتجريبي

فلم أر الطرة حتى جرت دموع عيني بالمريزيب

وحين وصلت مصر لم أنس عهد الشام المرعي، وأنشدت قول الشهاب الحنبلي الزرعي:

أحبتنا والله مذ غبت عنكم سهادي سميري والمدامع مدرار

ووالله ما اخترت الفراق، وإنه برغمي، ولي في ذلك الأمر أعذار

إذا شام برق الشام طرفي تتابعت سحائب جفني والفؤاد به نار

ألا ليت شعري هل يعودن شملنا جميعا وتحوينا ربوع وأقطار؟

ص: 96

وقول ابن عنين:

دمشق بنا شوق إليك مبرح وإن لج واش أو ألح عذول

بلاد بها الحصباء درر، وتربها عبير، وأنفاس الرياح شمول

تسلسل منها ماؤها وهو مطلق وصح نسيم الروض وهو عليل

وقول آخر:

نفسي الفداء لأنس كنت أعهده وطيب عيش تقضي كله كرم

وجيرة كان لي إلف بوصلهم والأنس أفضل ما بالوصل يغتنم

بالشام خلفتهم ثم انصرفت إلى سواهم فاعتراني بعدهم ألم

كانوا نعيم فؤادي والحياة له والآن كل وجود بعدهم

فإن أنشد لسان الحال، فيما اقتضاه معنى البعد عنها والارتحال:

يا غائبا قد كنت أحسب قلبه بسوى دمشق وأهلها لا يعلق

إن كان صدك نيل مصر عنهم لا غرو فهو لنا العدو الأزرق

أتيت في جوابه، بقول بعض من برح الجوى به:

لله دهر جمعنا شمل لذته بالشام أعذب من أمن على فرق

مرت لياليه والأيام في خلس كأنما سلبته كف مسترق

ما كان أحسنها لولا تنقلها من النعيم إلى ذاك من الحرق

رق العذول لحالي بعدها ورثى لي في الجوى والنوى والشجو والأرق

ص: 97

وبالجملة فتلك الأيام من مواسم العمر محسوبة، والسعود إلى طوالعها منسوبة:

وكانت في دمشق لنا ليالٍ سرقناهن من ريب الزمان

جعلناهن تاريخ الليالي وعنوان المسرة والأماني

وهي مغاني التهاني التي ما نسيناها، وأماني زماني التي نعمت بطور سيناها عليها وعلى وطني مقصورة، والقلب في المعنى مقيم بهما وإن كان في غيرهما بالصورة، والأشواق إليهما قضاياها موجهة وإن كانت غير محصورة:

ولله عهد قد تقضي فإن يعد فإني عن الأيام أعفو واصفح

بقلبي من ذكراه ما ليس ينقضي ومن برحاء الشوق ما ليس يبرح

إذا مسحت كفي الدموع تستراً بدت زفرة بين الجوانح تقدح

على أنها الأيام جد مزاجها ورب مجدٍ في الأذى وهو يمزح

وكثيراً ما يلهج اللسان بقول من قال:

وما تفضل الأوقات أخرى لذاتها ولكن أوقات الحسان حسان

ويردد قول من شوقه متجدد:

سقى معهد الأحباب ناقع صيب من المزن عن مغناه ليس يريم

وإن لم أكن من ساكنيه فإنه يحل به خل علي كريم

وينشد من يلوم، قول في حشاه وله وفي قلبه كلوم:

ثد أصبح آخر الهوى أوله فالعاذل في هواك ما لي وله

بالله عليك خل ما أوله وارحم دنفاً لدى حشاه وله

ص: 98

[شروعه في التصنيف بمصر]

وقد امتد بنا الكلام، وربما يجعله اللاحي ذريعة لزيادة الملام، فلنرجع إلى ما كان بصدده، من إجابة المولى الشاهيني، أمده الله سبحانه بمدده، فأقول، مستمداً من واهب العقول:

إني شرعت بعد الاستقرار بمصر في المطلوب، وكتبت منه نبذة تستحسنها من المحبين الأسماع والقلوب، وسلكت في ترتيبه أحسن أسلوب، وعرضت في سوقه كل نفيس غريب من الغرب إلى الشرق مجلوب، تستحسن الأبصار ما عليه احتوى، وتعرف الأفكار أنه غير مجتوى، ثم وقف بي مركب العزم عن التمام واستوى، فأخرته تأخير الغريم، لدين الكريم، وصدتني أعراض، عن تكميل ما يشتمل عليه من أغراض، واضربت برهة عما له من منحى، لاختلاف أحوال الدهر نفعاً ودفعاً ومنعاً ومنحاً، ومرقت عن هدف الإصابة نبال، وطرقت في سدف لبالي الكتابة أمور لم تكن ببال.

[رسالة من ابن شاهين تحثه على المضي في التأليف]

فجاءتني من المولى المذكور آنفاً، رسالة دلت على أنه لم يكن عن انتجاز الوعد متجانفاً، فعدت لقضاء الوطر مستقبلاً وللجملة مستأنفاً، وحداني خطابه الجسيم للإتمام وساقني، وراقني كتابه الكريم لهاتيك الأيام وشاقني، وذكرني تلك الليالي التي لم أنسها، وحركني لهاتيك المعاهد التي لم أزل أذكر أنسها:

الإلف لا يصبر عن إلفه إلا كما يطرف بالعين

وقد صبرنا عنهم مدة ما هكذا شأن المحبين

ص: 99

فيا له من كتاب أعرب عن ود صميم، وذكر بعهد غير ذميم، وود طيب العرف والشميم، يخجل ابن المعتز لبلاغه وابن المعز تميم:

ولم تر عيناي من قبله كتاباً حوى بعض ما قد حوى

كأن المباسم ميماته ولاماته الصدغ لما التوى

وأعينه بعيون الحسان تغازلنا عند ذكر الهوى

كتاب ذكرنا بألفاظه عهوداً زكت بالحمى واللوى

فكأنه الروض المطرد الأنهار، والدوح المدبج الأزهار:

رأينا به روضاً تدبج وشيه إذا جاد من تلك الأيادي غمائم

به ألفات كالغصون وقد علا عليها من الهمز المطل حمائم

وقد سقيت بأنهار البراعة السلسالة، حدائق حلت بها غانية تلك الرسالة، لتشفي صبها بالزيارة، وتشرف بدونها دياره:

زارت الصب في ليال من البع؟ د فلما دنت رأى الصبح يلمح

قلدت بالعقيان جيد بيان ليس فيه للفتح من بعد مطمح

فشفت النفس من آلامها، وأحيت ميت الهوى مذحيت بعذب كلامها:

كلام كالجواهر حين يبدو وكالند المعنبر إذ يفوح

له في ظاهر الألفاظ جسم ولكن المعاني فيه روح

ص: 100

فصيرت لي ذلك الكتاب سميراً، ووردت من السرور مشرعاً نميراً، وتمثلت بقول بعض من أخلص في الود ضميراً:

يا مفرداً أهدى إلي كتابه جملاً يحار الذهن في أثنائها

كالدر أشرق في سموط عقوده والزهر والأنواء غب سمائها

فأفادني جذلاً وبالي كاسد وأجار نفسي من جوى برحائها

وحسبت أيام الشباب رجعن لي فلبست حلي جمالها وبهائها

لا يعدم الإخوان منك محاسنا كل المفاخر قطرة من مائها

فأكرم به من كتاب جاء من السري العلي، والماجد الأخ الولي:

فضضت ختامه فتبينت لي معانيه عن الخبر الجلي

وكان ألذ في عيني وأندى على كبدي من الزهر الجني

وضمن صدره ما لم تضمن صدور الغانيات من الحلي

وأعرب عن اعتماد متماد، ووداد مزدد، وأطاب حين أطال، وأدى دين الفصاحة دون مطال، واشتمل من فصول العبارة على أحسن من الحدق المراض، وأتى من اصول البراعة ببراهين ابن شاهين التي لا خلف فيها ولا افتراض، وروينا من غيث أنامله الهتون، وروينا عنه مسند أحمد حسن الأسانيد والمتون، وحثنا على العود والرجوع، وكان أجدى من الماء الزلال لذي ظمإ والمشتهى من الطعام لذي سغب وجوع:

ص: 101

وأشهى في القلوب من الأماني، وأحلى في العيون من الهجوع

وجلا بنوره ظلام استيحاشي، وحشر إلي أشتات المسرات دون أن يحاشي، ووجدني في مكابدة شغوب، وأشغال أشربت القلب الكسل واللغوب، وحيرت الخواطر، وصيرت سحب الأقلام غير مواطر، فزحزح عني الغموم وسلاني، وأولاني - شكر الله صنيعه - من المسرات ما أولاني:

حديثه أو حديث عنه يطربني هذا إذا غاب أو هذا إذا حضرا

كلاهما حسن عندي أسر به لكن أحلاهما ما وافق النظرا

وقال آخر:

لست مستأنساً بشيء إذا غب؟ ت سوى ذكرك الذي لا يغيب

أنت دون الجلاس عندي وإن كن؟ ت بعيداً فالأنس منك قريب

وضمنت فيه لما ورد مع جملة كتب من تلك الناحية، وأنوار أهلها ذوي الفضائل الشهيرة أظهر من شمس الظهيرة في السماء الصالحية:

قلت لما أتت من الشام كتب من أجلاء نورهم يتألق

مرحباً مرحباً وأهلا وسهلاً بعيون رأت محاسن جلق

وقلت أيضاً:

قلت لما وافت من الشام كتب والليالي تتيح قرباً وبعدا

مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً بعيون رأت محاسن سعدى

ص: 102

[مقتطفات من رسالة ابن شاهين]

وكان من فصول الكتاب الوارد، من المولى الشاهيني الذي اقتنص بفضله كل رشاد، ما نصه:((ومما استخلص قلبي من يدي ترحي، وجدد سروري ونبه فرحي، حديث الكتاب وما حديث الكتاب، حديث نسخ بحلاوته مرارة العتاب، وأنساني حرارة المصاب، في الأنسال والأعقاب، وقضى به من حق لسان الدين، دينه الذي تبرع به غريم مليء من البلاغة وهو غير مدين، حتى كأني يا سيدي بهذه البشرى، أحرزت سواري كسرى، وكان في مسمعي كل حرف إليها منسوب، قميص يوسف في أجفان يعقوب، وحتى كدت أهجر أهلي وبيتي، واسرج لا ستقبال هذه البشرى أشهى وكميتي، وحتى إنني حاربت نومي وقومي، وعزمت على أن أرحل ناقتي في وقتي ويومي، وإن ذلك التغليس والتهجير، في جنب ما بثرت به لحقير، وإن موقعها لدى هذا العبد الحقير لخطير. وقد كنت سألت شيخي حين ورد دمشق الشام، واشتم منها العرار والبشام، وشرفني فعرفني، وشاهدني فعاهدني، على أن يجري ما دار بيننا لدى المجاورة، من المسامرة والمحاورة، في ديباجة ذلك الكتاب، الذي فتن العقول خبره وسحر الألباب، وما قصدت إلا أن يجري أسمى على قلمه، ويرقم رسمي في مطاوي تحريره ورقمه، ويكون ذكري مختلطاً بذكره، كما أن سري مرتبط في المحبة بسره، فرأيت شيخي لم يتصد في اثناء هذه البشرى، لما يفهمني بالذكرى، لأنتظر النجاح في الأخرى، ولم يساعدني على ذلك الملتمس، وحبس عنان القلم فاحتبس، فانكسرت سورة سروري بفتوري، وتبين لنفسي عن بلوغ ذلك الأمل تخلفي وقصوري)) انتهى.

ثم قال بعد كلام لم نذكره لعدم تعلقه بهذا الغرض، ما صورته:

ص: 103

وحسبت أن سيدي وحاشاه، نسي من ليس ينساه، وظننت به الظنون، لأمور تكون أو لا تكون، وهل يكره شيخي أن يهدي الدنيا في طبق؟ ثم الأخرى على ذلك النسق، ولا شك أن خطه هو الروضة الغنا، لا بل جنة المأوى، فطوبى لنفسي إن جنت ثمرته طوبى، ولعمر شيخي إني بذلك لجدير، وإني كنت أملك به الخورنق والسدير)) انتهى ما يتعلق بالمطلوب من ذلك الرقيم، الذي شكل منطقهغير عقيم، سلك الله تعالى بي وبمن وجهه الصراط المستقيم.

وأتى في المكتوب بأنواع من البلاغة، مما تركت ذكره هنا لعدم تعلقه بهذا الأمر الخاص الذي ييسر لكارع الأدب مساغه، وختمه بقصيدة نفيسة من نظمه فيها ذلك الوعد، وأشهد أنه قد حاز فيها قصب السبق والمجد، وما قلت إلا بالذي علمت سعد، وهذه صورتها:

يا سيداً أفديه بالأكثر من أصغر العالم والأكبرِ

ويا وحيداً قل قولي له عطارد أنت مع المشتري

ويا مجيداً ليس عندي له إلا مقال المادح المكثرِ

أقسمت بالبيت العتيق الذي حجت إليه الناس والمشعرِ

ما للعلا والعلم إلا أبو ال؟ عباس شيخي أحمد المقري

ذاك الذي آثرني منه بال؟ علم الذي للغير لم يؤثرِ

وخصني منه بأشياء لم يفز بها غيري ولم يعثرِ

فرحت عبداً ذا وفاء له معترفاً بالرق لا أمتري

ص: 104

فيا أبا العباس يا من غدا أعظم في نفسي من معثري

ومن إذا ما غاب عن ناظري كان سمير القلب للمحضر

هات أفدني سيدي عن علا ال؟ مولى لسان الدين ذاك السري

ذاك الوحيد الفذ في عصره بل أوحد الأدهر والأعصرِ

ذاك الذي أخبرني سيدي عنه مزايا بعد لم تحصرِ

ذاك الذي العيوق لا يعتلي إلى معاليه ولا يجتري

ما قد وعدت العبد في جمعه من خبر عن فضله مسفرِ

بخطك الوضاح وهو الذي مخبره يربي على المنظرِ

والشيء لا يرجى إذا ما غدا منظره يربي على المخبرِ

نقش على طرس بياض كما لاحت عيون الرشإ الأحورِ

وأسطر قد سلسلت مثلما لاح عذار الشادن المقمرِ

ونزهة الأنفس معنى غدا ما بينها ينساب كالكوثرِ

عذب رقيق مثل ظبي غدا يلوح طاوي الكشح أو جؤذرِ

آثار أقلامك وهي التي أغنت عن الأبيض والأسمرِ

يراعك الجامع راوٍ غدا يروي اللغى عن لفظك الجوهري

ينثر مسكاً تارة ناظماً وينظم الجوهر بالعنبرِ

هذا ابن شاهين الفتى أحمد عن ذكرك المأنوس لم يفترِ

فاجعل له ذكراً كريماً به يزدان مغبوطاً إلى المحشرِ

واذكر بويتاتي وكل الذي كتبته نحوك في دفتري

أنت جدير بمديحي فكن ذاكر عبد بالوفا أجدرِ

وهاكها سيارة أعنقت على جواد كان للبحتري

ص: 105

طرف كريم سابق صافن مطهم ذي أدب أوفرِ

ورثته منه ولكنما من شاعر وافى إلى أشعرِ

ما للفتى الطائي شوط امريء يصطاد نسر الجو بالمنسرِ

واسلم لعبد لا يرى سيداً سوى الذي في ثوبك الأطهرِ

في كرم العنصر فرداً غدا طبعك فاشكر كرم العنصرِ

ما حن مشتاق أخو صبوة إلى خليل في الهوى مفكرِ

انتهت.

[تهمم المؤلف لاستئناف التصنيف]

فلما وصلني هذا الخطاب، الذي ملأ من الفصاحة الوطاب، وحلا في عيني وقلبي وطاب، تحركت دواعي الوجد، لذلك المجد، الذي ولعت به لولع ابن الدمينة بصبا نجد، وأثار من الهيام والأوار، ما يزيد على ما حصل للفرزدق لما فارق النوار، وتضاعف الشوق إلى تلك الأنجاد والأغوار، منشداً قول الأول:((لعل أبي المغوار)) ، وتذكرت والذكرى شجون وأطوار، تلك الأضواء وزالأنوار، المشرقة بقطر أزهر بالمحاسن، وجرى نهره غير آسن، فلم يذم فيه الجوار:

وإن اصطباري عن معاهد جلق غريب فما أجفى الفراق وأجفاني

سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها كحلت بها من شدة الشوق أجفاني

وحصل التصميم، على التكميل للتأليف والتتميم، رعياً لهذا الولي الحميم

ص: 106

أفاض الله تعالى عليه غيث البر العميمي، وأبقى ظل عزه ممدوداً، وخلى سؤدده مودودا، وأناله من الخيرات ما ليس محصوراً ولا معدوداً، وجمعني وإياه، وأطلع لي بشر محياه، وأنشقني عرف اجتماعه ورياه، وكيف لا أستديم أمد بقياه، وأعتقد البشائر في لقياه، وأسقى غروس الود بسقياه، وهو الصدر الذي أصفى لي الوداد، والركن الذي لي بثبوته اعتداد:

فعليه من مصفي هواه تحية كالمسك لما فض عنه ختام

تترى بساحته السنية ما دعت فوق الغصون هديلهن حمام

ودامت فضائله ظاهرة كالشمس، محروسة بالسبع المثاني معوذة بالخمس:

ولا انفك ما يرجوه اقرب من غدٍ ولا زال ما يخشاه أبعد من أمس

وبقي من العناية في حرم أمين، آمين.

ولما حصل لي كمال الاغتباط، بما دل على صحة حال الارتباط، نشرت بساط الانبساط، وحدثت لي قوة النشاط، وانقشعت عني سحائب الكسل وانجابت، وناديت فكرتي فلبت مع ضعفها وأجابت، فاقتدحت من القريحة زنداً كان شحاحاً، وجمعت من مقيداتي حساناً وصحاحاً، وكنت كتبت شطره، وملأت بما تيسر هامشه وسطره، ورقمت من أنباء لسان الدين ابن الخطيب حللا لا تخلق جدتها الأعصر، وسلكت من التعريف به رحمه الله مهامه تكل فيها واسعات الخطا وتقصر. فحدث لي بعد ذلك عزم على زيادة الأندلس ذكر الأندلس جملة ومن كان يعضد بها الإسلام وينصر، وبعض مفاخرها الباسقة، ومآثر أهلها المتناسقة، لأن كل ذلك لا يستوفيه القلم ولا يحصر، وجئت

ص: 107

من النظم والنثر بنبذة توضح للطالب سبله، وتظهر علمه ونبله، وتترع محاسنه من راح المذاكرة وإناءه، حتى يرى إيثار هذا المصنف وإدناءه، وكنت في المغرب وظلال الشباب ضافية، وسماء الأفكار من قزع الأكدار صافية، معتنياً بالفحص عن أنباء الأندلس، وأخبار أهلها التي تنشرح لها الصدور والأنفس، وما لهم من السبق في ميدان العلوم، والتقدم في جهاد العدو الظلوم، ومحاسن بلادهم، ومواطن جدالهم وجلادهم، حتى اقتنيت منها ذخائر يرغب فيها الأفاضل الأخاير، وانتقيت جواهر، فرائدها للعقول بواهر، واقتطفت أزاهر، أنجمها في أفق المحاضرة زواهر، وحصلت فوائد بواطن وظواهر، طالما كانت أعين الألباء لنيلها سواهر، وجمعت من ذلك كلما عالية، لو خاطب بها الداعي صم الجلامد لا نبجس حجرها، وحكماً غالية، لو عامل بها الأيام ربح متجرها، واسجاعاً تهتز لها الأعطاف، ومواعظ يعمل بمقتضاها من حفت به الألطاف، وقوافي موفورة القوادم والخوافي، يثني عليها من سلم من الغباوة والصمم، ويعترف ببراعتها من لا يعتريه اللمم، وطالما أعرض الجاهل الغمر بوجهه عن مثلها واشاح، وأنصت لهما الحبر إنصات السوار لجرس الحلي ونغم الوشاح، وفرح إن ظفر بشيء منها فرح الصائد بالقنيص، والساري العاري ذي البطن الخميص، بالزاد والقميص وتركت الجميع بالمغرب، ولم أستصحب معي منه ما يبين عن المقصود ويعرب، إلا نزراً يسيراً علق بحفظي، وحليت بجواهره جيد لفظي، وبعض أوراق سعد في جواب السؤال بها حظي، ولو حضرني الآن ما خلفته، مما جمعت في ذلك الغرض وألفته، لقرت به عيون وسرت ألباب، إذ هو والله الغاية في هذا الباب، ولكن المرء ابن وقته وساعته، وكل ينفق على قدر وسعه

ص: 108

واستطاعته، وعذر مثل باد، للمصنفين من العباد، إن قصرت فيما تبصرت، أو تخلفت في الذي تكلفت، أو أضعت تحرير ما وضعت، والتقمت ثدي التقصير ورضعت، أو أطعت داعي التواني فتأخرت عمن سبق وانقطعت، (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت) ، ومن كانت بضاعته مزجاة، فهو عن الإنصاف بمنجاة، إذ أتى بالمقدور، وتبرأ من الدعوى في الورود والصدور، وعين الرضا عن كل عيب كليلة، والسلامة من الملامة متعذرة أو قليلة، وقد قال إمامنا مالك صاحب المناقب الجليلة:((كل كلام يؤخذ منه ويرد إلا كلام صاحب هذا القبر)) صلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام وشفى بجاهه من الآلام قلوبنا العليلة، وجلعنا ممن كان اتباع سنته رائدة ودليله، آمين.

والحمد لله الذي يسر لي هذا القدر، مع ضيق الصدر، وقلة بضاعتي، وكثرة إضاعتي، فإن حمده جل جلاله تتضوع به المطالب طيباً، وتقتضي ببركته المآرب فيرقى صاحبها على منبر القبول خطيباً، وتعذب به المشارب فتنبت في أرض القرطاس، من زاكي الغراس، ما يروق منظراً نضيراً ويورق غصناً رطيباً، وقد أتيت من المقال، بما يقر إن شاء الله تعالى عين وامق ويرغم أنف قال، وإن كنت ممن هو في ثوب العي رافل، وعن نسبته للقصور غير غافل، وممن جعل هدفاً وصير مكان الدرر صدفاً، إذ لسان الدين بن الخطيب إمام هذه الفنون، المحقق لذوي الآمال الظنون، المستخرج من بحار البلاغة المكنون، وله اليد الطولي في العلوم على اختلاف أجناسها، والألفاظ الرائقة التي تزيح وحشة الأنفس بإيناسها:

ص: 109

ناهيك من فرد أغر ممدح رحب الذرا حر الكلام محسد

بهر النام رياسة وسياسة وجلالة في المنتمي والقعدد

وأتى بكل بديعة في نوعها لم تخترع وغريبة لم تعهد

ما شئت من شعر أرق من الصبا وكتابه أزهى من الزهر الندي

وبديع قرطاس توشح متنه بمنمنم من رقمه ومنجد

بهج كأن الحسن حل أديمه فكساه ريعان الشباب الأغيد

وكأنما سال العذار عليه أو خطته أيدي الغانيات بإثمد

يختال بين موصل ومفصل مطرز ومنظم ومنضد

كالبرد في توشيعه، والسلك في ترصيعه، والوشي نمق باليد

قد قيد الأبصار والأفكار من ألفاظه بمثقف ومقيد

ما فيه مغرز إصبع إلا وفي؟ هـ نتيجة لمفرع ومولد

ولكل جزء حكمة أو ملحة أو بدعة لمرسل ومقصد

أوليس مثلي قاصراً عن وصفه والحق نور واضح للمهتدي

وكما قلت وقد عجزت عن أداء الواجب وحاولت المسنون، وفضل الله سبحانه على من يشاء من عباده ليس بممنوع ولا ممنون:

ليت شعري أي العبارات توفي واجب أبن الخطيب مما أروم

وأنا عاجز عن البعض منها لقصوري وما العيي ملوم

وهو يدعي لسان دين وناهي؟ ك افتخاراً به تتم الرسوم

فبأي الحلى أحلي علا من نال فضلاً روته عرب وروم

وعلى الفرض ما الذي أنتحى من؟ هـ لدى الوصف أن يخص العموم

ألحفظ قد ارتوى من معين لصواب عليه كل يحوم

ص: 110

أم لفهم يستخرج الدر غوصاً من بحارٍ يخشى بها من العوم

أم لفكر مؤلف في فنون عدة ما به تداوى الكلوم

أم لنظم كأنه جوهر السل؟ ك غلا قدره على من يسوم

تتباهى به الصدور حلياً وتروق العيون منه نجوم

أم لنثر وافى بسحر بيان فهو كالروح والمعاني جسوم

وأظلته للبديع سماء تتلالا في جانبيها العلوم

فاستزادت منه النفوس رشاداً واستزانت منه النهى والحلوم

أمن لخط منمنم فاق حسناً مثل وشيٍ تلوح منه الرقوم

أو كزهر في بهجة ورواء وأريج به تزاج الغموم

والغصون الأقلام، والطرس روض ناضر، والمداد غيث سجوم

تلك ست أعجزن وصفي فإني بسواها مما يجل أقوم

ولم يكن جمعي - عليه الله - هذا التأليف لرفد أستهديه، أو عرض نائل أستجديه، بل لحق ود أؤديه، ودين وعد أقدمه وأبديه، ووقوف عند حد لا يجوز تعديه، وتلبية داع أحييه وأفديه:

إن من يرجو نوالا وندى من بني الدنيا لذو حظ غبين

فلقد كان على غير الهدى من يسومهم برب العالمين

ويرجي منهم الرزق فهل خالق الكل فقير أو ضنين

أنخلي قصد رب مالك ونرى للخلق جهلاً قاصدين

ما لنا من مخلص نأتي به غير جاه المصطفى الهادي الأمين

سيد الخلق العماد المرتجى للملمات شفيع المذنبين

فعليه صلوات تنتحي حضرةً حل بها في كل حين

ص: 111

والرضى من بعد عن أربعة هم بحق أمراء المؤمنين

فيميناً إن من يهواهم ليكونن من أصحاب اليمين

وسط جنات تحييه بها آنسات قاصرات الطرف عين

بقوارير لجين شربه وأباريسق وكأس من معين

والذي شرفهم يمنحنا حبهم والكون معهم أجمعين

فدونك أيها الناظر في هذا الكتاب، المتجافي عن مذهب النقد والعتاب، كلمات سوانح، اختلست مع اشتعال الجوانح، وتضاد الأمور الموانع والموانح، وألفاظ بوارح اقتضت بين أشغال الجوارح، وطرفاً أسمت الطرف في مرعاها وكانت هملاً غير سوارح، وتحفاً يحصل بها لناظره الإمتاع، ولا يعدها من سقط المتاع المبتاع، ويلهج بها المرتاح ويستأنس المستوحش المرتاع.

[منهج الكتاب]

وبعد أن خمنت تمام هذا التصنيف، وأمعنت النظر فيما يحصل به التقريط لسامعه والتشنيف، قسمته قسمين، وكل منهما مستقل بالمطلوب فيصح أن يسميا باسمين:

القسم الأول - فيما يتعلق بالأندلس من الأخبار المترعة الأكواب، والأنباء المنتحية صوب الصواب، الرافلة من الإفادة في سوابغ الأثواب، وفيه بحسب القصد والاقتصار، وتحري التوسط في بعض المواضع دون الاختصار، ثمانية من الأبواب:

ص: 112

الباب الأول: في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها، واعتدال مزاجها ووفور خيرها وكمالها واستوائها، واشتمالها على كثير من المحاسن واحتوائها، وكرم نباتها الذي سقته سماء البركات من جنباتها بنافع أنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوة الصور، وتعداد كثير مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها.

الباب الثاني: في إلقاء بلد الأندلس للمسلمين بالقياد، وفتحها على يد موسى بن نصير ومولاه طارق بن زياد، وصيرورتها ميداناً لسبق الجياد، ومحط رحال الارتياء والارتياد، وما يتبع ذلك من خبر حصل بازديانه ازدياد، ونبإ وصل إليه اعتيام وتقرر بمثله اعتياد.

الباب الثالث: في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد، والقهر للعدو في الرواح والغدو والتحرك للهدو البالغ غاية الآماد، وإعمال أهلها للجهاد، بالجد والاجتهاد، في الجبال والوهاد، بالأسنة المشرعة والسيوف المستلة من الأغماد.

الباب الرابع: في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي ذي البدائع الباهية الباهرة، والإلماع بحضرتي الملك: الزهراء الناصرية والعامرية الزاهرة، ووصف جملة من متنزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات المحاسن الباطنة والظاهرة، وما يجر إليه شجون الحديث من أمور تقتضي بحسن إيرادها القرائح الوقادة والأفكار الماهرة.

الباب الخامس: في التعريف ببعض من رحل من الأندلسيين إلى بلاد المشرق

ص: 113

الذاكية العرار والبشام، ومدح جماعة من أولئك الأعلام، ذوي الألباب الراجحة والأحلام، لشامة وجنة الأرض دمشق الشام، وما اقتضته المناسبة من كلام أعيانها وأرباب بيانها ذوي السؤدد والاحتشام، ومخاطباتهم للمؤلف الفقير حين حلها عام سبعة وثلاثين وألف وشاهد برق فضلها المبين وشام.

الباب السادس: في ذكر بعض الوافدين على الأندلس من أهل المشرق، المهتدين في قصدهم إليها بنور الهداية المضيء المشرق، والأكابر الذين حلوا منها بحلولهم فيها الجيد والمفرق، وافتخروا برؤية قطرها المونق على المشئم والمعرق.

الباب السابع: في نبذة مما من الله تعالى به على أهل الأندلس من توقد الأذهان، وبذلهم في اكتساب المعارف والمعالي والمعالي ما عز أو هان، وحوزهم في ميدان البراعة من قصب السبق خصل الرهان، وجملة من أجوبتهم الدالة على لوذعيتهم، وأوصافهم المؤذنة بألمعيتهم، وغير ذلك من أحوالهم التي لها على فضلهم أوضح برهان.

الباب الثامن: في ذكر تغلب العدو الكافر علىالجزيرة بعد صرفه وجوه الكيد إليها، وتضريبه بين ملوكها ورؤسائها بمكره، واستعماله في أمرها حيل فكره، حتى استولى - دمره الله - عليها، ومحا منها التوحيد واسمه، وكتب على مشاهدها ومعاهدها وسمه، وقرر مذهب التثليب والرأي الخبيث لديها، واستغاثة من بها بالنظم والنثر، أهل ذلك العصر، من سائر الأقطار، حين تعذرت بحصارها، مع قلة حماتها وأنصارها، المآرب والأوطار، وجاءها الأعداء من خلفها ومن بين يديها، أعاد

ص: 114

الله تعالى إليها كلمة الإسلام، وأقام فيها شريعة سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة والسلام، ورفع يد الكفر عنها وعما حواليها، آمين.

ولم أخل باباً في هذا القسم من كلام لسان الدين بن الخطيب وإن قل، مع أن القسم الثاني بذلك كما ستقف عليه قد استقل، وهذا آخر ما تعلق بالقسم الأول، وعلى الله سبحانه المتكل والمعول.

القسم الثاني - في التعريف بلسان الدين بن الخطيب، وذكر أنبائه التي يروق سماعها ويتأرج نفحها ويطيب، وما يناسبها من أحوال العلماء الأفراد، والأعلام الذي اقتضى ذكرهم شجون الكلام والاستطراد، وفيه أيضاً من الأبواب ثمانية، موصلة إلى جنات أدب قطوفها دانية، وكل غصن منها رطيب:

الباب الأول: في أولية لسان الدين وذكر أسلافه، الذين ورث عنهم المجد وارتضع در أخلافه، وما يناسب ذ1لك مما لا يذهب المنصف إلى خلافه.

الباب الثاني: في نشأته وترقيه ووزارته وسعادته، ومساعدة الدهر له ثم قلبه له ظهر المجن على عادته، في مصافاته، ومنافاته، وارتكابه، في شباكه، وما لقي من إحن الحاسد، ذي المذهب الفاسد، ومحن الكايد المستأسد وآفاته، وذكر قصوره وأمواله، وغير ذلك من أحواله، في تقلباته عندما قابله الزمان بأهواله، في بدئه وإعادته إلى وفاته.

الباب الثالث: في ذكر مشايخه الجلة، هداة الناس ونجوم الملة، وما يتصل

ص: 115

بذلك من الأخبار الشافعية للعلة، والمواعظ المنجية من الأهواء المضلة، والمناسبات الواضحة البراهين والأدلة.

الباب الرابع: في مخاطبات الملوك والأكابر الموجهة إلى حضرته العلية، وثناء غير واحد من أهل عصره عليه، وصرف القاصدين وجوه التأمل إليه، واجتلائهم أنوار رياسته الجلية.

الباب الخامس: في إيراد جملة من نثره الذي عبق أريج البلاغة من نفحاته، ونظمه الذي تألق نور البراعة من لمحاته وصفحاته، وما يتصل به من بعض أزجاله وموشحاته، ومناسبات رائقة من فنون الأدب ومصطلحاته.

الباب السادس: في مصنفاته في الفنون، ومؤلفاته المحققة للواقف عليها الآمال والظنون، وما كمل منها أو اخترمته دون إتمامه المنون.

الباب السابع: في ذكر بعض تلامذته الآخذين عنه، المستدلين به على المنهاج، المتلقين أنواع العلوم منه، والمقتبسين أنوار الفهوم من سراجه الوهاج.

الباب الثامن: في ذكر أولاده الرافلين في حلل الجلالة، المقتفين أوصافه الحميدة وخلاله، الوارثين العلم والحلم والرياسة والمجد عن غير كلالة، ووصيته لهم الجامعة لآداب الدين والدنيا، المشتملة على النصائح الكافية، والحكم الشافية، من كل مرض بلا ثنيا، المنقذة من أنواع الضلالة، وما يتبع ذلك من المناسبات القوية، والأمداح النبوية، التي لها على حسن الختام أظهر دلالة.

ص: 116

وقد كنت أولاً سميته ب؟ ((عرف الطيب، في التعريف بالوزير ابن الخطيب)) ، ثم وسمته حين ألحقت أخبار الأندلس به ب؟ ((نفح الطيب، من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب)) .

وله بالشام تعلق من وجوه عديدة، هادية متأملها إلى الطرق السديدة:

أولها: أن الداعي لتأليفه أهل الشام - أبقى الله مآثرهم وجعلها على مر الزمان مديدة.

ثانيها: أن الفاتحين للأندلس هم أهل الشام ذوو الشوكة الحديدة.

ثالثها: أن غالب أهل الأندلس من عرب الشام الذين اتخذوا بالأندلس وطناً مستأنفاً وحضرة جديدة.

ورابعها: أن غرناطة نزل بها أهل دمشق، وسموها باسمها لشبهها بها في القصر والنهر، والدوح والزهر، والغوطة الفيحاء، وهذه مناسبة قوية العرى شديدة.

[خاتمة المقدمة]

هذا، وإني أسأل ممن وقف عليه، أن ينظر بعين الإغضاء إليه، كما أطلب ممن كان السبب في تصنيفه، والداعي إلى تأليفه وترصيفه، استناداً لركن الثقة، واعتماداً على الود والمقة، أن يصفح عما فيه من قصور ويسمح، ويلاحظه بعين الرضى الكليلة ويلمح، إذ ركبت شكل منطقه والأشجان غالبة، وقضية الغربة، موجبة للكربة، ولبعض الآمال سالبه، وهو - وإن لم يوف

ص: 117

بكل الغرض - يخلو من فائدة، وقد يستدل على الجوهر بالعرض، فإن أديت المفترض وذاك المرام الذي أرتضيه، ويوجب الود ويقتضيه:

وإلا فحسبي أن بذلت به جهدي وأنفقت من وجدي على قدر ما عندي

وقد توهمت أني لم أسبق إلى مثله في بابه، إذ لم اقف له على نظير أتعلق بأسبابه، ورجوت أن يكون هدية مستملحة مستعذبة، وطرفة مقبولة مستغربة:

هديتي تقصر عن همتي وهمتي أكثر من مالي

وخالص الود ومحض الإخا أكثر ما يهديه أمثالي

وأوردت فيه من نظم وإنشاء، ما يكفي المقتصر عليه إن شاء، ومن أخبار ملوك ورؤساء، وطبقات من أحسن أو اساء، ما فيه للمتأمل، وادكار للراحل المتحمل، وزينة للذاكر المتجمل، وتنكيت على أهل البطر، وتبكيت لمن خرج من دنياه ولم يقض من الطاعة الوطر:

أرى أولاد آدم أبطرتهم حظوظهم من الدنيا الدنيه

فلم بطروا وأولهم مني إذا نسبوا وآخرهم منيه

وفيه إيقاظ لمثلي من سنة الغفلة، وحث على عدم الاغترار بالمهلة، وتنبيه للابس برد الشباب القشيب، أنه لا بد من حادث الموت قبل أو بعد المشيب:

لله در الشيب من واعظ وناصح منهاجه واضح

كل امرئ يعجبه شأنه وحادث الدهر له فاضح

ص: 118

فكم باك على عصر الشبياب، وشاك لفراق عهد الصبا والأحباب، أنساه طارق الزمان سليمي والرباب:

مضى عصر الشباب كلمح برق وعصر الشيب بالأكدار شيبا

وما أعددت قبل الموت زاداً ليوم يجعل الولدان شيبا

وما أحسن قول بعض الأعلام:

مضى ما مضى من حلو عيش ومره كأم لم يكن إلا كأضغاث أحلام

وقول من أرشد سفيها:

إنما هذه الحياة متاع فالمجهول الجهول من يصطفيها

ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها

وفي معناه لغيره:

دنياك شيئان فانظر ما ذانك الشيئان

ما فات منها فحلم وما بقي فأماني

وما أحكم قول ابن حطان، مع وقوعه من البدعة في أشطان:

يأسف المرء على ما فاته من لبنات إذا لم يقضها

وتراه ضاحكاً مستبشراً بالتي أمضى كأن لم يمضها

إنها عندي كأحلام الكرى لقريب بعضها من بعضها

ولغيره:

والله لو كانت الدنيا بأجمعها تبقى علينا ويأتي رزقها رغدا

ما كان من حق حر أن يذل لها فكيف وهي متاع يضمحل غدا

ص: 119

ولآخر:

لا حظ في الدنيا لمستبصر يلمحها بالفكرة الباصره

إن كدرت مشربه ملها وإن صفت كدرت الآخرة

ويعجبني قول الوزير ابن المغربي:

إني أبثك من حدي؟ ثي والحديث له شجون

فارقت موضع مرقدي ليلاً ففارقني السكون

قل لي فأول ليلة للقبر كيف ترى أكون

وقول ماميه:

تأمل في الوجود بعين فكر تر الدنيا الدنية كالخيال

ومن فيها جميعاً سوف بفنى ويبقة وجه ربك ذو الجلال

وقول بعض العارفين:

استعدي يا نفس للموت واسعي لنجاة فالحازم المستعد

قد تبينت أنه ليس للحي خلود وما من الموت بد

إنما أنت مستعيره ما سو ف تردين والعواري ترد

أنت تسهين والحوادث لا تس؟ هو وتلهين والمنايا تجد

ص: 120

أي ملك في الأرض أو أي حظ

لامرئ حظه من الأرض لحد

لا ترجي البقاء في معدن المو

ت ودارٍ حتوفها لك ورد

كيف يرجو امرؤ لذاذة أيا

م عليه الأنفاس فيها تعد وأسأل من مبلغ السائلين ما يرجون: أن يصفح عن زلاتي ويسامحني فيما أوردت في هذا الكتاب من الهزل والمجون، الذي جرت المناسبة إليه (1) والحديث شجون، وما القصد منه إلا ترويح قلوب الذين يسوقون عيس الأسمار ويزجون، وفيما أوردت من المواعظ والنصائح، وحكايات الأولياء الذين طيب زهر مناقبهم فائح، والتوسل بمحاسن الأمداح النبوية أن يستر بفضله سبحانه القبائح، ويرينا وجه القبول بلا اكتتام، ويمنحنا الزلفى وحسن الختام:

ومن يتوسل بالنبي محمد

شفيع البرايا السند الأسنى

فذاك جدير أن يكفر ذنبه

ويمنح نيل القصد والختم بالحسنى وهذا أوان الشروع، في الأصول من هذا الكتاب والفروع، وعلى الله سبحانه أعتمد، ومن معونته أستمد.

(1) ق: جرته المناسبة.

ص: 121