المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفور خيراتها - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفور خيراتها

‌الباب الأول

‌في وصف جزيرة الأندلس وحسن هوائها واعتدال مزاجها ووفور خيراتها

واستوائها، واشتمالها على كثيرٍ من المحاسن واحتوائها، وكرم بقعتها التي

سقتها سماء البركات بنافع أنوائها، وذكر بعض مآثرها المجلوّة الصور،

وتعداد كثيرٍ مما لها من البلدان والكور، المستمدة من أضوائها

فأقول:

محاسن الأندلس لا تستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غباره، وأنّى تجارى وهي الحائزة قصب السّبق، في أقطار الغرب والشرق.

[مقدمات عامة في مزايا الأندلس]

قال ابن سعيدٍ: إنّما سميت بأندلس بن طوبالٍ (1) بن يافثٍ بن نوحٍ، لأنّه نزلها، كما أن أخاه سبت بن يافثٍ نزل العدوة المقابلة لها، وإليه تنسب سبتة. قال: وأهل الأندلس يحافظون على قوام اللسان العربي، لأنّهم إمّا عربٌ أو متعربون، انتهى.

وقال ابن غالبٍ (2) : إنّه أندلس بن يافثٍ، والله تعالى أعلم.

وقال الوزير لسان الدين بن الخطيب - رحمه الله تعالى - في بعض كلامٍ له

(1) ط: بالأندلس؛ ج: بن طوفان.

(2)

هو محمد بن أيوب بن غالب صاحب كتاب " فرحة الأنفس " الذي ينقل عنه المقري في مواضع وقد بقيت من الكتاب قطعة نشرها الدكتور لطفي عبد البديع في مجلة معهد المخطوطات 1: 272 - 310؛ وعبارته المنقولة تقع على الصفحة 281.

ص: 125

أجرى فيه ذكر البلاد الأندلسية، أعادها الله تعالى للإسلام ببركة المصطفى عليه من الله أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما نصّه: خصّ الله تعالى بلاد الأندلس من الرّيع وغدق السّقيا، ولذاذة الأقوات، وفراهة الحيوان، ودرور الفواكه، وكثرة المياه، وتبحر العمران، وجودة اللباس، وشرف الآنية، وكثرة السلاح، وصحّة الهواء، وابيضاض ألوان الإنسان، ونبل الأذهان، وقبول (1) الصنائع، وشهامة الطباع، ونفوذ الإدراك، وإحكام التمدّن والاعتمار، بما حرمه الكثير من الأقطار ممّا سواها، انتهى.

قال أبو عامرٍ السالمي (2)، في كتابه المسمى " بدرر القلائد وغرر الفوائد ": الأندلس من الإقليم الشامي، وهو خير الأقاليم، وأعدلها هواءً وتراباً، وأعذبها ماءً وأطيبها هواءً وحيواناً ونباتاً، وهو أوسط الأقاليم، وخير الأمور أوسطها، انتهى.

قال أبو عبيدٍ البكري (3) : الأندلس شاميةٌ في طيبها وهوائها، يمانيةٌ في اعتدالها واستوائها، هنديةٌ في عطرها وذكائها، أهوازيةٌ في عظم جبايتها، صينيةٌ في جواهر معادنها، عدنيةٌ في منافع سواحلها، فيها آثارٌ عظيمةٌ لليونانيين أهل الحكمة وحاملي الفلسفة، وكان من ملوكهم الذين أثّروا الآثار بالأندلس هرقلس، وله الأثر في الصنم بجزيرة قادس وصنم جلّيقية، والأثر في مدينة طرّكونة الذي لا نظير له.

(1) ك: وفنون.

(2)

أبو عامر السالمي (ق ك ط ج: السلمي) محمد بن أحمد بن عامر: كان أديباً تاريخياً حافظاً، صنف في الحديث والآداب والتواريخ مصنفات كثيرة مفيدة وكتابه " درر القلائد وغرر الفوائد " في أخبار الأندلس وأمرائها وطبقات علمائها وشعرائها، وقف منه ابن عبد الملك على السفرين الأول والثاني. (انظر ترجمته في التكملة: 495 والذيل والتكملة، الورقة من مخطوطة المتحف البريطاني) .

(3)

انظر هذا النص في الروض المعطار: 3، والمنتقى من فرحة الأنفس: 281 مع بعض اختلاف.

ص: 126

[مساحتها وأبعادها]

قال المسعودي (1) : بلاد الأندلس تكون مسرة عمائرها ومدنها نحو شهرين، ولهم من المدن الموصوفة نحوٍ من أربعين مدينةٍ، انتهى باختصار.

ونحوه لابن اليسع (2) إذ قال: طولها من أربونة إلى أشبونة (3) وهو قطع ستين يوماً للفارس المجدّ، وانتقد بأمرين: أحدهما أنّه يقتضي أن أربونة داخلةٌ في جزيرة الأندلس، والصحيح أنها خارجةٌ عنها، والثاني أن قوله:" ستين يوماً للفارس المجدّ " إعياءٌ وإفراطٌ، وقد قال جماعة: إنّها شهرٌ ونصف.

قال ابن سعيدٍ: وهذا يقرب إذا لم يكن للفارس المجدّ، والصحيح ما نص عليه الشريف (4) من أنها مسيرة شهرٍ، وكذا قال الحجاري (5) ، وقد سألت المسافرين المحققين عن ذلك فعملوا حساباً بالمراحل الجيدة أفضى إلى نحو شهرٍ بنيفٍ قليلٍ.

قال الحجاري في موضع من كتابه: إن طول الأندلس من الحاجز إلى أشبونة ألف ميلٍ ونيفٍ؛ انتهى.

وبالجملة فالمراد التقريب من غير مشاححة، كما قاله ابن سعيدٍ، وأطال في ذلك، ثم قال بعد كلامٍ: ومسافة الحاجز الذي بين بحر الزّقاق والبحر المحيط أربعون ميلاً، وهذا عرض الأندلس عند رأسها من جهة الشرق، ولقلّته سميت

(1) راجع مروج الذهب 1: 162.

(2)

ابن اليسع: اليسع بن عيسى بن اليسع أبو يحيى صاحب كتاب المعرب في آداب المغرب كتبه بمصر للسلطان صلاح الدين الأيوبي (راجع المغرب 2: 88 والحاشية) .

(3)

أربونة (Narbonne) آخر ما استولى عليه العرب من جهة الساحل الأندلسي الشرقي، وأشبونة هي التي تسمى اليوم لشبونة (Lisbon) أو ليسبوا عاصمة البرتغال.

(4)

يعني الشريف الإدريسي مؤلف كتاب " نزهة المشتاق " لرجار، ملك صقلية.

(5)

صاحب كتاب " المسهب في فضائل المغرب " ألفه لبني سعيد، وهو أبو محمد عبد الله بن إبراهيم وعلى أساس كتابه ألف المغرب. (انظر ترجمته في المغرب 2: 35) .

ص: 127

جزيرة وإلاّ فليست بجزيرة على الحقيقة لاتصال هذا القدر بالأرض الكبيرة، وعرض جزيرة الأندلس في موسطتها (1) عند طليطلة ستة عشر يوماً. واتفقوا على أن جزيرة الأندلس مثلثة الشكل، واختلفوا في الركن الذي في الشرق والجنوب في حيز أربونة، فممن قال إنّه في أربونة وإن هذه المدينة تقابلها مدينة برذيل (2) التي في الركن الشرقي الشمالي أحمد بن محمدٍ الرازي وابن حيّان، وفي كلام غيرهما أنّه في جهة أربونة، وحقق الأمر الشريف، وهو أعرف تلك الجهة لتردده في الأسفار برّاً وبحراً إليها وتفرّغه لهذا الفن.

قال ابن سعيد: وسألت جماعةً من علماء هذا الشأن فأخبروني أن الصحيح ما ذهب إليه الشريف، وأن أربونة وبرشلونة (3) غير داخلتين في أرض الأندلس، وأن الركن الموفي على بحر الزقاق بالمشرق بين برشلونة وطرّكونة في موضعٍ يعرف بوادي رنلقاطو (4) ، وهنالك الحاجز الذي يفصل بن الأندلس (5) والأرض الكبيرة ذات الألسن (6) الكثيرة، وفي هذا المكان جبل البرت الفاصل في الحاجز المذكور وفيه الأبواب التي فتحها ملك اليونانيين بالحديد والنار والخل، ولم يكن للأندلس من الأرض الكبيرة قبل ذلك طريقٌ في البر. وذكر الشريف أن هذه الأبواب يقع في مقابلتها في بحر الزقاق البحر الذي بين جزيرتي ميورقة ومنورقة (7) ، وقد أخبر بذلك جمهور المسافرين لتلك الناحية، ومسافة هذا

(1) ك: موسطها؛ ج: متوسطها.

(2)

برذيل: مدينة في بلاد جليقية وتقع على نهر جرونة، (الروض المعطار: 41) .

(3)

برشلونة (Barcelona) : مدينة بينها وبين طركونة خمسون ميلاً وهي إلى الشمال منها.

(4)

ق ط: زنقلطو، ك: زملقطو؛ ويرى محقق الجزء الأول من الطبعة الأوروبية أن الصواب ربلقاطو (Rubricatus) .

(5)

ج: أرض الأندلس.

(6)

ج: الأنساب.

(7)

ميورقة (Majorca) ومنورقة (وربما كتبت دون واو " منرقة ")(Minorca) أكبر جزيرتين في مجموعة جزائر البليار في البحر المتوسط، وكانتا في عصر ملوك الطوائف تحت حكم مجاهد العامري.

ص: 128

الجبل الحاجز بين الركن الجنوبي والركن الشمالي أربعون ميلاً.

قال: وشمال الركن المذكور عند مدينة برذيل، وهي من مدن الإفرنجة مطلة على البحر المحيط في شماليّ الأندلس، قال: ويتقهقر البر بعد تميز هذا الركن إلى الشمال في بلاد الفرنجة، ولهم به جزائرٌ كثيرةٌ. وذكر أن (1) الركن الشمالي (2) عند شنت ياقوه (3) من ساحل الجلالقة في شمال الأندلس الغربي (4) ، حيث تبتدئ جزيرةٌ برطانيةٌ الكبيرة فيتصوّر هنالك بحرٌ داخلٌ بين أرضين، من الناس من يجعله بحراً منفرداً خارجاً من البحر المحيط لطوله إلى الركن المتقدم الذكر عند مدينة برذيل.

وذكر الشريف أن عند شنت ياقوه (5) في هذا الركن المذكور على جبلٍ بمجمع البحرين صنماً مطلاًّ مشبهاً بصنم قادس.

والركن الثالث بمقربةٍ من جبل الأغر (6) حيث صنم قادس، والجبل المذكور يدخل من غربه مع جنوبه بحر الزقاق من البحر المحيط مارّاً مع ساحل الأندلس الجنوبي إلى جبل البرت المذكور، انتهى؛ والكلام في مثل هذا طويل الذيل.

قال الشيخ أحمد بن محمد بن موسى الرازي (7) : بلد الأندلس هو آخر الإقليم الرابع إلى المغرب، وهو عند الحكماء بلدٌ كريم البقعة، طيب التربة، خصب

(1) ك: ودوكرا من.

(2)

ج: الباقي.

(3)

شنت ياقوه، ويقال فيها شنت ياقوت (Santiago de Compostela) في أقصى الشمال الغربي من شبه جزيرة ايبرية بمنطقة جليقية، وفيها كنيسة مقدسة يحجون إليها.

(4)

الغربي: زيادة من ق ط.

(5)

ق: بابت ياقوة؛ ج ط: بليانت يقوه (ياقوه) .

(6)

ق ك ط ج: الأغن؛ وهذا هو ما لا يزال يسمى " الطرف الأغر "(Trafalgar) ، وقد ذكره ابن حوقل باسم الجبل الأغر.

(7)

أحمد بن محمد بن موسى الرازي: من كبار المؤرخين والجغرافيين الأندلسيين في الفترة الأموية وهو جد عيسى الرازي الذي يعتمده ابن حيان في المقتبس؛ (انظر الجذوة: 97 ومجلة المعهد: 252 - 255 من المجلد 7 - 8) .

ص: 129

الجناب، منبجس بالأنهار (1) الغزار والعيون العذاب، قليل الهوامّ ذوات السّموم، معتدل الهواء والجوّ والنسيم، ربيعه وخريفه ومشتاه ومصيفه على قدرٍ من الاعتدال، وسطةٌ من الحال، لا يتولد في أحدها فضلٌ (2) يتولّد منه فيما يتلوه انتقاصٌ، تتصل فواكهه أكثر الأزمنة وتدوم متلاحقةً غير مفقودةٍ، أمّا الساحل منه ونواحيه فيبادر بباكوره، وأما الثغر وجهاته والجبال المخصوصة ببرد الهواء فيتأخر بالكثير من ثمره، فمادة الخيرات بالبلد متماديةٌ في كل الأحيان، وفواكهه على الجملة غير معدومةٍ في كل أوانٍ؛ وله خواصٌّ في كرم النبات يوافق في بعضها أرض الهند المخصوصة بجواهر الإنبات (3) : منها أن المحلب؟ وهو المقدّم في الأفاويه والمفضّل في أنواع الأشنان؟ لا ينبت بشيءٍ من الأرض إلا بالهند والأندلس؛ والأندلس المدن الحصينة، والمعاقل المنيعة، والقلاع الحريزة، والمصانع الجليلة، ولها البر والبحر، والسهل والوعر، وشكلها مثلثٌ، وهي معتمدةٌ على ثلاثة أركان: الأول هو الموضع الذي فيه صنم قادس المشهور بالأندلس، ومنه مخرج البحر المتوسط الشامي الآخذ بقبليّ الأندلس، والركن الثاني هو بشرقي الأندلس بين مدينة نربونة (4) ومدينة برذيل مما بأيدي الفرنجة اليوم بإزاء جزيرتي ميورقة ومنورقة بمجاورةٍ من البحرين: البحر المحيط والبحر المتوسط، وبينهما البر الذي يعرف بالأبواب، وهو المدخل إلى بلد (5) الأندلس من الأرض الكبيرة على بلد إفرنجة، ومسافته بين البحرين مسيرة يومين، ومدينة نربونة (6) تقابل البحر المحيط، والركن الثالث منها هو ما بين الجوف (7) والغرب من حيز جلّيقيّة، حيث الجبل الموفي على البحر، وفيها الصنم

(1) ك: الأنهار.

(2)

ق ك ج: فصل.

(3)

ك: بكرم النبات وجواهره.

(4)

نربونة: أربونة (Narbonne) . وفي ق ط ك: بريونة.

(5)

ك: بلاد.

(6)

ق ك ط ج: بريونة.

(7)

ق: الجنوب.

ص: 130

العالي المشبه بصنم قادس، وهو الطالع على بلدٍ برطانيةٍ.

قال: والأندلس أندلسان في اختلاف هبوب رياحها ومواقع أمطارها وجريان أنهارها: أندلسٌ غربيٌ، وأندلسٌ شرقيٌ، فالغربي منها ما جرت أوديته إلى البحر المحيط الغربي، ويمطر بالرياح الغربية، ومبتدأ (1) هذا الحوز من ناحية المشرق مع المفازة الخارجة مع الجوف إلى بلد شنتمريّة (2) طالعاً إلى حوز أغريطة المجاورة لطليطلة مائلاً إلى الغرب ومجاوراً للبحر المتوسط الموازي لقرطاجنّة الحلفاء التي من بلد لورقة (3) ، والحوز الشرقي المعروف بالأندلس الأقصى، وتجري (4) أوديته إلى الشرق، وأمطاره بالريح الشرقية، وهو من حدّ جبل البشكنس (5) ، هابطاً مع وادي إبره (6) إلى بلد شنت مرية (7) ، ومن جوف هذا البحر وغربه المحيط، وفي القبلة منه البحر الغربي الذي منه يجري البحر المتوسط الخارج إلى بلد الشام، وهو البحر المسمّى ببحر تيران (8) ، ومعناه الذي يشق دائرة الأرض، ويسمى البحر الكبير، انتهى.

قال أبو بكر عبد الله بن عبد الحكم المعروف بابن النظام (9) : بلد الأندلس

(1) ج: ومنتهى.

(2)

شنتمرية (وتكتب أيضاً: شنت مرية) : يعرف بهذا الاسم مدينتان شنتمرية الغرب (Santa Maria de Algarve) وتسمى اليوم (Faro) وهي بالبرتغال والثانية شنتمرية الشرق وهي السهلة (Albarracin) الأولى وهي المقصورة هنا.

(3)

قرطاجة الحلفاء (Carthagenna)(وكتبها في الروض المعطار وطبعة ليدن: الخلفاء) وهي فرضة مدينة مرسية. أما لورقة (Lorca) فهي من منطقة تدمير، وقد تفتح راؤها.

(4)

ق ط: ومجرى.

(5)

ك: البشكنش.

(6)

ابره (Ebro) نهر ينبع من جبال كنتبرية ويشرق فيصب في البحر المتوسط، ومن أشهر المدن عليه سرقسطة وطرطوشة.

(7)

المراد هنا شنتمرية الشرق.

(8)

تيران (Terran) اختصار لكلمة (Medi - Terran) أو (Mare Terrhenum) أي يتوسط الأرض.

(9)

ابن النظام: ترجم له ابن الأبار في التكملة: 788 ولم يزد على قوله: " كان أديباً إخبارياً تاريخياً يحكي عنه ابن حيان في كتابه، وهو من أهل قرطبة ".

ص: 131

عند علماء أهله أندلسان: فالأندلس الشرقي منه ما صبّت أوديته إلى البحر الرومي المتوسط المتصاعد من أسفل أرض الأندلس إلى المشرق، وذلك ما بين مدينة تدمير (1) إلى سرقسطة، والأندلس الغربي ما صبّت أوديته إلى البحر الكبير المعروف بالمحيط أسفل ذلك (2) الحدّ إلى ساحل المغرب، فالشرقي منهما يمطر بالريح الشرقية، ويصلح عليها، والغربي يمطر بالريح الغربية وبها صلاحه، وجباله هابطةٌ إلى الغرب جبلاً بعد جبلٍ. وإنّما قسمته الأوائل جزأين لاختلافهما في حال أمطارهما، وذلك أنّه مهما استحكمت الريح الغربيّة كثر مطر (3) الأندلس الغربي وقحط الأندلس الشرقي، ومتى استحكمت الريح الشرقية مطر الأندلس الشرقي وقحط الغربي؛ وأودية هذا القسم تجري من الشرق إلى الغرب بين هذه الجبال. وجبال الأندلس الغربي تمتدّ إلى الشرق جبلاً بعد جبلٍ تقطع من الجوف إلى القبلة، والأودية التي تخرج من تلك الجبال يقطع بعضها إلى القبلة وبعضها إلى الشرق، وتنصبّ كلّها إلى البحر المتوسط للأندلس (4) القاطع إلى الشام، وهو البحر الرومي، وما كان من بلاد جوفي الأندلس من بلادٍ جلّيقيّةٍ وما يليها فإن أوديته تنصبّ إلى البحر الكبير المحيط بناحية الجوف. وصفة الأندلس (5) شكلٌ مركنٌ على مثال الشكل المثلث: ركنها الواحد فيما بين الجنوب والمغرب حيث اجتماع البحرين عند صنم قادس، وركنها الثاني في بلدٍ جليّقيّةٍ حيث الصنم المشبه صنم قادس مقابل جزيرةٍ برطانيةٍ، وركنها الثالث بين مدينة نربونة ومدينة برذيل من بلد الفرنجة بحيث يقرب البحر المحيط من البحر الشامي المتوسط، فيكادان يجتمعان في ذلك الموضع،

(1) ط ق: جزيرة تدمير

(2)

ك: أسفل من ذلك.

(3)

ك: كثر مطر.

(4)

ك: المحيط بالأندلس.

(5)

راجع هذا النص عند ابن عذاري 2: 1 (ط. بيروت) . والبكري: الورقة 219.

ص: 132

فيصير بلد الأندلس جزيرةٌ بينهما في الحقيقة، لولا أنّه يبقى بينهما برزخ برية صحراء وعمارة مسافة مسيرة يوم للراكب، منه المدخل إلى الأرض الكبيرة التي يقال لها الأبواب، ومن قبله يتصل بلد الأندلس بتلك البلاد المعروفة بالأرض الكبيرة ذات الألسن المختلفة.

[الأمم التي استوطنت الأندلس]

قال (1) : وأوّل من سكن الأندلس (2) على قديم الأيام فيما نقله الأخباريون (3) من بعد عهد الطوفان على ما يذكره علماء عجمها قومٌ يعرفون بالأندلش (4) - معجمة الشين - بهم سمّي المكان، فعرب فيما بعد بالسين غير المعجمة، كانوا الذين عمروها وتناسلوا فيها وتداولوا ملكها دهراً، على دين التمجس والإهمال والإفساد في الأرض، ثم أخذهم الله بذنوبهم، فحبس المطر عنهم، ووالى القحط عليهم، وأعطش بلادهم حتى نضبت مياهها، وغارت عيونها، ويبست أنهارها، وبادت أشجارها، فهلك أكثرهم، وفرّ من قدر على الفرار منهم، فأقفرت الأندلس منهم، وبقيت خاليةً فيما يزعمون مائة سنةٍ وبضع عشرة سنة (5) ، وذلك من حدّ بلد الفرنجة إلى حدّ بحر الغرب الأخضر، وكان عدّة ما عمرتها هذه الأمة البائدة مائة عامٍ وبضع عشرة سنة. ثمّ ابتعث الله لعمارتها الأفارقة، فدخل إليها بعد إقفارها تلك المدّة الطويلة قومٌ منهم أجلاهم ملك إفريقية

(1) هذا يدل على أن النقل متصل عن ابن النظام، ولكن ما جاء في هذه الفقرة لا يخرج في مجمله عما نقله الحميري عن الرازي (الروض: 4 - 5) إلا أن النص فيه مختصر. وانظر أيضاً ابن عذاري 2: 1.

(2)

ك: بالأندلس.

(3)

ط: نقلته الأخبار.

(4)

عند البكري " الأندليش " و " الأندالش " أي (Vandali) .

(5)

وبضع

سنة: سقطت من ق ط ج.

ص: 133

تخففاً منهم لإمحالٍ توالى على أهل مملكته، وتردد عليهم حتى كاد يفنيهم، فحمل منهم خلقاً في السفن مع قائدٍ من قبله يدعى أبطريقس فأرسوا بريف الأندلس الغربي، واحتلوا بجزيرة قادس، فأصابوا الأندلس قد أمطرت وأخصبت، فجرت أنهارها، وانفجرت عيونها، وحييت أشجارها، فنزلوا الأندلس مغتبطين، وسكنوها معتمرين، وتوالدوا فيها فكثروا واستوسعوا في عمارة الأرض ما بين الساحل الذي أرسوا فيه بغربيها إلى بلد الإفرنجة من شرقيها، ونصّبوا من أنفسهم ملوكاً عليهم ضبطوا أمرهم وتوالوا على إقامة دولتهم، وهم - مع ذلك - على ديانة من قبلهم من الجاهلية، وكانت دار مملكتهم طالقة الخراب اليوم من أرض إشبيلية اخترعها ملوكهم وسكنوها، فاتسق ملكهم بالأندلس مائة وسبعة وخمسين عاماً إلى أن أهلكهم الله تعالى، ونسخهم بعجم رومة، بعد أن ملك من هؤلاء الأفارقة في مدّتهم تلك أحد عشر ملكاً. ثم صار ملك الأندلس بعدهم إلى عجم رومة وملكهم إشبان (1) بن طيطش، وباسمه سميت الأندلس إشبانية، وذكر بعضهم أن اسمه أصبهان فأحيل بلسان العجم، وقيل: بل كان مولده بأصبهان فغلب اسمها عليه، وهو الذي بنى إشبيلية، وكان إشبانية اسماً خالصاً لبلد إشبيلية الذي كان ينزله إشبان (2) هذا، ثم غلب الاسم بعده على الأندلس كلّه، فالعجم إلى الآن يسمونه إشبانية لآثار إشبان هذا فيه، وكان أحد الملوك الذين ملكوا أقطار الدّنيا فيما زعموا، وكان غزا الأفارقة عندما سلّطه الله عليهم في جموعه، ففض عساكرهم، وأثخن فيهم، ونزل عليهم بقاعدتهم طالقة وقد تحصنوا فيها منه، فابتنى عليهم مدينة إشبيلية اليوم، واتصل حصره وقتاله لهم حتى فتحها

(1) ق: إلى أشبان.

(2)

لفظة إسبانيا (Hispania) أقدم اسم أطلق على شبه الجزيرة الأيبرية، وبعضهم يرده إلى أصل فينيقي معناه " ساحل الأرانب البرية " ثم قيل إن ذلك نسبة إلى اشبان (Sphan) وتحرفت الكلمة إلى أصبهان، ومن صيغ الاسم أيضاً (Hispalia) وعرب إلى إشبيلية.

ص: 134

الله عليه، وغلبهم (1) ، واستوت له مملكة الأندلس بأسرها، ودان له من فيها، فهدم مدينة طالقة، ونقل رخامها وآلاتها إلى مدينة إشبيلية، فاستتم بناءها، واتخذها دار مملكته، واستغلظ سلطانه في الأرض، وكثرت جموعه، فعلا وعظم عتوّه، ثم غزا إيليا - وهي القدس الشريف (2) - من إشبيلية بعد سنتين من ملكه، خرج إليها في السفن فغنمها وهدمها، وقتل فيها من اليهود مائة ألفٍ، واسترق مائة ألف وانتقل (3) رخام إيليا وآلاتها إلى الأندلس، وقهر الأعداء، واشتد ّسلطانه. انتهى.

وذكر بعض المؤرخين (4) أن الغرائب التي أصيبت في مغانم الأندلس أيام فتحها كمائدة سليمان عليه الصلاة والسلام التي ألفاها طارق بن زياد بكنيسة طليطلة وقليلة الدر التي ألفاها موسى بن نصير بكنيسة ماردة وغيرهما من طرائف الذخائر إنّما كانت ممّا صار لصاحب الأندلس من غنيمة بيت المقدس، إذ حضر فتحها مع بختنصر، وكان اسم ذلك الملك بريان، وفي سهمه وقع ذلك ومثله ممّا كانت الجن تأتي به نبيّ الله سليمان، على نبيّنا وعليه وعلى جميع الأنبياء (5) الصلاة والسلام. وانتهى.

وقال غير واحدٍ من المؤرخين: كان أهل المغرب الأقصى يضرّون بأهل الأندلس، لاتصال الأرض، ويلقون منهم الجهد الجهيد في كل وقتٍ، إلى أن اجتاز بهم الاسكندر، فشكوا حالهم إليه، فأحضر المهندسين، وحضر إلى الزقاق، فأمر المهندسين بوزن سطح الماء من المحيط والبحر الشامي، فوجدوا المحيط يعلو البحر الشامي بشيء يسير، فأمر برفع البلاد التي على ساحل البحر

(1) وغلبهم: سقطت من ق ج ط.

(2)

وهي

الشريف: سقطت من ق ج.

(3)

ك: ونقل.

(4)

انظر تتمة النص عن الرازي في الروض المعطار: 5 وابن عذاري 2: 2 - 3.

(5)

ق: الأنبياء والمرسلين.

ص: 135

الشامي، ونقلها من الحضيض إلى الأعلى، ثمّ أمر بحفر ما بين طنجة وبلاد الأندلس من الأرض، فحفرت حتى ظهرت الجبال السفلية، وبنى عليها رصيفاً بالحجر والجيار بناءً محكماً وجعل طوله اثني عشر ميلاً، وهي المسافة التي كانت بين البحرين، وبنى رصيفاً آخر يقابله من ناحية طنجة، وجعل بين الرصيفين سعة ستة أميالٍ، فلمّا كمل الرصيفان حفر من جهة البحر الأعظم، وأطلق فم الماء بين الرصيفين، فدخل في البحر الشامي، ثم فاض ماؤه فأغرق مدناً كثيرةً، وأهلك أمماً عظيمةً كانت على الشطين، وطفا الماء على الرصيفين إحدى عشرة قامةٍ، فأمّا الرصيف الذي يلي بلاد الأندلس فإنّه يظهر في بعض الأوقات إذا نقص الماء ظهوراً بيّناً مستقيماً على خطٍ واحدٍ، وأهل الجزيرتين يسمونه القنطرة، وأما الرصيف الذي (1) من جهة العدوة فإن الماء حمله في صدره، واحتفر ما خلفه من الأرض اثني عشر ميلاً، وعلى طرفه من جهة المغرب قصر الجواز وسبتة وطنجة، وعلى طرفه من الناحية الأخرى جبل طارق بن زياد وجزيرة طريف وغيرهما والجزيرة الخضراء، وبين سبتة والجزيرة الخضراء عرض البحر. انتهى ملخصاً، وقد تكرّر بعضه مع ما جلبناه، والعذر بيّنٌ لارتباط الكلام بعضه ببعضٍ.

[موقع الأندلس من الأقاليم]

وقال ابن سعيد: ذكر الشريف أن لا حظّ لأرض الأندلس في الإقليم الثالث، قال: ويمر بجزيرة الأندلس من الأقاليم الرابع (2) على ساحلها الجنوبي وما قاربه من قرطبة وإشبيلية ومرسية وبلنسية، ثم يمر على جزيرة صقلية وعلى ما في سمتها من الجزائر، والشمس مدبّرة له.

(1) الذي: سقطت من ق ط ج.

(2)

ك: الإقليم الرابع.

ص: 136

والإقليم الخامس يمر على طليطلة وسرقسطة وما في سمتها إلى بلاد أرغون التي في جنوبيها برشلونة، ثم يمر على رومية وبلادها، ويشق بحر البنادقة، ثم يمر على القسطنطينية، ومدبّرته الزّهرة.

والسادس يمر على ساحل الأندلس الشمالي الذي على البحر المحيط وما قاربه وبعض البلاد الداخلة في قشتالة وبرتقال وما في سمتها، وعلى بلاد برجان والصقالبة والروس، ومدبّره عطارد.

ويمر الإقليم السابع في البحر المحيط الذي في شماليّ الأندلس إلى جزيرة انقلطرة (1) وغيرها من الجزائر وما في سمتها من بلاد الصقالبة وبرجان. قال البيهقي: وفيه تقع جزيرة تولى وجزيرتا أجبال والنساء وبعض بلاد الروس الداخلة (2) في الشمال والبلغار، ومدبّره القمر، انتهى.

وقال بعض العلماء: إنّ النصارى حرموا جنّة الآخرة فأعطاهم الله جنّة الدّنيا بستاناً متصلاً من البحر المحيط بالأندلس إلى خليج القسطنطينية، وعندهم عموم شاه بلوط والبندق والجوز والفستق وغير ذلك ممّا يكون أكثر وأمكن في الأقاليم الباردة، والتمر عندهم معدومٌ، وكذا الموز وقصب السكر، وربما يكون شيءٌ من ذلك في الساحل، لأن هواء البحر يدفئ، انتهى.

[رجع إلى الأمم التي استوطنتها]

قال ابن حيّان في المقتبس (3) : ذكر رواة العجم أن الخضر عليه السلام وقف بإشبان (4) المذكور وهو يحرث الأرض بفدنٍ له أيام حراثته، فقال له:

(1) ك ق ط: انقطرة؛ ج: القنطرة، ويبدو أن " أنقطرة " هي الصورة الشائعة للاسم.

(2)

الداخلة: سقطت من ك.

(3)

انظر الروض المعطار: 5.

(4)

ك: على اشبان.

ص: 137

يا إشبان، إنّك لذو شانٍ، وسوف يحظيك زمانٌ، ويعليك سلطانٌ، فإذا أنت غلبت على إيليا فارفق بذرية الأنبياء، فقال له إشبان: أساخرٌ (1) رحمك الله؟ أنّى يكون هذا مني وأنا ضعيفٌ ممتهنٌ حقيرٌ فقيرٌ ليس مثلي ينال السلطان؟ فقال له: قد قدّر ذلك فيك من قدّر في عصاك اليابسة ما تراه، فنظر إشبان إلى عصاه، فإذا بها قد أورقت، فريع لما رأى من الآية، وذهب الخضر عنه، وقد وقع الكلام بخلده، ووقرت في نفسه الثقة بكونه، فترك الامتهان من وقته، وداخل الناس، وصحب أهل البأس منهم، وسما به جدّه فارتقى في طلب السلطان حتى أدرك منه عظيماً، وكان منه ما كان. ثم أتى عليه ما أتى على القرون قبله، وكان ملكه كلّه عشرين سنةً، وتمادى ملك الإشبانيين بعده إلى أن ملك منهم الأندلس خمسة وخمسون ملكاً.

ثمّ دخل على هؤلاء الإشبانيين (2) من عجم رومة أمّة يدعون البشتولقات (3) ، وملكهم طلوبش (4) بن بيطه، وذلك زمن بعث المسيح بن مريم عليه السلام، أتوا الأندلس من قبل رومة، وكانوا يملكون إفرنجة معها، ويبعثون عمالهم إليها، فاتخذوا دار مملكتهم بالأندلس مدينة ماردة، واستولوا على مملكة الأندلس، واتصل ملكهم بها مدّة إلى أن ملك منهم سبعةٌ وعشرون ملكاً.

ثم دخل على هؤلاء البشتولقات أمة القوط مع ملكٍ لهم، فغلبوا على الأندلس، واقتطعوها من يومئذ من صاحب رومة، وتفرّدوا بسلطانهم، واتخذوا مدينة طليطلة دار مملكتهم، وأقروا بها سرير ملكهم، فبقي بإشبيلية علم الإشبانيين ورياسة أوليتهم.

وقد كان عيسى المسيح (5) عليه السلام، بعث الحواريين في الأرض يدعون

(1) ك: أساخر بي.

(2)

ط ق ج: الاشبان.

(3)

في الروض: الشبونقات، وفي ابن عذاري: البشترلقات؛ وفي ط: البشتونقات.

(4)

ج: طلويش.

(5)

ق: عيسى بن مريم؛ ج: المسيح عيسى.

ص: 138

الخلق إلى ديانته، فاختلف الناس عليهم، وقتلوا بعضهم، واستجاب لهم كثيرٌ منهم، وكان من أسرعهم إجابةً لمن جاءه من هؤلاء (1) الحواريين خشندش (2) ملك القوط، فتنصر، ودعا قومه إلى النصرانية، وكان من صميم أعاظمهم وخير من تنصر من ملوكهم، وأجمعوا على أنّه لم يكن فيهم أعدل منه حكماً، ولا أرشد رأياً، ولا أحسن سيرةً، ولا أجود تدبيراً، فكان الذي أصّل النصرانية في مملكته، ومضى أهلها على سنّته إلى اليوم، وحكموا بها، والإنجيلات في المصاحف (3) الأربعة التي يختلفون فيها من انتساخه وجمعه وتثقيفه، فتناسقت ملوك القوط بالأندلس بعده إلى أن غلبتهم العرب عليها، وأظهر الله تعالى دين الإسلام على جميع الأديان.

فوقع في تواريخ العجم القديمة أن عدّة ملوك هؤلاء القوط بالأندلس من عهد أتاناوينوس الذي ملك في السنة الخامسة من مملكة فلبش القيصري لمضي أربعمائةٍ وسبع من تاريخ الصفر المشهور عند العجم إلى عهد لذريق آخرهم الذي ملك في السنة التاسعة والأربعين وسبعمائةٍ من تاريخ الصفر، وهو الذي دخلت عليه العرب فأزالت دولة القوط، ستةٌ وثلاثون ملكاً، وأن مدّة أيام ملكهم (4) بالأندلس ثلاثمائةٍ واثنتان وأربعون سنةً، انتهى.

وقال جماعة: إن القوط غير البشتولقات، وإن البشتولقات من عجم رومة، وإنهم جعلوا دار ملكهم ماردة، واتصل ملكهم إلى أن ملك منهم سبعةٌ وعشرون ملكاً، ثم دخل عليهم القوط، واتخذوا طليطلة دار مملكةٍ، ثم ذكر تنصر ملكهم خشندش مثل ما تقدّم، ثم ذكر أن عدّة ملوك القوط ستةٌ ثلاثون ملكاً.

(1) هؤلاء: سقطت من ق.

(2)

الروض المعطار: دخشوش، وفي بعض أصوله " خنشوش "؛ وفي ابن عذاري: وخشندش.

(3)

الروض: والمصاحف.

(4)

ق: مدة ملكهم.

ص: 139

وذكر الرازي أن القوط من ولد يأجوج بن يافث بن نوح، وقيل غير ذلك، انتهى.

[مناخها وخيراتها]

وقال (1) الرازي في موضعٍ آخر نحو ما تقدم وزيادة، ونصّه: أن الأندلس في آخر الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة (2) التي هي ربع معمور الدنيا فهي موسطةٌ من البلدان، كريمة البقعة، بطبع الخلقة، طيبة التربة، مخصبة القاعة، منبجسة العيون الثّرار، منفجرة بالأنهار (3) الغزار، قليلة الهوام ذوات السموم، معتدلة الهواء أكثر الأزمان لا يزيد قيظها زيادة منكرة تضر بالأبدان وكذا سائر فصولها في أعم سنيها تأتي على قدر من الاعتدال وتوسّط من الحال، وفواكهها تتصل طول الزمان فلا تكاد تعدم، لأن الساحل ونواحيه يبادر بباكوره، كما أن الثغر وجهاته والجبال التي يخصّها برد الهواء وكثافة الجوّ تستأخر بما فيها من ذلك، حتى يكاد طرفا فاكهتها يلتقيان، فمادة الخيرات فيها متصلةٌ كلّ أوانٍ. ومن بحرها بجهة الغرب يخرج العنبر الجيد المقدّم على أجناسه في الطيب والصبر على النار، وبها شجر المحلب المعدود في الأفاويه المقدم في أنواع الأشنان كثيرٌ واسعٌ، وقد زعموا أنّه لا يكون إلا بالهند وبها فقط، ولها خواصٌ نباتيةٌ يكثر تعدادها، انتهى.

وقد ذكر غيره تفصيل بعض ذلك فقال (4) : يوجد في ناحية دلاية من إقليم

(1) ك: وذكر.

(2)

زاد بعد لفظة السبعة في ك: التي تقدم ذكرها.

(3)

ك: الأنهار.

(4)

ورد كثير من هذا النص في كتاب عنوانه " ذكر بلاد الأندلس " لمؤلف مجهول، وهو بالخزانة العامة بالرباط رقم (ج؟: 85) وسنعارض به النص الذي جاء في النفح متخذين رمزه (مخطوط الرباط) والنص يشغل الصفحات 7 - 10؛ وانظر أيضاً الإحاطة 1: 104 - 105 فهناك تشابه بين النصين.

ص: 140

البشرة (1) عود الألنجوج، لا يفوقه العود الهندي ذكاءً وعطر رائحةٍ، وقد سيق منه إلى خيران الصقلبي صاحب المرية (2) ، وأن أصل منبته كان بين أحجارٍ هنالك، وبأكشونبة (3) جبلٌ (4) كثيراً ما يتضوّع، ريحه ريح العود الذكي إذا أرسلت فيه النار، وببحر شذونة (5) يوجد العنبر الطيب الغربي، وفي جبل منت ليون (6) المحلب، ويوجد بالأندلس القسط الطيب، والسنبل الطيب، والجنطيانة تحمل من الأندلس إلى جميع الآفاق، وهو عقارٌ رفيعٌ (7) ، والمر الطيب بقلعة أيوب (8) ، وأطيب كهرباء الأرض (9) بشذونة، درهمٌ منها يعدل دراهم من المجلوبة، وأطيب القرمز قرمز الأندلس، وأكثر ما يكون بنواحي إشبيلية ولبلة وشذونة وبلنسية، ومن الأندلس يحمل إلى الآفاق، وبناحية

(1) دلاية (Dalias) : من عمل المرية؛ والبشرية أو البشرات أو البشارات (Alpujarras) هي منطقة جبال سير انفادا، وفي مخطوط الرباط " من كورة تدمير " والتحديد واحد وإن اختلفت التسمية، فتدمير هو القديم لكور ة مرسية (Murcia) .

(2)

خيران الصقلبي من أوائل الفتيان الذين أعلنوا استقلالهم بعد أنهيار الدولة الأموية بالأندلس على أثر الفتنة البربرية (399) واتخذ المرية مركزاص له. راجع أعمال الأعلام: 210 - 215.

(3)

اكشونبة - بالياء الموحدة بعد النون - (Ocsonoba)(كتبت في ك ق ط أكشونية حيثما وقعت) . مدينة وكورة تتصل بأحواز الأشبونة وتحتل الركن الغربي الجنوبي من شبه الجزيرة، ولها عدة حصون وأقاليم وأشهر مدنها شلب.

(4)

مخطوط الرباط: يعرف بجبل الخفة (أو الخنة) .

(5)

شذونة (Medina Sidonia) : كورة متصلة بكورة مورور، نزلها جند فلسطين من العرب، وهي في الطرف الجنوبي من شبه إلجزيرة إلى الشمال الغربي من الجزيرة الخضراء.

(6)

مخطوط الرباط: منتلون (Mentileon) وتتمة النص: المحلب الذي لا يعدل به غيره.

(7)

القسط (أو القسطس) عود هندي وعربي يتداوى به، والهندي غليظ أسود مر المذاق والعربي أبيض خفيف قوي الرائحة؛ والسنبل هو سنبل الطيب ويسمى أيضاً: العصافير، وقال ابن الحشاء: والرومي منه غير محقق بالمغرب. والحنطيانة - ويكتب بالألف بدل الهاء - نبات لا يوجد بالمغرب إلا بجبال غرناطة. وفي مخطوط الرباط: وهو عقار رفيع يوجد بلبلة؛ وزاد فيه: " والبر باريس العجيب يوجد بنواحي المنتلون ".

(8)

قلعة أيوب (Caltayud) وهي بقرب مدينة سالم وبينها وبين دروقة ثمانية عشر ميلا.

(9)

كهرباء الأرض: مادة صمغية توجد عند سواحل البحر بالأندلس، وخاصة عند أصول الدوم، والنوع الأندلسي منها أصغر وأصلب من المشرقي، وتدخل في تحضير بعض أنواع الأدوية.

ص: 141

لورقة من عمل تدمير يكون حجر اللازورد الجيد، وقد يوجد في غيرها، وعلى مقربة من حصن لورقة (1) من عمل قرطبة معدن البلور، وقد يوجد بجبل شحيران وهو شرقي يبره، والحجر البجادي (2) يوجد بناحية مدينة الأشبونة في جبلٍ هنالك يتلألأ فيه ليلاً كالسراج، والياقوت الأحمر يوجد بناحية حصن منت ميور (3) من كورة مالقة إلاّ أنّه دقيق جدّاً لا يصلح للاستعمال لصغره، ويوجد حجرٌ يشبه الياقوت الأحمر بناحية بجّانة (4) في خندق يعرف بقرية ناشرة (5) أشكالاً مختلفةً كأنّه مصبوغٌ، حسن اللون، صبور على النار، وحجر المغناطيس الجاذب للحديد يوجد في كورة تدمير، وحجر الشاذنة بجبل قرطبة كثير، ويستعمل في دلك التذاهيب (6) ، وحجر اليهودي في ناحية حصن البونت (7) ، وهو أنفع شيءٍ للحصاة، وحجر المرقشيثا (8) الذهبية في جبال أبّذة (9) لا نظير لها في الدنيا، ومن الأندلس تحمل إلى جميع الآفاق لفضلها، والمغنيسيا بالأندلس كثير، وكذلك حجر الطّلق (10) ، ويوجد حجر اللؤلؤ بمدينة برشلونة إلاّ أنّه جامد اللون، ويوجد المرجان بساحل بيرة من عمل المرية (11) ،

(1) ك: حضرة لورقة.

(2)

ك: حجر النجادي، ط: النجاد، وفي دوزي: البيجادي. وفي الجماهر: البيجاذي.

(3)

مخطوط الرباط: متيور.

(4)

بجانة: مدينة كانت من أهم قرى أرش اليمن أي الأقاليم الذي نزل عليه بنو سراج القضاعيون وكانوا يأخذون أرشه، وهي قريبة من المرية بينهما ستة أميال، وقال ابن سعيد: محدثة بنيت في عهد بني أمية.

(5)

مخطوط الرباط: في خندق بغربي قرية ناشر، وأظنه أصوب.

(6)

الشاذنة: حجر يستعمل في مداواة العين وخشونة الأجفان، أما التذاهب فلم يلح لي معناها.

(7)

حصن البونت (Alpuente) : شمال غربي بلنسية.

(8)

المرقشيثا من المعادن الكبريتية (وتصحفت الكلمة في الأصول) .

(9)

أيذة (Ubeda) : إلى الشمال الشرقي من بياسة، بينهما سبعة أميال.

(10)

حجر الطلق: حجر براق يتحلل إذا دق إلى طاقات صغار دقاق ويشبه الشب اليماني، وإذا ألقي في النار لم يحترق، ولذلك كانوا يطلون به المواضع التي قد تصيبها النار لكي لا تحترق.

(11)

المرية (Almeria) : مدينة بنيت أيام عبد الرحمن الناصر وازدهرت في أيام المرابطين واشتد فيها الرخاء، وتقع على الساحل الشرقي إلى الجنوب الشرقي من بجانة.

ص: 142

أقلّ (1) ما لقط منه من شهر نحو ثمانين ربعاً، ومعدن الذهب بنهر لاردة يجمع منه كثير، ويجمع أيضاً في ساحل الأشبونة، ومعادن الفضة في الأندلس كثيرةٌ في كورة تدمير وجبال حمّة بجّانة (2) ، وبإقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل، وبأكشونبة معدن القصدير لا نظير له يشبه الفضّة، وله معادن بناحية إفرنجة وليون، ومعدن الزئبق في جبل البرانس، ومن هنالك يتجهز به إلى الآفاق، ومعادن الكبريت الأحمر والأصفر بالأندلس كثيرةٌ، ومعدن التوتيا الطبية بساحل إلبيرة بقرية تسمى بطرنة (3) ، وهي أزكى توتيا وأقواها في صبغ النحاس، وبجبال قرطبة توتيا، وليست كالبطرينة، ومعدن الكحل المشبه بالأصفهاني بناحية مدينة طرطوشة (4) يحمل منها إلى جميع البلاد، ومعادن الشبوب والحديد والنحاس بالأندلس أكثر من أن تحصى، وما ذكرت هنا وإن تكرّر بعضه مع ما سبق أو يأتي فهو لجمع النظائر، وما لم نذكره أكثر، والله تعالى أعلم.

ومن خواص طليطلة: أن حنطتها لا تتغير ولا تتسوّس على طول السنين، يتورثها الخلف عن السلف، وزعفران طليطلة هو الذي يعم البلاد ويتجهز به الرفاق إلى الآفاق، وكذلك الصبغ السماوي، انتهى.

وقال المسعودي في " مروج الذهب " بعد كلامٍ ما نصّه: والعنبر كثيرٌ ببحر الأندلس، يجهز إلى مصر وغيرها، ويحمل إلى قرطبة من ساحلٍ لها يقال

(1) أقل: سقطت من ج ط ك.

(2)

جاء في الروض المعطار: وبشرقي بجانة على ثلاثة أميال جبال شامخ فيه معادن غريبة وفيه الحمة العجيبة الشأن

الخ.

(3)

البيرة (Elvira) كورة نزلها جند دمشق، وكانت مدينة البيرة قريبة من غرناطة، بينهما ستة أميال؛ أما بطرنة فقد عدها ابن سعيد من قرى بلنسية (المغرب 2: 355) .

(4)

طرطوشة (Tortosa) من مدن الثغر الأعلى ينسب إليها أبو الوليد الطرطوشي نزيل الإسكندرية وصاحب " سراج الملوك ".

ص: 143

له شنترين (1) وشذونة، تبلغ الأوقية منه بالأندلس ثلاثة مثاقيلٍ ذهباً، والوقية بالبغدادي وتباع بمصر بعشرة دنانير (2) ، وهو عنبرٌ جيّدٌ، ويمكن أن يكون هذا العنبر الواقع إلى بحر الروم ضربته الأمواج من بحر الأندلس إلى هذا البحر لاتصال الماء. وبالأندلس معدنٌ عظيمٌ للفضّة، ومعدنٌ للزئبق ليس بالجيّد يجهز إلى سائر بلاد (3) الإسلام والكفر، وكذلك يحمل من بلاد الأندلس الزعفران وعروق الزنجبيل وأصول الطيب خمسة أصناف: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، وكلها تحمل من أرض الهند وما اتصل بها إلاّ الزعفران والعنبر، انتهى، وهو وإن تكرّر مع ما ذكرته عن غيره فلا يخلو من فائدةٍ، والله تعالى أعلم.

وذكر البعض أن في بعض (4) بلاد الأندلس جميع المعادن الكائنات عن النيرات السبعة وهي: الرصاص من زحل، والقصدير الأبيض من المشتري، والحديد من قسم المريخ، والذهب من قسم الشمس، والنحاس من الزهرة، والزئبق من عطارد، والفضة من القمر.

[الأندلسيون والأمم المجاورة]

وذكر الكاتب إبراهيم بن القاسم القروي المعروف بالرقيق (5) بلد

(1) شنترين (Santarem) مدينة معدودة في كورة باجة من منطقة الغرب أي البرتغال وتبعد 67 كيلومتراً عن الاشبونة شمالاً.

(2)

ك: بعشرين ديناراً.

(3)

بلاد: سقطت من ط ق.

(4)

بعض: سقطت من ك.

(5)

الرقيق، إبراهيم بن القاسم القروي: نسبة إلى القيروان؛ مؤرخ أديب تولى الكتابة في الدولة الصنهاجية، ثم رحل إلى مصر 388 بهدية من زيري بن باديس إلى الحاكم، وقد أثنى عليه ابن خلدون في مقدمته بقوله:" مؤرخ أفريقية والدول التي كانت بالقيروان ولم يأت من بعده إلا مقلد "(انظر الأعلام للزركلي 1: 51 والمصادر في الحاشية) .

ص: 144

الأندلس، فقال: أهله أصحاب جهادٍ متصلٍ يحاربون من أهل الشرك المحيطين بهم أمّةً يدعون الجلالقة يتاخمون حوزهم ما بين غربٍ إلى شرقٍ، قومٌ لهم شدّةٌ ولهم جمالٌ وحسن وجوهٍ، فأكثر رقيقهم الموصوفين بالجمال والفراهة منهم ليس بينهم وبينهم دربٌ، فالحرب متصلةٌ بينهم، ما لم تقع هدنةٌ؛ ويحاربون بالأفق الشرقي أمّةٌ يقال يهم الفرنجة هم أشد عليهم من جميع من يحاربونه من عدوّهم، إذ كانوا خلقاً عظيماً في بلادٍ كثيرةٍ واسعةٍ جليلةٍ متصلة العمارة آهلةٍ تدعى الأرض الكبيرة، هم أكثر عدداً من الجليقيين وأشد بأساً وأحد شوكة وأعظم أمداداً (1) ، وهذه الأمّة يحاربون أمّة الصقالبة المتصلين بأرضهم لمخالفتهم إياهم في الديانة فيسبونهم ويبيعون رقيقهم بأرض الأندلس، فلهم هنالك (2) كثرةٌ، وتخصيهم للفرنجة يهود ذمتّهم الذين بأرضهم، وفي ثغر المسلمين المتصل بهم، فيحمل خصيانهم من هنالك إلى سائر البلاد، وقد تعلّم الخصاء قومٌ من المسلمين هناك، فصاروا يخصون ويستحلّون المثلة.

[بحر المجاز]

قال ابن سعيد: ومخرج بحر الروم المتصاعد إلى الشام هو بساحل الأندلس الغربي بمكانٍ يقال له الخضراء ما بين طنجة من أرض المغرب وبين الأندلس فيكون مقدار عرضه هناك كما (3) زعموا ثمانية عشر ميلاً، وهذا عرض جزيرة طريف إلى قصر مصمودة بالقرب من سبتة، وهناك كانت القنطرة التي يزعم الناس أن الاسكندر بناها ليعبر عليها من بر الأندلس إلى بر العدوة،

(1) قارن هذا بقول ابن حوقل في الفرنجة: " غير أن الذي يلي المسلمين منهم ضعيفة شوكتهم، قليلة عدتهم وعدتهم

والجلالقة أحسن وأصدق محاسن وأقل طاعة وأشد بأساً وقوة وبسالة ". (صورة الأرض: 106) .

(2)

ط: بذلك؛ ج: لذلك.

(3)

كما: زيادة من ك.

ص: 145

ويعرف هذا الموضع بالزقاق، وهو صعب المجاز لأنّه مجمع البحرين لا تزال الأمواج تتطاول فيه والماء يدور، وطول هذا الزقاق الذي عرضه ثمانية عشر ميلاً مضاعف ذلك إلى ميناء سبتة، ومن هناك يأخذ البحر في الاتساع إلى ثمانمائة ميلٍ وأزيد، ومنتهاه مدينة صور من الشام، وفيه عددٌ عظيمٌ من الجزائر. قال بعضهم: إنها ثمانٍ وعشرون جزيرة منها صقلية ومالطة (1) وغيرهما، انتهى، وبعضه بالمعنى. وقال بعضهم (2) عند وصفه بحر الزقاق قرب سبتة، ما صورته: ثم يتّسع كلّما امتد حتى يصير إلى ما لا ذرع له ولا نهاية.

[نبذة عن خراجها]

وقال بعضهم: وكان مبلغ خراج الأندلس الذي كان يؤدى إلى ملوك بني أميّة قديماً ثلاثمائة ألف دينار دراهم أندلسية كل سنةٍ قوانين، وعلى كل مدينةٍ من مدائنهم ماٌ معلومٌ، فكانوا يعطون جندهم ورجالهم الثلث من ذلك مائة ألف دينار، وينفقون في أمورهم ونوائبهم ومؤن أهليهم مائة ألف دينار، ويدّخرون لحادث أيامهم مائة ألف دينار، انتهى.

وذكر غيره أن الجباية كانت بالأندلس أيام عبد الرحمن الأوسط ألف ألف دينارٍ في السنة، وكانت قبل ذلك (3) لا تزيد على ستمائة ألف، حكاه ابن سعيد، وقال: إن الأندلس مسيرة شهرٍ مدنٌ وعمائرٌ.

(1) ق ط ج: وجزيرة مالطة.

(2)

ق ط: وقال غيره.

(3)

ذلك: زيادة في ك.

ص: 146

[خبر ابن خلدون عن الأمم التي استوطنتها]

وقال قاضي القضاة ابن خلدون الحضرمي في تاريخه الكبير، ما صورته (1) : كان هذا القطر الأندلسي من العدوة الشمالية من عدوتي البحر الرومي وبالجانب الغربي منها يسمى عند العجم الأندلوش، وتسكنه أممٌ من إفرنجة المغرب أشدهم وأكثرهم الجلالقة، وكان القوط قد تملّكوه وغلبوا على أهله لمئين من السنين قبل الإسلام، بعد حروبٍ كانت لهم مع اللطينيين حاصروا فيها رومة ثم عقدوا معهم السلم على أن ينصرف القوط إلى الأندلس، فصاروا إليها وملكوها. ولما أخذ الروم واللطينيون بملة النصرانية حملوا من وراءهم بالمغرب من أمم الفرنجة والقوط عليها فدانوا بها، وكان ملوك القوط (2) ينزلون طليطلة، وكانت دار ملكهم، وربما تنقلوا ما بينها وبين قرطبة وإشبيلية وماردة، وأقاموا كذلك نحواً من أربعمائة سنة إلى أن جاء الله بالإسلام والفتح، وكان ملكهم لذلك العهد يسمى لذريق، وهو سمةٌ لملوكهم، كما هو جرجير (3) سمةٌ لملوك صقلية، انتهى.

[شيءٌ عن غرناطة وأعمالها]

ومن أشهر بلاد الأندلس غرناطة، وقيل: إن الصواب أغرناطة - بالهمز - ومعناه بلغتهم الرّمّانة، وكفاها شرفاً ولادة لسان الدين بها.

وقال الشقندي (4) : أما غرناطة فإنها دمشق بلاد الأندلس، ومسرح

(1) انظر العبر 4: 116 - 117.

(2)

ملوك: سقطت من ق.

(3)

جرجير: (Gregorius) ؛ وفي ك: كما أن جرجير.

(4)

الشقندي أبو الوليد إسماعيل بن محمد (- 629) صاحب كتاب اطرف ورسالة مشهورة في تفضيل الأندلس على بر العدوة، عارض بها أبا يحيى صهر ناصر بني عبد المؤمن، وقد احتفظ بها المقري في النفح في الباب السابع من القسم الأول، وهذا النص منها مأخوذ على سبيل الاختصار. (انظر ترجمة الشقندي في المغرب 1: 213) .

ص: 147

الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشرافٍ أماثلٍ، وعلماءٍ أكابرٍ، وشعراءٍ أفاضلٍ، انتهى؛ ولو لم يكن لها إلى ما خصّها الله تعالى به من المرج الطويل العريض ونهر شنيل لكفاها.

وفي بعض كلام لسان الدين ما صورته: وما لمصر تفخر بنيلها وألفٌ منه في شنيلها (1) ؟ يعني أن الشين عند أهل المغرب عددها ألف، فقولنا شنيل إذا اعتبرنا عدد شينه أن كان ألف نيل، انتهى؛ وفيها قيل:

غرناطة ما لها نظيرٌ

ما مصر ما الشام ما العراق؟

ما هي إلى العروس تجلى

وتلك من جملة الصّداق وتسمى كورة إلبيرة التي منها غرناطة، دمشق، لأن جند دمشق نزولها عند الفتح، وقيل: وإنما سميت بذلك لشبهها بدمشق في غزارة الأنهار، وكثرة الأشجار، حكاه صاحب مناهج الفكر (2)، قال: ولما استولى الفرنج على معظم بلاد الأندلس انتقل أهلها إليها فصارت المصر المقصود، والمعقل الذي تنضوي إليه العساكر والجنود. ويشقّها نهرٌ عليه قناطر يجاز عليها، وفي قبليها جبل شلير (3) ، وهو جبلٌ لا يفارقه الثلج صيفاً وشتاءً، وفيه سائر النبات الهندي، لكن ليس فيه خصائصه، انتهى.

ومن أعمال غرناطة قطر لوشة (4) ، وبها معدن للفضة جيدٌ، ومنها، أعني لوشة، أصل لسان الدين بن الخطيب. وهذا القطر ضخمٌ ينضاف إليه من الحصون

(1) شنيل (أو سنجيل) هو نهر غرناطة، كما سيأتي بعد سطور، وهو يصب في نهر الوادي الكبير.

(2)

سنعرف به فيما يلي ص: 159.

(3)

شلير أو جبل الثلج هو ما يسمى سير انفادا، وشلير من اللاتينية (Solarius) أي المشمس، لانعكاس أشعة الشمس على ثلوجه، أما سير انفادا فتعني الجبال الثلجية.

(4)

لوشة (Loja) على بعد خمسة وخمسين كيلومتراً إلى الغرب من غرناطة.

ص: 148

والقرى كثيرٌ، وقاعدته لوشة، بينها وبين غرناطة مرحلة، وهي ذات أنهارٍ (1) وأشجارٍ، وهي على نهر غرناطة الشهير بشنيل.

ومن أعمال غرناطة الكبار عمل باغه (2) ، والعامة يقولون بيغه، وإذا نسبوا إليه قالوا بيغي، وقاعدته باغه طيبة الزرع، كثيرة الثمار، غزيرة المياه، ويجود فيها الزعفران.

ومن أعمال غرناطة وادي آش (3)، ويقال: وادي الأشات. وهي مدينة جليلة قد أحدقت بها البساتين والأنهار، وقد خص الله أهلها بالأدب وحب الشعر، وفيها يقول أبو الحسن بن نزار (4) :

وادي الأشات يهيج وجدي كلّما

أذكرت ما قضّت (5) بك النعماء

لله ظلّك والهجير مسلّطٌ

قد برّدت لفحاته الأنداء

والشمس ترغب أن تفوز بلحظةٍ

منه فتطرف طرفها الأفياء

والنهر يبسم بالحباب كأنّه

سلخٌ نضته حيّةٌ رقشاء

فلذاك تحذره الغصون فميلها

أبداً على جنباته إيماء ومن أعمال وادي آش حصن جليانة، وهو كبيرٌ يضاهي المدن، وبه التفاح الجلياني الذي خص الله به ذلك الموضع (6) ، يجمع عظم الحجم وكرم الجوهر وحلاوة الطعم وذكاء الرائحة والنقاء، وبين الحصن المذكور ووادي

(1) أنهار: سقطت من ج.

(2)

باغة (Priego) بلدة تقع إلى الشمال من لوشة في ولاية جيان.

(3)

وادي آش (أو وادي الأشات Guadix) تقع على نهر ينحدر من جبل شلير عند السفح الشمالي لجبل الثلج (سير انفادا) ، قريباً من غرناطة على بعد 53 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي منها.

(4)

سيترجم له المقري، وله موشحة في المغرب 2: 147، ويقول فيه ابن سعيد: حسيب وادي آش (2: 264) .

(5)

ك: أفضت.

(6)

المغرب 2: 148 خصه (أي حصن جليانة Juliana) الله بالتفاح الذي يضرب به المثل في الأندلس؛ ويذكر ابن سعيد أن بني البراق كانوا أعيان هذا الحصن.

ص: 149

آش اثنا عشر ميلاً.

ومن غرائب الأندلس أن به شجرتين من شجر القسطل، وهما عظيمتان جدّاً إحداهما بسند وادي آش (1) والأخرى ببشرة غرناطة، في جوف كل واحدةٍ منهما حائكٌ ينسج الثياب، وهذا أمرٌ مشهورٌ قاله أبو عبد الله بن جزيّ وغيره.

وكانت إلبيرة هي المدينة قبل غرناطة، فلمّا بنى الصّنهاجي (2) مدينة غرناطة وقصبتها وأسوارها انتقل الناس إليها، ثم زاد في عمارتها ابنه باديس بعده.

[شهرة سرقسطة وبرجة ومالقة وأشبونة]

وذكر غير واحدٍ (3) أن في كورة سرقسطة الملح الأندارني الأبيض الصافي الأملس الخالص، وليس في الأندلس موضعٌ فيه مثل هذا الملح.

قال: وسرقسطة بناها قيصر ملك رومة الذي تؤرخ من مدته مدة الصفر قبل مولد المسيح على نبيّنا وعليه وعلى سائر الأنبياء (4) الصلاة والسلام، وتفسير اسمها قصر السيد، لأنّه اختار ذلك المكان بالأندلس.

وقيل: إن موسى بن نصير شرب من ماء نهر جلّق بسرقسطة فاستعذبه، وحكم أنّه لم يشرب بالأندلس أعذب منه، وسأل عن اسمه، فقيل: جلّق، ونظر إلى ما عليه من البساتين فشبّهها بغوطة جلّق الشام، وقيل: إنها من بناء الاسكندر، والله أعلم.

وبمدينة برجة (5) - وهي من أعمال المرية - معدن الرصاص، وهي على وادٍ مبهجٍ ويعرف بوادي عذراء، وهو محدقٌ بالأزهار والأشجار، وتسمى

(1) هذا السند يسمى اليوم (Marquezado del Zenete) .

(2)

يعني حبوس بن ماكسن الصنهاجي، عندما استقل بالأمر بعيد سقوط الدولة الأموية.

(3)

انظر مثلاً المنتقى من فرحة الأنفس: 288، والروض:97.

(4)

وعلى

الأنبياء: سقطت من ق ط ج.

(5)

برجة: (Berja) تقع غربي المرية على مقربة من ساحل البحر.

ص: 150

برجة: " بهجة " لبهجة منظرها، وفيها يقول أبو الفضل بن شرف القيرواني، رحمه الله تعالى (1) :

رياضٌ تعشّقها سندسٌ

توشّت معاطفها بالزّهر

مدامعها فوق خدّي ربىً

لها نضرةٌ فتنت من نظر

وكلّ مكانٍ بها جنّةٌ

وكلّ طريقٍ إليها سقر وفيها أيضاً قوله:

حطّ الرحال ببرجه

وارتد لنفسك بهجه

في قلعةٍ كسلاحٍ

ودوحةٍ مثل لجّه

فحصنها لك أمنٌ

وروضها لك فرجه

كلّ البلاد سواها

كعمرةٍ وهي حجّه وبمالقة التين الذي يضرب المثل بحسنه، ويجلب حتى للهند والصين، وقيل: إنّه ليس في الدنيا مثله، وفيه يقول أبو الحجاج يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي حسبما أنشده غير واحدٍ منهم ابن سعيد (2) :

مالقة حيّيت يا تينها

الفلك من أجلك ياتينها

نهى طبيبي عنه في علّتي

ما لطبيبي عن حياتي نهى وذيّل عليه الإمام الخطيب أبو محمد عبد الوهاب المنشي بقوله:

وحمص لا تنس لها تينها

واذكر مع التين زياتينها

(1) أبو الفضل جعفر بن شرف هو ابن الشاعر القيرواني أبي عبد الله ابن شرف المهاجر إلى الأندلس، وقد ولد في برجة وقيل بل دخل به أبوه الأندلس صغيراً، (ترجمته في الذخيرة 3: 276 والقلائد: 252 والصلة: 131 والمغرب 2: 230) .

(2)

في الروض: 179 أن الطلبة خرجوا للقاء أبي محمد عد الله بن سليمان بن حوط الله الأنصاري لما ولي القضاء بمالقة، فأنشدهم هذين البيتين، وانظر رحلة ابن بطوطة: 669 حيث نسبهما للخطيب أبي محمد عبد الوهاب بن علي المالقي، أما ابن عبد الملك فهو مؤلف الذيل والتكملة.

ص: 151

وفي بعض النسخ:

لا تنس لاشبيليّة تينها (1)

واذكر مع التين زياتينها وهو نحو الأول، لأن حمص هي إشبيلية، لنزول أهل حمص من المشرق بها، حسبما سنذكره.

ونسب ابن جزيّ في ترتيبه لرحلة ابن بطّوطة البيتين الأولين للخطيب أبي محمد عبد الوهاب المالقي، والتذييل لقاضي الجماعة أبي عبد الله بن عبد الملك، فالله أعلم.

وقال ابن بطوطة (2) : وبمالقة يصنع الفخّار المذهب العجيب، ويجلب منها إلى أقاصي البلاد، ومسجدها كبير الساحة، شهير البركة (3) ، وصحنه لا نظير له في الحسن، وفيه أشجار النارنج البديعة، انتهى.

وقال قبله (4) : إن مالقة إحدى قواعد الأندلس، وبلادها الحسان، جامعةً بين مرافق البر والبحر، كثيرة الخيرات والفواكه، رأيت العنب يباع في أسواقها بحساب ثمانية أرطالٍ بدرهمٍ صغيرٍ، ورمّانها المرسيّ الياقوتي لا نظير له في الدنيا، وأما التين واللوز فيجلبان منها ومن أحوازها إلى بلاد المشرق والمغرب، انتهى.

وبكورة أشبونة المتصلة بشنترين معدن التبر، وفيها عسلٌ يجعل في كيس كتانٍ فلا يكون له رطوبةٌ كأنّه سكرٌ، ويوجد في ريفها العنبر الذي لا يشبهه إلا الشّحري.

(1) ق ج ط: ولا تنس تين إشبيلية.

(2)

الرحلة: 670.

(3)

ك: كثير البركة شهيرها.

(4)

الرحلة: 669.

ص: 152

[نبذة عن قرطبة وشهرتها]

ومن أشهر مدن الأندلس مدينة قرطبة - أعادها الله تعالى للإسلام - وبها الجامع المشهور، والقنطرة المعروفة بالجسر.

وقد ذكر ابن حيّان أنّه بني على أمر عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، ونصه، وقام فيها بأمره على النهر الأعظم بدار مملكتها قرطبة الجسر الأكبر الذي ما يعرف في الدنيا مثله، انتهى.

وفيها يقول بعض علماء الأندلس (1) :

بأربعٍ فاقت الأمصار قرطبةٌ

منهنّ قنطرة الوادي، وجامعها

هاتان ثنتان، والزهراء ثالثةٌ،

والعلم أعظم شيءٍ، وهو رابعها وقال الحجاري في " المسهب ": كانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام، ومجتمع أعلام الأنام، بها استقرّ سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعديّة واليمانيّة، وإليها كانت الرّحلة في الرواية إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، وهي من الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، ونهرها من أحسن الأنهار، مكتنفٌ بديباج المروج مطرزٌ بالأزهار، تصدح في جنباته الأطيار، وتنعر النواعير ويبسم النّوّار، وقرطاها الزاهرة والزهراء، حاضرتا الملك وأفقا النعماء والسرّاء. وإن كان قد أخنى عليها الزمان، وغيّر بهجة أوجهها الحسان، فتلك عادته وسل الخورنق والسّدير وغمدان، وقد أعذر بإنذاره إذ لم يزل ينادي بصروفه: لا أمان لا أمان، وقد قال الشاعر:

ومازلت أسمع أنّ الملو

ك تبني على قدر أخطارها انتهى.

(1) سيورد المقري البيتين في الباب الرابع وينسبهما إلى أبي محمد بن عطية المحاربي.

ص: 153

وقال السلطان يعقوب المنصور (1) ابن السلطان يوسف ابن السلطان عبد المؤمن بن علي لأحد رؤساء أجنادها: ما تقول في قرطبة؟ فخاطبه على ما يقتضيه كلام عامّة الأندلس بقوله: جوفها شمام، وغريبها قمام، وقبلتها مدام، والجنّة هي والسلام.

يعني بالشّمام جبال الورد، ويعني بالقمام ما يؤكل إشارةً إلى محرث الكنبانيّة (2) ، ويعني بالمدام النهر.

ولما قال والده السلطان يوسف بن عبد المؤمن لأبي عمران موسى بن سعيد العنسي (3) : ما عندك في قرطبة؟ قال له: ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها، فقال السلطان: إن ملوك بين أمية حين اتخذوها حضرة مملكتهم لعلى بصيرةٍ، الديار المنفسحة الكثيرة (4) ، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة المشيدة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج الناضر، والمحرث العظيم، والشّعراء الكافية، والتوسط بين شرق الأندلس وغربها، قال: فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.

قال ابن سعيد: ولأهلها رياسة ووقار، لا تزال سمة العلم والملك متوارثةً فيهم. إلا أن عامّتها أكثر الناس فضولاً، وأشدّهم تشغيباً، ويُضرب

(1) السلطان يعقوب المنصور بن يوسف بن عبد المؤمن (580 - 595) من أعاظم خلفاء الموحدين، كان جواداً شجاعاً كريماً عالماً. (انظر له ترجمة في وفيات الأعيان 6: 4 وروض القرطاس: 160 (ط. فاس) وأخباره في المعجب والبيان المغرب وغيرهما من المصادر التاريخية) .

(2)

الكنبانية: قال فيها ياقوت: ناحية بالأندلس قرب قرطبة، وهذا تعريف قاصر، فإن الكنبانية هي الأراضي السهلة الزراعية أينما كانت، وقد ذكر ابن الخطيب الكنبانية في الحديث عن غرناطة (1: 102) وأصلها من الكلمة اللاتينية (Campania) أي الحقل أو المحرث كما يسميها الأندلسيون، وتكتب أحياناً بالقاف. (انظر ملحق دوزي: قنبانية) .

(3)

السلطان يوسف بن عبد المؤمن (558 - 580) ثاني خلفاء الموحدين؛ أما موسى بن سعيد فهو والد علي صاحب المغرب، كان شغوفاً بالتاريخ وولي للموحدين بعض الأعمال وتوفي بالإسكندرية (573) . راجع 2:170.

(4)

ك: الكبيرة.

ص: 154

بهم المثل ما بين أهل (1) الأندلس في القيام على الملوك، والتشنيع على الولاة، وقلة الرضا بأمورهم، حتى إن السيد أبا يحيى أخا السلطان يعقوب المنصور قيل له لما انفصل عن ولايتها: كيف وجدت أهل قرطبة؟ فقال: مثل الجمل، إن خففت عنه الحمل صاح، وإن أثقلته صاح، ما ندري أين رضاهم فنقصده، ولا أين سخطهم فنجتنبه، وما سلط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامتها شرّاً من عامة العراق، وإن العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية، وإنّي إن كلّفت العود إليها لقائل: لا يلدغ المؤمن من جحرٍ مرتين، انتهى.

وقال أبو الفضل التيفاشي: جرت مناظرة بين يدي ملك المغرب المنصور يعقوب بين الفقيه أبي الوليد بين رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في تفضيل قرطبة: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالمٌ بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإن مات مطربٌ بقرطبة فأريد بيع آلاته حملت إلى إشبيلية، قال: وقرطبة أكثر بلاد الله كتباً، انتهى.

وحكى الإمام ابن بشكوال عن الشيخ أبي بكر بن سعادة أنه دخل مدينة طليطلة مع أخيه على الشيخ الأستاذ أبي بكر المخزومي، قال: فسألنا: من أين؟ فقلنا: من قرطبة، فقال: متى عهدكما بها؟ فقلنا: الآن وصلنا منها، فقال: اقربا إليّ أشمّ نسيم قرطبة، فقربنا منه، فشمّ رأسي وقبّله، وقال لي: اكتب:

أقرطبة الغرّاء هل لي أوبةٌ

إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد

سقى الجانب الغربيّ منك غمامةٌ

وقعقع في ساحات دوحاتك الرعد

لياليك أسحارٌ، وأرضك روضةٌ

وتربك في استنشاقها عنبرٌ ورد وكتب الرئيس الكاتب أبو بكر بن القبطرنة للعالم أبي الحسين بن سراج بقوله (2) :

(1) أهل: زيادة من ك.

(2)

ابو بكر بن القبطرنة (ويكتب أيضاً القبطورنة) أحد ثلاثة إخوة يعرفون ببني القبطورنة، والاسم من (Cap - tomo) (أي الرأس المستدير) وأبو بكر منهم هو عبد العزيز بن سعيد بن عبد العزيز البلطليوسي كان كاتباً للمتوكل ابن الأفطس صاحب بطليوس (وتوفي سنة 520هـ؟) وقد ترجم له ولأخويه ابن بسام (الذخيرة القسم الثاني: 289) والمغرب 1: 367 والقلائد: 148 والمطرب: 186 والإحاطة 1: 528، وسيرد له ذكر في النفح؛ وهذه الأبيات الواردة هنا في الذخيرة: 293 والقلائد 152. أما أبو الحسين بن سراج فهو سراج بن عبد الملك ابن سراج كان والده من علماء اللغة في عصره، ونشأ ابنه كذلك بقرطبة. (انظر ترجمته في الذخيرة 1 - 2: 319 والقلائد: 116 والمغرب 1: 116 والديباج المذهب: 126 وبغية الوعاة: 251) .

ص: 155

يا سيّدي وأبي هوىً وجلالةً

ورسول ودّي إن طلبت رسولا

عرّج بقرطبةٍ إذا بلّغتها

بأبي الحسين وناده تمويلا (1)

وإذا سعدت بنظرةٍ من وجهه

أهد السلام لكفّه تقبيلا

واذكر له شوقي وشكري مجملاً

ولو استطعت شرحته تفصيلا

بتحيّةٍ تهدى إليه كأنّما

جرّت على زهر الرياض ذيولا وفي باب اليهود بقرطبة يقول أبو عامر بن شهيد (2) :

لقد أطلعوا عند باب اليهو

د بدراً أبى الحسن أن يكسفا

تراه اليهود على بابها

أميراً فتحسبه يوسفا واستقبحوا قولهم " باب اليهود " فقالوا " باب الهدى "، وسنذكر قرطبة الزهراء والزاهرة ومسجدها في الباب المنفرد بها إن شاء الله تعالى، وكذلك القنطرة.

[إشبيلية وإقليمها]

ومن أعظم مدن الأندلس إشبيلية - قال الشقندي: من محاسنها اعتدال

(1) ناده تمويلا: قل له " يا مولاي ".

(2)

أبو عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك (- 426) من أكابر الشعراء بعيد الفتنة القرطبية وصاحب التوابع والزوابع، انظر دراسة عنه في تاريخ الأدب الأندلسي - عصر سيادة قرطبة: 215 والمصادر مذكورة هنالك؛ وقد جمع ديوانه الأستاذ شارل بلا؛ والبيتان في ديوانه: 100.

ص: 156

الهواء، وحسن المباني، ونهرها الأعظم الذي يصعد المدّ فيه اثنين وسبعين ميلاً ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفرٍ (1) :

شقّ النسيم عليه جيب قميصه

فانساب من شطيّه يطلب ثاره

فتضاحكت ورق الحمام بدوحها

هزءاً فضمّ من الحياء إزاره وقيل لأحد من رأى مصر والشام: أيهما رأيت أحسن؟ أهذان أم إشبيلية؟ فقال بعد تفضيل إشبيلية: شرفها غابةٌ بلا أسد، ونهرها نيلٌ بلا تمساح، انتهى.

ويقال: إن الذي بنى إشبيلية اسمه يوليش (2) ، وإنّه أول من سمّي قيصر، وإنّه لما دخل الأندلس أعجب بساحاتها وطيب أرضها وجبلها المعروف بالشّرف (3) فردم على النهر الأعظم مكاناً، وأقام فيه المدينة، وأحدق عليها بأسوارٍ من صخرٍ صلدٍ، وبنى في وسط المدينة قصبتين بديعتي الشأن تعرفان بالأخوين، وجعلها أمّ قواعد الأندلس، واشتق لها اسماً من رومية، ومن اسمه، فسمّاها رومية يوليش، انتهى.

وقد تقدّم شيءٌ من هذا.

وكان الأوّلون من ملوك الأعاجم يتداولون بسكناهم أربعة (4) من بلاد الأندلس: إشبيلية، وقرطبة، وقرمونة (5) ، وطليطلة، ويقسمون أزمانهم على الكينونة بها.

(1) ابن سفر: أبو عبد الله محمد بن سفر الأديب (ويكتب اسمه أيضاً بالصاد) وهو من ناحية المرية وسكن إشبيلية، وسيترجم له المقري. (انظر تحفة القادم: 101 والوافي 3: 114 والمغرب 2: 212) . وبيتاه في التحفة. وفي ج: ابن سعيد.

(2)

ق ك ط: توليس، ج: يولوس؛ وهو يوليس قيصر (Julius Caesar) ،

(3)

سيأتي وصف " شرف إشبيلية " في النصوص التالية، وانظر أيضاً الروض المعطار:19.

(4)

ك: أربعة بلاد.

(5)

قرمونة (Carmona) مدينة إلى الشمال الشرقي من إشبيلية على عد 35 كيلومتراً وكانت كورة واسعة تضم عدة مدن وحصون. (راجع الروض المعطار: 158) .

ص: 157

وأما شرف إشبيلية فهو شريف البقعة، كريم التربة، دائم الخضرة، فرسخ في فرسخ طولاً وعرضاً، لا تكاد تشمس فيه بقعةٌ لالتفاف زيتونه.

واعلم أن إشبيلية لها كورٌ جليلةٌ، ومدنٌ كثيرةٌ، وحصونٌ شريفةٌ، وهي من الكور المجندة، نزلها جند حمص ولواؤهم في الميمنة بعد لواء جند دمشق. وانتهت جباية إشبيلية أيام الحكم بن هشام إلى (1) خمسة وثلاثين ألف دينارٍ ومائة دينار.

وفي إقليم طالقة من أقاليم إشبيلية وجدت صورةً جاريةً من مرمرٍ معها صبي، وكأن حيّةً تريده، لم يسمع في الأخبار ولا رثي في الآثار صورةٌ أبدع منها، جعلت في بعض الحمامات وتعشّقها جماعةٌ من العوام (2) .

وقي كورة ماردة (3) حصن شنت أفرج في غاية الارتفاع، لا يعلوه طائرٌ البتة لا نسرٌ ولا غيره.

ومن عجائب الأندلس البلاط الأوسط من مسجد جامع أقليش (4) ، فإن طول كل جائزة (5) منه مائة شبر وأحد عشر شبراً، وهي مربعة منحوتة مستوية الأطراف.

وقال بعض من وصف إشبيلية (6) : إنها مدينة عامرة على ضفة النهر الكبير المعروف بنهر قرطبة، وعليه جسر مربوط بالسفن، وبها أسواق قائمة، وتجارات رابحة، وأهلها ذوو أموال عظيمة، وأكثر متاجرهم الزيت، وهو

(1) إلى: سقطت من ق ط ج، وكتب فيها " خمسة وثلاثون ".

(2)

انظر الروض المعطار: 122 في وصف طالقة، ونصاً تفصيلياً عن الصورة المذكورة:123.

(3)

ماردة: مدينة بينها وبين بطليوس عشرون ميلاً، قال الرازي: كانت قاعدة الأندلس وقرارة الملك، بنيت في زمن قيصر اكتيبان (Octavian) وهي على نهر آنة، وفي عملها كثير من المدن، وكان لها من القرى والحصون ما يزيد على ثلاثة آلاف قرية كلها متصلة بعضها ببعض بالغروسات والأشجار والزيتون واعنب (مخطوط الرباط: 48) .

(4)

اقليش: (Ucles) قاعدة كورة شنتبرية.

(5)

لجائزة: الخشبة التي تحمل خشب البيت، اي الدعامة، وفي اللسان " الجائز " دون تاء التأنيث.

(6)

انظر الروض المعطار: 19 ومخطوطة الرباط: 53.

ص: 158

يشتمل على كثير من إقليم الشّرف، وإقليم الشرف على تل عال من تراب أحمر مسافته أربعون ميلاً في مثلها، يمشي بها (1) السائر في ظل الزيتون والتين، ولها - فيما ذكر بعض الناس - قرىً كثيرة، وكل قرية عامرة بالأسواق والديار الحسنة والحمامات وغيرها من المرافق.

وقال صاحب مناهج الفكر (2)، عند ذكر إشبيلية: وهذه المدينة من أحسن مدن الدّنيا، وبأهلها يضرب المثل في الخلاعة، وانتهاز فرصة الزمان الساعة بعد الساعة، ويعينهم على ذلك واديها الفرج، وناديها البهج، وهذا الوادي يأتيها من قرطبة، ويجزر في كل يوم، ولها جبل الشرف، وهو تراب أحمر طوله من الشمال إلى الجنوب أربعون ميلاً، وعرضه من المشرق إلى المغرب اثنا عشر ميلاً، نشتمل على مائتين وعشرين قرية، قد التحفت بأشجار الزيتون واشتملت، انتهى.

[شهرة باجة وجبل طارق]

ولكورة باجة (3) من الكور الغربية التي كانت من أعمال إشبيلية أيام بني عبّاد خاصّيّةٌ في دباغة الأديم وصناعة الكتان، وفيها معدن فضة، وبها ولد المعتمد بن عبّاد، وهي متصلة بكورة ماردة.

ولجبل طارق حوز قصب السبق بنسبته إلى طارق مولى موسى بن نصير،

(1) ك: به.

(2)

هنالك كتاب باسم " مباهج الفكر ومناهج العبر " لمحمد بن عبد الله الأنصاري، عاد فذكره حاجي خليفة باسم " مناهج الفكر " وقال إن الاسم الصحيح بالنون، ومؤلفه جمال الدين محمد ابن إبراهيم الوطواط (- 718) ويقول الأستاذ خير الدين الزركلي إنه في الكيمياء والطبيعة وهو في ستة مجلدات، قلت: وقد اطلعت على المجلدين الثالث والرابع منه بالخزانة العامة بالرباط وهما يشملان البات والحيوان (وفي ك: منهاج الفكر) .

(3)

باجة (Beja) في البرتغال وتقع على بعد 140 كيلومتراً جنوب شرقي الاشبونة وكانت تضم كورة واسعة.

ص: 159

إذ كان أوّل ما حل به مع المسلمين من بلاد الأندلس عند الفتح، ولذا شهر بجبل الفتح، وهو مقابل الجزيرة الخضراء، وقد تجوّن (1) البحر هنالك مستديراً حتى صار مكان هذا الجبل كالناظر للجزيرة الخضراء، وفيه يقول مطرّف شاعر غرناطة (1) :

وأقود قد ألقى على البحر متنه

فأصبح عن قود الجبال بمعزل (3)

يعرّض نحو الأفق وجهاً كأنّما

تراقب عيناه كواكب منزل وإذا أقبل عليه المسافرون من جهة سبتة في البحر بان كأنّه سرج، قال أبو الحسن علي (4) بن موسى بن سعيد: أقبلت عليه مرة مع والدي فنظرنا إليه على تلك الصفة، فقال والدي (5) : أجز:

انظر إلى جبل الفت

ح راكباً متن لجّ فقلت:

وقد تفتّح مثل ال

أفنان في شكل سرج وأما جزيرة طريف فليست بجزيرة، وإنّما سميت بذلك الجزيرة التي أمامها في البحر مثل الجزيرة الخضراء، وطريف المنسوبة إليه بربريٌّ من موالي موسى بن نصير، ويقال: إن موسى بعثه قبل طارق في أربعمائة رجل، فنزل بهذه الجزيرة في رمضان سنة إحدى وتسعين، وبعده دخل طارق، والله أعلم.

(1) ك: تجوف؛ ق: تجوز؛ ج: تجور.

(1)

ك: تجوف؛ ق: تجوز؛ ج: تجور.

(3)

الأقود: الطويل على الأرض، وجمعه: قود، وقد عنى به الجبل.

(4)

علي: سقطت من ق.

(5)

والدي: سقطت من ق.

ص: 160

[كورة طليطلة وما تشتهر به]

ومن أعظم كور الأندلس كورة طليطلة (1) ، وهي من متوسط الأندلس، وكانت دار مملكة بني ذي النّون من ملوك الطوائف، وكان ابتداء ملكهم صدر المائة الخامسة، وسمّاها قيصر بلسانه بزليطة (2)، وتأويل ذلك: أنت فارح، فعرّبتها العرب وقالت: طليطلة، وكانوا يسمّونها وجهاتها في دولة بني أميّة بالثغر الأدنى، ويسمون سرقسطة وجهاتها بالثغر الأعلى، وتسمى طليطلة مدينة الأملاك لأنها فيما يقال ملكها اثنان وسبعون إنساناً، ودخلها سليمان بن داود، عليهما السلام، وعيسى بن مريم، وذو القرنين، وفيها وجد طارق مائدة سليمان، وكانت من ذخائر إشبان ملك الروم الذي بنى إشبيلية، أخذها من بيت المقدس كما مر، وقوّمت هذه المائدة عند الوليد بن عبد الملك بمائة ألف دينار، وقيل: إنها كانت من زمرد أخضر، ويقال: إنها الآن برومة، والله أعلم بذلك.

ووجد طارق بطليطلة ذخائر عظيمة (3) ، منها مائة وسبعون تاجاً من الدر والياقوت والأحجار النفيسة، وإيوان ممتلئ من أواني الذهب والفضة، وهو كبير، حتى قيل: إن الخيل تلعب فيه فرسانها برماحهم لوسعه، وقد قيل: إن أواني المائدة من الذهب وصحافها من اليشم والجزع، وذكروا فيها غير هذا ممّا لا يكاد يصدّقه الناظر فيه.

وبطليطلة بساتين محدقة، وأنهار مخترقة، ورياض وجنان، وفواكه حسان، مختلفة الطعوم والألوان، ولها من جميع جهاتها أقاليم رفيعة، ورساتيق مريعة،

(1) طليطلة: (Toledo) كانت عاصمة الأندلس قبل دخول طارق، وهي مشرفة على ما يليها من الأندلس إلى الجنوب، وكانت من أولى المدن التي انتزعت من يد العرب إذ استولى عليها الفونش السادس عام 478 وجر ذلك إلى معركة الزلاقة.

(2)

تصحفت الكلمة هنا؛ وصورتها الصحيحة " توليطة " وفي الروض المعطار " تولاظو " قال: ومعناه: فرح ساكنوها، وفي هذا غشارة إلى الأصل اللاتيني:(Tu ledo) بمعنى " أنت فارح "، وفي ك ط وردت: بزليطلة - برليطلة.

(3)

قارن بما ورد في الروض المعطار: 131.

ص: 161

وضياع بديعة، وقلاع منيعة، وبالجملة فمحاسنها كثيرة، ولعلّنا نلمّ ببعض متنزهاتها فيما يأتي من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وطليطلة قاعدة ملك القوطيين، وهي مطلّة على نهر تاجه، وعليه كانت القنطرة التي يعجز الواصفون عن وصفها، وكانت على قوس واحد تكنفه فرختان (1) من كل جانب، وطول القنطرة ثلاثمائة باع، وعرضها ثمانون باعاً، وخربت أيام الأمير محمد لما عصى عليه أهلها فغزاهم، واحتال في هدمها، وفي ذلك يقول الحكيم عباس بن فرناس (2) :

أضحت طليطلةٌ معطّلةً

من أهلها في قبضة الصقر

تركت بلا أهلٍ تؤهّلها

مهجورة الأكناف كالقبر

ما كان يبقي الله قنطرةً

نصبت لحمل كتائب الكفر وسيأتي بعض أخبار طليطلة.

[مدينة المرية وما تشتهر به]

ومن مشهور مدن الأندلس المرية، وهي على ساحل البحر، ولها القلعة المنيعة المعروفة بقلعة خيران، بناها عبد الرحمن الناصر، وعظمت في دولة المنصور بن أبي عامر، وولى عليها مولاه خيران، فنسبت القلعة إليه، وبها من صنعة الديباج ما تفوق به على سائر البلاد، وفيها دار الصناعة، وتشتمل كورتها على معدن الحديد والرخام، ومن أبوابها باب العقاب عليه صورة

(1) ك: فرجتان.

(2)

بعاس بن فرناس التاكرني حكيم الأندلس، بربري الأصل من موالي بني أمية، كان صاحب اختراعات وتوليدات (توفي 274)، انظر ترجمته في الجذوة 300 وبغية الملتمس (رقم: 1247) والمغرب 1: 333. وله أخبار في المقتبس (تحقيق مكي) ؛ والأبيات فيه ص 306 - 307.

ص: 162

عقاب من حجر قديم عجيب المنظر.

وقال بعضهم (1) : كان بالمريّة لنسج طرز الحرير ثمانمائة نول، وللحلل النفيسة والديباج الفاخر ألف نول، وللأسقلاطون كذلك، وللثياب الجرجانية كذلك، وللأصفهانية مثل ذلك، وللعنابي والمعاجر المدهشة والستور المكللة. ويصنع بها من صنوف آلات الحديد والنحاس والزجاج ما لا يوصف. وفاكهة المرية يقصر عنها الوصف حسناً، وساحلها أفضل السواحل، وبها قصور الملوك القديمة الغربية العجيبة، وقد ألف فيها أبو جعفر ابن خاتمة تاريخاً حافلاً سمّاه " بمزية المرية "، على غيرها من البلاد الأندلسية " (2) في مجلد ضخم تركته من جملة كتبي بالمغرب، والله سبحانه المسؤول في جمع الشمل، فله الأمر من بعد ومن قبل.

ووادي المرية طوله أربعون ميلاً في مثلها كلها بساتين بهجة، وجنات نضرة، وأنهار مطردة، وطيور مغردة.

قال بعضهم: ولم يكن في بلاد الأندلس أكثر مالاً من أهل المرية، ولا أعظم متاجر وذخائر، وكان بها من الحمامات والفنادق نحو الألف، وهي بين الجبلين بينهما خندق معمور، وعلى الجبل الواحد قصبتها المشهورة بالحصانة، وعلى الآخر ربضها، والسور محيط بالمدينة والربض، وغريبها ربض لها آخر يسمى ربض الحوض ذو فنادق وحمامات وخنادق وصناعات، وقد استدار بها من كل جهة حصون مرتفعة، وأحجار أولية، وكأنما غربلت أرضها من التراب، ولها مدن وضياع عامرة متصلة الأنهار، انتهى.

(1) انظر جانباً من هذه المعلومات في الروض المعطار: 184 والمنتقى من فرحة الأنفس: 283.

(2)

ذكره ابن الخطيب في الإحاطة 1: 91 وصاحب نيل الابتهاج: 51 والسخاوي، ويبدو من الكتب التي لا تزال مفقودة.

ص: 163

[شنترة وخواصها]

وقال ابن اليسع، عند ذكره مدينة شنترة (1) : إن من خواصّها أن القمح والشعير يزرعان فيها ويحصدان عند مضي أربعين يوماً من زراعته، وإن التفاح فيها دور كل واحدة ثلاثة أشبار وأكثر، قال لي أبو عبد الله الباكوري، وكان ثقة: أبصرت عند المعتمد بن عبّاد رجلاً من أهل شنترة أهدى إليه أربعاً من التفاح ما يقلّ الحامل على رأسه غيرها، دور كل واحدة خمسة أشبار، وذكر الرجل (2) أن المعتاد عندهم أقل من هذا، فإذا أرادوا أن يجيء بهذا العظم (3) قطعوا أصلها وأبقوا منه عشراً أو أقل وجعلوا تحتها دعامات من الخشب، انتهى.

[شنش وسهيل وتدمير]

وبحصن شنش (4) على مرحلة من المرية التوت الكثير، وفيها الحرير والقرمز، ويعرف واديها بوادي طبرنش.

وبغربي مالقة عمل سهيلٍ، وهو عمل عظيم كثير الضياع، وفيه جبل سهيل لا يرى نجم سهيل بالأندلس إلى منه.

ومن كور الأندلس الشرقية تدمير، وتسمى مصر أيضاً (5) لكثرة شبهها بها، لأن لها أرضاً يسيح عليها نهر في وقت مخصوص من السنة، ثم ينضب عنها، فتزرع كما تزرع أرض مصر، وصارت القصبة بعد تدمير مرسية، وتسمى البستان، لكثرة جناتها المحيطة بها، ولها نهرٌ يصب في قبليها.

(1) شنترة (Centra) في البرتغال من مدائن الأشبونة (لشبونة) إلى الشمال الشرقي منها، على نهر تاجه، وقد ردد السلفي الحديث عن تفاحها (تراجم وأخبار أندلسية: 40) .

(2)

زاد بعده في ك: بحضرة ابن عباد.

(3)

زاد في ك: وهذا القدر.

(4)

المغرب 2: 225.

(5)

أيضاً: زيادة من ك.

ص: 164

[أقاليم الأندلس وكور كل إقليم]

واعلم أن جزيرة الأندلس - أعادها الله للإسلام - مشتملة على موسطة وشرق، وغرب:

فالموسطة فيها من القواعد الممصرة التي كل مدينة منها مملكة مستقلة لها أعمال ضخام وأقطار متسعة: قرطبة، وطليطلة، وجيّان، وغرناطة، والمريّة، ومالقة؛ فمن أعمال قرطبة إستجة وبلكونة وقبرة ورندة وغافق والمدور وأسطبة وبيّانة واليسّانة والقصير (1) وغيرها، ومن أعمال طليطلة وادي الحجارة وقلعة رباح وطلمنكة وغيرها (2) ، ومن أعمال جيّان أبّذة وبيّاسة وقسطلّة وغيرها (3) ، ومن أعمال غرناطة وادي آش والمنكّب (4) ولوشة وغيرها،

(1) هذه التقسيمات هي التي أوردها ابن سعيد أيضاً في المغرب ولم يسقط المقري منها سوى " كزنة ومراد " وسيعود إلى ذكرها في الباب الرابع، وإلى تبيان المسافات بينها وبين قرطبة؛ وللتعريف بها أقول: استجة (Ucija) على بعد 56 ميلا جنوب قرطبة؛ وبلكونة (Balcuna) مركز كورة باسمها وكانت في زمن ابن سعيد آهلة بالسكان؛ وقبرة (Cabra) مركز كورة وتقع على بعد ثلاثين ميلاً جنوب شرقي قرطبة؛ ورندة (Ronda) من مدن تاكرنا على نهر ينسب إليه يصب في نهر لكه؛ وغانق (Gafic) بغرب حصن بطروش؛ والمدور (Almodavar) بينه وبين قطربة ستة عشر ميلاص؛ واسطبة (أو استبة)(Estepa) بينها وبين قرطبة ستة وثلاثون ميلا؛ وبيانة (Baena) إلى الشمال من قبرة؛ واليسانة (Lucana) بينها وبين قرطبة أربعون ميلاً وكانت تسمى مدينة اليهود لكثرتهم بها؛ والقصير (Al - Kosair) وهي كورة بينها وبين قرطبة ثمانية عشر ميلاً، وكان أهم أعمالها في زمن ابن سعيد هو حصن القصير في شرقي قرطبة على النهر.

(2)

طلمنكة: (Salamanqua) مدينة بثغر الأندلس بينها وبين وادي الحجارة عشرون ميلاً بنيت زمن الأمير محمد بن عبد الرحمن (الروض المعطار) .

(3)

جيان: (Jaen) على بعد 97 كيلومتراً شمالي غرناطة؛ وبياسة (Beaza) بينها وبين جيان عشرون ميلاً، وتطل على النهر الكبير، استولى عليها الروم سنة 623هـ؟؛ وقسطلة (Calzalilla) تبعد نحو عشرين ميلاص إلى الشمال من حيان.

(4)

المنكب: (Al - Munecar) كان حصناً قوياً، وهو اليوم فرضة صغيرة على البحر تابعة لمركز مطريل في مديرية غرناطة.

ص: 165

ومن أعمال المرية أندرش (1) وغيرها، ومن أعمال مالقة بلّش والحامة (2) وغيرهما، وببلّش من الفواكه ما بمالقة، وبالحامة العين الحارة على ضفة واديها.

وأمّا شرق الأندلس ففيه من القواعد: مرسية، وبلنسية، ودانية والسهلة، والثغر الأعلى؛ فمن أعمال مرسية أوريولة والقنت ولورقة وغير ذلك (3) ، ومن أعمال بلنسية شاطبة ويضرب بحسنها المثل ويعمل بها الورق الذي لا نظير له وجزيرة شقر وغير ذلك (4) ، وأما دانية فهي شهيرة ولها أعمال، وأمّا السهلة (5) فإنّها متوسطة بين بلنسية وسرقسطة ولذا عدّها بعضهم من كور الثغر الأعلى ولها مدن وحصون، ومن أعمال الثغر الأعلى: سرقسطة وهي أم ذلك الثغر، وكورة لاردة، وقلعة رباح (6) ، وتسمى بالبيضاء، وكورة تطيلة، ومدينتها طرسونة، وكورة وشقة (7) ، ومدينتها تمريط، وكورة مدينة سالم، وكورة قلعة أيوب، ومدينتها مليانة (8) ، وكورة بربطانية (9) ، وكورة باروشة.

(1) أندرش: (Andarax) من أعمال المرية على نهر باسمها.

(2)

بلش: (Velez Malaga) ؛ والحامة (Alahama) .

(3)

مرسية: (Murcia) اختطت سنة 216هـ؟، فخلفت تدمير وأصبحت الكورة تسمى كلها باسمها وكانت القاعدة قبلها أوريولة (Orihuela) ؛ أما القنت (أو لقنت) فكانت مدينة من كورة تدمير وقيل في وصفها: مدينة صغيرة وهي اليوم عاصمة مديرية بحرية تسمى باسمها تقع جنوبي مديرية بلنسية وشرقي مديريتي البسيط ومرسية، وتعد من أكبر موانئ الساحل الشرقي.

(4)

بلنسية: (Valencia) من أكبر مدن الساحل الشرقي ازدهاراً في العصور الإسلامية، إلى الشمال من دانية على شاطئ البحر؛ وكانت تسمى مدينة التراب؛ وحصن شاطبة (Sativa) إلى الشمال من لقنت؛ وأما جزيرة شقر (Jucar) فهي مدينة على جزيرة في مصب نهر شقر (وادي شقر) وتسمى اليوم Al - cira وهي في مديرية بلنسية.

(5)

السهلة تسمى أيضاً شنتمرية الشرق (سهلة بني رزين - Santa Maria de Albarracin) وهي من كبار معاقل كورة شنتبرية (Santaver) وتمتد من كورة سرقسطة الجنوبية حتى كورتي وادي الحجارة وطليطلة.

(6)

قلعة رباح: مدينة تابعة لطيليطلة وموضعها يسمى اليوم (Castillo de Caltarava la Vieja) .

(7)

وشقة: (Huesca) من كور الثغر الأعلى، بينها وبين سرقسطة خمسون ميلاص وتقع إلى الشمال الشرقي منها.

(8)

ق ك: بليانة.

(9)

ق ك ج: برطانية؛ ط: برطيانة.

ص: 166

وأما غرب الأندلس ففيه: إشبيلية، وماردة، وأشبونة، وشلب؛ فمن أعمال إشبيلية شريش والخضراء ولبلة وغيرها، ومن أعمال ماردة بطليوس ويابرة وغيرهما، ومن أعمال أشبونة شنترين وغيرها، ومن أعمال شلب شنت مرية (1) وغيرها.

[الجزر البحرية]

وأما الجزر البحرية بالأندلس فمنها جزيرة قادس، وهي من أعمال إشبيلية، وقال ابن سعيد: إنها من كورة شريش، ولا منافاة لأن شريشاً من أعمال إشبيلية كما مر، قال: وبيد صنم قادس مفتاح، ولمّا ثار بقادس ابن أخت القائد أبي عبد الله بن ميمون - وهو عليّ بن عيسى قائد البحر بها - ظن أن تحت الصنم مالاً فهدمه فلم يجد شيئاً (2) ، انتهى.

وهي - أعني جزيرة قادس - في البحر المحيط؛ وفي المحيط الجزائر الخالدات السبع، وهي غربي مدينة سلا تلوح للناظر في اليوم الصاحي الخالي الجوّ من الأبخرة الغليظة، وفيها سبعة أصنام على أمثال الآدميين، تشير أن لا عبور ولا مسلك وراءها. وفيه بجهة الشمال جزائر السعادات، وفيها من المدن والقرى ما لا يحصى، ومنها يخرج قوم يقال لهم المجوس على دين النصارى: أولها جزيرة برطانية، وهي بوسط البحر المحيط بأقصى شمال الأندلس، ولا جبال فيها، ولا عيون، وإنّما يشربون من ماء المطر، ويزرعون عليه.

قال ابن سعيد: وفيه جزيرة شلطيش (3) ، وهي آهلة وفيها مدينة، وبحرها

(1) ق ك ط: شنت رية؛ ج: شنتمونية.

(2)

انظر الروض المعطار: 147.

(3)

شلطيش: (Saltes) جزيرة تقع على مقربة من شلب، وكانت في عصر ملوك الطوائف من أملاك البكريين أسرة العالم اللغوي الجغرافي أبي عبيد البكري؛ وفي اليوم من مديرية ولبة. (وفي النسخ: شليطش) .

ص: 167

كثير السمك، ومنها يحمل مملّحاً إلى إشبيلية، وهي من كورة لبلة (1) مضافة إلى عمل أونبة، انتهى.

[قرطاجنة وخواصها]

وقال بعضهم، لما أجرى ذكر قرطاجنة من بلاد الأندلس: إن الزرع في بعض أقطارها يكتفي بمطرة واحدة، وبها أقواس من الحجارة المقربصة (2) ، وفيها من التصاوير والتماثيل وأشكال الناس وصور الحيوانات ما يحير البصر والبصيرة، ومن أجب بنائها الدواميس (3) ، وهي أربعة وعشرون على صف واحد من حجارة مقربصة، طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ستين خطوة، وارتفاع كل واحد أكثر (4) من مائتي ذراع، بين كل داموسين أنقاب محكمة تتصل فيها المياه من بعضها إلى بعض في العلوّ الشاهق بهندسة عجيبة وإحكام بديع، انتهى.

قلت: أظن هذا غلطاً؛ فإن قرطاجنة التي بهذه الصفة قرطاجنة إفريقية (5) ، لا قرطاجنة الأندلس، والله أعلم.

وقال صاحب مناهج الفكر، عندما ذكر قرطاجنة: وهي على البحر الرومي مدينة قديمة بقي منها آثار، لها فحص طوله ستة أيام وعرضه يومان

(1) لبلة: (Niebla) كانت قاعدة كورة تسمى باسمها وهي على بعد خمسين كيلومتراص غربي غشبيلية وتتبع مديرية ولبة (Huelva) .

(2)

مقربصة أو مقربة بمعنى محكمة الأساس؛ يقال قربص البيت: قاس طوله وعرضه ليساوي بين كل حائط وما يقابله.

(3)

الدواميس هنا: بمعنى الأحواض أو ما يشبه " الهواويس "، جمع داموس، وقد تستعمل بمعنى " السجن " ومنه الديماس.

(4)

ج ط ق: أطول.

(5)

انظر جغرافية البكري - المغرب في ذكر بلاد أفريقية: 44 ففيه وصف لقرطاجنة افريقية يؤكد أن المقري على صواب.

ص: 168

معمور بالقرى، انتهى.

وذكر قبل ذلك في لورقة أن بناحيتها يوجد حجر اللازورد.

وفي البحر الشامي الخارج من المحيط جزيرتا ميورقة ومنورقة، وبينهما خمسون ميلاً، وجزيرة ميورقة مسافة يوم، بها مدينة حسنة، وتدخلها ساقية جارية على الدوام، وفيها يقول ابن اللّبّانة (1) :

بلدٌ أعارته الحمامة طوقها

وكساه حلّة ريشه الطاووس (2)

فكأنّما الأنهار فيه مدامةٌ

وكأنّ ساحات الديار كؤوس وقال يخاطب ملكها (3) ذلك الوقت:

وغمرت (4) بالإحسان أرض ميورقةٍ

وبنيت ما لم يبنه الاسكندر وجزيرة يابسة.

واستقصاء ما يتعلق بهذا الفصل يطول، ولو تتبّع لكان تأليفاً مستقلاً، وما أحسن قول ابن خفاجة (5) :

(1) ابن اللبانة: أبو بكر محمد بن عيسى شاعر دولة المعتمد وصاحب المراثي فيه ومؤلف كتاب سقيط الدرر ولقيط الزهر في شعر ابن عباد، توفي سنة 507 بميورقة وسيرد ذكره في النفح كثيراً. (راجع ترجمته في المغرب 2: 409 والمعجب: 208 والقلائد: 245 والوافي: 4: 297 والذخيرة (القسم الثالث 209) والمطرب: 178 وفوات الوفيات 2: 514 والتكملة: 410 وله موشحات في دار الطراز.

(2)

البيتان في " المقتطفات ": 40 وينسب البيتان لابن قلاقس الإسكندري، قالهما في مدينة مسينة بصقلية حين زارها، وهما في ديوانه: 56 وكذلك ينسبان لابن حمديس (ديوانه: 553) حسبما ورد في مسالك الأبصار، ونسبهما صاحب المغرب (2: 466) لابن اللبانة.

(3)

كان صاحب ميورقة في زمن ابن اللبانة هو مبشر بن سليمان املقب ناصر الدولة.

(4)

ق ج: وعمرت.

(5)

أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة شاعر الطبيعة الأكبر، توفي سنة 523؛ نشر ديوانه بتحقيق الدكتور السيد مصطفى غازي (الإسكندرية 1960) وفي ص: 437 ثبت جامع للمصادر التي ترجمت لابن خفاجة أو أوردت ذكره وشعره؛ وهذه الأبيات في الديوان: 136.

ص: 169

إنّ للجنّة بالأندلس

مجتلى حسنٍ وريّا نفس

فسنا صبحتها من شنبٍ

ودجى ليلتها من لعس

وإذا ما هبت الريح صباً

صحت واشوقي إلى الأندلس وقال بعضهم في طليطلة:

زادت طليطلةٌ على ما حدّثوا

بلدٌ عليه نضرةٌ ونعيم

الله زيّنه فوشّح خصره

نهر المجرّة والغصون نجوم [رسالة أبي البحر في تغاير مدن الأندلس]

ولا حرج إن أوردنا هنا ما خاطب به أديب الأندلس أبو بحر صفوان بن إدريس الأمير عبد الرحمن ابن السلطان يوسف بن عبد المؤمن بن علي، فإنّه مناسب، ونصّه (1) : مولاي، أمتع الله ببقائك الزمان وأبناءه، كما ضمّ على حبّك أحناءهم وأحناءه، ووصل لك ما شئت من اليمن والأمان، كما نظم قلائد فخرك على لبّة الدهر نظم الجمان، فإنّك الملك الهمام، والقمر التمام، أيّامك غرر وحجول، وفرند بهائها في صفحات الدهر يجول، ألبست الرعية برود التأمين، فتنافست فيك من نفيسٍ ثمين، وتلقّت دعوات خلدك لها باليمين، فكم للناس، من أمنٍ بك وإيناس، وللأيام، من لوعة فيك وهيام، وللأقطار، من لبانات لديك وأوطار، وللبلاد، من قراع لها على تملكك لها وجلاد، يتمنّون شخصك الكريم على الله ويقترحون، ويغتبقون في رياض ذكرك العاطر بمدام حبّك ويصطبحون، " كلّ حزبٍ بما لديهم فرحون " محبةً من الله ألقاها لك حتى على الجماد، ونصراً

(1) وردت هذه الرسالة في أوراق مخطوطة رقم 421 بالإسكوريال، وهي مقتطفات لعلها من نفح الطيب ويحال عليها بلفظة " المقتطفات ".

ص: 170

مؤزّراً تنطق (1) به ألسنة السيوف على أفواه الأغماد، ومن أسرّ سريرة ألبسه الله رداءها، ومن طوى حسن نية ختم الله له بالجميل إعادتها وإبداءها، ومن قدّم صالحاً فلا بدّ أن يوازيه، ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه (2) . ولما تخاصمت فيك من الأندلس الأمصار، وطال بها الوقوف على حبّك والاقتصار، كلّها يفصح قولاً، ويقول: أنا أحقّ وأولى، ويصيخ إلى إجابة دعوته ويصغي، ويتلو إذا بشّر بك " ذلك ما كنّا نبغ "، تنمّرت حمص غيظاً، وكادت تفيظ فيظاً، وقالت: ما لهم يزيدون وينقصون، ويطمعون ويحرصون " إن يتّبعون إلاّ الظنّ وإن هم إلاّ يخرصون ". لي (3) السّهم الأسدّ، والساعد الأشدّ، والنهر الذي يتعاقب عليه الجزر والمدّ، أنا مصر الأندلس والنيل نهري، وسماء (4) التأنّس والنجوم زهري، إن تجاريتم في ذلك (5) الشرف، فحسبي أن أفيض في ذكر الشرف (6) ، وإن تبجحتم (7) بأشرف اللبوس، فأي إزار اشتملتموه كشنتبوس (8) ، لي ما شئت من أبينة رحاب، وروضٍ يستغني بنضرته عن السّحاب، قد ملأت زهراتي وهاداً ونجاداً، وتوشّح سيف نهري بحدائقي نجاداً، فأنا أولاكم بسيّدنا الهمام وأحقّ، " الآن حصحص الحق ".

فنظرتها قرطبة شزراً، وقالت: لقد كثّرت نزرا، وبذرت في الصخر

(1) ج: أنطق.

(2)

من قول الحطيئة:

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه

لا يذهب العرف بين الله والناس (3) ك: ألهم.

(4)

ك: وسمائي.

(5)

ق ج: ذكر.

(6)

يعني ما يسمى " شرف إشبيلية "؛ راجع ص: 158 - 159.

(7)

ك: تبجحتم.

(8)

ط: كشنبوس. ج: كشوش.

ص: 171

الأصمّ بزرا، كلام العدى ضربٌ من الهذيان (1) ، وأنّى للإيضاح والبيان، متى استحال المستقبح مستحسناً، ومن أودع أجفان المهجور وسناً " أفمن زيّن له سوء عمله فرآه حسناً ". يا عجباً للمراكز تقدّم على الأسنة، وللأثفار تفضّل على الأعنّة، إن ادّعيتم سبقا، فما عند الله خيرٌ وأبقى: لي البيت المطهّر الشريف، والاسم الذي ضرب عليه رواقه التعريف، في بقيعي محل الرجال الأفاضل، فليرغم أنف المناضل، وفي جامعي مشاهد ليلة القدر، فحسبي من نباهة القدر، فما لأحدٍ أن يستأثر عليّ بهذا السيّد الأعلى، ولا أرتضي (2) له أن يوطئ غير ترابي نعلاً، فأقرّوا لي بالأبوة، وانقادوا على حكم البنوّة، " ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّةٍ " وكفوا عن تباريكم " ذلكم خيرٌ لكم عند باريكم ".

فقالت غرناطة: لي المعقل الذي يمتنع ساكنه (3) من النجوم، ولا تجري إلا تحته جياد الغيم (4) السّجوم، فلا يلحقني من معاند ضررٌ ولا حيف، ولا يهتدي إليّ خيالٌ طارق ولا طيف، فاستسلموا قولاً وفعلاً، فقد أفلح اليوم من استعلى، لي بطاح تقلدت من جداولها أسلاكاً، وأطلعت كواكب زهرها فعادت أفلاكاً، ومياه تسيل على أعطافي كأدمع العشاق، وبرد نسيم يردّ ذماء (5) المستجير بالانتشاق، فحسني لا يطمع فيه ولا يحتال، فدعوني فكل ذات ذيل تختال، فأنا أولى بهذا السيّد الأعدل، وما لي به من عوض ولا بدل، ولم لا يعطف عليّ عنان مجده ويثني، وإن أنشد يوماً فإياي يعني (6) :

(1) من قول المتنبي يمدح كافوراً:

ولله سر في علاك وإنما

كلام العدا ضرب من الهذيان (2) ك: أرضي.

(3)

المقتطفات: يمنع صاحبه.

(4)

ك: الغيث.

(5)

ط: دماء.

(6)

من شعر بعض الأعراب، وقبله:

أحب بلاد الله ما بين منعج

إلي وسلمى أن يصوب سحابها

ص: 172

بلاد بها عقّ الشباب تمائمي

وأول أرضٍ مسّ جلدي ترابها فما لكم تعتزون لفخري وتنتمون، وتتأخرون في ميداني وتتقدمون، تبرأوا إليّ مما تزعمون " ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون ".

فقالت مالقة: أتتركوني بينكم هملاً، ولم تعطوني في سيّدنا أملاً، ولم ولي البحر العجاج، والسّبل الفجاج (1) ، والجنّات الأثيرة، والفاكهة الكثيرة؛ لديّ من البهجة ما تستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه ولا تبديل، فما لي لا أعطى في ناديكم كلاماً، ولا أنشر في جيش فخاركم أعلاماً؟

فكأن الأمصار نظرتها ازدراءً، فلم تر لحديثها في ميدان الذكر إجراءً، لأنها موطن لا يحلى منه بطائلٍ، ونظن البلاد تأوّلت فيها قول القائل:

إذا نطق السفيه فلا تجبه

فخيرٌ من إجابته السّكوت فقالت مرسية: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدّرّ تنفّقون الصخر؟ إن عدّت المفاخر، فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري، وجعجعتكم من نفثات سحري؟ فلي الروض النّضير، والمرأى الذي ما له من نظير، وزنقاتي (2) التي سار مثلها في الآفاق، وتبرقع وجه جمالها بغرّة الإصفاق، فمن دوحات، كم لها من بكور وروحات، ومن أرجاء، إليها تمدّ أيدي الرجاء، فأبنائي فيها (3) في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيما يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدّعون. فانقادوا لأمري، وحاذروا اصطلاء جمري، وخلّوا

(1) في نسخة بهامش ك: والسيل الثجاج.

(2)

الزنقات من متفرجات مرسية. (انظر المغرب 2: 246) .

(3)

ط ك: فيه.

ص: 173

بيني وبين سيّدنا أبي زيد، وإلا ضربتكم ضرب زيد (1) ، فأنا أولاكم بهذا الملك المستأثر بالتعظيم " وما يلقّاها إلاّ ذو حظٍّ عظيم ".

فقالت بلنسية: فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح؟ وتحت الرّغوة اللبن الصريح (2) ، أنا أحوزه من دونكم، فأخمدوا ناري تحرّككم وهدونكم، فلي المحاسن الشامخة الأعلام، والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام (3) ، فأجمعوا على الانقياد لي والسلام، وإلاّ فعضّوا بناناً، واقرعوا أسناناً، فأنا حيث لا تدركون وأنّى، ومولانا لا يهلكنا بما فعل السفهاء منّا.

فعند ذلك ارتمت جمرة تدمير بالشّرار، واستدّت (4) أسهمها لنحور الشّرار، وقالت: عش رجباً، تر عجباً، أبعد العصيان والعقوق، تتهيئين لرتب ذوي الحقوق؟ هذه سماء الفخر فمن ضمك أن تعرجي، ليس بعشّك فادرجي (5) ، لك الوصب والخبل " آلآن وقد عصيت قبل "، أيّتها الصانعة الفاعلة، من أدّاك أن تطرّي وما أنت ناعلة (6) ؟ ما الذي يجديك الروض والزّهر؟ أم ما يفيدك الجدول والنهر؟ وهل يصلح العطّار وما أفسد الدّهر (7) ؟ هل أنت إلاّ محطّ رحل النفاق، ومنزلٌ ما

(1) إشارة إلى قول النحويين: " ضرب زيد عمراً ".

(2)

هذا من أمثالهم؛ أي أن الظاهر لا يحجب الحقيقة.

(3)

تشتهر بلنسية برصافتها وجسرها، وكذلك بغداد في قول علي بن الجهم:" عيون المها بين الرصافة والجسر ".

(4)

ط ق ج: واشتدت.

(5)

من أمثالهم؛ أي ليس هذا من الأمر الذي لك فيه حق فدعيه. (انظر فصل المقال: 319) .

(6)

ك: أدراك أن تضربي وما انت فاعلة؛ ق ك ط ج دوزي: أن تضربي؛ ج: فاعلة. وكله خطأ في الجميع، وصوابه من المثل " أطري فإنك ناعلة " أي خذي طرر الوادي وهي نواحيه. (فصل المقال: 147 وفهرسته) .

(7)

من قول الشاعر في عجوز:

تروح إلى العطار تبغي صلاحها

وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر

ص: 174

لسوق الخصب فيه من نفاق؟ ذراك لا يكتحل الطرف فيه بهجوع، وقراك لا يسمن ولا يغني من جوع، فإلام تبرز الإماء في منصّة العقائل؟ ولكن اذكري قول القائل (1) :

بلنسيةٌ بيني عن القلب سلوةً

فإنّك روضٌ لا أحنّ لزهرك

وكيف يحبّ المرء داراً تقسّمت

على صارمي جوعٍ وفتنة مشرك بيد أنّي أسأل الله تعالى أن يوقد من توفيقك ما خمد، يسيل من تسديدك ما خمد، ولا يطيل عليك في الجهالة الأمد، وإيّاه سبحانه نسأل أي يردّ سيّدنا ومولانا إلى أفضل عوائده، ويجعل مصائب أعدائه من فوائده، ويمكّن حسامه من رقاب المشغّبين، ويبقيه وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين، ويصل له تأييداً وتأبيداً، ويمهّد له الأيام حتى تكون الحرار لعبيد عبيده (2) عبيداً، ويمد على الدنيا بساط سعده، ويهبه ملكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده:

آمين آمين لا أرضى بواحدةٍ

حتّى أضيف إليها ألف آمينا ثم السلام الذي يتأنّق عبقاً ونشراً، ويتألّق رونقاً وبشراً، على حضرتهم العليّة، ومطالع أنوارهم الجليّة (3) ، ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى.

[عودٌ إلى ذكر غرناطة]

ولما ألمّ الرحّلة ابن بطوطة في رحلته بدخوله لبلاد (4) الأندلس - أعادها

(1) سينسبهما المقزي ص: 180 لابن عياش (وهما له في زاد المسافر: 94) وفي ياقوت (بلنسية) : أنهما لابن حريق.

(2)

ط ق والمقتطفات: اعبيده عبيداً.

(3)

ك: السنية الجلية.

(4)

ك: بدخوله بلاد.

ص: 175

الله تعالى للإسلام - قال (1) : فوصلت إلى بلاد الأندلس - حرسها الله تعالى - حيث الأجر موفور للساكن، والثواب مذخور للمقيم والظاعن، إلى أن قال عند ذكره (2) غرناطة ما نصّه: قاعدة بلاد الأندلس، وعروس مدنها، وخارجها لا نظير له في الدنيا، وهو مسيرة أربعين ميلاً، يخترقه نهر شنيل المشهور، وسواه من الأنهار الكثيرة، والبساتين (3) والجنّات والرياضات والقصور، والكروم محدقة بها من كل جهة، ومن عجيب مواضعها عين الدمع، وهو جبل فيه الرياضات والبساتين، لا مثل له بسواها، انتهى.

وقال الشقندي: غرناطة دمشق بلاد الأندلس، ومسرح الأبصار، ومطمح الأنفس، ولم تخل من أشرافٍ أماثل، وعلماء أكابر، وشعراء أفاضل، ولو لم يكن بها إلا ما خصّها الله تعالى به من كونها قد نبغ فيها النساء الشواعر كنزهون القلعية والرّكونية (4) وغيرهما، وناهيك بهما في الظّرف والأدب، انتهى.

ولبعضهم يتشوّق إلى غرناطة فيما ذكر بعض المؤرخين، والصواب أن الأبيات قيلت في قرطبة كما مرّ (5)، والله أعلم:

أغرناطة الغرّاء هل لي أوبةٌ

إليك؟ وهل يدنو لنا ذلك العهد؟

سقى الجانب الغربيّ منك غمائمٌ (6)

وقعقع في ساحت روضتك الرّعد

لياليك أسحارٌ، وأرضك جنّةٌ،

وتربك في استنشاقها عنبرٌ ورد وقال ابن مالك الرّعيني:

(1) رحلة ابن بطوطة: 665، 670.

(2)

ق: عند ذكر.

(3)

ك: والبساتين الجليلة؛ وسقطت اللفظتان من ج.

(4)

سيجيء التعريف بهما وبكثير من شواعر الأندلس في النفح.

(5)

انظر ص: 155 فيما تقدم.

(6)

ك: غمامة.

ص: 176

رعى الله بالحمراء عيشاً قطعته

ذهبت به للأنس، والليل قد ذهب

ترى الأرض منها فضّةً فإذا اكتست

بشمس الضّحى عادت سبيكتها ذهب وهو القائل:

لا تظنّوا أنّ شوقي خمدا

بعدكم أو أنّ دمعي جمدا

كيف أسلو عن أناسٍ مثلهم

قلّ أن تبصر عيني أحدا وغرناطة من أحسن بلاد الأندلس، وتسمى بدمشق الأندلس، لأنّها أشبه شيء بها، ويشقّها نهر حدره، ويطلّ عليها الجبل المسمى بشلير الذي لا يزول الثلج عنه شتاءً وصيفاً، ويجمد عليه حتى يصير كالحجر الصّلد، وفي أعلاه الأزاهر الكثيرة، وأجناس الأفاويه الرفيعة، ونزل بها أهل دمشق لمّا جاءوا إلى الأندلس لأجل الشبه المذكور، وقرى غرناطة - فيما ذكر بعض المتأخرين - مائتان وسبعون قرية.

وقال ابن جزيّ (1) مرتّب رحلة ابن بطوطة، بعد ذكره كلامه، ما نصّه: قال ابن جزيّ: لولا خشية أن أنسب إلى العصبية لأطلت القول في وصف غرناطة، فقد وجدت مكانه، ولكنّ ما اشتهر كاشتهارها لا معنى إطالة القول فيه، ولله درّ شيخنا أبي بكر ابن محمد بن شبرين السبتي (2) نزيل غرناطة حيث يقول:

رعى الله من غرناطة متبوّأ

يسرّ حزيناً أو يجير طريداً

تبرّم منها صاحبي عندما رأى

مسارحها بالثلج عدن جليداً

(1) رحلة ابن بطوطة: 670.

(2)

ابن شبرين (وورد خطأ: شيرين وفي ج: بشرين) هو محمد بن أحمد بن محمد بن شبرين (- 747) ولد بسبتة وأهله من إشبيلية أصلاً، كان تاريخياً شاعراً كاتباً، وهو من شيوخ لسان الدين (انظر الإحاطة 2: 174 - 182) . وأبياته في الإحاطة (1: 104 تحقيق عنان) .

ص: 177

هي الثّغر صان الله من أهلت به

وما خير ثغرٍ لا يكون بروداً؟! وقال ابن سعيد عندما أجرى ذكر قرية نارجة - وهي قريةٌ كبيرةٌ تضاهي المدن، قد أحدقت بها البساتين، ولها نهرٌ يفتن الناظرين، وهي من أعمال مالقة -: إنّه اجتاز مرة عليها مع والده أبي عمران موسى، وكان ذلك زمان صباغة (1) الحرير عندهم، وقد ضربوا في بطن الوادي بين مقطعاته خيماً، وبعضهم يشرب وبعضهم يغني ويطرب، وسألوا: بم يعرف ذلك الموضع؟ فقالوا: الطراز، فقال والدي: اسم طابق مسمّاه، ولفظ وافق معناه،

وقد وجدت مكان القول ذا سعةٍ

فإن وجدت لساناً قائلاً فقل ثم قال أجز: بنارجةٍ حيث الطراز المنمنم

فقلت: أقم فوق نهرٍ ثغره يتبسّم

فقال: وسمعك نحو الهاتفات فإنّها

فقلت: لما أبصرت من بهجة تترنّم

فقال: أيا جنّة الفردوس لست بآدمٍ

فقلت: فلا يك حظّي من جناك التندّم

فقال: يعزّ علينا أن نزورك مثل ما

فقلت: يزور خيالٌ من سليمى مسلّم

فقال: فلو أنني أعطى الخيار لما عدت

فقلت: محلّك لي عينٌ بمرآك تنعم

فقال: بحيث الصّبا والطّلّ من نفثاتها

(1) ك: صناعة.

ص: 178

فقلت: وقت لسع روض فيه للنهر أرقم

فقال: فوا أسفي إن لم تكن لي عودةٌ

فقلت: فكن مالكاً إنّي عليك متمّم

فقال: فأحسب هذا آخر العهد بيننا

فقلت: وقد يلحظ الرّحمن شوقي فيرحم

فقال: سلامٌ سلامٌ لا يزال مردّداً

فقلت: عليك ولا زالت بك السّحب تسجم

[بلنسية وبعض قراها]

وقال ابن سعيد (1) : إن كورة بلنسية من شرق الأندلس تنبت الزعفران (2) ، وتعرف بمدينة التراب، وبها كمثرى تسمى الأرزة (3) في قدر حبّة العنب، قد جمع مع حلاوة المطعم (4) ذكاء الرائحة، إذا دخل داراً عرف بريحه، ويقال: إن ضوء بلنسية يزيد على ضوء سائر بلاد الأندلس، وبها منازه (5) ومسارح، ومن أبدعها وأشهرها الرّصافة ومنية ابن أبي عامر.

وقال الشرف أبو جعفر بن مسعدة الغرناطي من أبيات فيها:

هي الفردوس في الدنيا جمالاً

لساكنها وكارهها (6) البعوض وقال بعضهم فيها (7) :

(1) انظر جانباً من هذا الوصف في المغرب 2: 297 - 298.

(2)

ك: ينبت بها الزعفران.

(3)

دوزي: الأزرة. وفي التعليقات محاولة للربط بينها وبين لفظة (Azerola) المشتقة من الزعور.

(4)

ك: الطعم.

(5)

ك: منارة.

(6)

دوزي: مكارهها، ولعل فيه إشارة إلى الحديث " حفت الجنة بالمكاره ".

(7)

سيرد البيتان في الباب السابع من هذا الكتاب.

ص: 179

ضاقت بلنسية بي

وذاد عنّي غموضي

رقص البراغيث فيها

على غناء البعوض وفيها لابن الزقاق البلنسي (1) :

بلنسيةٌ إذا فكّرت فيها

وفي آياتها أسنى البلاد

وأعظم شاهدي منها عليها

وأنّ جمالها للعين بادي

كساها ربّها ديباج حسنٍ

له علمان من بحرٍ ووادي وقال ابن سعيد أيضاً: أنشدني والدي قال: أنشدني مروان بن عبد الله ابن عبد العزيز ملك بلنسية (2) لنفسه بمراكش قوله (3) :

كأنّ بلنسيةً كاعبٌ

وملبسها سندسٌ أخضر

إذا جئتها سترت نفسها

بأكمامها فهي لا تظهر وأمّا قول أبي عبد الله بن عياش " بلنسية بيني - البيتين " وقد سبقا (4)، فقال ابن سعيد: إن ذلك حيث صارت ثغراً يصابحها العدوّ ويماسيها، انتهى.

وقال أبو الحسن بن حريق يجاوب ابن عياش (5) :

بلنسيةٌ قرارة كلّ حسنٍ

حديثٌ صحّ في شرقٍ وغرب

(1) ديوان ابن الزقاق: 139 وانظر التخريجات للمقطوعة: 31.

(2)

ولي بلنسية في آخر عهد المرابطين حتى قام عليه جند بلنسية سنة 539 وبايعوا لابن عياض ملك مرسية، فانتقل إلى ميورقة ومنها إلى مراكش، وقد أطنب والد ابن سعيد في مدحه (المغرب 2: 300 - 301) .

(3)

البيتان في ياقوت: (بلنسية) .

(4)

انظر ما تقدم ص: 175.

(5)

ابو الحسن علي بن حريق (- 622) من شعراء زاد المشافر؛ ترجمته في التكملة 2: 679 (كوديرة) وزاد المسافر: 22 وسيرد له ذكر كثير في النفح، وانظر مقصورة حازم 1: 142 وقد وردت أبياته في زاد المسافر: 94 وياقوت: (بلنسية) .

ص: 180

فإن قالوا محلّ غلاء سعرٍ

ومسقط ديمتي طعنٍ وضرب

فقل هي جنّةٌ حفّت رباها

بمكروهين من جوعٍ وحرب وقال الرّصافي في رصافتها (1) :

ولا كالرّصافة من منزلٍ

سقته السحائب صوب الوليّ

أحنّ إليها ومن لي بها

وأين السّريّ من الموصليّ وقال ابن سعيد: وبرصافة بلنسية مناظر وبساتين ومياه، ولا نعلم في الأندلس ما يسمى بهذا الاسم إلا هذه ورصافة قرطبة، انتهى.

ومن أعمال بلنسية قرية المنصف التي منها الفقيه الزاهد أبو عبد الله المنصفي وقبره كان بسبتة يزار، رحمه الله تعالى، ومن نظمه (2) :

قالت لي النّفس أتاك الردى

وأنت في بحر الخطايا مقيم

فما ادّخرت الزاد، قلت: اقصري

هل يحمل الزاد لدار الكريم ومن عمل بلنسية قرية بطرنة، وهي التي كانت فيها الوقيعة المشهورة للنصارى على المسلمين، وفيها يقول أبو إسحاق بن معلّى الطرسوني (3) :

لبسوا الحديد إلى الوغى ولبستم

حلل الحرير عليكم ألوانا

ما كان أقبحهم وأحسنكم بها

لو لم يكن ببطرنةٍ ما كانا ومن عمل بلنسية متّيطة التي نسب إليها جماعةٌ من العلماء والأدباء.

(1) ديوان الرصافي: 124 نقلاً عن النفح.

(2)

انظر المغرب 2: 354 وسيترجم في النفح لأبي الحجاج المنصفي.

(3)

إبراهيم بن معلى (ق ك: يعلى؛ ط: علي الطرسوسي) الطرسوني شاعر اشتهر بمدح المقتدر بن هود، وطرسونة بلدة من مدن الثغر (ترجم له فيالذخيرة، القسم الثالث: 264 والمغرب 2: 457) وبيتاه في الذخيرة: 269 قالهما يصف خروج أهل لنسية للقاء العدو في غير ثياب الحرب، وتدعى هذه بوقعة بطرنة عام 455 وقد فصل ابن عذاري فيها القول 3:253.

ص: 181

ومن عمل بلنسية مدينة أندة التي في جبلها معدن الحديد، وأما رندة - بالراء - فهي في متوسط الأندلس، ولها حصنٌ يعرف بأندة أيضاً.

[متفرجات إشبيلية]

وفي إشبيلية - أعادها الله - من المتفرّجات والمتنزهات كثيرٌ، ومن ذلك مدينة طريانة، فإنّها من مدن إشبيلية ومتنزهاتها، وكذلك تيطل، فقد ذكر ابن سعيدٍ جزيرة تيطل (1) في المتفرجات.

[موسى بن سعيدٍ يأبى فراق الأندلس]

وقال أبو عمران موسى بن سعيدٍ في جوابه لأبي يحيى صاحب سبتة لما استوزره مستنصر بني عبد المؤمن، وكتب إلى المذكور يرغبه في النقلة عن الأندلس إلى مرّاكش، ما نصّ محلّ الحاجة منه: وأمّا ما ذكر سيّدي من التخيير بين ترك الأندلس وبين الوصول إلى حضرة مراكش، فكفى الفهم العالي من الإشارة قول القائل:

والعزّ محمودٌ وملتمسٌ

وألذّه ما نيل (2) في الوطن فإذا نلت بك السماء في تلك الحضرة، فعلى من أسود فيها؟ ومن ذا أضاهي بها؟

لا رقت بي همةٌ إن لم أكن

فيك قد أمّلت فوق (3) الأمل وبعد هذا، فكيف أفارق الأندلس وقد علم سيّدي أنها جنّة الدنيا بما

(1) ط ق ج: قبطل - في الموضعين -.

(2)

ك: ما كان.

(3)

ك: كل.

ص: 182

حباها الله به من اعتدال الهواء، وعذوبة الماء، وكثافة الأفياء، وأن الإنسان لا يبرح فيها بين قرّة عينٍ وقرار نفسٍ:

هي الأرض لا وردٌ لديها مكدّرٌ

ولا ظلّ مقصورٌ ولا روضٌ مجدب أفقٌ صقيلٌ، وبساطٌ مدبّجٌ، وماءٌ سائحٌ، وطائرٌ مترنمٌ بليلٌ، وكيف يعدل الأديب عن أرضٍ على هذه الصفة؟ فيا سموأل الوفاء، ويا حاتم السماح، ويا جذيمة الصفاء، كمّل لمن أمّلك النعمة بتركه في موطنه، غير مكدّرٍ لخاطره بالتحرك من معدنه، ملتفتاً إلى قول القائل (1) :

وسوّلت لي نفسي أن أفارقها

والماء في المزن أصفى منه في الغدر فإن أغناه اهتمام مؤمّله عن ارتياد المراد، وبلّغه دون أن يشد قتباً ولا أن ينضي عيساً غاية المراد، أنشد ناجح المرغوب، بالغ المطلوب:

وليس الذي يتّبّع الوبل رائداً

كمن جاءه في داره رائد الوبل وربّ قائلٍ إذا سمع هذا التبسط على الأماني: ماله تشطّط، وعدل عن سبيل التأدب وتبسّط؟ ولا جواب عندي إلاّ قول القائل:

فهذه خطّة مازلت أرقبها

فاليوم أبسط آمالي وأحتكم وما لي لا أنشد ما قاله المتنبي في سيف الدولة (2) :

ومن كنت بحراً له يا عليّ

لم يقبل الدّرّ إلاّ كبارا انتهى المقصود منه.

(1) هذا البيت من شعر الأعمى التطيلي يقوله في إزعامه مفارقة إشبيلية. (انظر ديوانه: 49) .

(2)

شرح الواحدي: 513.

ص: 183

[شريش ومجبناتها]

وقال الحجاري: إن مدينة شريش (1) بنت إشبيلية، وواديها ابن واديها، ما أشبه سعدى بسعيد، وهي مدينةٌ جليلةٌ ضخمة الأسواق، لأهلها هممٌ، وظرفٌ في اللباس، وإظهار الرفاهية، وتخلّقٌ بالآداب، ولا تكاد ترى بها إلاّ عاشقاً ومعشوقاً، ولها من الفواكه ما يعم ويفضل، وممّا اختصت به إحسان الصنعة في المجبنات، وطيب جبنها يعين على ذلك، ويقول أهل الأندلس: من دخل شريش ولم يأكل بها المجبنات فهو محروم، انتهى.

(والمجبنات: نوع من القطائف يضاف إليها الجبن في عجينها، وتقلى بالزيت الطيّب)(2) .

[شلب وكورة أكشونبة]

وفي شلب (3) يقول الفاضل الكاتب أبو عمرو (4) بن مالك بن سيدمير:

أشجاك النسيم حين يهبّ

أم سنى البرق إذ يخبّ ويخبو

أم هتوفٌ على الأراكة تشدو

أم هتونٌ من الغمامة سكب

كلّ هذاك للصّبابة داعٍ

أيّ صبٍّ دموعه لا تصبّ

أنا لولا النسيم والبرق والور

ق وصوب الغمام ما كنت أصبو

ذكرتني شلباً وهيهات منّي

بعدما استحكم التّباعد شلب وتسمى أعمال شلب كورة أكشونبة، وهي متصلة بكورة أشبونة، وهي - أعني أكشونبة - قاعدةٌ جليلةٌ، لها مدنٌ ومعاقلٌ، ودار ملكها قاعدة شلب،

(1) شريش (Jerez) إلى الجنوب الشرقي من بطليوس، وتشتهر اليوم بنبيذها.

(2)

والمجبنات

الطيب: سقطت من ق ط ج.

(3)

شلب (Silves) قاعدة كورة اكشونية، وهي في البرتغال الحالية.

(4)

في ج: أبو عمر؛ والأبيات في " المقتطفات ": 43.

ص: 184

وبينها وبين قرطبة سبعة أيام، ولما صارت لبني عبد المؤمن ملوك مراكش أضافوها إلى كورة إشبيلية، وتفتخر شلب بكون ذي الوزارتين ابن عمّار منها (1) ، سامحه الله.

ومنها القائد أبو مروان عبد الملك بن بدران، وربما قيل " ابن بدرون "(2) الأديب المشهور، شارح قصيدة ابن عبدون التي أولها (3) :

الدّهر يفجع بعد العين بالأثر

فما البكاء على الأشباح والصّور وهذا الشرح شهيرٌ بهذه البلاد المشرقية، ومن نظم ابن بدرون المذكور قوله:

العشق لذّته التّعنيق والقبل

كما منغّصه التثريب والعذل

يا ليت شعري هل يقضى وصالكم

لولا المنى لم يكن ذا العمر يتّصل ومنها نحويّ زمانه وعلاّمته أبو محمد عبد الله بن السّيد البطليوسي (4) ، فإن شلباً بيضته، ومنها كانت حركته ونهضته، كما في الذخيرة، وهو القائل:

إذا سألوني عن حالتي

وحاولت عذراً فلم يمكن

أقول: بخيرٍ، ولكنّه

كلامٌ يدور على الألسن

وربّك يعلم ما في الصّدور

ويعلم خائنة الأعين

(1) ابن عمار من شنبوس وهي قرية صغيرة من قرى شلب، راجع ترجمة ابن عمار في المغرب 2: 389 والحاشية.

(2)

ق: ابن زيدون - في الموضعين - وهو خطأ واضح.

(3)

ابو مروان عبد الملك بن عبد الله بن بدرون الحضرمي الشلبي، كان كاتباً بليغاً من أهل العناية التامة بالآداب تاريخياً، توفي ببلده بعد سنة 608 (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 21 والتكملة رقم: 1727 والتحفة: 108 وشرحه لقصيدة ابن بدرون وهو " كمامة الزهر وصدفة الدرر " نشره دروزي بليدن عام 1860 ثم نشر بمصر سنة 1340، أما ابن عبدون فهو شاعر بني الأفطس الذي رثاهم بهذه القصيدة وهو من يابرة (انظر المغرب 1: 374 والحاشية في مصادر ترجمته) .

(4)

ابن السيد البطليوسي (- 521) نسب إلى بطليوس لأنه لازمها كثيراص. انظر ترجمته في المغرب 1: 385 والحاشية؛ وأبياته التالية في المغرب 1: 386.

ص: 185

[أشعارٌ في بطليوس وشاطبة وبرجة]

وقال الوزير أبو عمرو بن الفلاّس (1) يمدح بطليوس بقوله:

بطليوس لا أنساك ما اتّصل البعد

فلله غورٌ في جنابك أو نجد

ولله دوحاتٌ تحفّك بينها

تفجّر واديها كما شقّق البرد وبنو الفلاّس من أعيان حضرة بطليوس، وأبو عمرو المذكور أشهرهم، وهو من رجال الذخيرة والمسهب، رحمه الله تعالى.

وفي شاطبة يقول بعضهم (2) :

نعم ملقى الرّحل شاطبةٌ

لفتىً طالت به الرّحل

بلدةٌ أوقاتها سحرٌ

وصباً في ذيله بلل

ونسيمٌ عرفه أرجٌ

ورياضٌ غصنها ثمل

ووجوهٌ كلّها غررٌ

وكلامٌ كلّه مثل وفي برجة يقول بعضهم:

إذا جئت برجة مستوفزاً

فخذ في المقام وخلّ السّفر

فكلّ مكانٍ بها جنّةٌ

وكلّ طريقٍ إليها سقر وقد تقدّم هذان البيتان (3) .

[رسالة للسان الدين في تفضيل الجهاد على الحج]

واعلم أنّه لو لم يكن للأندلس من الفضل سوى كونها ملاعب الجياد للجهاد

(1) المغرب 1: 363 وانظر ترجمة ابن الفلاس في الذخيرة (القسم الثالث: 139) وفي ك: الغلاس.

(2)

بعض هذه الأبيات في " المقتطفات ": 43.

(3)

انظر ص: 151 فيما تقدم، والبيت الأول لم يرد هنالك.

ص: 186

لكان كافياً، ويرحم الله لسان الدين بن الخطيب حيث كتب على لسان سلطانه إلى بعض العلماء العاملين ما فيه إشارةٌ إلى بعض ذلك، ما نصّه: من أمير المسلمين فلان، إلى الشيخ كذا ابن الشيخ كذا، وصل الله له سعادةً تجذبه، وعنايةً إليه تقرّبه، وقبولاً منه يدعوه إلى خير ما عند الله ويندبه، سلامٌ كريمٌ عليكم ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد حمد الله المرشد المثيب، السميع المجيب، معوّد اللطف الخفي والصنع العجيب، المتكفّل بإنجاز وعد النصر العزيز والفتح القريب، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمدٌ رسوله ذي القدر الرفيع والعز المنيع والجناب الرحيب، الذي به نرجو ظهور عبدة الله على عبدة الصليب، ونستظهر منه على العدو بالحبيب، ونعدّه عدّتنا لليوم العصيب، والرضا عن آله وصحبه الذين فازوا من مشاهدته بأوفى النصيب، ورموا إلى هدف مرضاته بالسّهم المصيب، فإنّا كتبناه إليكم - كتب الله تعالى لكم عملاً صالحاً يختم الجهاد صحائف بره، وتتمحّض لأن تكون كلمة الله هي العليا جوامع أمره، وجعلكم ممن تنهى في الأرض التي فتح فيها أبواب الجنة حصة (1) عمره - من حمراء غرناطة - حرسها الله تعالى - ولطف الله هامي السحاب، وصنعه رائق الجناب، والله يصل لنا ولكم ما عوّده من صلة لطفه عند انبتات الأسباب، وإلى هذا أيها المولى (2) الذي هو بركة المغرب المشار إليه بالبنان، وواحده في رفعة الشان، المؤثر ما عند الله على الزخرف الفتّان، المتقلّل من المتاع الفان، المستشرف إلى مقام العرفان، من درج الإسلام والإيمان والإحسان، فإنّنا لما نؤثره من بركم الذي نعدّه من الأمر الأكيد، ونضمره من ودكم الذي نحلّه (3) محل الكنز العتيد، ونلتمسه من دعائكم التماس العدة والعديد، لا نزال نسأل

(1) ك: مدة.

(2)

ق ج: الولي.

(3)

ق ج: محله.

ص: 187

عن أحوالكم التي ترقّت في أطوار السعادة، ووصلت جناب الحقّ بهجر العادة، وألقت إلى يد التسليم لله والتوكل عليه بالمقادة، فنسرّ بما هيأ الله تعالى لكم من القبول، وبلّغكم من المأمول، وألهمكم من الكلف بالقرب إليه والوصول، والفوز بما لديه والحصول. وعندما رد الله تعالى علينا ملكنا الرد الجميل، وأنّالنا فضله الجزيل، وكان لعثارنا المقيل، خاطبناكم بذلك لمكانكم من ودادنا، ومحلّكم من حسن اعتقادنا، ووجّهنا إلى وجهة دعائكم وجه اعتدادنا، والله ينفعنا بجميل الظن في دينكم المتين، وفضلكم المبين، ويجمع الشّمل بكم في الجهاد عن الدين. وتعرّفنا الآن ممّن له بأنبائكم اعتناء، وعلى جلالكم حمدٌ وثناء، ولجناب ودّكم اعتزاء وانتماء، بتجاول عزمكم بين حجٍّ مبرورٍ ترغبون من أجره في ازدياد، وتجددون العهد منه بأليف اعتياد، وبين رباطٍ في سبيل الله وجهادٍ، وتوثير مهاد بين ربىً أثيرةٌ عند الله ووهاد، يحشر يوم القيامة شهداؤها مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين، فرحين بما آتاهم الله من فضله، والله أصدق القائلين (1) الصادقين، حيث لا غرة لغير عدوّ الإسلام تتّقى، إلاّ لابتغاء ما لدى الله ترتقى، حيث رحمة الله قد فتحت أبوابها، وحور الجنان قد زينت أترابها، دار العرب الذين قرعوا باب الفتح، وفازوا بجزيل المنح، وخلدوا الآثار، وأرغموا الكفار، وأقالوا العثار، وأخذوا الثار، وأمنوا من لفح جهنم بما علا على وجوههم من ذلك الغبار، فكتبنا إليكم هذا نقوّي بصيرتكم على جهة الجهاد من العزمين، ونهيب بكم إلى إحدى الحسنيين، والصبح غير خافٍ على ذي عينين، والفضل ظاهرٌ لإحدى المنزلتين، فإنّكم إذا (2) حججتم أعدتم فرضاً أديتموه، وفضلاً ارتديتموه، فائدته عليكم مقصورةٌ، وقضيته فيكم محصورةٌ، وإذا أقمتم الجهاد جلبتم إلى

(1) القائلين: سقطت من ط ج ق.

(2)

ك: فإنكم إن.

ص: 188

حسناتكم عملاً غريباً، واستأنفتم سعياً من الله قريباً، وتعدّت المنفعة إلى ألوفٍ من النفوس، المستشعرة لباس البوس، ولو كان الجهاد بحيث يخفى عليكم فضله لأطنبنا، وأعنّة الاستدلال أرسلنا، هذا لو قدمتم على هذا الوطن وفضلكم غفل من الاشتهار، ومن به لا يوجب لكم ترفيع المقدار، فكيف وفضلكم أشهر من محيّا النهار، ولقاؤكم أشهى الآمال وآثر الأوطار، فإن قوي عزمكم والله يقوّيه، ويعيننا من برّكم على ما ننويه، فالبلاد بلادكم، وما فيها طريفكم وتلادكم، وكهولها إخوانكم، وأحداثها أولادكم، ونرجو أن تجدوا لذكركم الله في رباها حلاوةٌ زائدة، ولا تعدموا من روح الله فيها فائدة، وتتكيّف نفسكم فيها تكيّفاتٍ تقصر عنها خلوات السلوك، إلى ملك الملوك، حتى تغتبطوا بفضل الله الذي يوليكم، وتروا أثر رحمته فيكم وتخلفوا فخر هذا الانقطاع إلى الله في قبيلكم وبنيكم، وتختموا العمر الطيب بالجهاد الذي يعليكم، ومن الله تعالى يدنيكم، فنبيّكم العربي صلوات الله عليه وسلامه نبيّ الرحمة (1) والملاحم، ومعمل الصوارم، وبجهاد الفرنج ختم الناس عمل جهاده والأعمال بالخواتم، هذا على بعد بلادهم من بلاده، وأنتم أحقّ الناس بإقتفاء جهاده، والاستباق إلى آماده، هذا ما عندنا حثثناكم عليه، وندبناكم إليه، وأنتم في إيثار هذا الجوار، ومقارضة ما عندنا بقدومكم على بلادنا من الاستبشار، بحسب ما يخلق عنكم من بيده مقادة الاختيار، وتصريف الليل والنهار، وتقليب القلوب وإجالة الأفكار، وإذا تعارضت الحظوظ فما عند الله خير للأبرار، والدار الآخرة دار القرار، وخير الأعمال عملٌ أوصل إلى الجنّة وباعد من النار، ولتعلموا أن نفوس أهل الكشف والاطّلاع، بهذه الأرجاء والأصقاع، قد اتفقت أخبارها، واتحدت أسرارها، على البشارة بفتحٍ قرب أوانه، وأظلّ زمانه، فنرجو الله أن تكونوا ممّن يحضر مدعاه،

(1) الرحمة: سقطت من ق ط ج.

ص: 189

ويكرم فيه مسعاه، ويسلف فيه العمل الذي يشكره الله ويرعاه، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله وبركاته، انتهى.؟

[تشبيه الأندلس بالعقاب]

ولما دخل الأندلس أمير المسلمين عليّ ابن أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني ملك المغرب والأندلس، وأمعن النظر فيها، وتأمّل وصفها وحالها، قال: إنها تشبه عقاباً مخالبه طليطلة، وصدره قلعة رباح، ورأسه جيّان، ومنقاره غرناطة، وجناحه الأيمن باسط إلى المغرب، وجناحه الأيسر باسط إلى المشرق، في خبر طويل لم يحضرني الآن، إذ تركته مع كتبي بالمغرب، جمعني الله بها على أحسن الأحوال.

[المخزومي الأعمى ونزهون الغرناطية]

ومع كون أهل الأندلس سبّاق حلبة الجهاد، مهطعين إلى داعيه من الجبال والوهاد، فكان لهم في التّرف والنعيم والمجون ومداراة الشعراء خوف الهجاء محلٌ وثير المهاد، وسيأتي في الباب السابع من هذا القسم من ذلك وغيره ما يشفي ويكفي، ولكن سنح لي أن أذكر هنا حكاية أبي بكر المخزومي الهجاء المشهور الذي قال فيه لسان الدين بن الخطيب في الإحاطة (1) : إنّه كان أعمى شديد الشر، معروفاً بالهجاء، مسلطاً على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطناً للمعاريض، سابقاً في ميدان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره. والحكاية هي ما حكاه أبو الحسن ابن سعيد في الطالع السعيد، إذ قال حكاية عن أبيه فيما أظن: قدم المذكور - يعني المخزومي - على غرناطة أيام ولاية أبي بكر ابن سعيد،

(1) الإحاطة 1: 432 - 435.

ص: 190

ونزل قريباً مني، وكنت أسمع به بنار صاعقة يرسلها الله على من يشاء من عباده، ثم رأيت أن أبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعيته بهذا الأبيات:

يا ثانياً للمعرّي

في حسن نظمٍ ونثر

وفرط ظرفٍ ونبلٍ

وغوص فهمٍ وفكر

صل ثمّ واصل حفيّاً

بكلّ برٍّ وشكر (1)

وليس إلاّ حديثٌ

كما وهى عقد درّ

وشادنٌ يتغنّى

على ربابٍ وزمر

وما يسامح فيه ال

غفور من كأس خمر

وبيننا عهد حلفٍ

لياسرٍ حلف كفر

نعم فجدّده عهداً

بطيب سكرٍ (2) ويسر

والكأس مثل رضاغٍ

ومن كمثلك يدري ووجّه له الوزير أبو بكرٍ (3) ابن سعيدٍ عبداً صغيراً قاده، فلمّا استقر به المجلس، وأفعمته روائح النّدّ والعود والأزهار، وهزّت عطفه الأوتار، وقال:

دار السعيديّ ذي أم دار رضوان

ما تشتهي النفس فيها حاضرٌ داني

سقت أباريقها للندّ سحب ندىً

تحدى برعدٍ لأوتارٍ وعيدان (4)

والبرق من كلّ دنٍّ ساكبٌ مطراً

يحيا به ميت أفكارٍ وأشجان

هذا النّعيم الذي كنّا نحدّثه

ولا سبيل له إلاّ بآذان فقال له أبو بكرٍ ابن سعيدٍ: وإلى الآن لا سبيل له إلاّ بآذان؟ فقال: حتى

(1) ق الإحاطة: بكل شكر وبر.

(2)

في النسخ: شكر. دوزي: فقم نجدده.

(3)

أبو بكر: سقطت من ق.

(4)

ق ط ج: وألحان.

ص: 191

يبعث الله ولد زنى كلما أنشدت هذه الأبيات قال: إنّ قائلها أعمى، فقال: أمّا أنا فما أنطق بحرفٍ، فقال: من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي حاضرةٌ فقالت: وتراك يا أستاذ قديم النعمة بمجمر ندّ وغناء وشراب، فتعجب من تأتّيه وتشبهه بنعيم الجنّة، وتقول: ما كان يعلم إلاّ بالسماع، ولا يبلغ إليه بالعيان؟ ولكن من يجيء من حصن المدوّر، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفة بمجالس النعيم؟ فلما استوفت كلامها تنحنح الأعمى (1)، فقالت له: ذبحة، فقال من هذه الفاضلة؟ فقالت: عجوز مقام أمك، فقال: كذبت، ما هذا صوت عجوز، إنّما هذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح هنها على فرسخ؛ فقال له أبو بكر: يا أستاذ، هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرة الأديبة، فقال: سمعت بها، لا أسمعها الله خيراً، ولا أراها إلاّ أيراً. فقالت له: يا شيخ سوء تناقضت، وأيّ خير للمرأة مثل ما ذكرت؟ ففكر ساعة ثمّ قال:

على وجه نزهونٍ من الحسن مسحةٌ

وإن كان قد أمسى من الضوء عاريا

قواصد نزهونٍ توارك غيرها

ومن قصد البحر استقلّ السواقيا فأعملت فكرها ثمّ قالت:

قل للوضيع مقالاً

يتلى إلى حين يحشر

من المدوّر أنشئ

ت والخرا منه أعطر

حيث البداوة أمست

في مشيها تتبختر

لذاك أمسيت صبّاً

بكلّ شيء مدوّر

خلقت أعمى ولكن

تهيم في كلّ أعور

جازيت شعراً بشعرٍ

فقل لعمري من أشعر

(1) الأعمى: سقطت من ك.

ص: 192

إن كنت في الخلق أنثى

فإنّ شعري مذكّر فقال لها اسمعي:

ألا قل لنزهونةٍ ما لها

تجرّ من التيه أذيالها

ولو أبصرت فيشة شمّرت

كما عوّدتني سربالها فحلف أبو بكرٍ ابن سعيدٍ أن لا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه كلمةً، فقال المخزومي: أكون هجّاء الأندلس وأكفّ عنها دون شيءٍ؟ فقال: أنا أشتري منك عرضها فاطلب، فقال: بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك، فإنّه لين اليد رقيق المشي، فقال أبو بكرٍ: لولا كونه صغيراً كنت أبلغك به مرادك، وأهبه لك، ففهم قصده وقال: أصبر عليه حتى يكبر، ولو كان كبيراً ما آثرتني به على نفسك! فضحك أبو بكرٍ، وقال: إن لم تهج نظماً هجوت نثراً، فقال: أيّها الوزير لا تبديل لخلق الله. وانفصل المخزومي بالعبد بعدما أصلح الزوير بينه وبين نزهون، انتهى.

وفي كتاب " الدر المنضد، في وفيات أعيان أمة محمد " تأليف الأمير صارم الدين إبراهيم بن دقماق (1)، قال أبو القاسم بن خلف: كان - يعني المخزومي المذكور - حيّاً بعد الأربعين وخمسمائة، انتهى.

[قصة استطرادية]

ونقلت من كتاب " قطب السرور "(2) لابن الرقيق المغربي، ما ملخصه (3) :

(1) إبراهيم بن محمد بن ايدمر بن دقماق القاهري صارم الدين (- 809) مؤرخ مصر، كان مكثراً من التأليف في التاريخ، وهو صاحب كتاب " الانتصار لواسطة عقد الأمصار " في تاريخ مصر (الضوء اللامع 1: 145) ؛ وفي ك: الإمام صارم الدين.

(2)

قطب السرور في وصف الأنبذة والخمور. (انظر تكملة بروكلمان 1: 252 ومنه جزء بخزانة الرباط) .

(3)

ورد النص في " المقتطفات ": 43 وما بعدها.

ص: 193

وممّن أدركته وعاشرته عبد الوهاب بن حسين بن جعفر الحاجب، وذكرته هنا لأنّه ملحق بالأمراء المتقدمين غير خارجٍ منهم ولا مقصرٍ عنهم، بل كان واحد عصره في الغناء الرائق، والأدب الرائع، والشعر الرقيق، واللفظ الأنيق، ورقة الطبع، وإصابة النادر، والتشبيه المصيب، والبديهة التي لا يلحق فيها؛ مع شرف النفس، وعلوّ الهمة، وكان قد قطع عمره، وأفنى دهره، في اللهو واللعب، والفكاهة والطرب، وكان أعلم الناس بضرب العود، واختلاف طرائقه، وصنعة اللحون، وكثيراً ما يقول المعاني اللطيفة في الأبيات الحسنة، ويصوغ عليها الألحان المطربة البديعة المعجبة، اختراعاً منه وحذقاً، وكانت له في ذلك قريحةٌ وطبعٌ، وكان إذا لم يزره أحدٌ من إخوانه أحضر مائدته وشرابه عشرة من أهل بيته، منهم ولده وعبد الله ابن أخيه وبعض غلمانه، وكلهم يغنّي فيجيد، فلا يزالون يغنون بين يديه حتى يطرب، فيدعو بالعود ونغني لنفسه ولهم، وكان بشارة الزامر الذي يزمر عليه من حذّاق زمرة المشرق؛ وكان بعيد الهمّة سمحاً بما يجد، تغلّ عليه ضياعه كلّ عامٍ أموالاً جليلةً، فلا تحول السنة حتى ينفد جميع ذلك ويستسلف غيره، فكان لا يطرأ من المشرق مغنّ إلا سأل من يقصد بهذا الشأن، فيدل عليه، فمن وصله منهم استقبله بصنوف البر والإكرام، وكساه وخلطه بنفسه ولم يدعه إلى أحدٍ من الناس، فلا يزال معه في صبوحٍ وغبوقٍ، وهو مجدّدٌ له كل يومٍ كرامةٌ، حتى يأخذ جميع ما معه من صوتٍ مطربٍ أو حكايةٍ نادرةٍ.

وجلس يوماً وقد زاره رجلان من إخوانه، وحضر أقرباؤه، فطعموا وشربوا وأخذوا في الغناء، فارتجّ المجلس، إذ دخل عليه بعض غلمانه فقال: بالباب رجلٌ غريبٌ عليه ثياب السفر، ذكر أنّه ضيفٌ، فأمر بإدخاله، فإذا رجلٌ أسمرٌ سناطٌ (1) ، رث الهيئة، فسلّم عليه، قال: أين بلد الرجل؟

(1) سناط: ليس في عارضيه.

ص: 194

قال: البصرة، فرحّب به، وأمره بالجلوس، فجلس مع الغلمان في صفّة، وأتي بطعامٍ فأكل وسقي أقداحاً، ودار الغناء في المجلس، حتى انتهى إلى آخرهم، فلمّا سكتوا اندفع يغني بصوتٍ نديٍّ وطبع حسنٍ:

ألا يا دار ما الهجر

لسكّانك من شاني

سقيت الغيث من دارٍ

وإن هيجت أشجاني

ولو شئت لما استسقي

ت غيثاً غير أجفاني

بنفسي حلّ أهلوك

وإن بانوا بسلواني

وما الدّهر بمأمونٍ

على تشتيت خلاّني فطرب عبد الوهاب وصاح، وتبين الحذق في إشارته، والطيب في طبعه، وقال: يا غلام، خذ بيده إلى الحمّام، وعجّل عليّ به فأدخل الحمّام، ونظف، ثم دعا عبد الوهاب بخلعة من ثيابه فألقيت عليه، ورفعه فأجلسه عن يساره، وأقبل عليه وبسطه، فغنى له:

قومي امزجي التبر باللّجين

واحتملي الرطل باليدين

واغتنمي غفلة اللّيالي

فربّما أيقظت لحين

فقد لعمري أقرّ منّا

هلال شوّال كلّ عين

ذات الخلاخيل أبصرته

كنصف خلخالها اللّجيني فطرب وشرب، واستزاده، فغنّاه:

من لي على رغم الحسود بقهوةٍ

بكرٍ ربيبة حانةٍ عذراء

موجٌ من الذهب المذاب تضمّه

كأسٌ كقشر الدّرّة البيضاء

والنجم في أفق السماء كأنّه

عينٌ تخالس غفلة الرّقباء فشرب عبد الوهاب ثمّ قال: زدني، فغناه:

ص: 195

وأنت الذي أشرقت عيني بمائها

وعلّمتها بالهجر أن تهجر الغمضا

وأغرقتها بالدمع حتى جفونها

لينكر من فقد الكرى بعضها بعضا فمرّ يومٌ من أحسن الأيام وأطيبها، ووصله وأحسن إليه، ولم يزل عنده مقرّباً مكرّماً، وكان خليعاً ماجناً مشتهراً بالنبيذ، فخلاّه وما أحبّ، ثمّ وصف له الأندلس وطيبها، وكثرة خمورها، فمضى إليها ومات بها، وعلى نحو هذه الحال كان يفعل بكل طارئٍ يطرأ من المشرق، ولو ذكرتهم لطال بهم الكتاب، انتهى.

وغرضي من إيراد هذه الحكاية هنا كونه وصف للمشرقيّ الأندلس وطيبها، وذلك أمرٌ لا يشك فيه ولا يرتاب، والله المسئول في حسن المتاب.

[قصر باديس بغرناطة]

ورأيت في بعض كتب تاريخ الأندلس في ترجمة السلطان باديس الصّنهاجيّ صاحب غرناطة، ما نصّه: وهو الذي أكمل ترتيب قصبة مالقة، وكان أفرس الناس وأنبلهم، ذا مروءةٍ ونجدةٍ، وقصره بغرناطة ليس ببلاد الإسلام والكفر مثله، فيما قيل، انتهى.

وهذا القصر هو الذي عناه لسان الدين بن الخطيب في قصيدته السينية المذكورة في الباب الخامس من القسم الثاني من هذا الكتاب، فلتراجع ثمة.

[سرقسطة وخواصها]

وذكر غير واحدٍ من المحدثين والمؤرخين أن مدينة سرقسطة لا يدخلها الثعبان من قبل نفسه، وإذا أدخله أحدٌ لم يتحرك، ونظير هذا المعنى في بعض الحيوانات بالنسبة إلى بعض البلاد كثير، وذلك برصدٍ أو طلّسم، وقد استطرد بعض علماء أصول الدين ذلك عندما تكلموا على السحر حسبما قرّر في محله

ص: 196

والله أعلم.

هكذا رأيت في كلام بعض علماء المشارقة، والذي رأيته لبعض مؤرخي المغرب في سرقسطة (1) أنّها لا تدخلها عقربٌ ولا حيةٌ إلا ماتت من ساعتها، ويؤتى بالحيّات والعقارب إليها حيّةً فبنفس ما تدخل إلى جوف البلد تموت، قال: ولا يتسوّس فيها شيء من الطعام ولا يعفن، ويوجد فيها القمح من مائة سنة، والعنب المعلّق من ستة أعوام، والتين والخوخ وحب الملوك والتفاح والإجاص اليابسة من أربعة أعوام؛ والفول والحمّص من عشرين سنة، ولا يسوّس فيها خشب ولا ثوب صوفاً كان أو حريراً أو كتاناً، وليس في بلاد الأندلس أكثر فاكهة منها، ولا أطيب طعماً، ولا أكبر جرماً، والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال، ولها أعمالٌ كثيرةٌ: مدنٌ وحصونٌ وقرىً مسافة أربعين ميلاً، وهي تضاهي مدن العراق في كثرة الأشجار والأنهار، وبالجملة فأمرها عظيم، وقد أسلفنا ذكرها.

[السمّور بالأندلس]

واعم أن بأرض الأندلس من الخصب والنّضرة وعجائب الصنائع وغرائب الدّنيا ما لا يوجد مجموعه غالباً في غيرها، فمن ذلك ما ذكره الحجاري في المسهب: أن السّمّور الذي يعمل من وبره الفراء الرفيعة يوجد في البحر المحيط بالأندلس من جهة جزيرة برطانية، ويجلب إلى سرقسطة ويصنع بها. ولما ذكر ابن غالب وبر السّمّور الذي يصنع بقرطبة قال: هذا السمّور المذكور هنا لم أتحقق ما هو، ولا ما عني به، إن كان هو نباتاً عندهم أو وبر الدابة المعروفة، فإن كانت الدابة المعروفة فهي دابةٌ تكون في البحر، وتخرج إلى البر، وعندها قوّة ميزٍ. وقال حامد بن سمجون الطبيب صاحب كتاب الأدوية

(1) انظر مخطوطة الرباط: 62.

ص: 197

المفردة (1) : هو حيوانٌ يكون في بحر الروم، ولا يحتاج منه إلاّ إلى خصاه، فيخرج الحيوان من البحر في البر، فيؤخذ وتقطع خصاه، ويطلق، فربّما عرض للقناصين مرّةً أخرى (2) ، فإذا أحسّ بهم وخشي أن لا يفوتهم استلقى على ظهره وفرج بين فخذيه ليرى موضع خصييه خالياً، فإذا رآه القناصون كذلك تركوه، قال ابن غالب: ويسمى هذا الحيوان أيضاً الجندبادستر (3) ، والدواء الذي يصنع من خصييه من الأدوية الرفيعة، ومنافعه كثيرة، وخاصيته في العلل الباردة، وهو حارٌ يابس في الدرجة الرابعة.

[فراء القنلية]

والقنلية (4) حيوان أدق من الأرنب وأطيب في الطعم وأحسن وبراً، وكثيراً ما تلبس فراؤها، ويستعملها أهل الأندلس من المسلمين والنصارى، ولا توجد في برّ البربر إلا ما جلب منها إلى سبتة فنشأ في جوانبها، قال ابن سعيدٍ: وقد جلبت في هذه المدّة إلى تونس حضرة إفريقية.

[سائر حيواناتها وطيورها]

ويكون بالأندلس من الغزال والأيل وحمار الوحش وبقره وغير ذلك ممّا يوجد في غيرها كثير (5) ، وأما الأسد فلا يوجد فيها البتة، ولا الفيل والزرافة

(1) أبو بكر حامد بن سمجون (- 392) طبيب أندلسي، متميز في قوى الأدوية المفردة وكتابه فيها كان مشهوراص بالجودة وقد بالغ فيه وأجهد نفسه في تأليفه، وقد كتبه للمنصور بن أبي عامر. (انظر ابن أبي أصيبعة 2: 51 - 52) .

(2)

ق: ثانية.

(3)

الجندبادستر: حيوان كهيئة الكلب ويسمى القندر، ويسمى السمور أيضاً، وهو على هيئة الثعلب أحمر اللون وذنبه طويل (الدميري 1: 243 ونخبة الدهر: 147) .

(4)

شبيه بالأرنب ويسمى بالإيطالية (Coniglio) . وفي ط: القلنية.

(5)

ك: مما لا يوجد

كثيراً.

ص: 198

وغير ذلك ممّا يكون في أقاليم الحرارة، ولها سبع يعرف باللّب (1) أكبر بقليلٍ من الذئب في نهاية من القحّة، وقد يفترس الرجل إذا كان جائعاً.

وبغل الأندلس فارهة، وخيلها ضخمة الأجسام، حصون للقتال لحمها الدروع وثقال السلاح والعدو في خيل البرّ الجنوبيّ.

ولها من الطيور الجوارح وغيرها ما يكثر ذكره ويطول، وكذلك حيوان البحر، ودوابّ بحرها المحيط في نهاية من الطول والعرض.

قال ابن سعيد: عاينت من ذلك العجب، والمسافرون في البحر يخافون منها لئلا تقلب المراكب، فيقطعون الكلام، ولها نفخٌ بالماء من فيها يقوم في الجو ذا ارتفاع مفرط.

[أنواع الأفاويه فيها]

وقال ابن سعيد: قال المسعودي في مروج الذهب: في الأندلس من أنواع الأفاويه خمسة وعشرون صنفاً: منها السنبل، والقرنفل، والصندل، والقرفة، وقصب الذريرة، وغير ذلك.

وذكر ابن غالب أن المسعودي قال: أصول الطيب خمسة أصناف: المسك، والكافور، والعود، والعنبر، والزعفران، وكلها من أرض الهند، إلاّ الزعفران والعنبر، فإنهما موجودان في أرض الأندلس، ويوجد العنبر في أرض الشّحر.

قال ابن سعيد: وقد تكلموا في أصل العنبر (2)، فذكر بعضهم أنّه عيون تنبع في قعر البحر يصير منها ما تبلعه الدواب وتقذفه. قال الحجاري: ومنهم من قال: إنّه نبات في قعر البحر.

وقد تقدم قول الرازي إن المحلب - وهو المقدم في الأفاويه، والمفضل في

(1) هو ما يسمى بالإسبانية (Lobo) وباللاتينية (Lupus) ، وقد أطلق الاسم علماً على كثير من الرجال المترجم بهم في كتب التراجم الأندلسية.

(2)

انظر مختلف الأقاويل في أصل العنبر في ابن البيطار 3: 134.

ص: 199

أنواع الأشنان - لا يوجد في شيء من الأرض إلاّ بالهند والأندلس.

قال ابن سعيد: وفي الأندلس مواضع ذكروا أن النار إذا أطلقت فيها فاحت بروائح العود وما أشبهه، وفي جبل شلير أفاويه هندية.

[ثمارها وفواكهها]

قال: وأما الثمار وأصناف الفواكه فالأندلس أسعد بلاد الله بكثرتها، ويوجد في سواحلها قصب السكر والموز، المعدومان (1) في الأقاليم الباردة، ولا يعدم منها إلا التمر، ولها من أنواع الفواكه ما يعدم في غيرها أو يقلّ، كالتين القوطيّ والتين الشعري (2) بإشبيلية.

قال ابن سعيد: وهذان صنفان لم تر عيني ولم أذق لهما منذ خرجت من الأندلس ما يفضلهما، وكذلك التين المالقيّ والزبيب المنكّبي والزبيب العسليّ والرمان السفري (3) والخوخ والجوز واللوز، وغير ذلك ممّا يطول ذكره.

[معادنها وأحجارها وقرمزها]

وقد ذكر ابن سعيد أيضاً أن الأرض الشمالية المغربية فيها المعادن السبعة، وأنّها في الأندلس التي هي بعض تلك الأرض، وأعظم معدن للذهب بالأندلس في جهة شنت ياقوه قاعدة الجلالقة على البحر المحيط، وفي جهة قرطبة الفضة والزئبق، والنحاس في شمال الأندلس كثير، والصّفر الذي يكاد يشبه الذهب، وغير ذلك من المعادن المتفرقة في أماكنها.

(1) ك: ويوجدان.

(2)

ك: السفري.

(3)

الرمان السفري: حدث الخشني (قضاة قرطبة) : 32 كيف دخل الأندلس، وقال إن الذي زرعه رجل امه " سفر "، وهذا الرمان عرف بالإسبانية باسم (Zafari) وسيتحدث عنه المقري بتفصيل في الباب الرابع.

ص: 200

والعين التي يخرج منها الزاج في لبلة مشهورة، وهو كثير مفضل في البلاد منسوب، وبجبل طليطلة جبل الطّفل الذي يجهز إلى البلاد، ويفضل على كل طفل بالمشرق والمغرب.

وبالأندلس عدة مقاطع للرخام، وذكر الرازي أن بجبل قرطبة مقاطع الرخام الأبيض الناصع (1) والخمري، وفي ناشرة مقطع عجيب للعمد، وبباغه من مملكة غرناطة مقاطع للرخام كثيرة غريبة موشاة في حمرة وصفرة، وغير ذلك من المقاطع التي بالأندلس من الرخام الحالك والمجزّع.

وحصى المريّة يحمل إلى البلاد فإنّه كالدر في رونقه، وله ألوان عجيبة، ومن عادتهم أن يضعوه في كيزان الماء.

وفي الأندلس من الأمنان التي تنزل من السماء القرمز الذي ينزل على شجر البلّوط فيجمعه الناس من الشّعرا ويصبغون به، فيخرج منه اللون الأحمر الذي لا تفوقه حمرة.

[مصنوعاتها]

قال ابن سعيد: وإلى مصنوعات الأندلس ينتهي التفضيل، وللمتعصبين لها في ذلك كلام كثير، فقد اختصت المريّة ومالقة ومرسية بالوشي (2) المذهب الذي يتعجب من حسن صنعته أهل المشرق إذا رأوا منه شيئاً، وفي تنتالة من عمل مرسية تعمل البسط التي يغالى في ثمنها بالمشرق، ويصنع في غرناطة وبسطة من ثياب اللباس المحررة الصنف الذي يعرف بالملبد المختم ذو الألوان العجيبة، ويصنع في مرسية من الأسرّة المرصعة والحصر الفتانة الصنعة وآلات الصّفر والحديد من السكاكين والأمقاص المذهّبة وغير ذلك من آلات العروس

(1) ك: الناصع اللون.

(2)

ك: بالموشى.

ص: 201

والجنديّ ما يبهر العقل، ومنها تجهز هذه الأصناف إلى بلاد إفريقية وغيرها. ويصنع بها وبالمريّة ومالقة الزجاج الغريب العجيب وفخار مزجج مذهب، ويصنع بالأندلس نوع من المفصّص (1) المعروف في المشرق بالفسيفساء ونوع يبسط به قاعات ديارهم يعرف بالزّليجي (2) يشبه المفصّص، وهو ذو ألوان عجيبة يقيمونه مقام الرخام الملّون الذي يصرفه أهل المشرق في زخرفة بيوتهم كالشاذروان، وما يجري مجراه.

[الأسلحة]

وأمّا آلات الحرب من التّراس والرّماح والسّروج والألجم (3) والدروع والمغافر فأكثر همم أهل الأندلس - فيما حكى ابن سعيد - كانت مصروفة إلى هذا الشأن، ويصنع منها في بلاد الكفر ما يبهر العقول، قال: والسيوف البرذليات مشهورة بالجودة، وبرذيل: آخر بلاد الأندلس (4) من جهة الشمال والمشرق، والفولاذ الذي بإشبيلية إليه النهاية، وفي إشبيلية من دقائق الصنائع ما يطول ذكره.

[الآثار الأولية بالأندلس]

وقد أفرد ابن غالب في " فرحة الأنفس " للآثار الأولية التي بالأندلس من كتابه مكاناً، فقال: منها ما كان من جلبهم الماء من البحر الملح إلى الأرحيّ التي بطركونة على وزن لطيف وتدبير محكم حتى طحنت به، وذلك من أعجب ما صنع. ومن ذلك ما صنعه الأول أيضاً من جلب الماء في البحر المحيط

(1) ك: المفضض.

(2)

هو ما يسمى بالإسبانية: (Azulejo) ؛ وفي ق: بالزلنجي، وهو خطأ.

(3)

ج: واللجم.

(4)

ق ط ج: آخر الأندلس.

ص: 202

إلى جزيرة قادس من العين التي في إقليم الأصنام، جلبوه في جوف البحر في الصخر المجوّف ذعراً في أنثى وشقّوا به الجبال، فإذا وصلوا به إلى المواضع المنخفضة بنوا له قناطر على حنايا، فإذا جاوزها واتصل بالأرض المعتدلة رجعوا إلى البنيان المذكور، فإذا صادف سبخة بني له رصيف وأجري عليه، وهكذا إلى أن انتهي به إلى البحر، ثمّ دخل به في البحر، وأخرج في جزيرة قادس، والبنيان الذي عليه الماء في البحر ظاهر بيّن، قال ابن سعيد: إلى وقتنا هذا.

ومنها الرصيف المشهور بالأندلس (1)، قال في بعض أخبار رومية: إنّه لما وليّ يوليش المعروف بجاشر، وابتدأ بتذريع الأرض وتكسيرها، كان ابتداؤه بذلك من مدينة رومية إلى المشرق منها وإلى المغرب وإلى الشمال وإلى الجنوب، ثمّ بدأ بفرش المبلّطة (2) ، وأقبل بها على وسط دائرة الأرض إلى أن بلغ بها أرض الأندلس وركزها شرقي قرطبة ببابها المتطامن المعروف بباب عبد الجبار، ثمّ ابتدأها من باب القنطرة قبليّ قرطبة إلى شقندة إلى إستجة إلى قرمونة إلى البحر، وأقام على كل ميل سارية قد نقش عليها اسمه من مدينة رومية، وذكر أنّه أراد تسقيفها في بعض الأماكن راحة للخاطرين من وهج الصيف وهول الشتاء، ثم توقّع أن يكون ذلك فساداً في الأرض وتغييراً للطرق (3) عند انتشار اللصوص وأهل الشرّ فيها في المواضع المنقطعة النائية عن العمران، فتركها على ما هي عليه. وذكر في هذه الآثار صنم قادس الذي ليس له نظير إلا الصنم الذي بطرف جلّيقية، وذكر قنطرة طليطلة وقنطرة السيف وقنطرة ماردة، وملعب مربيطر.

قال ابن سعيد: وفي الأندلس عجائب، منها الشجرة التي لولا كثرة ذكر العامة لها بالأندلس ما ذكرتها، فإن خبرها شائع متواتر، وقد رأيت من

(1) ومنها

بالأندلس: سقطت من ق.

(2)

ك: المبطلة.

(3)

ق: للطريق.

ص: 203

يشهد بخبرها ورؤيتها، وهم جمٌّ غفير، وهي شجرة زيتون تصنع الورق والنّور والثمر في يوم واحد معلوم عندهم من أيام السنة الشمسية.

ومن العجائب السارية التي بغرب الأندلس، ما يزعم (1) الجمهور أن أهل ذلك المكان إذا أحبوا المطر أقاموها فيمطر الله جهتهم.

ومنها صنم قادس، طول ما كان قائماً كان يمنع الريح أن تهبّ في البحر المحيط فلا تستطيع المراكب الكبار على الجري فيه، فلمّا هدم في أول دولة بني عبد المؤمن صارت السفن تجري فيه.

وبكورة قبرة مغارة ذكرها الرازي وحكى أنّه يقال: إنّها باب من أبواب الريح لا يدرك لها قعر.

وذكر الرازي أن في جهة قلعة ورد جبلاً فيه شقٌّ في صخرة داخل كهفٍ فيه فأس حديدٍ متعلق من الشق الذي في الصخرة، تراه العيون وتلمسه اليد، ومن رام إخراجه لم يطق ذلك، وإذا رفعته اليد ارتفع وغاب في شق الصخرة ثم يعود إلى حالته.

وأمّا ما أورده ابن بشكوال (2) من الأحاديث والآثار في شأن فضل الأندلس والمغرب فقد ذكرها ابن سعيد في كتابه المغرب، ولم أذكرها أنا، والله أعلم بحقيقة أمرها، وكذلك ما ذكره ابن بشكوال من أن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس، قال: وذكره (3) سيف عن عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه - والله أعم بصحة ذلك - ولعلّ المراد بالقسطنطينية رومية، والله أعلم.

قال سيف: وذلك أن عثمان ندب جيشاً من القيروان إلى الأندلس، وكتب لهم: أما بعد، فإن فتح القسطنطينية إنما يكون من قبل الأندلس، فإنّكم إن

(1) سقطت " ما " من ك.

(2)

ما ينقله المقري عن ابن بشكوال إنما هو من كتاب له في تاريخ الأندلس لم يصلنا، وقد وردت هذه الأحاديث في مخطوطة الرباط:10.

(3)

يعني الأخباري " سيف بن عمر " أحد الرواة الذين اعتمدهم الطبري.

ص: 204

فتحتموها كنتم الشركاء في الأجر، والسلام، انتهى.

قلت: عهدة هذه الأمور على ناقلها، وأنا بريء من عهدتها، وإن ذكرها ابن بشكوال وصاحب المغرب وغير واحد فإنّها عندي لا أصل لها، وأيّ وقت بعث عثمان إلى الأندلس؟ مع أن فتحها بالاتفاق إنّما كان زمان الوليد، وإنّما ذكرت هذا للتنبيه عليه، لا غير، والله أعلم.

[وصف ابن سعيد للأندلس]

قال ابن سعيد: وميزان وصف الأندلس أنها جزيرة قد أحدقت بها البحار، فأكثرت فيها الخصب والعمارة من كل جهة، فمتى سافرت من مدينة إلى مدينة لا تكاد تنقطع من العمارة ما بين قرى ومياه ومزارع، والصحارى فيها معدومة. وممّا اختصّت به أن قراها في نهاية من الجمال لتصنّع أهلها في أوضاعها وتبييضها، لئلا تنبوالعيون عنها، فهي كما قال الوزير ابن الحمارة فيها (1) :

لاحت قراها بين خضرةٍ أيكها

كالدّرّ بين زبرجدٍ مكنون ولقد تعجبت لما دخلت الديار المصرية من أوضاع قراها التي تكدّر العين بسوادها، ويضيق الصدر بضيق أوضاعها، وفي الأندلس جهات تقرب فيها المدينة العظيمة الممصّرة من مثلها، والمثال في ذلك أنّك إذا توجهت من إشبيلية فعلى مسيرة يوم وبعض آخر مدينة شريش، وهي في نهاية من الحضارة والنّضارة، ثم يليها الجزيرة الخضراء كذلك، ثم مالقة، وهذا كثير في الأندلس، ولهذا كثرت مدنها وأكثرها مسوّر من أجل الاستعداد للعدوّ، فحصل لها بذلك التشييد والتزيين، وفي حصونها ما يبقى في محاربة العدو ما ينيّف

(1) محمد بن الحمارة الغرناطي أبو عامر، تلميذ ابن باجة، كان بارعاً في علم الألحان وصناعة الأعواد (ترجمة في بغية الملتمس ص: 517 والمغرب 2: 120 وسيذكره المقري باسم " أبو الحسين علي بن الحمارة "، فلعله شخص آخر.

ص: 205

على عشرين سنة لامتناع معاقلها، ودربة أهلها على الحرب، واعتيادهم لمجاورة العدوّ بالطعن والضرب، وكثرة ما تنخزن الغلة في مطاميرها، فمنها ما يطول صبره عليها نحواً من مائة سنة. قال ابن سعيد: ولذلك أدامها الله تعالى من وقت الفتح إلى الآن، وإن كان العدوّ قد نقصها من أطرافها، وشارك في أوساطها ففي البقية منعة عظيمة، فأرض بقي فيها مثل إشبيلية وغرناطة ومالقة والمريّة وما ينضاف إلى هذه الحواضر العظيمة الممصّرة الرجاء فيها قويّ بحول الله وقوته، انتهى.

قلت: قد خاب ذلك الرجاء، وصارت تلك الأرجاء للكفر معرجاً، ونسأل الله تعالى الذي جعل للهمّ فرجاً، وللضيق مخرجاً، أن يعيد إليها كلمة الإسلام حتى يستنشق أهله منه فيها أرجاً، آمين.

[بيلتا طليطلة]

ومن غرائب الأندلس: اللبيلتان (1) اللتان بطليطلة، صنعهما عبد الرحمن (2) لما سمع بخبر الطّلّسم الذي بمدينة أرين من أرض الهند، وقد ذكره المسعودي، وأنّه يدور بإصبعه من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، فصنع هو هاتين البيلتين خارج طليطلة في بيت مجوّف في جوف النهر الأعظم في الموضع المعروف بباب الدباغين، ومن عجبهما أنهما تمتلئان وتنحسران مع زيادة القمر ونقصانه، وذلك أن أوّل انهلال الهلال يخرج فيهما يسير ماء، فإذا أصبح كان فيهما [ربع](3) سبعهما من الماء، فإذا كان آخر النهار كمل فيهما نصف سبع، ولا يزال كذلك بين اليوم والليلة نصف سبع حتى يكمل من الشهر سبعة أيام وسبع ليال، فيكون

(1) البيلة: حوض النافورة، وترادفها في الاستعمال أحياناً لفظة " خصة " وهي بالإسبانية والإيطالية (Pila)، وخبر البيلتين ووصفهما مذكور بتفصيل في مخطوطة الرباط:38.

(2)

يعني أبا القاسم عبد الرحمن الزرقال، كما جاء في مخطوطة الرباط.

(3)

زيادة لازمة من مخطوطة الرباط سقطت من النسخ.

ص: 206

فيهما نصفهما، ولا تزال كذلك الزيادة نصف سبع في اليوم والليلة حتى يكمل امتلاؤهما بكمال القمر، فإذا كان في ليلة خمسة عشر وأخذ القمر في النقصان نقصتا بنقصان القمر كل يوم وليلة نصف سبع [حتى يتم القمر واحداً وعشرين يوماً فينقص منهما نصفهما ولا يزال كذلك ينقص في كل يوم وليلة نصف سبع](1) فإذا كان تسعة وعشرون من الشهر لا يبقى فيهما شيء من الماء، وإذا تكلف أحدٌ حين تنقصان أن يملأهما وجلب لهما الماء ابتلعتا ذلك من حينهما حتى لا يبقى فيهما إلاّ ما كان فيهما في تلك الساعة، وكذا لو تكلّف عند امتلائهما إفراغهما ولم يبق فيهما شيئاً ثم رفع يده عنهما خرج فيهما من الماء ما يملؤهما في الحين. وهما أعجب من طلّسم الهند، لأن ذلك في نقطة الاعتدال حيث لا يزيد الليل على النهار، وأمّا هاتان فليستا في مكان الاعتدال، ولم تزالا في بيت واحد حتى ملك النصارى - دمّرهم الله - طليطلة، فأراد الفنش أن يعلم حركتهما، فأمر أن تقلع الواحدة منهما لينظر من أين يأتي إليها الماء، وكيف الحركة فيهما، فقلعت، فبطلت حركتهما، وذلك سنة 528. وقيل: إن سبب فسادهما حنين اليهودي (2) الذي جلب حمام الأندلس كلها إلى طليطلة في يوم واحد، وذلك سنة 527، وهو الذي أعلم الفنش أن ولده (3) سيدخل قرطبة ويملكها، فأراد أن يكشف حركة البيلتين، فقال له: أيها الملك، أنا أقلعهما وأردّها أحسن ممّا كانتا، وذلك أني أجعلهما تمتلئان بالنهار وتحسران في الليل، فما قلعت لم يقدر على ردها، وقيل: إنّه قلع واحدة ليسرق منها الصنعة فبطلت، ولم تزل الأخرى تعطي حركتها، والله أعلم بحقيقة الحال.

(1) سقطت من ك وط وهي مثبتة في دوزي ومخطوطة الرباط وق وج.

(2)

سماه في مخطوطة الرباط: حنين بن ربوة اليهودي المنجم.

(3)

مخطوطة الرباط: أن حفيده.

ص: 207

[عودٌ إلى ذكر إشبيلية]

وقال بعضهم في إشبيلية: إنها قاعدة بلاد الأندلس وحاضرتها، ومدينة الأدب واللهو والطرب، وهي على ضفة النهر الكبير، عظيمة الشأن، طيبة المكان، لها البر المديد، والبحر الساكن، والوادي العظيم، وهي قريبة من البحر المحيط؛ إلى أن قال: ولو لم يكن لها من الشّرف إلا موضع الشّرف المقابل لها المطلّ عليها المشهور بالزيتون الكثير الممتد فراسخ في فراسخ لكفى (1) ، وبها منارة في جامعها بناها يعقوب المنصور، ليس في بلاد الإسلام أعظم بناء منها. وعسل الشرف يبقى حيناً لا يترمّل ولا يتبدّل، وكذلك الزيت والتين.

وقال ابن مفلح (2) : إن إشبيلية عروس بلاد الأندلس، لأن تاجها الشرف، وفي عنقها سمط النهر الأعظم، وليس في الأرض أتم حسناً من هذا النهر، يضاهي دجلة والفرات والنيل، تسير القوارب فيه للنزهة والسير والصيد تحت ظلال الثمار، وتغريد الأطيار، أربعة وعشرين ميلاً، ويتعاطى الناس السّرج من جانبيه عشرة فراسخ في عمارة متصلة ومنارات مرتفعة وأبراج مشيدة، وفيه من أنواع السمك ما لا يحصى. وبالجملة فهي قد حازت البر والبحر، والزرع والضّرع، وكثرة الثمار من كل جنس، وقصب السكر، ويجمع منها القرمز الذي هو أجلّ من اللّك (3) الهندي، وزيتونها نخزن تحت الأرض أكثر من ثلاثين سنة، فيخرج منه أكثر ممّا يخرج منه وهو طري، انتهى ملخصاً.

ولما ذكر ابن اليسع الأندلس قال: لا يتزوّد فيها أحد ماءً حيث سلك، لكثرة أنهارها وعيونها، وربما لقي المسافر فيها في اليوم الواحد أربع مدائن، ومن

(1) لكفى: سقطت من ط ج ق، اكتفاء، وفي دوزي: لكفاها.

(2)

لعله المؤرخ إبراهيم بن محمد بن مفلح (- 884) قاضي دمشق (الضوء اللامع 1: 152) .

(3)

قد تقدم ذكر القرمز وأنه نوع من المن الذي يجمع عن الشجر، أما الملك فإنه مادة شبيهة به تدخل في تركيب الأدوية (ابن البيطار 4: 110) .

ص: 208

المعاقل والقرى ما لا يحصى، وهي بطاح خضر، وقصور بيض. انتهى.

[مقارنة ابن سعيد بين الأندلس وسواها]

قال ابن سعيد: وأنا أقول كلاماً فيه كفاية: منذ خرجت من جزيرة الأندلس وطفت في بر العدوة، ورأيت مدنها العظيمة كمراكش وفاس وسلا وسبتة، ثم طفت في إفريقية وما جاورها من المغرب الأوسط فرأيت بجاية وتونس، ثم دخلت الديار المصرية فرأيت الإسكندرية والقاهرة والفسطاط، ثم دخلت الشام فرأيت دمشق وحلّب وما بينهما - لم أر ما يشبه رونق الأندلس في مياهها وأشجارها إلا مدينة فاس بالمغرب الأقصى، ومدينة دمشق بالشام، وفي حماة مسحة أندلسية، ولم أر ما يشبهها في حسن المباني والتشييد والتصنيع، إلا ما شيد بمراكش في دولة بني عبد المؤمن، وبعض أماكن في تونس، وإن كان الغالب على تونس البناء بالحجارة كالإسكندرية، ولكن الإسكندرية أفسح شوارع وأبسط وأبدع، ومباني حلب داخلة فيما يستحسن، لأنها من حجارة صلبة، وفي وضعها وترتيبها إتقان، انتهى.

[أشعار في وصف الأندلس]

ومن أحسن ما جاء من النظم في الأندلس قول ابن سفر المريني، والإحسان له عادة:

في أرض أندلسٍ تلتذّ نعماء

ولا يفارق فيها القلب سرّاء

وليس في غيرها بالعيش منتفعٌ

ولا تقوم بحق الأنس صهباء

وأين يعدل عن أرضٍ تحضّ بها

على المدامة أمواهٌ وأفياء

وكيف لا يبهج الأبصار رؤيتها

وكلّ روضٍ بها في الوشي صنعاء

أنهارها فضةٌ، والمسك تربتها

والخزّ روضتها، والدّرّ حصباء

ص: 209

وللهواء بها لطفٌ يرقّ به

من لا يرقّ، وتبدو منه أهواء

ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً

ولا انتثار لآلي الطّلّ أنداء

وإنّما أرج النّدّ استثار بها

في ماء وردٍ فطابت منه أرجاء

وأين يبلغ منها ما أصنّفه

وكيف يحوي الذي حازته إحصاء

قد ميّزت من جهات الأرض حين بدت

فريدةً وتولّى ميزها الماء

دارت عليها نطاقاً أبحرٌ خفقت

وجداً بها إذ تبدّت وهي حسناء

لذاك يبسم فيها الزّهر من طربٍ

والطير يشدو وللأغصان إصغاء

فيها خلعت عذاري ما بها عوضٌ

فهيّ الرّياض، وكلّ الأرض صحراء ولله درّ ابن خفاجة حيث يقول:

إن للجنّة بالأندلس

مجتلى مرأى ريّا نفس

فسنا صبحتها من شنبٍ

ودجى ظلمتها من لعس

فإذا ما هبّت الريح صباً

صحت واشوقي إلى الأندلس وقد تقدمت هذه الأبيات (1) .

قال ابن سعيد: قال ابن خفاجة هذه الأبيات وهو بالمغرب الأقصى في برّ العدوة، ومنزله في شرق الأندلس بجزيرة شقر.

[رخاء الأندلس كما يصفه ابن حوقل]

وقال ابن سعيد في المغرب ما نصّه: قواعد من كتاب " الشهب الثاقبة، في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة "(2) أول ما نقدم الكلام على قاعدة السلطنة

(1) انظر ص: 170 من هذا الكتاب.

(2)

لم يصلنا هذا الجزء من المغرب، ولكن العمري أورد منه فقرات كثيرة في مسالك الأبصار الجزء الثالث، القسم الأول، قال: والمناظرة بين المشرق والمغرب تحتمل كتاباً وقد صنفته بالشام لضرورة دعت إلى ذلك من شدة إنحاء المشارقة على المغاربة من كل جهة

وسميت الكتاب " والشهب الثاقبة في الإنصاف بين المشارقة والمغاربة "(الورقة: 104) .

ص: 210

بالأندلس، فنقول: إنها مع ما بأيدي عبّاد الصّليب منها أعظم سلطنة كثرت ممالكها، وتشعبت في وجوه الاستظهار للسلطان إعانتها، وندع كلامنا في هذا الشأن، وننقل ما قاله ابن حوقل النصيبي في كتابه لما دخلها في مدة خلافة بني مروان بها في المائة الرابعة، وذلك أنّه لما وصفها قال (1) : وأما جزيرة الأندلس فجزيرة كبيرة، طولها دون الشهر في عرض نيّف وعشرين مرحلة، تغلب عليها المياه الجارية والشجر والثمر، والرخص والسعة في الأحوال من الرقيق الفاخر والخصب الظاهر، إلى أسباب التملك الفاشية فيها، ولما هي به من أسباب رغد العيش وسعته وكثرته، يملك ذلك منهم مهينهم وأرباب صنائعهم لقلة مؤنتهم وصلاح معاشهم وبلادهم. ثم أخذ في عظم سلطانها ووصف وفور جباياته وعظم مرافقه، وقال في أثناء ذلك: وممّل يدلّ بالقليل منه على كثيره أن سكة دار ضربه على الدراهم والدنانير دخلها في كل سنة مائتا ألف دينار، وصرف الدينار سبعة عشر درهماً، هذا إلى صدفات البلد وجباياته، وخراجاته وأعشاره وضماناته والأموال المرسومة على المراكب الواردة والصادرة وغير ذلك.

وذكر ابن بشكوال أن جباية الأندلس بلغت في مدّة عبد الرحمن الناصر خمسة آلاف دينار وأربعمائة ألف وثمانين ألفاً، ثم (2) من السوق المستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستون ألف دينار.

ثم قال ابن حوقل: ومن أعجب ما في هذه الجزيرة بقاؤها على من هي في يده مع صغر أحلام أهلها، وضعة نفوسهم، ونقص عقولهم، وبعدهم من البأس والشجاعة والفروسية والبسالة، ولقاء الرجال، ومراس الأنجاد والأبطال، مع علم أمير المؤمنين بمحلّها في نفسها ومقدار جباياتها ومواقع نعمها ولذاتها.

(1) صورة الأرض: 104، وفي النص بعض اختلاف عما أثبته ابن سعيد.

(2)

ثم: سقطت من ك.

ص: 211

[رد ابن سعيد على بعض كلام ابن حوقل]

قال علي بن سعيد مكمل هذا الكتاب: لم أر بدّاً من إثبات هذا الفصل وإن كان على أهل بلدي فيه من الظلم والتعصب ما لا يخفى، ولسان الحال في الرد أنطق من لسان البلاغة، وليت شعري إذ سلب أهل هذه الجزيرة العقول والآراء والهمم والشجاعة فمن الذين دبروها بآرائهم وعقولهم مع مراصدة أعدائها المجاورين لها من خمسمائة سنة ونيف؟ ومن الذين حموها ببسالتهم من الأمم المتصلة بهم في داخلها وخارجها نحو ثلاثة أشهر على كلمة واحدة في نصرة الصليب؟ وإنّيلأعجب منه إذ كان في زمان قد دلفت فيه عبّاد الصليب إلى الشام والجزيرة وعاثوا كل العيث في بلاد الإسلام، حيث الجمهور والقبة العظمى، حتى إنهم دخلوا مدينة حلب، وما أدراك، وفعلوا فيها ما فعلوا، وبلاد الإسلام متصلة بها من كل جهة، إلى غير ذلك ممّا هو مسطور في كتب (1) التواريخ، ومن أعظم ذلك وأشدّه أنهم كانوا يتغلبون على الحصن من حصون الإسلام التي يتمكنون بها من بسائط بلادهم، فيسبون ويأسرون، فلا تجتمع همم الملوك المجاورة على حسم الداء في ذلك، وقد يستعين به بعضهم على بعض، فيتمكن من ذلك الداء الذي لا يطّبّ، وقد كانت جزيرة الأندلس في ذلك الزمان بالضد من البلاد التي ترك وراء ظهره، وذلك موجود في تاريخ ابن حيّان وغيره، وإنّما كانت الفتنة بعد ذلك: الأعلام بيّنة، والطريق واضح.

فلنرجع إلى ما نحن بسبيله:

[ابن سعيد يقدم سرداً لتطوّر التاريخ الأندلسي]

كانت سلطنة الأندلس في صدر الفتح على ما تقدم من اختلاف الولاة عليها

(1) كتب: سقطت من ق ط ج.

ص: 212

من سلاطين إفريقية، واختلاف الولاة داعٍ إلى الاضطراب، وعدم تأثّل الأحوال وتربية الضخامة في الدولة، ولما صارت الأندلس لبني أمية وتوارثوا ممالكها وانقاد إليهم كل أبيّ فيها وأطاعهم كل عصيّ عظمت الدولة بالأندلس، وكبرت الهمم وترتبت (1) الأحوال، وترتبت القواعد، وكانوا صدراً من دولتهم يخطبون لأنفسهم بأبناء الخلائف، ثم خطبوا لأنفسهم بالخلافة، وملكوا من برّ العدوة ما ضخمت به دولتهم، وكانت قواعدهم إظهار الهيبة، وتمكن الناموس من قلب العالم، ومراعاة أحوال اشرع في كل الأمور، وتعظيم العلماء، والعمل بأقوالهم، وإحضارهم في مجالسهم واستشارتهم، ولهم حكايات في تاريخ ابن حيّان: منها ما هو مذكور من توجّه الحكم على خليفتهم أو على ابنه أو أحد حاشيته المختصين، وأنهم كانوا في نهاية من الانقياد للحق (2) لهم أو عليهم، وبذلك انضبط لهم أمر الجزيرة. ولما خرقوا هذا الناموس كان أول ما تهتّك أمرهم، ثم اضمحل، وكانت ألقاب الأول منهم الأمراء أبناء الخلائف، ثم الخلفاء أمراء المؤمنين، إلى أن وقعت الفتنة بحسد بعضهم لبعض، وابتغاء الخلافة من غير وجهها الذي رتبت عليه، فاستبدّت ملوك الممالك الأندلسية ببلادها، وسمّوا بملوك الطوائف واستبدوا (3) ، وكان فيهم من خطب للخلفاء المروانيين وإن لم يبق لهم خلافة، ومنهم من خطب للخلفاء العباسيين المجمع على إمامتهم، وصار ملوك الطوائف يتباهون في أحوال الملك، حتى في الألقاب، فآل أمرهم إلى أن تلقّبوا بنعوت الخلفاء، وترفّعوا إلى طبقات السلطنة العظمى، وذلك بما في جزيرتهم من أسباب الترفّه والضخامة التي تتوزع على ملوك شتى فتكفيهم، وتنهض بهم للمباهاة. ولأجل توثبهم على النعوت العباسية، قال ابن رشيق القيرواني (4) :

(1) ق ج: وترتيب.

(2)

ك: إلى الحق.

(3)

واستبدوا: سقطت من ك.

(4)

ديوان ان رشيق:: 59، وهما في وفيات الأعيان 4: 52 لابن عمار الأندلسي.

ص: 213

ممّا يزهّدني في أرض أندلسٍ

تلقيب معتضدٍ فيها ومعتمد

ألقاب مملكةٍ في غير موضعها

كالهرّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد وكان عبّاد بن محمد بن عبّاد قد تلقب بالمعتضد، واقتفى سيرة المعتضد العباسي أمير المؤمنين، وبلقّب ابنه محمد بن عبّاد بالمعتمد، وكانت لبني عبّاد مملكة إشبيلية ثم انضاف إليها غيرها.

وكان خلفاء بني أمية يظهرون للناس في الأحيان على أبّهة الخلافة، وقانون لهم في ذلك معروف، إلى أن كانت الفتنة، فازدرت العيون ذلك الناموس واستخفّت به.

وقد كان بنو حمّود من ولد إدريس العلوي الذين توثبوا على الخلافة في أثناء الدولة المروانية بالأندلس يتعاظمون، ويأخذون أنفسهم بما يأخذها خلفاء بني العباس، وكانوا إذا حضرهم منشد لمدح أو من يحتاج إلى الكلام بين أيديهم يتكلم من وراء حجاب، والحاجب واقف عند الستر يجاوب بما يقول له الخليفة، ولما حضر ابن مقانا الأشبونيّ أمام حاجب إدريس بن يحيى الحمّودي الذي خطب له بالخلافة في مالقة، وأنشده قصيدته المشهورة النونية التي منها قوله (1) :

وكأنّ الشّمس لمّا أشرقت

فانثنت عنها عيون الناظرين

وجه إدريس بن يحيى بن علي

بن حمّودٍ أمير المؤمنين وبلغ فيها إلى قوله:

انظرونا نقتبس من نوركم

إنّه من نور ربّ العالمين رفع الخليفة الستر بنفسه، وقال: انظر كيف شئت، وانبسط مع الشاعر، وأحسن إليه.

(1) عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني القبذاقي أبو زيد من شعراء الذخيرة (القسم الثاني: 301، وانظر المغرب 1: 413 والحاشية في مصادر ترجمته) .

ص: 214

ولما جاء ملوك الطوائف صاروا يتبسّطون للخاصّة وكثيرٍ من العامة، ويظهرون مداراة (1) الجند وعوام البلاد، وكان أكثرهم يحاضر العلماء والأدباء، ويحب أن يشهر عنه ذلك عند مباريه في الرياسة.

ومذ وقعت الفتنة بالأندلس اعتاد أهل الممالك المتفرقة الاستبداد عن إمام الجماعة، وصار في كل جهة مملكة مستقلة يتوارث أعيانها الرياسة كما يتوارث ملوكها الملك، ومرنوا على ذلك، فصعب ضبطهم إلى نظام واحد، وتمكن العدو منهم بالتفرق وعداوة بعضهم لبعض بقبيح المنافسة والطمع، إلى أن انقادوا إلى عبد المؤمن وبنيه، وتلك القواعد في رؤوسهم كامنة، والثوّار في المعاقل تثور (2) ، وتروم الكرّة، إلى أن ثار ابن هود، وتلقّب بالمتوكل، ووجد قلوباً (3) منحرفة عن دولة بر العدوة، مهيأة للاستبداد، فملكها بأيسر محاولة، مع الجهل المفرط وضعف الرأي، وكان مع العامة كأنّه صاحب شعوذة، يمشي في الأسواق ويضحك في وجوههم ويبادرهم بالسؤال. وجاء للناس منه ما لم يعتادوه من سلطان، فأعجب سفهاء الناس وعامتهم العمياء، وكان كما قيل:

أمورٌ يضحك السفهاء منها

ويبكي من عواقبها الحليم فآل ذلك إلى تلف القواعد العظيمة، وتملّك الأمصار الجليلة، وخروجها من يد الإسلام.

والضابط فيما يقال في شأن أهل الأندلس في السلطان أنهم إذا وجدوا فارساً يبرع الفرسان أو جواداً يبرع الأجواد تهافتوا في نصرته، ونصبوه ملكاً من غير تدبير في عاقبة، آل الأمر إلى ما يؤول إليه، وبعد أن يكون الملك في مملكة

(1) ق ج ط: لمداراة.

(2)

ط ق: تنزو.

(3)

ك: القلوب.

ص: 215

قد توورثت وتدوولت، ويكون في تلك المملكة قائد من قوادها قد شهرت عنه وقائع في العدو وظهر منه كرم نفسٍ للأجناد ومراعاة، قدّموه ملكاً في حصن من الحصون، ورفضوا عيالهم وأولادهم - إن كان لهم ذلك - بكرسيّ الملك، ولم يزالوا في جهاد وإتلاف أنفس حتى يظفر صاحبهم بطلبته. وأهل المشرق أصوب رأياً منهم في مراعاة نظام الملك، والمحافظة على نصابه، لئلاّ يدخل الخلل الذي يقضي باختلال القواعد وفساد التربية وحلّ الأوضاع.

ونحن نمثل في ذلك بما شاهدناه: لما كانت هذه الفتنة الأخيرة بالأندلس تمخّضت عن رجل من حصن يقال له أرجونة، ويعرف الرجل بابن الأحمر، كان يكثر مغاورة العدو من حصنه، وظهرت له مخايل وشواهد على الشجاعة، إلى أن سار (1) اسمه في الأندلس، وآل ذلك إلى ان قدّمه أهل حصنه على أنفسهم، ثم نهض فملك قرطبة العظمى، وملك إشبيلية، وقتل ملكها الباجيّ، وملك جيّان أحصن بلد بالأندلس وأجلّه قدراً في الامتناع، وملك غرناطة ومالقة، وسمّوه بأمير المسلمين، فهو الآن المشار إليه بالأندلس والمعتمد عليه.

[ابن سعيد يصف الخطط الأندلسية: 1 - الوزارة]

1 -

الوزارة

وأمّا قاعدة الوزارة بالأندلس فإنّها كانت في مدة بني أميّة مشتركة في جماعة يعينهم صاحب الدولة للإعانة والمشاورة، ويخصّهم بالمجالسة، ويختار منهم شخصاً لمكان النائب المعروف بالوزير فيسمّيه بالحاجب، وكانت هذه المراتب لضبطها عندهم كالمتوارثة في البيوت المعلومة لذلك، إلى أن كانت ملوك الطوائف، فكان الملك منهم - لعظم اسم الحاجب في الدولة المروانية، وأنّه كان نائباً عن خليفتهم - يسمّى بالحاجب، ويرى أن هذه السمة أعظم ما تنوفس فيه وظفر به، وهي موجودة في أمداح شعرائهم وتواريخهم. وصار

(1) ك: طار.

ص: 216

اسم الوزارة عامّاً لكل من يجالس الملوك ويختص بهم، وصار الوزير الذي ينوب عن الملك يعرف بذي الوزارتين، وأكثر ما يكون فاضلاً في علم الأدب، وقد لا يكون كذلك، بل عالماً بأمور الملك خاصة.

[2 - الكتابة]

وأما الكتابة فهي على ضربين: أعلاهما: كاتب الرسائل، وله حظ في القلوب والعيون عند أهل الأندلس، وأشرف أسمائه الكاتب، وبهذه السّمة يخططه (1) من يعظمه في رسالة. وأهل الأندلس كثيرو الانتقاد على صاحب هذه السّمة، لا يكادون يغفلون عن عثراته لحظة، فإن كان ناقصاً عن درجات الكمال لم ينفعه جاهه ولا مكانه من سلطانه من تسلّط الألسن في المحافل والطّعن عليه وعلى صاحبه. والكاتب الآخر كاتب الزمام، هكذا يعرفون كاتب الجهبذة، ولا يكون بالأندلس وبرّ العدوة لا نصرانيّاً ولا يهوديّاً البتّة، إذ هذا الشغل نبيه يحتاج إلى صاحبه عظماء الناس ووجوههم.

[3 - الخراج]

وصاحب الأشغال الخراجية في الأندلس أعظم من الوزير، وأكثر أتباعاً وأصحاباً وأجدى منفعةً، فإليه تميل الأعناق، ونحوه تمد الأكف، والأعمال مضبوطة بالشهود والنظار، ومع هذا إن تأثلت حالته واغتر بكثرة البناء والاكتساب نكب وصودر، وهذا راجع إلى تقلب الأحوال وكيفية السلطان.

[4 - القضاء]

وأما خطّة القضاء بالأندلس فهي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة، لتعلّقها بأمور الدين، وكون السلطان لو توجّه عليه حكم حضر بين يدي القاضي، هذا

(1) ك: يخصه.

ص: 217

وضعها في زمان بني أمية، ومن سلك مسلكهم، ولا سبيل أن يتسمّى بهذه السّمة إلاّ من هو والٍ للحكم الرعي في مدينة جليلة، وإن كانت صغيرة فلا يطلق على حاكمها إلا مسدّد، خاصة، وقاضي القضاة يقال له: قاضي القضاة، وقاضي الجماعة.

[5 - خطة الشرطة]

وأما خطة الشّرطة بالأندلس فإنها مضبوطة إلى الآن، معروفة بهذه السّمة، ويعرف صاحبها في ألسن العامة بصاحب المدينة وصاحب الليل، وإذا كان عظيم القدر عند السلطان كان له القتل لمن يجب (1) عليه دون استئذان السلطان، وذلك قليل، ولا يكون إلا في حضرة السلطان الأعظم، وهو الذي يحدّ على الزنا وشرب الخمر، وكثير من الأمور الشرعية راجع إليه، قد صارت تلك عادة تقرّر عليها رضا القاضي، وكانت (2) خطة القاضي أوقر وأتقى عندهم من ذلك.

[6 - الحسبة]

وأمّا خطّة الاحتساب فإنّها عندهم موضوعة في أهل العلم والفطن، وكأن صاحبها قاض، والعدة فيه أن يمشي بنفسه راكباً على الأسواق، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان، لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان للربع من الدرهم رغيف على وزن معلوم، وكذلك للثّمن، وفي ذلك من المصلحة أن يرسل المبتاع الصبيّ الصغير أو الجارية الرعناء فيستويان فيما يأتيانه به من السوق مع الحاذق في معرفة الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزار أن يبيع بأكثر من دون (3) ما حدّ له المحتسب في

(1) ك: وجب.

(2)

ق: وكان.

(3)

ق ودوزي: أن يبيع بدون.

ص: 218

الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، فإن المحتسب يدسّ عليه صبيّاً أو جارية يبتاع أحدهما منه، ثم يختبر الوزن المحتسب، فإن وجد نقصاً قاس على ذلك حاله مع الناس، فلا تسأل عمّا يلقى، وإن كثر ذلك منه ولم يتب بعد الضرب والتجريس (1) في الأسواق نفي من البلد. ولهم في أوضاع الاحتساب قوانين يتداولونها (2) ويتدارسونها كما تتدارس أحكام الفقه، لأنها عندهم تدخل في جميع المبتاعات وتتفرع إلى ما يطول ذكره.

[7 - خطة الطواف بالليل]

وأمّا خطة الطواف باللّيل وما يقابل من المغرب أصحاب أرباع في المشرق فإنهم يعرفون في الأندلس بالدرّابين، لأن بلاد الأندلس لها دروب بأغلاق تغلق بعد العتمة، ولكل زقاق بائت فيه، له سراجٌ معلّق وكلب يسهر وسلاح معدّ، وذلك لشطارة عامّتها وكثرة شرّهم، وإغيائهم (3) في أمور التلصص، إلى أن يظهروا على المباني المشيدة، ويفتحوا الأغلاق الصعبة، ويقتلوا صاحب الدار خوف أن يقرّ عليهم أو يطالبهم بعد ذلك، ولا تكاد في الأندلس تخلو من سماع دار فلان دخلت البارحة وفلان ذبحه اللصوص على فراشه وهذا يرجع التكثير منه والتقليل إلى شدّة الوالي ولينه، ومع إفراطه في الشدّة وكون سيفه يقطر دماً فإن ذلك يعدم، وقد آل الحال عندهم إلى أن قتلوا على عنقودٍ سرقه شخص من كرم وما أشبه ذلك، فلم ينته اللصوص.

[الأندلسيون والتشريع]

وأمّا قواعد أهل الأندلس في ديانتهم فإنّها تختلف بحسب الأوقات والنظر

(1) التجريس: الفضح والتشهير.

(2)

يتداولونها: سقطت من ق ط ج.

(3)

ك: وإعيائهم.

ص: 219

إلى السلاطين، ولكن الأغلب عندهم إقامة الحدود، وإنكار التهاون بتعطيلها، وقيام العامة في ذلك وإنكاره إن تهاون فيه أصحاب السلطان، وقد يلج السلطان في شيء من ذلك ولا ينكره، فيدخلون عليه قصره المشيد ولا يعبأون بخيله ورجله حتى يخرجوه من بلدهم، وذا كثير في أخبارهم. وأمّا الرجم بالحجر للقضاة والولاة للأعمال إذا لم يعدلوا فكلّ يوم.

[الأندلسيون والتصوف]

وأمّا طريقة الفقراء على مذهب أهل الشرق والدّروزة (1) التي تكسل عن الكد وتحوج (2) الوجوه للطلب في الأسواق فمستقبحة عندهم إلى نهاية (3) ، وإذا رأوا شخصاً صحيحاً قادراّ على الخدمة يطلب سبّوه وأهانوه، فضلاً عن أن يتصدقوا عليه، فلا تجد بالأندلس سائلاً إلا أن يكون صاحب عذر.

[الأندلسيون والعلوم والآداب]

وأمّا حال أهل الأندلس في فنون (4) العلوم فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التميز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يرى فارغاً عالةً على الناس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح، والعالم عندهم معظّم من الخاصة والعامة، يشار إليه ويحال عليه، وينبه قدره وذكره عند الناس، ويكرم في جوار أو ابتياع حاجة، وما أشبه ذلك. ومع هذا فليس لأهل الأندلس مدارس تعينهم على طلب العلم بل يقرءون جميع العلوم في المساجد بأجرة، فهم يقرءون لأن يعلموا لا لأن يأخذوا جارياً،

(1) ك: الدورة؛ والدروزة من الفارسية " درويزه " أي الكدية والشحذ.

(2)

ك: وتخرج.

(3)

ك: النهاية.

(4)

ق: العلم.

ص: 220

فالعالم منهم بارع لأنّه يطلب ذلك العلم بباعث من نفسه يحمله على أن يترك الشغل الذي يستفيد منه، وينفق من عنده حتى يعلم، وكل العلوم لها عندهم حظ واعتناء، إلا الفلسفة والتنجيم، فإن لهما حظّاً عظيماً عند خواصهم، ولا يتظاهر بهما خوف العامة، فإنّه كلّما قيل فلان يقرأ الفلسفة أو يشتغل بالتنجيم أطلقت عليه العامة (1) اسم زنديق، وقيدت عليه أنفاسه، فإن زلّ في شبهة رجموه بالحجارة أو حرقوه قبل أن يصل أمره للسلطان، أو يقتله السلطان تقرباً لقلوب العامة، وكثيراً ما يأمر ملوكهم بإحراق كتب هذا الشأن إذا وجدة، وبذلك تقرب المنصور بن أبي عامر لقلوبهم أول نهوضه وإن كان غير خالٍ من الاشتغال بذلك في الباطن على ما ذكره الحجاري، الله أعلم.

وقراءة القرآن بالسبع ورواية الحديث عندهم رفيعة، وللفقه رونقٌ ووجاهة، ولا مذهب لهم إلا مذهب مالك، وخواصهم يحفظون من سائر المذاهب ما يباحثون به محاضر ملوكهم ذوي الهمم في العلوم. وسمة الفقيه عندهم جليلة، حتى إن الملثمين كانوا يسمون الأمير العظيم منهم الذي يريدون تنويهه بالفقيه، وهي الآن بالمغرب بمنزلة القاضي بالمشرق، وقد يقولون للكاتب والنحوي واللغوي فقيه لأنها عندهم أرفع السّمات. وعلم الأصول عندهم متوسط الحال، والنحو عندهم في نهاية من علو الطبقة، حتى إنهم في هذا العصر فيه كأصحاب عصر الخليل وسيبويه، لا يزداد مع هرم الزمان إلا جدّةً، وهم كثيرو البحث فيه وحفظ مذاهبه كمذاهب الفقه، وكل عالم في أيّ علم لا يكون متمكناً من علم النحو - بحيث لا تخفى عليه الدقائق - فليس عندهم بمستحق للتمييز، ولا سالم من الازدراء، مع أن كلام أهل الأندلس الشائع في الخواص والعوام كثير الانحراف عمّا تقتضيه أوضاع العربية، حتى لو أن شخصاً من العرب سمع كلام الشلوبيني أبي عليّ المشار إليه بعلم النحو في عصرنا الذي غرّبت تصانيفه

(1) العامة: سقطت من ك.

ص: 221

وشرّقت وهو يقرئ درسه لضحك بملء فيه من شدة التحريف الذي في لسانه؛ والخاصّ منهم إذا تكلم بالإعراب وأخذ يجري على قوانين النحو استثقلوه واستبردوه، ولكن ذلك مراعىً عندهم في القراءات والمخاطبات بالرسائل. وعلم الأدب المنثور من حفظ التاريخ والنظم والنثر ومستظرفات الحكايات أنبل علم عندهم، وبه يتقرب من مجالس ملوكهم وأعلامهم، ومن لا يكون فيه أدب من علمائهم فهو غفلٌ مستثقلٌ.

والشعر عندهم له حظ عظيم، وللشعراء من ملوكهم وجاهة، ولهم عليهم وظائف، والمجيدون منهم ينشدون في مجالس عظماء ملوكهم المختلفة، ويوقّع لهم بالصلات على أقدارهم، إلا أن يختل الوقت ويغلب الجهل في حين مّا ولكن هذا الغالب. وإذا كان الشخص بالأندلس نحويّاً أو شاعراً فإنّه يعظم في نفسه لا محالة ويسخف ويظهر العجب، عادةٌ قد جبلوا عليها.

[الزي الأندلسي في السلم والحرب]

وأما زيّ أهل الأندلس فالغالب عليهم ترك العمائم، لا سيما في شرق الأندلس، فإن أهل غربها لا تكاد ترى فيهم قاضياً ولا فقيهاً مشاراً إليه إلاّ وهو بعمامة، وقد تسامحوا بشرقها في ذلك، ولقد رأيت عزيز بن خطاب (1) أكبر عالم بمرسية، حضرة السلطان في ذلك الأوان، وإليه الإشارة، وقد خطب له بالملك في تلك الجهة، وهو حاسر الرأس، وشيبه قد غلب على سواد شعره. وأما الأجناد وسائر الناس فقليل منهم تراه بعمّة في شرق منها أو في غرب، وابن هود الذي ملك الأندلس في عصرنا رأيته في جميع أحواله ببلاد الأندلس وهو دون عمامة، وكذلك ابن الحمر الذي معظم الأندلس الآن في يده، وكثيراً

(1) عزيز بن عبد الملك بن محمد بن خطاب القيسي، أبو بكر مرسي سرقسطي الأصل، كان زاهداً عابداً ناشراً للعلم حتى امتحن برياسة بلده فلم تحمد سيرته، قتل سنة 626. (ترجمته في الذيل والتكملة 5: 144 وفي الحاشية ثبت بالمصادر) .

ص: 222

ما يتزيّا سلاطينهم وأجنادهم بزيّ النصارى المجاورين لهم، فسلاحهم كسلاحهم، وأقبيتهم من الإشكرلاط (1) وغيره كأقبيتهم، وكذلك أعلامهم وسروجهم.

ومحارتهم بالتّراس والرّماح الطويلة للطعن، ولا يعرفون الدبابيس، ولا قسيّ العرب، بل يعدون قسيّ الإفرنج للمحاصرات في البلاد، أو تكون للرجّالة عند المصاففة للحرب، وقليلاً (2) ما تصبر الخيل عليهم أو تمهلهم لأن يوتروها، ولا تجد في خواص الأندلس وأكثر عوامهم من يمشي دون طيلسان، إلاّ أنّه لا يضعه على رأسه منهم إلا الأشياخ المعظّمون، وغفائر الصوف كثيراً ما يلبسونها حمراً وخضراً؛ والصّفر مخصوصة باليهود، ولا سبيل إلى يهودي (3) أن يتعمّم البتّة، والذؤابة لا يرخيها إلاّ العالم، ولا يصرفونها بين الأكتاف، وإنّما يسدلونها من تحت الأذن اليسرى. وهذه الأوضاع التي بالمشرق في العمائم لا يعرفها أهل الأندلس، وإن رأوا في رأس مشرقّي داخلٍ إلى بلادهم شكلاً منها أظهروا التعجب والاستظراف، ولا يأخذون أنفسهم بتعليمها لأنهم لم يعتادوا ولم يستحسنوا غير أوضاعهم، وكذلك في تفصيل الثياب.

[تدبير الأندلسيين ومروءتهم]

وأهل الأندلس أشدّ خلق الله اعتناء بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك ممّا يتعلّق بهم، وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه، فيطويه صائماً ويبتاع صابوناً يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعةً على حالة تنبو العين عنها.

وهم أهل احتياط وتدبير في المعاش وحفظ لما في أيديهم خوف ذلّ السؤال، فلذلك قد ينسبون للبخل، ولهم مروءات على عادة بلادهم، لو فطن لها حاتم

(1) الاشكرلاط، ويقال الاشكيلاط (ecarlate) نوع من الجوخ، قرمزي أحمر.

(2)

ك: وكثيراً.

(3)

ك: ليهودي.

ص: 223

لفضّل دقائقها على عظائمه؛ ولقد اجتزت مع والدي على قرية من قراها، وقد نال منّا البرد والمطر أشدّ النّيل، فأوينا إليها، وكنّا على حال ترقّبٍ من السلطان وخلوّ من الرفاهية، فنزلنا في بيت شيخ من أهلها، من غير معرفة متقدمة، فقال لنا: إن كان عندكم ما أشتري لكم فحماً تسخنون به فإنّي أمضي في حوائجكم، وأجعل عيالي يقومون بشأنكم، فأعطيناه ما اشترى به فحماً، فأضرم ناراً، فجاء ابنٌ له صغير ليصطلي، فضربه، فقال له والدي: لم ضربته؟ فقال: يتعلّم استغنام مال (1) الناس والضّجر للبرد من الصغر، ثم لما جاء النوم قال لابنه: أعط هذا الشابّ كساءك الغليظة يزيدها على ثيابه، فدفع كساءه إليّ، ولما قمنا عند الصباح وجدت الصبيّ منتبهاً ويده في الكساء، فقلت ذلك لوالدي، فقال: هذه مروءات أهل الأندلس، وهذا احتياطهم، أعطاك الكساء وفضّلك على نفسه، ثم أفكر في أنك غريب لا يعرف هل أنت ثقة أو لص، فلم يطب له منام حتى يأخذ كساءه خوفاً من انفصالك بها وهو نائم، وعلى هذا الشيء الحقير فقس (2) الشيء الجليل؛ انتهى كلام ابن سعيد في المغرب باختصار يسير.

[منهج كتاب المغرب لابن سعيد]

ولله درّه، فإنّه أبدع في هذا الكتاب ما شاء، وقسمه إلى أقسام، منها:

كتاب وشي الطرس، فيحلى جزيرة الأندلس وهو ينقسم إلى أربعة كتب:

الكتاب الأول: كتاب " حلي العرس، في حلى غرب الأندلس ".

الكتاب الثاني: كتاب " الشفاه اللّعس، في حلى موسطة الأندلس ".

(1) ك: أموال.

(2)

ق: قس.

ص: 224

الكتاب الثالث: " كتاب الأنس في حلى شرق الأندلس ".

الكتاب الرابع: كتاب " لحظات المريب، في ذكر ما حماه من الأندلس عبّاد الصليب ".

والقسم الثاني كتاب " الألحان المسلية، في حلى جزيرة صقلية " وهو أيضاً ذو أنواع.

والقسم الثالث كتاب الغاية الأخيرة، في حلى الأرض الكبيرة وهو أيضاً ذو أقسام، وصوّر - رحمه الله تعالى - أجزاء الأندلس في كتاب وشي الطرس وقال أيضاً: إن كلاًّ من شرق الأندلس وغربها ووسطها يقرب في قدر المساحة بعضه من بعض، وليس فيها جزء يجاوز طوله عشرة أيام، ليصدق التثليث في القسمة، وهذا دون ما بقي بأيدي النصارى.

وقدم رحمه الله كتاب حلي العرس، في حلى غرب الأندلس لكون قرطبة قطب الخلافة المروانية وإشبيلية التي ما في الأندلس أجمل منها فيه، وقسمه إلى سبعة كتب (1)، كل كتاب منها يحتوي على مملكة منحازة عن الأخرى:

الكتاب الأول: كتاب " الحلة المذهبة، في حلى مملكة قرطبة ".

الكتاب الثاني: كتاب " الذهبية الأصيلية، في حلى المملكة الإشبيلية ".

الكتاب الثالث: كتاب " خدع الممالقة، في حلى مملكة مالقة (2) .

الكتاب الرابع: كتاب " الفردوس، في حلى مملكة بطليوس ".

الكتاب الخامس: كتاب " الخلب، في حلى مملكة شلب ".

الكتاب السادس: كتاب " الديباجة، في حلى مملكة باجة ".

الكتاب السابع: كتاب " الرياض المصونة، في حلى مملكة أشبونة " وقد

(1) راجع المغرب 1: 34.

(2)

جاء هذا الكتاب " سابعاً " حسب ترتيب المغرب المطبوع.

ص: 225

ذكر - رحمه الله تعالى - في كل قسم ما يليق به، وصوّر أجزاءه على ما ينبغي، فالله يجازيه خيراً؛ والكلام في الأندلس طويل عريض.

[خاتمة في نبذة جغرافية]

وقال بعض المؤرخين: طول الأندلس ثلاثون يوماً وعرضها تسعة أيام، ويشقها أربعون نهراً كباراً (1) ، وبها من العيون والحمامات والمعادن ما لا يحصى، وبها ثمانون مدينة من القواعد الكبار، وأزيد من ثلثمائة من المتوسطة، وفيها من الحصون والقرى والبروج ما لا يحصى كثرة، حتى قيل: إن عدد القرى التي على نهر إشبيلية اثنا عشر ألف قرية، وليس في معمور الأرض صقع يجد المسافر فيه ثلاث مدن وأربعاً من يومه إلى بالأندلس، ومن بركتها أن المسافر لا يسير (2) فيها فرسخين دون ماء أصلاً، وحيثما سار من الأقطار يجد الحوانيت في الفلوات والشعاري (3) والأودية ورؤوس الجبال لبيع الخبز والفواكه والجبن واللحم والحوت وغير ذلك من ضروب الأطعمة.

وذكر صاحب الجغرافيا أن جزيرة الأندلس مسيرة أربعين يوماً طولاً في ثمانية عشر يوماً عرضاً، وهو مخالف لما سبق.

وقال ابن سيده: أخذت الأندلس في عرض الإقليمين الخامس والسادس من البحر الشامي في الجنوب إلى البحر المحيط في الشمال، وبها من الجبال سبعة وثمانون جبلاً، انتهى.

[مقطعات في مدح الأندلس]

ولبعضهم:

ولله أندلسٌ وما جمعت بها

من كل ما ضمّت لها الأهواء

(1) كباراً: سقطت من ق.

(2)

ك: لا يسافر.

(3)

ك: والصحاري.

ص: 226

فكأنّما تلك الديار كواكبٌ

وكأنّما تلك البقاع سماء

وبكلّ قطر جدولٌ في جنّةٍ

ولعت به الأفياء والأنداء وقال غيره:

في أرض أندلسٍ تلتذّ نعماء

ولا يفارق فيها القلب سرّاء

وليس فيغيرها بالعيش منتفعٌ

ولا تقوم بحقّ الماء (1) صهباء

وأين يعدل عن أرضٍ تحض بها

على الشهادة أزواجٌ وأبناء

وأين يعدل عن أرضٍ تحثّ بها

على المدامة أفياءٌ وأنداء (2)

وكيف لا تبهج الأبصار رؤيتها

وكلّ أرضٍ بها في الوشي صنعاء

أنهارها فضةٌ، والمسك تربتها

والخز روضتها، والدّرّ حصباء

وللهواء بها لطفٌ يرق به

من لا يرقّ، وتبدو منه أهواء

ليس النسيم الذي يهفو بها سحراً

ولا انتشار لآلي الطل أنداء

وإنّما أرج الند استثار بها

في ماء وردٍ فطابت منه أرجاء

وأين يبلغ منها ما أصنّفه

وكيف يحوي الذي حازته إحصاء

قد ميزت من جهات الأرض ثم بدت

فريدةً، وتولّى ميزها الماء

دارت عليها نطاقاً أبحرٌ خفقت

وجداً بها إذ تبدّت وهي حسناء (3)

لذاك يبسم فيها الزهر من طربٍ

والطير يشدو، وللأغصان إصغاء

فيها خلعت عذاري ما بها عوضٌ

فهي الرياض وكل الأرض صحراء وقد تقدمت هذه القصيدة (4) .

وقال آخر:

حبذا أندلسٌ من بلدٍ

لم تزل تنتج لي كلّ سرور

(1) ك: الأنس.

(2)

ك: أمواه وأفياء.

(3)

هذا البيت وأربعة قبله سقطت من ق ط ج.

(4)

انظر ص: 209 - 210 في ما تقدم.

ص: 227

طائرٌ شادٍ، وظلٌّ وارفٌ

ومياهٌ سائحاتٌ وقصور وقال آخر:

يا حسن أندلسٍ وما جمعت لنا

فيها من الأوطار والأوطان

تلك الجزية لست أنسى حسنها

بتعاقب الأحيان والأزمان

نسج الربيع نباتها من سندسٍ

موشيّةٍ ببدائع الألوان

وغدا النسيم بها عليلاً هائماً

بربوعها وتلاطم البحران

يا حسنها والطلّ ينثر فوقها

درراً خلال الورد والرّيحان

وسواعد الأنهار قد مدّت إلى

ندمائها بشقائق النّعمان

وتجاوبت فيها شوادي طيرها

والتفّت الأغصان بالأغصان

ما زرتها إلاّ وحيّاني بها

حدق البهار وأنمل السّوسان

من بعدها ما أعجبتني بلدةٌ

مع ما حللت به من البلدان [من خصائص الأندلس]

وحكى بعضهم أن بالجامع من مدينة أقليش بلاطاً فيه جوائز منشورة مربعة مستوية الأطراف، طول الجائزة منها مائة شبر وأحد عشر شبراً.

وفي الأندلس جبلٌ من شرب من مائه كثر عليه الاحتلام، من غير إرادة ولا تفكر، وفيها غير ذلك ممّا يطول ذكره، والله أعلم.

ولنمسك العنان في هذا الباب، فإن بحر الأندلس طويلٌ مديدٌ، وربما كررنا الكلام لارتباط بعضه ببعضٍ، أو لنقل صاحبه المروي عنه، أو لاختلاف مّا، أو غير ذلك من غرضٍ سديدٍ.

ص: 228