المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأمويذي - نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب ت إحسان عباس - جـ ١

[المقري التلمساني]

الفصل: ‌في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأمويذي

‌الباب الرابع

‌في ذكر قرطبة التي كانت الخلافة بمصرها للأعداء قاهرة، وجامعها الأموي

ذي

البدائع الباهية الباهرة والإلماع بحضرتي الملك الناصرية الزّهراء

والعامرية الزاهرة، ووصف جملة من منتزهات تلك الأقطار ومصانعها ذات

المحاسن الباطنة والظاهرة، وما يجرّ إليه شجون الحديث من أمور تقضي

بحسن إيرادها القرائح الوقّادة والأفكار الماهرة

[نقول في وصف قرطبة]

قال ابن سعيد، رحمه الله: مملكة قرطبة في الإقليم الرابع، وإيالته للشمس، وفي هذه المملكة معدن الفضة الخالصة في قرية كرتش، ومعدن الزئبق والزنجفر في بلد بسطاسة (1) ، ولجزائها خواصّ مذكورة في متفرّقاتها، وأرضها أرض كريمة النبات (2) ، انتهى.

وقدّم، رحمه الله في المغرب الكلام عليها على سائر أقطار الأندلس وقال: إنّما قدمنا هذه المملكة من بين سائر الممالك الأندلسية لكون سلاطين الأندلس الأول اتخذوها سريراً لسلطنة الأندلس، ولم يعدلوا عن حضرتها قرطبة، ثم سلاطين بني أمية وخلفاؤهم لم يعدلوا عن هذه المملكة، وتقلّبوا منها في ثلاثة أقطاب (3) أداروا فيها خلافتهم: قرطبة، والزهراء، والزاهرة، وإنّما

(1) ج: والزنجفور

بسطابسة.

(2)

ك: كريمة النبات.

(3)

ك: أقطار.

ص: 455

اتخذوها لهذا الشأن لما رأوها لذلك أهلاً، وقرطبة أعظم علماً وأكثر فضلاً بالنظر إلى غيرها من الممالك، لاتصال الحضارة العظيمة والدولة المتوارثة فيها.

ثم قسم ابن سعيد كتاب الحلة المذهبة، في حلى ممالك قرطبة بالنظر إلى الكور إلى أحد عشر كتاباً:

الكتاب الأوّل كتاب الحلة الذهبية، في حلى الكورة القرطبية.

الكتاب الثاني كتاب الدرر المصونة، في حلى كورة بلكونة.

الكتاب الثالث كتاب " محادثة السمير (1) ، في حلى كورة القصير ".

الكتاب الرابع كتاب الوشي المصوّر، في حلى كورة المدوّر.

الكتاب الخامس كتاب نيل المراد، في حلى كورة مراد.

الكتاب السادس كتاب المزنة، في حلى كورة كزنة.

الكتاب السابع كتاب الدر النافق، في حلى كورة غافق.

الكتاب الثامن كتاب النفحة الأرجة، في حلى كورة إستجة.

الكتاب التاسع كتاب الكواكب الدرّيّة، في حلى الكورة القبرية.

الكتاب العاشر كتاب رقة المحبة، في حلى كورة إستبة.

الكتاب الحادي عشر كتاب السّوسانة، في حلى كورة اليسّانة انتهى.

ثمّ قال، رحمه الله تعالى: إن العمارة اتّصلت في مباني قرطبة والزهراء والزاهرة، بحيث إنّه كان يمشى فيها لضوء السّرج المتصلة (2) عشرة أميال حسبما ذكره الشّقندي في رسالته، ثم قال: ولكل مدينة من مدن قرطبة وأعمالها ذكر مختص به، ثم ذكر المسافات التي بين ممالك قرطبة المذكورة فقال: بين المدوّر وقرطبة ستة عشر ميلاً، وبين قرطبة ومراد خمسة وعشرون ميلاً، وبين قرطبة والقصير ثمانية عشر ميلاً، وبين قرطبة وغافق مرحلتان، وبين قرطبة وإستبة ستة وثلاثون ميلاً، وبين قرطبة وبلكونة

(1) ك: السير.

(2)

ق ط: السراج؛ ك: الممتدة.

ص: 456

مرحلتان، وبين قرطبة واليسّانة أربعون ميلاً، وبين قرطبة وقبرة ثلاثون ميلاً، وبين قرطبة وبيّانة مرحلتان، وبين قرطبة وإستجة ثلاثون ميلاً، وكورة رندة كانت في القديم من عمل قرطبة، ثم صارت من مملكة إشبيلية، وهي أقرب وأدخل في المملكة الإشبيلية، انتهى.

ثمّ قسم رحمه الله تعالى كتاب الحلّة الذهبية، في حلى الكورة القرطبية إلى خمسة كتب:

الكتاب الأول كتاب النّغم المطربة، في حلى حضرة قرطبة.

الكتاب الثاني كتاب الصّبيحة الغرّاء، في حلى حضرة الزهراء.

الكتاب الثالث كتاب البدائع الباهرة، في حلى حضرة الزاهرة.

الكتاب الرابع كتاب الوردة، في حلى مدينة شقندة.

الكتاب الخامس كتاب " الجرعة السّيّغة (1) ، في حلى كورة (2) وزغة ".

وقال، رحمه الله تعالى، في كتاب النغم المطربة، في حلى حضرة قرطبة: إن حضرة قرطبة إحدى عرائس مملكتها، وفي اصطلاح الكتاب أن للعروس الكاملة الزينة منصّة، وهي مختصّة بما يتعلّق بذكر المدينة في نفسها، وتاجاً، وهو مختصّ الإيالة السلطانية، وسلكاً، وهو مختصّ بأصحاب درر الكلام من النّثّر والنّظّام، وحلّة، وهي مختصّة بأعلام العلماء المصنفين الذين ليس لهم نظم ولا نثر، ولا يجب إهمال تراجمهم، وأهداباً، وهي مختصّة بأصحاب فنون الهزل وما ينحو منحاه، انتهى.

ثمّ فصّل، رحمه الله تعالى، ذلك كلّه بما تعدّدت منه الأجزاء، وقد لخصت منه هنا بعض ما ذكر، ثمّ أردفته بكلام غيره، فأقول (3) : قال في كتاب أجار (4) :

(1) ج: المسوغة.

(2)

ق ط: قرية.

(3)

ق: فقلت ذكر ابن خلدون في كتاب أجار؛ وهو وهم كما ترى.

(4)

كتاب أجار هو نزهة المشتاق المعروف بجغرافية الإدريسي، وأجار هو رجار (Rujjiero)(روجر Roger) الذي ألف له الإدريسي الكتاب، وهو أحد ملوك صقلية النورمنديين، حسبما مر.

ص: 457

إن قرظبة - بالظاء المعجمة - ومعناه أجر ساكنها (1) ، يعني عربت بالطاء، ثمّ قال: ودور مدينة قرطبة ثلاثون ألف ذراع، انتهى.

وقال غيره: إن تكسيرها ومساحتها التي دار السور عليها دون الأرباض طولاً من القبلة إلى الجوف ألف وستمائة ذراع، واتصلت (2) العمارة بها أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول، وفي العرض ستّة، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي المسمى بالوادي الكبير، وليس في الأندلس وادٍ يسمّى باسم عربي غيره. ولم تزل قرطبة في الزيادة منذ الفتح الإسلامي إلى سنة أربعمائة، فانحطت، واستولى عليها الخراب بكثرة الفتن إلى أن كانت الطامة الكبرى عليها بأخذ العدوّ الكافر لها ثالث عشري شوّال سنة ستمائة وثلاث وثلاثين (3) .

ثمّ قال القائل: ودور قرطبة أعني المسّر منها دون الأرباض ثلاثة وثلاثون ألف ذراع، ودور قصر إمارتها ألف ذراع ومائة ذراع، انتهى.

وعدد أرباضها واحد وعشرون، في كل ربض منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره، وبخارج قرطبة ثلاثة آلاف قرية، في كل واحدة منبر وفقيه مقلّص (4) تكون الفتيا في الأحكام والشرائع له، وكان لا يجعل القالص عندهم على رأسه إلاّ من حفظ الموطّأ، وقيل: من حفظ عشرة آلاف حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وحفظ المدوّنة، وكان هؤلاء المقلّصون المجاورون لقرطبة يأتون يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة بقرطبة، ويسلّمون عليه، ويطالعونه بأحوال بلدهم. انتهى.

(1) الروض المعطار: 156 وقيل معناه " القلوب المختلفة ".

(2)

من هنا حتى آخر الفقرة في مخطوط الرباط: 24، ويبدو أن النقل عن ابن حيان.

(3)

ك: في ثاني وعشرين شوال سنة 623.

(4)

مقلص - بالصاد والسين - الذي يلبس قلنسوة، وانظر النص في مخطوط الرباط:27.

ص: 458

قال: وانتهت جباية (1) قرطبة أيام ابن أبي عامر إلى ثلاثة آلاف ألف دينار، بالإنصاف، وقد ذكرنا في موضع آخر ما فيه مخالفة لهذا، فالله أعلم.

وما أحسن قول بعضهم (2) :

دع عنك حضرة بغدادٍ وبهجتها

ولا تعظّم بلاد الفرس والصّين

فما على الأرض قطرٌ مثل قرطبة

وما مشى فوقها مثل ابن حمدين وقال بعضهم (3) : قرطبة قاعدة الأندلس ودار الملك التي يجبى لها ثمرات كل جهة وخيرات كلّ ناحية، واسطة بين الكور، موفية على النهر، زاهرة مشرقة، أحدقت بها المنى فحسن مرآها، وطاب جناها.

وفي كتاب فرحة الأندلس لابن غالب: أمّا قرطبة فإنّه اسم ينحو إلى لفظ اليونانيين، وتأويله القلوب المشكّكة.

وقال أبو عبيد البكري (4) : إنّها في لفظ القوط بالظاء المعجمة.

وقال الحجاري: الضبط فيها بإهمال الطاء وضمها، وقد يكسرها المشرقيون (5) في الضبط، كما يعجمها آخرون. انتهى.

وقال بعض العلماء (6) : أما قرطبة فهي قاعدة الأندلس، وقطبها وقطرها الأعظم، وأم مدائنها ومساكنها، ومستقرّ الخلفاء، ودار المملكة في النصرانيّة والإسلام، ومدينة العلم، ومقرّ (7) السنّة والجماعة، نزلها جملة من التابعين

(1) مخطوط الرباط: 27.

(2)

المصدر السابق: 35.

(3)

هو أحمد الرازي كما في المنتقى من فرحة الأنفس: 295؛ وفي ق: وقال غيره، وسقطت اللفظتان من ط؛ وفي ج: وفي كتاب الرازي.

(4)

انظر مخطوطة المسالك: 218 (رقم: 488 بالخزانة اعامة الرباط) .

(5)

ط ج: المشرقون.

(6)

مخطوط الرباط: 22.

(7)

ك: ومستقر.

ص: 459

وتابعي (1) التابعين، ويقال: نزلها بعض من الصحابة (2) ، وفيه كلام.

وهي مدينة عظيمة أزلية من بنيان الأوائل، طيبة الماء والهواء، أحدقت بها البساتين والزيتون والقرى والحصون والمياه والعيون من كل جانب، وبها المحرث العظيم الذي ليس في بلاد الأندلس مثله (3) ولا أعظم منه بركة.

وقال الرازي: قرطبة أم المدائن، وسرّة الأندلس، وقرارة الملك في القديم والحديث والجاهلية والإسلام، ونهرها أعظم أنهار الأندلس، وبها القنطرة التي هي إحدى غرائب الأرض في الصنعة والإحكام، والجامع الذي ليس في بلاد الأندلس والإسلام أكبر منه.

وقال ابن حوقل (4) : هي أعظم مدينة بالأندلس، وليس بجميع المغرب لها عندي شبيه في كثرة أهل، وسعة محلّ، وفسحة أسواق، ونظافة محالّ، وعمارة مساجد، وكثرة حمامات وفنادق، ويزعم قوم من أهلها أنّها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كأحد جانبي بغداد في قريبة من ذلك ولاحقة به، وهي مدينة حصينة ذات سور من حجارة ومحالّ حسنة، وفيها كان سلاطينهم قديماً، ودورهم داخل سورها المحيط بها، وأكثر أبواب القصر السلطاني من البلد وجنوب قرطبة على النهر.

قال: وقرطبة هذه بائنة عن مساكن أرباضها ظاهرة ودرت بها في غير يوم في قدر ساعة وقد قطعت الشمس خمس عشرة درجة ماشياً.

وقال الحجاري (5) : وكانت قرطبة في الدولة المروانية قبّة الإسلام،

(1) ق ج ط: وتابع.

(2)

مخطوط الرباط: نزلها - فيما نقل - رجل من الصحابة.

(3)

ك: الذي ليس له في بلاد الأندلس نظير.

(4)

في ك: وقال بعضهم؛ وفي ق: وقال ابن سعيد رحمه الله في المغرب؛ وفي ط: وقال الرازي؛ وفي ج: وفي كتاب ابن حوقل والنص منقول عن ان حوقل، انظر صورة الأرض: 107 - 108 مع اختلاف في بعض النص.

(5)

في ج: وفي المسهب؛ وفي ق: وقال الفتح في المطمح؛ وفي ط: قال ابن سعيد.

ص: 460

ومجتمع علماء الأنام (1) ، بها استقر سرير الخلافة المروانية، وفيها تمحضت خلاصة القبائل المعدّيّة واليمانيّة، وإليها كانت الرحلة في رواية الشعر والشعراء، إذ كانت مركز الكرماء، ومعدن العلماء، ولم تزل تملأ الصدور منها والحقائب، ويباري فيها أصحاب الكتب أصحاب الكتائب، ولم تبرح ساحاتها مجرّ عوالٍ ومجرى سوابق، ومحطّ معالٍ وحمى حقائق، وهي من بلاد الأندلس بمنزلة الرأس من الجسد، والزّور من الأسد، ولها الداخل الفسيح، والخارج الذي يمتع البصر بامتداده فلا يزال مستريحاً وهو من تردّد النظر طليح.

وقال الحجاري (2) : حضرة قرطبة منذ استفتحت (3) الجزيرة هي كانت منتهى الغاية، ومركز الراية، وأمّ القرى، وقرارة أولي الفضل والتّقى، ووطن أولي العلم والنّهى، وقلب الإقليم، وينبوع متفجّر العلوم، وقبّة الإسلام، وحضرة الإمام، ودار صوب العقول، وبستان ثمر الخواطر، وبحر درر القرائح، ومن أفقها طلعت نجوم الأرض وأعلام العصر وفرسان النظم والنثر، وبها أنشئت التأليفات الرائقة، والسبب في تبريز القوم حديثاً وقديماً على من سواهم أن أفقهم القرطبي لم يشتمل قط إلاّ على البحث والطلب، لأنواع العلم والأدب. انتهى.

قال الإمام عليّ بن سعيد (4) : أخبرني والدي أن السلطان الأعظم أبا يعقوب ابن عبد المؤمن قال لوالده محمّد بن عبد الملك بن سعيد: ما عندك في قرطبة؟ قال: فقلت له: ما كان لي أن أتكلّم حتى أسمع مذهب أمير المؤمنين فيها، فقال السلطان: إن ملوك بني أميّة حين اتخذوها حضرة ملكهم لعلى بصيرة:

(1) ك: ومجتمع أعلام الأنام الأعلام.

(2)

في ق: وقال أيضاً؛ وفي ط بياض؛ وفي ج: وقال في الذخيرة.

(3)

ك: افتتحت.

(4)

انظر ما تقدم في هذا الكتاب ص: 154.

ص: 461

الديار الكثيرة المنفسحة، والشوارع المتسعة، والمباني الضخمة، والنهر الجاري، والهواء المعتدل، والخارج النضر، والمحرث العظيم، والشّعراء الكافية، والتوسّط بين شرق الأندلس وغربها، قال: فقلت: ما أبقى لي أمير المؤمنين ما أقول.

ثم قال ابن سعيد: ومن كلام والدي في شأنها: هي من أحسن بلاد الأندلس مباني، وأوسعها مالك، وأبرعها ظاهراً وباطناً، وتفضل إشبيلية بسلامتها في فصل الشتاء من كثرة الطين، ولأهلها رياسة ووقار، لا تزال سمة (1) العلم متوارثة فيهم، إلا أنّ عامّتها أكثر الناس فضولاً، وأشدهم تشنيعاً وتشغيباً، ويضرب بهم المثل ما بين أهل الأندلس في القيام على الملوك والتشنيع على الولاة وقلة الرضى بأمورهم، حتى إن السيد أبا يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن لما انفصل عن ولايتها قيل له: كيف وجدت أهل قرطبة؟ قال: مثل الجمل إن خفّفت عنه الحمل صاح، وإن أثقلته به صاحن ما ندري أين رضاهم فنقصده، ولا أين سخطهم فنتجنّبه (2) ، وما سلّط الله عليهم حجّاج الفتنة حتى كان عامتها شرّاً من عامة العراق، وإن العزل عنها لما قاسيت من أهلها عندي ولاية، وإنّي إن كلّفت العود إليها لقائل: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.

قال والدي: ومن محاسنها ظرف اللباس، والتظاهر بالدين، والمواظبة على الصلاة، وتعظيم أهلها لجامعها الأعظم، وكسر أواني الخمر حيثما وقع عين أحد من أهلها عليها، والتستر بأنواع المنكرات، والتفاخر بأصالة البيت وبالجندية وبالعلم، وهي أكثر بلاد الأندلس كتباً، وأشدّ الناس اعتناء بخزائن الكتب، صار ذلك عندهم من آلات التعين والرياسة، حتى إن الرئيس منهم الذي لا تكون عنده معرفة يحتفل في أن تكون في بيته خزانة كتب، وينتخب فيها ليس إلاّ لأن يقال: فلان عنده خزانة كتب، والكتاب الفلاني

(1) ط: سعة.

(2)

ك ط: فنجتنبه.

ص: 462

ليس هو عند أحد غيره، والكتاب الذي هو بخط فلان قد حصله وظفر به.

قال الحضرمي: أقمت مرّة بقرطبة، ولازمت سوق كتبها مدة أترقب فيها وقوع كتاب كان لي بطلبه اعتناء، إلى أن وقع وهو بخط جيد وتسفير مليح (1) ، ففرحت به أشد الفرح، فجعلت أزيد في ثمنه، فيرجع إليّ المنادي بالزيادة عليّ، إلى أن بلغ فوق حدّه، فقلت له: يا هذا أرني من يزيد في هذا الكتاب حتى بلّغه إلى ما لا يساوي، قال: فأراني شخصاً عليه لباس رياسة، فدنوت منه، وقلت له: أعز الله سيّدنا الفقيه، إن كان لك غرض في هذا الكتاب تركته لك فقد بلغت به الزيادة بيننا فوق حده؛ قال: فقال لي: لست بفقيه، ولا أدري ما فيه، ولكنّي أقمت خزانة كتب، واحتفلت فيها لأتجمل بها بين أعيان البلد، وبقي فها موضع يسع هذاالكتاب، فلمّا رأيته حسن الخط جيّد التجليد استحسنته، ولم أبال بما أزيد فيه، والحمد لله على ما أنعم به من الرزق فهو كثير؛ قال الحضرمي: فأحرجني، وحملني على أن قلت له: نعم لا يكون الرزق كثيراً إلاّ عند مثلك، يعطى الجوز من لا عنده (2) أسنان، وأنا الذي أعلم ما في هذا الكتاب، وأطلب الانتفاع به، يكون الرزق عندي قليلاً، وتحول قلّة ما بيدي بيني وبينه.

قال ابن سعيد: وجرت مناظرة بين يدي منصور بني عبد المؤمن بين الفقيه العالم أبي الوليد بن رشد والرئيس أبي بكر بن زهر، فقال ابن رشد لابن زهر في كلامه: ما أدري ما تقول، غير أنّه إذا مات عالم بإشبيلية فأريد بيع كتبه حملت إلى قرطبة حتى تباع فيها، وإذا مات مطرب بقرطبة فأريد بيع تركته حملت إلى إشبيلية.

ولما ذكر ابن بشكوال قصر قرطبة، قال (3) : هو قصر أوليٌّ تداولته ملوك

(1) ك: بخط فصيح وتفسير مليح؛ والتسفير: التجليد.

(2)

ك: من لا له.

(3)

ك: وسئل ابن بشكوال عن قصر قرطبة فقال.

ص: 463

الأمم من لدن عهد موسى النبيّ، صلى الله على نبيّنا وعليه وسلّم، وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثمّ للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان - منذ فتح الله عليهم الأندلس بما فيها - في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض المونقة (1) ، وأجروا فيه المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتموّنوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر المكرّم (2) ، وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرّصاص تؤديها منها إلى المصانع صورٌ مختلفة الأشكال من الذهب الإبريز والفضّة الخالصة والنحاس المموّه إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة.

قال: وفي هذا القصر القصاب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراؤون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها.

قال: ومن قصوره المشهورة، وبساتينه المعروفة: الكامل، والمجدد، وقصر الحائر، والروضة، والزاهر، والمعشوق، والمبارك، والرشيق، وقصر السرور، والتاج، والبديع.

قال: ومن أبوابه التي فتحها الله لنصر المظلومين، وغياث الملهوفين، والحكم بالحق، الباب الذي عليه السطح المشرف الذي لا نظير له في الدنيا، وعلى هذا الباب باب حديد، وفيه حلق لاطون (3) قد أثبتت في قواعدها، وقد صورت صورة إنسان فتح فمه، وهي حلق باب مدينة أربونة من بلد الإفرنج، وكان الأمير محمد قد افتتحها، فجلب حلقها إلى هذا الباب، وله باب قبلي أيضاً، وهو المعروف بباب الجنان، وقدّام هذين البابين المذكورين على الرصيف

(1) ك: الأنيقة.

(2)

ك: الكريم، ق: الكرم.

(3)

لاطون (وبالإسبانية Laton) : الأصفر من الصفر (النحاس) .

ص: 464

المشرف على النهر الأعظم مسجدان بالفضل كان الأمير هشامٌ الرضى يستعمل الحكم في المظالم فيهما ابتغاء ثواب الله الجزيل، وله باب ثالث يعرف بباب الوادي، وله باب بشماليّه يعرف بباب قورية، وله باب رابع يدعى بباب الجامع، وهو باب قديم كان يدخل منه الخلفاء يوم الجمعة إلى المسجد الجامع على الساباط، وعدد أبواباً بعد هذا طمست أيام فتنة المهدي ابن عبد الجبّار (1) .

وذكر ابن بشكوال رحمه الله أن أبواب قرطبة سبعة أبواب (2) : باب القنطرة إلى جهة القبلة ويعرف بباب الوادي وبباب الجزيرة الخضراء وهو على النهر، وباب الحديد ويعرف بباب سرقسطة، وباب ابن عبد الجبّار وهو باب طليطلة، وباب رومية وفيه تجتمع الثلاثة الرّصف التي تشق دائرة الأرض من جزيرة قادس إلى قرمونة إلى قرطبة إلى سرقسطة إلى طرّكونة إلى أربونة مارّة في الأرض الكبيرة، ثم باب طلبيرة وهو أيضاً باب ليون، ثم باب عامر القرشي وقدّامه المقبرة المنسوبة إليه، ثم باب الجوز (3) ويعرف بباب بطليوس، ثم باب العطّارين، وهو باب إشبيلية، انتهى.

وذكر أيضاً (4) أن عدد أرباض قرطبة عند انتهائها في التوسيع (5) والعمارة واحد وعشرون ربضاً، منها القبلية بعدوة النهر: ربض شقندة، وربض منية عجب، وأما الغربية فتسعة: ربض حوانيت الريحان (6) ، وربض الرقّاقين، وربض مسجد الكهف، وربض بلاط مغيث، وربض مسجد الشّفاء، وربض

(1) عدها في مخطوطة الرباط على النحو التالي: باب السدة وباب الجنان وباب العدل وباب الصناعة وباب الملك وباب الساباط (انظر الورقة: 25) .

(2)

انظر مخطوطة الرباط في عد أبواب قرطبة: 24.

(3)

مخطوطة الرباط: باب الجوزة.

(4)

ذكر أرباض قرطبة في مخطوطة الرباط: 25.

(5)

ك: التوسع.

(6)

مخطوط الرباط: ربض الريحاني؛ وفي ق ط: الريحاني.

ص: 465

حمّم الإلبيري (1) ، وربض مسجد المسرور، وربض مسجد الرّوضة (2) ، وربض السّجن القديم، وأمّا الشمالية فثلاثة: ربض باب اليهود، وربض مسجد أم سلمة، وربض الرّصافة، وأما الشرقية فسبعة: ربض شبلار، وربض فرن برّيل (3) ، وربض البرج (4) ، وربض منية عبد الله، وربض منية المغيرة، وربض الزاهرة، وربض المدينة العتيقة (5) .

قال: ووسط هذه الأرباض قصبة قرطبة التي تختص بالسور دونها، وكانت هذه الأرباض دون سور، فلمّا كانت أيّام الفتنة صنع لها خندق يدور بجميعها وحائط مانع. وذكر ابن غالب أنّه كان دور هذا الحائط أربعة عشر ميلاً (6) ، وشقندة معدودةٌ في المدينة لأنّها مدينة قديمة كانت مسوّرة.

[متنزهات قرطبة]

قال ابن سعيد في المغرب: ولنذكر الآن من منتزهات قرطبة ومعاهدها المذكورة في الألسن نظماً ونثراً ما انتهى إليه الضبط، من غير تغلغل في غير المشهور منها والأهمّ، ونوشّي ذلك بجميع ما يحضرني من مختار النظم في قرطبة، وما يحتوي عليه نطاقها المذكور.

فأوّل ما نذكر من المنتزهات منتزه الخلفاء المروانية، وهو قصر الرّصافة؛ قال والدي (7) رحمه الله: كان ممّا ابتناه عبد الرحمن بن معاوية في أول أيّامه لنزهه وسكناه أكثر أوقاته: منية الرّصافة التي اتخذها بشمال قرطبة

(1) ج ومخطوط الرابط: ربض الأبوري.

(2)

ق: وربض الرمضة.

(3)

مخطوطة الرباط: فرن بلي.

(4)

مخطوط الرباط: ربض الفرج.

(5)

في مخطوط الرباط: " ربط العدوة " وسقط من العدد هنالك ربض مسجد أم سلمة.

(6)

في ك: أربعة وعشرين ميلاً.

(7)

ج: قال ابن حيان.

ص: 466

منحرفة إلى الغرب، فاتخذ بها قصراً حسناً، ودحا جناناً واسعة، ونقل إليها غرائب الغروس وأكارم الشجر من كل ناحية، وأودعها ما كان استجلبه يزيد وسفرٌ رسولاه إلى الشأم من النوى المختار والحبوب الغريبة، حتى نمت بيمن الجدّ وحسن التربية في المدة القريبة أشجاراً معتمّة أثمرت بغرائب من الفواكه انتشرت عمّا قليل بأرض الأندلس، فاعترف بفضلها على أنواعها. قال: وسمّاها باسم رصافة جدّه هشام بأرض الشأم الأثيرة لديه، وامتثله في اختيار رصافته هذه (1) ، وكلفه بها وكثرة تردّده عليها، وسكناه أكثر أوقاته بها، فطار (2) لها الذكر في أيّامه، واتصل من بعده في إيثارها.

قال: وكلّهم فضّلها، وزاد في عمارتها، وانبرى وصّاف الشعراء لها، فتناغوا (3) في ذلك فيما هو إلى الآن مأثور (4) عنهم، مستجاد منهم.

قال ابن سعيد: والرّمّان السّفري الذي فاض على أرجاء الأندلس، وصاروا لا يفضلون عليه سواه، أصله من هذه الرّصافة. وقد ذكر ابن حيّان شانه، وأفرد له فصلاً (5)، فقال: إنّه الموصوف بالفضيلة، المقدم على أجناس الرّمان بعذوبة الطعم، ورقّة العجم، وغزارة الماء، وحسن الصورة، وكان رسوله إلى الشأم في توصيل أخيته (6) منها إلى الأندلس قد جلب طرائف منها من رمّان الرصافة المنسوبة إلى هشام، قال: فعرضه عبد الرحمن على خواص رجاله مباهياً به، وكان فيمن حضره منهم سفر بن عبيد الكلاعي من جند الأردن، ويقال: هو من الأنصار الذين كانوا يحملون ألوية رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته، قال: وهم يحملون الألوية بين يدي الخلفاء من بني

(1) ك: ولميله في اختياره هذه.

(2)

ك: طار.

(3)

في ك: فتنازعوا.

(4)

ك: مشهور مأثور.

(5)

ج: وأفرد فضله.

(6)

في ك: أخته.

ص: 467

أمية، فأعطاه من ذلك الرمان جزءاً فراقه حسنه وخبره، فسار به إلى قرية بكورة ريّة فعالج عجمه واحتال لغرسه وغذائه وتنقيله حتى طلع شجراً أثمر وأينع، فنزع إلى عرقه، وأغرب في حسنه، فجاء به عمّا قليل إلى عبد الرحمن، فإذا هو أشبه شيء بذلك الرصافي، فسأله الأمير عنه، فعرّفه وجه حيلته، فاستبرع استنباطه، واستنبل همّته، وشكر صنعه، وأجزل صلته واغترس منه بمنية الرصافة وبغيرها من جناته، فانتشر نوعه، واستوسع الناس في غراسه، ولزمه النسب إليه، فصار يعرف إلى الآن بالرمان السّفري.

قال: وقد وصف هذا الرمان أحمد بن فرج (1) الشاعر في أبيات كتب بها إلى بعض من أهداه له، فقال:

ولابسة صدفاً أحمرا

أتتك وقد ملئت جوهرا

كأنّك فاتح حقّ لطيفٍ

تضمّن مرجانه الأحمرا

حبوباً كمثل لثات الحبيب

رضاباً إذا شئت أو منظرا

وللسّفر تعزى وما سافرت

فتشكو النّوى أو تقاسي السّرى

بلى فارقت أيكها ناعماً

رطيباً وأغصانها نضّرا

وجاءتك معتاضةً إذ أتتك

بأكرم من عودها عنصرا

بعودٍ ترى فيه ماء النّدى

ويورق من قبل أن يثمرا

هدية من لو غدت نفسه

هديّته ظنّه قصّرا وقال ابن سعيد: وأخبرني والدي قال: أخبرني الوشّاح المبرّز المحسن أبو الحسن المريني (2) قال: بينما أنا أشرب مع ندماني بإزاء الرّصافة، إذا بإنسان

(1) هو ابن فرج صاحب كتاب الحدائق، الذي ألفه للحكم المستنصر، من شعراء عصر الخلافة الأموية، جرى عليه ايام الحكم ما أدى إلى سجنه وتوفي حوالي 366؛ (انظر ترجمته في الجذوة 97 وبغية الملتمس رقم: 331 ومعجم الأدباء 4: 236 والصلة 11، ومسالك الأبصار 11: 195 والمغرب 2: 56 والمطمح 79 والوافي ج؟ 8 الورقة: 34 وله اشعار في اليتيمة) .

(2)

هو علي بن المريني أبو الحسن، شاعر وشاح توفي في مدة منصور بني عبد المؤمن وكان كثير التجول (المغرب 2: 213) وسيورد المقري له موشحة في سد قرطبة، وفي المغرب موشحة تنازع نسبتها هو واليكي (2: 218) .

ص: 468

رث الهيئة، مجفوّ (1) الطلعة، قد جاء فجلس معنا، فقلنا له: ما هذا الإقدام على الجلوس معنا دون سابق معرفة؟ فقال: لا تعجلوا علي، ثمّ فكر قليلاً ورفع رأسه فأنشدنا:

اسقنيها إزاء قصر الرّصافه

واعتبر في مآل أمر الخلافه

وانظر الأفق كيف بدّل أرضاً

كي يطيل اللبيب فيه اعترافه

ويرى أن كلّ ما هو فيه

من نعيمٍ وعزّ أمرٍ سخافه

كلّ شيء رايته غير شيء

ما خلا لذة الهوى والسّلافه قال المريني: فقبّلت رأسه، وقلت له: بالله من تكون؟ فقال: قاسم بن عبّود الرياحي، الذي يزعم الناس أنّه موسوس أحمق، قال: فقلت له: ما هذا شعر أحمق، وإن العقلاء لتعجز عنه، فبالله إلا ما تمّمت مسرتنا بمؤانستك ومنادمتك ومناشدة طرف أشعارك، فنادم وأنشد، وما زلنا معه في طيبة عيش إلى أن ودّعناه وهو يتلاطم مع الحيطان سكراً، ويقول: اللهم غفراً. انتهى (2) .

(1) ج: مجلو.

(2)

زاد بعد هذه الكلمة ف نسخة (ج) : " فائدة: قال الذهبي في المشتبه: والرصافة مواضع منها رصافة بناها هشام بن عبد الملك بقرب الرقة ورصافة بغداد - محلة كبيرة جداً أنشأ المنصور لابنه المهدي وتلقب بعسكر المهدي، منها أئمة، ورصافة البصرة قرية منها شيخان رويا؛ ورصافة قرطبة بليدة أنشأها عبد الرحمن بن معاوية الداخل، سماها باسم رصافة جده هشام خرج منها فضلاء؛ ورصافة الكوفة صغيرة، ورصافة نيسابور قرية، ورصافة الأنبار بناها السفاح، ورصافة بليدة بإفريقية، والرصافة قلعة أحدثها الإسماعيلية بالشام. انتهى باختصار. قال في القاموس، في فصل الراء باب الفاء: والرصافة كمكناسة بلد بالشام منه أبو منيع عبد الله بن أبي زياد وابن ابنه الحجاج، ومحلة ببغداد منها محمد بن بكار بن جعفر بن محمد بن علي، وبلد بالبصرة منها محمد بن عبد الله بن صيفون، وقرية بواسط منها عبد المجيد وقرية بنيسابور وبالكوفة وبلد بإفريقية وقرية للإسماعيلية، وعمي الرصافة موضع بالحجاز، انتهى. رجع إلى قرطبة؛ قال بن سعيد

الخ ".

ص: 469

قال: ومن أبدع قصور (1) خارج قرطبة قصر السيد أبي يحيى بن أبي يعقوب بن عبد المؤمن، وهو على متن النهر الأعظم، تحمله أقواس، وقيل للسيد: كيف تأنقت في بنيان هذا القصر مع انحرافك عن أهل قرطبة؟ فقال: علمت أنهم لا يذكرون والياً بعد عزله ولا له عندهم قد، لما بقي في رؤوسهم من الخلافة المروانيّة، فأحببت أن يبقى لي في بلادهم أثر أذكر به على رغمهم.

قال ابن سعيد: وأخبرني والدي أن ناهض بن إدريس (2) شاعر وادي آش في عصره أنشده لنفسه في هذا القصر:

ألا حبّذا القصر الذي ارتفعت به

على الماء من تحت الحجارة أقواس

هو المصنع الأعلى الذي أنف الثرى

ورفّعه عن لثمه المجد والباس

فأركب متن النهر عزّاً ورفعةً

يغصّ وحلّت أفقه الدهر أعراس

فلا زال معمور الجناب وبابه

يغص وحلت افقه الدهر أعراس وقال الفتح في قلائده، لمّا ذكر الوزير ابن عمّار (3) : وتنزه بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده بنو أميّة بالصّفّاح والعمد، وجري في إتقانه إلى غير أمد، وأبدع بناؤه، ونمّقت ساحاته وفناؤه، واتخذوه ميدان مراحهم، ومضمار أفراحهم، وحكوا به قصرهم بالمشرق، وأطلعوه كالكوكب المشرق، وأنشد في لابن عمّار:

كلّ قصرٍ بعد الدمشق يذّم

فيه طاب الجنى ولذّ المشمّ

منظرٌ رائقٌ، وماءٌ نميرٌ

وثرىً عاطرٌ، وقصرٌ أشمّ

بتّ فيه والليل والفجر عندي

عنبرٌ أشهبٌ ومسكٌ أحمّ

(1) ق: ومن المتنزهات قصور خارج قرطبة؛ ط: ومن أعظم قصور

(2)

ناهض بن إدريس: من مداح ناصر بني عبد المؤمن (المغرب 2: 145) .

(3)

قلائد العقيان: 84.

ص: 470

وهي منسوبة للحاجب أبي عثمان جعفر بن عثمان المصحفي.

وذكر الحجاري في المسهب أن الرئيس أبا بكر محمد بن أحمد بن جعفر المصحفي، اجتاز بالمنية المصحفية التي كانت لجدّه أيّام حجابته للخليفة الحكم المستنصر، فاستعبر حين تذكر ما آل إليه حال جده مع المنصور بن أبي عامر، واستيلاءه على ملكه وأملاكه، فقال:

قف قليلاً بالمصحفيّة واندب

مقلةً أصبحت بلا إنسان

واسألنها عن جعفر وسطاه

ونداه في سالف الأزمان

جعفر مثل جعفرٍ حكم الده؟

ر عليه بعسرة وهوان

ولكم حذّر الردى فصممنا

لا أمانٌ لصاحب السلطان

بينما يعتلي غدا خافضاً من

هـ اكتسابٌ ككفّة الميزان (1) ومنية الزبير منسوبة إلى الزبير بن عمر الملثّم (2) ملك قرطبة.

قال ابن سعيد: أخبرني والدي عن أبيه قال: خرج معي إلى هذه المنية في زمان فتح النّوّار أبو بكر بن بقيّ الشاعر (3) المشهور، فجلسنا تحت سطر من أشجار اللّوز قد نوّرت، فقال ابن بقيّ:

سطرٌ من اللوز في البستان قابلني

ما زاد شيء على شيء ولا نقصا

كأنّما كلّ غصنٍ كمّ جارية

إذا النسيم ثنى أعطافه رقصا

(1) ك: انتساب؛ ج: اكتساباً.

(2)

الزبير بن عمر من ولاة الملثمين (المرابطين) على قرطبة؛ وقد عده في مفاخر البربر (82) من ولاة غرناطة ولكن ابن سعيد (2: 127) يسميه صاحب قرطبة، وهو مهجو الشاعر المعروف بالأبيض.

(3)

أبو بكر يحيى بن بقي الطليطلي من كبار الشعراء الوشاحين في عصر المرابطين توفي سنة 540 (انظر ترجمته في الذخيرة القسم الثاني: 244 والقلائد: 279 ومعجم الأدباء 19: 21 والتكملة: 2042 ووفيات الأعيان 5: 248 ومسالك الأبصار 11: 280 والمغرب 2: 19 وله موشحات في دار الطراز وفي مخطوطة جيش التوشيح للسان الدين) .

ص: 471

ثم قال شعراً منه:

عجبت لمن أبقى على خمر دنّه

غداة رأى لوز الحديقة نوّرا ولا أذكر بقية الأبيات، قال جدّي: ثم اجتمعت به بعد ذلك بغرناطة، فذكرته باجتماعه في منية الزبير، فتنهّد وفكّر ساعة وقال: اكتبوا عنّي، فكتبنا:

سقى الله بستان الزبير، ودام في

مجاريه سيل (1) النّهر ما غنّت الورق

فكائن لنا من نعمة في جنابه

كبزّته الخضراء طالعها طلق

هو الموضع الزاهي على كل موضع

أما ظلّه ضافٍ أما ماؤه دفق

أهيم به في حالة القرب والنوى

وحقّ له منّي التذكّر والعشق

ومن ذلك النّهر الخفوق فؤاده

بقلبي ما غيّبت عن وجهه خفق قال: فقلت له: جمع الله بينك وبينه على الحالة التي تشتهي، قال: ذلك لك، قلت: وكيف ذلك؟ قال: تدفع لي هذا السيف الذي تقلّدت به أتزوّد به إليه، وأنفق الباقي فيه على ما تعلم، قال: فقلت له: هذا سيفٌ شرّفني به السلطان أبو زكريّاء ابن غانية، وما لعطائه سبيل، ولكن أعطيك قيمته، فخرج وأبى بشخصٍ يعرف قيمة السيوف، فقدّره وجعل يقول: إنّه سيف السلطان ابن غانية، ليعظم قدره في عينه فيزيد في قيمته، ثم قبض ما قدّر به، وأنشد ارتجالاً:

أطال الله عمر فتى سعيدٍ

وبقّاه ورقّته السّعود

غدا لي جوده سبباً لعودي

إلى وطين فها أنا ذا أعود

وألثم كفّه شكراً ويتلو

طريقي آي نعماه النّشيد

(1) ك ج ط: ذراه مسيل.

ص: 472

حباني من ذخائره بسيفٍ

به لم يبق للأحزان جيد والقصر الفارسي من القصور المقصودة للنزاهة بخارج قرطبة، وقد ذكره الوزير أبو الوليد ابن زيدون في قصيد ضمّنه من منتزهات قرطبة ما تقف عليه، وكان قد فرّ من قرطبة أيّام بني جهور، فحضره في فراره عيد ذكّره بأعياد وطنه ومعاهده الأنسيّة مع ولاّدة التي كان يهواها ويتغزّل فيها، فقال (1) :

خليليّ لا فطرٌ يسرّ ولا أضحى

فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى وستأتي هذه القصيد في هذا الباب، كما ستأتي قصيدة أبي القاسم ابن هشام القرطبي التي أوّلها:

يا هبّةً باكرت من نحو دارين

وفيها كثير من منتزهات قرطبة.

قال ابن سعيد: كان والدي كثيراً ما يأمرني بقراءتها عليه، ويقول: والله لقد أنبأت عن فضلٍ لهذا الرجل، قال: وكان أبو يحيى الحضرمي يحفظها، ويزين بها مجالسه، ويحلف أن لا ينشدها بمحضر جاهل لا يفهم، أو حاسد لا ينصف في الاهتزاز لها، وإنّه لجدير بذلك، وإنّها لمن كنوز الأدب.

ثم قال: والمرج النّضير المذكور بها هو مرج الخز، أخبرني والدي أنّه حضر في زمان الصّبا بهذا المرج على راحة، ومعه الرئيس الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقّشي (2) والمسنّ ابن دريدة (3) المشهور بخفة الروح، قال: فسبحت أمامنا إوز، وجعلت تمرح وتنثر ما عليها من الماء فوق المرج،

(1) ديوان ابن زيدون: 158.

(2)

أبو الحسين الوقشي، سيذكره صاحب النفح، وكان ذا صوت بديع عارفاً بالألحان؛ وقد مر ذكره في المغرب (1: 220) في مجلس مع والد ابن سعيد.

(3)

في بعض النسخ: الحسن؛ وفي نسخة: دويدة؛ وقد ذكره ابن سعيد في المغرب 2: 181 وأورد بعض نوادره؛ وهو قلعي أي ينسب إلى قلعة بني سعيد؛ وفي ج: ودريده.

ص: 473

والمرج قد أحدق به الوادي، والشمس قد مالت عليه للغروب، فقال لي أبو الحسين: بالله صف يومنا وحسن (1) هذا المنظر، فقلت: لا أصفه أو تصفه أنت، فقال: ولك مني ذلك، فأفكر كلٌّ منّا على انفراد بعدما ذكرنا ما نصف نثراً، فقال أبو الحسين الوقّشي:

لله يوم بمرج الخزّ طاب لنا

فيه النعيم بحيث الروض والنّهر

وللإوزّ على أرجائه لعبٌ

إذا جرت بدّدت ما بيننا الدّرر

والشمس تجنح نحو البين مائلةً

كأنّ عاشقها في الغرب ينتظر

والكأس جائلةٌ باللبّ حائرةٌ

وكلّنا غفلات الدهر نبتدر قال: فقلت:

ألا حبّذا يومٌ ظفرنا بطيبه

بأكناف مرج الخزّ والنهر يبسم

وقد مرحت في الإوزّ، وأرسلت

على سندسٍ درّاً به يتنظّم

ومدّ به للشمس فهو كأنّه

لثامٌ لها ملقىً من النّور معصم

أدرنا عليه أكؤساً بعثت به

من الأنس ميتاً عاد وهو يكلّم

غدونا إليه صامتين سكينةً

فرحنا وكلٌّ بالهوى يترنّم فأظهر كلّ منّا لصاحبه استحسان ما قال تنشيطاً وتتميماً للمسرّة، ثم قلنا للمسنّ: ما عندك أنت ما تعارض (2) به هاتين القطعتين؟ قال: بهذا، ورفع رجله وحبق حبقة فرقعت (3) منها أرجاؤه، فقال له أبو الحسين: ما هذا يا شيخ السوء؟ فقال: الطلاق له لازم (4) إن لم تكن أوزن من شعركما، وأطيب رائحة، وأغنّ صوتاً، وأطرب معنى، فضحكنا منه اشد ضحك، وجعلنا نهتز غاية

(1) ق: في حسن.

(2)

ق ط ج: بما تعارض.

(3)

ق ط ج: قرقعت.

(4)

ك: يلزمه.

ص: 474

الاهتزاز لموقع نادرته، فقال: والدليل على ذلك أنّكم طربتم لما جئت به أكثر ممّا طربتم من شعركم.

ثم قال ابن سعيد: ومن منتزهات قرطبة المشهورة فحص السرادق، مقصود للفرجة، يسرح (1) فيه البصر، وتبتهج فيه النفس، وأخبرني والدي عن أخيه أبي جعفر بن عبد الملك بن سعيد قال: خرجت مع الشريف الأصم القرطبي إلى بسيط الجزيرة الخضراء - وقد تدبج بالأنوار (2) - فلمّا حركنا حسن المكان، وتشوقنا إلى الأركان (3)، قال الشريف: لقد ذكرني هذا البسيط بسيط فحص السرادق، فقلت له: فهل ثار في خاطرك (4) نظم فيه؟ قال: نعم، ثم أنشد:

ألا فدعوا ذكر العذيب وبارق

ولا تسأموا من ذكر فحص السّرادق

مجرّ ذيول السّكر من كلّ مترف

ومجرى الكؤوس المترعات السّوابق

قصرت عليه اللّحظ ما دمت حاضراً

وفكري في غيبٍ لمرآه شائقي

أيا طيب أيّام تقضّت بروضةٍ

على لمح غدرانٍ وشمّ حدائق

إذا غرّدت (5) فيه حمائم دوحها

تخيّلتها الكتّاب بين المهارق

وما باختيار الطّرف فارقت حسنها

ولكن بكيدٍ من زمانٍ منافق قال أبو جعفر: فلمّا سمعت هذا الشعر لم أتمالك من الاستعبار، وحرّكني ذلك إلى أن قلت في حور (6) مؤمل سيد منتزهات غرناطة، ولم يذكر هنا ما قاله فيه، وذكره في موضع آخر لم يحضرني الآن حتى أورده هنا، والله أعلم.

ومن منتزهات قرطبة السّدّ، قال ابن سعيد: أخبرني والدي أن الشاعر

(1) ق: ليسرح.

(2)

ك: بالنوار.

(3)

لعل الصواب: الأوطان.

(4)

ك: خاطركم.

(5)

ق: رددت؛ ط ج: وردت.

(6)

بعض النسخ: حوز.

ص: 475

المبرز أبا شهاب المالقي (1) أنشده لنفسه واصفاً يوم راحة بهذا السّد:

ويوم لنا بالسّدّ لو ردّ عيشه

بعيشة أيّام الزّمان رددناه

بكرنا له والشمس في خدر شرقها

إلى أن أجابت إذ دعا الغرب دعواه

قطعناه شدواً واغتباقاً ونشوة

ورجع حديثٍ لو رقى الميت أحياه

على مثله من منزه تبتغى المنى

فلله ما أحلى وأبدع مرآه

شدتنا به الأرحا وألقت نثارها

علينا فأصغينا له وقبلناه

لئن بان إنّا بالأنين لفقده

وبالدّمع في إثر الفراق (2) حكيناه وأنشدني والدي موشحة لأبي الحسن المريني معاصره وصاحبه يذكر فيها هذا السد، وهي (3) :

في نغمة العود والسّلافه

والروض والنهر والنديم

أطال من لامني خلافه

فظلّ في نصحه مليم

دعني على منهج التّصابي

ما قام لي العذر الشّباب

ولا تطل في المنى عتابي

فلست أصغي إلى عتاب

لا ترج ردّي إلى صواب (4)

والكأس تفترّ عن حباب

والغصن يبدي لنا انعطافه

إذا هفا فوقه النسيم

والرّوض أهدى لنا قطافه

واختال في برده الرقيم

(1) أبو شهاب المالقي: من شعراء المائة السابعة، صحبه والد ابن سعيد أيام الشباب ووصفه بأنه كان خليع العذار في شرب العقار (المغرب 1: 437) .

(2)

ق: الغرام.

(3)

استعمل في ك كلمتي " مطلع " و " دور " للدلالة على القفل وعلى كل غصن من أغصان الموشحة.

(4)

ك: إلى جواب؛ ق: إلى الجواب.

ص: 476

يا حبّذا عهدي القديم

ومن به همت مسعدي

ريمٌ عن الوصل لا يريم

مولّعٌ بالتودّد

ما تمّ إلاّ به النعيم

طوعاً على رغم حسّدي

معتدل القدّ ذو نحافه

أسقمني طرفه السقيم

ورام طرفي به انتصافه

فخدّ في خدّه الكليم

غضّ الصّبا عاطر المقبّل

أحلى من الأمن والأمل

ظامي الحشا مفعم المخلخل

حلو اللّمى ساحر المقل

لكل من رامه توصّل

لم يخش ردّاً بما فعل

أشكو فيبدي لي اعترافه

إن حاد عن نهجه القويم

لا أعدم الدهر فيه رافه

فحقّ لي فيه أن أهيم

لله عصرٌ لنا تقضّى

بالسّدّ والمنبر البهيج

أرى ادّكاري إليه فرضا

وشوقه دائماً يهيج

فكم خلعنا عليه غمضا

وللصّبا مسرحٌ أريج

وردٌ أطال المنى ارتشافه

حتى انقضى شربه الكريم

لله ما أسرع انحرافه

وهكذا الدهر لا يديم

يا من يحثّ المطيّ غربا

عرّج على حضرة الملوك

وانثر بها إن سفحت غربا

من مدمع عاطل سلوك

واسمع إلى من أقام صبّا

واحك صداه لا فضّ فوك

ص: 477

بلغّ سلامي قصر الرّصافه

وذكّرو (1) عهدي القديم

وحيّ عنّي دار الخلافه

وقف بها وقفة الغريم وقال ابن سعيد: والمنبر المذكور في هذه الموشّحة من منتزهات قرطبة، والسّدّ هو الأرحا التي ذكرها في زجله قاسم بن عبّود الرياحي، رويته عن والدي عن قائله، وهو (2) :

بالله أين نصيب

من لس لي فيه نصيب

محبوباً مخالف

ومعو رقيب

حين نقصد مكانو

يقم ف المقام

ويبخل علينا

بردّ السّلام

أدخلت يا قلبي

روحك في زحام (3)

سلامتك عندي

هي شي عجيب

وكف بالله يسلم

من هو في لهيب

بالله يا حبيبي

اترك ذا النّفار

واعمل أن نطيبوا

في هذا النّهار

واخرج معي للوادي

لشرب العقار

نتمّم نهارنا

في لذه وطيب

في الأرحا وإلا

في المرج الخصيب

(1) ك: وذكره؛ والصواب قراءته حسب النطق الدارج " وذكرو "، وهي قراءة ق.

(2)

استعمل أيضاً في ك في تقسيم هذا الزجل لفظتي مطلع ودور.

(3)

ج: الزحام.

ص: 478

أو عند النواعر (1)

والروض الشّريق (2)

أو قصر الرصافه

أو وادي العقيق

رحق (3) والله دونك

هو عندي الحريق

وفي حبّك أمسيت

في أهلي غريب

وما الموت عندي

إلاّ حن تغيب

اتّكل على الله

وكن فظ جسور

وإن ريت فضولي

وقل إين تمور

كمّش عنّو (4) وجهك

فإن راك نفور

يهرب عنّك خايف

ويبقى مريب

وامش أنت موقّر

كأنّك خطيب

ما أعجب حديثي

إش هذا الجنون

نطلب وندبّر

أمراً لا يكون

وكم ذا نهوّن

شيئاً لا يهون

وإش مقدار ما نصبر

لبعد الحبيب

ربّ اجمعني معو

عاجلاً قريب

(1) ج: النواير.

(2)

ج: الرشيق.

(3)

ك ط: حرق؛ ج: حدق.

(4)

ك: عني.

ص: 479

[نهرها وقنطرتها]

قال ابن سعيد: وأما نهر قرطبة فإنّه يصغر عن عظمه عند إشبيلية، بحيث صنع عليه قنطرة من حجارة لا يتأتى مثلها في نهر إشبيلية، ومنبعه من جهة شقورة (1) يمر النصف منه إلى مرسية مشرقاً والنصف إلى قرطبة وإشبيلية مغرباً.

ولما ذكر الرازي قرطبة قال: " ونهرها الساكن في جريه، اللين في انصبابه، الذي تؤمن مغبة ضرره في حمله ". وقال هذا لأنّه يعظم عند إشبيلية، فإذا حان حمله في أيام الأمطار أشفت إشبيلية على الغرق، وتوقّع أهلها الهلاك.

والقنطرة التي على هذا النهر عند قرطبة من أعظم آثار الأندلس وأعجبها، أقواسها سبع عشرة قوساً، وبانيها - على ما ذكره ابن حيّان وغيره - السّمح ابن مالك الخولاني صاحب الأندلس بأمر عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، وشيّدها بنو أميّة بعد ذلك وحسّنوها، قال ابن حيّان: وقيل: إنّه قد كانت في هذا المكان قنطرة من بنيان الأعاجم قبل دخول العرب بنحو مائتي سنة أثّرت فيها الأزمان بمكابدة المدود حتى سقطت حناياها، ومحيت أعاليها، وبقيت أرجلها وأسافلها، وعليها بنى السمح في سنة إحدى ومائة، انتهى.

وقال في مناهج الفكر: إن قنطرة قرطبة إحدى أعاجيب الدنيا، بنيت زمن عمر بن عبد العزيز على يد عبد الرحمن بن عبيد الله الغافقي، وطولها ثمانمائة ذراع (2) ، وعرضها عشرون باعاً، وارتفاعها ستون ذراعاً، وعدد حناياها ثماني عشرة حنية، وعدد أبراجها تسعة عشر برجاً، انتهى.

(1) شقورة: (Segura de la Sierra) مدينة كانت من عمل جيان، وينسب إليها نهر شقورة وهو نهر مرسية.

(2)

ق: باع.

ص: 480

رجع إلى قرطبة

ذكر ابن حيّان والرازي والحجاري أن أكتبيان (1) - ثاني قياصرة الروم الذي ملك أكثر الدّنيا وصفّح نهر رومية بالصّفر، فأرّخت الروم، من ذلك العهد، وكان من قبل ميلاد المسيح عليه السلام بثمان وثلاثين سنة - أمر ببناء المدن العظيمة بالأندلس، فبنيت في مدّته قرطبة وإشبيلية وماردة وسرقسطة، وانفرد الحجاري بأن أكتبيان المذكور وجهّ أربعة من أعيان ملوكه للأندلس فبنى كل واحد منهم مدينة في الجهة التي ولاّه عليها، وسمّاها باسمه، وأن هذه الأسماء الأربعة كانت أسماء لأولئك الملوك، وغير الحجاري جعل أسماء هذه المدن مشتقّة ممّا تقتضيه أوضاعها كما مر؛ وذكروا أنّه قد تداولت على قرطبة ولاة الروم الأخيرة الذين هم بنو عيصو بن إسحاق بن إبراهيم، على نبيّنا وعليهم الصلاة والسلام، إلى أن انتزعها من أيديهم القوط من ولد يافث المتغلّبون على الأندلس، إلى أن أخذها منهم المسلمون. ولم تكن في الجاهلية سريراً لسلطنة الأندلس، بل كرسيّاً لخاص مملكتها، وسعدت في الإسلام، فصارت سريراً للسلطنة العظمى الشاملة، وقطباً للخلافة المروانية، وصارت إشبيلية وطليطلة تبعاً لها، بعدما كان الأمر بالعكس، والله يفعل ما يشاء، بيده الملك والتدبير، وهو على كل شيء قدي، لا إله إلا هو العلي الكبير.

وقال صاحب " نشق الأزهار "(2) عندما تعرّض لذكر قرطبة: هي مدينة مشهورة، دار خلافة، وأهلها أعيان ناس في العلم والفضل، وبها جامع ليس في الإسلام مثله، انتهى.

(1) ق: اكنبان؛ ك: التنبان؛ والصواب ما أثبتناه فهو (Octavian) المعروف باسم اكتافيوس قيصر.

(2)

أظن المراد هنا هو " نشق الأزهار في عجائب الأقطار " لابن إياس الحنفي المتوفى سنة 930.

ص: 481

[الفتنة البربرية والنزاع بين الحموديين والأمويين]

ومن الأسباب في سلب محاسن قرطبة عيث البربر بها في دخولهم مع سليمان المستعين الأموي حين استولى على قرطبة في دولته التي افتتحت بالقهر وسفك الدماء، وكان من أمراء البربر المعارضين لسليمان عليّ بن حمّود من بني علي بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين - وجدّه إدريس هرب من هرون الرشيد إلى البربر، فتبربر ولده، وبنى ابنه إدريس مدينة فاس، وكان المؤيّد هشام يشتغل بالملاحم، ووقف على أن دولة بني أميّة تنقرض بالأندلس على يد علوي أول اسمه عين، فلمّا دخل سليمان مع البربر قرطبة ومحوا كثيراً من محاسنها ومحاسن أهلها كان من أكبر أمرائهم علي بن حمّود، وبلغ هشاماً المؤيد وهو محبوس خبره واسمه ونسبه فدسّ إليه أن الدولة صائرة إليك، وقال له: إن خاطري يحدّثني أن هذا الرجل يقتلني، يعني سليمان، فإن فعل فخذ بثأري، وكان هذا الأمر هو الذي قوّى نفس ابن حمّود على طلب الإمامة، وحمله على الأخذ بثأر هشام المؤيد، فكان المؤيد أحد من أخذ بثأره بعد موته.

وتولّى بعد ذلك علي بن حمّود (1) ، وبويع بقرطبة في قصرها في اليوم الذي قتل فيه سليمان المستعين (2) ، وأخذ الناس بالإرهاب والسطوة، وأذلّ رؤوس البربر، وبرقت للعدل في أيّامه بارقة خلّب لم تكد تقد حتى خبت، وجلس للمظالم، وقدمت له جماعة من البربر في إجرام فضرب رقابهم، وأهلهم وعشائرهم ينظرون، وخرج يوماً على باب عامر فالتقى فارساً من البربر وأمامه حمل عنب، فاستوقفه وقال له: من أين لك هذا؟ فقال: أخذته كما يأخذ الناس، فأمر بضرب عنقه، ووضع رأسه وسط الحمل، وطيف به في البلد،

(1) انظر تفصيل الخبر عن ولاية علي بن حمود في الذخيرة 1/1: 79 نقلاً عن ابن حيان، وهذا الذي أورده المقري تلخيص لما جاء هنالك.

(2)

وبويع

المستعين: سقطت هذه العبارة من ق.

ص: 482

واستمر على هذا مع أهل قرطبة في أحسن عشرة نحو ثمانية أشهر، حتى بلغه قيام الأندلسيين بالمرتضى المرواني في شرق الأندلس، فتغير عمّا كان عليه، وعزم على إخلاء قرطبة وإبادة أهلها، فلا يعود لأئمتهم بها سلطان آخر الدهر، وأغضى للبربر عن ظلمهم فعاد البلاء إلى حاله، وانتزع الإسلام من أهل قرطبة (1) ، وهدم المنازل، واستهان بالأكابر، ووضع المغارم، وقبض على جماعة من أعيانهم وألزمهم بمال، فلمّا غرموه سرّحهم، فلمّا جيء إليهم بدوابهم ليركبوها أمر من أخذ الدواب، وتركهم ينزلون إلى منازلهم على أرجلهم، وكان منهم أبو الحزم الذي ملك قرطبة بعد وصارت دولته بوراثة ولده معدودة في دول الطوائف، فانجمعت عن عليّ النفوس، وتوالى عليه الدعاء، فقتله صبيان أغمار من صقالبة بني مروان في الحمّام، وكان قتله غرّة ذي القعدة سنة ثمان وأربعمائة، وكان الصقالبة ثلاثة فهربوا واختفوا في أماكن يعرفونها، وصح عند الناس موته، ففرحوا، وكانت مدّته كما مر نحو عامين، وحقّقها بعض فقال: أحد وعشرون شهراً وستّة أيّام.

وكان الناصر علي بن حمّود - على عجمته، وبعده من الفضائل - يصغي إلى الأمداح، ويثيب عليها، ويظهر في ذلك آثار النسب العربي والكرم الهاشمي، ومن شعرائه المختصّين به ابن الحنّاط القرطبيّ (2)، ومن شعره قوله (3) :

راحت تذكّر بالنسيم الراحا

وطفاء تكسر للجنوح جناحا

أخفى مسالكها الظلام فأوقدت

من برقها كي تهتدي مصباحا

(1) ك: وانتزع أهل قرطبة.

(2)

ابن الحناط (وفي ق ك ط ج: الخياط) محمد بن سليمان بن الحناط الرعيني القرطبي الأعمى، كان أبوه يبيع الحنطة بقرطبة، ثم تعهد ابنه بنو ذكوان بالتعليم واتصل بدولة بني حمود ومدح أمراءها وتوفي سنة 437 (انظر الذخيرة 1/1: 383 والجذوة: 53 وبغية الملتمس رقم: 124 والمغرب 1: 121 والصلة: 640 والتكملة: 387.

(3)

الذخيرة 1/1: 390.

ص: 483

وعبادة بن ماء السماء، وكان معروفاً بالتشيع، وفيه يقول من قصيدة:

أبوكم عليٌّ كان بالشرق بدء ما

ورثتم، وذا بالغرب أيضاً سميّه

فصلّوا عليه أجمعون وسلّموا

له الأمر إذ ولاّه فيكم وليّه ومدحه ابن درّاج القسطلّيّ بقوله (1) :

لعلّك يا شمس عند الأصيل

شجيت لشجو الغريب الذليل

فكوني شفيعي لابن الشّفيع

وكوني رسولي لابن الرسول وكان أخوه القاسم بن حمّود أكبر منه بعشر سنين، وأمهما واحدة، وهي علوية، ولمّا قتل الناصر كان القاسم والياً على إشبيلية، وكان يحيى بن علي والياً على سبتة، فاختلفت أهواء البربر (2) ، فمال أكثرهم إلى القاسم لكونه غبن أوّلاً، وقدّم عليه أخوه الأصغر، وكونه قريباً من قرطبة، وبينهم وبين يحيى البحر، فلمّا وصلت رسلهم إلى القاسم لم يظهر فرحاً بالإمامة، وخاف أن تكون حيلةً من أخيه عليه، فتقهقر إلى أن اتضح له الحق، فركب إلى قرطبة، وبويع فيها بعد ستة أيّام من قتل أخيه، وأحسن السيرة، وأحس من البربر الميل إلى يحيى ابن أخيه عليّ صاحب سبتة، فتهالك في اقتناء السودان، وابتاع منهم كثيراً، وقوّدهم على أعماله، فأنفت البرابر من ذلك، وانحرفوا عنه.

وفي سنة تسع وأربعمائة (3) قام عليه بشرق الأندلس المرتضى عبد الرحمن من أعقاب الناصر، لأن أهل الأندلس صعب عليهم ملك بني حمّود العلويين بسبب البرابر، فأرادوا رجوع الإمامة إلى بني مروان، واجتمع له أكثر ملوك الطوائف، وكان معه حين أقبل لقرطبة منذر التجيبيّ صاحب سرقسطة

(1) ديوان ابن دراج: 75.

(2)

ك: فاختلف هؤلاء البربر؛ ج: فاختلف أحوال

(3)

انظر تفصيل هذه الأحداث في ابن عذاري 3: 125.

ص: 484

وخيران العامري الصّقلبي صاحب المرية، وانضاف إليهم جمعٌ من الفرنج، وتأهّب القاسم والبرابرة للقائهم، فكان من الاتفاق العجيب أن فسدت نيّة منذر وخيران على المرتضى، وقالا: أرانا في الأوّل وجهاً ليس بالوجه الذي نراه حين اجتمع إليه الجم الغفير، وهذا ماكر غير صافي النيّة، فكتب خيران إلى ابن زيري الصّنهاجي المتغلب على غرناطة - وهو داهية البربر - وضمن له أنّه متى قطع الطريق على المرتضى عند اجتيازه عليه إلى قرطبة خذّل عن نصرته الموالي العامريين أعداء المروانيين وأصحاب رياسة الثغور، فأصغى ابن زيري إلى ذلك، وكتب المرتضى إلى ابن زيري يدعوه لطاعته، فقلب الكتاب، وكتب في ظهره " قل يا أيّها الكافرون - السورة " فأرسل إليه كتاباً ثانياً يقول فيه: قد جئتك بجميع أبطال الأندلس وبالفرنج، فماذا تصنع؟ وختم الكتاب بهذا البيت:

إن كنت منّا أبشر بخير

أو لا فأيقن بكل شرّ فأمر الكاتب أن يحوّل الكتاب ويكتب على ظهره " ألهاكم التكاثر - السورة " فازداد حنقه، وحمله الغيظ إلى أن ترك السير إلى حضرة الإمامة قرطبة، وعدل إلى محاربته، وهو يرى أنّه يصطمله في ساعة من نهار، ودامت الحرب أياماً، وأرسل ابن زيري إلى خيران يستنجزه وعده، فأجابه: إنّما توقّفت حتى أرى مقدار حربنا وصبرنا، ولو كنّا ببواطننا معه، ما ثبت جمعك لنا، ونحن ننهزم عنه ونخذله في غد.

ولمّا كان من الغد رأى أعلام خيران وأعلام منذر وأصحاب الثغور قد ولّت عنه، فسقط في يد المرتضى، وثبت حتى كادوا يأخذونه، واستحرّ القتل، وصرع كثير من أصحابه، فلمّا خاف القبض عليه ولّى، فوضع خيران عيوناً فلحقوه بقرب وادي آش وقد جاوز بلاد البربر وأمن على نفسه، فهجموا عليه، فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى المرية، وقد حل بها خيران ومنذر

ص: 485

فتحدث الناس أنّهما اصطبحا (1) عليه سروراً بهلاكه.

وبعد هذه الواقعة أذعن أهل الأندلس للبرابرة، ولم يجتمع لهم بعدها جمع ينهضون به إليهم، وضرب القاسم بن حمّود سرادق المرتضى على نهر قرطبة، وغشيه خلق من النظارة وقلوبهم تتقطّع حسرات، وأنشد عبادة ابن ماء السماء قصيدته التي أوّلها (2) :

لك الخير خيرانٌ مضى لسبيله

وأصبح أمر الله في ابن رسوله وتمكّنت (3) أمور القاسم، وولّى وعزل، وقال وفعل، إلى أن كشف وجهه في خلع طاعته ابن أخيه يحيى بن علي، وكتب من سبتة إلى أكابر البرابر بقرطبة: إن عمي أخذ ميراثي من أبي، ثم إنّه قدّم في ولاياتكم التي أخذتموها بسيوفكم العبيد والسودان، وأنا أطلب ميراثي، وأولّيكم مناصبكم، وأجعل العبيد والسودان كما هم عند الناس، فأجابوه إلى ذلكن فجمع ما عنده من المراكب وأعانه أخوه إدريس صاحب مالقة، فجاز البحر بجمع وافر، وحصل بمالقة مع أخيه، وكتب له خيران صاحب المريّة مذكراً بما أسلفه في إعانة أبيه، وأكّد المودّة فقال له أخوه إدريس: إن خيران رجل خدّاع، فقال يحيى: ونحن منخدعون فيما لا يضرنا، ثم إن يحيى أقبل إلى قرطبة واثقاً بأن البرابر معه، ففرّ القسم إلى إشبيلية في خمسة فرسان من خواصّه ليلة السبت 28 من شهر ربيع الآخر سنة 412 (4) ، وحلّ يحيى بقرطبة، فبايعه البرابر والسودان وأهل البلد يوم السبت مستهل جمادى الآخرة، وكان يحيى من النجباء، وأمّه فاطميّة، وإنّما كانت آفته العجب واصطناع السّفلة،

(1) ك: اصطحباً.

(2)

ابن عذاري 3: 130 دون نسبة، وفي الذخيرة 1/1: 396 أن القصيدة لابن الحناط قالها في أبي القاسم بن حمود يصف خيران الصقلبي وقتل المرتضى الموراني.

(3)

ق ط: ومشت؛ ج: وتمت.

(4)

ك: 413.

ص: 486

واشتط أكابر البرابر عليه، وطلبوا ما وعدهم من إسقاط مراتب السودان، فبذل لهم ذلك، فلم يقنعوا منه، وصاروا يفعلون معه ما يخرق الهيبة ويفرغ بيت المال، وفر السودان إلى عمّه بإشبيلية، ومن البرابر ومن جند الأندلس من احتجب عنهم يحيى وتكبر عليهم، ولم يمل إليه ملوك الطوائف، وبقي منهم كثير على الخطبة لعمّه القاسم، إلى أن اختلّت الحال بحضرة قرطبة، وأيقن يحيى أنّه متى أقام بها قبض عليه، وكان قد ولّى على سبتة أخاه إدريس، وبلغه أن أهل مالقة خاطبوا خيران وكاتبوه، فطمع خيران فيها، وفرّ يحيى في خواصه تحت الليل إلى مالقة، ولمّا بلغ القاسم فراره ركب من إشبيلية إلى قرطبة، فخطب له بها يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة 413، ولم تصلح الحال للقاسم منذ وصل إلى الحضرة، ووقع الاختلاف، وكان هوى السودان معه، وهوى كثير من البرابر مع يحيى، وهو أهل قرطبة مع قائم من بني أميّة يشيعون ذكره ولا يظهر، وكثر الإرجاف بذلك، ووقع الطلب على بني أميّة فتفرّقوا في البلاد، ودخلوا في أغمار الناس، وأخفوا زيّهم، ثم إن الخلاف وقع بين البربر وأهل قرطبة، وتكاثر البلديون، وأخرجوا القاسم وبرابرته فضرب خيمة بغربيها، وقاتلهم مدّة خمسين يوماً قتالاً شديداً، وبنى القرطبيون أبواب مدينتهم، وقاتلوا القاسم من الأسوار إلى أن طال عليهم الحصار، فهدموا باباً من الأبواب وخرجوا خرجة رجل واحد وصبروا (1) فمنحهم الله تعالى الظفر، وفر السودان مع القاسم إلى إشبيلية، وفرّ البرابرة إلى يحيى وهو بمالقة، وكان فرار القاسم من ظاهر قرطبة يوم الخميس لثنتي عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 414.

وكان ابنه محمد بن القاسم والياً على إشبيلية، وثقته المدبر لأمره محمد بن زيري من أكابر البرابرة، وقاضيها محمد بن عباد، فعمل القاضي لنفسه، وهو

(1) في ق ك: وصفروا؛ وفي بعض النسخ: وظفروا.

ص: 487

جد المعتمد بن عباد، وأطمع ابن زيري في التملك، فأغلق الأبواب في وجه مصطنعه وحاربه، فقتل من البرابر والسودان خلق كثير، وابن عباد يضحك على الجميع، فيئس القاسم، وقنع أن يخرجوا إليه ابنه وأصحابه ويسير عنهم، فأخرجوهم إليه، فسار بهم إلى شريش. وعندما استقرّ بها وصل إليه يحيى ابن أخيه من مالقة ومعه جمع عظيم وحاصره في المدينة عشرين يوماً كانت فيها حروب صعاب، وقتل من الفريقين خلق كثير، وأجلت الحرب عن قهر يحيى لعمّه وإسلام أهل شريش له، وفرّ سودانه، وحصل القاسم وابنه في يد يحيى، وكان قد أقسم أنّه إن حصل في يده ليقتلنّه، ولا يتركه حتى يلي الإمامة بقرطبة مرّة ثانية، فرأى التربّص في قتله حتى يرى رأيه فيه، فحدّث عنه بعض أصحابه أنّه حمله بقيد إلى مالقة، وحبسه عنده، وكان كلّما سكر وأراد قتله رغّبه ندماؤه في الإبقاء عليه لأنّه لا قدرة له على الخلاص، وكان كلّما نام رأى والده عليّاً في النوم ينهاه عن قتله، ويقول له: أخي أكبر منّي، وكان محسناً إلي في صغري ومسلّماً لي عند إمارتي، الله الله فيه، وامتدت الحال على ذلك إلى أن قتله خنقاً بعد ثلاث عشرة سنة من حين القبض عليه، لأنّه كان قد حبسه في حصن من حصون مالقة، فنمي إليه أنّه قد تحدّث مع أهل الحصن في القيام والعصيان فقال: أو بقي في رأسه حديث (1) بعد هذا العمر؟ فقتله سنة 427، وبقي أهل قرطبة بعد فرار القاسم عنها نيّفاً عن شهرين يرون رأيهم فيمن يبايعونه بالإمامة.

ولمّا كان يوم الثلاثاء (2) نصف شهر رمضان سنة 414 أحضر المستظهر وسليمان بن المرتضى وأموي آخر معه، فبايعا المستظهر، وقبّلا يده بعدما كان قد كتب عقد (3) البيعة باسم سليمان بن المرتضى على ما ارتضاه الأماثل،

(1) ق: حدث.

(2)

قارن هذا بما في الذخيرة 1/1: 35 - 36.

(3)

ك: قبل البيعة.

ص: 488

فبشر اسمه، وكتب اسم المستظهر وركب إلى القصر، وحمل معه ابني عمّه المذكورين فحسبهما، وكان قد رفع جماعة من الأتباع ذهب بهم العجب كل مذهب، كأبي عامر ابن شهيد المنهمك (1) في بطالته، وأبي محمد ابن حزم المشهور بالرد على العلماء في مقالته، وابن عمّه عبد الوهاب بن حزم الغزل المترف في حالته، فأحقد بذلك مشايخ الوزراء والأكابر، وبادر المستظهر باصطناع البرابر، وأكرم مثواهم، وأحسن مأواهم، واشتغل مع ابن شهيد وابني حزم بالمباحثة في الآداب، ونظم الشعر والتمسّك بتلك الأهداب، والناس في ذلك الوقت أجهل ما يكون، وكان جماعة من أهل الشرّ في السجون يتعين أن لا يخرج منهم إنسان، فأخرج منهم شخصاً يقال له أبو عمران، وقد كان أشار بعض الوزراء عليه بعدم إخراجه، فأخرجه وخالفه في ذلك، ولم يقبل النصيحة، وفعل ما أداه إلى الفضيحة، فسعى القوم الذي خرجوا من الحبوس، على إفساد دولته وإبدال فرحه بالبوس، لما اشتغل عنهم بالأدباء والشعراء حسبما اقتضاه رأيه المعكوس، فسعوا في خلعه مع البرابر، وقتل في ذي القعدة من السنة التي بويع فيها وصار كأمس الدابر، بعد سبعة وأربعين يوماً من يوم بويع بالخلافة، وإذا أراد الله أمراً فلا يقد أحد أن يأتي خلافه، عمره ثلاث وعشرون سنة كأنّها سنة.

ومن شعر المستظهر المذكور، وهو من القريض الممدوح صاحب بالبلاغة المشكور (2) :

طال عمر اللّيل عندي

مذ تولّعت بصدّي

يا غزالاً نقض العه

د ولم يوف بوعد

؟ أنسيت العهد إذ بت

نا على مفرش ورد

(1) ق ط: المنهتك؛ ج: المتهتك.

(2)

مرت هذه الأبيات ص: 436.

ص: 489

واعتنقنا في وشاحٍ

وانتظمنا نظم عقد

ونجوم اللّيل تسري

ذهباً في لازورد وكتب إليه شاعر في طرسٍ مكشوط:

والطّرس مبشورٌ وفيه بشارةٌ

ببقا الإمام الفاضل المستظهر

ملك أعاد العيش غضّاً ملكه

وكذا يكون به طوال الأعصر فأجزل صلته، وكتب في ظهر الورقة:

قبلنا العذر في بشر الكتاب

لما أحكمت في فصل الخطاب وقد قدّمنا في الباب الثالث شيئاً من هذه الأخبار، وما حصل بعد ذلك بقرطبة إلى أن تولّى الأمر ابن جهور في صورة الوزارة، ثم ابنه، إلى أن أخذ قرطبة منه المعتمد بن عباد، حسبما ذكر في أخباره.

ثم آل الأمر بعد ذلك كلّه إلى استيلاء ملوك العدوة من الملثّمين والمرحّدين، على قرطبة، إلى أن تسلّمها النصارى، أعادها الله تعالى للإسلام، كما يذكر في الباب الثامن.

وقال صاحب " مناهج الفكر " في ذكر قرطبة، ما ملخصه: فأمّا ما اشتمل عليه غرب الجزيرة، من البلاد الخطيرة، فمنها قرطبة، وكانت مقر الملك، ودار الإمارة، وأمّ ما عداها من البلاد، منذ افتتحها المسلمون سنة 92 زمن الوليد بن عبد الملك إلى أن خرجت عن أيديهم، وتنقلت في أيدي ملوك المسلمين إلى أن وصلت إلى الناصر عبد الرحمن، فبنى في تجاهها مدينة سمّاها الزهراء، يجري بينهما نهر عظيم، انتهى.

[؟؟ استطراد في وصف المباني العامرة]

واعلم أن المباني دالة على عظيم قدر بانيها، كما ذكرناه في كلام الناصر

ص: 490

الذي طابت له من الزهراء مجانيها، ولم يزل البلغاء يصفون المباني، بأحسن الألفاظ والمعاني، ورأينا أن نذكر هنا بعض ذلك، زيادة في توسيع المسالك، فمن ذلك قول ابن حمديس الصقلي (1) يصف داراً (2) بناها المعتمد على الله (3) :

ويا حبّذا دار قضى الله أنّها

يجدّد فيها كلّ عزّ ولا يبلى (4)

مقدّسة لو أن موسى كليمه

مشى قدماً في أرضها خلع النّعلا

وما هي إلا خطّة الملك الذي

يخطّ إليه كلّ ذي أملٍ رجلا

إذا فتحت أبوابه خلت أنّها

تقول بترحيبٍ لداخلها أهلا

وقد نقلت صنّاعها من صفاته

إليها أفانيناً فأحسنت النّقلا

فمن صدره رحباً ومن نوره سناً

ومن صيته فرعاً ومن حلمه أصلا

فأعلت به في رتبة الملك نادياً

وقلّ له فوق السّماكين أن يعلى

نسيت به إيوان كسرى لأنّني

أراه له مولىً من الحسن لا مثلا

كأنّ سليمان بن داود لم تبح

مخافته للجنّ في صنعه مهلا

ترى الشمس فيه ليقةً تستمدّها

أكفٌّ أقامت من تصاويرها شكلا

لها حركاتٌ أودعت في سكونها

فما تبعت في نقلهن يدّ رجلا

ولمّا عشينا من توقّد نورها

تخذنا سناه في نواظرنا كحلا وقال من أخرى يصف دارا بناها المنصور بن أعلى الناس ببجاية (5) :

(1) أبو بكر عبد الجبار بن محمد بن حمديس الصقلي، هاجر من بلده إلى الأندلس وأصبح من مداح المعتمد بن عباد، إلى أن عزل عن ملكه (484) فغادر الأندلس إلى المغرب وظل متنقلاً يمدح ملوكها إلى أن توفي سنة 527 (انظر مقدمة ديوانه، ط. صادر - بيروت 1960) .

(2)

ك: في دار؛ ق: يمدح داراً.

(3)

المقتطفات (الورقة: 29) وديوان ابن حمديس: 278.

(4)

رواية الديوان:

ويا حبذا دار يد الله مسحت

عليها بتجديد البقاء فما تبلى (5) المقتطفات (الورقة: 30) وديوان ابن حمديس: 545 نقلاً عن النفح ونهاية الأرب ومطالع البدور.

ص: 491

اعمر بقصر الملك ناديك الذي

أضحى بمجدك بيته معمورا

قصرٌ لو أنّك قد كحلت بنوره

أعمى لعاد إلى المقام بصيرا

واشتقّ من معنى الحياة (1) نسيمه

فيكاد يحدث للعظام (2) نشورا

نسي الصبيح مع المليح (3) بذكره

وسما ففاق خورنقاً وسديرا

ولو أنّ بالإيوان قوبل حسنه

ما كان شيئاً عنده مذكورا

أعيت مصانعه على الفرس الألى

رفعوا البناء وأحكموا التّدبيرا

ومضت على الروم الدهور وما بنوا

لملوكهم شبهاً له ونظيرا

أذكرتنا الفردوس حين أريتنا

غرفاً رفعت بناءها وقصورا

فالمحسنون تزيّدوا أعمالهم

ورجوا بذلك جنّةً وحريرا

والمذنبون هدوا الصّراط وكفّرت

حسناتهم لذنوبهم تكفيرا

فلكٌ من الأفلاك إلا أنّه

حقر البدور فأطلع المنصورا

أبصرته فرأيت أبدع منظرٍ

ثمّ انثنيت بناظري مسحورا

وظننت أنّي حالمٌ في جنّةٍ

لمّا رأيت الملك فيه كبيرا

وإذا الولائد فتّحت أبوابه

جعلت ترحّب بالعفاة صريرا

عضّت على حلقاتهنّ ضراغمٌ

فغرت بها أفواهها تكشيرا (4)

فكأنهّا لبدت لتصهر عندها

من لم يكن بدخوله مأمورا

تجري الخواطر مطلقات أعنّةٍ

فيه فتكبو عن مداه قصورا

بمرخّم الساحات تحسب أنّه

فرش المها وتوشّح الكافورا

ومحصّب بالدّرّ تحسب تربه

مسكاً تضوّع نشره وعبيرا

تستخلف الأبصار منه إذا أتى (5)

صبحاً على غسق (6) الظلام منيرا

(1) ك: الجنان.

(2)

ك: بالعظام.

(3)

ك: الفصيح.

(4)

ك: تكبيرا.

(5)

ق ج ط: تستخلف الاصباح منه إذا انقضى.

(6)

ق ج ط: عنق.

ص: 492

ثم ذكر بركة فيه عليها أشجار من ذهب وفضّة ترمي فروعها المياه، وتفنن فذكر أسوداً على حافاتها قاذفة بالمياه أيضاً، فقال (1) :

وضراغم سكنت عرين رياسةٍ

تركت خرير الماء فيه زئيرا

فكأنّما غشّى النّضار جسومها

وأذاب في أفواهها البلّورا

أسدٌ كأنّ سكونها متحرّك

في النّفس لو وجدت هناك مثيرا

وتذكّرت فتكاتها فكأنّما

أقعت على أدبارها لتثورا

وتخالها والشّمس تجلو لونها

ناراً وألسنها اللّواحس نورا

فكأنّما سلّت سوف جداول

ذابت بلا ناءٍ فعدن غديرا

وكأنّما نسج النّسيم لمائه

درعاً فقدّر سردها تقديرا

وبديعة الثمرات تعبر نحوها

عيناي بحر عجائبٍ مسجورا

شجريّة ذهبيّة نزعت إلى

سحرٍ يؤثر في النّهى تأثيرا

قد صولجت أغصانها فكأنّما

قنصت بهنّ (2) من الفضاء طيورا

وكأنّما تأبى لواقع (3) طيرها

أن تستقلّ بنهضها وتطيرا

من كلّ واقعةٍ ترى منقارها

ماءً كسلسال اللّجين نميرا

خرس تعدّ من الفصاح فإن شدت

جعلت تغرّد بالمياه صفيرا

وتريك في الصّهريج موقع قطرها

فوق الزّبرجد لؤلؤاً منثورا

ضحكت محاسنه إليك كأنّما

جعلت لها زهر النجوم ثغورا

ومصفّح الأبواب تبراً نظّروا

بالنقش فوق شكوله (4) تنظيرا

تبدو مسامير النّضار كما علت

تلك النّهود من الحسان صدورا (5)

(1) المقتطفات (الورقة: 30) وديوان ابن حمديس: 547.

(2)

ق ج ط: قد صوبحت

قبضت بهن.

(3)

ك: لوقع.

(4)

ق ط ج: بين شكوله.

(5)

ق ك ج ط: من الجنان صدوراً.

ص: 493

خلعت عليه غلائلاً ورسيةً (1)

شمسٌ تردّ الطّرف عنه حسيرا

وإذا نظرت إلى غرائب سقفه

أبصرت روضاً في السماء نضيرا

وعجبت من خطّاف عسجده التي

حامت لتبني في ذراه وكورا

وضعت به صنّاعه (2) أقلامها

فأرتك كلّ طريدةٍ تصويرا

وكأنّما للشمس فيه ليقةٌ

مشقوا بها التزويق والتّشجيرا

وكأنّما باللاّزورد (3) مخرّمٌ

بالخطّ في ورق السّماء سطورا

وكأنّما وشّوا عليه ملاءة

تركوا مكان وشاحها مقصورا ثم مدح المنصور بعد ذلك، وختم القصيدة بقوله:

يا مالك الأرض الذي أضحى له

ملك السماء على العداة نصيرا

كم من قصورٍ للملوك تقدّمت

واستوجبت بقصورك (4) التأخيرا

فعمرتها وملكت كلّ رياسةٍ

منها ودمّرت العدا تدميرا قلت: لم أر لهذه القصيدة من نظير، في معناها اليانع النّضير، ولفظها العذب النّمير، الذي شمّر فيه قائلها عن ساعد الإجادة أيّ تشمير، غير أن فيها عندي عيباً واحداً، وهو ختمها بلفظ التدمير، وعلى كل حال فالحسن والإحسان، يقادان في أرسان، لعبد الجبار بن حمديس المذكور ذي المقاصد الحسان، وخصوصاً في وصف المباني والبرك، فما أبقى لسواه في ذلك حسناً ولا ترك.

ومن ذلك قوله في وصف بركة تجري إليها المياه من شاذروان من أفواه

(1) ق: موشية.

(2)

ك: صناعها.

(3)

ك: اللازورد فيه.

(4)

ق: لقصورك.

ص: 494

طيور وزرافات وأسود، وكل ذلك في قصر أطنب في وصفه في قصيدة طويلة (1) :

والماء منه سبائكٌ فضيّةٌ (2)

ذابت على دوحات (3) شاذروان وكأنّما سيفٌ هناك مشطّبٌ ألقته يوم الحرب كفّ جبان

كم شاخصٍ فيه يطيل تعجّباً

من دوحة نبتت (4) من العقيان

عجباً له تسقي الرياض ينابعاً

نبعت من الثمرات والأغصان

خصّت بطائرة على فننٍ لها

حسنت فأفرد حسنها من ثاني

قسّ الطيور الخاشعات بلاغةً

وفصاحةً من منطقٍ وبيان

فإذا أتيح الكلام تكلّمت

بخرير ماء دائم الهملان

وكأنّ صانعها استبدّ بصنعةٍ

فخر الجماد بها على الحيوان

أوفت على حوضٍ لها فكأنّها

منها على العجب العجاب رواني

فكأنّها ظنّت حلاوة مائها

شهداً فذاقته بكلّ لسان

وزرافة في الجوف من أنبوبها

ماء يريك الجري في الطيران

مركوزة كالرمح حيث ترى له

من طعنه الخلق انعطاف سنان

وكأنّما ترمي السماء ببندقٍ

مستنبطٍ من لؤلؤ وجمان

لو عاد ذاك الماء نفطاً أحرقت

في الجوّ منه قميص كلّ عنان

في بركةٍ قامت على حافاتها

أسدٌ تذلّ لعزّة السلطان

نزعت إلى ظلم النفوس نفوسها

فلذلك انتزعت من الأبدان

وكأنّ برد الماء منها مطفئ

ناراً مضرّمةً من العدوان

وكأنّما الحيّات من أفواهها

يطرحن أنفسهنّ في الغدران

وكأنّما الحيتان إذ لم تخشها

أخذت من المنصور عقد أمان

(1) المقتطات (الورقة: 32) وديوان ابن حمديس: 495، ونهاية الأرب.

(2)

ك: من فضة.

(3)

ك: درجات.

(4)

ق ج ط: بنيت.

ص: 495

وهاتان القصيدتان لابن حمديس - كما في المناهج - مع طولهما تدلان على الإبداع الذي ابتكره، والاختراع الذي ما ولج سمع أحدٍ من الفضلاء إلا شكره (1) .

وقال أبو الصّلت أميّة بن عبد العزيز الأندلسي (2) يصف قصراً بمصر يسمى منزل العز بناه حسن بن علي [بن يحيى] بن تميم بن المعزّ العبيدي (3) :

منزل العزّ كاسمه معناه

لا عدا العزّ من به سمّاه

منزلٌ ودّت المنازل في أع

لى ذراه لو صيّرت إيّاه

فأجل فيه لحظ عينيك تبصر

أيّ حسنٍ دون القصور حواه

سال في سقفه النّضار ولكن

جمدت في قراره الأمواه

وبأرجائه مجال طرادٍ

ليس تنفكّ من وغىً خيلاه

تبصر الفارس المدجّج فيه

ليس تدمى من الطعان قناه

وترى النابل المواصل للنز

ع بعيداً من قرنه مرماه

وصفوفاً من الوحوش وطير ال

جوّ كلٌّ مستحسنٌ مرآه

سكناتٌ تخالها حركاتٍ

واختلافٌ كأنّه إشباه

(1) زاد في ك: لما أسكره.

(2)

أبو الصلت أمية بن عبد العزيز: ولد بدانية سنة 460 ثم رحل إلى الإسكندرية أيام الخليفة الفاطمي المستنصر الله أبي تميم معد، وسجن بمصر مدة، ثم عاد إلى المغرب فاتصل بيحيى بن تميم بن المعز بن باديس الصنهاجي؛ وتوفي (سنة 529) وكان أبو الصلت طبيباً شاعراً ومن مؤلفاته كتاب الحديقة، والرسالة المصرية (وقد نشرت هذه بتحقيق عبد السلام هارون في سلسلة نوادر المخطوطاتا، القاهرة 1951) . انظر ترجمته في ابن أبي أصيبعة 2: 52 ومعجم الأدباء 7: 52 وتحفة القادم ص: 3 ووفيات الأعيان 1: 220 وتاريخ الحكماء: 80 والمغرب 1: 256.

(3)

كلمة العبيدي هنا مضللة لأن " حسن بن علي بن تميم بن المعز " أحد سلاطين بني زيري بالقيروان وكان المعز عبيدياً التبعية أي يدين للعبيديين ولكنه تنكر لهم سنة 441 وعاد إلى مذهب أهل السنة؛ وحسن لا يبني قصراً بمصر، ولابد من أن يكون المقري قد وهم فذكر قصراً بناه أحد العبيدين بمصر أو بناه حسن بالمهدية. أما الشاعر تميم ن المعز العبيدي فكان عقيماً (الحلة 1: 291) .

ص: 496

كمحّيا الحبيب حرفاً بحرفٍ

ما تعدّى صفاته إذ حكاه

ورده وجنتاه، نرجسه الفت

ان عيناه، آسه عارضاه

وكأنّ الكافور والمسك في الطي

ب وفي اللون صبحه ومساه

منظرٌ يبعث السرور ومرأى

يذكر المرء طيب عصر صباه وقال أبو الصّلت أميّة الأندلسي المذكور يذكر بناء بناه عليّ (1) بن تميم ابن المعزّ العبيدي:

لله مجلسك المنيف قبابه

بموطّدٍ فوق السّماك (2) مؤسّس

موفٍ على حبك المجرّة تلتقي

فيه الجواري بالجواري الكنّس

تتقابل الأنوار من جنباته

فالليل فيه كالنّهار المشمس

عطفت حناياه دوين سمائه

عطف الأهلّة والحواجب والقسي

واستشرفت عمد الرخام وظوهرت

بأجلّ من زهر الربيع وأنفس

فهواؤه من كلّ قدّ أهيفٍ

وقراره من كلّ خدٍّ أملس

فلكٌ تحيّر فيه كلّ منجّمٍ

وأقرّ بالتقصير كلّ مهندس

فبدا للحظ العين أحسن منظرٍ

وغدا لطيب العيش خير (3) معرّس

فاطلع به قمراً إذا ما أطلعت

شمس الخدور عليك شمس الأكؤس

فالناس أجمع دون قدرك رتبةً

والأرض أجمع دون هذا المجلس ويعجبني قول أبي الصّلت أميّة المذكور يصف حال زيادة النيل ونقصانه:

ولله مجرى النيل منها إذا الصّبا

أرتنا به من مرّها عسكراً مجرا

إذا زاد يحكي الورد لوناً وإن صفا

حكى ماءه لوناً ولم يعده نشرا (4)

(1) تحفة القادم: يحيى بن تميم.

(2)

ق ج ط: السماء.

(3)

ك: طيب.

(4)

ك: ولم يحكه مرا.

ص: 497

وقال رحمه الله تعالى يصف الرصد الذي بظاهر مصر:

يا نزهة الرصد اللائي قد اشتملت

من كلّ شيء حلا في جانب الوادي (1)

فذا غديرٌ، وذا روض، وذا جبل

والضبّ والنّون والملاّح والحادي وهو مأخوذ من قول الأول يصف قصر أنس بالبصرة (2) :

زر وادي القصر، نعم القصر والوادي

لا بدّ من زورة من غير ميعاد

زره فليس له ندٌّ يشاكله

من منزلٍ حاضرٍ إن شئت أو بادي

تلقى به السّفن والظلمان حاضرةً

والضبّ والنون والملاّح والحدي وقال رحمه الله تعالى يذكر الهرمين (3) :

بعيشك هل أبصرت أحسن منظراً

على طول ما عاينت من هرمي مصر

أنافا بأعنان (4) السّماء، وأشرفا

على الجوّ إشراف السّماك أو النّسر (5)

وقد وافيا نشزاً من الأرض عالياً

كأنهما ثديان (6) قاما على صدر وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في الباب الخامس.

وعلى ذكر الأنهار والبرك فما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف بركة عليها عدّة فوّارات (7) :

غضبت مجاريها فأظهر غيظها

ما في حشاها من خفيّ مضمر

(1) ق ط: النادي.

(2)

الشعر لابن أبي عيينة المهلبي كما في الأغاني 20: 37 (دار الثقافة) ومعجم البلدان (قصر عيسى) مع بعض اختلاف في الرواية.

(3)

الأبيات في مسالك الأبصار 1: 237 وبدائع البدائه: 136 (ط. بولاق) .

(4)

ك: بأكناف.

(5)

ك: على النسر.

(6)

ك: نهدان.

(7)

المقتطفات (الورقة: 33) .

ص: 498

وكأنّ نبع الماء من جنباتها

والعين تنظر منه أحسن منظر

قضبٌ من البلّور أثمر فرعها

لمّا انتهت باللؤلؤ المتحدّر وقال ابن صارة الأندلسي (1) يصف ماء بالرقة والصفاء (2) :

والنّهر قد رقّت غلالة خصره

وعليه من صبغ الأصيل طراز

تترقرق الأمواج فيه كأنّها

عكن الخصور تهزها الأعجاز وما أحسن قول بعض الأدباء ولم يحضرني الآن اسمه (3) :

والنّهر مكسوٌّ غلالة فضّةٍ

فإذا جرى سيلاً فثوب نضار

وإذا استقام رأيت صفحة منصلٍ

وإذا استدار رأيت عطف سوار وقال ابن حمديس المغربي يصف نهراً بالصفاء (4) :

ومطّرد الأمواج يصقل متنه

صباً أعلنت للعين ما في ضميره

جريح بأطراف الحصى كلّما جرى

عليها شكا أوجاعه بخريره وهذا النهج متّسع، ولم نطل السير في هذه المهامه، وإنّما ذكرنا بعض كلام المغاربة ليتنبه به منتقصهم من سنة أوهامه، ولأن في أمرها عبرة لمن عقل، إذا أصدأ مرآة حسنها ولطالما كان لمتنها صقل.

(1) ابن صارة الأندلسي: أبو محمد عبد الله بن صارة الشنتريني (ويكتب أيضاً: سارة بالسين) سكن إشبيلية وتعيش فيها بالوراقة وتجول في بلاد الأندلس مادحاً (توفي سنة 517) . انظر ترجمته في الذخيرة، القسم الثالث: 323 والمغرب 1: 419 والقلائد: 260 والتكملة: 816 ومسالك الأبصار 11: 383 وأخبار وتراجم أندلسية: 15؛ وهذه الأبيات في المتطفات (الورقة: 33) .

(2)

زاد في ك: يجري على الصفا.

(3)

المقتطفات (الورقة: 33) .

(4)

ديوان ابن حمديس: 186 والمقتطفات (الورقة: 33) .

ص: 499

[البكاء على خراب العمران]

وقد وقفت على كلام لصاحب المناهج في هذا المعنى فأحببت ذكره ملخصاً، وهو: ونلحق بذكر المنازل التي راق منظرها، وفاق مخبرها، وارتفع بناؤها، واتسع فناؤها، طرفاً من الكلام على ما عفاه الدهر من رسومها، ومحاه من محاسن صور كانت أرواحاً لجسومها. وصف أعرابي محلة قومٍ ارتحلوا عنها فقال نثراً: ارتحلت عنها ربّات الخدور، وأقامت بها أثافيّ القدور، ولقد كان أهلها يعفون آثار الرياح فعفت الرياح آثارهم، وذهبت بأبدانهم وأبقت أخبارهم، والعهد قريب، واللقاء بعيد.

وقال عمر بن أبي ربيعة فأحسن (1) :

يا دار أمسى دارساً رسمها

وحشاً قفاراً ما بها آهل

قد جرّت الريح بها ذيلها

واستنّ في أطلالها الوابل ومن كلام الفتح بن خاقان، في قلائد العقيان، يذكر آل عبّاد من فصل أكثر فيه التفجّع، وأطال به التوجّع (2) : والغصون (3) تختال في أدواحها، والأزاهر يحيي ميت الصبابة شذا أرواحها (4) ، وأطيار الرياض (5) قد أشرفت عليهم (6) كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدار منها غراب ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلّصت ظلالها وأفياءها، ولطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من

(1) ديوان عمر: 301.

(2)

قلائد العقيان: 10.

(3)

ق ك ج ط: والقصور.

(4)

القلائد: وتتثنى في أكف أرواحها.

(5)

القلائد: وآثار الديار.

(6)

قد أشرفت عليهم: زيادة من القلائد.

ص: 500

شذاهم وأرجت (1) ، أيّام نزلوا خلالها، وتفيّأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجنّاتها، ونبّهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها، فأصبحت ولها بالتداعي (2) تلفّع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلاّ نؤي وأحجاء، قد هوت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيّه الجديد.

وقال أبو صخر القرطبي يذكر ذلك من أبيات ينعاهم بها:

ديار عليها من بشاشة أهلها

بقايا تسرّ النفس أنساً ومنظرا

ربوع كساها المزن من خلع الحيا

بروداً وحلاّها من النّور جوهرا

تسرّك طوراً ثمّ تشجيك تارةً

فترتاح تأنيساً وتشجى تذكّرا ومن كلام أبي الحسن القاشاني يصف نادي رئيسٍ خلا من ازدحام الملا، وعوّضه الزمان من تواصل أحبابه هجراً وقلى: " قد كان منزله مألف الأضياف، ومأنس الأشراف، ومنتجع الرّكب، ومقصد الوفد، فاستبدل بالأنس وحشة، وبالضياء ظلمة، واعتاض من تزاحم المواكب، تلاطم النّوادب، ومن ضجيج النداء والصّهيل، عجيج البكاء والعويل.

ومن رسالة لابن الأثير الجزريّ يصف دمنة دارٍ (3) لعبت بها أيدي الزمن، وفرقت بين المسكن والسكن: كانت مقاصير جنّة، فأصبحت وهي ملاعب جنّة، وعميت أخبار قطّنها، وآثار أوطانها، حتى شابهت إحداهما في الخفاء، والأخرى في العفاء، وكنت أظن أنّها لا تسقى بعدهم بغمام، ولا يرفع عنها جلباب ظلام، غير أن السحاب بكاهم فأجرى بها هوامع دموعه، واللّيل شقّ عليهم جيوبه فظهر الصباح من خلال صدوعه ".

(1) ك: وتأرجت.

(2)

بالتداعي: زيادة من القلائد.

(3)

دار: سقطت من ك.

ص: 501

وقد لمح في تعض كلامه قول الشريف (1) من أبيات يصف فيها ما كان في الحيرة من منازل النعمان بن المنذر (2) :

ما زلت أطّرق المنازل باللّوى

حتى نزلت منازل النّعمان

بالحيرة البيضاء حيث تقابلت

شمّ العماد عريضة الأعطان

شهدت بفضل الرّافعين قبابها

ويبين بالبنيان فضل الباني

ما ينفع الماضين أن بقيت لهم

خططٌ معمّرةٌ بعمرٍ فاني يقول فيها:

ولقد رأيت بدير هندٍ منزلاً

ألماً من الضّرّاء والحدثان

يغضي كمستمع الهوان تغيّبت

أنصاره وخلا من الأعوان

بالي المعالم أطرقت شرفاته

إطراق منجذب القرينة عاني

أمقاصر الغزلان غيّرك البلى

حتى غدوت مرابض الغزلان

وملاعب الإنس الجميع طوى الرّدى

منهم فصرت ملاعب الجنّان ومنها:

مسكيّة النّفحات تحسب تربها

برد الخليع معطّر الأردان

وكأنّما نسي التّجار لطيمةً

جرت الرّياح بها على القيعان (3)

ماء كجيب الدّرع يصقله الصّبا

ويفي بدوحته (4) النّسيم الواني

زفر الزّمان عليهم فتفرّقوا

وجلوا عن الأوطار والأوطان

(1) يعني الشريف الرضي.

(2)

ديوان الشريف 2: 468.

(3)

ق ك والديوان: العقيان.

(4)

الديوان: ونقا يدرجه.

ص: 502

وقال أبو إسحاق الصابي، وتوارد مع الشريف الرضي في بالمعنى والقافية، يصف قصر روحٍ بالبصرة (1) :

أحبب إليّ بقصر روحٍ منزلاً

شهدت بنيته بفضل الباني

سورٌ علا وتمنّعت شرفاته

فكأنّ إحداهنّ هضب أبان

وكأنّما يشكو إلى زوّاره

بين الخليط وفرقة الجيران

وكأنّما يبدي لهم من نفسه

إطراق محزون الحشا حرّان ولأحمد بن فرج الإلبيري من الأبيات:

سالت بها فما ردّت جواباً

عليك، وكيف تخبرك الطّلول؟

ومن سفه سؤالك رسم دارٍ

مضى لعفائه زمنٌ طويل

فإن تك أصبحت قفراً خلاء

لعينك في مغانيها همول

فقدماً قد نعمت قرير عينٍ

بها وبربعها الرشأ الكحيل وقال أبو عبد الله بن الحنّاط (2) الأندلسي الأعمى:

لو كنت تعلم ما بالقلب من نار

لم توقد النار بالهنديّ والغار

يا دار علوة قد هيّجت لي شجناً

وزدتني حرقاً، حيّيت من دار

كم بتّ فيك على اللذّات معتكفاً

واللّيل مدّرعٌ ثوباً من القار

كأنّه راهبٌ في المسح ملتحفٌ

شدّ المجدّ له وسطاً بزنّار

يدير فيه كؤوس الراح ذو حورٍ

يدير من طرفه (3) ألحظ سحّار ولا مزيد في التفجّع على الديار والتوجع للدمن والآثار، على قول البحتري من قصيدة يرثي بها المتوكّل (4) :

(1) أبيات الصابي في اليتيمة 2: 269.

(2)

في الأصول: ابن الخياط.

(3)

ك: من لحظه.

(4)

ديوان البحتري: 1045 (القصيدة رقم: 413) .

ص: 503

محلّ على القاطول أخلق داثره

وعادت صروف الدهر جيشاً تغاوره (1)

كأن الصّبا توفي نذوراً إذا انبرت

تراوحه أذيالها وتباكره

وربّ زمانٍ ناعمٍ ثمّ عهده

ترقّ حواشيه ويونق ناضره

تغيّر حسن الجعفريّ وأنسه

وقوّض بادي الجعفريّ وحاضره (2)

تحمّل عنه ساكنوه فجاءة

فعادت سواء دوره ومقابره

إذا نحن زرناه أجدّ لنا الأسى

وقد كان قبل اليوم يبهج زائره

ولم أنس وحش القصر إذ ريع سربه

وإذ ذعرت أطلاؤه وجآذره

وإذ صيح فيه بالرحيل فهتّكت

على عجلٍ أستاره وستائره

وأوحشه (3) حتى كأن لم يكن (4) به

أنيسٌ ولم تحسن لعينٍ مناظره

كأن لم تبت (5) في الخلافة طلقة

بشاشتها والملك يشرق زاهره

ولم تجمع الدّنيا إليه بهاءها

وبهجتها والعيش غضٌّ مكاسره

فأين الحجاب الصعب حيث تمنّعت

بهيبتها أبوابه ومقاصره

وأين عميد الناس في كل نوبة

تنوب وناهي الدهر فيهم وآمره وعلى قول أبي إسحاق بن خفاجة الأندلسي (6) :

ومرتبعٍ حططت الرحل فيه

بحيث الظّلّ والماء القراح

تخرّم حسن منظره مليكٌ

تخرّم ملكه القدر المتاح

فجرية ماء جدوله بكاء

عليه، وشدو طائره نواح وهذا النوع من البكاء على الدمن، والتأسف على ما فعلت بها أيدي الزمن،

(1) القاطول: نهر كان في موضع سامرا قبل عمرانها؛ وفي ق ك ج ط: تغادره.

(2)

الجعفري: قصر للمتوكل.

(3)

الديوان: ووحشه.

(4)

ق ط ج: لم يقم.

(5)

ق ك: تبن.

(6)

ديوان ابن خفاجة: 137، يقولها في صفة مصنع جميل خلع سلطانه.

ص: 504

كثير جدّاً، لا يعرف الباحث عنه له حدّاً، وذلك لشدة ولوع النفوس بذكر أحبابها، وحنينها إلى أماكنها التي هي مواطن أطرابها، ولهذا اقتصرنا على هذه النبذة القليلة، وجعلناها نغبة (1) يشفي المشوق بها غليله، وقد كره بعض العقلاء التأسف على الديار لعلمهم أنّه لا يجدي، ولا يدفع عادية الدهر الخؤون ولا يعدي، ونهوا عنه لما فيه من تجديد المصاب، المجرّع لصاحبه الصاب والأوصاب.

قال أبو عمر بن عبد البر:

عفت المنازل غير أرسم دمنة

حيّيتها من دمنةٍ ورسوم

كم ذا الوقوف ولم تقف في منسكٍ

كم ذا الطواف ولم تطف بحريم

فكل الديار إلى الجنائب والصّبا

ودع القفار إلى الصدى والبوم انتهى كلامه رحمه الله تعالى بأكثر لفظه مع بعض اختصار.

رجع إلى قرطبة - فنقول:

[رسائل للسان الدين]

وقد ألمّ لسان الدين بن الخطيب رحمه الله تعالى بذكر قرطبة وبعض أوصافها في كتاب له كتبه على لسان سلطانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه بجملته في الباب الخامس من القسم الثاني فليراجع ثمّة، ونص محلّ الحاجة منه هنا: ثم كان الغزو إلى أم البلاد، ومثوى الطارف والتّلاد، قرطبة، وما قرطبة؟ المدينة التي على عمل أهلها في القديم بهذا الإقليم كان العمل، والكرسيّ الذي بعصاه رعي الهمل، والمصر الذي له في خطّة المعمور الناقة والجمل (2) ، والأفق الذي هو لشمس الخلافة العبشمية الحمل، فخيم الإسلام

(1) ك: نبعة؛ هامش ج: بلغة.

(2)

ك: والمصر والمعمور الذي

الخ.

ص: 505

في عقوتها (1) المستباحة، وأجاز نهرها المعيي على (2) السباحة، وعمّ دوحها الأشب بواراً، وأدار المحلاّت بسورها سواراً، وأخذ بمخنّقها حصاراً، وأعمل النصر بشجرة أصلها اجتناء ما شاء واهتصاراً، وجدّل من أبطالها من لم يرض جهاراً، ورفعت الأعلام إعلاماً بعزّ الإسلام وإظهاراً، فلولا استهلال الغوادي، وأن أتى الوادي، لأفضت إلى فتح الفتوح تلك المبادي، ولقضى تفثه العاكف البادي. انتهى.

وممّا كتب به لسان الدين - رحمه الله تعالى - في وصف هذه الغزوة لسلطان بني مرين على لسان صاحب الأندلس، ما صورته: المقام الذي نطالعه بأخبار الجهاد، ونهدي إليه عوالي العوالي صحيحة الإسناد، ونبشره بأخبار الفتح البعيد الآماد، ونسأل الله تعالى له توالي الإسعاف ودوام الإسعاد والإمداد (3) ، ونرتقب من صنع الله تعالى على يديه تكييفاً يخرق حجاب المعتاد، وامتعاضاً يطلع بآفاق البلاد نجوم غرر الجياد، ويفتح أبوا بالفتوح بأقاليد السيوف الحداد، وينبئ عن مكارم من سلف من الآباء الكرام والأجداد، مقام محل أخينا الذي نستفتح له بالفتح والظهور، ونهدي إلى مجده لما نعلم من فضل نيّته وحسن قصده لطائف السرور، ونستظهر بملكه المؤيد (4) المؤمّل ومجده المشهور، ونتوعد منهما العدوّ بالحبيب المذخور والولي المنصور، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى عالي القدر، قرير العين منشرح الصدر، ولا زال حديث فخره سائراً مسير الشمس والبدر، عظّم سلطانه الخليق بالتعظيم، الواثق منه بالذّخر الكريم، المثني على

(1) ك: في عفرتها؛ ق ط: بعقرتها، والعقوة - بالواو -: الساحة.

(2)

ك: المغني عن.

(3)

ك: توالي الأسعار والأمداد؛ وسقطت " الأمداد " من ط ج.

(4)

المؤيد: زيادة في ك.

ص: 506

مجده الصّميم وفضله العميم، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمد ابن أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن فرج بن نصر: سلام كريم، برّ عميم، يخص مقامكم الأعلى، وأخوّتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله ربّ العباد، وملهم الرشاد، ومكيّف الإسعاف والإسعاد، الولي النصير الذي نلقي إلى التوكّل عليه مقاليد الاعتماد، ونمد إلى إنجاده (1) أيدي الاعتداد، ونرفع إليه أكفّ الاستمداد، ونلخص لوجهه الكريم عمل الجهاد، فنتعرّف عوارف الفضل المزداد، ونجتني ثمار النصر من أغصان القنا الميّاد، ونجتلي وجوه الصنع الوسيم أبهر من وجه الصباح الباد، ونظفر بالنعيم العاجل في الدنيا والنعيم الآجل يوم قيام الأشهاد، ونتفيّأ ظلال الجنّة من تحت أوراق السيوف الحداد، والصلاة على سيّدنا ومولانا محمّد رسوله النبيّ الهاد، رسول الملحمة المؤيّد (2) بالملائكة الشداد، ونبيّ الرحمة الهامية العهاد، أكرم الخلق بين الرائح والغائد، ذي اللواء المعقود والحوض المورود والشفاعة في يوم التّناد، الذي بجاهه نجدع أنوف الآساد يوم الجلاد، وببكرته ننال أقصى الأمل والمراد، وفي مرضاته نصل أسباب الوداد، فنعود بالتّجر الرابح من مرضاة رب العباد، ونستولي من ميدان السعادة المعادة على الآماد، والرضى عن آله وصحبه وأنصاره وحزبه الكرماء الأمجاد، دعائم الدين من بعده وهداة العباد، أنجاد الأنجاد وآساد الآساد، الذين ظاهروه في حياته بالحلوم الراجحة الأطواد، والبسالة التي لا تنال بالعدد في سبيل الله والأعداد، حتى بوّأوا الإسلام في القواعد الشهيرة والبلاد، وأرغموا أنوف أهل الجحد والإلحاد، فأصبح الدين رفيع العماد، منصور العساكر والأجناد، مستصحب العزّ في الإصدار والإيراد، والدعاء لمقامكم الأعلى بالسّعد الذي يغني عن اختيار الطوالع وتقويم الميلاد، والنصر الذي تشرق أنباؤه في

(1) ك: انجاده وامداده.

(2)

ط: المؤيدة.

ص: 507

جنح ليل المداد، والصنع الذي شرع له أبواب التوفيق والسّداد، من حمراء غرناطة حرسها الله واليسر وثيق المهاد (1) ، والخير واضح الأشهاد، والحمد لله في المبدإ والمعاد، والشكر له على آلائه المتصلة التّرداد، ومقامكم الذخر الكافي العتاد، والمردد المتكفّل بالإنجاد، وإلى هذا وصل الله سعدكم، وحرس مجدكم، ووالى نصركم وعضّدكم (2) وبلغكم من فضله العمين أملكم وقصدكم، فإنّنا نؤثر تعريفكم بتافه المتزايدات (3) ، ونورد عليكم أشتات (4) الأحوال المتجدّدات، إقامةً لرسم الخلوص في التعريف بما قلّ، ومودة خالصة في الله، عز وجل، فكيف إذا كان التعريف بما تهتز منابر الإسلام ارتياحاً لوروده، وتنشرح الصدور منه لمواقع فضل الله وجوده، والمكيّفات البديعة الصفات في وجوده، وهو أنّنا قدّمنا إعلامكم بما نويناه من غزو مدينة قرطبة أمّ البلاد الكافرة، ومقر الحمية المشهودة (5) والخيرات الوافرة، والقطر الذي عهده بإلمام الإسلام متقادم، والركن الذي لا يتوقّع صدمة صادم، وقد اشتمل سورها من زعماء ملّة الصليب على كل رئيس بئيس (6) ، وهزبر ootnote>7، وذي مكر وتلبيس، ومن له سمة تذيع مكانه وتشيعه، وأباع على المنشط والمكره تطيعه، فاستدعينا المسلمين من أقاصي البلاد، وأذعنا في الجهات نفير الجهاد، وتقدّمنا إلى الناس بسعة الأزواد، وأعطينا الحركة التي تخلف المسلمون فيها وراءهم جمهور الكفر من الأقطار والأعداد حقّها من الاستعداد، وأفضنا (8) العطاء والاستلحاق والاستركاب في أهل الغناء

(1) ك: قد وطأ المهاد.

(2)

زاد في ك: وعددكم وعددكم.

(3)

ق: المستزيدات.

(4)

ق: بعد الشتات.

(5)

ق: الشهيرة.

(6)

بئيس: سقطت من ق.

(8)

ك: وأقصينا.

ص: 508

وأبطال الجلاد، فحشر الخلق في صعيد، وأخذوا الأهبة والزينة في عيد سعيد، وشمل الاستدعاء كل قريب وبعيد عن وعد ووعيد، ورحلنا وفضل الله شامل، والتوكّل عليه كافٍ كافل، وخيّمنا بظاهر الحضرة حتى استوفى الناس آرابهم، واستكملوا أسرابهم، ودسنا منهم بلاد النصارى بجموع كثرها الله وله الحمد وأنماها، وأبعد في التماس ما عنده من الأجر منتماها، وعندما حللنا قاشرة (1) وجدنا السلطان دون بطره مؤمل نصرنا وإنجادنا، ومستعيد حظّه من لواحق (2) جهادنا، ومقتضي دين كدحه بإعانتنا إيّاه وإنجادنا، قد نزل بظاهرها في محلات ممّن استقر على دعوته، وتمسّك بطاعته، وشمله حكم جماعته، فكان لقاؤنا إيّه على حالٍ أقرّت عيون المسلمين، وتكفّلت بإعزاز الدين، ومجملها يغني عن التعيين، والشرح والتبيين، ورأى هو ومن معه من وفور جيش الله ما هالهم، وأوشكّ في حال اليقظة خيالهم، من جموع تسدّ الفضا، وأبطال تقارع أسود الغضا، وكتائب منصورة، ورايات منشورة، وأمم محشورة، تفضل عن مرأى العين، وترجي العدوّ في مهاوي الحين، فاعترفوا بما لم يكن في حسابهم، واعتبر في عزّة الله سبحانه أولو ألبابهم، وإذا كثّر الله تعالى العدد نما وزكا، وإذا أزاح العلل ما اعتذر غازٍ ولا شكا، وسالت من الغد الأباطح بالأعراف، وسمت الهوادي إلى الاستشراف، وأخذ الترتيب حقّه من المواسط الجهاديّة والأطراف، وأحكمت التعبية التي لا ترى العين فيها خللاً، ولا يجد الاعتبار (3) عندها دخلاً، وكان النزول على فرسخ من عدوة النهر الأعظم من خارج المدينة أنجز الله تعالى وعد دمارها، وأعادها إلى عهدها في الإسلام وشعارها، ومحا ظلام الكفر من آفاقها بملة الإسلام وأنوارها، وقد برزت من حاميتها شوكة سابغة الدروع، وافرة الجموع، واستجنّت

(1) قاشرة: ذكر ياقوت أنها من أحواز لبلة؛ وفي اللمحة البدرية: قشرة؛ وفي ق ج: ناشرة.

(2)

ك: مواقع.

(3)

ق ط ج ودوزي: الاختيار، وصوابها " الاختيار ".

ص: 509

من أسوار القنطرة العظمى بحمىً لا يخفر، وأخذ أعقابها من الحماة والكماة العدد الأوفر، فبادر إليهم سرعان خيل المسلمين فصدقوهم الدفاع والقراع، والمصال والمصاع، وخالطوهم هبراً بالسيوف، ومباكرة بالحتوف، فتركوهم حصيداً، وأذاقوهم وبالاً شديداً، وجدّلوا منهم جملة وافرة، وأمة كافرة، وملكوا بعض تلك الأسوار فارتفعت بها راياتهم الخافقة، وظهرت عليها عزماتهم الصادقة، واقتحم المسلمون الوادي سبحاً (1) في غمره، واستهانةً في سبيل الله بأمره، وخالطوا حامية العدو في ضفته فاقتلعوها، وتلّقوا بأوائل الأسوار ففرعوها، فلو كنّا في ذلك اليوم على عزم من القتال، وتيسير الآلات وترتيب الرجال، لدخل البلد، وملك الأهل والولد، لكن أجار الكفّار من الليل كافر، وقد هلك منهم عدد وافر، ورجع المسلمون إلى محلاتهم ونصر الله سافر، والعزم ظافر، ومن الغد خضنا البحر الذي جعلنا العزم فيه سفينا، والتوكل على الله للبلاغ ضمينا، ونزلنا من ضفّته القصوى (2) منزلاً عزيزاً مكينا، بحيث يجاور سورها طنب القباب، وتصيب دورها من بين المخيمات (3) بوارق النشّاب، وبرزت حاميتها على متعددات الأبواب، مقيمة أسواق الطعان والضّراب، فآبت بصفقة الخسر والتباب، ولما شرعنا في قتالها، ورتبنا أشتات النّكايات لنكالها، وإن كنا لم نبق على مطاولة نزالها، أنزل الله المطر الذي قدم بعهاده العهد، وساوى النجد من طوفانه الوهد، وعظم به الجهد، ووقع الإبقاء على السلاح، والكفّ بالضرورة عن الكفاح، وبلغ المقام عليها، والأخذ بمخنّقها والثّواء لديها، خمسة أيّام لم تخل فيها من اقتراع، ولا الأبواب من دفاع عليها وقراع، وأنفذت مقاتل الستائر أنقاباً، وارتقب الفتح الموعود ارتقاباً، وفشت في

(1) في الأصول: سيما.

(2)

ك: من ضفة القوي العزيز؛ ج ق ط: ضفة القوي.

(3)

ك: الخيمات.

ص: 510

أهلها الجراح والعيث والصّراح، وساءهم المساء بعزة الله والصّباح (1) ، ولولا عائق المطر لكان الإجهاز والاستفتاح، والله بعدها الفتّاح، وصرفت الوجوه إلى تخريب العمران، وتسليط النيران، وعقر الأشجار، وتعفية الآثار، وأتى منها العفاء على المصر الشهير في الأمصار، وتركت زروعها المائحة عبرة لأولي الأبصار (2) ، ورحلنا عنها وقد ألبسها الدخان حداداُ، ونكس من طغاتها أجياداً، فاعتادت الذلّ اعتياداً، والفت الهون قياداً، وكادت أن تستباح عنوة لولا أن الله تعالى جعل لها ميعاداً، وأتى القتل من أبطالها، ومشاهير رجالها، ممّن يبارز ويناطح، ويماسي بالناس ويُصابح، على عدد جمّ أخبرت سيماهم المشهورة بأسمائهم، ونبّهت علاماتها على نبهائهم، وظهر إقدام المسلمين في المعتركات (3) ، وبروزهم (4) بالحدود المشتركات، وتنفيلهم الأسلاب، وقودهم الخيل المسوّمة قود الغلاب، وكان القفول، وقد شمل الأمن والقبول، وحصل الجهاد المقبول، وراع الكفر العزّ الذي يهول، والإقدام الذي شهدت به الرماح والخيول، وخاض المسلمون من زرع الطرق التي ركبوها، والمنازل التي استباحوها وانتهبوها، بحوراً بعد منها الساحل، وفلاحة مدركة تتعدد فيها المراحل، فصيروها صريماً، وسلّطوا عليها النار غريماً، وحلّوا بظاهر حصن أندوجر (5) وقد أصبح مألف أذمار غير أوشاب، ووكر طيور (6) نشاب، فلمّا بلونا مراسه صعباً، وأبراجه ملئت حرساً شديداً وشهباً، ضننّا بالنفوس أن تفيض دون افتتاحه، فسلّطنا العفاء على

(1) وفشت

والصباح: سقطت العبارة من ق.

(2)

ك ط: عبرة للأبصار.

(3)

ق: على المعتركات.

(4)

ق ط ودوزي: وبذرهم؛ ج: وندرهم.

(5)

أندوجر (Andujar)(أندوشر عند ياقوت) حصن قريب من قرطبة إلى شمال شرقيها على نهر الوادي الكبير. وفي ك: أندجر.

(6)

ك: طير؛ ج: طور.

ص: 511

ساحه، وأغرينا الغارات باستيعاب ما بأحوازه واكتساحه، وسلطنا النار على حزونه وبطاحه، وألصقنا بالرغام ذوائب أدواحه، وانصرفنا بفضل الله والمناجل دامية، والأجور نامية، وقد وطئنا المواطئ التي كانت على الملوك قبلنا بسلا، ولم نترك بها حرثاً يرفد ولا نسلا، ولا ضرعاً يرسل رسلا، والحمد لله الذي يتمم النعيم بحمده، ونسأله صلة النصر (1) فما النصر إلا من عنده؛ عرّفناكم بهذه الكيفيات (2) ، الكريمة الصفات، والصنائع الروائع التي بعد العهد بمثلها في هذه الأوقات، علماً بأنّها لديكم من أحسن الهديات الوديّات ولما نعلمه لديكم من حسن النيّات وكرم الطّويّات، فإنّكم سلالة الجهاد المقبول، والرّفد المبذول، ووعد النصر المفعول، ونرجو الله، عز وجل، أن ينتقل خيالكم للمعاهد الجهاديّة، إلى المعاينة في نصر الملّة المحمّديّة، وأن يجمع الله بكم كلمة الإسلام، على عبد الأصنام، ويتم النعمة على الأنام، وودّنا لكم؟ ما علمتم؟ يزيد على ممرّ الأيّام، والله يجعله في ذاته لكم متّصل الدوام، مبلّغاً إلى دار السلام، وهو سبحانه يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويضاعف الآلاء عندكم، والسلام الكريم يخصّكم (3) ورحمة الله وبركاته، انتهى.

ومن هذا المنحى ما كتب به لسان الدين رحمه الله تعالى عن سلطانه، ونصّه: المقام الذي أحاديث سعادته لا تملّ على الإعادة والتكرار، وسبيل مجادته الشهيرة أوضح من شمس الظهيرة عند الاستظهار، وأخبار صنائع الله لملكه، ونظم فرائد الآمال في سلكه، تخلدها أقلام الأقدار، بمداد الليل في قرطاس النّهار، وترسمها بتذهيب الإسفار في صفحات (4) الأقمار، وتجعلها هجّيرى حملاء الأسفار، وحداة القطار في مسالك الأقطار، مقام

(1) ك: حلة النصر.

(2)

ق ط ودوزي: المكيفات.

(3)

ك: يصحبكم.

(4)

ق: صحائف.

ص: 512

محل أخينا الذي نلذ عادة هنائه مع الإعادة، ونتلقى أنباء علائه بالإذاعة والإشادة، ونطرّز بأعلام ثنائه صحائف المجادة، ونشكر الله أن وهب لنا من أخوّته المضافة إلى المحبّة والودادة، ما يرجح في ميزان الاعتبار أخوّة الولادة، وعرفنا بيمن ولايته عوارف السعادة، السلطان الكذا ابن السلطان الكذا ابن السلطان الكذا أبقاه الله تعالى في أعلام الملك السعيد، بيت القصيد، ووسطى القلادة، ومجلى الكمال الذي تبارى بميدان بأسه وجوده جنسا الإبادة والإفادة، ولا زالت آماله أقاصية تنثال طوع (1) الإرادة، ويمن نقيبته يجمع من أشتات الفتوح والعز الممنوح بين الحسنى وزيادة (2) ، معظّم سلطانه العالي، المثني على مجده المرفوع إسناده في عوالي المعالي، المسرور بما ينسيه الله له من الصنع المتوالي، والفتح المقدّم والتالي، أمير المسلمين عبد الله الغني بالله محمّد ابن أمير المسلمين أبي الحجّاج ابن أمير المسلمين أبي الوليد بن فرج بن نصر، أيّد الله بأمره، وأسعد عصره (3) : سلام كريم يتأرّج في الآفاق شذا طيبه، وتسمع في ذروة الودّ بلاغة خطيبه، ويتضمّن نوره سواد المداد، عند مراسلة الوداد، فيكاد يذهب بعبوسه المجهول وتقطيبه، ورحمة الله وبركاته، أمّا بعد حمد الله فاتح الأبواب بمقاليد الأسباب، مهما استصعبت، وميسّر الأمور محكم المقدور إذا أجهدت الحيل وأتعبت، مخمد نيران الفتن ما التهبت، وجامع كلمة الإسلام وقد تصدّعت وتشعّبت، ومسكن رجفان (4) الأرض بعدما اضطربت، ومحييها بعهاد الرحمة مهما اهتزت وربت، اللطيف الخبير الذي قدرت حكمته الأمور ورتّبت، منهي كل نفس إلى ما خطّت الأقلام عيها وكتبت، ونفت وأوجبت وشاءت وأبت، ومجازيها يوم العرض

(1) ق: طول.

(2)

ك ط ح: والزيادة.

(3)

ك: نصره.

(4)

ق: رجفات.

ص: 513

بما كسبت (1) ، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد رسوله هازم الأحزاب لمّا تألفت وتألّبت، وجالب الحتف إليها عندما أجلبت، رسول الملحمة إذا الليوث وثبت، ونبيّ الرحمة التي هيأت النجاة وسبّبت، وأبلغت النفوس المطمئنّة من السعادة ما طلبت، ومداوي القلوب المريضة وقد انتكبت وانقلبت، بلطائفه التي راضت وهذبت، وقادت إلى الجنّة العليا واستجلبت، وأدّت عن الله وأدّبت، الذي بجاهه نستكشف الغمّاء إذا طنّبت (2) ، ونستوكف النّعماء، إذا أخلفت البروق وكذبت، ونتحابّ في طاعته ابتغاء الوسيلة إلى شفاعته فنقول وجبت حسبما ثبت (3) ، والرضى عن آله وأصحابه وأنصاره وأحزابه التي استحقّت المزية المرضية واستوجبت، لما انتمت إلى كماله وانتسبت، وببذل نفوسها في الله ومرضاته تقرّبت، وغلى نصرته في حياته انتدبت، والمناصل قد رويت من دماء الأعداء واختضبت (4) ، وخلفته في أمّته بعد مماته بالهمم التي عن صدق اليقين أعربت، فتداعت لمجاهدة (5) الكفّار وانتدبت، وأبعدت المغار وأدربت، حتى بلغ ملك أمّته أقاصي البلاد التي نبت، فكسرت الصّلب التي نصبت، ونفّلت (6) التيجان التي عصبت، ما همت السّحب وانسحبت، وطلعت الشمس وغربت، والدعاء لمثابتكم العليا بالنصر العزيز كلّما جهّزت الكتائب وتكتّبت، والفتح المبين كلّما ركنت عقائل القواعد إذا خطبت، والصنائع التي مهما حدّقت فيه العيون تعجّبت، أو جالت في لطائفها الأفكار استطابت مذاق الشكر واستعذبت، حتى تنجز لكم مواعيد النصر فقد اقتربت، فإنّا كتبنا إليكم كتب الله لكم أغيا ما سألت الألسن السائلة واستوعبت، من

(1) ق: مما اكتسبت.

(2)

ك ط: أطنبت.

(3)

ق: ثبتت.

(4)

ك: وأخصبت، وفي الهامش: نسخة " واختضبت ". ط: وأخضبت.

(5)

ق: لجهاد.

(6)

ك: ونعلت؛ ج ط: ونقلت.

ص: 514

حمراء غرناطة حرسها الله تعالى وجنود الله بفضل الله تعالى ونعمته قد غلبت، وفتحت وسلبت، وأسود جهاده قد أردت الأعداء بعدما كلبت، ومراعي الآمال قد أخصبت، والحمد لله حمداً يجلو وجوه الرضى بعدما احتجبت، ويفتح أبواب المزيد فكلّما استقبلها الأمل رحّبت، والشكر لله شكراً يقيّد شوارد النعم ممّا أبقت وما هربت، وإلى هذا - وصل الله لمقامكم أسباب الظهور والاعتلاء، وعرّفكم عوارف الآلاء على الولاء - فإنّنا لمّا ورد علينا كتابكم البرّ الوفادة، الجمّ الإفادة، الجامع بين الحسنى والزيادة، جالي غرّة الفتح الأعظم من ثنايا السعادة، وواهب المنن المتاحة وواصفالنعم العادة، فوقفنا (1) من رقّه المنشور على تحف سنيّة، وأمانيّ هنيّة، وقطاف للنصر جنيّة، ضمنت سكون البلاد وقرارها، وأن الله قد أذهب الفتن وأوارها وأخمد نارها، ونضح عن وجه الإسلام عارها، وجمع الأهواء على من هويته السعادة بعد أن أجهد اختيارها، فأصبح الشتيت مجتمعاً، وجنح الجناح مرتفعاً، والجبل المخالف خاشعاً متصدّعاً، وأصحب (2) في القياد من كان متمنّعاً (3) ، فاستوثقت الطاعة، وتبجّحت السنّة والجماعة، وارتفعت الشناعة، وتمسّكت البلاد المكرهة بأذيال وليّها لما رأته، وعادت الأجياد العاطلة إلى حليها بعدما أنكرته، أجلنا جياد الأقلام في ملعب الهناء وميدانه، لأول أوقات إمكانه على بعد مكانه، وأجهدنا عبارة الكلام في إجلال هذا الصنع وتعظيم شأنه، وأغرينا الثناء بشيم مجدكم في شرحه لها وبيانه، رأينا أن لا نكل ذلك إلى اليراع، ونفرده فيه بالاجتماع، وما يتعاطاه من منّة الذراع، وأن نشدّ بردء من المشافهة أزره، ونعضد بمعين من اللسان أمره، فعيّنّا لذلك من يفسّر منه المجمل، ويمهّد المقصد المعمل، حتى يجمع بين أغراض البر، والعلن منه

(1) ك: فأوقفنا؛ ق: فوافقنا.

(2)

ق: وأوضحت؛ ط ج: وأضحت.

(3)

ق ط: مستمنعاً؛ دوزي: ممتنعاً.

ص: 515

والسر، ويقيم شتّى الأدلّة على الوداد المستقر، ووجّهنا في غرض الرسالة به إليكم، واخترنا لشرحه بين يديكم، خطيب الوفود، وبركة المشايخ في هذا المقام المحمود، الشيخ الجليل الشهير الكبير الصالح الفاضل أبا البركات ابن الحاج (1) - وصل الله حفظه؛ وأجزل من الحمد واللطف حظّه؛ - وهو البطل الذي لا يعلّم الإجالة في الميدان، ولا يبصّر بوظائف ذلك الشان، ومرادنا منه أن يطيل ويطيب، ويجيل في وصف محاسنكم اللسان الرّطيب، ويقرّر ما عندنا لمقامكم من التشيّع الذي قام على الحب المتوارث أساسه، واطّرد حكمه وأنتج قياسه، وليجعل تلو مقصد الهناء، بمجلسكم الباهر السناء، الصارف إلى الجهاد إلى سبيل الله والفناء، وجه التهمّم والاعتناء، على مر الآناء، ما تجدّد لدينا من الأنباء في جهاد الأعداء، وإن كان رسولكم - أعزه الله تعالى - قد شارك في السّرى والسير ويمن الطّير، وأغنى في الحكاية عن الغير، فلا سرف في الخير، وهو أننا لما انصرفنا من منازلة قرطبة نظراً للحشود التي نفدت معدّا أزوادها، وشابت بهشيم الغلّة المستغلّة (2) مفارق بلادها، وإشفاقاً لفساد أقواتها، بفوات أوقاتها، رحلنا عنها وقد انطوينا من إعفاء أكثر (3) تلك الزروع، المائلة الفروع، الهائلة الروع، على همّ ممض، وأسف للمضاجع مقض (4) ، إذ كان عاذل المطر يكف ألسنة النار عن المبالغة في التهابها، وحلاق إهابها، ونفض أغوارها، ونهب شوارها، وإذاعة أسرارها، وهي البحور المتلاطمة، إذا حطمتها الرياح الحاطمة، واللّجج الزاخرة، إذا حركتها

(1) أبو البركات ابن الحاج: محمد بن محمد بن إبراهيم ابن الحاج البلقيقي السلمي (توفي 773 أو 771) أحد شيوخ لسان الدين؛ سيترجم له المقري وانظر الكتيبة الكامنة: 127 والإحاطة 2: 101 والمرقبة العليا: 164 والديباج 164 والتعريف بابن خلدون: 61 وغاية النهاية 2: 235.

(2)

ق: المستقبلة.

(3)

أكثر: سقطت من ق.

(4)

ق ك: مغض.

ص: 516

السوافي الماخرة، تود العيون أن تتحدى حدودها القاصية فلا تطيق، والركائب الراكضة أن تشرف على غايتها فيفضل عن مراحلها الطريق، قد جللها الربيع أرزاقاً تغص به الخزائن والأطباق، وحبوباً مفضلة لا يرزؤها الإنفاد والإنفاق، ولو اعتصبت (1) على انتسافها الآفاق، فخففنا في سبيل الله لتعقيب غزو تلك الأقطار المخالفة، بمحق الصائفة، وإحانة (2) تلك الطائفة، بكلوم المجاعة الجائفة (3) ، خفوفاً لم نقنع فيه بالاستنابة، حرصاً على استئصال الصّبابة، وأعفينا الرحل من اتصال الكد، وقابلنا قبولهم على استصحابنا فيها بالرد، وأطللنا على قرطبة بمحلاتنا ننسف جبال النعم (4) نسفاً، ونعمّ الأرض زلزالاً وخسفاً، ونستقري مواقع البذر إحراقاً (5) ، ونخترق أجوابها المختلفة بحبّ الحصيد اختراقاً، ونسلّط عليها من شرر النار أمثال (6) الجمالات الصّفر مدّت من الشّواظ أعناقاً، ونوسع القرى الواسعة قتلاً واسترقاقاً، وندير على مستديرها أكواس الحتوف دهاقاً، وأخذت النيران واديها الأعظم من كلا جانبيه حتى كأن القيون (7) أحمت سبيكته فاستحالت، وأذابت صفيحته فسالت، وأتت الكفار سماؤهم بالدخان المبين، وصارت الشمس من بعد سفورها وعموم نورها منقّبة المحيّا معصبة الجبين، وخضنا أحشاء الفرنتيرة (8) نعمّ أشتات النّعم انتسافاً، وأقوات أهلها إتلافاً، وآمال سكانها إخلافاً، وقد بهتوا لسرعة الرجوع، ودهشوا

(1) هذه اللقطة مصحفة في الأصول، فهي: اعتصت في ج؛ وفي ق ك ط: اعتضت.

(2)

ق ك ج: وإعانة؛ وفي ط: لمحق الضائقة.

(3)

ق ك ط ج ودوزي: المجاع الخائفة.

(4)

في ك: الجبال؛ وفي ق: جليل النعم؛ ج: جبائل النعم.

(5)

ك: احتراقاً.

(6)

ط: أثقال.

(7)

ق ك: العيون.

(8)

تصحفت هذه الكلمة على عدة وجوه؛ فهي الغرنيرة في ق والغريرة ف ك

والفرنيرة في ط ج والصواب الفرنتيرة (La Frontera) .

ص: 517

لوقوع الجوع، وتسبيب تخريب الربوع، فمن المنكر البعيد، أن يتأتى بعد عمرانها المعهود، وقد اصطلم الزرع واجتثّ العود، وصار إلى العدم منها الوجود، ورأوا من عزائم (1) الإسلام خوارق تشذّ عن نطاق العوائد، وعجائب تستريب فيها عين المشاهد، إذ اشتمل هذا العام، المتعرّف فيه من الله تعالى الإنعام، على غزواتٍ أربع دمرت فيها القواعد الشهيرة تدميراً، وعلا فوق مراقيها الأذان عزيزاً جهيراً، وضويقت كراسيّ الملك تضييقاً كبيراً، وأذيقت وبالاً مبيراً، ورياح الإدالة إن شاء الله تعالى تستأنف هبوباً، وبأساً مشبوباً، والثقة بالله قد ملأت نفوساً مؤمنة وقلوباً، والله سبحانه المسؤول أن يوزع شكر هذه النعمة التي أثقل الأكتاد، وأبهظت الطّوق المعتاد، وأبهجت المسيم (2) والمرتاد، فبالشكر يستدر مزيدها (3) ، ويتوالى تجديدها، وقطعنا في بحبوحة تلك العمالة المستبحرة العمارة، والفلج المغني وصفها عن الشرح والعبارة، مراحل ختمنا بالتعريج على حزب (4) جيّان حربها، ففللنا ثانية غربها، وحثثنا في أنجادها وأغوارها ركائب الاستيلاء، فم نترك بها ملقط طير، فضلاً عن معاف عير، ولا اسأرنا لفلها المحروب بلالة خير، وقفلنا وقد تركنا بلاد النصارى التي منها لكيادنا المدد، والعدّة والعدد، وفيها الخصام واللّدد، قد لبست الحداد حريقاً، وسلكت إلى الخلاء والجلاء طريقاً، ولم نترك بها مضغة تخالط ريقاً، ولا نعمة تصون من الفراق فريقاً، وما كانت تلك النعم لولا أن أعان الله تعالى من عنصري النار والهواء بجنود كونه الواسع، ومدركه البعيد الشاسع، لتتولى الأيدي البشريّة تغريبها ولا ترزأ كثيرها، ولا

(1) ق: غرائب.

(2)

ك: المثيم.

(3)

ك ق ط ج: فريدها.

(4)

ق: خرب؛ ك: حرب.

ص: 518

لتمتاح بالاغتراف غديرها، بل لله القدرة جميعاً، فقدرته لا تتحامى ريعاً، ولا حمى مريعاً منيعاً، وعدنا والعود في مثلها أحمد، وقد بعد في شفاء النفوس الأمد، ونسخ بالسرور الكمد، ورفعت من عز الإسلام العمد، والحمد لله حمد الشاكرين، ومنه نلتمس عادة النصر على أعدائه فهو خير الناصرين، عرّفناكم به ليسر دينكم المتين، ومجدكم الذي راق منه الجبين، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم، ويبلغكم أملكم من فضله، وقصدكم بمنّه وطوله، والسلام الكريم يخصّكم ورحمة الله تعالى وبركاته، انتهى. رجع إلى ما كنّا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول:

رجع إلى ما كنا بسبيله من أخبار قرطبة الجليلة الوصف، وذكر جامعها البديع الإتقان والرصف، فنقول:

قد شاع وذاع على ألسنة الجمّ الغفير من الناس في هذه البلاد المشرقيّة وغيره أن جامع قرطبة ثلاثمائة ونحو ستين طاقاً، على عدد أيّام السنة، وأن الشمس تدخل كل يوم من طاق، إلى أن يتم الدور ثم تعود، وهذا شيء لم أقف عليه في كلام المؤرخين من أهل المغرب والأندلس، ولو كان كما شاع لذكروه وتعرّضوا له، لأنّه من أجب ما يسطر، مع أنّهم ذكروا ما هو دونه، فالله أعلم بحقيقة الحال في ذلك (1) ، وستأتي في الباب السابع رسالة الشّقندي الطويلة وفيها من محاسن قرطبة وسائر بلاد الأندلس الطّم والرّم، وقد ذكرنا في الباب الأول جملة من محاسن قرطبة، فأغنىذلك عن إعادتها هنا، على أن رسالة الشّقندي تكرر فيها بعض ما ذكرناه، لأنّا لم نرد أن نخل منها بحرف، فأتينا بها بلفظها، وإن تكرر بعض ما فيها مع بعض ما أسلفناه، والعذر واضح للمنصف المغضي، والله نسأل سلوك السبيل الذي يرضي، بمنّه وكرمه.

(1) في ذلك: سقطت من ق.

ص: 519