الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رأس هذه القبة تفافيح (1) ذهب وفضّة، ودور كل تفاحة ثلاثة أشبار ونصف، فاثنتان من التفافيح ذهب إبريز، وواحدة فضّة، وتحت كل واحدة منها وفوقها سوسنة قد هندست بأبدع صنعة، ورمانة ذهب صغيرة على رأس الزج، وهي إحدى غرائب الأرض.
وكان بالجامع المذكور (2) في بيت منبره مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه الذي حطّه بيده، وعليه حلية ذهب مكلّلة بالدر والياقوت، وعليه أغشية الديباج، وهو على كرسيّ العود الرّطب بمسامير الذهب.
رجع إلى المنارة:
وارتفاع المنارة إلى مكان الأذان أربعة وخمسون ذراعاً، وطول كل حائط من حيطانها على الأرض ثمانية عشر ذراعاً، انتهى بحروفه. وفيه بعض مخالفة لما ذكره ابن الفرضي وبعضهم، إذ قال في ترجمة المنصور بن أبي عامر ما صورته (3) : وكان من أخبار المنصور الداخلة في أبواب البر (4) والقربة بنيان المسجد الجامع والزيادة فيه سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، وذلك أنّه لما زاد الناس بقرطبة وانجلب إليها قبائل البربر من العدوة وإفريقية، وتناهى حالها في الجلالة، ضاقت الأرباض وغيرها، وضاق المسجد الجامع عن حمل الناس، فشرع المنصور في الزيادة بشقيه حيث تتمكّن الزيادة لاتصال الجانب الغربي بقصر الخلافة، فبدأ ابن أبي عامر هذه الزيادة على بلاطات تمتد طولاً من أول المسجد إلى آخره، وقصد ابن أبي عامر في هذه الزيادة المبالغة في
(1) تسمى في مخطوط الرباط: " رمانات ".
(2)
انظر مخطوط الرباط: 33؛ والروض المعطار: 155.
(3)
النص في ابن عذاري 2: 428.
(4)
ق: ودوزي: الخير والبر.
الإتقان والوثاقة، دون الزخرفة، ولم يقصّر - مع هذا - عن سائر الزيادات جودة، ما عدا زيادة الحكم. وأوّل ما عمله ابن أبي عام تطييب نفوس أرباب الدور الذين اشتريت منهم للهدم لهذه الزيادة بإنصافهم من الثمن، وصنع في صحنه الجبّ العظيم قدره، الواسع فناؤه، وهو - أعني ابن أبي عامر - هو الذي رتّب إحراق الشمع بالجامع زيادة للزيت (1) ، فتطابق بذلك النوران، وكان عدد سواري الجامع الحاملة لسمائه واللاصقة بمبانيه وقبابه ومناره بين كبيرة وصغيرة ألف سارية وأربعمائة سارية وسبع عشرة سارية، وقيل: أكثر، وعدد ثريّات الجامع ما بين كبيرة وصغيرة مائتان وثمانون ثريا، وعدد الكؤوس سبعة آلاف كاس وأربعمائة كأس وخمسة وعشرون كأساً، وقيل: عشرة آلاف وثمانمائة وخمس كؤوس، وزنة مشاكي الرصاص للكؤوس المذكورة عشرة أرباع (2) أو نحوها، وزنة ما يحتاج إليه من الكتان للفتائل في كل شهر رمضان ثلاثة أرباع القنطار، وجميع ما يحتاج إليه الجامع من الزيت في السنة خمسمائة وربع أو نحوها، يصرف منه في رمضان خاصة نحو نصف العدد، وممّا كان يختصّ برمضان المعظّم ثلاثة قناطير من الشمع وثلاثة أرباع القنطار من الكتان المقطن لإقامة الشمع المذكور، والكبيرة من الشمع التي تؤخذ بجانب الإمام يكون وزنها من خمسين إلى ستين رطلاً، يحترق بعضها بطول الشهر، ويعم الحرق لجميعها ليلة الختمة، وكان عدد من يخدم الجامع المذكور بقرطبة في دولة ابن أبي عامر ويتصرف فيه من أئمة ومقرئين وأمناء ومؤذنين وسدنة وموقدين وغيرهم من المتصفين مائة وتسعة وخمسين شخصاً (3) ، ويرقد من البخور ليلة الختمة أربع أواقٍ من العنبر الأشهب وثماني أواقٍ من العود الرطب، انتهى.
(1) ابن عذاري: للرسم.
(2)
ابن عذاري: عشرة أرباع القنطار.
(3)
مخطوط الرباط: ثلاثمائة رجل، وهو يوافق ما سيأتي من نقل عن ابن سعيد.
وقال بعض المؤرخين: كان للجامع كل ليلة جمعة (1) رطل عود، وربع رطل عنبر، يتبخر به، انتهى.
وقال ابن سعيد، نقلاً عن ابن بشكوال: طول جامع قرطبة الأعظم الذي هو بداخل مدينتها من القبلة إلى الجوف ثلاثمائة وثلاثون ذراعاً، الصحن المكشوف عنه ثمانون ذراعاً، وغير ذلك مقرمد، وعرضه من الغرب إلى الشرق مائتان وخمسون ذراعاً، وعدد أبهائه عند اكتمالها بالشمالية التي زادها المنصور بن أبي عامر بعد هذا تسعة عشر بهواً، وتسمى البلاطات، وعدد أبوابه الكبار والصغار واحد وعشرون باباً: في الجانب الغربي تسعة أبواب، منها واحد كبير للنساء يشرع إلى مقاصيرهن، وفي الجهة الشرقية تسعة أبواب، منها لدخول الرجال ثمانية أبواب، وفي الجهة الشمالية ثلاثة أبواب، منها لدخول الرجال بابان كبيران وباب لدخول النساء إلى مقاصيرهنّ، وليس لهذا الجامع في القبليّ سوى باب واحد بداخل المقصورة المتخذة في قبلته متصل بالساباط المفضي إلى قصر الخلافة منه كان السلطان يخرج من القصر إلى الجامع لشهود الجمعة، وجميع هذه الأبواب ملبّسة بالنحاس الأصفر بأغرب صنعة، وعدد سواري هذا المسجد الجامع الحاملة لسمائه والملصقة (2) بمبانيه وقبابه ومناره وغير ذلك من أعماله بين كبار وصغار ألفٌ وأربعمائة سارية وتسع سوار، منها بداخل المقصورة مائة وتسع عشرة سارية.
وذكر المقصورة البديعة التي صنعها الحكم المستنصر في هذا الجامع فقال: إنّه خطر بها على خمسة بلاطات من الزيادة الحكمية، وأطلق حفافيها على الستة الباقية: ثلاثة من كلّ جهة، فصار طولها من الشرق إلى الغرب خمسة وسبعين ذراعاً وعرضها من جدار الخشب إلى سور المسجد بالقبلة اثنين
(1) ق: كل جمعة.
(2)
في ط: والملتصقة؛ ج: والملاصقة.
وعشرين ذراعاً وارتفاعها في السماء إلى حدّ شرفاتها ثمانية أذرع، وارتفاع كل شرفة ثلاثة أشبار، ولهذه المقصورة ثلاثة أبواب بديعة الصنعة عجيبة النقش شارعة إلى الجامع شرقيّ وغربيّ وشماليّ، ثم قال: وذرع المحراب في الطول من القبلة إلى الجوف ثمانية أذرع ونصف، وعرضه من الشرق إلى الغرب سبعة أذرع ونصف، وارتفاع قبوه في السماء ثلاثة عشر ذراعاً ونصف، والمنبر إلى جنبه مؤلف من أكارم الخشب ما بين آبنوس وصندل ونبع وبقّمٍ وشوحط وما أشبه ذلك، ومبلغ النفقة فيه خمسة وثلاثون ألف دينار وسبعمائة دينار وخمسة دنانير وثلاثة دراهم وثلث درهم (1) وقيل غير ذلك، وعدد درجه تسع درجات صنعة الحكم المستنصر رحمه الله.
وذكر أن عدد ثريّات الجامع التي تسرج فها المصابيح بداخل البلاطات خاصّة - سوى ما منها على الأبواب - مائتان وأربع وعشرون ثريّا، جميعها من لاطون مختلفة الصنعة، منها أربع ثريّات كبار معلقة في البلاط الأوسط أكبرها الضخمة المعلّقة في القبّة الكبرى التي فيها المصاحف حيال المقصورة، فيها من السّرج - فيما زعموا - ألف وأربعة وخمسون (2) ، تستوقد هذه الثريات الضخام في العشر الأخير من شهر رمضان، تسقى كل ثريّا منها سبعة أرباع في الليلة، وكان مبلغ ما ينفق من الزيت على جميع المصابيح في هذا المسجد في السنة أيام تمام وقوده في مدّة ابن أبي عامر مكملة بالزيادة المنسوبة ألف ربع، منها في شهر رمضان سبعمائة وخمسون ربعاً، قال: وفي بعض التواريخ القديمة كان عدد القومة بالمسجد الجامع بقرطبة في زمن الخلفاء وفي زمن ابن أبي عامر ثلاثمائة، انتهى. وفيه مخالفة لبعض ما تقدّم.
وذكر بعضهم الزيت - ولكن قوله أولى بالاتباع، لنقله عن ابن بشكوال،
(1) وثلث درهم: سقطت من ك.
(2)
في ك: ألف وأربعمائة وخمسون.
ولمعرفة ابن سعيد بمثل هذا وتحقيقه فيه أكثر من غيره، والله سبحانه أعلم - فقال: ألف ربع وثلاثون ربعاً، منها في رمضان خمسمائة ربع، وفي الثريات التي من الفضة - وهي ثلاث - اثنان وسبعون رطلاً، لكل واحدة ثمانية عشر في ليلة وقدها. وقال في المنبر: إنّه مركب من ستة وثلاثين ألف وصل، قام كل واحد منها بسبعة دراهم فضّة، وسمرت بمسامير الذهب والفضّة، وفي بعضها نفيس الأحجار، واتصل العمل فيه تسعة، ثم قال: ودور الثريا العظيمة خمسون شبراً، وتحتوي على ألف كأس وأربعة وثمانين، كلّها موشّاة بالذهب، إلى غير ذلك من الغرائب.
[وصف جامع قرطبة لابن صاحب الصلاة]
وكتب الفقيه الكاتب أبو محمّد إبراهيم ابن صاحب الصلاة الولبني يصف جامع قرطبة بما نصّه (1) : عمر الله سبحانه بشمول السعادة رسمك، ووفر من جزيل الكرامة قسمك، ولا برحت سحائب الإنعام تهمي عليك ثرّة، وأنامل الأيام تهدي إليك كلّ مسرّة، لئن كان أعزّك الله طريق الوداد بيننا عامراً، وسبيل الاتحاد (2) غامراً، لوجب أن نفض ختمه، ونرفض كتمه، لا سيّما فيما يدرّ أخلاف الفضائل، ويهز أعطاف الشمائل، وإنّي شخصت إلى حضرة قرطبة - حرسها الله تعالى - منشرح الصدر، لحضور ليلة القدر، والجامع - قدس الله تعالى بقعته ومكانه، وثبت أساسه وأركانه - قد كسي ببردة الازدهاء، وجلي في معرض البهاء، كأن شرفاته فلول في سنان، أو أشرٌ في أسنان، وكأنما ضربت على سمائه كلل، أو خلعت على أرجائه حلل، وكأن الشمس قد خلّفت فيه ضياءها، ونسجت على أقطاره أفياءها، فترى نهاراً
(1) وردت هذه الرسالة في المقتطفات (الورقة: 35 - 37) .
(2)
ك: وسبيل المحبة؛ وفي ط بياض موضع " الاتحاد ".
قد أحدق به ليل، كما أحدق بربوةٍ سيل، ليل دامس، ونهار شامس، وللذّبال تألّق كنضنضة الحيات، أو إشارة السبّابات في التحيّات، قد أترعت من السليط كؤوسها، ووصلت بمحاجن الحديد رؤوسها، ونيطت بسلاسل كالجذوع القائمة، أو كالثعابين العائمة، عصبت بها تفاح من الصّفر، كاللّفّاح الصّفر: بولغ في صقلها وجلائها، حتى بهرت بحسنها ولألائها، كأنّها جليت باللهب، وأشربت ماء الذهب، إن سامتّها طولاً رأيت منها سبائك عسجد، أو قلائد زبرجد، وإن جئتها (1) عرضاً رأيت منها أفلاكاً ولكنّها غير دائرة، ونجوماً ولكنّها ليست بسائرة، تتعلّق تعلّق القرط من الذّفرى، وتبسط شعاعها بسط الأديم حين يفرى، والشمع قد رفعت على المنار رفع البنود، وعرضت عليها عرض الجنود، ليجتلي طلاقة روائها القريب والبعيد، ويستوي في هداية ضيائها الشقي والسعيد، وقد قوبل منها مبيضّ بمحمرّ، وعروض مخضرّ بمصفرّ، تضحك ببكائها وتبكي بضحكها، وتهلك بحياتها وتحيي بهلكها، والطيب تفغم أفواحه، وتتنسّم أرواحه، وقتار الألنجوج والند، يسترجع من روح الحياة ما ندّ، وكلّما تصاعد وهو محاصر، أطال من العمر ما كان تقاصر، في صفوف (2) مجامر، ككعوب مقامر، وظهور القباب مؤللة، وبطونها مهللة، كأنّها تيجان، رصّع فيها ياقوت ومرجان، قد قوس محرابها أحكم تقويس، ووشم بمثل ريش الطواويس، حتى كأنّه بالمجرّة مقرطق، وبقوس قزح ممنطق، وكأن اللازورد حول وشومه، وبين رسومه، نتف من قوادم الحمام، أو كسف من ظلل الغمام، والناس أخياف في دواعيهم، وأوزاع في أغراضهم ومراميهم، بين ركّع وسجّد، وأيقاظ وهجّد، ومزدحم على الرقاب يتخطاها، ومقتحم على الظهور يتمطّاها،
(1) ك: أتيتها.
(2)
ق: الحياة ما هو مزجوج وأقيمت في صفوف (وهو مضطرب ناقص) .
كأنّهم ردٌ خلال قطر، أو حروف في عرض (1) سطر، حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم، تبادروا بالتكليم، وتجاذبوا بالأثواب، وتساقوا بالأكواب، كأنّهم حضور طال عليهم غياب، أو سفر أتيح لهم إياب، وصفيّك مع إخوان صدق، تنسكب العلوم بينهم انسكاب الودق، في مكان كوكر العصفور، أستغفر الله أو ككناس اليعفور، كأن إقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين، حتى صار عقدنا لا يحلّ، وحدّنا لا يفلّ، بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى، ونتطّلع صور التفصيل (2) كيف تجلى، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر، ويعمدون إلى قرع العمد بالدّرر، فإذا سمع بها الصبيان قد طبّقت الخافقين، وسرت نحوهم (3) سرى القين، توهموا أنّها إلى أعطافهم واصلة، وفي أقحافهم حاصلة، ففروا بين الأساطين، كما تفرّ من النجوم الشياطين، كأنّما ضربهم أبو جهم (4) بعصاه، أو حصبهم عمير بن ضابئ (5) بحصاه، فأكرم بها مساعٍ تشوق إلى جنّة الخلد، ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتّلد، تعظيماً لشعائر الله، وتنبيهاً لكل ساهٍ ولاه، أدام الله عزّك، منظراً منها أبهى، ولا مخبراً أشهى، وإذا لم تتأمّله عياناً، فتخيّله بياناً، وإن كان حظ منطقي من الكلام، حظ السفيح (6) من الأزلام، لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها، وأذمّة تقلدنا حمائلها، يوجب قبول إتحافي سميناً وغثّاً، ولبس إلطافي جديداً
(1) ق ودوزي: عروض، وما ثبت هنا في نسخة ك ط ج.
(2)
ق ط: التفضيل.
(3)
دوزي: بعدهم.
(4)
فيه إشارة إلى ما قاله الرسول (ص) في أبي جهم العدوي من أنه لا يرفع عصاه عن أهله.
(5)
عمير بن ضابئ البرجمي ممن حصب الحجاج حين جلس على منبر الكوفة.
(6)
السفيح: قدح لا نصيب له في الميسر، وكذلك المنيح.
ورثّاً، لا زلت لزناد النبل مورياً، وإلى آماد الفضل مجرياً، والتحيّة العبقة الريّا، المشرقة المحيّا، عليك ما طلع قمر، وأينع ثمر، ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى.
[تمام الحديث في متعلقات الجامع]
وذكر ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع، يستسقى لها الماء من بئر السانية، وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء، أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل والنهار، وأجرى فضل هذا الماء العذب إلى سقايات اتخذهن على أبواب هذا المسجد بجهاته الثلاث الشرقية والغربيّة والشمالية، أجراها هنالك إلى ثلاث جواب من حياض الرخام استقطعها بمقطع المنستير (1) بسفح جبل قرطبة بالمال الكثير، وألقاه الرخّامون (2) هنالك، واحتفروا أجوافها بمناقيرهم في المدّة الطويلة حتى استوت في صورها البديعة لأعين الناس، فخفّف ذلك من ثقلها، وأمكن من إهباطها إلى أماكن نصبها بأكناف المسجد الجامع، وأمد الله تعالى على ذلك بمعونته، فتهيّأ حمل الواحدة منهافوق عجلة كبيرة اتخذت من ضخام خشب البلوط على فلكٍ موثقة بالحديد المثقّف محفوفة بوثاق الحبال قرن لجرّها سبعون دابة من أشد الدواب، وسهلت قدامها الطرق والمسالك، وسهل الله تعالى حملها واحدة بعد أخرى على هذه الصفة في مدة اثني عشر يوماً، فنصبت في الأقباء المعقودة لها، قال: وابتنى المستنصر في غربي الجامع دار الصدقة، واتخذها معهداً لتفريق صدقاته المتوالية،
(1) في ط: المنسير؛ ق: النسير؛ ج: المنتسين.
(2)
ك: الرخاميون.
وابتنى للفقراء البيوت قبالة باب المسجد الكبير الغربي، انتهى.
[عمل أهل قرطبة حجة في الفقه]
واعلم أنّه لعظم أمر قرطبة كان عملها حجّةً بالمغرب، حتى إنّهم يقولون في الأحكام: هذا ممّا جرى به عمل قرطبة، وفي هذه المسألة نزاع كثير، ولا بأس أن نذكر ما لا بد منه من ذلك، قال الإمام ابن عرفة (1) رحمه الله تعالى: في اشتراط الإمام على القاضي الحكم بمذهب معين - وإن خالف معتقد المشترط اجتهاداً وتقليداً - ثلاثة أقوال: الصحة للباجي، ولعمل أهل قرطبة، ولظاهر شرط سحنون على مذهب من ولاّه الحكم بمذهب أهل المدينة؛ قال المازري: مع احتمال كون الرجل مجتهداً. الثاني: البطلان، للطرطوشي، إذ قال في شرط أهل قرطبة: هذا جهل عظيم. الثالث: تصح التولية ويبطل (2) الشرط، تخريجاً على أحد الأقوال في الشرط الفاسد في البيع للمازري عن بعض الناس، انتهى مختصراً.
قال ابن غازي: إن ابن عرفة نسب للطرطوشي البطلان مطلقاً، وابن شاس إنّما نسب له التفصيل، انتهى.
ولمّا ذكر مولاي الجد الإمام قاضي القضاة بفاس سيدي أبو عبد الله المقري التلمساني (3) في كتابه القواعد شرط أهل قرطبة المذكور، قال بعده ما نصّه:
(1) هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي (716 - 803) تلميذ قاضي الجماعة بتونس محمد ابن عبد السلام، وأحد الفقهاء المشهورين بها، وله مختصر فقهي ومؤلفات أخرى في مذهب مالك تشهد بتقدمه وإمامته (انظر تجمته في نيل الابتهاج: 281 والديباج: 337 والضوء اللامع 9: 240 وغاية النهاية 2: 243) .
(2)
ك: ويذهب.
(3)
جد المؤلف هذا هو الفقيه أبو عبد الله محمد بن محمد بن أحمد المقري التلمساني الذي تولى قضاء فاس أيام السلطان أبي عنان المريني، وكان آية في غزارة الحفظ ومادة العلم (انظر ترجمته في المرقبة العليا: 169 والتعريف بابن خلدون: 59 والإحاطة 2: 136 ونيل الابتهاج: 149 وسيترجم له المقري) .
وعلى هذا الشرط ترتب إيجاب (1) عمل القضاة بالأندلس، ثم انتقل إلى المغرب، فبينا نحن ننازع الناس في عمل المدينة ونصيح بأهل الكوفة مع كثرة من نزل بها من علماء الأمّة كعلي وابن مسعود ومن كان معهما:
ليس التّكحّل في العينين كالكحل
…
سنح لنا بعض الجمود، ومعدن التقليد (2) :
الله أخّر مدّتي فتأخّرت
…
حتى رأيت من الزّمان عجائبا يا لله وللمسلمين، ذهبت قرطبة وأهلها، ولم يبرح من الناس جهلها، ما ذاك إلاّ لأن الشيطان يسعى في محو الحق فينسيه، والباطل لا زال يلقنه ويلقيه، ألا ترى خصال الجاهلية كالنياحة والتفاخر والتكاثر والطعن والتفضيل والكهانة والنجوم والخط والتشاؤم وما أشبه ذلك، وأسماءها كالعتمة ويثرب، وكذا التنابز بالألقاب وغيره ممّا نهي عنه وحذر منه، كيف لم تزل من أهلها، وانتقلت إلى غيرهم مع تيّسر أمرها، حتى كأنّهم لا يرفعون بالدين رأساً، بل يجعلون العادات القديمة أسّاً، وكذلك محبّة الشعر والتلحين (3) والنسب وما انخرط في هذا السلك ثابتة الموقع من القلوب، والشرع فينا منذ سبعمائة سنة وسبع وستين سنة لا نحفظه إلاّ قولاً، ولا نحمله إلاّ كلاًّ، انتهى.
وقال الحافظ ابن غازي - بعد ذكر كلام مولاي الجد - ما نصّه: وحدثني ثقة ممّن لقيت أنّه لما قدم مدينة فاس العلامة أبو يحيى الشريف التلمساني وتصدى لإقراء التفسير بالبلد الجديد وأمر السلطان أبو سعيد المريني الحفيد أعيان الفقهاء
(1) إيجاب: سقطت من ك.
(2)
كذا وردت هذه العبارة، واقترح فليشر أن تقرأ " سنح لنا بعض المجهود ومودة التقليد " وهو تخريج بعيد.
(3)
ط: والتأخير.
بحضور مجلسه كان ممّا ألقاه إليهم منزع المقّري (1) هذا، فبالغوا في إنكاره، ورأوا أنّه لا معدل عمّا عول عليه زعماء الفقهاء كابن رشد وأصحاب الوثائق كالمتيطي من اعتماد عمل أهل قرطبة ومن في معناهم، انتهى.
[رجع إلى وصف قرطبة ومسجدها]
وقال بعض المؤرخين - حين ذكر قرطبة - ما ملخّصه: هي قاعدة بلاد الأندلس، ودار الخلافة الإسلاميّة، وهي مدينة عظيمة، وأهلها أعيان البلاد وسراة الناس، في حسن المآكل والمشارب (2) واللابس والمراكب، وعلو الهمم وبها أعلام العلماء، وسادات الفضلاء، وأجلاد الغزاة، وأنجاد الحروب، وهي في تقسيمها خمس مدن يتلو بعضها بعضاً، وبين المدينة والمدينة سور عظيم حصين حاجز، وكل مدينة مستقلّة بنفسها، وفيها ما يكفي أهلها من الحمّامات والأسواق والصناعات، وطول قرطبة ثلاثة أميال في عرض ميل واحد، وهي في سفح جبل مطل عليها، وفي مدينتها الثالثة وهي الوسطى القنطرة والجامع الذي ليس في معمور الأرض مثله وطوله مائة ذراع في عرض ثمانين، وفيه من السواري الكبار ألف سارية، وفيه مائة وثلاث عشرة ثريّا للوقود أكبرها تحمل ألف مصباح، وفيه من النقوش والرقوم ما لا يقدر أحد على وصفه، وبقبلته صناعات تدهش العقول، وعلى فرجة (3) المحراب سبع قسيّ قائمة على عمد طول كل قوس فوق القامة قد تحير الروم والمسلمون في حسن وضعها، وفي عضادتي المحراب أربعة أعمدة: اثنان أخضران واثنان لازورديان، ليس لها قيمة لنفاستها، وبه منبر ليس على معمور الأرض أنفس منه ولا (4) مثله في حسن صنعته، وخشبه
(1) ك: مشرع المقري.
(2)
والمشارب: زيادة من ك.
(3)
ق ودوزي: فرخة؛ ط: فرضة.
(4)
أنفس منه ولا: زيادة من ك.
ساج وآبنوس وبقّم (1) وعود قاقلّى، ويذكر في تاريخ بني أميّة أنّه أحكم عمله ونقشه في سبع سنين، وكان يعمل فيه ثمانية صنّاع لكل صانع في كل يوم نصف مثقال محمدي (2) ، فكان جملة ما صرف على المنبر لا غير عشرة آلاف مثقال وخمسون مثقالاً، وفي الجامع حاصل (3) كبير ملآن من آنية الذهب والفضّة لجل وقوده، وبهذا الجامع مصحف يقال: إنّه عثماني، وللجامع عشرون باباً مصفحات بالنحاس الأندلسي مخرّمة تخريماً عجيباً بديعاً يعجز البشر ويبهرهم، وفي كل باب حلقة في نهاية الصنعة والحكمة، وبه الصومعة العجيبة التي ارتفاعها مائة ذراع بالمكي المعروف بالرشاشي (4) ، وفيها من أنواع الصنائع الدقيقة ما يعجز الواصف عن وصفه ونعته، وبهذا الجامع ثلاثة أعمد حمر مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث صورة غراب نوح، والجميع خلقة ربانية، وأما القنطرة التي بقرطبة فهي بديعة الصنعة، عجيبة المرأى، فاقت قناطر الدنيا حسناً (5) ، وعدد قسيّها سبع عشرة قوساً، سعة كل قوس منها خمسون شبراً وبين كل قوسين خمسون شبراً، وبالجملة فمحاسن قرطبة أعظم من أن يحيط بها وصفٌ، انتهى ملخّصاً.
وهو وإن تكرّر بعضه مع ما قدمته (6) فلا يخلو من فائدة زائدة، والله الموفق.
وما ذكره في طول المسجد وعرضه مخالف لما مرّ، ويمكن الجواب بأن هذا الذراع أكبر من ذلك، كما أشار إليه هو في أمر الصومعة، وكذا ما ذكره في
(1) وبقم: زيادة من ك.
(2)
يقال إن الدنانير منسوبة إلى محمد بن الناصر الموحدي وفي الأوقية الواحدة 23 درهماً وهناك دنانير محمدية تنسب إلى محمدية العراق وأخرى إلى مدينة المحمدية بالمغرب (انظر الدوحة المشتبكة: 89 والحاشية رقم: 5) .
(3)
الحاصل: المخزن أو المستودع.
(4)
الرشاشي: ذراع ينسب إلى الرشاش الذي جرى التكسير بذراعه أي اتخذ طوله وحدة لقياس الأطوال والمساحات. (انظر طبقات الزبيدي: 284 وان الفرضي 1: 196) .
(5)
ق: عدداً.
(6)
ج: مع ما تقدم.
عدد السواري، وإلاّ أن يقال: ما تقدم باعتبار الصغار والكبار، وهذا العدد الذي ذكره هنا إنّما هو للكبار فقط، كما صرح به، والله تعالى أعلم.
وأمّا الثريات فقد خالف في عددها ما تقدّم، مع أن المتقدّم هو قول ثقات مؤرخي الأندلس، ونحن جلبنا النقل من مواضعه، وإن اختلفت طرقه ومضموناته.
وقال في المغرب - عند تعرّضه لذكر جامع قرطبة - ما نصّه: اعتمدت فيما أنقله (1) في هذا الفصل على كتاب ابن بشكوال، فقد اعتنى بهذا الشأن أتم اعتناء، وأغنى عن الاستطلاع إلى كلام غيره: عن الرازي أنّه لما افتتح المسلمون الأندلس امتثلوا ما فعله أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد عن رأي عمر رضي الله تعالى عنه بالشام من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها ممّا أخذوه صلحاً، فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة كنيستهم العظمى التي كانت داخل مدينتها تحت السور، وكانوا يسمّونها بشنت بنجنت، وابتنوا في ذلك الشطر مسجداً جامعاً، وبقي الشطر الثاني بأيدي النصارى، وهدمت عليهم سائر الكنائس بحضرة قرطبة، واقتنع المسلمون بما في أيديهم، إلى أن كثروا، وتزيدت عمارة قرطبة، ونزلها أمراء العرب، فضاق عنهم ذلك المسجد وجعلوا يعلقون منه سقيفة بعد سقيفة يستكنّون بها، حتى كان الناس ينالون في الوصول إلى داخل المسجد الأعظم مشقّة لتلاصق السقائف، وقصر أبوابها، وتطامن سقفها، حتى ما يمكن أكثرهم القيام على اعتدال لتقارب سقفها من الأرض، ولم يزل المسجد على هذه الصفة إلى أن دخل الأمير عبد الرحمن بن معاوية المرواني إلى الأندلس، واستولى على إمارتها، وسكن دار سلطانها قرطبة، وتمدّنت به، فنظر في أمر الجامع، وذهب إلى توسعته وإتقان بنيانه، فأحضر أعاظم النصارى،
(1) ك: نقلته.
وسامهم بيع ما بقي بأيديهم من كنيستهم لصق الجامع ليدخله فيه، وأوسع لهم البذل وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه، فأبوا من بيع ما بأيديهم، وسألوا بعد الجد بهم أن يباحوا بناء كنيستهم (1) التي هدمت عليهم بخارج المدينة على أن يتخلّوا للمسلمين عن هذا الشطر الذي طولبوا به، فتم الأمر على ذلك، وكان ذلك سنة ثمان وستين ومائة، فابتنى عند ذلك عبد الرحمن المسجد الجامع على صفة ذكرها لا حاجة إلى تفسير (2) الزيادة فيه، وإنّما الحاجة في وصفه بكماله. وفي بنائه لهذه الزيادة يقول دحية بن محمد البلوي (3) من قصيدة:
وأنفق في دين الإله ووجهه
…
ثمانين ألفاً من لجينٍ وعسجد
توزّعها في مسجد أسّه التّقى
…
ومنهجه دين النبي محمد
ترى الذهب الناريّ فوق سموكه
…
يلوح كبرق العارض المتوقّد قال: وكمل سنة سبعين ومائة؛ ثم ذكر زيادة ابنه هشام الرضى وما جدّده فيه، وأنّه بناه من خمس فيء أربونة، ثم زيادة ابنه عبد الرحمن الأوسط لما تزايد الناس، قال: وهلك قبل أن يتم الزخرف، فأمّها ولده محمد بن عبد الرحمن (4) ، ثم رمّ المنذر بن محمد ما وهى منه، وذكر ما جدده خليفتهم الناصر ونقضه للصومعة الأولى وبنيانه للصومعة العظيمة، قال: ولمّا ولي الحكم المستنصر بن الناصر؟ وقد اتسع نطاق قرطبة، وكثر أهلها، وتبين الضيق في جامعها؟ لم يقدّم شيئاً على النظر في الزيادة، فبلغ الجهد، وزاد الزيادة العظمى، قال: وبها كملت محاسن هذا الجامع، وصار في حدّ يحسر (5) الوصف عنه، وذكر حضوره لمشاورة العلماء في تحريف القبلة إلى نحو المشرق، حسبما فعله
(1) ق ط: كنائسهم.
(2)
ق: في تفسير.
(3)
ق ودوزي: البلوني. والأبيات في مخطوطة الرباط: 95 مصدرة بقوله: قال بعضهم.
(4)
لما تزايد
…
عبد الرحمن: سقطت من ق - وهو سهو واضح -.
(5)
ك: يقصر.
والده الناصر في قبلة جامع الزهراء، لأن أهل التعديل يقولون بانحراف قبلة الجامع القديمة إلى نحو الغرب، فقال له الفقيه أبو إبراهيم: يا أمير المؤمنين، إنّه قد صلى إلى هذه القبلة خيار هذه الأمّة من أجدادك الأئمة وصلحاء المسلمين وعلمائهم، منذ افتتحت الأندلس إلى هذا الوقت، متأسّين بأوّل من نصبها من التابعين كموسى بن نصير وحنش الصنعاني وأمثالهما، رحمهم الله تعالى؛ وإنّما فضل من فضل بالاتّباع، وهلك من هلك بالابتداع، فأخذ الخليفة برأيه، وقال: نعم ما قلت، وإنّما مذهبنا الاتّباع.
قال ابن بشكوال: ونقلت من خط أمير المؤمنين المستنصر أن النفقة في هذه الزيادة وما اتصل بها انتهت إلى مائتي ألف دينار وأحد وستين ألف دينار وخمسمائة دينار وسبعة وثلاثين ديناراً ودرهمين ونصف.
ثم ذكر الصومعة نقلاً عن ابن بشكوال فقال: أمر الناصر عبد الرحمن بهدم الصومعة الأولى سنة 340 (1) وأقام هذه الصومعة البديعة، فحفر في أساسها حتى بلغ الماء مدّة من ثلاثة وأربعين يوماً، ولمّا كملت ركب الناصر إليها من مدينة الزهراء وصعد في الصّومعة من أحد درجيها، ونزل من الثاني، ثم خرج الناصر وصلى ركعتين في المقصورة، وانصرف، قال: وكانت الأولى ذات مطلع واحد، فصير لهذه مطلعين، فصل بينهما البناء، فلا يلتقي الراقون فيها إلاّ بأعلاها، تزيد مراقي كل مطلع منها على مائةٍ سبعاً.
قال: وخبر هذه الصومعة مشهور في الأندلس (2) ، وليس في مساجد المسلمين صومعة تعدلها.
قال ابن سعيد: قال ابن بشكوال هذا لأنّه لم ير صومعة مراكش ولا صومعة إشبيلية التين بناهما المنصور من بني عبد المؤمن، فهما أعظم وأطول، لأنّه ذكر أن طول صومعة قرطبة إلى مكان موقف المؤذن أربعة وخمسون ذراعاً
(1) ق: 330.
(2)
ك ط ج: في الأرض.
وإلى أعلى الرمانة الأخيرة بأعلى الزج ثلاثة وسبعون ذراعً، وعرضها في كل تربيع منها ثمانية عشر ذراعاً، وذلك اثنان وسبعون ذراعاً، قال ابن سعيد: وطول صومعة مراكش مائة وعشرة أذرع. وذكر أن صومعة قرطبة بضخام الحجارة المقطعة (1) منجّدة غاية التنجيد، وفي أعلى ذروتها ثلاث شمسات يسمونها رمانات ملصقة في السفود البارز في أعلاها من النحاس: الثنتان منها ذهب إبريز، والثالثة منها وسطى بينهما من فضّة إكسير، وفوقها سوسنة من ذهب مسدّسة فوقها رمّانة ذهب صغيرة في طرف الزج البارز بأعلى الجوّ، وكان تمام هذه الصومعة في ثلاثة عشر شهراً.
وذكر ابن بشكوال (2) في رواية أن موضع الجامع الأعظم بقرطبة كان حفرة عظيمة يطرح فيها أهل قرطبة قمامتهم وغيرها، فلمّا قدم سليمان بن داود صلّى الله عليهما ودخل قرطبة قال للجن: اردموا هذا الموضع وعدّلوا مكانه فسيكون فيه بيت يعبد الله فيه، ففعلوا ما أمرهم به، وبني فيه بعد ذلك الجامع المذكور، قال: ومن فضائله أن الدارات الماثلة في تزاويق سمائه مكتوبة كلّها بالذكر والدعاء إلى غيره بأحكم صنعة، انتهى.
وذكر مصحف عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه الذي كان في جامع قرطبة وصار إلى بني عبد المؤمن فقال: هو مصحف أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله تعالى عنه، ممّا خطّه بيمينه، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، انتهى. وسنذكر فيه زيادة على هذا.
[الزهراء]
وأمّا الزهراء فهي مدينة الملك التي اخترعها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر
(1) في ق: القطعية، وفي ك: الفظيعة، وفي ج: المنقطعة.
(2)
انظر مخطوط الرباط: 28 والسند فيه " قال صاحب التاريخ - عفا الله عنه - ذكر ابن عتاب عن عبيد الله الزهراوي عن شيوخه
…
إلخ ".
لدين الله، وقد تقدّم ذكره، وهي من المدن الجليلة العظيمة القدر، قال ابن الفرضي وغيره: كان يعمل (1) في جامعها حين شرع فيه من حذّاق الفعلة كلّ يوم ألف نسمة منها ثلاثمائة بنّاء ومائتا نجّار وخمسمائة من الأجراء وسائر الصنائع، فاستتم بنيانه وإتقانه في مدّة من ثمانية وأربعين يوماً، وجاء في غاية الإتقان من خمسة أبهاء عجيبة الصّنعة، وطوله من القبلة إلى الجوف - حاشا المقصورة - ثلاثون ذراعاً، وعرض كل بهو من الأربعة المكتنفة له اثنا عشر ذراعاً، وطول صحنه المكشوف من القبلة إلى الجوف ثلاثة وأربعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب واحد وأربعون ذراعاً، وجميعه مفروش بالرخام الخمري، وفي وسطه فوّارة يجري فيها الماء، فطول هذا المسجد أجمع من القبلة إلى الجوف - سوى المحراب - سبعة وتسعون ذراعاً، وعرضه من الشرق إلى الغرب تسعة وخمسون ذراعاً، وطول صومعته في الهواء أربعون ذراعاً، وعرضها عشرة أذرع في مثلها.
وأمر الناصر لدين الله باتخاذ منبر بديع لهذا المسجد، فصنع في نهاية من الحسن، ووضع في مكانه منهن وحظرت حوله مقصورة عجيبة الصنعة، وكان وضع هذا المنبر في مكانه من هذا المسجد عند إكماله يوم الخميس لسبع بقين من شعبان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
قال (2) : وفي صدر هذه السنة كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي جرى (3) فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة، في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة، يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة، عليها أسدٌ عظيم الصورة بديع الصنعة شديد الروعة لم يشاهد
(1) قارن بما في أزهار الرياض 2: 265 - 266.
(2)
المصدر السابق 2: 266، وسقطت كلمة " قال " من ق ط ج ومطبوعة ليدن.
(3)
ك: التي أجراها وجرى.
أبهى منه فيما صوّر الملوك في غابر الدهر، مطلي بذهب إبريز، وعيناه جوهرتان لهما وميض (1) شديد، يجوز هذا الماء إلى عجز هذا الأسد فيمجّه في تلك البركة من فيه، فيبهر الناظر بحسنه وروعة منظره وثجاجة صبّه، فتسقى من مجاجه جنان هذا القصر على سعتها، ويستفيض على ساحاته وجنباته، ويمدّ النهر الأعظم بما فضل منه، فكانت هذه القناة وبركتها والتمثال الذي يصب فيها من أعظم آثار الملوك في غابر الدهر، لبعد مسافتها، واختلاف مسالكها، وفخامة بنيانها، وسموّ أبراجها التي يترقى الماء منها ويتصوّب من أعاليها، وكانت مدّة العمل فيها من يوم ابتدئت من الجبل إلى أن وصلت - اعني القناة - إلى هذه البركة أربعة عشر شهراً، وكان انطلاق الماء في هذه البركة الانطلاق الذي اتصل واستمر يوم الخميس غرّة جمادى الآخرة من السنة، وكانت للناصر في هذا اليوم بقصر الناعورة دعوة حسنة أفضل فيها على عامّة أهل مملكته، ووصل المهندسين والقوّام بالعمل بصلات حسنة جزيلة (2) .
وأمّا مدينة الزهراء فاستمر العمل فيها من عام خمسة وعشرين وثلاثمائة إلى آخر دولة الناصر وابنه الحكم، وذلك نحو من أربعين سنة.
ولما فرغ من بناء مسجد الزهراء على ما وصف كانت أوّل جماعة صلّيت فيه صلاة المغرب من ليلة الجمعة لثمان بقين من شعبان، وكان الإمام القاضي أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي عيسى، ومن الغد صلى الناصر فين الجمعة، وأوّل خطيب (3) به القاضي المذكور.
ولمّا بنى الناصر قصر الزهراء المتناهي في الجلالة والفخامة أطبق الناس على أنّه لم يبن مثله في الإسلام البتّة، وما دخل إليه قطّ أحد من سائر البلاد النائية والنّحل المختلفة من ملك وارد ورسول وافد وتاجر جهبذ، وفي هذه الطبقات
(1) ك: وبيص أي تلألؤ - وهو صواب أيضاً -.
(2)
ك: حسنة جليلة جزيلة.
(3)
ك: وأول من خطب.
من الناس تكون المعرفة والفطنة، إلا وكلهم قطع أنّه لم ير له شبهاً، بل لم يسمع به، بل لم يتوهم كون مثله، حتى إنّه كان أعجب ما يؤمله القطع إلى الأندلس في تلك العصور النظر إليه، والتحدث عنه، والأخبار عن هذا تتسع جدّاً، والأدلّة عليه تكثر، ولو لم يكن فيه إلاّ السطح الممرّد المشرف على الروضة المباهي بمجلس الذهب والقبة وعجيب ما تضمّنه من إتقان الصنعة وفخامة الهمّة وحسن المستشرف وبراعة الملبس والحلة ما بين مرمر مسنون وذهب موضون (1) وعمدٍ كأنّما أفرغت في القوالب، ونقوش كالرياض، وبرك عظيمة محكمة الصنعة، وحياضٍ وتماثيل عجيبة الأشخاص لا تهتدي الأوهام إلى سبيل استقصاء التعبير عنها، فسبحان الذي أقدر هذا المخلوق الضعيف على إبداعها واختراعها من أجزاء الأرض المنحلّة كيما يري الغافلين عنه من عباده مثالاً لما أعدّه لأهل السعادة في دار المقامة التي لا يتسلّط عليها الفناء، ولا تحتاج إلى الرّم، لا إله إلاّ هو المنفرد بالكرم.
وذكر المؤرخ أبو مروان ابن حيّان (2) صاحب الشرطة أن مباني قصر الزهراء اشتملت على أربعة آلاف سارية، ما بين كبيرة وصغيرة حاملة ومحمولة، ونيّف هو ثنتا عشرة على ثلاثمائة سارية (3)، قال: منها ما جلب من مدينة رومة، ومنها ما أهداه صاحب القسطنطينيّة، وأن مصاريع أبوابها صغارها وكبارها كانت تنيّف على خمسة عشر ألف باب، وكلها ملبسة بالحديد والنحاس المموّه، والله سبحانه أعلم فإنّها كانت من أهول ما بناه الإنس، وأجلّه خطراً، وأعظمه شأناً، انتهى.
قلت: فسّر بعضهم ذلك النيّف في كلامه بثلاث عشرة، والله أعلم.
(1) ك: مصون.
(2)
أزهار الرياض 2: 268.
(3)
أزهار الرياض: وفسر بعضهم هذا النيف بثلاث عشرة؛ وفي ك: ونيف على ثلاثمائة هو ست عشرة.
وقال بعض من أرّخ الأندلس (1) : كان عدد الفتيان بالزهراء ثلاثة عشر ألف فتىً وسبعمائة وخمسين فتىً، ودخالتهم من اللحم في كل يوم - حاشا أنواع الطير والحوت - ثلاثة عشر ألف رطل، وعدة النساء بقصر الزهراء الصغار والكبار، وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة وأربع عشرة، انتهى.
وقيل: إن عدد الفتيان (2) الصقالبة ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسون، وجعل بعضٌ مكان الخمسين سبعة وثمانين.
وقال آخر: ستة آلاف صقلبي وسبعة وثمانون، والمرتب من الخبز لحيتان بحيرة الزهراء اثنا عشر ألف خبزة كل يوم، وينقع لها من الحمص الأسود ستة أقفزة كل يوم، انتهى.
ثم قال الأول: وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل، تقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان، انتهى.
وقال ابن حيّان (3) : ألفيت بخط ابن دحون الفقيه، قال مسلمة بن عبد الله العريف المهندس: بدأ عبد الرحمن الناصر لدين الله بنيان (4) الزهراء أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، وكان مبلغ ما ينفق فيها كل يوم من الصخر المنحوت (5) المنجور المعدل ستة آلاف صخرة، سوى الصخر المصرّف في التبليط، فإنّه لم يدخل في هذا العدد، وكان يخدم في الزهراء كل يوم ألف وأربعمائة بغل، وقيل أكثر، منها أربعمائة زوامل الناصر لدين الله، ومن دواب الأكرياء (6) الراتبة للخدمة ألف بغل، لكل بغل منها ثلاثة مثاقيل في الشهر، يجب لها في الشهر
(1) أزهار الرياض: وقال بعض المؤرخين.
(2)
ك: عدد الصبيان.
(3)
أزهار الرياض 2: 269.
(4)
ك: بعمارة.
(5)
المنحوت: سقطت من ط ج ق.
(6)
ك: الأكرية.
ثلاثة آلاف مثقال، وكان يرد الزهراء من الجيار (1) والجص في كل ثالث من الأيام ألف ومائة حمل، وكان فيها حمّامان: واحد للقصر، وثانٍ للعامة.
وذكر بعض أهل الخدمة في الزهراء أنّه قدر النفقة فيها في كل عام بثلاثمائة ألف دينار مدة خمسة وعشرين عاماً التي بقيت من دولة الناصر من حين ابتدأها، لأنّه توفّي سنة خمسين، فحصل جميع الإنفاق فيها فكان مبلغه خمسة عشر بيت مال.
قال (2) : وجلب إليها الرخام من قرطاجنة وإفريقية وتونس، وكان الذين يجلبونه عبد الله بن يونس عريف البنائين (3) وحسن وعلي بن جعفر (4) الإسكندراني، وكان الناصر يصلهم على كل رخامة صغيرة وكبيرة بعشرة دنانير، انتهى.
وقال بعض ثقات المؤرخين: إنّه كان يصلهم على كل رخامة صغيرة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية (5)، قيل (6) : وكان عدد السواري المجلوبة من إفريقية ألف سارية وثلاثة عشرة سارية، وسائرها من مقاطع الأندلس طرّكونة وغيرها، فالرخام المجزع من ريّة، والأبيض من غيرها، والوردي والأخضر من إفريقية من كنيسة إسفاقس، وأمّا الحوض المنقوش المذهب الغريب الشكل الغالي القيمة فجلبه إليه أحمد اليوناني من القسطنطينية مع ربيع الأسقف القادم من إيلياء، وأما الحوض الصغير الأخضر المنقوش بتماثيل الإنسان فجلبه أحمد من الشام، وقيل: من القسطنطينية، مع ربيع الأسقف
(1) ك ج: الجير.
(2)
أزهار الرياض 2: 270.
(3)
ط: البنيان.
(4)
أزهار الرياض: وحسن ومحمد ابنا جعفر الإسكندري. وفي ك: وحسن بن محمد وعلي بن جعفر.
(5)
سجلماسية: زيادة من ج وأزهار الرياض.
(6)
في ق: قال؛ وسطت من ج؛ وموضعها بياض في ط.
أيضاً، وقالوا: إنّه لا قيمة له لفرط غرابته وجماله، وحمل من مكان إلى مكان حتى وصل إلى البحر، ونصبه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف المؤنس، وجعل عليه اثني عشر تمثالاً من الذهب الأحمر مرصعة بالدر النفيس الغالي ممّا عمل بدار الصناعة بقرطبة: صورة أسد إلى جانبه غزال إلى جانبه تمساح، وفيما يقابله ثعبان وعقاب وفيل، وفي المجنبتين حمامة وشاهين وطاووس ودجاجة وديك وحدأة ونسر (1) ، وكل ذلك من ذهب مرصع بالجوهر النفيس، ويخرج الماء من أفواهها، وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل فيه الناصر على أمين غيره، وكان يخبز في أيامه في كل يوم برسم حيتان البحيرات ثمانمائة خبزة، وقيل: أكثر، إلى غير ذلك ممّا يطول تتبعه.
قال (2) : وكان الناصر كما قدمنا قسم الجباية أثلاثاً: ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدخر، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة (3) فلا يحصيها الديوان.
وقد سبق هذا كلّه، وإنّما كرّرته لقول بعضهم إثر حكايته له، ما صورته: وقيل: إن مبلغ تحصيل النفقة في بناء الزهراء مائة مدي من الدراهم القاسمية بكيل قرطبة، وقيل: إن مبلغ النفقة فيها بالكيل المذكور ثمانون مدياً وسبعة أقفزة من الدراهم المذكورة. واتصل بنيان الزهراء أيّام الناصر خمساً وعشرين سنة شطر خلافته، ثم اتصل بعد وفاته خلافة ابنه الحكم كلّها، وكانت خمسة عشر عاماً وأشهراً، فسبحان الباقي بعد فناء الخلق، لا إله إلاّ هو، انتهى.
(1) هذه ثلاثة عشر تمثالاً وقد ذكر أنها اثنا عشر، وفي أزهار الرياض عد منها أحد عشر ثم قال: والثاني عشر لم يحضرني اسمه الآن؛ وذلك أنه لم يذكر الحدأة والنسرز
(2)
قال: سقطت من ك ج ط.
(3)
في ق أخماس العظيمة؛ ط: أخماس الغنائم؛ ك: أخماس الغنيمة.
[بين الناصر ومنذر بن سعيد في شأن المباني]
وقال ابن أصبغ الهمداني (1) والفتح في المطمح (2) : كان الناصر كلفاً بعمارة الأرض، وإقامة معالمها، وانبساط أمرها (3) ، واستجلابها من أبعد بقاعها، وتخليد الآثار الدالة على قوّة الملك وعزّة السلطان وعلوّ الهمّة، فأفضى به الإغراق في ذلك إلى أن ابتنى مدينة الزهراء البناء الشائع ذكره، الذائع خبره، المنتشر في الأرض أثره، واستفرغ وسعه (4) في تنميقها، وإتقان قصورها، وزخرفة مصانعها، وانهمك في ذلك حتى عطل شهود الجمعة بالمسجد الجامع الذي اتخذه ثلاث جمع متواليات، فأراد القاضي منذر أن يغض منه بما يتناوله من الوعظة بفصل الخطاب والحكمة والتذكر بالإنابة والرجوع، فابتدأ في أول خطبته بقوله تعالى:" أتبنون بكلّ ريع - إلى قوله تعالى: فلا تكن من الواعظين " ثم وصله بقوله: فمتاع الدنيا قليل، والآخرة خير لمن اتقى، وهي دار القرار، ومكان الجزاء، ومضى في ذم تشييد البنيان، والاستغراق في زخرفته، والإسراف في الإنفاق عليه، بكلام جزل، وقول فصل، قال الحاكي: فجرى فيه طلقاً، وانتزع فيه قوله تعالى:" أفمن أسّس بنيانه - إلى آخر الآية " وأتى بما يشاكل المعنى من التخويف بالموت، والتحذير من فجأته، والدعاء إلى الزهد في هذه الدار الفانية، والحض على اعتزالها، والرفض لها، والندب إلى الإعراض عنها، والإقصار عن طلب اللذّات، ونهي النفس عن اتّباع هواها، فأسهب في ذلك كلّه، وأضاف إليه من آي القرآن ما يطابقه، وجلب من الحديث والأثر ما يشاكله، حتى أذكر من حضره من الناس
(1) في ك: ابن البديع الهمداني؛ وفي ق: ابن حيان الهمداني. وسيذكره في الكتاب الخامس باسم " ابن أصبغ الهمداني " وكذلك ورد في ج وأزهار الرياض 2: 277 والمرقبة العليا: 69.
(2)
انظر المطمح: 40 والمرقبة العليا: 69 وأزهار الرياض 2: 278 - 279.
(3)
دوزي: وانبساط مياهها؛ وفي المطمح: وتكثير مياهها.
(4)
ك: جهده.
وخشعوا ورقّوا واعترفوا (1) وبكوا وضجوا ودعوا وأعلنوا التضرّع إلى الله تعالى في التوبة والابتهال في المغفرة، وأخذ خليفتهم من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنّه المقصود به، فبكى وندم على ما سلف له من فرطه، واستعاذ بالله من سخطه، إلاّ أنّه وجد على منذر لغلظ ما قرّعه به (2) ، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر، وقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته، وما عنى بها غيري، فأسرف عليّ، وأفرط في تقريعي (3) ، ولم يحسن السياسة في وعظي، فزعزع قلبي، وكاد بعصاه يقرعني، واستشاط غيظاً عليه فأقسم أن لا يصلي خلفه صلاة الجمعة خاصة، فجعل يلتزم صلاتها وراء أحمد بن مطرّف صاحب الصلاة بقرطبة، ويجانب الصلاة بالزهراء، وقال له الحكم: فما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال بغيره منه إذ كرهته؟ فزجره وانتهره، وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه؟ لا أمّ لك؟ يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد، سالكة غير القصد؟ هذا ما لا يكون، وإنّي لأستحي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعاً مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنّه أحرجني، فأقسمت، ولوددت أنّي أجد سبيلاً إلى كفّارة يميني بملكي، بل يصلّي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظنّنا نعتاض منه أبداً (4) . وقيل: إن الحكم اعتذر عمّا قال منذر، وقال: يا أمير المؤمنين، إنّه رجل صالح، وما أراد إلاّ خيراً، ولو رأى ما أنفقت وحسن تلك البنية لعذرك، فأمر حينئذ الناصر بالقصور ففرشت، وفرش ذلك المجلس بأصناف فرش الديباج، وأمر بالأطعمة، وقد أحضر العلماء وغيرهم من الأمراء (5) وغصّ بهم المجلس، فدخل منذر في آخرهم،
(1) ج: واعتبروا.
(2)
ك ط ج: تقرعه به.
(3)
زاد في ك: وتفزيعي.
(4)
هنا انقطع النقل عن المطمح.
(5)
وغيرهم من الأمراء: سقطت من ك ج، وفي ط بياض.
فأومأ إليه الناصر أن يقعد بقربه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنّما يقعد الرجل حيث انتهى به المجلس، ولا يتخطّى الرقاب، فجلس في آخر الناس وعليه ثياب رثّة، ثم ذكر هذا القائل بعد هذا كلاماً من كلام المنذر يأتي قريباً.
وقحط الناس (1) آخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر المذكور بالبروز إلى الاستسقاء بالناس، فتأهّب لذلك، وصام بين يديه أياماً ثلاثة تنفلاً وإنابة ورهبة، واجتمع له الناس في مصلّى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس، ويشاركهم في الخروج إلى الله تعالى والضّراعة له، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلّى، ثم خرج نحوهم ماشياً متضرّعاً مخبتاً متخشّعاً، وقام ليخطب، فلمّا رأى بدار (2) الناس إلى ارتقائه، واستكانتهم من خيفة الله، وإخباتهم له، وابتهالهم إليه - رقّت نفسه، وغلبته عيناه، فاستعبر وبكى حيناً، ثم افتتح خطبته بأن قال: يا أيّها الناس، سلام عليكم، ثم سكت ووقف شبه الحصر، ولم يك من عادته، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله، ثم اندفع تالياً قوله تعالى " كتب ربّكم على نفسه الرّحمة، إلى قوله: رحيم " ثم قال: استغفروا ربّكم إنّه كان غفّاراً، استغفروا ربكم ثمّ توبوا إليه، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه، قال الحاكي: فضج الناس بالبكاء، وجأروا بالدعاء، ومضى على تمام خطبته، ففزّع النفوس بوعظه، وانبعث الإخلاص بتذكيره، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر، روّى الثرى، وطرد المحل وسكّن الأزل، والله لطيف بعباده. وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب، ومنه أن قال يوماً - وقد سرح طرفه في ملإ الناس عندما شخصوا
(1) عاد النقل عن المطمح، وانظر كذلك المرقبة العليا وأزهار الرياض.
(2)
ج: تبادر.
إليه بأبصارهم، فهتف بهم كالمنادي -: يا أيّها الناس، وكررها عليهم مشيراً بيده في نواحيهم " أنتم الفقراء إلى الله
…
إلى بعزيز " فاشتد وجد الناس، وانطلقت أعينهم بالبكاء، ومضى في خطبته.
وقيل (1) : إن الخليفة الناصر طلبه مرّة (2) للاستسقاء، واشتدّ عزمه (3) عليه، فتسابق الناس للمصلّى، فقال للرسول - وكان من خواص الناس -: ليت شعري، ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له: ما رأينا قطّ أخشع منه في يومنا هذا، إنّه منتبذ حائر منفرد بنفسه، لابس أخسّ (4) الثياب، مفترش التراب، وقد رمّد به على رأسه وعلى لحيته، وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول: هذه ناصيتي بيدك، أتراك تعذّب بي الرعيّة وأنت أحكم الحاكمين لن يفوتك شيء منّي، قال الحاكي: فتهّل وجه القاضي منذر عندما سمع قوله، وقال: يا غلام احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسّقيا، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء، وكان كما قال، فلم ينصرف الناس إلا عن السّقيا (5) .
وكان منذر شديد الصلابة (6) في أحكامه، والمهابة في أقضيته، وقوّة الحكومة (7) والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه.
وقال ابن الحسن النّباهي، وأصله في المطمح وغيره (8) : ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء، أن الناصر كان
(1) ق: ومنه. وفي ط بياض؛ ج: وذكر أن.
(2)
ك: خرج مرة؛ ج: حركة مرة.
(3)
ك: وأسرع عزمه؛ ج: ووطن عزمه.
(4)
ج: أخشن.
(5)
إذا
…
السقيا: سقط من ج.
(6)
المطمح: من ذوي الصلابة.
(7)
ق ط ودوزي: الخلوة.
(8)
المرقبة العليا: 71 والروض المعطار: 140 - 141.
اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصيّة التي كانت مائلة على الصّرح الممرّد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد [مغشاة](1) ذهباً وفضّة أنفق عليها مالاً جسيماً، وقرمد سقفها به، وجعل سقفها صفراء فاقعة، إلى بيضاء ناصعة، تستلب الأبصار بأشعّة نورها، وجلس فيها إثر تمامها يوماً لأهل مملكته، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخراً عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة: هل رأيتم أن سمعتم ملكاً كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا: لا والله يا أمير المؤمنين، وإنّك لأوحد في شأنك كلّه، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه، ولا انتهى إلينا خبره، فأبهجه قولهم وسرّه، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس (2) ، فلمّا أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له: يا أمير المؤمنين ما ظننت الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ، ولا أن تمكّنه من قيادك هذا التمكين، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته، وفضّلك به على العالمين، حتى ينزلك منازل الكافرين، قال: فانفعل عبد الرحمن لقوله، وقال له: انظر ما تقول، وكيف أنزلني منزلتهم؟ قال: نعم، أليس الله تعالى يقول " ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً - الآية " فوجم الخليفة، وأطرق مليّاً ودموعه تتساقط خشوعاً لله تعالى، قال الحاكي (3) : ثمّ أقبل على منذر وقال له: جازاك الله يا قاضي عنّا وعن نفسك خيراً وعن الدين والمسلمين أجلّ جزائه، وكثر في الناس أمثالك، فالذي قلت هو الحق، وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى، وأمر بنقض سقف القبيبة، وأعاد قرمدها تراباً على صفة غيرها، انتهى ما حكاه ابن الحسن النّباهي.
(1) زيادة من المرقبة العليا. وفي ط ج ق: قراميد ذهب
…
الخ.
(2)
المرقبة العليا: واجعاً ناكس الرأس. وفي ك ط: واهماً - وذلك تصحيفه -.
(3)
قال الحاكي: سقطت من ك.
ولنذكر هذه الحكاية وغيرها، وإن خالف السياق ما سبق، وهذا منقول من كلام الحجاري في المسهب في أخبار المغرب فإنّه أمّ فائدة، إذ قال رحمه الله: دخل منذر بن سعيد يوماً على الناصر باني الزهراء، وهو مكب على الاشتغال بالبنيان، فوعظه، فأنشده عبد الرحمن الناصر (1) :
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
…
من بعدهم فبألسن البنيان
أوما ترى الهرمين قد بقيا وكم
…
ملكٍ محاه حوادث الأزمان
إنّ البناء إذا تعظم شأنه
…
أضحى يدلّ على عظيم الشان قال: فما أدري أهذا شعره أم تمثّل به؟ فإن كان شعره فقد بلغ فيه إلى غاية الإحسان، وإن كان تمثّل به فقد استحقّه بالتمثّل به في هذا المكان، وكان منذر يكثر تعنيته (2) على البنيان، ودخل عليه مرّة وهو في قبّة قد جعل قرمدها من ذهب وفضّة، واحتفل فيها احتفالاً ظن أن أحداً من الملوك لم يصل إليه، فقام خطيباً والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة، فتلا قوله تعالى " ولولا أن يكون النّاس أمّةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرّحمن لبيوتهم سقفاً من فضّةٍ ومعارج عليها يظهرون - الآية " وأتبعها بما يليق بذلك، فوجم الملك، وأظهر الكآبة، ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه.
وحضر معه يوماً في الزهراء، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأشد الناصر قصيدة منها (3) :
سيشهد ما أبقيت أنّك لم تكن
…
مضيعاً وقد مكّنت للدين والدنيا
فبالجامع المعمور للعلم والتّقى
…
وبالزهرة الزهراء للملك والعليا
(1) انظر المغرب 1: 174.
(2)
ك: تعنيفه.
(3)
المغرب 1: 174.
فاهتزّ الناصر، وابتهج، وأطرق منذر بن سعيد ساعة، ثم قام منشداً:
يا باني الزهراء مستغرقاً
…
أوقاته فيها أما تمهل
لله ما أحسنها رونقاً
…
لو لم تكن زهرتها تذبل فقال الناصر: إذا هبّ عليها نسيم التذكار والحنين، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى، فقال منذر: اللهم اشهد أنّي قد بثثت ما عندي ولم آل نضحاً، انتهى.
ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال، فإنّها ذبلت بعد ذلك في الفتنة، وقلب ما كان فيها من منحة محنة، وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول (1) ، وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور، فأساء التدبير، ولم يميز بين القبيل والدبير، فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوّفه منه حتى ولاّه عهده كما بيّنّا نص العهد فيما سبق، فأطبق الخاصة والعامة على بغضه، وإضمار السوء له، وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، فعهد ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن الناصر سنة تسع وتسعين وتلقب بالمهدي وخلع المؤيد وحبسه، وأسلمت الجيوش شنجول فأخذ وأسر وقتل.
قال ابن الرقيق: ومن أجب ما روي أنّه من نصف نهار يوم الثلاثاء لأربع بقين من جمادى الآخرة إلى نصف نهار يوم الأربعاء فتحت قرطبة، وهدمت الزهراء، وخلع خليفة وهو المؤيد، وولي خليفة وهو المهدي، وزالت دولة بني عامر العظيمة، وقتل وزيرهم محمد بن عسقلاجة (2) ، وأقيمت جيوش من العامة، ونكب خلق من الوزراء وولي الوزارة آخرون، وكان ذلك كلّه على يد عشرة رجال فحّامين وجزارين وزبالين، وهم جند المهدي هذا، انتهى.
(1) شنجول أي شانجة الصغير؛ وكان شانجة (Sancho) اسم خاله.
(2)
ك: علاجه.
وقد تقدم بعض الكلام على المهدي هذا، وهو الذي قيل فيه لما قام على الدولة (1) :
قد قام مهديّنا ولكن
…
بملّة (2) الفسق والمجون
وشارك الناس في حريم
…
لولاه ما زال بالمصون
من كان من قبل ذا أجمّاً
…
فاليوم قد صار ذا قرون ومن شعر المهدي هذا وقد حيّاه في مجلس شرابه غلامٌ بقضيب آسٍ:
أهديت شبه قوامك الميّاس
…
غصناً رطيباً ناعماً من آس
وكأنّما يحكيك في حركاته
…
وكأنّما تحكيه في الأنفاس وقد ذكرنا فيما سبق في الفصل الثالث خبر المهدي هذا وقتله (3) . ولقد كان قيامه مشئوماً على الدين والدنيا، فإنّه فاتح أبواب الفتنة بالأندلس وماحي معالمها، حتى تفرقت الدولة، وانتثر السلك، وكثر الرؤساء، وتطاول العدو إليها، وأخذها شيئاً فشيئاً حتى محا اسم الإسلام منها، أعادها الله تعالى.
[حديث ابن خلدون عن الزهراء]
وقد ألمّ الولي ابن خلدون في تاريخه بذكر الزهراء في جملة مباني الناصر، فقال ما نصّه (4) : ولما استفحل ملك الناصر صرف نظره إلى تشييده القصور والمباني، وكان جده الأمير محمد وأبوه عبد الرحمن الأوسط وجده الحكم قد احتفلوا (5) في ذلك وبنوا قصورهم على أكمل الإتقان والضخامة، وكان فيها المجلس الزاهر
(1) انظر ما سبق ص: 426.
(2)
ق ج: بآلة.
(3)
يريد الباب الثالث؛ انظر ما سبق ص: 428.
(4)
تاريخ ابن خلدون 4: 144.
(5)
ابن خلدون: قد اختلفوا، وكذلك في ق.
والبهو الكامل والمنيف، فبنى هو إلى جانب الزاهر قصره العظيم، وسمّاه دار الروضة، وجلب الماء إلى قصورهم من الجبل واستدعى عرفاء المهندسين والبنائين من كل قطر، فوفدوا عليه حتى من بغداد والقسطنطينية، ثم أخذ في بناء المنتزهات، فاتخذ منية الناعورة خارج القصور، وساق لها الماء من أعلى الجبل على أبعد مسافة، ثم اختط مدينة الزهراء، واتخذ لنزله، وكرسيّاً لملكه، وأنشأ فيها من المباني والقصور والبساتين ما عفّى على مبانيهم الأولى، واتخذ فيها محلات للوحش فسيحة الفناء، متباعدة السياج، وسارح للطيور مظللة بالشباك، واتخذ فيها دوراً لصناعة الآلات من آلات السلاح للحرب والحلى للزينة وغير ذلك من المهن، وأمر بعمل الظلة على صحن الجامع بقرطبة وقاية للناس من حر الشمس، انتهى.
[الزاهرة]
وأمّا الزاهرة فهي من مباني المنصور محمد بن أبي عامر.
قال ابن خلدون أثناء كلامه على المنصور ما صورته (1) : وابتنى لنفسه مدينة لنزله سماها الزاهرة، ونقل إليها جزءاً من الأموال والأسلحة، انتهى.
وقال غيره، وأظنّه صاحب المطمح (2) : وفي سنة ثمان وستين وثلاثمائة أمر المنصور بن أبي عامر ببناء الزاهرة، وذلك عندما استفحل (3) أمره، واتقد جمره، وظهر استبداده، وكثر حسّاده وأنداده (4) ، وخاف على نفسه في الدخول إلى قصر السلطان، وخشي أن يقع في أشطان، فتوثّق لنفسه، وكشف
(1) ابن خلدون 4: 148.
(2)
لم يرد هذا النص في المطمح، وإنما هو في البيان المغرب لابن عذاري 2: 410 - 415 (277 ط. ليدن) .
(3)
ك: تكامل واستفحل.
(4)
ك: وأضداده وأنداده.
له ما ستر عنه في أمسه، من الاعتزاز عليه، ورفع الاستناد إليه، وسما إلى ما سمت إليه الملوك من اختراع قصر ينزل فيه، ويحله بأهله وذويه، ويضم إليه رياسته، ويتم به تدبيره وسياسته، ويجمع فيه فتيانه وغلمانه، فارتاد موضع مدينته المعروفة بالزاهرة، الموصوفة بالقصور الباهرة، وأقامها بطرف البلد على نهر قرطبة الأعظم، نسّق فيها كل اقتدار معجز ونظم، وشرع في بنائها في هذه السنة المؤرخة، وحشد الصنّاع والفعلة، وجلب إليها الآلات الجليلة، وسربلها بهاءً يردّ الأعين كليلة، وتوسع في اختطاطها، وتولّع بانتشارها في البسيطة وانبساطها، وبالغ في رفع أسوارها، وثابر على تسوية أنجادها وأغوارها، فاتسعت هذه المدينة في المدة القريبة، وصار بناؤها من الأنباء (1) الغريبة، وبني معظمها في عامين.
وفي سنة سبعين وثلاثمائة انتقل المنصور إليها ونزلها بخاصته وعامته، فتبوّأها وشحنها بجميع أسلحته وأمواله وأمتعته، واتخذ فيها الدواوين والأعمال وعمل في داخلها الأهراء، وأطلق بساحتها الأرحاء، ثم قطع ما حولها لوزرائه وكتّابه، وقوّاده وحجّابه، فابتنوا بها كبار الدور، وجليلات القصور، واتخذوا خلالها المستغلاّت المفيدة، والمنازه المشيدة، وقامت بها الأسواق وكثرت فيها الأرفاق، وتنافس الناس بالنزول بأكنافها، والحلول بأطرافها، للدنوّ من صاحب الدولة، وتناهى الغلوّ في البناء حوله، حتى اتصلت أرباضها بأرباض قرطبة وكثرت بحوزتها العمارة، واستقرت في بحبوحتها الإمارة، وأفرد الخليفة من كل شيء إلا من الاسم الخلافي، وصير ذلك هو الرسم العافي، وربت فها جلوس وزرائه، ورؤوس أمرائه، وندب إليها كل ذي خطّة بخطّته، ونصب ببابها كرسيّ شرطته، وأجلس عليها والياً على رسم كرسي الخليفة، وفي صفة تلك المرتبة المنيفة، وكتب إلى الأقطار بالأندلس والعدوة
(1) ك: من الأبنية.
بأن تحمل إلى مدينته تلك أموال الجبايات، ويقصدها أصحاب الولايات، وينتابها طلاب الحوائج، وحذّر أن يعوج عنها إلى باب (1) الخليفة عائج، فاقتضيت إليها اللّبانات والأوطار، وانحشد الناس إليها من جميع الأقطار، وتم لمحمد بن أبي عامر ما أراد، وانتظم بلبّة أمانيه المراد، وعطل قصر الخليفة من جميعه، وصيّره بمعزل من سامعه ومطيعه، وسدّ باب قصره عليه، وجدّ في خبر ألاّ يصل إليه، وجعل فيه ثقة من صنائعه يضبط القصر، ويبسط في النهي والأمر، وشرف منه على كل داخل، ويمنع ما يحذره من الدواخل، ورتب عليه الحرّاس والبوّابين، والسّمّار والمنتابين، يلازمون حراسة من فيه ليلاً ونهاراً، ويراقبون حركاتهم سرّاً وجهاراً، وقد حجر على الخليفة كل تدبير، ومنعه من تملّك قبيل أو دبير، وأقام الخليفة هشام مهجور الفناء، معجوز الغناء، خفيّ الذكر، عليل الفكر، مسدود الباب، محجوب الشخص عن الأحباب، لا يراه خاص ولا عام، ولا يخاف منه بأسٌ ولا يرجى منه إنعام، ولا يعهد في إلا الاسم السلطاني في السّكة والدعوة، وقد نسخه ولبّس أبهته وطمس بهجته، وأغنى الناس عنه، وأزال أطماعهم منه، وصيرهم لا يعرفونه، وأمرهم أنهم (2) لا يذكرونه، اشتدّ ملك محمد بن أبي عامر منذ نزل قصر الزاهرة وتوسّع مع الأيام في تشييد (3) بنيتها حتى كملت أحسن كمال، وجاءته في نهاية الجمال، نقاوة بناء، وسعة فناء، واعتدال هواء رقّ أديمه، وصقالة جوّ اعتلّ (4) نسيمه، ونضرة بستان، وبهجة للنفوس فيها افتنان، وفيها يقول صاعد اللغوي:
يا أيها الملك المنصور من يمن
…
والمبتنى نسبا غير الذي انتسبا
(1) ك: دار.
(2)
أنهم: زيادة من ق ط.
(3)
ق: تجديد.
(4)
ق: اعتدل.
بغزوة (1) في قلوب الشّرك رائعة
…
بين المنايا تناغي السّمر والقضبا
أما ترى العين تجري فوق مرمرها
…
هوىً فتجري على أحفافها الطربا (2)
أجريتها فطما الزّاهي بجريتها
…
كما طموت فسدت العجم والعربا
تخال فيه جنود الماء رافلةً
…
مستلئمات تريك الدّرع واليلبا
تحفّها من فنون الأيك زاهرة
…
قد أورقت فضّة إذ أورقت (3) ذهبا
بديعة الملك ما ينفكّ ناظرها
…
يتلو على السّمع منها آيةً عجبا
لا يحسن الدهر أن ينشي لها مثلاً
…
ولو تعنّت فيها نفسه طلبا ودخل عليه ابن أبي الحباب (4) في بعض قصوره من النية المعروفة بالعامرية، والروض قد تفتحت أنواره، وتوشحت أنجاده وأغواره، وتصرّف فيها الدهر متواضعاً، ووقف بهاالسعد خاضعاً، فقال:
لا يوم كاليوم في أيّامك الأول
…
بالعامريّة ذات الماء والظّلل
هواؤها في جميع الدهر معتدلٌ
…
طيباً وإن حلّ فصلٌ غير معتدل
ما إن يبالي الذي يحتلّ ساحتها
…
بالسعد أن لا تحلّ الشمس بالحمل وما زالت هذه المدينة (5) رائقة، والسّعود بلبّتها متناسقة، تراوحها الفتوح وتغاديها، وتجلب إليها منكسرة أعاديها، لا تزحف عنها راية إلاّ
(1) ط: بغرة.
(2)
البيان: على احسائها الطربا؛ وفي ق: الرطبا؛ ج: اخفائها.
(3)
البيان: أثمرت.
(4)
البيان: عمرو بن أبي الحباب؛ وهو خطأ؛ وأظن إن ابن أبي الحباب هو أحمد بن عبد العزيز بن أبي الحباب النحوي (- 400) أحد تلامذة القالي (الصلة: 25) وقد ترجم له الحميدي في موضعين مرة باسمه ومرة بكنيته " أبو المطرف "(111، 377) وكناه في الأولى بأبي عمر ولعل هذا موضع اللبس والاضطراب بتسميته " عمرو " في البيان؛ وفي الترجمة الثانية أورد الحميدي شعره في المنية العامرية.
(5)
ك: المنية.
إلى فتح، ولا يصدر عنها تدبير إلاّ إلى نجح، إلى أن حان يومها العصيب، وقيّض لها من المكروه أوفر (1) نصيب، فتولت فقيدة، وخلت من بهجتها كلّ عقيدة، انتهى.
وقد حكى الحميدي في " جذوة المقتبس "(2) هذه الحكاية الواقعة لابن أبي الحباب بزيادة، فقال - بعد أن ذكر هذه المنية العامرية التي إلى جانب الزهراء -: إن أبا المطرّف بن أبي الحباب الشاعر دخل إلى المنصور في هذه المنية، فوقف على روضة فيها ثلاث سوسنات ثنتان منها قد تفتحتا وواحدة لم تفتح، فقال:
لا يوم كاليوم في أيامنا الأول
…
بالعامرية ذات الماء والظّلل (3)
هواؤها في جميع الدهر معتدلٌ
…
طيباً، وإن حلّ فصلٌ غير معتدل
ما إن يبالي الذي يحتلّ ساحتها
…
بالسعد ألاّ تحلّ الشمس في الحمل
كأنّما غرست في ساعة وبدا ال
…
سوسان من حينه فيها على عجل
أبدت ثلاثاً من السوسان مائلةً
…
أعناقهنّ من الإعياء والكسل
فبعض نوّارها للبعض منفتح
…
والبعض منغلق عنهنّ في شغل
كأنّها راحة ضمت أناملها
…
من بعد ما ملئت من جودك الخضل
وأختها بسطت منها أناملها
…
ترجو نداك كما عوّدتها فصل وقد ذكر ابن سعيد (4) أن ابن العريف النحوي دخل على المنصور بن أبي عامر وعنده صاعد اللغوي البغدادي، فأنشده وهو بالموضع المعروف بالعامرية من أبيات:
فالعامريّة تزهى
…
على جميع المباني
(1) ق ج ط: وفار.
(2)
انظر الجذوة: 377 (وبغية الملتمس رقم: 1545) .
(3)
ق: والقلل.
(4)
لم يرد هذا الص في مطبوعة المغرب؛ وانظر المقتطفات: 34 - 35.
وأنت فيها كسيفٍ
…
قد حلّ في غمدان (1) فقام صاعد، وكان مناقضاً له، فقال: أسعد الله تعالى الحاجب الأجل، ومكن سلطانه؛ هذا الشعر الذي قاله (2) قد أعدّه وروّى (3) فيه أقدر أن أقول أحسن منه ارتجالاً، فقال له المنصور: قل ليظهر صدق دعواك، فجعل يقول من غير فكرة طويلة (4) :
يا أيّها الحاجب المع
…
تلي على كيوان
ومن به قد تناهى
…
فخار كلّ يمان (5)
العامريّة أضحت
…
كجنّة الرضوان
فريدة لفريدٍ
…
ما بين أهل الزمان ثمّ مر في الشعر إلى أن قال في وصفها:
انظر إلى النّهر فيها
…
ينساب كالثّعبان
والطير يخطب شكراً
…
على ذرا الأغصان
والقضب تلتفّ سكراً
…
بميّس القضبان
والروض يفترّ زهواً
…
عن مبسم الأقحوان
والنرجس الغضّ يرنو
…
بوجنة النّعمان
وراحة الريح تمتا
…
ر نفحة الريحان
فدم مدى الدهر فيها
…
في غبطةٍ وأمان فاستحسن المنصور ارتجاله، وقال لابن العريف: ما لك فائدة في مناقضة
(1) يعني سيف بن ذي يزن وقصره " غمدان " باليمن.
(2)
قاله: سقطت من ك.
(3)
ك: وتروى.
(4)
ك: كثيرة.
(5)
ق: في الحسن كل يمان.
من هذا ارتجاله، فكيف تكون رويّته؟ فقال ابن العريف: إنّما أنطقه وقرّب عليه المأخذ إحسانك، فقال له صاعد: فيخرج من هذا أن قلة إحسانه لك أسكتتك وبعّدت عليك المأخذ، فضحك المنصور وقال: غير هذه المنازعة أليق بأدبكما.
قلت: وقد ذكر مؤرخو الأندلس منىً كثيرة بها: منها منية الناعورة السابقة، ومنية العامرية هذه، ومنية السرور، ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثم ملك قرطبة.
قال أبو الحسن بن سعيد (1) : أخبرني أبي عن أبيه قال: خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح نوّار اللوز أبو بكر بن بقيّ الشاعر المشهور، فجلسنا تحت سطر لوز قد نوّر، فقال ابن بقيّ:
سطرٌ من اللوز في البستان قابلني
…
ما زاد شيء على شيء ولا نقصا
كأنّما كلّ غصنٍ كمّ جارية
…
إذا النّسيم ثنى أعطافه رقصا ثم قال:
عجبت لمن أبقى على خمر دنّه
…
غداة رأى لوز الحدية نوّرا وذكر بعض مؤرخي الأندلس أن المنصور بن أبي عامر كان يزرع كل سنة ألف مدي من الشعير قصيلاً لدوابه الخاصة به، وأنّه كان إذا قدم من غزوة من غزواته لا يحلّ عن نفسه حتى يدعو صاحب الخيل فيعلم ما مات منها وما عاش، وصاحب الأبنية لما وهى من أسواره ومبانيه وقصوره ودوره، قال: وكان له دخالة (2) كل يوم اثني عشر ألف رطل من اللحم، حاشا الصيد والطير
(1) انظر هذا فيما تقدم ص: 471.
(2)
في المعاجم: الدخل فقط بمعنى الحاصل، ويبدو أن الأندلسيين استعملوا لفظة " دخالة " ليعنوا القسط أو النصيب أو الحصة.
والحيتان، وكان يصنع في كل عام اثني عشر ألف ترس عامرية لقصر الزاهرة والزهراء، قال: وابتنى على طريق المباهاة والفخامة مدينة الزاهرة (1) ذات القصور والمنتزهات المخترعة كمنية السرور وغيرها من مناشئه البديعة، انتهى.
[المنصور وابن شهيد]
ومن المطمح (2) : أن المنصور لما فرغ من بناء الزاهرة غزا غزوة وأبعد فيها الإيغال، وغال فيه من عظماء الروم من غال، وحلّ من أرضهم ما لم يطرق، وراع منهم ما لم يرع قطّ ولم يفرق، وصدر صدراً سما به على كل حسناء عقيلة، وجلا به كل صفحة للحسن صقيلة، ودخل قرطبة دخولاً لم يعهد، وشهد له فيها يوم مثله لم يشهد، وكان ابن شهيد متخلّفاٍ عن هذه الغزوة لنقرس عداه عائده، وحداه منتجعه ورائده، وابن شهيد هذا أحد حجاب (3) الناصر، وله على ابن أبي عامر أيادٍ محكمة الأواصر، وهو الذي نهض به أول انبعاثه، وشفى أمره زمن التياثه، وخاصم المصحفي عنه بلسان من الحماية ألدّ، وتوخّاه بإحسان قلّده من الرعاية ما قلّد، وأسمى رتبته، وحلّى بإعظام جيده ولبّته (4) ، وكان كثيراً ما يتحفه، ويصله ويلطفه، فلمّا صدر المنصور من غزوته هذه وقفل، نسي متاحفته وغفل (5)، فكتب إليه ابن شهيد:
أنا شيخ والشيخ يهوى الصّبايا
…
يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا
ورسول الإله أسهم في الفي
…
ء لمن لم يخبّ فيه المطايا
(1) ك: العامرية.
(2)
لم يرد هذا النص في المطمح المطبوع.
(3)
ط: أصحاب.
(4)
ق: وحلى بأعظم جاه جيده ولبته. والعبار في ط دون لفظة " جيده ".
(5)
ق: أو غفل.
فاجعلنّي فديت أشكر معرو
…
فك وابعث بها عذاب الثّنايا فبعث إليه بعقيلة من عقائل الروم يكنفها ثلاث جوارٍ، كأنهن نجومٌ سوارٍ، وكتب إليه:
قد بعثنا بها كشمس النّهار
…
في ثلاث من المها أبكار
فاتّئد واجتهد فإنك شيخ
…
سلخ الليل عن بياض النهار
صانك الله عن كلالك فيها
…
فمن العار كلّة المسمار فكتب إليه ابن شهيد:
قد فضضنا ختام ذاك السّوار
…
واصطبغنا من النّجيع الجاري
ونعمنا في ظلّ أنعم ليلٍ
…
ولهونا بالبدر ثم الدراري
وقضى الشيخ ما قضى بحسام
…
ذي مضاء عضب الظّبى بتّار
فاصطنعه فليس يجزيك كفراً
…
واتخذه سيفاً على الكفّار وقد قدمنا هذه الحكاية في أخبار المنصور من الباب الثالث (1) ، ولكنّا أدناها هنا بلفظ المطمح لما فيه من العذوبة والفائدة الزائدة.
[ترجمة الجزيري من المطمح]
وممن كان في أيام المنصور من الوزراء المشهورين الوزير الكاتب أبو مروان عبد الملك بن إدريس الخولاني، قال في المطمح (2) : علم من أعلام الزمان (3) ، وعين من أعيان البيان، باهر الفصاحة، طاهر الجناب والساحة، تولى
(1) انظر ما سبق ص: 400 - 401.
(2)
المطمح: 13.
(3)
ك: علم من الأعلام فريد الزمان.
التحبير أيام المنصور والإنشاء، وأشعر بدولته الأفراح والانتشاء، ولبس العزة ضافية البرود، وورد بها النعمة صافية الورود (1) ، وامتطى من جياد التوجيه، وأعتق من لاحق والوجيه (2) ، وتمادى طلقه، ولا أحد يلحقه، إلى أيام المظفر فمشى على سننه، وتمادى السعد يترنم على فننه، إلى أن قتل المظفّر صهره عيسى بن القطاع، صاحب دولته وأميرها المطاع، وكان أبو مروان قديم الاصطناع له والانقطاع، فاتّهم معه، وكاد أن يذوق حمامه ومصرعه (3) ، إلا أن إحسانه شفع، وبيانه نفع ودفع (4) ، فحطّ عن تلك الرتب، وحمل إلى طرطوشة على القتب، فبقي هنالك معتقلاً في أبراجها نائي المنتهى (5) ، كأنما يناجي السّها، قد بعد ساكنه عن الأنيس، وقعد من النجم بمنزلة الجليس، تمرّ الطيور دونه ولا تجوزه، ويرى منه الثرى ولا يكاد يحوزه، فبقي فيه دهراً لا يرتقي إليه راق، ولا يرجى لبثّه راق، إلى أن أخرج منه إلى ثراه، واستراح مما عراه، فمن بديع نظمه قوله يصف المعقل (6)، الذي فيه اعتقل:
يأوي إليه كلّ أعور ناعق (7)
…
وتهبّ فيه كلّ ريح صرصر
ويكاد من يرقى إليه مرّة
…
من عمره يشكو انقطاع الأبهر ودخل ليلة على المنصور (8) والمنصور قد اتكأ وارتفق، وتحلى بمجلسه ذلك الأفق، والدّنيا بمجلسه ذلك مسوقة، وأحاديث الأماني به منسوقة، فأمره
(1) ك: ولبس العزة مدة ضافية البرود.
(2)
لاحق والوجيه: فحلان من فحول الخيل.
(3)
المطمح: أن يذوق الحمام فيصرعه.
(4)
ق ودوزي: وبيانه منع ودفع؛ وفي نسخة المطمح " صنع " وهو مصحف.
(5)
المطمح: فات المنتهى.
(6)
ك: المعتقل.
(7)
المطمح: ناعب.
(8)
على المنصور: سقطت من ق.
بالنزول (1) فنزل في جملة الأصحاب، والقمر بظهر ويحتجب في السحاب، والأفق يبدو به أغرّ ثم يعود مبهماً، والليل يتراءى منه أشقر ثم يعود أدهماً، وأبو مروان قد انتشى، وجال في ميدان الأنس ومشى، وبرد خاطره قد دبجه السرور ووشى، فأقلقه ذلك المغيب والالتياح، وأنطقه ذلك السرور والارتياح، فقال:
أرى بدر السماء يلوح حيناً
…
فيبدو ثمّ يلتحف السحابا
وذلك أنّه لمّا تبدّى
…
وأبصر وجهك استحيا فغابا
مقال لو نمي عندي إليه
…
لراجعني بذا حقّاً جوابا وله في مدة اعتقاله، وتردده في قيله وقاله (2) :
شحط المزار فلا مزار، ونافرت
…
عيني الهجوع فلا خيالّ يعتري
أزرى بصبري وهو مشدود العرى (3)
…
وألان عودي وهو صلب المكسر
وطوى سروري كلّه وتلذّذي
…
بالعيش طيّ صحيفة لم تنشر
ها إنّما ألقى الحبيب توهّماً
…
بضمير تذكاري وعين تذكّري
عجباً لقلبي يوم راعتني النوى
…
ودنا وداعي (4) كيف لم يتفطر [رجع إلى المنصور]
وكان المنصور إذا أراد أمراً مهمّاً شاور أرباب الدولة الأكابر من خدام الدولة الأموية، فيشيرون عليه بالوجه الذي عرفوه وجرت الدولة الأمويّة عليه، فيخالفهم إلى المنهج الذي ابتدعه، فيقضون في أنفسهم
(1) ك: بالنزول عنده.
(2)
في رواية من أصول المطمح: في قيده وعقاله؛ وهذه الأبيات من رائيته المشهورة عند الأندلسيين وفيها نصائح وحكم لابنه (نظر فهرست ابن خير: 410) .
(3)
ك: القوى.
(4)
ك: ودنا وداع.
بالهلاك في الطريق الذي سلكه، والمهيع الذي اخترعه، فتسفر العاقبة عن السلامة التامة التي اقتضاها سعده، فيكثرون التعجب من موارد أموره ومصادرها.
وقيل له مرّة: إن فلاناً مشؤوم فلا تستخدمه، فقال: أفّ لسعد لا يغطي على شؤمه، فاستخدمه، ولم ينله من شؤمه الذي جرت به العادة شيء.
وحكي عنه أنّه كان في قصره با زاهرة (1) ، فتأمل محاسنه، ونظر إلى مياهه المطّردة، وأنصت لأطياره المغردة، وملأ عينه من الذي حواه من حسن وجمال، والتفت في الزاهرة من اليمين إلى الشمال، فانحدرت دموعه، وتجهم وقال: ويهاً (2) لك يا زاهرة، فليت شعري من الخائن الذي يكون خرابك على يديه عن قريب؟ فقال له بعض خاصته: ما هذا الكلام الذي ما سمعناه من مولانا قطّ؟ وما هذا الفكر الرديء الذي لا يليق بمثله شغل البال به؟ فقال: والله لترون ما قلت، وكأنّي بمحاسن الزاهرة قد محيت، وبرسومها قد غيرت، وبمبانيها قد هدمت ونحّيت، وبخزائنها قد نهبت، وبساحاتها قد أضرمت بنار الفتنة وألهبت، قال الحاكي: فلم يكن إلاّ أن توفّي المنصور وتولى المظفّر ولم تطل مدته، فقام بالأمر أخوه عبد الرحمن الملقّب بشنجول (3) ، فقام عليه المهدي والعامّة، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامّة، وانقرضت دولة آل عامر، ولم يبق منهم آمر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصّفا
…
أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامر
بلى نحن كنّا أهلها فأبادنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر (4) وخربت الزاهرة، وذهبت (5) كأمس الدابر، وخلت منها الدسوت الملوكيّة
(1) ك: الذي بالزاهرة.
(2)
ك: ويل.
(3)
ك ج: بسنجور؛ ط: بسنجول.
(4)
سقط هذا البيت من ق.
(5)
ك: ومضت.
والمنابر، واستولى النهب على ما فيها من العدة والذخائر، والسلاح، وتلاشى أمرها فلم يرج لفسادها صلاح، وصارت قاعاً صفصفاً، وأديلت بأيام الترح عن أيام الفرح والصّفا.
ويروى أن بعض أولياء ذلك الزّمان مر بها، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة، ومبانيها العالية الرائقة، فقال: يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك في كل دار، قال الحاكي: فلم تكن بعد ذلك دعوة الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نهبت ذخائرها، وعمّ بالخراب سائرها، فلم تبق دار فيالأندلس إلى ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذي همّته مع ربّه جليلة.
وقد حكي أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية، فسبحان من لا يزول سلطانه ولا ينقضي ملكه لا إله إلا هو.
وتذكرت هنا ما رآه في المنام بعض أهل المغرب بالليلة التي انقرض فيها ملك الموحّدين أن شخصاً ينشده:
ملك بني مؤمن تولّى
…
وكان فوق السّماك سمكه
فاعتبروا وانظروا وقولوا:
…
سبحان من لا يبيد ملكه لا إله إلاّ هو.
وكان المهدي القائم على العامريين ماجناً فاتكاً، وقال - وقد حيّاه في مجلس شرابه غلام بقضيب آس (1) :
أهديت شبه قوامك الميّاس
…
غصناً رطيباً ناعماً من آس
وكأنّما يحكيك في حركاته
…
وكأنّما تحكيه في الأنفاس وكان المنصور بن أبي عامر حين تغلب على ملك الأمويين غير مكترث بمثل
(1) انظر ص: 577.
المهدي المذكور، فسلطه الله تعالى على كل ما أسسه المنصور حتى هدمه، وأخّر كلّ ما قدّمه، ولم ينفع في ذلك احتياط ولا حزم، ولا رادّ للقضاء المبرم الجزم:
والله يحكم ما يشا
…
ء فلا تكن متعرضا [طرف من أخبار المنصور]
وقد قدمنا شيئاً من أخبار المنصور، ولا بأس أن نلمّ هنا ببعضها وإن حصل منه نوع تكرار في نبذة منها لارتباط الكلام بعضه ببعض.
قال بعض المحققين من المؤرخين: حجر المنصور بن أبي عامر على هشام المؤيد بحيث لم يره أحد منذ ولي الحجابة، وربما أركبه بعد سنين وجعل عليه برنساً، وعلى جواريه مثل ذلك، فلا يعرف منهن، ويأمر من ينحّي الناس من طريقه، حتى ينتهي المؤيد إلى موضع تنزهه، ثم يعود، غير أنّه أركبه بأبهة الخلافة في بعض الأيام لغرضٍ له، كما ألمعنا به فيما سبق، وكان المنصور إذا سافر وكل بالمؤيد من يفعل معه ذلك، فكان هذا من فعله سبباً لانقطاع ملك بني أمية من الأندلس، وأخذ مع ذلك في قتل من يخشى منه من بني أميّة خوفاً أن يثوروا به، وظهر أنّه يفعل ذلك شفقة على المؤيد، حتى أفنى من يصلح منهم للولاية، وربما سكن بعضهم البادية، وترك مجلس الأبهة وناديه، حتى قال بعض من ينقم على المنصور ذلك الفعل من قصيدة:
أبني أميّة أين أقمار الدّجى
…
منكم؟ وأين نجومها والكوكب؟
غابت أسودٌ منكم عن غابها
…
فلذاك حاز الملك هذا الثعلب مع أن للمنصور مفاخر بذّ بها الأوائل والأواخر، من المثابة على جهاد
العدو، وتكرار الذهاب بنفسه في الرواح والغدوّ، وله مع المصحفي وغيره أخبار مرت ويأتي بعضها، ولا بأس أن نلخص ترجمة المصحفي فنقول:
[ترجمة المصحفي من المطمح]
قال الفتح في المطمح (1) : الحاجب جعفر المصحفي - تجرّد للعليا، وتمرد في طلب الدنيا، حتى بلغ المنى، وتسوّغ ذلك الجنى، فسما دون سابقة، وارتمى إلى رتبة لم تكن لبنيته (2) بمطابقة، فالتاح في أفياء الخلافة، وارتاح إليها بعطفه كنشوان السّلافة، واستوزره المستنصر، وعنه كان يسمع وبه كان (3) يبصر، فأدرك بذلك ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك، واقتنى وادّخر، وأزرى (4) بمن سواه وسخر، واستعطفه المنصور بن أبي عامر ونجمه بعد غائر لم يلح، وسرّه مكتوم لم يبح، فما عطف، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف، فأقام في تدبير الأندلس ما أقام والأندلس متغيرة، والأذهان في تكيف سعده متحيرة، فناهيك من ذكرٍ خلّد، ومن فخرٍ تقلّد، ومن صعبٍ راض، وجناح فتنةٍ هاض، ولم يزل بنجاد تلك الخلافة معتقلاً، وفي مطالعها منتقلاً، إلى أن توفّي الحكم، فانتقض عقده المحكم، وانبرت إليه النوائب، وتسدّدت إليه من الخطوب (5) سهام صوائب، واتّصل إلى المنصور ذلك الأمر، واختص به كما مال بيزيد أخوه الغمر، وأناف في تلك الخلافة كما شبّ قبل اليوم عن طوقه عمرو، وانتدب للمصحفي بصدر كان أوغره، وساءه وصغّره، فاقتصّ من تلك الإساءة، وأغصّ حلقه بأي مساءة (6) ،
(1) انظر المطمح 4 - 8.
(2)
ك: لبيته؛ ق: إلى بيته.
(3)
كان: سقطت من ك.
(4)
ج ط: وزرى.
(5)
من الخطوب: زيادة من المطمح.
(6)
ق ك: بأي أشاءة.
فأخمله ونكبه، وأرجله عمّا كان الدهر أركبه، وألهب جوارحه (1) حزناً، ونهب له مدّخراً ومختزناً، ودمّر عليه ما كان حاط، وأحاط به من مكروهه ما أحاط، غبر سنين في مهوى تلك النكبة، وجوى (2) تلك الكربة، ينقله المنصور معه في غزواته، ويعتقله بين ضيق المطبق ولهواته، إلى ان تكوّرت شمسهن وفاظت بين أثناء المحن نفسه، ومن بديع ما حفظ له في نكبته، قوله يستريح من كربته:
صبرت على الأيام لمّا تولّت
…
وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت
فوا عجباً للقلب كيف اعترافه
…
وللنفس بعد العزّ كيف استذلّت
وما النفس إلا حيث يجعلها الفتى
…
فإن طمعت تاقت وإلاّ تسلّت
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً
…
فلمّا رأت صبري على الذل ذلّت
فقلت لها: يا نفس موتي كريمةً
…
فقد كانت الدّنيا لنا ثمّ ولّت وكان له أدبٌ بارع، وخاطر إلى نظم القريض يسارع (3) ، فمن محاسن إنشاده (4) ، التي بعثها إيناس دهره بإسعاده، قوله:
لعينيك في قلبي عليّ عيون
…
وبين ضلوعي للشجون فنون
لئن كان جسمي مخلقاً في يد الهوى
…
فحبّك عندي في الفؤاد مصون وله وقد أصبح عاكفاً على حميّاه، هاتفاً بإجابة دنياه، مرتشفاً ثغر الأنس متنسماً ريّاه، والملك يغازله بطرف كليل، والسعد قد عقد عليه منه إكليل، يصف لون مدامه، وما تعرّف له منها دون ندامه:
(1) دوزي: جوانحه.
(2)
ق ك ط: وجراء؛ ج: وجزاء.
(3)
دوزي: مسارع.
(4)
ك: نظامه وإنشاده.
صفراء تطرق في الزجاج فإن سرت
…
في الجسم دبّت مثل صلٍّ لادغ
خفيت على شرّابها فكأنّما
…
يجدون ريّاً من إناء فارغ ومن شعره الذي قاله في السّفرجل مشبهاً، وغدا به لنائم البديع منبهاً، قوله يصف سفرجلة، ويقال إنّه ارتجله:
ومصفرّة تختال في ثوب نرجس
…
وتعبق عن مسكٍ ذكيّ التّنفس
لها ريح محبوبٍ وقسوة قلبه
…
ولون محبّ حلّة السّقم مكتسي
فصفرتها من صفرتي مستعارة
…
وأنفاسها في الطّيب أنفاس مؤنسي
وكان لها ثوبٌ من الزغب أغبر
…
على جسم مصفرٍ من التّبر أملس
فلمّا استتمّت في القضيب شبابها
…
وحاكت لها الأوراق أثواب سندس
مددت يدي باللطف أبغي اجتناءها
…
لأجعلها ريحانتي وسط مجلسي
فبزّت يدي غصباً لها ثوب جسمها
…
وأعريتها باللطف من كل ملبس
ولمّا تعرّت في يدي من برودها
…
ولم تبق إلاّ في غلالة نرجس
ذكرت لها من لا أبوح بذكره
…
فأذبلها في الكفّ حرّ التنفّس وله وقد أعاده المنصور إلى المطبق، والشجون تسرع إليه وتسبق، معزياً لنفسه (1)، ومجتزياً بإسعاد (2) أمسه:
أجازي الزمان على حاله
…
مجازاة نفسي لأنفاسها
إذا نفسٌ صاعدٌ شفّها
…
توارت به دون جلاّسها
وإن عكفت نكبة للزمان
…
عطفت بنفسي (3) على راسها وممّا حفظ له في استعطافه، واستنزاله للمنصور واستلطافه، قوله:
(1) ق: لنفسه بنفسه.
(2)
المطمح: بأخبار.
(3)
المطمح وق ط: عطفت بصلدي؛ دوزي وج: بصدري.