الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث
في سرد بعض ما كان للدين بالأندلس من العز السامي العماد، والقهر للعدوّ
في الرواح والغدوّ والتحرّك والهدوّ والارتياح البالغ غاية الآماد، وإعمال
أهلها للجهاد، بالجدّ والاجتهاد، في الجبال والوهاد، بالأسنة المشرعة
والسيوف المستلّة من الأغماد
أقول: قدّمنا في الباب قبل هذا ما كان من نصر المسلمين، وفتحهم الأندلس، وما حصل لهم من سلطان بها إلى مجيء الداخل، فتقررت القواعد السلطانية، وعلت الكلمة الإيمانية، كما نسرده هنا إن شاء الله تعالى.
وذكر غير واحد - منهم ابن حزم (1) - أن دولة بني أمية بالأندلس كانت أنبل دول الإسلام، وأنكاها في العدوّ، وقد بلغت من العز والنصر ما لا مزيد عليه، كما سترى بعضه.
[عبد الرحمن الداخل]
وأصل هذه الدولة - كما قال ابن خلدون (2) وغير واحد - أن بني أمية لمّا نزل بهم بالمشرق ما نزل، وغلبهم بنو العباس على الخلافة، وأزالوهم عن كرسيّها، وقتل عبد الله بن عليّ مروان بن محمد بن مروان بن الحكم آخر خلفائهم سنة ثنتين وثلاثين ومائة، وتتبّع بني مروان بالقتل، فطلبوا بطن الأرض
(1) راجع ان عذاري 2: 58.
(2)
تاريخ ابن خلدون 4: 120 وسيورد المقري ترجمة مسهبة لعبد الرحمن في الباب السادس.
من بعد ظهرها، وكان ممّن أفلت منهم عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان، وكان قومه يتحيّنون له ملكاً بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك يأثرونها عن ملمة بن عبد الملك (1) ، وكان هو قد سمعها منه مشافهة، فكان يحدّث نفسه بذلك، فخلص إلى المغرب، ونزل على أخواله نفزة من برابرة طرابلس، وشعر عبد الرحمن بن حبيب، وكان قد قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لمّا دخلا إفريقية، فلحق بمغيلة، وقيل: بمكناسة، وقيل: بقوم من زناتة، فأحسنوا قبوله، واطمأن فيهم، ثم لحق بمليلة، وبعث بدراً مولاه إلى من بالأندلس من موالي المروانيين وأشياعهم، فاجتمع بهم وبثّوا له في الأندلس دعوة، ونشروا له ذكراً، ووافق قدومه ما كان من الإحن بين اليمنية والمضريّة فأصفقت اليمنية على أمره لكون الأمر كان ليوسف بن عبد الرحمن الفهري وصاحبه الصّميل، ورجع بدر مولاه إليه بالخبر، فأجاز البحر سنة ثمان وثلاثين ومائة في خلافة أبي جعفر المنصور، ونزل بساحل المنكّب، وأتاه قوم من أهل إشبيلية فبايعوه، ثم انتقل إلى كورة ريّة فبايعه عاملها عيسى بن الصباح، ونهد إلى قرطبة فاجتمعت إليه اليمنية، ونمي خبره إلى والي الأندلس يوسف بن عبد الرحمن الفهري، وكان غازياً بجلّيقية، فانفضّ عسكره، ورجع إلى قرطبة، وأشار عليه وزيره الصّميل بن حاتم بالتلطّف له، والمكر به، لكونه صغير السن، حديث عهدٍ بنعمة، فلم يتم ما أراده (2) ، وارتحل عبد الرحمن من المنكّب، فاحتلّ بمالقة فبايعه جندها، ثم برندة (3) ، ثم بشريش كذلك، ثم بإشبيلية، فتوافت إليه جنود الأمصار، وتسايلت المضرية إليه، حتى إذا لم يبق مع يوسف بن عبد الرحمن غير الفهرية والقيسية
(1) سيورد المقري من بعد طرفاً من هذه الأخبار عن مسلمة.
(2)
ابن خلدون: فلم يتم له مراده.
(3)
زاد ابن خلدون: فبايعه جندها.
لمكان الصّميل منه زحف حينئذ عبد الرحمن الداخل، وناجزهم الحرب بظاهر قرطبة، فانكشف يوسف، ونجا (1) إلى غرناطة فتحصّن بها، واتبعه الأمير عبد الرحمن فنازله، ثم رغب إليه يوسف في الصلح، فعقد له على أن يسكن قرطبة ثم أقفله معه، ثمّ نقض يوسف عهده، وخرج سنة إحدى وأربعين ومائة (2) ، ولحق بطليطلة، واجتمع إليه زهاء عشرين ألفاً من البربر، وقدّم الأمير عبد الرحمن للقائه عبد الملك بن عمر المرواني، وكان وفد عليه من المشرق، وكان أبوه عمر بن مروان بن الحكم في كفالة أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر، فلمّا دخلت السوّدة أرض مصر خرج عبد الملك يؤمّ الأندلس في عشرة رجال من قومه مشهورين بالبأس والنجدة، حتى نزل على عبد الرحمن سنة أربعين، فعقد له على إشبيلية، ولابنه عمر بن عبد الملك على مورور، وسار يوسف إليهما، وخرجا إليه ولقياه، وتناجز الفريقان، فكانت الدائرة على يوسف، وأبعد المفرّ، واغتاله بعض أصحابه بناحية طليطلة، واحتزّ رأسه، وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن، فاستقام أمره، واستقر بقرطبة، وثبت قدمه في الملك، وبنى المسجد الجامع والقصر بقرطبة، وأنفق فيه ثمانين ألف دينار، ومات قبل تمامه، وبنى مساجد، ووفد عليه جماعة من أهل بيته من المشرق وكان يدعو للمنصور، ثم قطع دعوته، ومهّد الدولة بالأندلس، وأثّل بها الملك العظيم لبني مروان والسلطان العزيز، وجدّد ما طمس لهم بالمشرق من معالم الخلافة وآثارها، واستلحم الثّوّار عليه على كثرتهم في النّواحي، وقطع دعوة آل العباس من منابر الأندلس، وسدّ المذاهب منهم دونها، وهلك سنة ثنتين وسبعين ومائة، وكان يعرف بعبد الرحمن الداخل، لأنه أول داخل من ملوك بني مروان إلى الأندلس، وكان أبو جعفر المنصور يسميه " صقر قريش "(3)
(1) كذا في ط وقد تقرأ " ولجأ " في بقية الأصول.
(2)
انظر ابن عذاري 2: 73 في تفصيل الخبر عن نهاية يوسف الفهري.
(3)
ابن خلدون: صقر.
لمّا رأى أنّه فعل بالأندلس ما فعل (1) ، وما ركب إليها من الأخطار، وأنّه نهد إليها من أنأى ديار المشرق من غير عصابة ولا أنصار، فغلب أهلها على أمرهم، وتناول الملك من أيديهم بقوّة شكيمة، ومضاء عزم حتى انقاد له الأمر، وجرى على اختياره، وأورثه عقبه، وكان يسمّى بالأمير، وعليه جرى بنوه من بعده، فلم يدع أحد منهم بأمير المؤمنين تأدّباً مع الخلافة بمقر الإسلام ومنتدى العرب، حتى كان من عقبه عبد الرحمن الناصر، وهو ثامن بني أمية بالأندلس، فتسمّى بأمير المؤمنين على ما سنذكره، لما رأى من ضعف خلفاء بني العباس بعد الثلاثمائة، وغلبة الأعاجم عليهم، وكونهم لم يتركوا لهم غير الاسم، وتوارث التلقيب بأمير المؤمنين بنوا عبد الرحمن الناصر واحداً بعد واحد.
قال ابن خلدون (2) : وكان لبني عبد الرحمن الداخل بالعدوة الأندلسية ملكضخم ودولة متسعة اتصلت إلى ما بعد المائة الرابعة، وعندما شغل المسلمون بعبد الرحمن وتمهيد أمره قوي أمر الجلالقة، واستفحل سلطانهم، وعمد فرويلة بن أذفونش ملكهم إلى ثغور البلاد فأخرج المسلمين منها، وملكها من أيديهم، فملك مدينة لكّ وبرتقال وسمّورة وشلمنقة قشتالة وشقوبية (3) ، وصارت للجلالقة حتى افتتحها المنصور بن أبي عامر آخر الدولة، ثم استعادوها بعده فيما استعادوه من بلاد الأندلس، واستولوا على جميعها حسبما يذكر، ولله سبحانه الأمر؛ انتهى.
وخاطب عبد الرحمن قارله (4) ملك الإفرنج، وكان من طغاة الإفرنج، بعد أن تمرّس به مدة، فأصابه صلب المكسر، تامّ الرجولية، فمال معه إلى
(1) ابن خلدون: لما رأى ما فعل بالأندلس.
(2)
كذا في ج، والنقل عن ابن خلدون ما يزال مستمراً؛ وفي ق: قال ابن سعيد؛ وفي ك: قال ابن حيان؛ وفي ط بياض.
(3)
شقوبية: (Segovia) .
(4)
قارله: سقطت من ط؛ وفي ج: فارله.
المداراة، ودعاه إلى المصاهرة والسلم، فأجابه للسلم، ولم تتم المصاهرة.
وقال ابن حيّان (1) : ألفى (2) الداخل الأندلس ثغراً قاصياً غفلاً من حلية الملك عاطلاً، فأرهف أهلها بالطاعة السلطانية، وحنّكهم بالسيرة الملوكية، وأخذهم بالآداب فأكسبهم عمّا قليلٍ المروءة، وأقامهم على الطريقة، وبدأ فدوّن الدواوين، ورفع الأواوين، وفرط الأعطية، وعقد الألوية، وجنّد الأجناد، ورفع العاد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدّته، فاعترف له بذلك أكابر الملوك وحذروا جانبه، وتحاموا حوزته، ولم يلبث أن دانت له بلاد الأندلس، واستقلّ له الأمر فيها. فلذلك ما ظلّ عدوّه أبو جعفر المنصور - بصدق حسّه، وبعد غوره، وسعة إحاطته - يسترجح عبد الرحمن كثيراً، ويعد له بنفسه، ويكثر ذكره، ويقول: لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحوذيّ الفذ في جميع شؤونه، وعدمه لأهله ونشبه، وتسلّيه عن جميع ذلك ببعد مرقى همّته، ومضاء عزيمته، حتى قذف نفسه في لجج المهالك لا بتناء مجده، فاقتحم جزيرةً شاسعة المحل، نائية المطمع، عصبية (3) الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها بقضية سياسته، حتى انقاد له عصيّهم، وذلّه أبيّهم، فاستولى فيها على أريكته، ملكاً على قطعته (4) ، قاهراً لأعدائه، حامياً لذماره، مانعاً لحوزته، خالطاً الرغبة إليه بالرهبة منه، إن ذلك لهو الفتى كلّ الفتى لا يكذب مادحه. وجعل ابن حيّان من النوادر العجيبة موافقة عبد الرحمن هذا لأبي جعفر المنصور في الرجولية والاستيلاء والصّرامة، والاجتراء
(1) هكذا في ك؛ والكلام متصل في ج؛ وفي ط بياض؛ وفي ق: وقال في المطمح.
(2)
ك: لما ألفى
…
أرهف.
(3)
ط: عصية.
(4)
ك: قطيعته.
على الكبائر والقساوة، وأنّ أم كل واحد منهما بربرية.
وكان الداخل يقعد للعامة، ويسمع منهم، وينظر بنفسه فيما بينهم، ويتوصل إليه من أراده من الناس، فيصل الضعيف منهم إلى رفع ظلامته إليه دون مشقة، وكان من عادته أن يأكل معه من أصحابه من أدرك وقت طعامه، ومن وافق ذلك من طلاب الحوائج أكل معه.
وفي كتاب ابن زيدون (1) أنّه كان أصهب، خفيف العارضين، بوجهه خالٌ، طويل القامة، نحيف الجسم، له ضفيرتان، أعور أخشم؛ والأخشم: الذي لا يشم، وكان يلقب بصقر قريش لكونه تغرّب وقطع البر والبحر، وأقام ملكاً قد أدبر وحده.
ولمّا ذكر الحجاري أنّه أعور قال: ما أنشد فيه إلاّ قول امرئ القيس (2) :
لكن عوير وفى بذمّته
…
لا عورٌ شانه ولا قصر وقال ابن خلدون (3) : وفي " سنة ست وأربعين سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقية إلى الأندلس، ونزل بباجة الأندلس داعياً لأبي جعفر المنصور، واجتمع إليه خلق، فسار عبد الرحمن إليه ولقيه بنواحي إشبيلية، فقاتله أيّاماً، ثمّ انهزم العلاء، وقتل في سبعة آلاف من أصحابه، وبعث عبد الرحمن برؤوس كثير منهم إلى القيروان ومكّة، فألقيت في أسواقها سرّاً، ومعها اللواء الأسود، وكتاب المنصور للعلاء (4) "، فارتاع المنصور لذلك وقال: ما هذا إلا شيطان، والحمد لله الذي جعل بيننا وبينه البحر، أو كلاماً هذا معناه، وقد مرّ ذكر ذلك.
(1) هو كتاب " التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس " لأبي الوليد ابن زيدون (ولعله لابنه أبي بكر) جعله على مثال " كتاب التعيين في خلفاء المشرق " للمسعودي، ذكره ابن سعيد في تذييله على رسالة ابن حزم في فضل الأندلس.
(2)
ديوان امرئ القيس: 133 وعوير هو العوير بن شجنة من بني عوف، مدحه بالوفاء.
(3)
تاريخ ابن خلدون 4: 122 وانظر ابن عذاري 2: 77 وابن القوطية: 57.
(4)
هنا ينتهي النقل عن ابن خلدون.
وكثرت ثورة رؤساء العرب بالأندلس على عبد الرحمن الداخل، ونافسوه ملكه، ولقي منهم خطوباً عظيمة، وكانت العاقبة له، واستراب في آخر أمره بالعرب، لكثرة من قام عليه منهم، فرجع إلى اصطناع القبائل من سواهم، واتخاذ الموالي، ثم غزا بلاد الإفرنج والبشكنس ومن وراءهم، ورجع بالظّفر، وكان في نسته أن يجدّد دولة بني مروان بالمشرق، فمات دون ذلك الأمل، وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، إذ دخل الأندلس سنة ثمان وثلاثين ومائة، ومات سنة اثنتين وسبعين، وقيل: إحدى وسبعين ومائة، في خلافة الرشيد، وأمّه أم ولد بربرية اسمها راح، ومولده سنة ثلاث عشرة ومائة، بدير حنا من أرض دمشق، وقيل: بالعلياء من تدمر، ومات أبوه في أيام أبيه هشام سنة ثماني عشرة عن إحدى وعشرين سنة، وكفله وإخوته جدّهم هشام، ووهب لعبد الرحمن هذا جميع الأخماس التي اجتمعت للخلفاء بالأندلس، وأقطعه إيّاها، ووجّه لحيازتها من الشام سعيد بن أبي ليلى، وقيل: إنّه لما قصد المغرب من فلسطين خرج معه أربعة: بدر مولى أبيه، وأبو شجاع، وزياد، وعمرو، وقيل: إن بدراً لحقه ولم يخرج معه، فالله أعلم، وخلف من الولد عشرين، ومنهم أحد عشر رجلاً وتسع إناث.
وحكى غير واحد أنّه لما هرب من الشام إلى إفريقية قاصداً الأندلس نزل بمغيلة، فصار بها عند شيخ من رؤساء البربر يدعى وانسوس، ويكنى أبا قرّة، فاستتر عنده وقتاً، ولحق به بدر مولى أبيه بجوهرٍ وذهبٍ أنفذته أخته إليه، فلمّا دخل الأندلس واستتبّ أمره به سار إليه أبو قرة وانسوس البربري، فأحسن إليه وحظي عنده وأكرم زوجته تكفات البربرية التي خبأته تحت ثيابها عندما فتشت رسل ابن حبيب بيتها عنه، فقال لها عبد الرحمن مداعباً حين استظلت بظلّه في الأندلس: لقد عذبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من الخوف، وسعطتني (1) بأنتن من ريح الجيف، فكان جوابها له مسرعة: بل ذلك
(1) ك: وسطعتني.
كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك، فاستظرف جوابها، وأغضى عن مواجهتها بمثل ذلك، وهذا من آفات المزاح.
ومن محاسنه أنّه أدار السور بقرطبة، رحمه الله تعالى.
[هشام بن عبد الرحمن]
وتولى الملك بعده ابنه هشام بعهد منه إليه، وأمّه أم ولد اسمها حلل (1) ، وأفضى إليه الملك وهو بماردة والٍ عليها، وكان أبوه يوليه في صباه ويرشحه للأمر، وكان الداخل كثيراً ما يسأل عن ابنيه سليمان وهشام، فيذكر له أن هشاماً إذا حضر مجلساً امتلأ أدباً وتاريخاً وذكراً لأمور الحرب ومواقف الأبطال، وما أشبه ذلك، وإذا حضر سليمان مجلساً امتلأ سخفاً وهذياناً، فيكبر هشام في عينه بمقدار ما يصغر سليمان (2)، وقال يوماً لهشام: لمن هذا الشعر:
وتعرف فيه من أبيه شمائلاً
…
ومن خاله أو من يزيد ومن حجر
سماحة ذا، وبرّ ذا، ووفاء ذا،
…
ونائل ذا، إذا صحا وإذا سكر فقال له: يا سيدي لامرئ القيس ملك كندة، وكأنّه قاله في الأمير أعزّه الله؛ فضمّه إليه استحساناً بما سمع منه، وأمر له بإحسان كثير، وزاد في عينه. ثم قال لسليمان على انفراد: لمن هذا الشعر؟ وأنشده البيتين، فقال: لعلهما لأحد أجلاف العرب، أما لي شغل غير حفظ أقوال بعض الأعراب (3) ؟ فأطرق عبد الرحمن، وعلم قدر ما بين الاثنين من المزية.
ولمّا ولي هشام (4) أشخص المنجم المعروف بالضبي من وطنه الجزيرة الخضراء
(1) ابن عذاري: جمال؛ والحميدي: حوراء.
(2)
انظر الحلة السيراء 1: 42.
(3)
ط: أقوال بغضاء العرب.
(4)
ابن القوطية: 64 والمقتطفات (الورقة: 82) .
إلى قرطبة، وكان في علم النجوم والمعرفة بالحركات العلوية بطليموس زمانه حذقاً وإصابة، فلمّا أتاه خلا به وقال له: يا ضبي، لست أشك أنّه قد عناك من أمرنا إذ بلغك ما لم يدّع تجديد (1) النظر فيه، فأنشدك الله إلا ما نبأتنا بم اظهر لك فيه، فلجلج وقال: أعفني أيها الأمير، فإنّي ألممت به، ولم أحقّق النظر فيه لجلالته في نفسي، فقلا له: قد أجّلتك لذلك، فتفرّغ للنظر فيما بقي عليك منه، ثمّ أحضره بعد أيّام، فقال: إن الذي سألتك عنه جدّ منّي، مع أنّي والله ما أثق بحقيقته، إذ كان من غيب الله الذي استأثر به، ولكنّي أحبّ أن أسمع ما عندك فيه، فالنفس طلعة، وألزمه الصّلة أو العقوبة، فقال: اعلم أيها الأمير أنّه (2) سوف يستقر ملكك، سعيداً جدّك، قاهراً لمن عاداك، إلا أن مدّتك فيه فيما دل عليه النظر تكون ثمانية أعوام أو نحوها، فأطرق ساعة ثمّ رفع رأسه وقال: يا ضبي ما أخوفني أن يكون النذير كلّمني بلسانك، والله لو أن هذه المدّة كانت في سجدة لله تغالى لقلّت طاعةً له، ووصله وخلع عليه، وزهد في الدنيا، والتزم أفعال البرّ (3) .
ومن حكاياته في الجود (4) أنّه كان قاعداً لراحته في عليّة على النهر في حياة والده، فنظر إلى رجل من قدماء صنائعه من أهل جيّان قد أقبل يوضع السير في الهاجرة، فأنكر ذلك، وقدّر شرّاً وقع به من قبل أخيه سليمان، وكان والياً على جيّان، فأمر بإدخاله عليه، فقال له: مهيم يا كناني، فلأمر ما جئت، وما أحسبك إلا مزعجاً لشيء دهمك (5)، فقال: نعم يا سيدي، قتل رجل من قومي رجلاً خطأ، فحملت الدية على العاقلة، فأخذ بها من كنانة عامة، وحمل (6)
(1) ك: لم ندع تحديد.
(2)
أنه: سقطت من ق ط ج.
(3)
ك: ولزم أفعال الخير والبر.
(4)
أخبار مجموعة: 121 - 124، وابن عذاري 2: 99 (67 ط. ليدن) .
(5)
في ط بياض موضع " مهيم " و " جئت " وفي أخبار مجموعة: ما خبرك يا كناني، فلا أحسبك إلا قد همك أمر.
(6)
أخبار مجموعة وابن عذاري: وحيف.
عليّ من بينهم خاصّة، وقصدني أخوك بالاعتداء إذ عرف مكاني منك، فمد هشام يده إلى جارية كانت وراء الستر، وقطع قلادة عقد نفيس كان في نحرها، وقال له: دونك هذا العقد يا كناني، وشراؤه عليّ ثلاثة آلاف دينار، فلا تخدعنّ عنه، وبعه، وأدّ عن نفسك وعن قومك، ولا تمكن الرجل من اهتضامك، فقال: يا سيدي، لم آتك مستجدياً ولا لضيق المال عمّا حملته، ولكنّي لما اعتمدت بظلم صراح أحببت أن يظهر عليّ عزّ نصرك، وأثر ذبّك وامتعاضك (1) ، فأتمجّد بذلك عند من يحسدني على الانتماء إليك، فقال هشام: فما وجه ذلك؟ فقال: أن تكتب إلى أخيك في الإمساك عنّي، والقيام بذّمتك لي، فقال: أمسك العقد، وركب من حينه إلى والده الداخل، واستأذن عليه في وقت أنكره، فانزعج، وقال: ما أتى بأبي الوليد في هذا الوقت إلاّ أمر مقلق، أئذنوا له، فلمّا دخل سلّم عليه، ومثل قائماً بين يديه، فقال له: اجلس يا هشام، فقال: أصلح الله الأمير سيدي، وكيف جلوسي بهمّ وذل مزعج، وحقّ لمن قام مقامي أن لا يجلس إلا مطمئنّاً، ولن يقعدني إلا طيب نفسي بإسعاف الأمير لحاجتي، وإلا رجعت على عقبي، فقال له: حاش لك من انقلابك خائباً، فاقعد مجاباً مشفّعاً، فجلس، فقال له أبوه: فما الحدث المقلق؟ فأعلمه، فأم وحمل الدية عنه وعن عشيرته من بيت المال، فسرّ هشام وأطنب في الشكر، وكتب الأمير إلى ولده سليمان في ترك التعرض لهذا الكناني.
ولما دخل الكناني لوداع هشام قال له: يا سيدي قد تجاوزت بك حدّ الأمنية، وبلغت غاية النصر، وقد أغنى الله عن العقد المبذول بين يدي العناية الكريمة، فتعيده إلى صاحبته، فأبى من ذلك، وقال: لا سبيل إلى رجوعه إلينا.
وكان هشام يذهب بسيرته مذهب عمر بن عبد العزيز، وكان يبعث بقوم
(1) أخبار مجموعة: وأثر عنايتك.
من ثقاته إلى الكور (1) فيسألون الناس عن سير عمّاله، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم أوقع به وأسقطه وأنصف منه، ولم يستعمله بعد.
ولمّا وصفه زياد بن عبد الرحمن لمالك بن أنس (2) قال: ليت أن الله تعالى زين موسمنا بمثل هذا (3) .
وفي أيامه فتحت أربونة الشهيرة (4) ، واشترط على المعاهدين من أهل جليقية من صعاب شروطه انتقال عدد من أحمال التراب من سور أربونة المفتتحة يحملونها إلى باب قصره بقرطبة، وبنى منه المسجد الذي قدّام باب الجنان، وفضلت منه فضلة بقيت مكوّمة.
وقاسى مع المخالفين له من أهل بيته وغيرهم حروباً، ثم كانت الدائرة له.
وقصد إلى بلاد الحرب غازياً، وقصد ألبة والقلاع، فلقي العدوّ وظفر بهم، وفتح الله عليه سنة خمس وسبعين (5) . وبعث العساكر إلى جليقية مع يوسف بن بخت (6) فلقي ملكها برمند (7) ، وهزمه، وأثخن في العدوّ.
وفي سنة ست وسبعين (8) بعث وزيره عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث لغزاة العدوّ، فبلغ ألبة والقلاع، فأثخن في نواحيها، ثمّ بعثه في العساكر سنة سبع وسبعين إلى أربونة وجرندة (9) فأثخن فيها، ووطئ أرض برطانة، وتوغل
(1) ابن عذاري 2: 98 (66 ط. ليدن) .
(2)
أخبار مجموعة: 120 وابن القوطية: 65.
(3)
ق: إن الله تعالى زين
…
وأخبار مجموعة: وددت أن الله؛ وسقطت " ليت أن " أو ما يقابلها من ط. وفي ك: نسأل الله أن يزين..
(4)
كان ذلك عام 177.
(5)
في ابن عذاري: سنة 176.
(6)
هكذا في البيان المغرب: 95 وفي ط ق: بن نجبة؛ وفي ك ج: ابن نجية.
(7)
ك: ابن منده، اقرأ " ابرمنده " وفي البيان: برمود (Vermudo) .
(8)
انظر ابن عذاري 2: 95 (64 ط. ليدن) .
(9)
جرندة: (Gerona) إلى الشمال الشرقي من برشلونة.
عبد الملك في بلاد الكفر وهزمهم، ثم بعث العساكر مع عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة والقلاع سنة ثمان وسبعين، ومع أخيه عبد الملك بن عبد الواحد إلى بلاد جليقية، فانتهى إلى استرقة (1) ، فجمع له ملك الجلالقة واستمد بملك البشكنس، ثم خام عن اللقاء، ورجع أدراجه، واتبعه عبد الملك، وكان هشام قد بعث الجيوش من ناحية أخرى، فالتقوا بعبد الملك، وأثخنوا في البلاد، واعترضتهم عساكر الفرنج فنالوا منهم بعض الشيء، ثم خرجوا سالمين ظافرين.
ومن محاسنه أنّه جدّد القنطرة التي يضرب بها المثل بقرطبة كما سبق، وكان بناها السّمح الخولاني عامل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فأحكم هشام بناءها إلى الغاية، وقال يوماً لأحد وزرائه (2) : ما يقول أهل قرطبة؟ فقال: يقولون: ما بناها الأمير إلا ليمضي عليها إلى صيده وقنصه، فآلى هشام على نفسه أن لا يسلك عليها، فلم يمرّ عليها بعد، ووفى بما حلف عليه.
ومن محسنه (3) أيضاً إكمال بناء الجامع بقرطبة، وكان أبوه شرع فيه؛ ومن محاسنه أنّه أخرج المصدّق لأخذ الزكاة على الكتاب والسنّة، رحمه الله.
ثمّ توفّي سنة ثمانين ومائة، لسبع سنين وتسعة أشهر من إمارته، وقيل: لثمان - وكان من أهل الخير والصلاح، كثير الغزو والجهاد - وعمره أربعون سنة وأربعة أشهر، وولد في شوال سنة 139 (4) .
[الحكم بن هشام]
وولي بعده ابنه الحكم (5) بعهدٍ منه إليه، فاستكثر من المماليك، وارتبط
(1) استرقة أو اشترقة: (Astorga) من منطقة جليقية إلى الغرب في اتجاه الشمال من مدينة لبلة (Niebla) .
(2)
ابن عذاري 2: 6 (66 ط. ليدن) .
(3)
هذا النص متأخر في أصول النفح عن قوله: " ثم توفي
…
الخ " فاصل خبر الوفاة إلى جزئين، يبدأ الثاني منهما بقوله " وعمره
…
" ولهذا الاضطراب أبحت لنفسي إعادة ترتيبه.
(4)
في الأصول: 137.
(5)
ابن خلدون 4: 125.
الخيل، واستفحل ملكه، وباشر الأمور بنفسه، وفي خلال فتنة كانت بينه وبين عميه اغتنم العدوّ الكافر الفرصة في بلاد المسلمين، وقصدوا (1) برشلونة فملكوها سنة خمس وثمانين، وتأخرت عساكر المسلمين إلى ما دونها، وبعث الحكم العساكر مع الحاجب عبد الكريم بن مغيث (2) إلى بلاد الجلالقة، فأثخنوا فيها، وخالفهم العدو إلى المضايق، فرجع على التعبية، وظفر بهم، وخرج إلى بلاد الإسلام ظافراً.
وكانت له الواقعة الشهيرة مع أهل الرّبض (3) من قرطبة لأنّه في صدر ولايته كان قد انهمك في لذّاته، فاجتمع أهل العلم والورع بقرطبة، مثل يحيى بن يحيى الليثي (4) صاحب مالك وأحد رواة الموطّإ عنه وطالوت الفقيه (5) وغيرهما، فثاروا به، وخلعوه، وبايعوا بعض قرابته، وكانوا بالرّبض الغربيّ من قرطبة، وكان محلّةً متصلةً (6) بقصره، فقاتلهم الحكم فغلبهم وافترقوا وهدم دورهم ومساجدهم، ولحقوا بفاس من أرض العدوة، وبالإسكندرية من أرض المشرق، ونزل بها جمع منهم، ثم ثاروا بها، فزحف إليهم عبد الله بن طاهر صاحب مصر للمأمون بن الرشيد، وغلبهم، وأجازهم إلى جزيرة أقريطش، فلم يزالوا بها إلى أن ملكها الإفرنج من أيديهم بعد مدّة.
(1) في الأصول: وقصد.
(2)
الصواب: عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث.
(3)
انظر تفصيل الخبر عن هيج أهل الربض أولاً سنة 189 وثانياً سنة 202 في ابن عذاري 2: 106، 113 وابن القوطية: 72 والحلة السيراء 1: 44 وأوجز ابن خلدون الخبر عن وقعتهم 4: 126.
(4)
يحيى بن يحيى الليثي: مصمودي سمع مالك وعاد إلى الأندلس بعلم كثير وأصبح يفتي فيها برأي مالك (توفي سنة 233 أو 234) راجع ترجمته في ابن الفرضي 2: 176 والجذوة: 359 وبغية الملتمس رقم 1497 وابن خلكان 5: 194؛ وسيترجم له المقري في الراحلين إلى المشرق رقم: 2.
(5)
راجع ترجمة طالوت بن عبد الجبار في الذيل والتكملة 4: 149 وابن القوطية: 75 - 77 والتكملة: 345.
(6)
في الأصول: محله متصلاص، والتصويب عن ابن خلدون.
وكانت في أيّام الحكم حروب وفتن مع الثوّار المخالفين له من أهل طليطلة وغيرهم.
وفي سنة ثنتين وتسعين (1) جمع لذريق (2) بن قارله ملك الفرنج جموعه، وسار إلى حصار طرسونة (3) ، فبعث الحكم ابنه عبد الرحمن في العساكر، فهزمه، ففتح الله على المسلمين، وعاد ظافراً.
ولمّا كثر عيث الفرنج في الثغور بسبب اشتغال الحكم بالخارجين عليه سار بنفسه إلى الفرنج سنة ست وتسعين (4) ، فافتتح الغثور والحصون، وخرّب النواحي، وأثخن في القتل والسبي والنهب، وعاد إلى قرطبة ظافراً.
وفي سنة مائتين (5) بعث العساكر مع ابن مغيث إلى بلاد الفرنج فخرب وهدم عدّة حصون، وأقبل عليه أليط (6) ملك الجلالقة وفي جموع عظيمة، وتنازلوا على نهر، واقتتلوا عليه أيّاماً، ونال المسلمون منهم أعظم النّيل، وأقاموا كذلك ثلاث عشرة ليلة، ثم كثرت الأمطار، ومدّ النهر، وقفل المسلمون ظافرين ظاهرين.
وهو أوّل من جند الأجناد، واتخذ العدّة، وكان أفحل (7) بني أميّة بالأندلس، وأشدّهم إقداماً ونجدة، وكان يشبّه بأبي جعفر المنصور من خلفاء بني العبّاس في شدّة الملك وتوطيد الدولة وقمع الأعداء، وكان يؤثر الفقيه زياد بن عبد الرحمن (8) ، وحضر يوماً عنده، وقد غضب فيه على خادم له لإيصاله
(1) ابن عذاري 2: 108 وتاريخ الحملة 193.
(2)
هكذا في الأصول ودوزي ولعل الأصوب لذويق - بالواو - وهو تعريب (Ludovico) .
(3)
البيان المغرب: طرطوشة.
(4)
أثبت دوزي سنة 194 ولا خلاف فإن الغزو اتصل بين عامي 194 - 196 كما ورد عند ابن عذاري.
(5)
ابن عذاري 2: 112.
(6)
أليط: وردت في الأصول، ولم يرد الاسم في ابن عذاري وأسقطه دوزي.
(7)
هذه العبارة إلى قوله " وقمع الأعداء " في المغرب 1: 38.
(8)
زياد بن عبد الرحمن الملقب بشبطون (199 و 204) قيل إنه أول من أدخل الأندلس فقه مالك وكانوا قبله على مذهب الأوزاعي (الجذوة: 203) .
إليه كتاباً كره وصوله، فأمر بقطع يده، فقال له زياد: أصلح الله الأمير، فإن مالك بن أنس حدّثني في خبر رفعه أن " من كظم غيظاً يقدر على إنفاذه ملأه الله تعالى أمناً وإيماناً يوم القيامة "، فأمر أن يمسك عن الخادم، ويعفى عنه، فسكن غضبه، وقال: آلله إن مالكاً حدّثك بهذا؟ فقال زياد: ألله إن مالكاً حدثني بهذا (1) .
وكانت المجاعة الشديدة سنة سبع وتسعين ومائة (2) ، فأكثر فيها مواساة أهل الحاجات، وفي ذلك يقول عباس بن ناصح الجزيري فيه (3) :
نكد الزّمان فآمنت أيّامه
…
من أن يكون بعصره عسر
ظلع الزّمان بأزمة فجلا له
…
تلك الكريهة جوده الغمر وكان نقش خاتمه " بالله يثق الحكم ويعتصم ".
وذكور ولده عشرون، وإناثهم عشرون، وأمّه جارية اسمها زخرف.
وكان أسمر، طوالاً، وأشمّ، نحيفاً.
ومدّة ملكه ست وعشرون سنة، سامحه الله.
وقال غير واحد: إنّه أول من جعل للملك بأرض الأندلس أبّهة، واستعدّ بالمماليك حتى بلغوا خمسة آلاف: منهم ثلاثة آلاف فارس، وألفا راجل.
ثمّ توفّي الحكم بن هشام آخر سنة ست ومائتين لسبع وعشرين سنة من ولايته، ومولده سنة 154.
وقال ابن خلدون وغير واحد (4) : إنّه أوّل من جنّد بالأندلس الأجناد
(1) انظر المقتطفات (الورقة: 83) .
(2)
يذكر ابن عذاري أنها كانت سنة 199.
(3)
عباس بن ناصح الجزيري، ثقفي بالولاء، رحل إلى المشرق غير مرة، وكان شاعراً كثير المدح للأمير الحكم، ثم ولي قضاء الجزيرة الخضراء وشذونة (راجع ترجمته في ابن الفرضي 1: 340 وطبقات الزبيدي: 284 والمغرب 1: 324 وبغية الوعاة 2: 28) .
(4)
انظر ابن خلدون 4: 127 والمغرب 1: 39.
والمرتزقة، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الخدم والحواشي والحشم، وارتبط الخيول على بابه، واتخذ المماليك، وكان يسميهم الخرس لعجمتهم، وحكى في عدّتهم ما تقدم، ثم قال: وكانت له عيون يطالعونه بأحوال الناس، وكان يباشر الأمور بنفسه، ويقرب الفقهاء والعلماء والصالحين، وهو الذي وطّأ الملك لعقبه بالأندلس، انتهى.
وكان له - فيما حكى غير واحد - ألفا فرس مرتبطة على شاطئ النهر بقبليّ قصره يجمعها داران. وهو القائل لما قتل أهل الرّبض وهدم ديارهم وحرثها (1) :
رأبت صدوع الأرض بالسيف راقعا
…
وقدماً لأمت الشّعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرةٌ
…
أبادرها مستنضي السيف دارعا
تنبّيك أني لم أكن في قراعهم
…
بوانٍ، وقدماً كنت بالسيف قارعا
وهل زدت أن وفّيتهم صاع قرضهم
…
فوافوا منايا قدّرت ومصارعا
فهذي بلادي، إنّني قد تركتها
…
مهاداً، ولم أترك عليها منازعا وقال ابن حزم في حقّه (2) : إنّه كان من المجاهرين بالمعاصي، السافكين الدماء، ولذلك قام عليه الفقهاء والصلحاء. وقال غيره (3) إنّه تنصّل أخيراً، وتاب، سامحه الله.
ومن نظمه قوله متغزلاً (4) :
قضبٌ من البان ماست فوق كثبان
…
ولّين عنّي وقد أزمعن هجراني
(1) الأبيات في ابن عذاري 2: 107 وأخبار مجموعة: 132 والحلة 1: 47 ومخطوط الرباط: 107 والمغرب 1: 44.
(2)
ورد هذا في نقط العروس: 73 (نشر الدكتور ضيف) وانظر المغرب 1: 44 ومخطوط الرباط: 106.
(3)
ك: غير واحد.
(4)
انظر الحلة 1: 50 ومخطوط الرباط: 106.
ومنها:
من لي بمقتضبات الرّوح من بدني
…
يغصبنني في الهوى عزّي وسلطاني وقيل: إنّه كان يمسك أولاد الناس ويخصيهم، ونقلت عنه أمور، ولعلّه تاب منها كما قدّمنا، والله أعلم بحقيقة أمره.
ومن بديع أخبار الحكم (1) أن العباس الشاعر وتوجّه إلى الثّغر، فلمّا نزل بوادي الحجارة سمع امرأة تقول: واغوثاه بك يا حكم، لقد أهملتنا حتى كلب العدوّ علينا، فأيّمنا وأيتمنا، فسألها عن شأنها، فقالت: كنت مقبلة من البادية في رفقة، فخرجت علينا خيل عدو، فقتلت وأسرت، فصنع قصيدته التي أوّلها:
تململت في وادي الحجارة مسهرا
…
أراعي نجوماً ما يردن تغوّرا (2)
إليك أبا العاصي نضيت مطيّتي
…
تسير بهم سارياً ومهجّرا
تدارك نساء العالمين بنصرة
…
فإنّك أحرى أن تغيث وتنصرا فلمّا دخل عليه أنشده القصيدة، ووصف له خوف الثغر واستصراخ المرأة باسمه، فأنف ونادى في الحين بالجهاد والاستعداد، فخرج بعد ثلاث إلى وادي الحجارة ومعه الشاعر، وسأل عن الخيل التي أغارت من أيّ أرض العدوّ كانت، فأعلم بذلك، فغزا بتلك الناحية وأثخن فيها، وفتح الحصون، وخرب الديار، وقتل عدداً كثيراً، وجاء إلى وادي الحجارة فأمر بإحضار المرأة وجميع من أسر له أحد في تلك البلاد، فأحضر، فأمر بضرب رقاب الأسرى بحضرتها، وقال للعباس: سلها: هل أغاثها الحكم؟ فقالت المرأة، وكانت نبيلة: والله لقد شفى الصدور، وأنكى العدوّ، وأغاث الملهوف، فأغاثه الله، وأعزّ نصره؛
(1) ورد هذا الخبر نصاً في مخطوط الرباط 107 - 108 وفي المقتطفات الورقة: 83.
(2)
في الأصول ودوزي: تغيرا.
فارتاح لقولها، وبدا السرور في وجهه وقال:
ألم تر يا عبّاس أنّي أجبتها
…
على البعد أقتاد الخميس المظفّرا
فأدركت أوطاراً وبرّدت غلّةً
…
ونفّست مكروباً وأغنيت معسرا فقال عبّاس: نعم، جزاك الله خيراً عن المسلمين، وقبّل يده.
وممّا عيب به أنّه قتل الفقيه أبا زكريا يحيى بن مضر القيسي، وكان قدوة في الدين والورع، سمع من سفيان ومالك بن أنس، وروى عنه مالك وقال: حدّثنا يحيى بن مضر عن سفيان الثوري أن الطّلح المنضود هو الموز، وكان قتل المذكور مع جماعة من العلماء وغيرهم.
[عبد الرحمن بن الحكم]
وقام بأمره (1) من بعده ابنه عبد الرحمن، بعهد منه إليه، ثم لأخيه المغيرة بعده، فغزا عبد الرحمن لأول ولايته إلى جليقية وأبعد، وأطال المغيب، وأثخن في أمم النصرانية هنالك، ورجع.
وقدم عليه سنة ست ومائتين زرياب المغني من العراق (2) ، وهو مولى المهدي ومتعلم إبراهيم الموصلي، واسمع علي بن نافع، فركب بنفسه لتلقّيه، على ما حكاه ابن خلدون، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده بخير حال، وأورث صناعة الغناء بالأندلس وخلّف أولاداً فخلفه كبيرهم عبد الرحمن في صناعته وحظوته.
وفي سنة ثمان (3) أغزى حاجبه عبد الكريم بن عبد الواحد إلى ألبة
(1) سياق الأخبار التاريخية عن عهد عبد الرحمن بن الحكم جار وفق ما أورده ابن خلدون 4: 127 - 130 مع حذف، ويظل النقل مستمراً حتى قوله " واحتجب عن العامة ".
(2)
ستأتي أخبار زرياب في موضعها مفصلة.
(3)
ابن عذاري 2: 123، قلت: وسياق تاريخ المعارك من بعد يختلف عما أورده ابن خلدون.
والقلاع، فخرّب كثيراً من البلاد وانتسفها، وفتح كثيراً من حصونهم، وصالح بعضها على الجزية وإطلاق أسرى المسلمين، وانصرف ظافراً.
وفي سنة أربع وعشرين بعث قريبه عبيد الله بن البلنسي في العساكر لغزو ألبة والقلاع، فسار ولقي العدوّ فهزمهم وأكثر القتل والسبي، ثم خرج لذريق ملك الجلالقة، وأغار على مدينة سالم (1) بالثغر، فسار إليه فرتون بن موسى، وقاتله، فهزمه وأكثر القتل والسبي في العدو والأسر، ثم سار إلى الحصن الذي بناه أهل ألبة بالثغر نكايةً للمسلمين، فافتتحه وهدمه، ثم سار عبد الرحمن في الجيوش إلى بلاد جليقية، فدوّخها وافتتح عدّة حصون منها، وجال في أرضهم، ورجع بعد طول المقام بالسبي والغنائم.
وفي سنة ست وعشرين بعث عبد الرحمن العساكر إلى أرض الفرنجة، وانتهوا إلى أرض بريطانية، وكان على مقدمة المسلمين موسى بن موسى عامل تطيلة (2) ، ولقيهم العدوّ، فصبر حتى هزم الله عدوّهم، وكان لموسى في هذه الغزاة مقام محمود.
وفي سنة تسع وعشرين بعث ابنه محمداً بالعساكر، وتقدم إلى بنبلونة (3) ، فأوقع بالمشركين عندها، وقتل غرسية صاحبها، وهو من أكبر ملوك النصارى.
وفي أيامه ظهر المجوس (4) ، ودخلوا إشبيلية، فأرسل إليهم عبد الرحمن العساكر مع القوّاد من قرطبة، فنزل المجوس من مراكبهم، وقاتلهم المسلمون،
(1) مدينة سالم: (Medinacelli) كانت من أعظم مدن الثغر الأوسط وبينها وبين وادي الحجارة خمسون ميلاً، وكانت أولاً عاصمة هذا الثغر ثم حلت محلها طليطلة.
(2)
تطيلة: (Tudeela) من مدن الثغر الأعلى إلى الشمال الغربي من سرقسطة.
(3)
بنبلونة: (Pamplona) عند المداخل الغربية من جبال البرت، وتقع في سهل ريوخه (Rioja) وهي من أوائل المناطق التي استقلت عن الحكم الإسلامي.
(4)
المجوس أو الاردمانيون (Nordmani)(النورمان Norsemen) كانوا يغيرون على الأندلس من المنافذ النهرية؛ وقد ساهم العرب المجوس لأنهم كانوا يشعلون النيران كثيراً فظن العرب أنهم يعبدونها؛ انظر ابن عذاري 2: 130 في غارتهم سنة 230هـ؟.
فهزموهم بعد مقام صعب، ثم جاءت العساكر مدداً من قرطبة فقاتلهم المجوس، فهزمهم المسلمون وغنموا بعض مراكبهم وأحرقوها، ورحل المجوس إلى شذونة فأقاموا عليها يومين، وغنموا بعض الشيء، ووصلت مراكب عبد الرحمن إلى إشبيلية فأقلع المجوس إلى لبلة، وأغاروا وسبوا ثم إلى باجة ثم أشبونة، ثم انقطع خبرهم حين أقلعوا من أشبونة، وسكنت البلاد، وذلك سنة ثلاثين، وتقدّم عبد الرحمن بإصلاح ما خربوه من البلاد، وأكثف حاميتها.
وفي سنة إحدى وثلاثين (1) بعث العساكر إلى جليقية فدوّخوها، وحاصروا مدينة ليون ورموها بالمجانيق، وهرب أهلها عنها وتركوها، فغنم المسلمون ما فيها وأحرقوها، وأرادوا هدم سورها فلم يقدروا عليه، لأن عرضه كان سبعة عشر ذراعاً، فثلموا فيه ثلمة ورجعوا.
ثم أغزى عبد الرحمن حاجبه عبد الكريم في العساكر إلى بلاد برشلونة، فعاث في نواحيها وأجاز الدروب التي تسمّى البرت إلى بلاد الفرنجة فدوّخها قتلاً وأسراً وسبياً، وحاصر مدينتها العظمى جرندة، وعاث في نواحيها، وقفل.
وقد كان ملك القسطنطينية من ورائهم توفلس (2) بعث إلى الأمير عبد الرحمن سنة خمس وعشرين بهدية يطلب مواصلته ويرغّبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم حتى إنّه ذكرهما له في كتابه له وعبّر عنهما بابني مراجل وماردة، فكافأه الأمير عبد الرحمن عن الهدية، وبعث إليه يحيى الغزال (3) من كبار أهل الدولة، وكان مشهوراً في الشعر والحكمة، فأحكم
(1) ابن عذاري 2: 132.
(2)
توفلس: (Theophilus) .
(3)
سيترجم له المقري؛ وهنا يذكر المقري نقلاً عن ابن خلدون خبر سفارته إلى القسطنطينية، وأطنب ابن دحية في تفصيل سفارته إلى بلاد المجوس، ولعل تعاقب النصين هو منشأ الوهم حول هذه السفارة. راجع المطرب: 125 - 141 (وانظر ترجمة الغزال في الجذوة: 351، وبغية الملتمس رقم: 1467، والمغرب 2: 57 ودراستي عنه في تاريخ الأدب الأندلسي: 111)، وقد كتب عن سفارته عدة دراسات آخرها كتاب:(The poet And The Spae - Wife، by W. E. D. Allen؛ London، 1960) .
بينهما الوصلة، وارتفع لعبد الرحمن ذكر عند منازعيه من بني العباس.
ويعرف الأمير عبد الرحمن بالأوسط، لأن الأول عبد الرحمن الداخل، والثالث عبد الرحمن الناصر.
ثم توفّي عبد الرحمن الأوسط سنة ثمان وثلاثين ومائتين، بربيع الآخر، لإحدى وثلاثين سنة من إمارته؛ ومولده بطليطلة في شعبان سنة ست وسبعين ومائة.
وكان عالماً بعلوم الشريعة والفلسفة، وكانت أيّامه أيّام هدوء وسكون، وكثرت الأموال عنده، واتخذ القصور والمتنزهات، وجلب إليها المياه من الجبال، وجعل لقصره مصنعاً اتخذه الناس شريعة، وأقام الجسور، وبنيت في أيّامه الجوامع بكور الأندلس، وزاد في جامع قرطبة رواقين، ومات قبل أن يستتمه (1) ، فأتمّه ابنه محمد بعده، وبنى بالأندلس جوامع كثيرة، ورتب رسوم المملكة، واحتجب عن العامّة.
وعدد ولده مائة وخمسون من الذكور، وخمسون من الإناث (2)، ونقش خاتمه عابد الرحمن بقضاء الله راض وفي ذلك قيل (3) :
خاتمٌ للملك أضحى
…
حكمه في الناس ماضي
عابد الرحمن فيه
…
بقضاء الله راضي
(1) قال ابن حيان في المقتبس (نسخة القرويين: 140) نقلاً عن الرازي: وزاد الأمير عبد الرحمن ابن الحكم الزيادة الأولى الظاهرة من قبلته للداخل إليه
…
؛ وقد كانت أبهاء المسجد تسعة أبهاء زاد عليها عبد الرحمن بهوين من كل جانبيه فكملها أحد عشر بهواً؛ وكان الشروع في هذه الزيادة سنة 234
…
وقال ابن القوطية: مات الأمير عبد الأمير عبد الرحمن وقد بقي عليه في هذه الزيادة بقايا يسيرة من تنجيد وزخرفة أتمها الأمير ابنه محمد الوالي في مكانه. (وانظر ابن القوطية: 84) .
(2)
ابن عذاري 2: 122 أن الذكور 45 والبنات 42 وجاء ابن سعيد (المغرب 1: 45) بأرقام أخرى نقلاً عن ان حزم.
(3)
انظر ابن عذاري 2: 122 ومخطوطة الرباط: 113.
وهو أول من أحدث هذا النقش، وبقي وراثة لمن بعده من ولده.
قال ابن سعيد (1) : وفي أيّامه انتهى مال الجباية إلى ألف ألف دينار في السنة، وكان قبل لا يزيد على ستمائة ألف، وقد ذكرنا في غير هذا الموضع ما يخالف هذا فليراجع، والله أعلم.
ومن توقيعاته (2) : ومن لم يعرف وجه طلبه، فالحرمان أولى به.
ومن شعر عبد الرحمن المذكور قوله:
ولقد تعارض أوجهٌ لأوامر
…
فيقودها التوفيق نحو صوابها
والشيخ إن يحو النّهى بتجارب
…
فشباب رأي القوم عند شبابها وفي زيادته في جامع قرطبة يقول ابن المثنى (3) رحمه الله تعالى:
بنيت لله خير بيتٍ
…
يخرس عن وصفه الأنام
حجّ إليه بكل أوبٍ
…
كأنّه المسجد الحرام
كأنّ محرابه إذا ما
…
حفّ به الركن والمقام وقال آخر (4) :
بنى مسجداً لله لم يك مثله
…
ولا مثله لله في الأرض مسجد
سوى ما ابتنى الرحمن والمسجد الذي
…
بناه نبيّ المسلمين محمّد
له عمد حمر وخضر كأنّما
…
تلوح يواقيت بها وزبرجد
ألا يا أمين الله، لا زلت سالماً
…
ولا زلت في كلّ الأمور تسدّد
فيا ليتنا نفديك من كلّ حادث
…
وأنّك للدّنيا وللدّين تخلد
(1) المغرب 1: 46.
(2)
المغرب 1: 46 وأخباره مجموعة: 139 والمقتبس (تحقيق مكي) : 89.
(3)
هو عثمان بن المثنى النحوي، هاجر إلى المشرق ولقي أبا تمام وروى عنه شعره (انظر طبقات الزبيدي: 288 وابن الفرضي 1: 346) وهذا الشعر لابن المثنى ورد في مخطوطة الرباط: 116.
(4)
مخطوطة الرباط: 116.
وكان كثير الميل للنساء، وولع بجاريته طروب (1) ، وكلف بها كلفاً شديداً، وهي التي بنى عليها الباب ببدر المال حين تجنّت عليه. وأعطاها حلياً قيمته مائة ألف دينار. فقيل له: إن مثل هذا لا ينبغي أن يخرج من خزانة الملك، فقال: إن لابسه أنفس منه خطراً، وأرفع قدراً، وأكرم جوهراً، وأشرف عنصراً، وفيها يقول:
إذا ما بدت لي شمس النّها
…
ر طالعةً ذكّرتني طروبا
أنا ابن الميامين من غالبٍ
…
أشبّ حروباً وأطفي حروبا وخرج غازياً إلى جليقية فطالت غيبته فكتب إليها:
عداني عنك مزار العدا
…
وقودي إليهم سهاماً مصيبا
فكم قد تخطّيت من سبسبٍ
…
ولاقيت بعد دروبٍ دروبا
ألاقي بوجهي سموم الهجير
…
إذ كاد منه الحصى أن يذوبا
تدارك بي الله دين الهدى
…
فأحييته وأمتّ الصليبا
وسرت إلى الشّرك في جحفلٍ
…
ملأت الحزون به والسّهوبا وساق بعض المؤرخين قصة طروب هذه بقوله: إن السلطان المذكور أغضبها فهجرته، وصدت عنه، وأبت أن تأتيه، ولزمت مقصورتها، فاشتد قلقه لهجرها، وضاق ذرعه من شوقها، وجهد أن يترضاها بكل وجه فأعياه ذلك، فأرسل من خصيانه من يكرهها على الوصول إليه، فأغلقت باب مجلسها في وجوههم، وآلت أن لا تخرج إليهم طائعة، ولو انتهى الأمر إلى القتل، فانصرفوا إليه وأعلموه بقولها، واستأذنوه في كسر الباب عليها، فنهاهم وأمرهم بسد الباب عليها من خارجه ببدر الدراهم، ففعلوا، وبنوا عليها بالبدر، وأقبل حتى وقف بالباب وكلّمها مسترضياً راغباً في المراجعة على أن لها جميع ما سد به الباب،
(1) راجع أخباره مع طروب وشعره فيها في المغرب 1: 46 وابن عذاري 2: 137 والحلة السيراء 1: 114 وابن القوطية 82 - 83 والمقتطفات (الورقة: 83 - 84) .
فأجابت وفتحت الباب، فانهالت البدر في بيتها فأكبّت على رجله تقبلها، وحازت المال، وكانت تبرم الأمور مع نصر الخصيّ فلا يردّ شيئاً ممّا تبرمه.
وأحبّ أخرى اسمها مدثرة فأعتقها وتزوجها، وأخرى كذلك اسمها الشفاء، وأمّا جاريته قل فكانت أديبة، حسنة الحظ، راوية للشعر، حافظة للأخبار، عالمة بضروب الأدب. وكان مولعاً بالسماع، مؤثراً له على جميع لذّاته، وله أخبار كثيرة، رحمه الله.
[محمد بن عبد الرحمن]
ولمّا مات وليّ ابنه محمدٌ (1) ، فبعث لأوّل وليته عساكر مع موسى بن موسى صاحب تطيلة (2) ، فعاث في نواحي ألبة والقلاع، وفتح بعض حصونها، ورجع، وبعث عساكر أخرى إلى نواحي برشلونة وما وراءها، فعاثوا فيها وفتحوا حصوناً من برشلونة ورجعوا.
ولما استمدّ أهل طليطلة المخالفون (3) من أهل بلاد الأمير محمد عليه بملكي جليقية والبشكنس لقيهم الأمي محمد على وادي سليطة (4) ، وقد أكمن لهم، فأوقع بهم، وبلغت عدّة القتلى من أهل طليطلة والمشركين عشرين ألفاً.
وفي سنة خمس وأربعين ظهرت مراكب المجوس (5) ، وعاثوا في الأندلس،
(1) يتبع المقري في سياق الأحداث ونصها ما أورده ابن خلدون 4: 130 - 132. وقارن بما في المقتبس (تحقيق مكي) : 292 وما بعدها.
(2)
ك ق: طليطلة، وهو خطأ، والتصويب عن ابن خلدون وط.
(3)
ثار أهل طليطلة أول ما تولى الإمارة (238) فأخرج إليهم في العام التالي ابنه الحكم ثم خرج إليهم بنفسه في العام بعده فاستعانوا بصاحب جليقية (240) . انظر ابن عذاري وتفصيل الأخبار عن تمرد طليطلة في حكم الأمير محمد 2: 142 وما بعدها.
(4)
ابن خلدون وابن عذاري: وادي سليط (Auzalate) وهو نهير يصب في التاجه جنوبي طليطلة، وأثبتنا ما في الأصول.
(5)
انظر تفصيل هذا الغزو في المقتبس (تحقيق مكي) : 307 - 309.
فلقيهم مراكب الأمير محمد، فقاتلوهم وغنموا منهم مركبين، واستشهد جماعة من المسلمين.
وفي سنة سبع وأربعين (1) أغزى محمد إلى نواحي بنبلونة وصاحبها حينئذٍ غرسية بن ونقه (2) ، وكان يظاهر أردون (3) بن أذفنش، فعاث في نواحي بنبلونة، ورجع وقد دوّخها وفتح كثيراً من حصونها، وأسر فرتون ابن صاحبها، فبقي أسيراً بقرطبة عشرين سنة.
ثم بعث سنة إحدى وخمسين أخاه المنذر في العساكر إلى نواحي ألبة والقلاع فعاثوا فيها، وجمع لذريق للقائهم، فلقيهم وانهزم، وأثخن المسلمون في المشركين بالقتل والأسر، فكان فتحاً لا كفاء له.
ثم غزا الأمير محمد بنفسه سنة إحدى وخمسين بلاد الجلالقة، فأثخن وخرب.
وفي سنة ثلاث وستين أغزى الأمير محمد ابنه المنذر إلى دار الحرب، وفي السنة التي بعدها إلى بلاد بنبلونة فدوّخها ورجع.
وفي سنى ثمان وستين أغزاه أيضاً إلى دار الحرب، فعاث في نواحيها وفتح حصوناً.
وفي أيام الأمير محمد خربت ماردة وهدمت ولم يبق لها أثر.
وذكر بعضهم أنّه رأى بالمشرق هذه الأبيات قبل أن تخرب ماردة بأعوام، ولم يعلم قائلها، وذلك سنى 254:
ويلٌ لماردة التي مردت
…
وتكبرت عن عدوة النهر
كانت ترى لهم بها زهرٌ
…
فخلت من الزهرات كالقفر
فالويل ثم الويح حين غزا
…
بجميعهم من صاحب الأمر
(1) ابن عذاري: وفي سنة 246.
(2)
(Garcia) ابن (Inigo) ؛ وفي ق ك ط ج: وبقة.
(3)
في الأصول أردن؛ والاسم (Ordano) .
ثمّ توفّي الأمير محمّد في شهر صفر سنة ثلاث وسبعين ومائتين، لخمس وثلاثين سنة من إمارته، ومولده سنة سبع ومائتين.
[المنذر بن محمد]
وولي بعده ابنه المنذر (1) ، ولم تطل مدّته، وأقام في الملك سنتين إلا نصف شهر، وتوفيّ منتصف صفر سنة خمس وسبعين ومائتين، وفيه قيل:
بالمنذر بن محمّدٍ
…
صلحت بلاد الأندلس [عبد الله بن محمد]
ثمّ ولي أخوه عبد الله، قال ابن خلدون (2) : كان خراج الأندلس قبله ثلاثمائة ألف دينار: مائة ألف للجيوش، ومائة ألف للنفقة في النوائب وما يعرض، ومائة ألف ذخيرة ووفراً، فأنفق الوفر حين اضطربت عليه نواحي الأندلس بالثّوار والمتغلّبين في تلك السنين، وقلّ الخراج، انتهى.
ومن نظم الأمير عبد الله قوله (3) :
يا مهجة المشتاق ما أوجعك
…
ويا أسير الحبّ ما أخشعك
ويا رسول العين من لحظها
…
بالردّ والتبليغ ما أسرعك
تذهب بالسرّ فتأتي به
…
في مجلس يخفى على من معك
كم حاجةٍ أنجزت إبرازها
…
تبارك الرحمن ما أطوعك
(1) أوجز المقري في أخبار هذا الأمير فراجع ابن خلدون 4: 132 والمغرب 1: 53 وابن القوطية: 119 وأخبار مجموعة: 149 ومخطوطة الرباط: 124.
(2)
تاريخ ابن خلدون 4: 133 وراجع المصادر السابقة في ولاية عبد الله وأخباره؛ وقد بقي جزء من المقتبس خاص بعهد هذا الأمير، نشره منشور أنطونية (باريس 1937) .
(3)
ابن عذاري 2: 232 والحلة 1: 121.
وهذه الأبيات عنوان فضله، وبراعة استهلال نبله.
وكان الوزراء يطالعون بآرائهم الخليفة في بطاقة، فطالعه وزيره النّضر بن سلمة (1) برأيه في أمر في ورقة، فلمّا وقف عليها لم يعجبه ذلك الرأي، فكتب (2) :
أنت يا نضر آبده
…
ليس ترجى لفائده
إنّما أنت عدّةٌ
…
لكنيفٍ ومائده وتوفّي الأمير عبد الله سنة ثلاثمائة، ومدة ملكه نحو من خمس وعشرين سنة.
[عبد الرحمن الناصر]
وولي حافده عبد الرحمن الناصر (3) ابن ابنه محمد قتيل أخيه المطرف، وكانت ولايته من الغريب، لأنّه كان شابّاً، وأعمامه وأعمام أبيه حاضرون، فتصدّى إليها واحتازها دونهم، ووجد الأندلس مضطربة بالمخالفين، مضطرمة بنيران المتغلبين، فأطفأ تلك النيران، واستنزل أهل العصيان، واستقامت له الأندلس في سائر جهاتها بعد نيّف وعشرين سنة من أيّامه، ودامت أيّامه نحو خمسين سنة استفحل فيها ملك بني أميّة بتلك الناحية، وهو أول من تسمّى منهم بالأندلس بأمير المؤمنين، عندما التاث أمر الخلافة بالمشرق، واستبدّ موالي الترك على بني العباس، وبلغه أن المقتدر قتله مؤنس المظفر مولاه سنة سبع عشرة وثلاثمائة (4) فتلقب ألقاب الخلافة، وكان كثير الجهاد بنفسه والغزو إلى دار الحرب، إلى أن هزم عام الخندق سنة ثلاث وعشرين (5) ، ومحّص الله فيها
(1) ترجمته في ابن الفرضي 2: 28 استقضاه الأمير عبد الله بقرطبة ثم استوزره (توفي سنة 202) .
(2)
ابن عذاري 2: 231 والحلة 1: 122.
(3)
انظر ابن خلدون 4: 137.
(4)
الصواب سنة 320.
(5)
اقرأ: سنة 327.
المسلمين، فقعد عن الغزو بنفسه وصار يردّد الصّوائف في كل سنة، فأوطأ عساكر المسلمين من بلاد الإفرنج ما لم يطؤوه قبل في أيّام سلفه، ومدّت إليه أمم النصرانية من وراء الدروب يد الإذعان، وأوفدوا عليه رسلهم وهداياهم من رومة والقسطنطينية في سبيل المهادنة والسلم والاعتمال فيما يعنّ في مرضاته، ووصل إلى سدّته الملوك من أهل جزيرة الأندلس المتاخمين لبلاد المسلمين بجهات قشتالة وبنبلونة وما ينسب إليها من الثغور الجوفية، فقبّلوا يده، والتمسوا رضاه، واحتقبوا جوائزه، وامتطوا مراكبه، ثم سما إلى ملك العدوة فتناول سبتة - قفل الفرضة (1) - من أيدي أهلها سنة سبع عشرة وثلاثمائة (2) ، وأطاعه بنو إدريس أمراء العدوة وملوك زناتة والبربر، وأجاز إليه الكثير منهم كما يعلم من أخباره، وبدأ أمره أول ولايته بتخفيف المغارم عن الرعايا، انتهى كلام ابن خلدون.
وقيه يقول ابن عبد ربّه صاحب العقد يوم تولّى الملك (3) :
بدا الهلال جديداً
…
والملك غضٌّ جديد
يا نعمى الله زيدي
…
إن كان فيك مزيد
إن كان للصّوم فطرٌ
…
فأنت للدهر عيد وأراد بأوّل الأبيات أنّه وليّ مستهلّ ربيع الأول كما علم.
وما أشار إليه ابن خلدون في غزوة الخندق فصّله المسعودي فقال (4) ، بعد أن أجرى ذكر مخالفة أمية بن إسحاق على الناصر ودخوله أرض النصارى ودلالته إياهم على عورات المسلمين، ما ملخصه: وغزا عبد الرحمن صاحب الأندلس
(1) قفل الفرضة: مضطربة في النسخ فهي ق: قفل الفرصة؛ وفي ك: ونقل الفرضة؛ وفي ط: نقل الفرضة؛ ج: فغل الفرصة، وسقطت من طبعة بولاق من تاريخ بن خلدون.
(2)
كذلك عند ابن خلدون؛ وعند ابن عذاري: (319) .
(3)
ورد منها بيتان في ابن عذاري 2: 236 والمغرب 1: 177.
(4)
مروج الذهب 2: 37.
سمّورة دار الجلالقة، وكان عبد الرحمن في مائة ألف أو يزيدون، وكانت الوقعة بينه وبين رذمير (1) ملك الجلالقة في شوّال سنة 327 بعد الكسوف الذي كان في هذا الشهر بثلاثة أيّام، فكانت للمسلمين عليهم، ثم ثابوا بعد أن حوصروا وألجئوا إلى المدينة، فقتلوا من المسلمين بعد عبورهم الخندق خمسين ألفاً، وقيل: إن الذي منع رذمير من طلب من نجا من المسلمين أميّة بن إسحاق، وخوّفه الكمين، ورغّبه فيما كان في عسكر المسلمين من الأموال والعدّة والخزائن، ولولا ذلك لأتى على جميع المسلمين، ثمّ إن أميّة استأمن بعد ذلك إلى عبد الرحمن وتخلّص من رذمير، وقبله عبد الرحمن أحسن قبول. وقد كان عبد الرحمن بعد هذه الوقعة جهز عساكر مع عدّة من قوّاده إلى الجلالقة، فكانت لهم بهم عدّة حروب هلك فيها من الجلالقة ضعف ما قتل من المسلمين في الوقعة الأولى، وكانت للمسلمين عليهم إلى هذه الغاية، ورذمير ملك الجلالقة إلى هذا الوقت وهو سنة 332 (2) ، انتهى.
وقال في موضع آخر ما ملخّصه (3) : إن عبد الرحمن غزا في أزيد من مائة ألف من الناس، فنزل على دار مملكة الجلالقة، وهي مدينة سمّورة، وعليها سبعة أسوار من أعجب البنيان قد أحكمته الملوك السابقة، وبين الأسوار فصلان وخنادق ومياه واسعة، وافتتح منها سورين، ثم إن أهلها ثاروا على المسلمين فقتلوا منهم ممّن أدركه الإحصاء وممّن عرف أربعين ألفاً، وقيل: خمسين ألفاً، وكانت للجلالقة والبشكنس على المسلمين، انتهى كلام المسعودي.
رجع إلى أخبار الناصر - فنقول: إن الناصر رحمه الله كان له نظم، وممّا نسب إليه بعضهم قوله:
لا يضرّ الصغير حدثان سنّ
…
إنّما الشأن في سعود الصغير
(1) رذمير (Ramiro) .
(2)
ط ج ق ودوزي: وهو سنة 336؛ وما هنا موافق لما في المروج، وفي ك:329.
(3)
المروج 1: 162.
كم مقيمٍ فازت يداه بغنم
…
لم تنله بالرّكض كفّ مغير هكذا ألفيت البيتين منسوبين إليه بخط بعض الأكابر، ثم كتب بأثره ما نصّه: الصحيح أنهما لغيره، والله أعلم، انتهى.
[؟ هدية ابن شهيد للناصر]
وكان الناصر رحمه الله قد استحجب موسى بن محمد بن حدير، واستوزر عبد الملك بن جهور، وأحمد بن عبد الملك بن شهيد، وأهدى له ابن شهيدٍ هديته المشهورة المتعدّدة الأصناف، وقد ذكرها ابن حيّان وابن خلدون (1) وغيرهما من المؤرخين، قال ابن خلدون: وهي ممّا يدل على ضخامة الدولة الأموية، واتساع أحوالها؛ وكان ذلك (2) سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، لثمان خلون من شهر جمادى الأولى، وهي هدية عظيمة الشأن، اشتهر ذكرها إلى الآن، واتّفق على أنّه لم يهاد أحد من ملوك الأندلس بمثلها، وقد أعجبت الناصر وأهل مملكته جميعاً، وأقروا أن نفساً لم تسمح بإخراج مثلها ضربةً عن يدها، وكتب معها رسالة حسنة بالاعتراف للناصر بالنعمة والشكر علها استحسنها الناس وكتبوها، وزاد الناصر وزيره هذا حظوة واختصاصاً، وأسمى منزلته على سائر الوزراء جميعاً، وأضعف له رزق الوزارة، وبلّغه ثمانين ألف دينار أندلسية، وبلغ مصروفه إلى ألف دينار، وثنى له العظمة لتثنيته له الرزق، فسمّاه " ذا الوزارتين " لذلك، وكان أول من تسمى بذلك بالأندلس امتثالاً لاسم صاعد بن مخلد وزير بني العباس ببغداد، وأمر بتصدير فراشه في البيت، وتقديم اسمه في دفتر الارتزاق أول التسمية، فعظم مقداره في الدولة جدّاً.
(1) ابن خلدون 4: 138.
(2)
أورد المقري الحديث عن هذه الهدية مفصلاً أيضاً في أزهار الرياض 2: 261 إلا أنه لم يمزح بين روايتي ابن خلدون وابن الفرضي بل اكتفى بالثانية.
وتفسير هديته المذكورة على ما ثبت في كتاب ابن خلدون على ما يفسر: خمسمائة ألف مثقال من الذهب العين، وأربعمائة رطل من التّبر، ومصارفةً خمسة وأربعون ألف دينار من سبائك الفضّة في مائتي بدرة، واقتصر ابن الفرضيّ على خمسمائة ألف دينار فقط؛ واثنا عشر رطلاً من العود الهندي الذي يختم عليه كالشمع، ومائة وثمانون رطلاً من العود المتخير، ومائة رطل من العود الشبه المنتقى، هكذا ذكره ابن خلدون.
وقال ابن الفرضيّ مستنداً إلى الكتاب الذي وجّهه ابن شهيد مع الهدية: إن العود الغالي من ذلك أربعمائة رطل، منها في قطعة واحدة مائة وثمانون رطلاً.
وقال ابن خلدون: ومائة أوقية من المسك الذكي المفضل في جنسه، انتهى.
وقال ابن الفرضيّ، نقلاً عن الكتاب المصحوب مع الهدية: إن المسك مائتا أوقية، واثنتا عشرة أوقية. ومن العنبر الأشهب الباقي على خلقته بغير صناعة خمسمائة أوقية، منها قطعة عجيبة ململمة الشكل وزن مائة أوقية، هكذا في تاريخ ابن خلدون.
وفي ابن الفرضيّ أن الكل مائة أوقية، وأن هذه القطعة أربعون أوقية. ومن الكافور المرتفع النقيّ الذكيّ ثلاثمائة أوقية.
قال ابن خلدون: ومن اللباس ثلاثون شقّة من الحرير المختم المرقوم بالذهب كلباس الخلفاء المختلف الألوان والصنائع، وعشرة أفرية (1) من عالي جلود الفنك الخراسانية.
وخالفه ابن الفرضيّ (2)، إذ قال: ومن أنواع الثياب ثلاثون شقّة خنجٍ (3) خاصية للباسه بيضاء وملوّنة، وخمس ظهائر شعيبية (4) خاصية له، وعشر فراء من
(1) أفرية: جمع فروة.
(2)
الفقرة من قوله " وخالفه
…
أدرى " كلها سقطت من ق.
(3)
خنج لعلها من الفارسية " خنك " بمعنى حرير أبيض، وهي كذلك في ك ط.
(4)
الشعبية: نوع من الأقمشة.
عالي الفنك منها سبعة بيض خراسانية وثلاث ملوّنة، وستة مطارف عراقية خاصية له، وثمان وأربعون ملحفة زهرية لكسوته، ومائة ملحفة زهرية لرقاده.
ولم يذكر ابن خلدون ذلك، وابن الفرضي أعرف، لا سيّما وقد استند إلى كتاب المهدي، وصاحب البيت أدرى.
قال ابن خلدون: وعشرة قناطير شدّ فيها مائة جلد سمّور، وقاله ابن الفرضي أيضاً، وزاد ابن خلدون: وستة من السرادقات العراقية، وثمانية وأربعون من الملاحف البغدادية لزينة الخيل من الحرير والذهب، ثم قالا معاً: وأربعة آلاف رطل من الحرير المغزول، وألف رطل من لون الحرير المنتقى للاستغزال، وزاد ابن خلدون: وثلاثون شقة من الفريون (1) لسروج الهبات، وزاد ابن الفرضيّ في الحرير المذكور: قيل: إنّه قبضه منه صاحب الطراز ولم يأت به مع الهدية، وإنّما دفعه لصاحب الطراز، وأثبته في الدفتر، قالا: وثلاثون بساطاً من الصوف مختلفة الصناعات طول كل بساط منها عشرون ذراعاً، وقال ابن خلدون: منتقاة مختلفة الأوان، قالا: ومائة قطعة مصلّيات من وجوه الفرش المختلفة، زاد ابن الفرضيّ: الصناعات من جنس البسط، قالا: وخمسة عشر نخّاً (2) من عمل الخز المقطوع شطرها، قال ابن الفرضيّ: وسائرها من جنس البسط الوجوه، قال ابن خلدون: ومن السلاح والعدّة ثمانمائة من التجافيف المزينة أيام البروز والمواكب، وقال ابن الفرضيّ: مائة تجفاف بأبدع الصناعات وأغربها وأكملها، قالا: وألف ترس سلطانية، ومائة ألف سهم، زاد ابن خلدون: من لنبال البارعة الصنعة، قال ابن خلدون: ومن الظهر خمسة عشر فرساً من الخيل العراب المتخيرة لركاب السلطان فائقة النّعوت، وقال ابن الفرضي: ومن الخيل مائة فرس منها من الخيل العراب المتخيرة لركابه خمسة عشر فرساً، وخمس من عرض هذه الخيل مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة
(1) كذا وردت هذه اللفظة في ق ك ولعلها: " البزيون " وهو سندس.
(2)
في ق ك: نوخاً؛ والنخ: بساط طويل طوله أكثر من عرضه.
مجالس سروجها خز عراقي، وثمانون فرساً ممّا يصلح للوصفاء والحشم، وقال ابن خلدون: مائة فرس من الخيل التي تصلح للركوب في التصرف والغزوات، وقال ابن الفرضي: وخمسة أبغل عالية الركاب، وقال ابن خلدون: وعشرون من بغال الركاب مسرجة ملجمة لمراكب الخلافة مجالس سروجها خز جعفري عراقي، قالا: ومن الرقيق أربعون وصيفاً وعشرون جارية من متخير الرقيق بكسوتهم وجميع آلاتهم، وقال ابن خلدون في الجواري: متخيرات بكسوتهن وزينتهن، وقال ابن خلدون: ومن سائر الأصناف قرية تغلّ آلافاً من أمداد الزرع، ومن الصخر للبنيان ما أنفق عليه في عام واحد ثمانون ألف دينار، وعشرون ألف عود من الخشب من أجمل الخشب وأصلبه (1) وأقومه قيمتها خمسون ألف دينار، انتهى.
وقال ابن الفرضي نقلاً عن كتاب ابن شهيد المصحوب مع الهدية عندما ذكر الرقيق ما صورته: وكان قد أمرني (2) - أيّده الله - بابتياعهم من مال الأخماس، فابتعتهم من نعمته عندي، وصيرتهم من بعثي، ومع ذلك عشر قناطير سكر طبرزذ لا سحاق فيه.
وفي آخر الكتاب: ولمّا علمت تطلّع مولاي - أيده الله تعالى - إلى قرية كذا بالقنبانية (3) المنقطعة الغرس في شرقها، وترداده - أيده الله تعالى - لذكرها لم أهنأ بعيشٍ حتى أعملت الحيلة في ابتياعها بأحوازها، وأكتبت وكيله ابن بقيّة الوثيقة فيها باسمه، وضمّها إلى ضياعه، وكذلك صنعت في قرية شيرة من نظر جيّان عندما اتصل بي من وصفه لها وتطلّعه إليها، فما زلت أتصدّى لمسرّته بها حتى ابتعتها الآن بأحوازها وجميع منازلها وربوعها واحتاز ذلك
(1) ط ك: وأصيله.
(2)
ك: قد أربى.
(3)
قد مر التعريف بالقنبانية، وهي تدل على الحقول، وإن كانت تطلق علماً على كثير من المواضع بالأندلس أهمها البسائط الواقعة إلى جنوب قرطبة في حوض الوادي الكبير.
كلّه الوكيل ابن بقية، وصار في يده له أبقاه الله سبحانه، وأرجو أنّه سيرفع فيها في هذه السنة آلاف أمداد من الأطعمة إن شاء الله تعالى. ولمّا علمت نافذ عزمه - أبقاه الله تعالى - في البنيان، وكلفه به، وفكرت في عدد الأماكن التي تطلع نفسه الكريمة إلى تخليد آثاره في بنيانها - مد الله تعالى في عمره، وأوفى بها على أقصى أمله - علمت أن أسه وقوامه الصخر والاستكثار منه، فأثارت لي همتي ونصيحتي حكمة حيلة أحكمها سعدك وجدّك اللذان يبعثان ما لا يتوهم عليه، حيلة أقيم لك فيها بعام واحد عدد ما كان يقوم على يدي عبدك ابن عاصم في عشرين عاماً، وينتهي تحصيل النفقة فيه إلى نحو الثمانين ألفاً أعجل شأنه في عام، سوى التوفير العظيم الذي يبديه العيان قبلاً إن شاء الله تعالى، وكذلك ما ثاب إليّ في أمر الخشب لهذه المنية المكرمة، فإن ابن خليل عبدك المجتهد الدؤوب انتهى في تحصيل عدد ما تحتاج إليه إلى ثلاثمائة ألف عود ونيّف على عشرين ألف عود، على أنّه لا يدخل منه في السنة إلاّ نحو الألفي عود، ففتح لي سعدك رأياً أقيم له بتمامه جميع هذا الخشب العام على كماله بورود الجليبة (1) لوقتها، وقيمته على الرخص ما بين الخمسين ألفاً والستين ألفاً، انتهى.
[عود إلى أخبار الناصر]
ومن غريب ما يحكى (2) عن أمير المؤمنين الناصر المذكور أنّه أراد الفصد، فقعد بالبهو في المجلس الكبير المشرف بأعلى مدينته بالزهراء، واستدعى الطبيب لذلك، وأخذ الطبيب الآلة وجسّ يد الناصر، فبينما هو إذ أطل زرزور فصعد على إناء ذهب بالمجلس، وأنشد:
أيّها الفاصد رفقاً
…
بأمير المؤمنينا
(1) الجليبة: كذا جاءت في ق ك، فإن لم تكن تعني " الخشب المجلوب " فلا أدري دلالتها بدقة.
(2)
انظر أزهار الرياض 2: 265.
إنّما تفصد عرقاً
…
فيه محيا العالمينا وجعل يكرّر ذلك المرّة بعد المرة، فاستظرف أمير المؤمنين الناصر ذلك غاية الاستظراف، وسرّ به غاية السرور، وسأل عمن اهتدى إلى ذلك وعلّم الزّرزور، فذكر له أن السيدة الكبرى مرجانة أم ولده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله صنعت ذلك، وأعدّته لذلك الأمر، فوهب لها ما ينيّف على ثلاثين ألف دينار.
وذكر ابن بسّام (1) أن أبا عامر بن شهيد أحمد بن عبد الملك الوزير أهدي له غلام من النصارى لم تقع العيون على شبهه، فلمحه الناصر فقال لابن شهيد: أنّى لك هذا؟ قال: هو من عند الله، فقال له الناصر: تتحفوننا بالنجوم وتستأثرون بالقمر، فاستعذر واحتفل في هدية بعثها مع الغلام، وقال: يا بني كن مع جملة ما بعثت به، ولولا الضرورة ما سمحت بك نفسي، وكتب معه هذين البيتين (2) :
أمولاي هذا البد سار لأفقكم
…
وللأفق أولى بالبدور من الأرض
أرضّيكم بالنفس وهي نفيسةٌ
…
ولم أر قبلي من بمهجته يرضي فحسن ذلك عند الناصر، وأتحفه بمال جزيل، وتمكنت عنده مكانته، ثم إنّه بعد ذلك أهديت إليه جارية من أجمل نساء الدنيا، فخاف أن ينهى (3) ذلك إلى الناصر فيطلبها فتكون كقصة الغلام، فاحتفل في هدية أعظم من الأولى، وبعثها معها، وكتب له:
أمولاي هذي الشمس والبدر أوّلاً
…
تقدّم كيما يلتقي القمران
(1) انظر مطالع البدور 1: 240 والمقتطفات (الورقة: 84) .
(2)
في الأصول: هذه الأبيات.
(3)
ك: ينتهي.
قرانٌ لعمري بالسعادة قد أتى
…
فدم منهما في كوثر وجنان
فما لهما والله في الحسن ثالثٌ
…
وما لك في ملك البريّة ثاني فتضاعفت مكانته عنده.
ثمّ إن أحد الوشاة رفع للملك أنّه بقي في نفسه من الغلام حرارة، وأنّه لا يزال يذكره حين تحرّكه الشّمول، ويقرع السن على تعذر الوصول، فقال للواشي: لا تحرك به لسانك، وإلاّ طار رأسك، وأعمل الناصر حيلة في أن كتب على لسان الغلام رقعة منها: يا مولاي، تعلم أنّك كنت لي على انفراد، ولم أزل معك في نعيم، وإنّي وإن كنت عند الخليفة مشارك في المنزلة، محاذر ما يبدو من سطوة الملك، فتحيّل في استدعائي منه، وبعثها مع غلام صغير السن، وأوصاه أن يقول: من عند فلان، وإن الملك لم يكلّمه قط، إن سأله عن ذلك، فلمّا وقف أبو عامر على تلك الرسالة واستخبر الخادم علم من سؤاله ما كان في نفسه من الغلام، وما تكلم به في مجالس المدام، فكتب على ظهر الرقعة ولم يزد حرفاً:
أمن بعد إحكام التجارب يبتغى
…
لديّ سقوط الطير (1) في غابة الأسد
وما أنا ممّن يغلب الحبّ قبله
…
ولا جاهل ما يدّعيه أولو الحسد
فإن كنت روحي قد وهبتك طائعاً
…
وكيف يردّ الروح إن فارق الجسد فلمّا وقف الناصر على الجواب تعجب من فطنته، ولم يعد إلى استماع واشٍ به.
ودخل عليه بعد ذلك فقال له: كيف خلصت من الشّرك؟ فقال: لأن عقلي بالهوى غير مشترك، فأنعم عليه، وزادت محبته عنده، وممّن ذكر هذه الحكاية صاحب " مطالع البدور، في منازل السرور "(2) .
(1) المطالع: سقوط العير؛ وهو أقرب إلى الصواب.
(2)
هو علاء الدين علي بن عبد الله الغزولي.
[غزوات الناصر]
وأخبار الناصر طويلة جدّاً، وقد منح الظفر على الثوّار، واستنزلهم من معاقلهم، حتى صفا له الوقت، وكانت له في جهاد العدو اليد البيضاء، فمن غزواته أنّه غزا سنة ثمان وثلاثمائة إلى جليقية وملكها أردون بن أذفونش، فاستنجد بالبشكنس والإفرنجة وظاهر شانجة (1) بن غرسية صاحب بنبلونة أمير البشكنس، فهزمهم، ووطئ بلادهم، ودوّخ أرضهم، وفتح معاقلهم، وخرب حصونهم، ثم غزا بنبلونة سنة ثنتي عشرة، ودخل دار الحرب، ودوّخ البسائط، وفتح المعاقل، وخرّب الحصون، وافسد العمائر، وجال فيها، وتوغل في قاصيتها، والعدو يحاذيه في الجبال والأوعار، ولم يظفر منه بشيء، ثم بعد مدّة ظفر ببعض الثوّار عليه، وكان استمدّ بالنصارى فقتل الناصر من كان مع الثائر من النصارى أهل ألبة، وفتح ثلاثين من حصونهم، وبلغه انتفاض طوطة (2) ملكة البشكنس فغزاها في بنبلونة ودوّخ أرضها واستباحها، ورجع إلى قرطبة، ثم غزا غزوة الخندق سنة سبع وعشرين إلى جليقية فانهزم وأصيب فيها المسلمون، وقعد بعدها عن الغزو بنفسه، وصار يردد البعوث والصوائف إلى الجهاد، وبعث جيوشه إلى المغرب فملك سبتة وفاساً وغيرهما من بلاد المغرب، وطار صيته وانتشر ذكره كما سبق. ولم هلك غرسية بن شانجة ملك البشكنس قام بأمرهم بعده أمه (3) طوطة، وكفلت ولده، ثم انتقضت على الناصر سنة خمس وعشرين، فغزا الناصر بلادها، وخرب نواحي بنبلونة وردد عليها كما مرّ الغزوات، وكان قبل ذلك سنة ثنتين وعشرين غزا إلى وخشمة (4) ،
(1) شانجة: (Sancho) ملك البشكنس اي منطقة نبره (Navarra)، وفي ك: شانجة بن فرويلة؛ وفي ط: شنجة.
(2)
طوطة (Teoda) وفي تاريخ بروفنسال (2: 73)(Toda) .
(3)
ابن خلدون: أخته.
(4)
وخشمة: (Osma) وفي ك: خشتمة.
ثم رحل إلى بنبلونة، فجاءته طوطة بطاعتها وعقد لابنها غرسية على بنبلونة، ثم عدل إلى ألبة وبسائطها فدوّخها وخرب حصونها، ثم اقتحم جليقية وملكها يومئذ رذمير بن أردون، فخام عن لقائه، ودخل وخشمة، فنازله الناصر فيها، وهدم برغش (1) وكثيراً من معاقلهم، وهزمهم مراراً، ورجع، ثم كانت بعدها غزوة الخندق السابقة، وهابته أمم النصرانية.
[الوفود على بلاط الناصر]
ثم وفدت عليه سنة ست وثلاثين رسل صاحب قسطنطينية وهديته - وهو يومئذ قسطنطين - واحتفل الناصر لقدومهم في يوم مشهود، قال ابن خلدون (2) : ركبت في ذلك اليوم العساكر بالسلاح في أكمل شكّة، وزين القصر الخلافي بأنواع الزينة وأصناف الستور، وجمّل السرير الخلافي بمقاعد الأبناء والإخوة والأعمام والقرابة، ورتب الوزراء والخدمة في مواقفهم، ودخل الرسل فهالهم ما رأوه، وقرّبوا حتى أدّوا رسالتهم، وأمر يومئذ الأعلام أن يخطبوا في ذلك الحفل، ويعظّموا من أمر الإسلام والخلافة، ويشكروا نعمة الله على ظهور دينه وإعزازه، وذلة عدوّه، فاستعدّوا لذلك، ثم بهرهم هول المجلس فوجموا، وشرعوا في القول فأرتج عليهم، وكان فيهم أبو علي القالي وافد العراق، كان في جملة الحكم ولي العهد وندبه لذلك استئثاراً بفخره (3) ، فلمّا وجموا كلهم قام منذر بن سعيد البلّوطي من غير استعداد ولا رويّة وما تقدّم له أحد بشيء من ذلك، فخطب واسحنفر (4) وجلّى في ذلك القصد، وأنشد
(1) برغش: (Burgos) إحدى مدن الحدود الشمالية؛ وانظر شرحاً لغزوات الناصر في تاريخ بروفنسال 2: 33 - 78.
(2)
تاريخ ابن خلدون 4: 142 وأزهار الرياض 2: 258 وابن عذاري 2: 319.
(3)
ك: فعجز؛ وفي ق وابن خلدون: لفخره؛ وفي ج: لعجزه.
(4)
ج ك: واستحضر.
شعراً طويلاً ارتجله في ذلك الغرض (1) ، ففاز بفخر ذلك المجلس، وعجب الناس من شأنه أكثر من كل ما وقع، وأعجب به الناصر، وولاّه القضاء بعدها، وأصبح من رجالات المعالم (2) ، وأخباره مشهورة، وخطبته في ذلك اليوم منقولة في كتب ابن حيّان وغيره. ثم انصرف هؤلاء الرسل، وبعث الناصر معهم هشام بن هذيل (3) بهديّة حافلة ليؤكد المودة ويحسن الإجابة، ورجع بعد سنتين وقد أحكم من ذلك ما شاء وجاءت معه رسل قسطنطين.
ثم جاء رسول من ملك الصقالبة - وهو يومئذ هوتو (4) - ورسول آخر من ملك الألمان، ورسول آخر من ملك الإفرنجة وراء البرت - وهو يومئذ أوقه (5) - ورسول آخر من ملك الإفرنجة بقاصية المشرق - وهو يومئذ كلدة (6) - واحتفل الناصر لقدومهم، وبعث مع رسول الصقالبة ربيعاً الأسقف إلى ملكهم هوتو ورجع بعد سنين.
وفي سنة أربع وأربعين جاء رسول أردون يطلب السلم، فعقد له، ثم بعث في سنة خمس وأربعين يطلب إدخال فرذلند قومس قشتيلة في عهده، فأذن له في ذلك، وأدخل في عهده، وكان غرسية بن شانجة قد استولى على جليقية بعد أبيه شانجة بن فرويلة (7) ثم انتقض عليه أهل جليقية، وتولى كبرهم قومس قشتيلة فرذلند المذكور، ومال إلى أردون بن رذمير، وكان غرسية بن شانجة حافداً لطوطة ملكة البشكنس، فامتعضت لحافدها غرسية، ووفدت على الناصر سنة
(1) ط: العرض.
(2)
ج: العالم.
(3)
ابن خلدون: هشام بن كليب الجاثليق.
(4)
هوتو: (Otton) وفي نسخ النفح اضطراب ف رسم الاسم بين: دوتو في ق ج؛ وذوقوة في ك؛ وذواقو؛ وذوفو في غيرهما.
(5)
ق ك ط: أوفة، ج: أرمة، والصواب ما أثبتناه إذ يقابل (Hugo) وهو (Hugues d؛ Arles) مركيز بروفانس.
(6)
(Guido) وهو ابن أدلبرت مركيز تسكانية.
(7)
فرويلة: (Fruela) .
سبع وأربعين ملقية بنفسها في عقد السلم لها ولولدها شانجة بن رذمير الملك، وإعانة حافدها غرسية بن شانجة على ملكه، ونصره من عدوّه، وجاء الملكان معها، فاحتفل الناصر لقدومهم، وعقد الصلح لشانجة وأمه، وبعث العساكر مع غرسية ملك جليقية فردّ عليه ملكه، وخلع الجلالقة طاعة أردون إليه، وبعث إلى الناصر يشكره على فعلته، وكتب إلى الأمم في النواحي بذلك، وبما ارتكبه فرذلند قومس قشتيلة في نكثه ووثوبه، ويعيره بذلك عند الأمم، ولم يزل الناصر على موالاته وإعانته إلى أن هلك، ولمّا وصل رسول كلدة ملك الإفرنجة بالشرق كما تقدّم وصل معه رسول ملك برشلونة وطرّكونة راغباً في الصلح، فأجابه الناصر، ووصل بعده رسول صاحب رومة يخطب المودة فأجيب؛ انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
ولنفصّل بعض ما أجمله فنقول: ذكر ابن حيّان وغير واحد أن ملك الناصر بالأندلس كان في غاية الضخامة ورفعة الشأن، وهادته الروم، وازدلفت إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر، ولم تبق أمّة سمعت به من ملوك الروم والإفرنجة والمجوس وسائر الأمم إلا وفدت عليه خاضعة راغبة، وانصرفت عنه راضية، ومن جملتهم صاحب القسطنطينية العظمى، فأنّه هاداه، ورغب في موادعته، وكان وصول أرساله في صفر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، وتقدّم في كلام ابن خلدون أنّها ست وثلاثون، فالله أعلم أيهما أصح، وتأهب الناصر لورودهم وأمر أن يتلقّوا أعظم تلقٍّ وأفخمه، وأحسن قبول (1) وأكرمه، وأخرج إلى لقائهم ببجانة يحيى بن محمد بن الليث وغيره لخدمة أسباب الطريق، فلمّا صاروا بأقرب المحلاّت من قرطبة خرج إلى لقائهم القوّاد في العدد والعدّة والتعبية، فتلقوهم قائداً بعد قائد، وكمل اختصاصهم بعد ذلك، بأن أخرج إليهم الفتيين الكبيرين الخصيين ياسراً وتماماً، إبلاغاً في الاحتفال بهم، فلقياهم بعد القوّاد،
(1) ق ط ج: قبوله.
فاستبان لهم بخروج الفتيين إليهم بسط الناصر وإكرامه، لأن الفتيان حينئذ هم عظماء الدولة، لأنّهم أصحاب الخلوة مع الناصر وحرمه وبيدهم القصر السلطانيّ، وأنزلوا بمنية وليّ العهد الحكم المنسوبة إلى نصر (1) بعدوة قرطبة في الرّبض، ومنعوا من لقاء الخاصة والعامة جملة ومن ملابسة الناس طرّاً، ورتّب لحجابتهم رجال تخيروا من الموالي ووجوه الحشم فصيروا على باب قصر هذه المنية ستة عشر رجلاً لأربع دول، لكل دولة أربع منهم، ورحل الناصر لدين الله من قصر الزهراء إلى قصر قرطبة لدخول وفود الروم عليه، فقعد لهم يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول من السنة المذكورة في بهو المجلس الزاهر قعوداً حسناً نبيلاً، وقعد عن يمينه وليّ العهد من بنيه الحكم ثم عبيد الله ثم عبد العزيز أبو الأصبغ ثم مروان، وقعد عن يساره المنذر ثم عبد الجبار ثم سليمان، وتخلف عبد الملك لأنّه كان عليلاً لم يطق الحضور، وحضر الوزراء على مراتبهم يميناً وشمالاً، ووقف الحجّاب من أهل الخدمة من أبناء الوزراء والموالي والوكلاء وغيرهم، وقد بسط صحن الدار أجمع بعتاق البسط وكرائم الدرانك (2) ، وظلّلت أبواب الدار وحناياها بظلل الديباج ورفيع الستور، فوصل رسل ملك الروم حائرين ممّا رأوه من بهجة الملك وفخامة السلطان، ودفعوا كتاب ملكهم صاحب القسطنطينية العظمى قسطنطين بن ليون، وهو في رقّ مصبوغ لوناً سماويّاً مكتوب بالذهب بالخط الإغريقي (3) ، وداخل الكتاب مدرجة مصبوغة أيضاً مكتوبة بفضّة بخط إغريقي أيضاً فيها وصف هديته التي أرسل بها وعددها، وعلى المتاب طابع ذهب وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة المسيح، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده، وكان الكتاب بداخل درج فضّة منقوش عليه غطاء ذهب فيه صورة قسطنطين
(1) ك: نصير، وهو خطأ.
(2)
الدوانك: البسط.
(3)
في الأصول: الاغرنقي.
الملك معمولة من الزجاج الملون البديع، وكان الدرج داخل جعبة ملبسة بالديباج، وكان في ترجمة عنوان الكتاب في سطر منه: قسطنطين ورومانس (1) المؤمنان بالمسيح الملكان العظيمان ملكا الروم، وفي سطر آخر: العظيم الاستحقاق المفخر الشريف النسب عبد الرحمن الخليفة الحاكم على العرب بالأندلس، أطال الله بقاءه؛ ولما احتفل الناصر لدين الله هذا الاحتفال أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه، لتذكر جلالة مقعده وعظيم سلطانه، وتصف ما تهيّأ من توطيد الخلافة في دولتهن وتقدم الأمير الحكم ابنه ولي عهده بإعداد من يقوم بذلك من الخطباء، ويقدّمه أمام نشيد الشعراء، فأمر الحكم صنيعه الفقيه محمد بن عبد البر الكسنياني (2) بالتأهب لذلك، وإعداد خطبة بليغة يقوم بها بين يدي الخليفة، وكان يدّعي من القدرة على بتأليف الكلام ما ليس في وسع غيره؛ وحضر المجلس السلطاني، فلمّاقام يحاول التكلّم بما رأى هاله وبهره هول المقام وأبهة الخلافة، فلم يهتد إلى لفظة، بل غشي عليه وسقط إلى الأرض، فقيل لأبي علي البغدادي إسماعيل بن القاسم القالي صاحب الأمالي والنوادر، وهو حينئذ ضيف الخليفة الوافد عليه من العراق وأمير الكلام وبحر اللغة: قم فارقع هذا الوهي، فقام فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى على نبيه صلى الله عليه وسلم؟ هكذا ذكر ابن حيان وغيره وكلام ابن خلدون السابق يقتضي أن القالي هو المأمور بالكلام أوّلاً والمعدّ لذلك، ونحوه في المطمح، والخطب سهل؟ ثم انقطع القول بالقالي، فوقف ساكتاً مفكراً في كلام يدخل به إلى ذكر ما أريد منه، وقال في المطمح (3) : إن أبا علي القالي انقطع، وبهت وما وصل إلاّ قطع، ووقف ساكتاً متفكّراً، لا ناسياً ولا متذكراً، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيد؟ وكان ممّن حضر في زمرة الفقهاء؟ قام من
(1) ق ك ط ج: ورومانين.
(2)
في ج: السياتي؛ وفي ط ودوزي كما أثبته، وكذلك ورد في لب اللباب؛ وفي أزهار الرياض وك 2: 273: الكسيباني.
(3)
المطمح: 38.
ذاته، بدرجة من مرقاته، فوصل افتتاح أبي علي لأوّل خطبته بكلام عجيب، ونادى في الإحسان من ذلك المقام كلّ مجيب، يسحّه سحّاً كأنّما كان يحفظه قبل ذلك بمدة، وبدأ من المكان الذي انتهى إليه أبو عليّ البغدادي، فقال (1) : أمّا بعد حمد الله والثناء عليه، والتعداد لآلائه، والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيّه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاماً، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحق إلا الضلال، وإنّي قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فأصغوا إلي معشر الملإ بأسماعكم، والقنوا (2) عني بأفئدتكم، إن من الحق أن يقال للمحق صدقت، وللمبطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدّس بصفاته وأسماءه، أمر كليمه موسى، صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه، أن يكّر قومه بأيّام الله، جلّ وعزّ، عندهم، وفيه وفي رسول الله، صلى الله عليه وسلّمن أسوة حسنة، وإنّي أذكركم بأيّام الله عندكم (3) ، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمّت شعثكم (4) ، وأمنّت سربكم، ورفعت فرقكم (5) ، بعد أن كنتم قليلاً فكثركم، ومستضعفين فقوّاكم، ومستذلّين فنصركم، ولاّه الله رعايتكم، واسند إليه إمامتكم، أيّام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير، من ضيق الحال ونكد العيش والتغيير، فاستبدلتم بخلافته من الشدّة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية بعد استيطان البلاء، أنشدكم (6) الله معاشر الملإ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها، والسبل مخوفةً فأمّنها، والموال منتهبة فأحرزها وحصّنها؟ ألم تكن البلاد خراباً فعمرها، وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع
(1) نص الخطبة في أزهار الرياض 2: 273 والمرقبة العليا: 66 والمطمح: 38.
(2)
ك: واتقنوا؛ ط: والفنوا؛ ق: والفتوا؛ وأثبتنا ما في ج والمطمح.
(3)
المطمح: وأنا أذكركم نعم الله تعالى عليكم.
(4)
لمت شعثكم: سقطت من المطمح.
(5)
ك قوتكم؛ وفي ق ط: فوقكم؛ وفي المطمح: خوفكم.
(6)
المطمح: ناشدتكم.
كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يداً على عدوّكم، بعد أن كان بأسكم بينكم، ناشدتكم (1) الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد، حتى باشره بالقوّة (2) والمهجة والأولاد، واعتزال النسوان، وهجر الأوطان، ورفض الدّعة وهي محبوبة، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة، بطويّة صحيحة (3) ، وعزيمة صريحة، وبصيرة ثابتة (4) نافذة ثاقبة، وريح هابّةٍ غالبة، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجدّ ظاهر، وسيف منصور، تحت عدل مشهور، متحمّلاً للنّصب، مستقلاًّ لما ناله في جانب حدّتها، ولم يبق لها غارب إلا جبّه، ولا نجم لأهلها قرن إلا جذّه، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعواناً، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات (5) ، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأقصين والآدنين مستخدمة إليه وإليكم، يأتون من كل فجّ عميق، وبلد سحيق، لأخذ حبل بينه وبينكم جملة وتفصيلاً، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده، وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدل على أمور باطنة خافية، دليلها قائم، وجفنها غير نائم " وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصّالحات ليستخلفنّهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم " وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب،
(1) ك: فأنشدكم.
(2)
بالقوة: زيادة من ك.
(3)
المطمح: خالصة.
(4)
ثابتة: زيادة من ك والمطمح.
(5)
المطمح: فقد فتح الله تعالى عليكم أبواب البركات وتواترت عليكم أسباب الفتوحات.
ولكل نبإ مستقر ولكل أجل كتاب، فاحمدوا الله أيّها الناس على آلائه، واسألوه المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بيمن خلافة أمير المؤمنين أيّده الله بالعصمة والسّداد، وألهمه بخالص التوفيق إلى سبيل الرشاد، أحسن الناس حالاً، وأنعمهم بالاً، وأعزهم قراراً، وأمنعهم داراً، وأكثفهم جمعاً، وأجملهم صنعاً، لا تهاجون ولا تذادون، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لإمامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيّكن، صلى الله عليه وسلم، فإن من نزع يداً (1) من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدّين، فقد خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، وقد علمتم أن في التعلّق بعصمتها، والتمسّك بعروتها، حفظ الأموال وحقن الدماء، وصلاح الخاصّة الدّهماء، وأن بقوام الطاعة تقوم الحدود، وتوفى العهود، وبها وصلت الأرحام، ووضحت الأحكام، وبها سدّ الله الخلل، وأمّن السّبل، ووطّأ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنّت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به، فإنّه تبارك وتعالى يقول " أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم "، وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شقّ عصاكم، وتفريق ملاكم (2) ، الآخذين في مخاذلة دينكم، وهتك حريمكم، وتوهين دعوة نبيّكم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين، أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله رب العالمين، مستغفراً الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.
(1) المطمح: يده.
(2)
المطمح: ملتكم؛ وملاكم مخففة من ملاءكم.
[ترجمة منذر بن سعيد البلوطي عن المغرب]
وساق ابن سعيد في المغرب هذه الحكاية فقال ما صورته (1) : منذر بن سعيد البلّوطي، قاضي الجماعة بقرطبة، خطيبٌ مصقع، وله كتب مؤلّفة في القرآن والسنّة والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع، شاعر بليغ، ولد سنة خمس وستين ومائتين (2) ، وأوّل سببه في التعلّق بعبد الرحمن الناصر لما احتفل لدخول رسول ملك الروم صاحب قسطنطينية بقصر قرطبة الاحتفال الذي اشتهر ذكره، أحب أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه، لذكر جلالة مقعده، ووصف ما تهيّأ له من توطيد الخلافة، ورمي ملوك الأمم بسهام بأسه ونجدته، ويقدّمه أمام إنشاد الشعراء، فتقدّم الحكم إلى أبي عليّ البغدادي ضيف الخليفة وأمير الكلام وبحر اللغة، أن يقوم، فقام وحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ثم انقطع، وبهت ما وصل ولا قطع، ووقف ساكتاً مفكراً، فلمّا رأى ذلك منذر بن سعيدٍ قام قائماً بدرجة من مرقاة أبي علي، ووصل افتتاحه بكلام عجيب بهر العقول جزالة، وملأ الأسماع جلالة، ثم ذكر الخطبة كما سبق، وقال بعد إيرادها ما صورته: فصلب العلج وغلب على قلبه، وقال: هذا كبير القوم، أو كبش القوم، وخرج الناس يتحدثون عن حسن مقامه، وثبات جنانه، وبلاغة لسانه، وكان الناصر أشدّهم تعجباً منه، وأقبل على ابنه الحكم - ولم يكن يثبت معرفته - فسأله عنه، فقال له: هذا منذر بن سعيد البلّوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، لئن أخرني الله بعد لأرفعنّ من ذكره، فضع يدك يا حكم عليه، واستخلصه، وذكرني بشأنه، فما للصنيعة مذهب عنه، ثم ولاّه الصلاة والخطابة في المسجد
(1) لم ترد ترجمة لمنذر بن سعيد في المغرب المطبوع.
(2)
صوابه: 273.
الجامع بالزهراء، ثم توفّي محمد بن عيسى (1) القاضي فولاّه قضاء الجماعة بقرطبة، وأقرّه على الصلاة بالزهراء.
ومن شعره في هذه الواقعة قوله (2) :
مقالٌ كحدّ السيف وسط المحافل
…
فرقت به ما بين حقّ وباطل
بقلبٍ ذكيّ ترتمي جنباته (3)
…
كبارق رعدٍ عند رعش الأنامل
فما دحضت رجلي ولا زلّ مقولي
…
ولا طاش عقلي يوم تلك الزلازل
وقد حدّقت حولي عيونٌ إخالها
…
كمثل سهامٍ أثبتت في المقاتل
لخير إمام كان أو هو كائن
…
لمقتبلٍ أو في العصور الأوائل
ترى الناس أفواجاً يؤمّون بابه
…
وكلّهم ما بي راجٍ وآمل
وفود ملوك الروم وسط فنائه
…
مخافة بأس أو رجاءً لنائل
فعش سالماً أقصى حياة مؤمّلاً
…
فأنت غياث كلّ (4) حافٍ وناعل
ستملكها ما بين شرق ومغرب
…
إلى درب قسطنطين أو أرض بابل انتهى كلام ابن سعيد، وهو يؤيد كلام ابن خلدون أن المأمور بالخطبة هو القالي.
وذكر أن الناصر قال لابنه الحكم بعد أن سأله عنه (5) : لقد أحسن ما شاء، فلئن كان حبّر خطبته هذه وأعدّها مخافة أن يدور ما دار فيتلافى الوهي فإنّه
(1) الصواب: محمد بن أبي عيسى؛ وهو محمد بن عبد الله بن أبي عيسى الذي زظل قاضياً للجماعة حتى سنة 339 (انظر تجمته في الجذوة: 69 وبغية الملتمس رقم: 218 وابن الفرضي 2: 61 والخشني: 172 والمرقبة العليا: 59، وسيترجم له المقري في الراحلين رقم: 3) .
(2)
المطمح: 40.
(3)
ك: جمراته.
(4)
ك: رجاء الكل.
(5)
أزهار الرياض 2: 276.
لبديع من قدرته واحتياطه، ولئن كان أتى بها على البديهة لوقته فإنّه لأعجب وأغرب.
قال ابن سعيد: ولما فرغ منذر من خطبته أنشد (1) :
هذا المقام (2) الذي ما عابه فندٌ
…
لكنّ قائله أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريباً كنت مطّرفاً
…
لكنّني منهم فاغتالني النّكد ويروى بدل هذا الشطر:
ولا دهاني له بغيٌ ولا حسد
…
لولا الخلافة أبقى الله حرمتها
…
ما كنت أرضى (3) بأرض ما بها أحد قلت: كأنّه عرّض بابي علي القالي، وتقديمهم إيّاه في هذا المقام، والله أعلم.
ومن نظم منذر بن سعيد قوله:
الموت حوضٌ وكلّنا نرد
…
لم ينج ممّا يخافه أحد
فلا تكن مغرماً برزق غدٍ
…
فلست تدري بما يجيء غد
وخذ من الدهر ما أتاك به
…
ويسلم الروح منك والجسد
والخير والشرّ لا تذعه فما
…
في الناس إلا التشنيع والحسد ول وقد آذاه شخص فخاطبه بالكنية، فقيل له: أيؤذيك وأنت تخاطبه بالكنية؟ فقال:
لا تعجبوا من أنني كنّيته
…
من بعد ما قد سبّنا وأذانا
فالله قد كنّى أبا لهب وما
…
كناه إلاّ خزيةً وهوانا
(1) الجذوة: 326.
(2)
الجذوة: المقال.
(3)
الجذوة: أبقى.
[ترجمة منذر في المطمح]
وقال في المطمح (1) : منذر بن سعيد البلوطي، آية حركة وسكون، وبركة لم تكن معدّة ولا تكون، وآية سفاهة في تحلّم، وجهامة ورع في طيّ تبسّم، إذا جدّ وجد (2) ، وإذا هزل نزل، وفي كلتا الحالتين لم ينزل للورع من مرقب، ولا اكتسب إثماً ولا احتقب، ولي قضاء الجماعة بقرطبة أيّام عبد الرحمن، وناهيك من عدل أظهر، ومن فضل أشهر، ومن جور قبض، ومن حقّ رفع ومن باطل خفض، وكان مهيباً صليباً صارماً غير جبان ولا عاجز ولا مراقب لأحد من خلق الله في استخراج حق ورفع ظلم، واستمر في القضاء إلى أن مات الناصر لدين الله ثم ولي ابنه الحكم فأقرّه، في خلافته استعفى مراراً فما أعفي، وتوفّي بعد ذلك لم يحفظ عنه (3) مدّة ولايته قضية جور، ولا عدّت عليه في حكومته زلة، وكان غزير العلم، كثير الأدب، متكلّماً بالحق، متبيّناً بالصدق، له كتب مؤلفة في السنّة والقرآن والورع، والرد على أهل الأهواء والبدع، وكان خطيباً بليغاً وشاعراً محسناً، ولد عند ولاية المنذر بن محمد (4) ، وتوفّي سنة 355، ومن شعره في الزهد قوله:
كم تصابى وقد علاك المشيب
…
وتعامى عمداً وأنت اللبيب؟
كيف تلهو وقد أتاك نذيرٌ
…
أن سيأتي الحمام منك قريب؟
يا سفيهاً قد حان منه رحيلٌ
…
بعد ذاك الرحيل يومٌ عصيب
إنّ للموت سكرةً فارتقبها
…
لا يداوي إذا أتتك طبيب
كم توانى حتى تصير رهيناً
…
ثمّ تأتيك دعوةٌ فتجيب
(1) المطمح: 37.
(2)
المطمح: تجرد.
(3)
المطمح: تحفظ عليه.
(4)
زاد في المطمح سنة ثلاث وسبعين ومائتين (وفي طبعة الجوائب: ثلاث وعشرين، وهو خطأ) .
بأمور المعاد أنت عليمٌ
…
فاعملن جاهداً له يا أريب (1)
وتذكّر يوماً تحاسب فيه
…
إنّ من يدّكر فسوف ينيب
ليس من ساعة من الدهر إلاّ
…
للمنايا بها عليك رقيب ولعلّنا نذكر شيئاً من أحوال منذر في غير هذا الموضع.
رجع لأخبار الناصر لدين الله - حكي (2) أنّه لما أعذر لأولاد ابنه أبي مروان عبيد الله اتخذ لذلك صنيعاً عظيماً بقصر الزهراء لم يتخلّف أحد عنه من أهل مملكته وأمر أن ينذر لشهوده الفقهاء المشاورون ومن يليهم من العلماء والعدول ووجوه الناس، فتخلف من بينهم المشاور أبو إبراهيم، وافتقد مكانه لارتفاع منزلته، فسأل في ذلك الخليفة الناصر، إذ أبو إبراهيم من أكابر علماء المالكيّة الذي عليهم المدار، ووجد الناصر بسبب ذلك على أبي إبراهيم، وأمر ابنه وليّ العهد الحكم بالكتاب إليه، والتفنيد له، فكتب إليه الحكم رقعةً نسختها: بسم الله الرحمن الرحيم، حفظك الله وتولاك، وسددك ورعاك، لمّا امتحن أمير المؤمنين مولاي وسيدي - أبقاه الله - الأولياء الذي يستعدّ بهم وجدك متقدماً في الولاية، متأخّراً عن الصلة، على أنّه قد أنذرك - أبقاه الله - خصوصاً للمشاركة في السرور الذي كان عنده، لا أعدمه الله توالي المسرّة، ثم أنذرت من قبل إبلاغاً في التكرمة، فكان منك على ذلك كلّه من التخلّف ما ضاقت عليك فيه المعذرة، واستبلغ أمير المؤمنين في إنكاره ومعاتبتك عليهن فأعيت عليك عنك الحجّة، فعرّفني - أكرمك الله - ما الذر الذي أوجب توقفك عن إجابة دعوته، ومشاهدة السرور الذي سرّبه وغب المشاركة فيه، لنعرّفه - أبقاه الله - بذلك، فتسكن نفسه العزيزة غليه إن شاء الله تعالى. فأجابه أبو إبراهيم: سلام على الأمير سيدي ورحمة الله، قرأت - أبقى الله الأمير
(1) في الأصول ما عدا ج: ربيب.
(2)
أزهار الرياض 2: 282.
سيدي - هذا الكتاب وفهمته، ولم يكن توقّفي لنفسي، إنّما كان لأمير المؤمنين سيدنا أبقى الله سلطانه، لعلمي بمذهبه، وسكوني إلى تقواه، واقتفائه لأثر سلفه الطيّب رضوان الله عليهم، فإنّهم يسبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها، ولا بما يغض منها نطرق إلى تنقيصها، يستعدون بها لدينهم، ويتزيّنون بها عند رعاياهم ومن يفد عليهم من قصّدهم، فلهذا تخلفت، ولعلمي بمذهبه توقفت، إن شاء الله تعالى. فلمّا أقرأ الحكم أباه الناصر لدين الله جواب أبي إبراهيم إسحاق أعجبهن واستحسن اعتذاره، وزال ما بنفسه عليه.
وكان الفقيه أبو إبراهيم المذكور معظّماً عند الناصر وابنه الحكم، وحقّ لهما أن يعظماه؛ وقد حكى الفقيه أبو القسم بن مفرّج قال (1) : كنت أختلف إلى الفقيه أبي إبراهيم؟ رحمه الله تعالى، فيمن يختلف إليه للتفقّه والرواية، فإنّي لعنده في بعض الأيّام في مجلسه بالمسجد المنسوب لأبي عثمان الذي كان يصلي به قرب داره بجوفي قصر قرطبة، ومجلسه حافل بجماعة الطلبة، وذلك بين الصلاتين، إذ دخل عليه خصيّ من أصحاب الرسائل، جاء من عند الخليفة الحكم، فوقف وسلّم، وقال له: يا فقيه، أجب أمير المؤمنين أبقاه الله، فإن المر خرج فيك، وها هو قاعد ينتظرك، وقد أمرت بإعجالك، فالله الله، فقال له: سمعاً وطاعة لأمير المؤمنين، ولا عجلة فارجع إليه وعرّفه وفقه الله عني أنّك وجدتني في بيت من بيوت الله تعالى معي طلاب العلم أسمعهم حديث ابن عمّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم يقيّدونه عني، وليس يمكنني ترك ما أنا فيه حتى يتم المجلس المعهود له في رضا الله وطاعته، فذلك أوكد من مسيري إليه الساعة، فإذا انقضى أمر من اجتمع إليّ من هؤلاء المحتسبين في ذات الله الساعين لمرضاته مشيت إليه إن شاء الله تعالى. ثم أقبل على
(1) أزهار الرياض 2: 285.
شأنه، ومضى الخصي يهينم متضاجراً من توقّفه، فلم يك إلا ريثما أدّى جوابه، وانصرف سريعاً ساكن الطيش، فقال له: يا فقيه، أنهيت قولك على نصّه إلى أمير المؤمنين أبقاه الله، فأصغى إليه، وهو يقول لك: جزاك الله خيراً عن الدين وعن أمير المؤمنين وجماعة المسلمين، وأمتعهم بك، وإذا أنت أوعبت (1) فامض إليه راشداً إن شاء الله تعالى، وقد أمرت أن أبقى معك حتى ينقضي شغلك وتمضي معي، فقال له: حسن جميل، ولكني أضعف عن المشي إلى باب السّدّة، ويصعب عليّ ركوب دابة لشيخوختي وضعف أعضائي، وباب الصناعة الذي يقرب إليّ من أبواب القصر المكرّم أحوط وأقرب وأرفق بي، فإن راى أمير المؤمنين - أيّده الله تعالى - أن يأمر بفتحه لأدخل إليه منه هوّن علي المشي، وودع جسمي، وأحب أن تعود وتنهي إليه ذلك عني حتى تعرف رأيه فيه، وكذلك تعود إليّ فإنّي أراك فتى سديداً، فكن على الخير معيناً. ومضى عنه الفتى، ثم رجع بعد حين وقال: يا فقيه، قد أجابك الأمير إلى ما سألت، وأمر بفتح باب الصناعة وانتظارك من قبله، ومنه خرجت إليك، وأمرت بملازمتك مذكراً بالنهوض عند فراغك، وقال: افعل راشداً؛ وجلس الخصيّ جانباً حتى أكمل أبو إبراهيم مجلسه كأفسح (2) ما جرت به عادته غير منزعج ولا قلق، فلمّا انفضضنا عنه قام إلى داره فأصلح من شأنه ثمّ مضى إلى الخليفة الحكم فوصل إليه من ذلك الباب، وقضى حاجته من لقائه، ثم صرفه على ذلك الباب، فأعيد إغلاقه على إثر خروجه. قال ابن مفرّج: ولقد تعمدّنا في تلك العشيّة إثر قيامنا عن الشيخ أبي إبراهيم المرور بهذا الباب المعهود إغلاقه بدبر (3) القصر لنرى تجشّم الخليفة له، فوجدناه كما وصف الخصي مفتوحاً (4) ، وقد حفّه الخدم والأعوان منزعجين ما بين
(1) ك: أوعيت.
(2)
ك: بأكمل وأفسح.
(3)
في الأصول: بدير.
(4)
ك: مفتوحاً كما وصف.
كنّاس وفرّاش متأهّبين لانتظار أبي إبراهيم، فاشتدّ عجبنا لذلك، وطال تحدثنا عنه، انتهى. فهكذا تكون العلماء مع الملوك والملوك معهم (1) ، قدس الله تلك الأرواح.
ثم توفّي الناصر لدين الله ثاني - أو ثالث - شهر رمضان، من عام خمسين وثلاثمائة، أعظم ما كان سلطانه، وأعزّ ما كان الإسلام بملكه.
قال ابن خلدون: خلف الناصر في بيوت الأموال خمسة آلاف ألف ألف ألف ثلاث مرات، انتهى.
وقال غير واحد (2) : إنّه كان يقسم الجباية أثلاثاً: ثلث للجند، وثلث للبناء، وثلث مدّخر، وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص سبعمائة ألف وخمسة وستين ألف دينار، وأمّا أخماس الغنائم العظيمة فلا يحصيها ديوان.
وحكي (3) أنّه وجد بخط الناصر رحمه الله أيام السرور التي صفت له دون تكدير يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا ويوم كذا من كذا، وعدّت تلك الأيام فكانت أربعة عشر يوماً، فاعجب أيهاالعاقلهذه الدّنيا وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأوليائها، هذا الخليفة الناصر حلف السعود، المضروب به المثل في الارتقاء في الدينا والصعود، ملكها خمسين سنة وستة - أو سبعة - أشهر وثلاثة أيّام، ولم تصف له إلا أربعة عشر يوماً، فسبحان ذي العزّة القائمة، والمملكة الدائمة، لا إله إلا هو.
وممّا ينسب للناصر من الشعر، وقيل: لابنه الحكم، قوله (4) :
(1) ك: مع العلماء.
(2)
المغرب 1: 179 وأزهار الرياض 2: 271.
(3)
المغرب 1: 177 وأزهار الرياض 2: 282.
(4)
المغرب 1: 179.
ما كلّ شيء فقدت إلاّ
…
عوّضني الله منه شيّا
إنّي إذا ما منعت خيري
…
تباعد الخير من يديا
من كان لي نعمةٌ عليه
…
فإنّها نعمةٌ عليّا [الوزير أحمد بن عبد الملك بن شهيد]
وممّا زيّن الله به دولة الناصر وزراؤه الذين من جملتهم ابن شهيد، قال في المطمح (1) : أحمد بن عبد الملك بن عمر بن شهيد، مفخر الإمامة، وزهر تلك الكمامة، وحاجب (2) الناصر عبد الرحمن، وحامل الوزارتين على سموّهما في ذلك الزّمان، استقلّ بالوزارة على ثقلها، وتصرف فيها كيف شاء على حدّ نظرها والتفات مقلها، فظهر على أولئك الوزراء، واشتهر مع كثرة النظراء، وكانت إمارة عبد الرحمن أسعد إمارة، بعد عنها كلّ نفس بالسوء أمّارة، فلم يطرقها صرف، ولم يرمقها محذور بطرف، ففرع الناس فيها هضاب الأمانيّ وربها، ورتعت ظباؤها في ظلال ظباها، وهو أسدٌ على براثنه رابض، وبطلٌ أبداً على قائم سيفه قابض، يروع الروم طيفه، ويجوس خلا تلك الديار خوفه، ويروى بل يحسم كلّ آونة سيفه، وابن شهيد ينتج الآراء ويلقحها، وينقد تلك الأنحاء وينقحها، والدولة مشتملة بغنائه، متجملة بسنائه، وكرمه منتشر على الآمال، ويكسو الأولياء بذلك الإجمال، وكان له أدب تزخر لججه، وتبهر حججه، وشعره رقيق لا ينقد، ويكاد من اللطافة يعقد، فمن ذلك قوله:
ترى البدر منها طالعاً فكأنّما
…
يجول وشاحاها على لؤلؤ رطب
(1) المطمح: 9 والمقتطفات الورقة 85 - 86) وانظر ترجمة الوزير ابن شهيد أيضاً في الحلة 1: 237 وجذوة المقتبس: 123 (وبغية الملتمس رقم: 439) ، وسقطت ترجمته من المغرب المطبوع.
(2)
ك: وصاحب.
بعيدة مهوى القرط مخطفة الحشا
…
ومفعمة الخلخال مفعمة (1) القلب
من اللاّء لم يرحلن فوق رواحل
…
ولا سرن يوماً في ركاب ولا ركب
ولا أبرزتهنّ المدام لنشوة
…
وشدوٍ كما تشدو القيان على الشّرب وكان بينه وبين الوزير عبد الملك بن جهور متولي الأمر معه، ومشاركه في التدبير إذا حضر مجتمعه، منافسة، لم تنفصل لهما بها مداخلة ولا ملابسة، وكلاهما يتربّص بصاحبه دائرة السّوء، ويغص به غصص الأفق بالنّوء، فاجتاز يوماً على ربضه، وما إلى زيارته ولم تكن من غرضه، فلمّا استأمر عليه، تأخر خروج الإذن إليه، فثنى عنانه حنقاً من حجابه، وضجراً من حجّابه، وكتب إليه معرّضاً، وكان يلقّب بالحمار:
أتيناك لا عن حاجة عرضت لنا
…
إليك ولا قلبٍ إليك مشوق
ولكنّنا زرنا بفضل حلومنا
…
حماراً تولّى برّنا بعقوق (2) فراجعه ابن جهور يغض منه، بما كان يشيع عنه، بأن جدّه أبا هشام، كان بيطاراً بالشام، بقوله:
حجبناك لمّا زرتنا غير تائق
…
بقلب عدوّ في ثياب صديق
وما كان بيطار الشّآم بموضع
…
يباشر فيه برّنا بخليق ومن شعره قوله يتغزل:
حلفت بمن رمى فأصاب قلبي
…
وقلبه على جمر الصّدود
لقد أودى تذكّره بقلبي
…
ولست أشكّ أنّ النفس تودي
(1) ط ق: مقمعة.
(2)
في ق ك:
ولكننا زرنا بفضل حلومنا
…
فكيف تلاقي برنا بعقوق زالتصحيح عن الحميدي والحلة السيراء.
فقيدٌ وهو موجودٌ بقلبي
…
فوا عجبا لموجودٍ فقيد وقد تقدّم الكلام على هدية ابن شهيد وبعض أخباره، رحمة الله عليه.
[الحكم المستنصر]
ولمّا توفّي الناصر لدين الله (1) تولى الخلافة بعده وليّ عهده الحكم المستنصر بالله فجرى على رسمه، ولم يفقد من ترتيبه إلاّ شخصه، وولي حجابته جعفر المصحفي، وأهدي له يوم ولايته هديّة كان فيها من الأصناف ما ذكره ابن حيّان في المقتبس وهي: مائة مملوك من الإفرنج ناشئة (2) على خيول صافنة كاملو الشّكة والأسلحة من السيوف والرماح والدّرق والتراس والقلانس الهندية، وثلاثمائة ونيّف وعشرون درعاً مختلفة الأجناس، وثلاثمائة خوذة كذلك، ومائة بيضة هنديّة، وخمسون خوذة خشبية (3) من بيضات الفرنجة من غير الخشب (4) يسمونها الطشطانة (5) ، وثلاثمائة حربة إفرنجية، ومائة ترس سلطانية (6) ، وعشرة جواشن فضّة مذهبة، وخمسة وعشرون قرناً مذهبة من قرون الجاموس، انتهى.
قال ابن خلدون (7) : ولأوّل وفاة الناصر طمع الجلالقة في الثغور، فغزا الحكم المستنصر بنفسه، واقتحم بلد فرذلند بن غندشلب (8) ، فنازل شنت اشتبين (9)
(1) سياق الخبر جسبما ورد في ابن خلدون 4: 144.
(2)
ك: ناشبة.
(3)
ق ك: وخمسون هندية خشبية.
(4)
كذا ولعلها: " من خير الخشب ".
(5)
ابن خلدون: الطاشانة؛ والطشطانة (Tistina) كلمة مشتقة من البروفنسالية (Testa)(أي الرأس Tete) وتكتب أيضاً طشتانية وتعني " الخوذة ".
(6)
ابن خلدون: سلطانية الجنس.
(7)
تاريخ ابن خلدون 4: 144 والكلام متصل بما قيله في النقل عنه.
(8)
فرذلند (Fernando Ferdinand) ؛ غند شلب (جنثالث)(Gonzalo) .
(9)
شنت اشتيبين (وفي ق ك ط قدمت الباء الموحدة على الياء)(San Esetban) وبها يسمى غير موضع بالأندلس، ولكن المعنى هنا المدينة القريبة من وشقة (Huesca)
وفتحها عنوة واستباحها، وقفل، فبادروا إلى عقد السلم معه وانقبضوا عمّا كانوا فيه، ثمّ أغزى غالباً مولاه بلاد جليقية وسار إلى مدينة سالم لدخول دار الحرب، فجمع له الجلالقة، ولقيهم فهزمهم واستباحهم وأوطأ العساكر بلد فرذلند ودوّخها، وكان شانجة (1) بن رذمير ملك البشكنس قد انتقض، فأغزاه الحكم التجيبيّ صاحب سرقسطة في العساكر، وجاء ملك الجلالقة لنصره، فهزمهم، وامتنعوا بقورية (2) ، وعاثوا في نواحيها، وقفل، ثم أغزى الحكم أحمد بن يعلى ويحيى بن محمد التجيبي إلى بلاد برشلونة، فعاثت العساكر في نواحيها، وأغزى هذيل بن هاشم ومولاه غالباً إلى بلاد القومس، فعاثا فيها، وقفلا، وعظمت فتوحات الحكم وقوّاد الثغور في كل ناحية، وكان من أعظمها فتح قلهرّة (3) من بلاد البشكنس على يد غالب، فعمرها الحكم، واعتنى بها، ثمّ فتح قطوبية (4) على يد قائد وشقة وغنم فيها من الأموال والسلاح والأقوات والأثاث وفي بسطها من الغنم والبقر والرّمك والأطعمة والسبي ما لا يحصى.
وفي سنة أربع وخمسين سار غالب إلى بلد ألبة، ومعه يحيى بن محمّد التجيبي وقاسم بن مطرف بن ذي النون، فابتنى حصن غرماج (5) ، ودوّخ بلادهم، وانصرف.
وظهرت في هذه السنة مراكب المجوس في البحر الكبير، وأفسدوا بسائط أشبونة وناشبهم الناس القتال، فرجعوا إلى مراكبهم، وأخرج الحكم
(1) ق ج ك ط: شنجة.
(2)
قورية (Coria) من مدن كورة ماردة وكانت تعرف قبل فتح العرب باسم (Caurium) .
(3)
في ك: قلمرية (Coimbra) فهي حسب التقسيمات القديمة من قسم طركونة ومن قواعد منطقة نبره (نافار) .
(4)
كذا في ق ك ج ط وعند دوزي، ولعل الصواب: قطريبه (Yerba) .
(5)
غرماج (Gormaz) ؛ (وانظر أخباراً عما حدث لهذا الحصن في المقتبس: 234 ط. بيروت) .
القوّاد لاحتراس السواحل، وأمر قائد البحر عبد الرحمن بن رماحس بتعجيل حركة الأسطول، ثم وردت الأخبار بأن العساكر نالت منهم في كل جهة من السواحل.
ثمّ كانت وفادة أردون بن أذفونش ملك الجلالقة، وذلك أن الناصر لمّا أعان عليه شانجة بن رذمير - وهو ابن عمّه، وهو الملك (1) من قبل أردون - وحمل النصرانية على طاعته، واستظهر أردون بصهره فرذلند قومس قشتيلة، وتوقّع مظاهرة الحكم لشانجة كما ظاهره أبوه الناصر، فبادر إلى الوفادة على الحكم مستجيراً به، فاحتفل لقدومه، وعبّى العساكر ليوم وفادته، وكان يوماً مشهوداً وصفه ابن حيّان كما وصف أيّام الوفادات قبله، ووصل إلى الحكم وأجلسه، ووعده بالنصر من عدوّه، وخلع عليه، وكتب بوصوله ملقياً بنفسه، وعاقده على موالاة الإسلام، ومقاطعة فرذلند القومس، وأعطى على ذلك صفقة يمينه. ورهن ولده غرسية، ودفعت الصّلات والحملان له ولأصحابه، وانصرف معه وجوه نصارى الذمّة ليوطّدوا له الطاعة عند رعيته، ويقبضوا رهنه.
وعند ذلك بعث ابن عمّه شانجة بن رذمير ببيعته وطاعته مع قواميس أهل جليقية وسمّورة وأساقفتهم، يرغب في قبوله، ويمتّ بما فعل أبوه الناصر معه، فتقبل بيعتهم على شروط شرطها كان منها هدم الحصون والأبراج القريبة من ثغور المسلمين.
ثمّ بعث ملكا برشلونة وطرّكونة وغيرهما يسألان تجديد الصلح وإقرارهما على ما كانا عليه، وبعثا بهدية، هي: عشرون صبيّاً من الخصيان الصقالبة، وعشرون قنطاراً من صوف السمّور، وخمسة قناطير من القصدير، وعشرة أدراعٍ صقلبية، ومائتا سيف فرنجية، فتقبل الهدية وعقد لهم على أن يهدموا
(1) ق: المملك.
الحصون التي تضرّ بالثغور، وأن لا يظاهروا عليه أهل ملّتهم، وأن ينذروا بما يكون من النصارى في الإجلاب على المسلمين.
ثم وصلت رسل غرسية بن شانجة ملك البشكنس في جماعة من الأساقفة والقواميس يسألون الصلح، بعد أن كان توقف وأظهر المكر، فعقد لهم الحكم، فاغتبطوا ورجعوا.
ثمّ وفدت على الحكم أم لذريق بن بلاشك القومس (1) بالغرب من جليقية، وهو القومس الأكبر، فأخرج الحكم لتلقّيها أهل دولته، واحتفل لقدومها في يوم مشهود مشهور، فوصلت وأسعفت، وعقد السلم لابنها كما رغبت، ودفع لها مالاً تقسّمه بين وقدها، دون ما وصلت به هي، وحملت على بغلة فارهة بسرج ولجام مثقلين بالذهب وملحفة ديباج، ثم عاودت مجلس الحكم للوداع، فعاودها بالصّلات لسفرها، وانطلقت.
ثمّ أوطأ عساكره أرض العدوة من المغرب الأقصى والأوسط، وتلقّى دعوته ملوك زناتة من مغراوة ومكناسة، فبثّوها في أعمالهم، وخطبوا بها على منابرهم، زاحموا بها دعوة الشّيعة فيما بينهم، ووفد عليه من بني خزر وبني أبي العافية، فأجزل صلتهم، وأكرم وفادتهم، وأحسن منصرفهم، واستنزل بني إدريس من ملكهم العدوة في ناحية الرّيف، وأجازهم البحر إلى قرطبة، ثم جلاهم إلى الإسكندرية.
وكان محبّاً للعلوم، مكرماً لأهلها، جمّاعاً للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله، قال أبو محمد بن حزم: أخبرني تليد الخصيّ - وكان على خزانة (2) : العلوم والكتب بدار بني مروان - أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة عشون ورقة (3) ، ليس فيها
(1) لذريق بن بلاشك (أو بلشك)(Rodrigo Velasques) وأمه هي: (Oneca) .
(2)
انظر الجمهرة: 100 وابن خلدون 4: 146.
(3)
الجمهرة: خمسون ورقة.
إلا ذكر أسماء الدواوين لا غير، وأقام للعلم والعلماء سوقاً نافقة جلبت إليها بضائعه من كل قطر. ووفد على أبيه (1) أبو عليّ القالي صاحب كتاب الأمالي من بغداد فأكرم مثواه، وحسنت منزلته عنده، وأورث أهل الأندلس علمه، واختص بالحكم المستنصر واستفاد علمه؛ وكان يبعث في الكتب (2) إلى الأقطار رجالاً من التجار، ويرسل (3) إليهم الأموال لشرائها، حتى جلب منها إلى الأندلس ما لم يعهدوه، وبعث في كتاب الأغاني إلى مصنفه أبي الفرج الأصفهاني، وكان نسبه في بني أمية، وأرسل إليه فيه بألف دينار من الذهب العين، فبعث إليه بنسخة منه قبل أن يخرجه إلى العراق، وكذلك فعل مع القاضي أبي بكر الأبهري المالكي في شرحه لمختصر ابن عبد الحكم، وأمثال ذلك. وجمع بداره الحذّاق في صناعة النّسخ والمهرة في الضبط والإجادة في التجليد، فأوعى من ذلك كلّه، واجتمعت بالأندلس خزائن من الكتب لم تكن لأحد من قبله ولا من بعده، إلاّ ما يذكر عن الناصر العباسيّ بن المستضيء، ولم تزل هذه الكتب بقصر قرطبة إلى أن بيع أكثرها في حصار البربر، وأمر بإخراجها وبيعها الحاجب واضح من موالي المنصور بن أبي عامر، ونهب ما بقي منها عند دخول البربر قرطبة واقتحامهم إياها عنوة، انتهى كلام ابن خلدون ببعض اختصار.
ولنبسط الكلام على الحكم فنقول (4) : إن الحكم المستنصر اعتلى سرير الملك ثاني يوم وفاة أبيه يوم الخميس، وقام بأعباء الملك أتم قيام، وأنفذ الكتب إلى الأفاق بتمام الأمر له، ودعا الناس إلى بيعته، واستقبل من يومه النظر في تمهيد سلطانه، وتثقيف مملكته، وضبط قصوره، وترتيب أجناده، وأوّل ما أخذ
(1) ك: قال أبو محمد بن خلدون ولما وفد
…
أكرم.
(2)
ك: في شراء الكتب.
(3)
ج: ويسدي؛ ط ق: ويسري.
(4)
انظر أزهار الرياض 2: 286 والنص متفق مع النفح حتى آخر قصيدة المرادي ص: 394.
البيعة على صقالبة قصره الفتيان المعروفين بالخلفاء الأكابر، كجعفر صاحب الخيل والطراز وغيره من عظمائهم، وتكفّلوا بأخذها على من وراءهم وتحت أيديهم من طبقتهم وغيرهم، وأوصل إلى نفسه في الليل دون هؤلاء الأكابر من الكتّاب والوصفاء والمقدمين والعرفاء، فبايعوه، فلمّا كملت بيعة أهل القصر تقدّم إلى عظيم دولته جعفر بن عثمان بالنهوض إلى أخيه شقيقه أبي مروان عبيد الله المتخلف بأن يلزمه الحضور للبيعة دون معذرة، وتقدم إلى موسى بن أحمد بن حدير بالنهوض أيضاً إلى ابي الأصبغ عبد العزيز شقيقه الثاني، فمضى إليهما كلّ واحد منهما في قطيع من الجند، وأتيا بهما إلى قصر مدينة الزهراء، ونفذ غيرهما من وجوه الرجال في الخيل لإتيان غيرهما من الإخوة، وكانوا يومئذ ثمانية، فوافى جميعهم الزهراء في الليل، فنزلوا في مراتبهم بفصلان (1) دار الملك، وقعدوا في المجلسين الشرقي والغربي، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في البهو الوسط من الأبهاء المذهبة القبلية التي في السطح الممرّد، فأوّل من وصل إليه الإخوة فبايعوه، وأنصتوا لصحيفة البيعة، والتزموا الأيمان المنصوصة بكل ما انعقد فيها، ثم بايع بعدهم الوزراء وأولادهم وإخوتهم، ثمّ أصحاب الشرطة وطبقات أهل الخدمة، وقعد الإخوة والوزراء والوجوه عن يمينه وشماله، إلا عيسى بن فطيس فإنّه كان قائماً يأخذ البيعة على الناس، وقام الترتيب على الرسم في مجالس الاحتفال المعروفة، فاصطف في المجلس الذي قعد فيه أكابر الفتيان يميناً وشمالاً إلى آخر البهو كلّ منهم على قدره في المنزلة، عليهم الظهائر البيض شعار الحزن، قد تقلدوا فوقها السيوف، ثم تلاهم الفتيان الوصفاء، عليهم الدروع السابغة والسيوف الحالية، صفين منتظمين في السطح، وفي الفصلان المتصلة به ذوو الأسنان من الفتيان الصقالبة الخصيان لابسين البياض، بأيديهم السيوف، يتصل بهم من دونهم من طبقات
(1) الفصلان والفصل: جمع فصيل، ويقابل (Porticus) باللاتينية، وهو الرحبة عند مدخل البيت، وتكون الفصلان فيما يبدو على شكل رحاب وصحون متوالية تحددها هيئة الأعمدة.
الخصيان الصقالبة، ثم تلاهم الرماة متنكبين قسيّهم وجعابهم، ثم وصلت صفوف هؤلاء الخصيان الصقالبة صفوف العبيد الفحول شاكين في الأسلحة الرائقة والعدّة الكاملة، قامت التعبية في دار الجند والترتيب من رجّالة العبيد عليهم الجواشن والأقبية البيض، وعلى رؤوسهم البيضات الصّقيلة (1) ، وبأيديهم التّراس الملوّنة والأسلحة المزينة، انتظموا صفين إلى آخر الفصل، وعلى باب السّدّة الأعظم البوّابون وأعوانهم، ومن خارج باب السّدّة فرسان العبيد إلى باب الأقباء، واتصل بهم فرسان الحشم وطبقات الجند والعبيد والرماة، موكباً إثر موكب، إلى باب المدينة الشارع إلى الصحراء، فلمّا تمّت البيعة أذن للناس بالانفضاض، إلا الإخوة والوزراء وأهل الخدمة فإنّهم مكثوا بقصر الزهراء إلى أن احتمل جسد الناصر رحمه الله إلى قصر قرطبة للدفن هنالك في تربة الخلفاء.
وفي ذي الحجّة من سنة خمسين تكاثرت الوفود بباب الخليفة الحكم من البلاد للبيعة والتماس المطالب، من أهل طليطلة وغيرها من قواعد الأندلس وأصقاعها، فتوصلوا إلى مجلس الخليفة بمحضر جميع الوزراء والقاضي منذر بن سعيدوالملأ، فأخذت عليهم البيعة، ووقّعت الشهادات في نسخها.
[؟ وفود أردون على المستنصر]
وفي آخر صفر من سنة إحدى وخمسين أخرج الخليفة الحكم المستنصر بالله مولييه محمّداً وزياداً ابني أفلح الناصري بكتيبة من الحشم لتلقّي غالب الناصري صاحب مدينة سالم المورد للطاغية أردون بن أذفونش الخبيث في الدولة المتملك على طوائف من أمم الجلالقة والمنازع لابن عمّه المملّك قبله شانجة بن رذمير، وتبرع هذا اللعين أردون بالمسير إلى باب المستنصر بالله من ذاته، غير
(1) ك: الصقلبية؛ وفي بعض النسخ: الصقلية.
طالب إذن ولا مستظهر بعهد، وذلك عندما بلغه اعتزام الحكم المستنصر بالله في عامه ذلك على الغزو إليه، وأخذه في التأهّب لهن فاحتال في تأميل المستنصر بالله والارتماء عليه، وخرج قبل أمانٍ بعقد له أو ذمّة تعصمه في عشرين رجلاً من وجوه أصحابه، تكنّفهم غالب الناصري الذي خرجوا إليه، فجاء به نحو مولاه الحكم، وتلقّاهم ابنا أفلح بالجيش المذكور فأنزلاهم، ثم تحرّكا بهم ثاني يوم نزولهم إلى قرطبة، فأخرج المستنصر بالله إليهم هشاماً المصحفي في جيش عظيم كامل التعبية، وتقدّموا إلى باب قرطبة، فمرّوا بباب قصرها، فلمّا انتهى أردون إلى باب السّدة وباب الجنان سأل عن مكان رمس الناصر لدين الله فأشير إلى ما يوازي موضعه من داخل القصر في الروضة، فخلع قلنسوته، وخضع نحو مكان القبر، ودعا، ثم ردّ قلنسوته إلى رأسه. وأمر المستنصر بإنزال أردون في دار الناعورة، وقد كان تقدّم في فرشها بضروب الغطاء والوطاء، وانتهى من ذلك إلى الغاية، وتوسّع له في الكرامة ولأصحابه، فأقام بها الخميس والجمعة، فلمّا كان يوم السبت تقدم المستنصر بالله باستدعاء أردون ومن معه بعد إقامة الترتيب وتعبية الجيوش والاحتفال في ذلك من العدد والأسلحة والزينة، وقعد المستنصر بالله على سرير الملك في المجلس الشرقي من مجالس السطح، وقعد الإخوة وبنوهم والوزراء ونظراؤهم صفاً في المجلس فيهم القاضي منذر بن سعيد والحكام والفقهاء، فأتى محمّد بن القاسم بن طملس (1) بالملك أردون وأصحابه وعالي لبوسه (2) ثوبٌ ديباجيٌّ روميٌّ ابيض وبليوال (3) من جنسه وفي لونه، وعلى رأسه قلنسوة رومية منظومة
(1) محمد بن قاسم بن طملس: كان يشغل في ايام المستنصر منصب الوزير صاحب الحشم، وقد قتل في حروب العدوة أول سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بفحص مهران (المقتبس: 96 ط. بيروت) .
(2)
ق: لباسه.
(3)
لعلها من اللفظة (Pluvial)، أو (Palio) (فتقرأ: بليون) ، وفي ق: ويلبوال؛ ج: يلنوال؛ ك: بليوان.
بجوهر، وقد حفته جماعة من نصارى وجوه الذمّة بالأندلس يؤنسونه ويبصرونه، فيهم وليد بن خيزران (1) قاضي النصارى بقرطبة وعبيد الله بن قاسم مطران طليطلة (2) وغيرهما، فدخل بين صفّي الترتيب يقلّب الطّرف في نظم الصفوف، ويجيل الفكر في كثرتها وتظاهر أسلحتها ورائق حليتها، فراعهم ما أبصروه، وصلّبوا على وجوههم، وتأملوا ناكسي رؤوسهم غاضّين من أجفانهم قد سكّرت أبصارهم حتى وصلوا إلى باب الأقباء أوّل باب قصر الزهراء، فترجل جميع من كان خرج إلى لقائه، وتقدم الملك أردون وخاصّة قوامسه على دوابهم، حتى انتهوا إلى باب السّدّة، فأمر القوامس بالترجّل هنالك والمشي على الأقدام، فترجلوا، ودخل الملك أردون وحده راكباً مع محمد بن طملس، فأنزل في برطل (3) البهو الأوسط من الأبهاء القبلية التي بدار الجند على كرسي مرتفع مكسوّ الأوصال بالفضّة، وفي هذا المكان بعينه نزل قبله عدوّه ومناوئه شانجة بن رذمير الوافد على الناصر لدين الله - رحمه اله تعالى - فقعد أردون على الكرسي، وقعد أصحابه بين يديه، وخرج الإذن لأردون الملك من المستنصر بالله بالدخول عليه، فتقدم يمشي وأصحابه يتبعونه إلى أن وصل إلى السطح، فلمّا قابل المجلس الشرقي الذي فيه المستنصر بالله وقف وكشف رأسه وخلع برنسه، وبقي حاسراً إعظاماً لما بان له من الدنو إلى السرير، واستنهض فمضى بين الصفين المرتبين في ساحة السطح، إلى أن قطع السطح وانتهى إلى باب البهو، فلمّا قابل السرير
(1) كذا في ق ج ط ودوزي؛ وهو مضطرب في النسخ فهو: خيزان؛ حيزون (في ك) ؛ خيرون؛ ولعل الأخيرة " خيرون " هي الصواب؛ وهذا القاضي فيما يبدو هو الذي أعان على ترجمة كتاب هروشيوش حين أهداه إمبراطور القسطنطينية إلى الناصر (ابن خلدون 2: 88) وفي أحداث سنة 360 من المقتبس أن قاضي النصارى بقرطبة كان اسمه " اصبغ بن نبيل "(ص: 64، 146) .
(2)
سماه في المقتبس (47) مطران إشبيلية، وكان المستنصر يعتمد عليه في الترجمة وفي مرافقة الوفود وشؤون السفارات.
(3)
البرطل: يقابل بالإسبانية (Portal) أي المدخل.
خرّ ساجداً سويعةً، ثم استوى قائماً، ثم نهض خطواتٍ، وعاد إلى السجود ووالى ذلك مراراً إلى أن قدم بين يدي الخليفة وأهوى إلى يده فناوله إياها وكرّ راكعاً مقهقراً على عقبه إلى وساد ديباج مثقل بالذهب، جعل له هنالك، ووضع على قدر عشرة أذرع من السرير، فجلس عليه، والبهر قد علاه، وأنهض خلفه من استدنى من قوامسه وأبتاعه، فدنوا ممتثلين في تكرير الخنوع وناولهم الخليفة يده فقبّلوها وانصرفوا مقهقرين فوقفوا على رأس ملكهم، ووصل بوصولهم وليد بن خيزران قاضي النصارى بقرطبة، فكان الترجمان عن الملك أردون ذلك اليوم، فأطرق الحكم عن تكليم الملك أردون إثر قعوده أمامه وقتاً كيما يفرخ (1) روعه، فلمّا رأى أن قد خفّض عله افتتح تكليمه فقال: ليسرك إقبالك ويغبطك تأميلك،
فلدينا لك من حسن رأينا ورحب قبولنا فوق ما قد طلبته، فلمّا ترجم له كلامه إيّاه تطلّق وجه أردون، وانحط عن مرتبته، فقبّل البساط، وقال: أنا عبد أمير المؤمنين مولاي، المتورك على فضلهن القاصد إلى مجده، المحكم في نفسه ورجاله، فحيث وضعني من فضله وعوضني من خدمته رجوت أن أتقدم فيه بنية صادقة، ونصيحة خالصة، فقال له الخليفة: أنت عندنا بمحلّ من يستحق حسن رأينا، وسينالك من تقديمنا لك وتفضيلنا إياك على أهل ملتك ما يغبطك، وتتعرف به فضل جنوحك إلينا، واستظلالك بظل سلطاننا، فعاد أردون إلى السجود عند فهمه مقالة الخليفة، وابتهل داعياً، وقال: إن شانجة ابن عمي تقدم إلى الخليفة الماضي مستجيراً به مني، فكان من إعزازه إياه ما يكون من مثله من أعاظم الملوك وأكارم الخلفاء لمن قصدهم وأمّلهم، وكان قصده قصد مضطر قد شنأته رعيته، وأنكرت سيرته، واختارتني لمكانه من غير سعي مني علم الله ذلك، ولا دعاء إليه، فخلعته وأخرجته عن ملكه مضطرّاً مضطهداً، فتطوّل عليه رحمه الله بأن صرفه إلى ملكه،
(1) في الأصول: يفرج.
وقوّى سلطانه، وأعزّ نصره، ومع ذلك فلم يقم بفرض النعمة التي أسديت إليه، وقصّر في أداء المفروض عليه وحقّه وحق مولاي أمير المؤمنين من بعده، وأنا قد قصدت باب أمير المؤمنين لغير ضرورة، من قرارة سلطاني وموضع أحكامي، محكّماً له في نفسي ورجالي ومعاقلي ومن تحويه من رعيتي، فشتان ما بيننا بقوّة الثقة ومطرح الهمة، فقال الخليفة: قد سمعنا قولك، وفهمنا مغزاك، وسوف يظهر من إقراضنا إيّاك على الخصوصيّة شأنه، ويترادف من إحساننا إليك أضعاف ما كان من أبينا - رضي الله تعالى عنه - إلى ندّك وإن كان له فضل التقدّم بالجنوح إلينا والقصد إلى سلطاننا، فليس ذلك ممّا يؤخرك عنه، ولا ينقصك ممّا أنلناك، وسنصرفك مغبوطاً إلى بلدك، ونشدّ أواخيّ ملكك ونملكك جميع من انحاش إليك من أمتك (1) ونعقد لك بذلك كتاباً يكون بيدك نقرّر به حدّ ما بينك وبين ابن عمّك، ونقبضه عن كل ما يصرّفه من البلاد إلى يدك، وسيترادف عليك من إفضالنا (2) فوق ما احتسبته، والله على ما نقول وكيل.
فكرّر أردون الخضوع، وأسهب في الشكر، وقم للانصراف مقهقراً لا يولّي الخليفة ظهره، وقد تكنفه الفتيان (3) ، فأخرجوه إلى المجلس الغربي في السطح، وقد علاه البهر وأذهله الرّوع، من هول ما باشره وجلالة ما عاينه من فخامة الخليفة وبهاء العزّة، فلمّا أن دخل المجلس ووقعت عينه على مقعد أمير المؤمنين خالياً منه انحطّ ساجداً إعظاماً له، ثم تقدّم الفتيان يه إلى البهو الذي بجوفي هذا المجلس، فأجلسوه هنالك على وساد مثقل بالذهب، وأقبل نحوه الحاجب جعفر، فلمّا بصر به قام إليه، وخنع له (4) ، وأومأ إلى تقبيل يده،
(1) من أمتك: سقطت من ك.
(2)
ق: إحساننا.
(3)
زاد بعدها في ق: من جملة الفتيان.
(4)
ك: وخضع له.
فقبضها الحاجب عنه، وانحنى إليه فعانقه، وجلس معه، فغبّطه، ووعده من إنجاز عدات الخليفة له بما ضاعف سروره، ثم أمر الحاجب جعفر فصبت عليه الخلع التي أمر له بها الخليفة، وكانت درّاعة منسوجة بالذهب، وبرنساً مثلها له لوزة مفرغة من خالص البر مرصعة بالجوهر والياقوت ملأت عين العلج تجلة، فخرّ ساجداً وأعلن بالدعاء، ثم دعا الحاجب أصحابه رجلاً رجلاً فخلع عليهم على قدر استحقاقهم، فكمل جميع ذلك بحسب ما يصلح لهم، وخرّ جميعهم خانعين (1) شاكرين، ثم انطلق الملك أردون وأصحابه، وقدّم لركابه في أوّل البهو الأوسط فرسٌ من عتاق خيل الركاب عليه سرج حلي ولجام حلي مفرغ، وانصرف مع ابن طملس إلى قصر الرصافة مكان تضييفه، وقد أعدّ له فيه كل ما يصلح لمثله من الآلة والفرش والماعون، واستقر أصحابه فيما لا كفاء له من سعة التضييف وإرغاد المعاش.
واستشعر الناس من مسرّة هذا اليوم وعزّة الإسلام فيه ما أفاوضوا في التبجّح به والتحدث عنه أيّاماً، وكانت للخطباء والشعراء بمجلس الخليفة في هذا اليوم مقامات حسان، وإنشادات لأشعار محكمة متان، يطول القول في اختيارها، فمن ذلك قول عبد الملك بن سعيد المرادي من قصيدة حيث يقول (2) :
ملك الخليفة آية الإقبال
…
وسعوده موصولة بتوالي (3)
والمسلمون بعزّةٍ وبرفعةٍ
…
والمشركون بذلّةٍ وسفال
ألقت بأيديها الأعاجم نحوه
…
متوقّعين لصولة الرئبال
هذا أميرهم أتاه آخذاً
…
منه أواصر ذمّةٍ وحبال
متواضعاً لجلاله متخشّعاً
…
متبرّعاً لمّا يرع بقتال
سينال بالتأميل للملك الرّضى
…
عزّاً يعمّ عداه بالإذلال
(1) ك: خاضعين.
(2)
منها أربعة أبيات ف البيان المغرب 1: 235 (ط. ليدن) .
(3)
في الأصول: بنوال.
لا يوم أعظم للولاة مسرّةً
…
وأشدّه غيظاً على الأقيال
من يوم أردون الذي إقباله
…
أمل المدى ونهاية الإقبال
ملك الأعاجم كلّها ابن ملوكها
…
والي الرّعاة وللأعاجم والي
إن كان جاء ضرورةً فلقد أتى
…
عن عزّ مملكة وطوع رجال
فالحمد لله المنيل إمامنا
…
حظّ الملوك بقدره المتعالي
هو يوم حشر الناس إلاّ أنّهم
…
لم يسألوا فيه عن الأعمال
أضحى الفضاء مفعّماً (1) بجيوشه
…
والأفق أقتم أغبر السّربال
لا يهتدي الساري لليل قتامه
…
إلا بضوء صوارم وعوالي
وكأن أجسام الكماة تسربلت
…
مذ عرّيت عنه جسوم صلال
وكأنّما العقبان عقبان الفلا
…
منقضّة لتخطّف الضّلاّل
وكأنّ منتصب القنا مهتزّة
…
أشطان نازحةٍ بعيدة جال (2)
وكأنما قبل التجافيف اكتست
…
ناراً توهجها (3) بلا إشعال [؟ عود إلى سيرة الحكم]
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم المستنصر عن فتاه تليد صاحب خزانته العلمية فيما حدّث عنه الحافظ أبو محمد بن حزم: إن عدة الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة في كل فهرسة عشرون ورقة ليس فيها إلا ذكر الدواوين فقط، انتهى، وقد قدّمناه عن ابن خلدون (4) ، ونقله ابن الأبار في التكملة (5) .
وقال بعض المؤرخين في حق الحكم: إنّه كان حسن السيرة، مكرماً للقادمين
(1) في نسخة: مغيماً.
(2)
النازحة: البئر البعيدة الغور؛ الجال والجول: صفحة البئر.
(3)
ك: تؤججها.
(4)
ص: 385 فيما سبق.
(5)
لم أجده في التكملة المطبوعة، وهو في الحلة السيراء 1: 203 وانظر المقتطفات (الورقة: 86) .
عليه، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف كثرة ونفاسة، حتى قيل: إنها كانت أربعمائة ألف مجلد، وإنّهم لما نقلوها أقاموا ستة أشهر في نقلها، وكان عالماً نبيهاً صافي السريرة، وسمع من قاسم بن أصبغ وأحمد بن دحيم ومحمد بن عبد السلام الخشني وزكريا بن خطاب وأكثر عنه، وأجز له ثابت بن قاسم، وكتب عن خلق كثير سوى هؤلاء. وكان يستجلب المصنفات من الأقاليم والنواحي باذلاً فيها ما أمكن من الأموال حتى ضاقت عنها خزائنه، وكان ذا غرام بها، قد آثر ذلك على لذات الملوك، فاستوسع علمه ودق نظره، وجمّت استفادته، وكان في المعرفة بالرجال والأخبار والأنساب أحوذيّاً نسيج وحده، وكان ثقة فيما ينقله، بهذا وصفه ابن الأبار وبأضعافه، وقال: عجباً لابن الفرضي وابن بشكوال كيف لم يذكراه وقلّما يوجد كتاب من خزائنه إلاّ وله فيه قراءة أو نظر في أيّ فنّ كان ويكتب في نسب المؤلف ومولده ووفاته ويأتي من بعد ذلك بغرائب لا تكاد توجد إلا عنده لعنايته بهذا الشأن (1) .
وممّا ينسب إليه من النظم قوله (2) :
إلى الله أشكو من شمائل مترفٍ (3)
…
عليّ ظلوم لا يدين بما دنت
نأت عنه داري فاستزاد صدوده
…
وإنّي على وجدي القديم كما كنت
ولو كنت أدري أنّ شوقي بالغٌ
…
من الوجد ما بلغته لم أكن بنت وقوله (4) :
عجبت وقد ودّعتها كيف لم أمت
…
وكيف انثنت بعد الوداع يدي معي
فيا مقلتي العبرى عليها اسكبي دماً
…
ويا كبدي الحرّى عليها تقطّعي
(1) بعض هذا النص موجود في الحلة السيراء.
(2)
المغرب 1: 181 والمقتطفات (الورقة: 86) .
(3)
ك: مسرف.
(4)
انظر الحلة السيراء 1: 203 والمغرب 1: 182.
توفّي - رحمه الله تعالى - بقصر قرطبة ثاني صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، لست عشرة سنة من خلافته، وكان أصابه الفالج، فلزم الفراش إلى أن هلك - رحمه الله تعالى - وكان قد شدد في إبطال الخمر في مملكته تشديداً عظيماً.
[خلافة هشام بن الحكم وتسلط ابن أبي عامر]
وولي بعده ابنه هشامٌ صغيراً سنّه تسع سنين، ولا ينافيه قول ابن خلدون: قد ناهز الحلم وكان الحكم قد استوزر له محمد بن أبي عامر، ونقله من خطّة القضاء إلى وزارته، وفوّض إليه أموره، فاستقل.
قال ابن خلدون (1) : وترقّت حال ابن أبي عامر عند الحكم، فلمّا توفّي الحكم وبويع هشام ولقّب المؤيد بعد أن قتل ليلتئذ المغير ة أخو الحكم المرشّح لأمره تناول الفتك به محمد بن أبي عامر هذا بممالأة من جعفر بن عثمان المصحفيّ حاجب أبيه وغالب مولى الحكم صاحب مدينة سالم ومن خصيان القصر يومئذ ورؤسائهم فائق وجؤذر، فقتل ابن أبي عامر المغيرة بممالأة من ذكر، وتمت البيعة لهشام، ثم سما لابن أبي عامر في التغلب على هشام لمكانه في السنّ، وثاب له برأي في الاستبداد، فمكر بأهل الدولة، وضرب بين رجالها، وقتل بعضاً ببعض، وكان من رجال اليمنية من معافر، دخل جدّه عبد الملك مع طارق، وكان عظيماً في قومه، وكان له في الفتح أثر، وعظم ابن أبي عامر هذا، غلب على المؤيد، ومنع الوزراء من الوصول إليه إلاّ في النادر من الأيام يسلّمون وينصرفون، وأرضخ للجند في العطاء، وأعلى مراتب العلماء، وقمع أهل البدع، وكان ذا عقل ورأي وشجاعة وبصر بالحروب ودين متين، ثمّ تجرّد لرؤساء الدولة ممّن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطّهم عن
(1) ابن خلدون 4: 147.
مراتبهم، وقتل بعضاً ببعض، كلّ ذلك عن] أمر] (1) هشام وخطّه وتوقيعه، حتى استأصلهم وفرّق جموعهم، وأول ما بدأ بالصقالبة الخصيان الخدّام بالقصر، فحمل الحاجب المصحفيّ على نكبتهم، فنكبهم وأخرجهم من القصر، وكانوا ثمانمائة أو يزيدون، ثم أصهر إلى غالب مولى الحكم، وبالغ في خدمته والتنصّح له، واستعان به على المصحفيّ فنكبه ومحا أثره من الدولة، ثم استعان على غالب بجعفر بن عليّ بن حمدون صاحب المسيلة وقائد الشيعة ممدوح بن هانئ بالفائية المشهورة وغيرها (2) ، وهو النازع إلى الحكم أوّل الدولة بمن (3) كان معه من زناتة والبربر، ثم قتل جعفراً بممالأة ابن عبد الودود وابن جهور وابن ذي النون وأمثالهم من أولياء الدولة من العرب وغيرهم، ثمّ لمّا خلا الجو من أولياء الخلافة والمرشّحين للرياسة رجع إلى الجند، فاستدعى أهل العدوة من رجال زناتة والبرابرة فرتب منهم جنداً، واصطنع أولياء، وعرّف عرفاء من صنهاجة ومغراوة وبني يفرن وبني برزال ومكناسة وغيرهم، فتغلّب على هشام وحجره، واستولى على الدولة، وملأ الدنيا وهو في جوف بيته، من تعظيم الخلافة، والخضوع لها، وردّ الأمور إليها، وترديد الغزو والجهاد، وقدّم رجال البرابرة وزناتة، وأخّر رجال العرب وأسقطهم عن مراتبهم، فتم له ما أراد من الاستقلال بالملك والاستبداد بالأمر، وبنى لنفسه مدينة لنزله سمّاها الزاهرة، ونقل إليها خزائن الأموال والأسلحة، وقعد على سرير الملك، وأمر أن يحيّا بتحية الملوك، وتسمى بالحاجب المنصور، ونفذت الكتب والمخاطبات والأوامر باسمه، وأمر بالدعاء له على المنابر باسمه عقب الدعاء للخليفة، ومحا رسم الخلافة بالجملة، ولم يبق لهشام المؤيد من رسوم الخلافة أكثر من الدعاء على
(1) زيادة لازمة.
(2)
يعني ابن هانئ الأندلسي شاعر العبيديين، ومطلع قصيدته الفائية:
أليلتنا إذ أرسلت وارداً وحفا
…
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا (3) في الأصول: وبمن.
المنابر وكتب اسمه في السّكة والطرز، وأغفل ديوانه ممّا سوى ذلك؛ وجنّد البرابرة والمماليك، واستكثر من العبيد والعلوج للاستيلاء على تلك الرتبة، وقهر من تطاول إليها من العلية، فظفر من ذلك بما أراد، وردد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا ستّاً وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه لم تنتكس له فيها راية، ولا فلّ له جيش، وما أصيب له بعث، وما هلكت له سريّة، وأجاز عساكره إلى العدوة، وضرب بين ملوك البرابرة وضرب بعضهم ببعض، فاستوثق له ملك المغرب، وأخبتت له ملوك زناتة وانقادوا لحكمه وأطاعوا سلطانه، وأجاز ابنه عبد الملك إلى ملوك مغراوة بفاس من آل خزر، ولمّا سخط زيري بن عطية ملكهم لمّا بلغه ما بلغه من إعلانه بالنّيل منه والغضّ من منصبه والتأفّف لحجر الخليفة هشام أوقع به عبد الملك سنة ست وثمانين، ونزل بفاس وملكها، وعقد لملوك زناتة على ممالك المغرب وأعماله من سجلماسة وغيرها، وشرّد زيري بن عطية إلى تاهرت، فأبعد المفرّ، وهلك في مفرّه ذلك، ثم قفل عبد الملك إلى قرطبة، واستعمل واضحاً على المغرب، وهلك المنصور أعظم ما كان ملكاً، وأشدّ استيلاء، سنة أربع وتسعين وثلاثمائة (1) ، بمدينة سالم منصرفه من بعض غزواته، ودفن هنالك، وذلك لسبع وعشرين سنة من ملكه، انتهى كلام ابن خلدون، وبعضه بالمعنى وزيادة يسيرة.
ولا بأس أن نزيد عليه فنقول: ممّا حكي أنّه مكتوب على قبر المنصور رحمه الله تعالى (2) :
آثاره تنبيك عن أخباره
…
حتّى كأنّك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله
…
أبداً، ولا يحمي الثغور سواه وعن شجاع مولى المستعين بن هود: لمّا توجّهت إلى أذفونش وجدته في
(1) الصواب: سنة 392.
(2)
الحلة السيراء 1: 273.
مدينة سالم، وقد نصب على قبر المنصور بن أبي عامر سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع، أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم؟ قال: فحملتني الغيرة أن قلت له: لو تنفّس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه، ولا استقر بك قرار، فهمّ بي، فحالت امرأته بيني وبينه، وقالت له: صدقك فيما قال، أيفخر مثلك بمثل هذا؟
وهذا تلخيص ترجمة المنصور من كلام ابن سعيد (1)، قال رحمه الله: ترجمة الملك الأعظم المنصور أبي عامر محمد بن عبد الله بن عامر بن أبي عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك، المعافري، من قرية تركش (2) ، وعبد الملك جدّه هو الوافد على الأندلس معطارق في أوّل الداخلين من العرب، وأمّا المنصور فقد ذكره ابن حيّان في كتابه المخصوص بالدولة العامرية، والفتح في المطمح، والحجاري في المسهب، الشّقندي في الطرف، وذكر الجميع أن أصله من قرية تركش، وأنّه رحل إلى قرطبة، وتأدب بها، ثم اقتعد دكاناً عند باب القصر يكتب فيه لمن يعنّ له كتب من الخدم والمرافعين للسلطان، إلى أن طلبت السيدة صبح أم المؤيد من يكتب عنها، فعرّفها به من كان يأنس إليه بالجلوس من فتيان القصر، فترقّى إلى أن كتب عنها، فاستحسنته ونبّهت عليه الحكم ورغبت في تشريفه بالخدمة، فولاّه قضاء بعض المواضع، فظهرت منه نجابة، فترقّى إلى الزكاة والمواريث بإشبيلية وتمكّن في قلب السيدة بما استمالها به من التّحف والخدمة ما لم يتمكن لغيره ولم يقصر - مع ذلك - في خدمة المصحفيّ الحاجب، إلى أن توفّي الحكم وولي ابنه هشام المؤيد، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، فجاشت الروم، فجهز المصحفيّ ابن أبي عامر لدفاعهم، فنصره الله عليهم، وتمكّن حبّه من قلوب الناس.
(1) راجع المغرب 1: 394 والنص عند المقري مختلف عما ورد في كتاب ابن سعيد، ولم يقل المقري إنه ينقل عن المغرب؛ وانظر المقتطفات (الورقة: 86 - 87) .
(2)
كذا هنا، وفي المغرب:" كرتش " وفي المعجب: طرش من أعمال الجزيرة الخضراء.
وكان جواداً عاقلاً ذكيّاً، استعان بالمصحفيّ على الصقالبة، ثم بغالب على المصحفيّ، وكان غالب صاحب مدينة سالم - وتزوج ابن أبي عامر ابنته أسماء، وكان أعظم عرس بالأندلس - ثمّ بجعفر بن علي الأندلسي ممدوح ابن هانئ على غالب، ثم بعبد الرحمن بن محمد بن هشام التّجيبي على جعفر، وله في الحزم والكيد والجلد ما أفرد له ابن حيّان تأليفاً، وعدد غزواته المنشأة من قرطبة نيّف وخمسون غزوة، ولم تهزم له راية، وقبره بمدينة سالم في أقصى شرق الأندلس.
ومن شعره (1) :
رميت بنفسي هول كلّ عظيمة
…
وخاطرت والحرّ الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنانٌ مشيّعٌ
…
وأسمر خطّيٌّ وأبيض باتر
فسدت بنفسي أهل كلّ سيادة
…
وفاخرت حتى لم أجد من أفاخر
وما شدت بنياناً ولكن زيادة
…
على ما بنى عبد المليك وعامر
رفعنا المعالي بالعوالي حديثة (2)
…
وأورثناها في القديم معافر وجوده مع صاعد البغدادي اللغوي مشهور.
وصدر عن بعض غزواته فكتب إليه عبد الملك بن شهيد (3)، وكان قد تخلّف عنه:
أنا شيخٌ والشيخ يهوى الصّبايا
…
يا بنفسي أقيك كلّ الرّزايا
ورسول الإله أسهم في الفي
…
ء لمن لم يخبّ فيه المطايا فبعث إليه بثلاث جوارٍ من أجمل السبي، وكتب معهنّ، وكانت واحدة أجملهنّ، قوله:
(1) الحلة 1: 274 وابن عذاري 2: 409.
(2)
في الأصول: مثلها.
(3)
الذخيرة 4: 18 والحلة 1: 276.
قد بعثنا بها كشمس النّهار
…
في ثلاثٍ من المها أبكار
وامتحنّا بعذرة البكر إن كن
…
ت ترجّي بوادر الإعذار
فاجتهد وابتدر (1) فإنّك شيخٌ
…
قد جلا ليله بياض النهار (2)
صانك الله من كلالك فيها
…
فمن العار كلة المسمار فافتضهن من ليلته، وكتب له بكرة:
قد فضضنا ختام ذاك السّوار
…
واصطبغنا من النّجيع الجاري
وصبرنا على دفاعٍ وحربٍ
…
فلعبنا بالدّرّ أو بالدراري (4)
وقضى الشيخ ما قضى بحسامٍ
…
ذي مضاءٍ عضب الظّبا بتّار
فاصطنعه فليس يجزيك كفراً
…
واتخذه فحلاً على الكفّار وقدم بعض التجّار (4) ومعه كيس فيه ياقوت نفيس، فتجرّد ليسبح في النهر، وترك الكيس، وكان أحمر، على ثيابه، فرفعته حدأة في مخالبها، فجرى تابعاً لها وقد ذهل، فتغلغلت في البساتين، وانقطعت عن عينه، فرجع متحيّراً، فشكا ذلك إلى بعض من يأنس به، فقال له: صف حالك لابن أبي عامر، فتلطّف في وصف ذلك بين يديه، فقال: ننظر إن شاء الله تعالى في شأنك، وجعل يستدعي أصحاب تلك البساتين، ويسأل خدّامها عمّن ظهر عليه تبديل حال، فأخبروه أن شخصاً ينقل الزبل اشترى حماراً، وظهر من حاله ما لم يكن قبل ذلك، فأمر بمجيئه، فلمّا وقعت عينه عليه قال له: أحضر الكيس الأحمر، فتملك الرعب قلبه وارتعش، وقال: دعني آتي به من منزلي، فوكل به من حمله إلى منزله وجاء بالكيس، وقد نقص منه ما لا يقدح في
(1) الحلة: واتئد.
(2)
الحلة: خفي الليل عن بياض النهار.
(4)
انظر القصة في ابن عذاري 2: 435 مع اختلاف في التفصيلات.
(4)
انظر القصة في ابن عذاري 2: 435 مع اختلاف في التفصيلات.
مسرّة صاحبه، فجبره، ودفعه إلى صاحبه، فقال: والله لأحدثنّ في مشارق الأرض ومغاربها أن ابن أبي عامر يحكم على الطيور وينصف منها، والتفت ابن أبي عامر إلى الزبال فقال له: لو أتيت به أغنيناك، لكن تخرج كفافاً لا عقاباً ولا ثواباً.
وتوفّي رحمه الله في غزاته للإفرنج بصفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، وحمل في سريره على أعناق الرجال، وعسكره يحفّ به وبين يديه، إلى أن وصل إلى مدينة سالم.
ودامت دولته ستّاً وعشرين سنة، غزا فيها اثنتين وخمسين غزوة واحدة في الشتاء وأخرى في الصيف، انتهى كلام ابن سعيد، وفي بعضه مخالفة لبعض كلام ابن خلدون.
[الحاجب المصحفي عن المطمح]
وقال الفتح في " المطمح " في حق المصحفيّ الحاجب جعفر بن عثمان المصحفيّ، ما صورته (1) : تجرّد للعليا، وتمرّد في طلب الدنيا، حتى بلغ المنى، وتسوّغ ذلك الجنى، ووصل إلى المنتهى، وحصل على ما اشتهى، دون مجد تفرّع من دوحته، ولا فخر نشأ بين مغداه وروحته، فسما دون سابقة، ورمى إلى رتبة لم تكن لنفسه (2) مطابقة، فبلغ بنفسه، ونزع عن جنسه، ولم يزل يستقل ويضطلع (3) ، وينتقل من مطلع إلى مطلع، حتى التاح في أفق الخلافة، وارتاح إليها بعطفه (4) كنشوان السّلافة، واستوزره المستنصر، وعنه كان يسمع وبه يبصر، وحجب الإمام، وأسكب برأيه ذلك الغمام، فأدرك لذلك
(1) المطمح: 4 - ونقل ابن عذاري بعض هذه الترجمة 2: 379 وصدرها بقوله: قال ابن بسام.
(2)
المطمح: لبنيته.
(3)
ك: يستفل ويطلع.
(4)
في الأصول: إليه معظمها.
ما أدرك، ونصب لأمانيه الحبائل والشّرك، فاقتنى اقتناء؟؟؟؟ مدّخر، وأزرى بمن سواه وسخر، واستعطفه ابن أبي عامر ونجمه غائر لم يلح، وسرّه مكتوم لم يبح، فما عطف، ولا جنى من روضة دنياه ولا قطف، وأقام في تدبير الأندلس ما أقام وبرهانه مستقيم، ومن الفتن عقيم، وهو يجري من السعد في ميدان رحب، ويكرع من العزّ في مشرب عذب، ويفضّ ختام السرور، وينهض بملكٍ على لبّته مزرور، وكان له أدبٌ بارع، وخاطر إلى نظم القريض (1) مسارع، فمن محاسنه التي بعثها إيناس دهره وإسعاده، وقاله حين ألهته سلماه وسعاده، قوله:
لعينيك في قلبي عليّ عيون (2)
…
وبين ضلوعي للشّجون فنون
نصيبي من الدنيا هواك، وإنّه
…
غذائي، ولكنّي عليه ضنين وستأتي هذه الترجمة من المطمح الصغير إن شاء الله تعالى بما فيه بعض زيادة ونقصان في الباب الرابع.
[؟؟ ترجمة ابن أبي عامر في المطمح]
وقال في المطمح في حقّ ابن أبي عامر (3) : إنّه تمرّس ببلاد الشّرك أعظم تمرّس، ومحا من طواغيتها كلّ تعجرف وتغطرس، وغادرهم صرعى البقاع، وتركهم أذلّ من وتدٍ بقاع، ووالى على بلادهم الوقائع، وسدّد إلى أكبادهم سهام الفجائع، وأعضّ بالحمام أرواحهم، ونغّص بتلك الآلام بكورهم ورواحهم، ومن أوضح الأمور هنالك، وأفصح الأخبار في ذلك، أن أحد رسله كان كثير الانتياب، لذلك الجناب، فسار في بعض مسيراته إلى غرسية
(1) هذه رواية المطمح، وفي المقري: البديع.
(2)
في الأصول: شجون.
(3)
قد ذكر المقري المطمح الصغير؛ وهناك مطمح متوسط وآخر كبير؛ وترجمة ابن أبي عامر هذه غير موجودة في المطمح الذي بين أيدينا، وقد وردت في ان عذاري 2:444.
صاحب البشكنس فوالى في إكرامه، وتناهى في برّه واحترامه، فطالت مدّته فلا متنزّه إلا مرّ عليه متفرّجاً، ولا منزل إلاّ سار عليه معرّجاً، فحلّ في ذلك، أكثر الكنائس هنالك، فبينا هو يجول في ساحتها، ويجيل العين في مساحتها، إذ عرضت له امرأة قديمة الأسر، قويمة على طول الكسر، فكلمته، وعرّفته بنفسها وأعلمته، وقالت له: أيرضى المنصور أن ينسى بتنعمه بوسها، ويتمتّع بلبوس العافية وقد نضت لبوسها، وزعمت أن لها عدة سنين بتلك الكنيسة محبسة، وبكل ذل وصغار ملبسة، وناشدته الله في إنهاء قصتها، وإبراء غصّتها، واستحلفته بأغلظ الأيمان، وأخذت عليه في ذلك أوكد مواثيق الرحمن، فلمّا وصل إلى المنصور عرّفه بما يجب تعريفه به وإعلامه، وهو مصغٍ إليه حتى تم كلامه، فلمّا فرغ قال له المنصور: هل وقفت هناك على أمر أنكرته، أم لم تقف على غير ما ذكرته؟ فأعلمه بقصّة المرأة وما خرجت عنه إليه، وبالمواثيق التي أخذت عليه، فعتبه ولامه، على أن لم يبدأ بها كلامه، ثم أخذ للجهاد من فوره، وعرض من من الأجناد في نجده وغوره، وأصبح غازياً على سرجه، مباهياً مروان يوم مرجه، حتى وافى ابن شانجة في جمعه، فأخذت مهابته ببصره وسمعه، فبادر بالكتاب إليه يتعرف ما الجليّة، ويحلف له بأعظم أليّة، أنّه ما جنى ذنباً، ولا جفا عن مضجع الطاعة جنباً، فعنف أرساله وقال لهم: كان قد عاقدني أن لا يبقى ببلاده مأسورةٌ ولا مأسور، ولو حملته في حواصلها النّسور، وقد بلغني بعد بقاء فلانة المسلمة في تلك الكنيسة، ووالله لا أنتهي عن أرضه حتى أكتسحها، فأرسل إليه المرأة في اثنتين معها، وأقسم أنّه ما أبصرهن ولا سمع بهنّ وأعلمه أن الكنيسة التي أشار بعلمها، قد بالغ في هدمها، تحقيقاً لقوله، وتضرع إليه في الأخذ في بطوله، فاستحيا منه، وصرف الجيش عنه، وأوصل المرأة إلى نفسه، وألحف توحّشها بأنسه، وغيّر من حالها، وعاد بسواكب نعماه على جدبها وإمحالها، وحملها إلى قومها، وكحلها بما كان شرد من نومها، انتهى.
وقال في المطمح أيضاً في حقه ما نصه (1) : فرد نابه على من تقدمه، وصرّفه واستخدمه، فإنّه كان أمضاهم سناناً، وأذكاهم جناناً، وأتمهم جلالاً، وأعظمهم استقلالاً، فآل أمره إلى ما آل، وأوهم العقول بذلك المآل، فإنّه كان آية الله في اتفاق سعده، وقربه من الملك بعد بعده، بهر برفعة القدر، واستظهر بالأناة وسعة الصّدر، وتحرك فلاح نجم الهدوّ، وتملّك فما خفق بأرضه لواء عدوّ، بعد خمول كابد منه غصصاً وشرقاً، وتعذر مأمول طارد فيه سهراً وأرقاً، حتى أنجز له الموعود، وفرّ نحسه أمام تلك السعود، فقام بتدبير الخلافة، وأقعد من كان له فيها إنافة، وساس الأمور أحسن سياسة، وداس الخطوب بأخشن دياسة، فانتظمت له الممالك، واتضحت به المسالك، وانتشر الأمن في كل طريق، واستشعر اليمن كلّ فريق، وملك الأندلس بضعاً وعشرين حجّة، لم تدحض لسعادتها حجّة، ولم تزخر لمكروه بها لجّة، لبست فيه البهاء والإشراق، وتنفست عن مثل أنفاس العراق، وكانت أيامه أحمد أيام، وسهام بأسه أسدّ سهام، غزا الروم شاتياً وصائفاً، ومضى فيما يروم زاجراً وعائفاً، فما مرّ له غير سنيح، ولا فاز إلا بالمعلّى لا بالمنيح، فأوغل في تلك الشعاب، وتغلغل حتى راع ليث الغاب، ومشى تحت ألويته صيد القبائل، واستجرّت في ظلّها بيض الظّبا وسمر الذوابل، وهو يقتضي الأرواح بغير سوم، وينتضي الصفاح على كل روم، ويتلف من لا ينساق للخلافة وينقاد، ويخطف منهم كلّ كوكب وقّاد، حتى استبد وانفرد، وأنس إليه من الطاعة ما نفر وشرد، وانتظمت له الأندلس بالعدوة، واجتمعت في ملكه اجتماع قريش بدار النّدوة، ومع هذا لم يخلع اسم الحجابة، ولم يدع السمع لخليفته والإجابة، ظاهرٌ يخالفه الباطن، واسم تنافره مواقع الحكم والمواطن، وأذل قبائل الأندلس بإجازة البرابر، وأخمل بهم أولئك الأعلام
(1) ابن عذاري2: 407 (273ط. ليدن) .
الأكابر، فإنّه قاومهم بأضدادهم، واستكثر من أعدادهم، حتى تغلبوا على الجمهور، وسلبوا عنهم الظهور، ووثبوا عليهم الوثوب المشهور، الذي أعاد أكثر الأندلس قفراً يباباً، وملأها وحشاً وذئاباً، وأعراها من الأمان، برهة من الزمان، وعلى هذه الهيئة فهو وابنه المظفّر كانا آخر سعد الأندلس، وحدّ السرور بها والتأنّس، وغزواته فيها شائعة الأثر، رائعة كالسيف ذي الأثر، وحسبه وافر، ونسبه معافر، ولذا قال يفتخر رميت بنفسي
…
الأبيات وزاد هنا بعد قوله " أبيض باتر " بيتاً، وهو:
وإنّي لزجّاء الجيوش إلى الوغى
…
أسودٌ تلاقيها أسودٌ خوادر وكانت أمّه تميمية، فحاز الشرف بطرفيه، والتحف بمطرفيه، ولذا قال القسطلي فيه (1) :
تلاقت عليه من تميم ويعرب
…
شموسٌ تلالا في العلا وبدور
من الحميريّين الذين أكفّهم
…
سحائب تهمي بالنّدى وبحور وتصرّف قبل ولايته في شتى الولايات، وجاء من التحدّث بمنتهى أمره بآيات، حتى صح زجره، وجاء بصبحه فجره، تؤثر عنه في ذلك أخبار، فيها عجب واعتبار، وكان أديباً محسناً، وعالماً متفنّناً، فمن ذلك قوله يمنّي نفسه بملك مصر والحجاز، ويستدعي صدور تلك الأعجاز (2) :
منع العين أن تذوق المناما
…
حبّها أن ترى الصّفا والمقاما
لي ديونٌ بالشرق عند أناسٍ
…
قد أحلّوا بالمشعرين الحراما
إن قضوها نالوا الأماني، وإلاّ
…
جعلوا دونها رقاباً وهاما
(1) القسطلي أبو عمر ابن دراج؛ انظر ديوانه: 301.
(2)
الحلة 1: 275، والبيان المغرب 2: 275 (ط. ليدن) .
عن قريب ترى خيول هشام
…
يبلغ النّيل خطوها والشآما انتهى ما نقلته من المطمح.
[؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أخبار في سيرة المنصور]
وفي المنصور المذكور أيضاً قال بعض مؤرخي المغرب (1) ، مازجاً كلامه ببعض كلام الفتح، بعد ذكر استعانته ببعض الناس على بعض، وذكر قتله لجعفر ابن عليّ، فقال بعده ما صورته: ثم انفرد بنفسه وصار ينادي صروف الدهر هل من مبارز، فلمّا لم يجده حمل الدهر على حكمه، فانقاد له وساعده، فاستقام أمره منفرداً بمملكة لا سلف له فيها، ومن أوضح الدلائل على سعده أنّه لم ينكب قطّ في حرب شهدها، وما توجهت عليه هزيمة، وما انصرف عن موطن إلاّ قاهراً غالباً، على كثرة ما زاول من الحروب ومارس من الأعداء وواجه من الأمم، وإنّها لخاصّة ما أحسب أحداً من الملوك الإسلامية شاركه فيها، ومن أظم ما أعين به مع قوّة سعده وتمكن جده سعة جوده، وكثرة بذله، فقد كان في ذلك أعجوبة الزمان، وأوّل ما اتّكأ على أرائك الملوك وارتفق، وانتشر عليه لواء السعد وخفق، حط صاحبه المصحفيّ، وأثار له كامن حقده الخفيّ، حتى أصاره للهموم لبيساً، وفي غيابات السجن حبيساً، فكتب إليه يستعطفه بقوله (2) :
هبني أسأت فأين العفو والكرم
…
إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم
يا خير من مدّت الأيدي إليه أما
…
ترثي لشيخ رماه عندك القلم
(1) البيان المغرب 2: 427 وبعضه في أعمال الأعلام: 77.
(2)
قال ابن الأبار (الحلة 1: 265) هذه الأبيات متنازعة ينسبها غلى المصحفي جماعة، وقد وجدتها منسوبة إلى أبي عمر ابن دراج القسطلي، وذكر أبو إسحاق إبراهيم بن القاسم الرقيق في تاريخه أنها لكاتب إبراهيم بن أحمد بن الأغلب؛ قلت انظر البيان المغرب 1: 161 واسم الكاتب هذا محمد بن حيون ويعرف بان البريدي.
بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدرٍ
…
إن الملوك إذا ما استرحموا رحموا فما زاده ذلك إلا حنقاً وحقداً، وما أفادته الأبيات إلا تضرماً ووقداً، فراجعه بما أيأسه، وأراه مرمسه، وأطبق عليه محبسه، وضيّق تروّحه من المحنة وتنفّسه:
الآن يا جاهلاً زلّت بك القدم
…
تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم
أغريت بي ملكاً لولا تثبّته
…
ما جاز لي عنده نطقٌ ولا كلم
فايأس من العيش إذ ق صرت في طبقٍ
…
إن الملوك إذا ما استنقموا نقموا
نفسي إذا سخطت ليست براضيةٍ
…
ولو تشفّع فيك العرب والعجم وكان من أخباره الداخلة في أبواب البر والقربة بنيان المسجد الجامع، إلى أن قال (1) :
ومن ذلك بناؤه قنطرة على نهر قرطبة الأعظم، ابتدأ بناءها المنصور سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وفرغ منها في النصف من سنة تسع وسبعين، وانتهت النفقة عليها إلى مائة ألف دينار وأربعين ألف دينار، فعظمت بها المنفعة، وصارت صدراً في مناقبه الجليلة، وكانت هنالك قطعة أرض لشيخ من العامة، ولم يكن للقنطرة عدولٌ عنها، فأمر المنصور أمناءه بإرضائه فيها، فحضر الشيخ عندهم، فساوموه بالقطعة، وعرّفوه وجه الحاجة إليها وأن المنصور لا يريد إلا إنصافه فيها، فرماهم الشيخ بالغرض الأقصى عنده فيما ظنّه أنّها لا تخرج (2) عنه بأقل من عشرة دنانير ذهباً كانت عنده أقصى الأمنية، وشرطها صحاحاً، فاغتنم الأمناء غفلته، ونقدوه الثمن، وأشهدوا عليه، ثم أخبروا المنصور بخبره، فضحك من جهالته، وأنف من غبنه، وأمر أن يعطى عشرة أمثال ما سأل،
(1) البيان المغرب 2: 430، والنقل مستمر حتى بدء النقل عن كتاب " الأزهار المنثورة ".
(2)
البيان: ألا تخرج.
وتدفع له صحاحاً كما قال، فقبض الشيخ مائة دينار ذهباً، فكاد أن يخرج من عقله، وأن يجنً عند قبضها من الفرح، وجاء محتفلاً في شكر المنصور، وصارت قصّته خبراً سائراً.
ومن ذلك أيضاً بناء قنطرة على نهر إستجّة، وهو نهر شنّيل، وتجشم لها أعظم مؤنة، وسهل الطريق الوعرة والشعاب الصعبة.
ومن ذلك أيضاً أنّه خط بيده مصحفاً كان يحمله معه في أسفاره يدرس فيه، ويتبرك به.
ومن قوّة رجائه أنّه اعتنى بجمع ما علق بوجهه من الغبار في غزواته ومواطن جهاده، فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل في كل منزل من منازله، حتى اجتمع له منه صرّة ضخمة، عهد بتصييره في حنوطه، وكان يحملها حيث سار مع أكفانه، توقّعاً لحلول منيّته، وقد كان اتخذ الأكفان من أطيب مكسبه من الضيعة الموروثة عن أبيه وغزل بناته، وكان يسأل الله تعالى أن يتوفّاه في طريق الجهاد، فكان كذلك.
وكان متّسماً بصحة باطنه، واعترافه بذنبه، وخوفه من ربّه، وكثرة جهاده، وإذا ذكّر بالله ذكر، وإذا خوّف من عقاره ازدجر، ولم يزل متنزهاً عن كل ما يفتتن به الملوك سوى الخمر، لكنّه أقلع عنها قبل موته بسنتين (1) ، وكان عد له في الخاصة والعامة وبسط الحق على الأقرب فالأقرب من خاصّته وحاشيته أمراً مضروباً به المثل.
ومن عدله أنّه وقف عله رجل من العامة بمجلسه، فنادى: يا ناصر الحق، إن لي مظلمة عند ذلك الوصيف الذي على رأسك، وأشار إلى الفتى صاحب الدرقة، وكان له فضل محلّ عنده، ثمّ قال: وقد دعوته إلى الحكم فلم يأت، فقال له المنصور: أو عبد الرحمن بن فطيس بهذا العجز والمهانة، وكنّا
(1) ق ط ج: بسنين.
نظنّه أمضى من ذلك؟ اذكر مظلمتك يا هذا، فذكر الرجل معاملة كانت جارية بينهما فقطعها من غير نصفٍ، فقال المنصور: ما أعظم بليّتنا بهذه الحاشية؛ ثم نظر إلى الصّقلبي وقد ذهل عقله، فقال له: ادفع الدرقة إلى فلان، وانزل صاغراً وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، ففعل، ومثل بين يديه، ثم قال لصاحب شرطته الخاص به: خذ بيد هذا الفاسق الظالم وقدّمه مع خصمه إلى صاحب المظالم لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجنٍ أو غيره، ففعل ذلك، وعاد الرجل إليه شاكراً، فقال له المنصور: قد انتصفت أنت، اذهب لسبيلك، وبقي انتصافي أنا ممّن تهاون بمنزلتي، فتناول الصّقلبي بأنواع من المذّلة، وأبعده عن الخدمة.
ومن ذلك (1) قصّة فتاه الكبير المعروف بالبورقي (2) مع التاجر المغربي، فإنهما تنازعا في خصومة توجّهت فيها اليمين على الفتى المذكور، وهو يومئذ أكبر خدم المنصور، وإليه أمر داره وحرمه، فدافع الحاكم، وظن أن جاهه يمنع من إحلافه، فصرخ التاجر بالمنصور في طريقه إلى الجامع متظلماً من الفتى، فوكل به في الوقت من حمله إلى الحاكم، فأنصفه منه، وسخط عليه المنصور، وقبض نعمته منه ونفاه.
ومن ذلك (3) قصة محمد فصّاد المنصور وخادمه وأمينه على نفسه، فإن المنصور احتاجه يوماً إلى الفصد، وكان كثير التعهد له، فأنفذ رسوله إلى محمّد، فألفاه الرسول محبوساً في سجن القاضي محمد بن زرب (4) لحيف ظهر منه على امرأته قد أن سبيله من الخدمة يحميه من العقوبة، فلمّا عاد الرسول إلى المنصور بقصّته أمر بإخراجه من السجن مع رقيب من رقباء السجن يلزمه إلى أن يفرغ
(1) البيان المغرب 2: 433.
(2)
البيان: بالميورقي.
(3)
المصدر نفسه، وصدرها بقوله: ومن دهائه.
(4)
محمد بن يبقى بن زرب (المرقبة العليا: 77 - 82) .
من عمله عنده، ثم يرده إلى محبسه، ففعل ذلك على ما رسمه، وذهب الفاصد إلى شكوى ما ناله، فقطع عليه المنصور، وقال له: يا محمّد، إنّه القاضي، وهو في عدله، ولو أخذني الحق ما أطقت الامتناع منه، عد إلى محبسك أو اعترف بالحق فهو الذي يطلقك، فانكسر الحاجم، وزالت عنه ريح العناية، وبلغت قصته للقاضي، فصالحه مع زوجته، وزاد القاضي شدةً في أحكامه.
وقال ابن حيّان (1) : إنّه كان جالساً في بعض الليالي، وكانت ليلة شديدة البرد والريح والمطر، فدعا بأحد الفرسان وقال له: انهض الآن إلى فج طليارش وأقم فيه فأول خاطر يخطر عليك سقه إليّ، قال: فنهض الفارس وبقي في الفج في البرد والريح والمطر واقفاً على فرسه، إذ وقف عليه قرب الفجر شيخ هرم على حمار له، ومعه آلة الحطب، فقال له الفارس: إلى أين تريد يا شيخ؟ فقال: وراء حطب، فقال الفارس في نفسه: هذا شيخ مسكين نهض إلى الجبل يسوق حطباً، فما عسى أن يريد المنصور منه؟ قال: فتركته، فسار عني قليلاً، ثم فكرت في قول المنصور، وخفت سطوته، فنهضت إلى الشيخ وقلت له: ارجع إلى مولانا المنصور، فقال له: وما عسى أن يريد المنصور من شيخ مثلي؟ سألتك بالله أن تتركني لطلب معيشتي، فقال له الفارس: لا أفعل، ثمّ قدم به على المنصور، ومثله بين يديه وهو جالس لم ينم ليلته تلك، فقال المنصور للصقالبة: فتّشوه، ففتّشوه فلم يجدوا معه شيئاً، فقال: فتّشوا برذعة حماره، فوجدوا داخلها كتاباً من نصارى كانوا قد نزعوا إلى المنصور يخدمون عنده إلى أصحابهم من النصارى ليقبلوا ويضربوا في إحدى النّواحي الموطومة (2) ، فلمّا انبلج الصبح أمر بإخراج أولئك النصارى إلى باب الزاهرة، فضربت أعناقهم، وضربت رقبة الشيخ معهم.
(1) المصدر نفسه: 434.
(2)
في ج: المرطومة؛ والموطومة (قراءة ق ط ك) لعلها الأرض التي كثر فيها الوطم وهو نبات يشبه الاذخر، وذلك تأويل بعيد، واقدر أن تكون مصحفة عن " الموصوفة " اي التي وصفت في الكتاب.
ثم ذكر هذا المؤرخ (1) قصة الجوهري التي قدمنا نقلها من مغرب ابن سعيد، ولكنّا رأينا إعادتها بلفظ هذا المؤرخ، لأنّه أتمّ مساقاً إذ قال عطفاً على دهائه: ومن ذلك قصة الجوهري التاجر، وذلك أن رجلاً جوهريّاً من تجّار المشرق قصد المنصور من مدينة عدن بجوهر كثير وأحجار نفيسة، فأخذ المنصور من ذلك ما استحسنه، ودفع إلى التاجر الجوهريّ صرّته، وكانت قطعة يمانيّة، فأخذ التاجر في انصرافه طريق الرملة على شطّ النهر، فلمّا توسّطها واليوم قائظ وعرقه منصبٌّ دعته نفسه إلى التبرّد في النهر، فوضع ثيابه وتلك الصّرّة على الشط، فمرّت حدأة فاختطفت الصّرّة (2) تحسبها لحماً، وصاعدت في الأفق بها ذاهبة، فقطعت الأفق الذي تنظر إليه عين التاجر، فقامت قيامته، وعلم أنّه لا يقدر أن يستدفع ذلك بحيلة، فأسرّ الحزن في نفسه، ولحقه لأجل ذلك علّة اضطرب فيها، وحضر الدفع إلى التجّار فحضر الرجل لذلك بنفسه، فاستبان للمنصور ما بالرجل (3) من المهانة والكآبة، وفقد ما كان عنده من النشاط وشدة العارضة، فسأله المنصور عن شأنه، فأعلمه بقصّته، فقال له: هلاّ أتيت إلينا بحدثان وقوع الأمر فكنّا نستظهر على الحيلة، فهل هديت إلى الناحية التي أخذ الطائر إليها؟ قال: مرّ مشرقاً على سمت هذا الجبل الذي يلي قصرك، يعني الرملة، فدعا المنصور شرطيّه الخاص به، فقال له: جئني بمشيخة أهل الرملة الساعة، فمضى وجاء بهم سريعاً، فأمرهم بالبحث عمّن غيّر حال الإقلال منهم سريعاً، وانتقل عن الإضاقة دون تدريج، فتناظروا في ذلك ثمّ قالوا: يا مولانا ما نعلم إلا رجلاً من ضعفائنا كان يعمل هو وأولاده بأيديهم ويتناولون السّبق بأقدمهم عجزاً عن شراء دابة، فابتاع اليوم دابة، واكتسى هو وولده كسوة متوسّطة، فأمر بإحضاره من الغد، وأمر التاجر
(1) البيان المغرب 2: 435؛ وانظر ص: 401 فيما سبق.
(2)
بعض النسخ: وترك الصرة.
(3)
بعض النسخ: ما نال الرجل.
بالغدوّ إلى الباب، فحضر الرجل بعينه بين يدي المنصور، فاستدناه والتاجر حاضر، وقال له: سبب ضاع منّا وسقط إليك، ما فعلت به؟ قال: هوذا يا مولاي، وضرب بيده إلى حجرة سراويله فأخرج الصّرة بعينها، فصاح التاجر طرباً، وكاد يطير فرحاً، فقال له المنصور: صف لي حديثها، فقال بينا أنا أعمل في جناني تحت نخلة إذ سقطت أمامي، فأخذتها وراقني منظرها، فقلت: إن الطائر اختلسها من قصرك لقرب الجوار، فاحترزت بها، ودعتني فاقتي إلى أخذ عشرة مثاقيل عيوناً كانت معها مصرورة، وقلت: أقلّ ما يكون في كرم مولاي أن يسمح لي بها، فأعجب المنصور ما كان منه، وقال للتاجر: خذ صرّتك وانظرها واصدقني عن عددها، ففعل وقال: وحقّ رأسك يا مولاي ما ضاع منها شيء سوى الدنانير التي ذكرها وقد وهبتها له، فقال المنصور: نحن أولى بذلك منك ولا ننغص (1) عليك فرحك، ولولا جمعه بين الإصرار والإقرار لكان ثوابه موفوراً عليه، ثم أمر للتاجر بعشرة دنانير عوضاً من دنانيره، ولجنّان بعشرة دنانير ثواباً لتأنيه عن فساد ما وقع بيده، وقال: لو بدأنا بالاعتراف قبل البحث لأوسعناه جزاء، قال: فأخذ التاجر في الثناء على المنصور، وقد عاوده نشاطه وقال: والله لأبثنّ في الأقطار عظيم ملكك، ولأنبئنّ (2) أنّك تملك طير أعمالك كما تملك إنسها، فلا تعتصم منك ولا تمتنع، ولا تؤذي جارك، فضحك المنصور وقال: اقصد في قولك يغفر الله لك، فعجب الناس من تلطّف المنصور في أمره وحيلته في تفريج كربته.
ثم حكى هذا المؤرخ (3) غزوة المنصور لمدينة شنت ياقب قاصية غليسية، وأعظم مشاهد النصارى الكائنة ببلاد الأندلس، وما يتصل بها من الأرض الكبيرة، وكانت
(1) ق ط: تنقص.
(2)
ق ط: ولأبينن.
(3)
البيان المغرب 2: 439 وهذه بداية ج، فأما في ق ك فقد بدأ بقوله " ومن ذلك " وذلك خطأ لأن القصة ليست من قصص الدهاء التي مرت أمثلتها. وفي ط بياض.
كنيستها عندهم بمنزلة الكعبة عندنا، وللكعبة المثل الأعلى، فبها يحلفون، وإليها يحجّون من أقصى بلاد رومة وما وراءها، ويزعمون أن القبر المزور فيها قبر ياقب الحواري أحد الاثني عشر، وكان أخصّهم بعيسى، على نبينا وعليه الصلاة والسلام، وهم يسمّونه أخاه للزومه إيّاه، وياقب بلسانهم يعقوب، وكان أسقفاً ببيت المقدس فجعل يستقري الأرضين داعياً لمن فيها حتى انتهى إلى هذه القاصية، ثم عاد إلى أرض الشام فمات بها وله مائة وعشرون سنة شمسية، فاحتمل أصحابه رمّته فدفنوها بهذه الكنيسة التي كانت أقصى أثره، ولم يطمع أحد من ملوك الإسلام في قصدها ولا الوصول إليها، لصعوبة مدخلها، وخشونة مكانها، وبعد شقّتها، فخرج المنصور إليها من قرطبة غازياً بالصائفة يوم السبت لست بقين من جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وثلاثمائة، وهي غزوته الثامنة والأربعون، ودخل على مدينة قورية، فلمّا وصل إلى مدينة غليسية وافاه عددٌ عظيم من القوامس المتمسكين بالطاعة في رجالهم، وعلى أتم احتفالهم، فصاروا في عسكر المسلمين، وركبوا في المغاورة سبيلهم، وكان المنصور تقدّم في إنشاء أسطول كبير في الموضع المعروف بقصر أبي دانس (1) من ساحل غرب الأندلس، وجهزه برجاله البحريين وصنوف المترجلين، وحمل الأقوات والأطعمة والعدد والأسلحة استظهاراً على نفوذ العزيمة إلى أن خرج بموضع برتقال على نهر دويره (2) ، فدخل في النهر إلى المكان الذي عمل المنصور على العبور منه، فعقد هنالك من هذا الأسطول جسراً بقرب الحصن الذي هنالك، ووجّه (3) المنصور ما كان فيه من الميرة إلى الجند، فتوسّعوا في التزود منه إلى أرض العدو، ثم نهض منه يريد شنت ياقب، فقطع أرضين متباعدة الأقطار،
(1) قصر أبي دانس (Alcacer do Sal) مرسى الأسطول، على ساحل البرتغال جنوبي الأشبونة (لشبونة) .
(2)
نهر دويره (Duero Duoro) يصب عند بورتو في المحيط الأطلسي.
(3)
دوزي: ووزع؛ لمطابقة المعنى نقلا عن البيان المغرب.
وقطع بالعبور عدة أنهار كبار وخلجان يمدها البحر الأخضر، ثم أفضى العسكر بعد ذلك إلى بسائط جليلة من بلاد فرطارش (1) وما يتصل بها، ثم أفضى إلى جبل شامخ شديد الوعر لا مسلك فيه ولا طريق، لم يهتد الأدلاّء إلى سواه، فقدّم المنصور الفعة بالحديد لتوسعة شعابه وتسهيل مسالكه، فقطعه العسكر، وعبروا بعده وادي منيه (2) ، وانبسط المسلمون بعد ذلك في بسائط عريضة وأرضين أريضة، وانتهت مغيرتهم إلى دير قسطان (3) وبسط بلنبو (4) على البحر المحيط، وفتحوا حصن شنت بلاية (5) ، وغنموه، وعبروا سباحةً إلى جزيرة من البحر المحيط لجأ إليها خلق عظيم من أهل تلك النواحي، فسبوا من فيها ممّن لجأ إليها، وانتهى العسكر إلى جبل مراسية (6) المتصل من أكثر جهاته بالبحر المحيط، فتخلّلوا أقطاره، واستخرجوا من كان فيه، وحازوا غنائمه، ثمّ أجاز المسلمون بعد هذا خليجاً في معبرين ارشد الأدلاّء إليهما، ثمّ نهر أيلة (7) ، ثم أفضوا إلى بسائط واسعة العمارة كثيرة الفائدة (8) ، ثمّ انتهوا إلى موضع من مشاهد صاحب القبر تلو مشهد قبره عند النصارى في الفضل، يقصده نسّاكهم له من أقاصي بلادهم ومن بلاد القبط والنوبة وغيرهما، فغادره الملمون قالعاً، وكان النزول بعده على مدينة شنت ياقب البائسة، وذلك يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شعبان، فوجدها المسلمون خالية من أهلها، فحاز المسلمون غنائمها، وهدموا مصانعها وأسوارها وكنيستها، وغفّوا آثارها، ووكل المنصور بقبر ياقب من يحفظه ويدفع الأذى عنه، وكانت مصانعها بديعة محكمة فغودرت هشيماً
(1) البيان المغرب: فلطارش.
(2)
منيه منيو أو منهو (Minho Rio Mino) .
(3)
بعض النسخ: قسان.
(4)
البيان المغرب: يلنبوط، وفي نسخة: بيلنوا.
(5)
شنت بلاة: (San Pelayo) .
(6)
مراسية (Morrazo) .
(7)
أيلة (Ulla) .
(8)
زاد في البيان: منها بسيط أونية وقرجيطة ودير شنت برية.
كأن لم تغن بالأمس، وانتسفت بعوثه بعد ذلك سائر البسائط، وانتهت الجيوش إلى جزيرة شنت مانكش منقطع هذا الصقع على البحر المحيط، وهي غاية لم يبلغها قبلهم مسلم، ولا وطئها لغير أهلها قدم، فلم يكن بعدها للخيل مجال، ولا وراءها انتقال، وانكفأ المنصور عن باب شنت ياقب وقد بلغ غاية لم يبلغها مسلم قبله، فجعل في طريقه القصد على عمل برمند بن أردون ليستقريه عائثاً ومفسداً، حتى وقع فيعمل القوامس المعاهدين الذين في عسكره، فأمر بالكف عنها، ومرّ مجتازاً حتى خرج إلى حصن بليقية (1) من افتتاحه، فأجاز هنالك القوامس بجملتهم على أقدارهم، وكساهم وكسا رجالهم وصرفهم إلى بلادهم، وكتب بالفتح من بليقية، وكان مبلغ ما كساه في غزاته هذه لملوك الروم ولم حسن غناؤه من المسلمين ألفين ومائتين وخمساً وثماني شقّة من صنوف الخز الطّرازي، وأحداً وعشرين كساء من صوف البحر، وكساءين
عنبريين، وأحد عشر سقلاطوناً، وخمس عشرة مريشاً، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي دبياج رومي، وفروي فنك، ووافى جميع العسكر قرطبة غانماً، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين، ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلاّ شيخاً من الرهبان جالساً على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب، فأمر بالكف عنه. ين، وأحد عشر سقلاطوناً، وخمس عشرة مريشاً، وسبعة أنماط ديباج، وثوبي دبياج رومي، وفروي فنك، ووافى جميع العسكر قرطبة غانماً، وعظمت النعمة والمنّة على المسلمين، ولم يجد المنصور بشنت ياقب إلاّ شيخاً من الرهبان جالساً على القبر، فسأله عن مقامه، فقال: أونس يعقوب، فأمر بالكف عنه.
قال (2) : وحدّث شعلة قال: قلت للمنصور ليلة طال سهره فيها: قد أفرط مولانا في السهر، وبدنه يحتاج إلى أكثر من هذا النوم، وهو أعلم بما يحرّكه عدم النوم من علّة العصب، فقال: يا شعلة، الملك لا ينام إذا نامت الرعيّة، لو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة؛ انتهى ما نقلته من الكتاب المذكور.
(1) ابن عذاري: مليقه، ولعلها لميقه لاميجو (Lamego) .
(2)
ليس هذا الخبر في البيان المغرب وإنما هو في أعمال الأعلام: 76.
[؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أخبار المنصور من كتاب الأزهار المنثورة]
وقد رأيت أن أذكر هنا أخباراً، نقلتها من كتاب " الأزهار المنثورة، في الأخبار المأثورة "(1) .
قال في الزهرة التاسعة والعشرين: تقدم إلى المنصور وانزمار بن أبي بكر الرزالي أحد جند المغاربة، وقد جلس للعرض والتمييز، والميدان غاصٌّ بالناس، فقال له بكلام بضحك الثكلى: يا مولاي، ما لي ولك، أسكنّي فإنّي في الفحص، فقال: وما ذاك يا وانزمار؟ وأين دارك الواسعة الأقطار؟ فقال: أخرجتني عنها والله نعمتك، أعطيتني من الضياع ما انصبّ عليّ منها من الأطعمة ما ملأ بيوتي وأخرجني عنها، وأنا بربري مجّوع حديث عهد بالبؤس، أتراني أبعد القمح عني؟ ليس ذلك من رأيي. فتطلّق المنصور وقال: لله درك من فذّ عييّ، لعيّك في شكر النعمة أبغ عندنا، وآخذ بقلوبنا من كلام كل أشدق متزيد وبليغ متفنن؛ وأقبل المنصور على من حوله من أهل الأندلس فقال: يا أصحابنا، هكذا فلتشكر الأيادي وتستدام النعم (2) ، لا ما أنتم عليه من الجحد اللازم، والتشكي المبرّح؛ وأمر له بأفضل المنازل الخالية.
وفي الموفية ثلاثين ما نصّه: أصبح المنصور صبيحة أحدٍ، وكان يوم راحة الخدمة الذي أعفوا فيه من قصد الخدمة، وفي مطر وابل غبّ أيام مثله، فقال: هذا يوم لا عهد بمثله، ولا حيلة للمواظبين لقصدنا في مكابدته، فليت شعري هل شذ أحد منهم عن التقدير فأغرب في البكور؟ اخرج وتأمل، يقوله لحاجبه، فخرج وعاد إليه ضاحكاً، وقال: يا مولاي، على الباب ثلاثة من البرابرة: أبو الناس ابن صالح واثنان معه، وهم بحل من البلل إنّما توصف بالمشاهدة، فقال: أوصلهم إلي وعجل، فدخلوا عليه في حال الملاّح بللاً
(1) لم أهتد إلى مؤلفه، وأرجح أنه ابن سعيد، وأنه " كتاب الزهات " الذي ينقل عنه ابن هذيل في كتابه " عين الأدب والسياسة " وينسبه لابن سعيد.
(2)
ق ج ط ودوزي: واستديموا النعم.
ونداوة، فضحك إليهم وأدنى مجلسهم، وقال: خبروني كيف جئتم؟ وعلى أيّ حال وصلتم؟ وقد استكان كل ذي روح في كنّه، ولاذ كلّ طائرٍ بوكره، فقال له أبو الناس بكلامه: يا مولانا، ليس كل التّجار قعد عن سوقه، وإذا عذر التجار على طلب الربح بالفلوس فنحن أعذر بإدراكها بالدر ومن غير رؤوس الأموال، وهم يتناوبون الأسواق على أقدامهم ويذيلون في قصدها ثيابهم، ونحن نأتيك على خيلك، ونذيل على صهواتها ملابسك، ونجعل الفضل في قصدك مضموناً إذا جعله أولئك طمعاً ورجاء، فترى لنا أن نجلس عن سوقنا هذا؟ فضحك المنصور ودعا بالكسا والصّلات، فدفعت لهم، وانصرفوا مسرورين بغدوتهم.
وفي الزهرة الرابعة والأربعين ما نصّه: كان بقرطبة على عهد الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر فتى من أهل الأدب قد رقّت حاله في الطلب، فتعلّق بكتاب العمل، واختلف إلى الخزانة مدة، حتى قلّد بعض الأعمال، فاستهلك كثيراً من المال، فلمّا ضمّ إلى الحساب أبرز عليه ثلاثة آلاف دينار، فرفع خبره إلى المنصور، فأمر بإحضاره، فلمّا مثل بين يديه ولزمالإقرار بما برز عليه قال له: يا فاسق، ما الذي جرّأك على مال السلطان تنتهبه؟ فقال: قضاء غلب الرأي، وفقر أفسد الأمانة، فقال المنصور: والله لأجعلنّك نكالاً لغيرك، وليحضر كبل وحدّاد، فأحضرا، فكبل الفتى وقال: احملوه إلى السجن، وأمر الضابط بامتحانه والشدّة عليه، فلمّا قام أنشأ يقول:
أوّاه أوّاه وكم ذا أرى
…
أكثر من تذكار (1) أوّاه
ما لامرئ حولٌ ولا قوّةٌ
…
الحول والقوّة لله فقال المنصور: ردوه، فلمّا ردّ قال: أتمثلت أم قلت؟ قال: بل قلت، فقال: حلّوا عنه كبله، فلمّا حلّ عنه أنشأ يقول:
(1) ك: تكرار.
أما ترى عفو أبي عامرٍ
…
لا بدّ أن تتبعه منّه
كذلك الله إذا ما عفا
…
عن عبده أدخله الجنّة فأمر بإطلاقه، وسوّغه ذلك المال، وأبرأه من التبعة فيه.
وفي الخامسة والأربعين: عرض على المنصور بن أبي عامر اسم أحد خدمه في جملة من طال سجنه، وكان شديد الحقد عليه، فوقّع على اسمه بأن لا سبيل إلى إطلاقه حتى يلحق بأمّه الهاوية، وعرّف الرجل بتوقيعه، فاغتم (1) وأجهد نفسه في الدعاء والمناجاة، فأرق المنصور إثر ذلك، واستدعى النوم فلم يقدر عليه، وكان يأتيه عند تنويمه آتٍ كريه الشخص عنيف الأخذ يأمره بإطلاق الرجل، ويتوعّده على حبسه، فاستدفع شأنه مراراً إلى أن علم أنّه نذير من ربّه، فانقاد لأمره، ودعا بالدواة في مرقده فكتب بإطلاقه، وقال في كتابه: هذا طليق الله على رغم أنف ابن أبي عامر، وتحدث الناس زماناً بما كان منه.
وفي الثامنة والأربعين (2) ما نصّه: انتهت هيبة المنصور بن أبي عامر وضبطه للجند واستخدام ذكور الرجال وقوّام الملك إلى غاية لم يصلها ملك قبله، فكانت مواقفهم في الميدان على احتفاله مثلاً في الإطراق، حتى إن الخيل لتتمثّل إطراق فرسانها فلا تكثر الصهيل والحمحمة، ولقد وقعت عينه على بارقة سيف قد سلّه بعض الجند بأقصى الميدان لهزل أو جدّ بحيث ظن أن لحظ المنصور لا يناله، فقال: عليّ بشاهر السيف، فمثل بين يديه لوقته، فقال: ما حملك على أن شهرت سيفك في مكان لا يشهر فيه إلاّ عن إذن؟ فقال: إنّي أشرت به إلى صاحبي مغمداً فزلق من غمده، فقال: إن مثل هذا لا يسوغ بالدعوى، وأمر به فضربت عنقه بسيفه، وطيف برأسه، ونودي عليه بذنبه؛ انتهى.
(1) ك: فاهتم واغتم.
(2)
ك: وفي السادسة والأربعين.
وحكى غير واحد (1) أن المنصور كان به داء في رجله، واحتاج إلى الكيّ فأمر الذي يكويه بذلك وهو قاعد في موضع مشرف على أهل مملكته، فجعل يأمر وينهى ويفرى الفريّ في أموره، ورجله تكوى والناس لا يشعرون، حتى شمّوا رائحة الجلد واللحم، فتجّبوا من ذلك وهو غير مكترث.
وأخباره - رحمه الله تعالى - تحتمل مجلدات، فلنمسك العنان، على أنّا ذكرنا في الباب الرابع والسادس من هذا الكتاب جملة من أخباره، رحمه الله تعالى، فلتراجع إلى آخره.
[؟؟ عود إلى النقل عن المطمح]
وقال الفتح في المطمح (2) : وكان ممّا أعين به المنصور على المصحفيّ ميل الوزراء إليه، وإيثارهم له عليه، وسعيهم في ترقيه، وأخذهم بالعصبية فيه، فإنّها وإن لم تكن حميّة أعرابية، فقد كانت سلفية سلطانية، يقتفي القوم فيها سبيل سلفهم، ويمنعون بها ابتذال شرفهم، غادروها سيرة، وخلّفوها عادة أثيرة، تشاحّ الخلف فيها تشاحّ أهل الديانة، وصانوا بها مراتبهم أعظم صيانة، ورأوا أن أحداً لا يلحق فيها غاية، ولا يتعاقد لها راية (3) ، فلمّا اصطفى الحكم المستنصر بالله جعفر بن عثمان واصطنعه، ووضعه من أثرته حيث وضعه، وهو نزيع بينهم ونابغ (4) فيهم، حسدوه وذمّوه، وخصّوه بالمطالبة وعمّوه، وكان أسرع صنف الطائفة من أعالي الوزراء وأعاظم الدولة إلى مهاودة المنصور
(1) ك: وفي السابعة والأربعين؛ ق: وفيه؛ وفي ط بياض.
(2)
بياض في ط؛ وفي ك: وفي الثامنة والأربعين؛ وفي ج ق: قال في المطمح؛ والنص في المطمح: 7 وفي البيان المغرب 2: 405 (2: 271 ط. ليدن) .
(3)
ان عذاري: لا يدرك
…
ولا يلحق. ق: ولا يناقد؛ ط: ولا يتاقد.
(4)
دوزي: وتابع؛ ج: ونابع.
عليه، والانحراف عنه إليه، آل أبي عبدة وآل شهيد وآل فطيس من الخلفاء وأصحاب الرّدافة (1) ، من أولي الشرف والإنافة (2) ، وكانوا في الوقت أزمّة الملك وقوّام الخدمة، ومصابيح الأمّة، وأغير الخلق على جاه وحرمة، فأحظوا محمد بن أبي عامر مشايعة، ولبعض أسبابه الجامعة متابعة، وشادوا بناءه، وقادوا إلى عنصره سناءه، حتى بلغ الأمل، والتحف بمناه واكتحل (3) ، وعند التئام هذه الأمور لاين أبي عامر استكان جعفر بن عثمان للحادثة، وأيقن بالنكبة، وزوال الحال وانتقال الرتبة، وكفّ عن اعتراض محمد وشركته في التدبير، وانقبض الناس من الرواح إليه والتبكير، وانثالوا على ابن أبي عامر، فخف موكبه، وغار من سماء العز كوكبه، وتوالى عليه سعي ابن أبي عامر وطلبه، إلى أن صار يغدو إلى قرطبة ويروح وليس بيده من الحجابة إلا اسمها، وابن أبي عامر مشتمل على رسمها، حتى محاه، وهتك ظلّه (4) وأضحاه، قال [محمّد] (5) بن إسماعيل: رأيته يساق إلى مجلس الوزارة للمحاسبة راجلاً فأقبل يدرم، وجوارحه باللواعج تضطرم، وواثقٌ الضّاغط ينهره، والزّمع يقهره، والبهر والسّنّ قد هاضاه (6) ، وقصّرا خطاه، فسمعته يقول: رفقاً بي فستدرك ما تحبّه وتشتهيه، وترى ما كنت ترتجيه، ويا ليت أن الموت يباع فأغلي (7) سومه، حتى يرده من أطال عليه حومه، ثم قال (8) :
لا تأمننّ من الزمان تقلّباً
…
إنّ الزمان بأهله يتقلّب
(1) ق ط ج: الردانة.
(2)
ق ط ج: والأمانة.
(3)
المطمح: والتحف يمينه بمناه واشتمل.
(4)
المطمح: ظلاله.
(5)
زيادة من المطمح.
(6)
المطمح: والزمع والبهر قد هاضاه.
(7)
دوزي: فأغلى الله.
(8)
انظر أيضاً الحلة 1: 267.
ولقد أراني والليوث تخافني
…
فأخافني من بعد ذاك الثعلب
حسب الكريم مذلّةً ومهانةً
…
أن لا يزال إلى لئيمٍ يطلب فلمّا بلغ المجلس جلس في آخره دون أن يسلّم على أحد، أو يومئ إليه بعين أو يد، فلمّا أخذ مجلسه تسرّع إليه الوزير محمّد بن حفص بن جار فعنفه واستجفاه (1) ، وأنكر عليه ترك السلام وجفاه، وجعفر معرض عنه، إلى أن كثر القول منه، فقال له: يا هذا، جهلت المرّة فاستجهلت معلّمها (2) ، وكفرت النّعم (3) فقصدت بالأذى ولم ترهب مقدّمها، ولو أتيت نكرا، لكان غيرك أدرى، وقد وقعت في أمر ما أظنّك تخلص منه، ولا يسعك السكوت عنه، ونسيت الأيادي الجميلة، والمبرات الجليلة، فلمّا سمع محمّد بن حفص ذلك من قوله قال: هذا البهت بعينه، وأيّ أياديك الغرّ التي مننت بها، وعيّنت أداء واجبها؟ أيد كذا أم يد كذا؟ وعدّد أشياء أنكرها منه أيام إمارته، وتصرف الدهر طوع إشارته، فقال جعفر: هذا ما لا يعرف، والحق الذي لا يردّ ولا يصرف، دفعي (4) القطع عن يمناك، وتبليغي لك إلى منالك، فأصرّ محمّد بن حفص على الجحد، فقال جعفر: أنشد الله من له علم بما أذكره إلا اعترف به فلا ينكره، وأنا أحوج إلى السكوت، ولا تحجب دعوتي فيه عن الملكوت، فقال الوزير أحمد بن عباس (5) : قد كان بعض ما ذكرته يا أبا الحسن، وغير هذا أولى بك، وأنت فيما أنت فيه من محنتك وطلبك، فقال: أحرجني الرجل فتكلمت، وأحوجني إلى ما به أعلمت، فأقبل الوزير ابن جهور على محمد بن حفص وقال: أسأت إلى الحاجب، وأوجبت عليه غير
(1) ق ط ج: واستحفاه.
(2)
المطمح والبيان: عالمها.
(3)
المطح: وكفرت اليد.
(4)
ق ط ج: رفعي.
(5)
البيان المغرب: أحمد بن عياش.
الواجب، أوما علمت أن منكوب السلطان لا يسلّم على أوليائه لأنّه إن فعل ألزمهم الرد لقوله تعالى " وإذا حيّيتم بتحيّةٍ فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها " فإن فعلوا لطاف بهم من إنكار السلطان ما يخشى ويخاف، لأنّه تأنيس لمن أوحش وتأمين لمن أخاف، وإن تركوا الرد أسخطوا الله، فصار الإمساك أحسن، ومثل هذا لا يخفى على أبي الحسن، فانكسر ابن حفص، وخجل ممّا أتى به من النقص.
وبلغه أن قوماً توجّعوا له، وتفجّعوا ممّا وصله، فكتب إليهم:
أحنّ إلى أنفاسكم فأظنّها
…
بواعث أنفاس الحياة إلى نفسي
وإنّ زماناً صرت فيه مقيّداً (1)
…
لأثقل من رضوى وأضيق من رمس انتهى ما ترجم به المنصور بن أبي عامر.
[؟؟ عبد الملك المظفر الحاجب]
ولنرجع (2) فنقول: ولمّا توفّي المنصور قام بالأمر بعده ابنه عبد الملك المظفّر أبو مروان فجرى على سنن أبيه في السياسة والغزو، وكانت أيّامه أعياداً دامت مدّة سبع سنين وكانت تسمى بالسابع، تشبيهاً بسابع العروس، ولم يزل مثل اسمه مظفّراً إلى أن مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة في المحرّم، وقيل: سنة ثمان وتسعين.
وكاتبه المعز بن زيري ملك مغراوة بعد أن استرجع فاساً والمغرب إثر موت أبيه، فكتب له العهد على المغرب، وثارت الطوائف في ممالكهم، وتحركت الجلالقة لاسترجاع معاقلهم وحصونهم.
(1) نسخة: مفنداً.
(2)
انتهى
…
ولنرجع: سقط من بعض النسخ؛ وفي ق: انتهى كلام ابن أبي عامر فنقول وسقطت لفظة " كلام " من ط ج.
[عبد الرحمن شنجول]
قال ابن خلدون (1) : ثمّ قام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن، وتلقب بالناصر لدين الله، وقيل: بالمأمون، وجرى على سنن أبيه وأخيه في الحجر على الخليفة هشام، والاستبداد عيه والاستقلال بالملك دونه، ثمّ ثاب له رأي في الاستئثار بما بقي من رسوم الخلافة، فطلب من هشام المؤيد أن يوليه عهده، فأجابه، وأحضر لذلك املأ من أرباب الشورى وأهل الحل والعقد، فكان يوماً مشهوداً، فكتب عهده من إنشاء أبي حفص بن برد بما نصّه (2) : هذا ما عهد به هشامٌ المؤيد بالله أمير المؤمنين إلى الناس عامّة، وعاهد الله عليه من نفسه خاصّة، وأعطى به صفقة يمينه بيعةً تامّةً، بعد أن أمعن النظر وأطال الاستخارة، وأهمّه ما جعل الله إليه من الإمامة، وعصب به من أمر المؤمنين، واتقى حلول القدر بما لا يؤمن، وخاف نزول القضاء بما لا يصرف، وخشي إن هجم محتوم ذلك عليه ونزل مقدوره به ولم يرفع لهذه الأمّة علماً تأوي إليه، وملجأ تنعطف عليه، أن يكون يلقى ربّه تبارك وتعالى مفرّطاً ساهياً عن أداء الحق إليها، وتقصّى عند ذلك من إحياء قريش وغيرها من يستحق أن يسند هذا الأمر إليه، ويعوّل في القيام به عليه، ممّن يستوجبه بدينه وأمانته، وهديه وصيانته، بعد اطّراح الهوى، والحرّي للحق، والتزلف (3) إلى الله جل جلاله بما يرضيه، وبعد أن قطع الأواصر، وأسخط الأقارب، فلم يجد أحداً أجدر أن يوليه عهده، ويفوّض إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه وكرم خيمه
(1) تاريخ ابن خلدون 4: 148؛ وسقطت عبارة " قال ابن خلدون " من ط ج؛ وفي ج: ولما هلك المظفر قام
…
الخ.
(2)
انظر هذا العهد أيضاً في أعمال الأعلام: 91 والبيان المغرب 3: 44، وابن برد كاتب العهد هو أحمد بن برد أبو حفص الوزير المعروف ابن برد الأكبر تمييزاً له عن حفيده ابن برد الأصغر، وكان الجد رئيساً مقدماً في الدولة العامرية توفي سنة 418 (جذوة المقتبس: 111) .
(3)
ك: والزلفى.
وشرف مرتبته وعلوّ منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، أبي المطرّف (1) عبد الرحمن بن المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر، وفّقه الله؛ إذ كان أمير المؤمنين - أيّده الله تعالى - قد ابتلاه واختره، ونظر في شأنه واعتبره، فرآه مسارعاً في الخيرات، سابقاً في الحلبات، مستولياً على الغايات، جامعاً للمأثرات، ومن كان المنصور أباه، والمظفّر أخاه، فلا غرو أن يبلغ من سبل البر مداه، ويحوي من خلال الخير ما حواه؛ مع أن أمير المؤمنين؟ أيّده الله؟ بما طالع من مكنون العلم، ووعاه من مخزون الأثر، يرى أن يكون وليّ عهده القحطاني الذي حدّث عنه عبد الله بن عمرو بن العاص وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه ". فلما استوى له الاختيار وتقابلت عنده فيه الآثار، ولم يجد عنه مذهباً، ولا إلى غيره معدلاً، خرج إليه من تدبير الأمور في حياته، وفوّض إليه الخلافة بعد وفاته، طائعاً راضياً مجتهداً، وأمضى أمير المؤمنين هذا وأجازه، وأنجزه وأنفذه، ولم يشرط فيه مثنوية ولا خياراً، وأعطى على الوفاء به في سرّه وجهره وقوله وفعله عهد الله وميثاقه، وذمة نبيه محمّد صلى الله عليه وسلم، وذمم الخلفاء الراشدين من آبائه، وذمة نفسه، أن لا يبدّل ولا يغير ولا يحول ولا يزول (2) ، وأشهد الله على ذلك والملائكة، وكفى بالله شهيداً، وأشهد [من أوقع اسمه في هذا](3) وهو جائز الأمر ماضي القول والفعل بمحضر من ولي عهده المأمون أبي المطرّف عبد الرحمن بن المنصور وفّقه الله تعالى، وقبوله ما قلّده، وإلزامه نفسه ما ألزمه، وذلك في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وكتب الوزراء والقضاة وسائر الناس شهاداتهم بخطوط أيديهم، وتسمّى
(1) في الأصول: أبي المظفر.
(2)
أعمال الأعلام: ولا يتأول.
(3)
ساقطة من أصول النفح، مثبتة في أعمال الأعلام.
بعدها بولي العهد (1) .
ونقم عليه أهل الدولة ذلك (2) ، فكان فيه حتفه، وانقراض دولته ودولة قومه، وكان أسرع الناس كراهةً لذلك الأمويين والقرشيين، فغصّوا بأمره، وأسفوا من تحويل الأمر جملة من المضرية إلى اليمنية، فاجتمعوا لشأنهم، وتمشّت من بعض إلى بعض رجالاتهم، وأجمعوا أمرهم في غيبة من المذكور ببلاد الجلالقة في غزاة من صوائفه، ووثبوا بصاحب الشرطة فقتلوه بمقعده من باب قصر الخلافة بقرطبة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وخلعوا هشاماً المؤيد.؟
[بيعة المهديّ بالله]
وبايعوا محمد بن هشام بن عبد الجبار ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله من أعقاب الخلفاء، لقّبوه المهدي بالله، وطار الخبر إلى عبد الرحمن الحاجب ابن المنصور بمكانه من الثّغر، فانفضّ جمعه، وقفل إلى الحضرة مدلّ بمكانه، زعيماً بنفسه، حتى إذا قرب من الحضرة تسلّل عنه الناس من الجند ووجوه البربر، ولحقوا بقرطبة، بايعوا المهدي القائم بالأمر، وأغروه بعبد الرحمن الحاجب، لكونه ماجناً مستهتراً غير صالح للأمر، فاعترضه منهم من قبض عليه، واحتزّ رأسه، وحمله إلى المهدي وإلى الجماعة. وذهبت دولة العامريين كأن لم تكن، ولله عاقبة الأمور.
وفي المهدي يقول بعضهم:
قد قام مهديّنا ولكن
…
بملّة الفسق والمجون
(1) في أعمال الأعلام والبيان المغرب: وهذا الكتاب نسختان، أول الشهود فيه قاضي الجماعة أحمد ابن عبد الله بن ذكوان ويليه من الوزراء خاصة أسماء تسعة وعشرين رجلاً، يليه أسماء مائة وثمانين رجلاص من أصحاب الشرطة وسائر أهل الخدمة.
(2)
لا يزال النقل في هذه الفقرة والتي تليها مستمراً عن ابن خلدون.
وشارك الناس في حريمٍ
…
لولاه ما زال بالمصون
من كان من قبل ذا أجمّاً
…
فاليوم قد صار ذا قرون [؟ خبر الفتنة البربريّة](1)
وكان رؤساء البربر (2) وزناتة لحقوا بالمهديّ لما رأوا من سوء تدبير عبد الرحمن وانتقاض أمره، وكانت الأموية تعتدّ عليهم ما كان من مظاهرتهم العامريين، وتنسب تغلّب المنصور وبنيه (3) على الدولة إليهم، فسخطتهم القلوب، وخزرتهم العيون، ولولا ما لهم من العصبية لاستأصلهم الناس، ولغطت (4) ألسنة الدهماء من أهل المدينة بكراهتهم، وأمر المهدي أن لا يركبوا ولا يتسلّحوا، وردّ بعض رؤسائهم في بعض الأيّام من باب القصر، فانتهبت العامة دورهم، وشكا بعضهم إلى المهدي ما أصابهم، فاعتذر [إليهم](5) وقتل من اتّهم من العامة في أمرهم، وهو مع ذلك مظهر لبغضهم، مجهر بسوء الثناء عليهم، وبلغهم أنّه يريد الفتك بهم، فتمشّت رجالاتهم، وأرّوا نجواهم، اشتوروا في تقديم هشام بن سليمان ابن أمير المؤمنين الناصر، وفشا في الخاصّة حديثهم، فعوجلواعن مرامهم ذلك وأغرى بهم السواد الأعظم، فثاروا بهم، وأزعجوهم عن المدينة، وتقبض على هشام وأخيه أبي بكر، وأحضرا بين يدي المهدي، فضرب أعناقهما.
(1) تفصيل الخبر عن هذه الفتنة عند ابن عذاري 3: 50 - 119 وفي أعمال الأعلام: 104 - 128 والذخيرة 1/1: 24 - 40.
(2)
انظر تاريخ ابن خلدون 4: 150.
(3)
ك: وغيره.
(4)
ط: ولفظت.
(5)
إليهم: سقطت من ق ط ج.
[؟ بيعة سليمان المستعين]
ولحق سليمان ابن أخيهما الحكم بجنود البربر، وقد اجتمعوا بظاهر قرطبة وتوامروا، فبايعوه ولقّ؟ بوه المستعين بالله، ونهضوا به إلى ثغر طليطلة، فاستجاش بابن أذفونش، ثم نهض في جموع البرابرة والنصرانية إلى قرطبة، وبرز إليه المهدي في كافة أهل البلد وخاصة الدولة، فكانت الدائرة عليهم، واستلحم منهم ما يزيد على عشرين ألفاً، وهلك من خيار الناس وأئمة المساجد وسدنتها ومؤذنيها عالم، ودخل المستعين قرطبة ختام المائة الرابعة. ولحق المهدي بطليطلة. واستجاش (1) بابن أذفونش ثانية، فنهض معه إلى قرطبة، وهزم المستعين والبرابرة بعقبة البقر (2) من ظاهر قرطبة، ودخل قرطبة - أعني المهدي - وملكها، وخرج المستعين مع البربر، وتفرّقوا في البسائط ينهبون ولا يبقون على أحد، ثمّ ارتحلوا إلى الجزيرة الخضراء، فخرج المهدي ومعه ابن أذفونش لاتّباعهم، فكرّوا عليهم، فانهزم المهدي وابن أذفونش ومن معه من المسلمين والنصارى، وابتعهم المستعين إلى قرطبة، فأخرج المهدي هشاماً المؤيد للناس، وبايع له، وقام بأمر حجابتهن ظنّاً منه أن ذلك ينفعه، وهيهات، وحاصرهم وحاشية المؤيد بالمهديّ وأن الفتنة إنّما جاءت من قبله، وتولى كبر ذلك واضحٌ العامري، فقالوا المهديّ، واجتمع الكافّة على المؤيد، وقام واضحٌ بحجابته، واستمر الحصار، ولم يغن عن أهل قرطبة ما فعلوه شيئاً، إلى أن هلكت القرى والبسائط بقرطبة، وعدمت المرافق، وجهدهم الحصار، وبعث المستعين إلى أهل ابن أذفونش يستقدمهم (3) لمظاهرته، فبعث إليهم هشام وحاجبه واضح يكفّونهم عن ذلك، بأن ينزلوا لهم عن ثغور قشتالة التي كان المنصور
(1) تاريخ ابن خلدون 4: 151.
(2)
عقبة البقر (El - Vacar) على عشرين كيلومتراً شمالي قرطبة.
(3)
ق: يستعدهم؛ ج: يستمدهم.
افتتحها (1) ، فسكن عن مظاهرتهم عزم أذفونش، ولم يزل الأمر حتى دخل المستعين قرطبة ومن معه من البربر عنوة سنة ثلاث وأربعمائة، وقتل هشام سرّاً، ولحق بيوتات قرطبة معرة في نسائهم وأبنائهم.
وظن المستعين (2) أن قد استحكم أمره، وتوثبت (3) البرابرة والعبيد على الأعمال، فولوا المدن العظيمة، وتقلّدوا البلاد (4) الواسعة، مثل باديس بن حبّوس في غرناطة، والبرزالي في قرمونة، واليفرني في رندة، وخزرون (5) في شريش، وافترق شمل الجماعة بالأندلس، وصار الملك طوائف في آخرين من أهل الدولة، مثل ابن عبّاد بإشبيلية، وابن الأفطس ببطليوس، وابن ذي النون بطليطلة، وابن أبي عامر ببلنسية، وابن هود بسرقسطة، ومجاهد العامري بدانية والجزائر
…
(6) وكان مائلاً لبني حمّود يهجو سليمان المستعين:
لا رحم الله سليمانكم
…
فإنّه ضدّ سليمان
ذاك به غلّت شياطينها
…
وحلّ هذا كلّ شيطان
فباسمه ساحت على أرضنا
…
لهلك سكان وأوطان وكان من أعظم الأسباب في فساد دولة المستعين أنّه قال هذه الأبيات مستريحاً بها إلى خواصّه، وهي قوله:
حلفت بمن صلّى وصام وكبّرا
…
لأغمدها فيمن طغى وتجبّرا (7)
وأبصر دين الله تحيا رسومه
…
فبدّل ما قد لاح منها (8) وغيّرا
(1) ابن خلدون: اقتحمها.
(2)
لا يزال النقل عن ابن خلدون مستمراً.
(3)
ق: وترتبت.
(4)
بعض النسخ: الأعمال.
(5)
ق ج ط ك: وهرزون.
(6)
بياض في ط، وفي ك: قال ابن خلدون، وفي ق: وقال الشاعر.
(7)
ق: وتكبرا.
(8)
ك: كان منه.
فواعجباً من عبشميّ مملّكٍ
…
برغم العوالي والمعالي تبربرا
فلو أن أمري بالخيار نبذتهم
…
وحاكمتهم للسّيف حكماً محرّرا
فإمّا حياة تستلذّ بفقدهم
…
وإمّا حمامٌ لا نرى فيه ما زرى وقد سلك هذا الملك المرتضى المرواني فقال:
قد بلغ البربر فينا بنا
…
ما أفسد الأحوال والنّظما
كالسّهم للطائر لولا الذي
…
فيه من الرّيش لما أصمى
قوموا بنا في شأنهم قومةً
…
تزيل عنّا العار والرّغما
إمّا بها نملك، أو لا نرى
…
ما يرجع الطّرف به أعمى وكان عليّ بن حمّود الحسني وأخوه قاسم من عقب إدريس ملك فاس وبانيها قد أجازوا مع البربر من العدوة إلى الأندلس، فدعوا لأنفسهم، واعصوصب عليهم البربر، فملكوا قرطبة سنة سبع وأربعمائة، وقتلوا المستعين، ومحوا ملك بني أمية، واتصل ذلك في خلفٍ منهم سبع سنين، ثم رجع الملك إلى بني أمية.
وكان المستعين المذكور أديباً بليغاً، ومن شعره يعارض هرون الرشيد في قوله (1) :
ملك الثلاث الآنسات عناني
…
الأبيات - قوله:
عجباً يهاب الليث حدّ سناني
…
وأهاب سحر (2) فواتر الأجفان
وأقارع الأهوال لا متهيّباً
…
منها سوى الإعراض والهجران
وتملّكت نفسي ثلاثٌ كالدّمى
…
زهر الوجوه نواعم الأبدان
(1) الذخيرة 1/1: 33 والبيان المغرب 3: 118 والحلة 2: 8 - 9 والجذوة: 20 - 21.
(2)
ك: لحظ.
ككواكب الظّلماء لحن لناظري
…
من فوق أغصانٍ على كثبان
حاكمت فيهنّ السلوّ إلى الرضى (1)
…
فقضى بسلطانٍ على سلطاني
هذي الهلال، وتلك بنت المشتري
…
حسناً، وهذي أخت غصن البان
فأبحن من قلبي الحمى وتركنني
…
في عزّ ملكي كالأسير العاني
لا تعذلوا ملكاً تذلّل في الهوى
…
ذلّ الهوى عزٌّ وملك ثاني
ما ضرّ أنّي عبدهنّ صبابة
…
وبنو الزمان وهنّ من عبداني
إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى
…
كلفاً بهنّ فلست من مروان [بنو حمّود](2)
وولي الأمر بعده علي (3) بن حمّود الحسني، تلقّب بالناصر، وخرج عليه العبيد وبعض المغاربة، وبايعوا المرتضى أخا المهدي، ثم اغتيل المرتضى، واستقام الملك لعلي بن حمّود نحو عامين، إلى أن قتلته صقالبته بالحمّام سنة ثمان وأربعمائة، فولي مكانه أخوه القاسم، وتلقّب بالمأمون، ونازعه الأمر بعد أربع سنين من خلافته يحيى ابن أخيه، وكان على سبتة، فأجاز إلى الأندلس سنة عشر، واحتل بمالقة وكان أخوه إدريس بها منذ عهد أبيهما، فبعثه إلى سبتة، ثم زحف يحيى إلى قرطبة فملكها سنة ثنتي عشرة وأربعمائة، وتلقب المعتلي، وفرّ عمّه المأمون إلى إشبيلية وبايع له القاضي ابن عبّاد، واستجاش بعض البرابرة، ثم رجع إلى قرطبة سنة ثلاث عشرة وملكها، ثم لحق المعتلي بمكانه من مالقة، وتغلّب على الجزيرة الخضراء وتغلّب أخوه إدريس على طنجة من وراء البحر، وكان المأمون يعتدّها حصناً لنفسه، وفيها ذخائره،
(1) ك: الهوى؛ دوزي: الصبا.
(2)
انظر جذوة المقتبس 21 - 24 في الحوديين.
(3)
وولي.... علي: موضعها بياض في ط؛ وفي ج: ولما ملك علي
…
الخ. وفي ق: ثم إن ابن حمدون
…
الخ.
فلمّا بلغه الخبر اضطرب، وثار عليه أهل قرطبة، ونقضوا طاعته، وخرج فحاصرهم فدافعوه، ولحق بإشبيلية فمنعوه، وكان بها ابنه فأخرجوه إليه، وضبطوا بلدهم، واستبدّ ابن عباد بملكها، ولحق المأمون بشريش، ورجع عنه البربر إلى يحيى المعتلي ابن أخيه، فبايعوه سنة خمس عشرة، وزحف إلى عمّه المأمون فتغلّب عليه ولم يزل عنده أسيراً وعند إخيه إدريس بمالقة إلى أن هلك بمحبسه سنة سبع وعشرين، وقيل: إنّه خنق كم سيأتي، واستقل المعتلي بالأمر، واعتقل ابني (1) عمّه القاسم.
وكان المستكفي من الأمويين استولى على قرطبة في هذه المدّة عندما أخرج أهلها العلوية، ثم خلع أهل قرطبة المستكفي الأموي سنة ست عشرة، وصاروا إلى طاعة المعتلي، واستعمل عليهم ابن عطّاف من قبله، ثمّ نقضوا سنة سبع عشرة، وصرفوا عاملهم، وبايعوا للمعتدّ الأموي أخي المرتضى، وبقي المعتلي يردّد لحصارهم العساكر إلى أن اتفقت الكلمة على إسلام الحصون والمدائن له، فعلا سلطانه، واشتدّ أمره إلى أن هلك سنة تسع وعشرين، اغتاله أصحابه بدسيسة ابن عبّاد الثائر بإشبيلية، فاستدعى أصحابه أخاه إدريس ابن علي [بن حمود] من سبتة وملّكوه، ولقبوه المتأيّد، وبايعته رندة وأعمالها والمريّة والجزيرة الخضراء، وبعث عساكره لحرب أبي القاسم إسماعيل ابن عبّاد والد المعتضد بن عباد، فجاءوه برأسهبعد حروب، وهلك ليومين بعد ذلك سنة إحدى وثلاثين، وبويع ابنه يحيى، ولم يتم له أمر، وبويع حسن المستنصر بن المعتلي، وفر يحيى إلى قمارش (2) فهلك بها سنة أربع وثلاثين، ويقال: إنّه قتله نجا، وهلك حسن مسموماً بيد ابنة عمّه إدريس، ثأرت منه بأخيها، وكان إدريس بن يحيى المعتلي معتقلاً بمالقة فأخرج بعد خطوب وبويع بها، فأطاعته غرناطة وقرمونة، ولقّب العالي، وهو الممدوح بالقصيدة
(1) في الأصول: بني.
(2)
قمارش (Comares) .
المشهورة بالمغرب التي قالها فيه أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا القبذاقي (1) الأشبوني من شعراء الذخيرة، وهي:
ألبرقٍ لائحٍ من أندرين
…
ذرفت عيناك بالماء (2) المعين
لعبت أسيافه عاريةً
…
كمخاريق بأيدي اللاّعبين
ولصوت الرّعد زجرٌ وحنين
…
ولقلبي زفراتٌ وأنين
وأناجي في الدّجى عاذلتي
…
ويك لا أسمع (3) قول العاذلين
عيّرتني بسقام وضنىً
…
إنّ هذين لدين العاشقين
قد بدا لي وضح الصبح المبين
…
فاسقنيها قبل تكبير الأذين
إسقنيها مزة مشمولةً
…
لبثت في دنها بضع سنين
نثر المزج على مفرقها
…
درراً عامت فعادت كالبرين
مع فتيان كارم نجبٍ
…
يتهادون رياحين المجون (4)
شربوا الراح على خدّ رشاً
…
نوّر الورد به والياسمين
وجلت آياته (5) عامدةً
…
سبج الشّعر على عاج الجبين
لوت الصّدغ على حاجبه
…
ضمّة اللاّم على عطفة نون
فترى غصناً على دعص نقاً
…
وترى ليلاً على صبحٍ مبين
وسيسقون إذا ما شربوا
…
بأباريق وكأسٍ من معين
(1) تصحفت هذه اللفظة في النسخ فهي الفنداقي في ق ط ك؛ والقنداقي في ج؛ والغيداني؛ والقبذاقي؛ والقيذاني؛ وقد أثبتها محقق المغرب " القبذاني "(1: 413) فالحرف الأخير منها قاف على التأكيد إذ يوافق سجع ابن سعيد " كتاب حديقة الأحداق في حلى قرية القبذاني "؛ وهي من قرى أشبونة ويقول ابن بسام إن القبذاني (؟) من ساحل شنترة، وقصيدة ابن مقانا ورد قسم منها في المغرب؛ وفي الذخيرة (القسم الثاني، الورقة: 303) .
(2)
ق ج: بالدمع.
(3)
الذخيرة: لا أقبل.
(4)
بعد هذا البيت في الذخيرة:
وعليهم زاجر من حلمهم
…
ولديهم قاصرات الطرف عين (5) اقرأ: رجلت داياته، وهي رواية المغرب.
ومصابيح الدّجى قد طفئت
…
في بقايا من سواد الليل جون
وكأنّ الظلّ مسكٌ في الثّرى
…
وكأنّ الطّلّ درٌّ في الغصون
والنّدى يقطر من نرجسه
…
كدموعٍ أسبلتهنّ الجفون
والثريّا قد هوت من (1) أفقها
…
كقضيبٍ زاهرٍ من ياسمين
وانبرى جنح الدّجى عن صبحه
…
كغرابٍ طار عن بيضٍ كنين
وكأنّ الشّمس لمّا أشرقت
…
فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي
…
بن حمّودٍ أمير المؤمنين
ملكٌ ذو هيبة لكنّه
…
خاشعٌ لله ربّ العالمين
خطّ بالمسك على أبوابه:
…
ادخلوها بسلام آمنين (2)
فإذا ما رفعت راياته
…
خفقت بين جناحي جبرئين
وإذا أشكل خطبٌ معضلٌ
…
صدع الشكّ بمصباح اليقين
فبيسراه يسار المعسرين
…
وبيمناه لواء السّابقين (3)
يا بني أحمد يا خير الورى
…
لأبيكم كان وفد المسلمين
نزل الوحي عليه فاحتبى
…
في الدّجى فوقهم الرّوح الأمين
خلقوا من ماء عدلٍ وتقىً
…
وجميع الناس من ماءٍ وطين
انظرونا نقتبس من نوركم
…
إنّه من نور ربّ العالمين وقيل: إنّه أنشده إيّها من وراء حجاب اقتفاءً لطريقة خلفاء بني العباس، فلمّا بلغ إلى قوله:
انظرونا نقتبس من نوركم
…
إنّه من نور ربّ العالمين أمر حاجبه أن يرفع الحجاب، وقابل وجهه وجه الشاعر دون حجاب،
(1) الذخيرة: قد علمت في.
(2)
بعده في الذخيرة:
وينادي الجود في آفاقه
…
يمموا قصر أمير المؤمنين (3) صدر البيت سقط من ج ط.
وأمر له بإحسان جزيل (1) ، فكان هذا من أنبل ما يحكى عنه.
وخلع العالي سنة ثمانٍ وثلاثين، وولي ابن عمّه محمّد بن إدريس بن علي، وتلقّب بالمهدي، وتوفّي سنة أربع وأربعين.
وبويع إدريس بن حيى بن إدريس، ولقّب الموفق، ولم يخطب له بالخلافة وزحف إليه العالي إدريس المخلوع الممدوح بالقصيدة السابقة، وكان بقمارش، فدخل عليه مالقة، وأطلق أيدي عبيده عليها لحقده عليهم، ففرّ كثير منهم، وتوفّي العالي سنة ست أو سبع وأربعين.
وبويعمحمّد بن إدريس، ولقّب المستعلي، ثم سار إليه باديس بن حبّوس سنة تسع وأربعين وأربعمائة، فتغلّب على مالقة، وسار محمّد إلى المريّة مخلوعاً، ثم استدعاه أهل المغرب إلى مليلة [فأجاز إليهم](2) وبايعوه سنة ست وخمسين، وتوفّي سنة ستين.
وكان محمد بن القاسم بن حمّود لما اعتقل أبوه القاسم بمالقة سنة أربع عشرة فرّ من الاعتقال ولحق بالجزيرة الخضراء وملكها، وتلقّب بالمعتصم، إلى أن هلك سنة أربعين، ثم ملكها بعده ابنه القاسم الواثق، إلى أن هلك سنة خمسين، وصارت الجزيرة للمعتضد بن عبّاد، ومالقة لابن حبّوس مزاحماً لابن عبّاد.
وانقرضت دولة الأشراف الحمّوديين من الأندلس، بعد أن كانوا يدّعون الخلافة.
[خلافة المستظهر](3)
وأمّا قرطبة فإن أهلها لمّا قطعوا دعوة الحمّوديين بعد سبع سنين من ملكهم
(1) في نسخة: بمال جزيل.
(2)
زيادة من ابن خلدون وفي ق ط ج: إلى مليلة وجارت.
(3)
انظ الحلة السيراء 2: 12.
وزحف إليهم القسم بن حمّود في البربر، فهزمهم أهل قرطبة، ثم اجتمعوا واتفقوا على ردّ الأمر لبني أميّة، واختاروا لذلك عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار أخا المهدي، وبايعوه في رمضان سنة أربع عشرة وأربعمائة، ولقّبوه المستظهر وقاموا بأمره، ومن شعره قوله (1) :
طال عمر الليل عندي
…
مذ (2) تولّعت بصدّي
يا غزالاً نقض العه
…
د ولم يوف بوعد
أنسيت العهد إذ بت
…
نا على مفرش ورد
واجتمعنا في وشاحٍ
…
وانتظمنا نظم عقد
ونجوم الليل تحكي
…
ذهباً في لازورد قال الحجاري: لو قال لؤلؤاً في لازورد لكان أحسن تشبيهاً، وأنشد متمثّلاً:
إنّا عصابتك الألى
…
كنّا نكابد ما تكابد
هذا أوان بلوغنا (3) ال
…
نّعمى وإنجاز المواعد وكان حسّان بن أبي عبدة (4) من وزراء المستظهر، ولمّا أكثر المستظهر دونه الاستبداد كتب إليه بقوله (5) :
إذا غبت لم أحضر، وإن جئت لم أسل
…
فسيّان مني مشهدٌ ومغيب
(1) الحلة 2: 16.
(2)
ك: قد.
(3)
ج ط ق: بلوغ أواننا.
(4)
حسان بن مالك بن أبي عبدة الوزير من الأئمة في الأدب واللغة، ألف للمنصور كتاباً في الأسمار ووزر للنستظهر، وتوفي قبل سنة 420 (الجذوة: 183 والبغية رقم: 662 والمطمح: 26) .
(5)
البيتان في المصادر السابقة.
فأصبحت تيميّاً، وما كنت قبلها
…
لتيمٍ، ولكنّ الشبيه نسيب يشير إلى قول الأول:
يقضى المر حين تغيب تيمٌ
…
ولا يستأذنون وهم شهود وعاتبه أيضاً بقوله:
إذا كان مثلي لا يجازى (1) بصبره
…
فمن ذا الذي بعدي يجازى على الصّبر
وكم مشهدٍ حاربت فيه عدوّكم
…
وأمّلت في حربي له راحة الدّهر
أخوض إلى أعدائكم لجج الوغى
…
وأسري إليهم حيث لا أحدٌ يسري
وقد نام عنهم كلّ مستبطن الحشا
…
أكول إلى الممسى نؤوم إلى الظّهر
فما بال هذا الأمر أصبح ضائعاً
…
وأنت أمين الله تحكم في الأمر وسيأتي إن شاء الله تعالى من كلام الوزير المذكور ما يدلّ على عظيم قدره، وهناك نذكر تحلية الفتح له.
[بيعة المستكفي والمعتد]
ثمّ ثار عليه لشهرين من خلافته محمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن أمير المؤمنين الناصر لدين الله، فاتّبعه الغوغاء، وفتك بالمستظهر، وتلقّب بالمستكفي، واستقلّ بأمر قرطبة، وهو والد الأديبة الشهيرة ولاّدة، ولعلّنا نلمّ ببعض أخبارها إن شاء الله تعالى فيما بعد، وكان أبوه عبد الرحمن قتله المنصور بن أبي عامر لسعيه في الخلاف (2) .
ثم بعد ستة عشر شهراً من بيعة المستكفي رجع الأمر إلى المعتلي يحيى بن عليّ بن حمّود سنة ست عشرة، وخلع أهل قرطبة المستكفي، وولى عليهم
(1) ق: يجار؛ ط ج: يجاز.
(2)
ك: الخلافة.
المعتلي من قبله، وفرّ المستكفي إلى ناحية الثغر، ومات في مفرّه، ثم بدا لأهل قرطبة فخلعوا المعتلي بن حمّود سنة سبع عشرة، وبايع الوزير أبو محمد جهور ابن محمد بن جهور عميد الجماعة وكبير قرطبة لهشام بن محمد أخي المرتضى، وكان بالثغر في لاردة عند ابن هود، وذلك سنة ثماني عشرة، وتلقّب المعتدّ بالله، وأقام متردّداً في الثغر ثلاثة أعوام، واشتدّت الفتن بين رؤساء الطوائف، واتّفقوا على أن ينزل دار الخلافة بقرطبة، فاستقدمه ابن جهور والجماعة، ونزلها آخر سنة عشرين، وأقام بها يسيراً، ثم خلعه الجند سنة ثنتين وعشرين، وفرّ إلى لاردة فهلك بها سنة ثمان وعشرين.
[انقضاء الأموية وظهور ملوك الطوائف]
وانقطعت الدولة الأمويّة من الأرض، وانتثر سلك الخلافة بالمغرب، وقام الطوائف بعد انقراض الخلائف، وانتزى الأمراء والرؤساء من البربر والعرب والموالي بالجهات، واقتسموا خطّتها، وتغلّب بعضٌ على بعض، واستقل أخيراً بأمرها منهم ملوك استفحل أمرهم وعظم شأنهم، ولاذوا بالجزى للطاغية أن يظاهر عليهم أو أن يبتزهم ملكهم، وأقاموا على ذلك برهة من الزمان، حتى قطع إليهم البحر ملك العدوة وصاحب مرّاكش أمير المسلمين يوسف بن تاشفين اللّمتوني، فخلعهم وأخلى منهم الأرض.
[ملوك الطوائف]
[1 - بنو عباد وبنو جهور]
فمن أشهرهم بنو عبّاد ملوك إشبيلية وغرب الأندلس الذين منهم المعتمد ابن عبّاد الشهير الذكر بالمغرب والمشرق، وفي الذخيرة والقلائد من أخباره ما هو كافٍ شافٍ.
ومنهم بنو جهور، كانوا بقرطبة في صورة الوزارة، حتى استولى عليهم المعتمد بن عبّاد، وأخذ قرطبة، وجعل عليها ولده، ثم كانت له وعليه حروب وخطوب، وفرق أبناءه على قواعد الملك، وأنزلهم بها، واستفحل أمره بغرب الأندلس، وعلت يده على من كان هنالك من ملوك الطوائف، مثل ابن حبّوس (1) بغرناطة، وابن الأفطس ببطليوس، وابن صمادح بالمريّة، وغيرهم، فكانوا يخطبون سلمه، ويغلون (2) في مرضاته، وكلهم يدارون الطاغية ويتّقونه بالجزى، إلى أن ظهر يوسف بن تاشفين، واستفحل ملكه، فتعلّقت آمال الأندلس بإعانته، وضايقهم الطاغية في طلب الجزية، فقتل المعتمد اليهوديّ الذي جاء في طلب الجزية للطاغية، بسبب كلمة آسفه بها، ثم أجاز البحر صريخاً إلى يوسف بن تاشفين، فأجاز معه البحر، والتقوا مع الطاغية في الزلاّقة، فكانت الهزيمة المشهورة على النصارى، ونصر الله تعالى الإسلام نصراً لا كفاء له، حتى قال بعض المؤرخين: إنّه كان عدد النصارى ثلاثمائة ألف، ولم ينج منهم إلاّ القليل، وصبر فيها المعتمد صبر الكرام، وكان قد أعطى يوسف بن تاشفين الجزيرة الخضراء ليتمكن من الجواز متى شاء، ثم طلب الفقهاء بالأندلس من يوسف بن تاشفين رفع المكوس والظلامات عنهم، فتقدّم بذلك إلى ملوك الطوائف، فأجالوه بالامتثال، حتى إذا رجع من بلادهم رجعوا إلى حالهم، وهو خلال ذلك يردّد عساكره للجهاد، ثمّ أجاز إليهم وخلع جميعهم، ونازلت عساكره جميع بلادهم، واستولى على قرطبة وإشبيلية وبطليوس وغرناطة وغيرها، وصار المعتمد بن عبّاد كبير ملوك الأندلس في قبضته أسيراً بعد حروب، ونقله إلى أغمات قرب مراكش سنة أربع وثمانين وأربعمائة، واعتقله هنالك إلى أن مات سنة ثمان وثمانين، وسنلمّ بما قاله الوزير لسان الدين بن الخطيب فيه حين زار قبره.
(1) في الأصول: ابن باديس.
(2)
ويغلون: سقطت من ق؛ وفي ج ط: ويعلون.
وللمعتمد هذا أخبار مأثورة خصوصاً مع زوجته أمّ أولاده الرميكية الملقّبة باعتماد، وقد روي أنّها رأت ذات يوم بإشبيلية نساء البادية يبعن اللبن في القرب وهنّ رافعات عن سوقهنّ في الطين، فقالت له: أشتهي أن أفعل أنا وجواريّ مثل هؤلاء النساء، فأمر المعتمد بالعنبر والمسك والكافور وماء الورد، وصيّر الجميع طيناً في القصر، وجعل لها قرباً وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوض في ذلك الطين، فيقال: إنّه لمّا خلع وكانت تتكلّم معه مرّة فجرى بينهما ما يجري بين الزوجين، فقالت له: والله ما رأيت منك (1) خيراً، فقال لها: ولا يوم الطين؟ تذكيراً لها بهذا اليوم الذي أباد فيه من الأموال مالا يعلمه إلاّ الله تعالى، فاستحيت وسكتت.
ومن أعظم ملوك الطوائف (2) غير من تقدّم بنو رزين أصحاب السّهلة، وبنو الفهري أصحاب البونت، وتغلّب عليهما أخيراً يوسف بن تاشفين.
[2 - بنو ذي النون بطليطلة]
ومن أعظم ملوك الطوائف بنو ذي النون ملوك طليطلة من الثغر الجوفي، وكانت لهم دولة كبيرة، وبلغوا في البذخ والتّرف إلى الغاية، ولهم الإعذار المشهور الذي يقال له الإعذار الذّنّوني وبه يضرب المثل عند أهل المغرب، وهو عندهم بمثابة عرس بوران عند أهل المشرق، والمأمون من بني ذي النون هو صاحب ذلك، وهو الذي عظم بين ملوك الطوائف سلطانه، وكان بينه وبين الطاغية مواقف مشهورة، وغلب على قرطبة، وملكها من يد ابن عبّاد المعتمد، وقتل ابنه أبا عمرو، وغلب أيضاً على بلنسية وأخذها من يد بني ابن أبي عامر.
(1) منك: سقطت من ق ط ج.
(2)
ك: وولي بعده غير من تقدم، وسقط ما يقابله من ط؛ وفي ج: ومن ملوك
…
الخ؛ وسقطت " غير من تقدم " من ك.
وفي أيّام حافد المأمون - وهو القادر بن ذي النون - كان الطاغية ابن أذفونش قد استفحل أمره، لمّا خلا الجوّ من مكان الدولة الخلافية، وخفّ ما كان على كاهله من إصر العرب، فاكتسح البسائط، وضايق ابن ذي النون، حتى أخذ من يده طليطلة، فخرج له عنها سنة ثمان وسبعين وأربعمائة كما سبق، وشرط عليه أن يظاهره على أهل بلنسية، فقبل شرطه، وتسلّمها [ابن] الفونش، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العيّ العظيم.
ومن أعظم ملوك الأندلس الموالي العامريون (1) مثل خيران وزهير وأشباههما. وأخبار الجميع تطول.
[بنو هود بسرقسطة]
ومن ملوك الطوائف بالأندلس بنو هود ملوك سرقسطة وما إليها، ومن أشهرهم بالمقتدر بالله، وابنه يوسف المؤتمن، وكان المؤتمن قائماً على العلوم (2) الرياضية، وله فيها تآليف، ومنها كتاب الاستكمال (3) والمناظر؛ وولي بعده ابنه المستعين أحمد سنة أخذ طليطلة، وعلى يده كانت وقعة وشقة - زحف سنة تسع وثمانين في آلاف لا تحصى من المسلمين ليدافع الطاغية عن وشقة، وكان محاصراً لها، فلقيه الطاغية وهزمه، وهلك من المسلمين نحو عشرة آلاف، وهلك هو شهيداً سنة ثلاث وخمسمائة، بظاهر سرقسطة في زحف الطاغية إليها، وولي ابنه عبد الملك عماد الدولة، وأخرجه الطاغية من سرقسطة سنة ثنتي عشرة، وتولى ابنه سيف الدولة، وبالغ في النكاية بالطاغية، ثمّ اتفق معه، وانتقل بحشمه إلى طليطلة، فكان فيها حمامه.
ومن شعر المقتدر بن هود قوله رحمه الله في مبانيه:
(1) ك: ثم زحف على الموالي العامريين؛ مع اتصال النص بما قبله.
(2)
ق ك: الأمور؛ والتصويب عن ابن خلدون.
(3)
ابن خلدون: الاستهلال.
قصر السرور ومجلس الذّهب
…
بكما بلغت نهاية الأرب
لو لم يحز ملكي خلافكما
…
كانت لديّ كفاية الطلب [بنو الأفطس ببطليوس]
ومن مشاهير ملوك الطوائف (1) بنو الأفطس أصحاب بطليوس وما إليها، والمظفّر منهم هو صاحب التلأيف المسمّى بالمظفّري في نحو الخمسين مجلّداً، والمتوكّل منهم قتل على يد جيش يوسف بن تاشفين، وفيه قال ابن عبدون قصيدته المشهورة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر
…
فما البكاء على الأشباح والصّور وهي من غرر القصائد (2) .
[اللمتونيون ثم الموحدون]
فلمّا استولى (3) لمتونة على بلاد الأندلس (4) وأزالوا ملوك الطوائف منها، وبقيت عمّالهم تتردّد إليها وبنوهم حتى فشلت ريحهم، وهبّت ريح الموحدين، أعني عبد المؤمن بن عليّ وبنيه، فحاربوا لمتونة، واستولوا على ملكهم بالمغرب بعد حروب كثيرة، ثمّ أجازوا البحر إلى الأندلس، وملكوا أكثر بلاد الأندلس، وملك بنو مردنيش شرق الأندلس، وملخص ذلك أن الأندلس كان ملكها مجموعاً للمتونة بعد خلعهم ملوك الطوائف، فلمّا اشتغل لمتونة في العدوة بحرب الموحّدين اضطربت عليهم الأندلس،
(1) سقطت كلمة " الطوائف " من ط ق ك.
(2)
ك: القصائد الأندلسية.
(3)
ج: أخذ
…
الأندلس.
(4)
فلما استولى
…
الأندلس: سقطت هذه الجملة من ك.
وعادت إلى الفرقة بعض الشيء، ثم خلص أكثرها لعبد المؤمن وبنيه بعد حروب منها ما حصل بن عبد المؤمن وبين ابن مردنيش وقائده ابن همشك (1) بفحص غرناطة، وقد استعان ابن مردنيش بالنصارى على الموحّدين، فهزمهم عبد المؤمن، وقتلهم أبرح قتل، واستخلص غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسمائة من يد ابن مردنيش.
[غزوة الأرك]
وولي الأمر بعد عبد المؤمن ابنه يوسف، وأجاز إلى الأندلس، وكانت له مواقف في جهاد العدوّ، وولي بعده ابنه يعقوب المنصور الطائر الصيت، وكانت له في النصارى بالأندلس نكاية كبيرة، ومن أعظمها غزوة الأرك التي تضاهي وقعة الزلاّقة أو تزيد، والأرك: موضع بنواحي بطليوس، وكانت سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، وغنم المسلمون ما عظم قدره، وكان عدّة من قتل من الفرنج - فيما قيل - مائة ألف وستّة وأربعين ألفاً، وعدّة الأسارى ثلاثين ألفاّ، وعدّة الخيام مائة ألف وستّة وخمسين ألف خيمة، والخيل ثماني ألفاً، والبغال مائة ألف، والحمير أربعمائة ألف، جاء بها الكفّر لحمل أثقالهم لأنّهم لا إبل لهم، وأمّا الجواهر والأموال فلا تحصى، وبيع الأسير بدرهم، والسيف بنصف درهم، والفرس بخمسة دراهم، والحمار بدرهم، وقسم يعقوب الغنائم بين المسلمين بمقتضى الشرع، ونجا الفنش ملك النصارى إلى طليطلة في أسوأ حال، فحلق رأسه ولحيته، ونكس صليبه، وآلى أن لا ينام على فراش، ولا يقرب النساء، ولا يركب فرساً ولا دابة، حتى يأخذ بالثأر، وصار يجمع من الجزائر والبلاد البعيدة ويستعدّ، ثم لقيه يعقوب وهزمه وساق خلفه إلى طليطلة وحاصره ورمى عليها بالمجانيق وضيّق عليها، ولم
(1) ق ك ط: همشكه.
يبق إلا فتحها، فخرجت إليه والدة الأذفونش وبناته ونساؤه وبكين بين يديه، وسألنه إبقاء البلد عليهن، فرقّ لهن ومنّ عليهن بها، ووهب لهن من الأموال والجواهر ما جلّ، وردّهنّ مكرماتٍ، وعفا بعد القدرة، وعاد إلى قرطبة، فأقام شهراً يقسم الغنائم، وجاءته رسل الفنش بطلب الصلح، فصالحه، وأمّن الناس مدّته، وفيه يقول بعض شعراء عصره:
أهلٌ بأن يسعى إليه ويرتجى
…
ويزار من أقصى البلاد على الرّجا
من قد غدا بالمكرمات مقلّداً
…
وموشّحاً ومختّماً ومتوّجا
عمرت مقامات الملوك بذكره
…
وتعطّرت منه الرّياح تأرّجا [بين صلاح الدين ويعقوب الموحدي]
وهو الذي (1) أرسل له السلطان صلاح الدين (2) بن أيوب شمس الدين بن منقذ يستند به على الفرنج الخارجين عليه بساحل البلاد المقدّسة (3) ، ولم يخاطبه بأمير
(1) هذه رواية ج؛ وفي ق: ولما تغلبت الفرنج على الساحل أرسل السلطان؛ وفي ط: أرسل
…
ألخ؛ وفي ك: ولما أرسل
…
(2)
في الروضتين: شمس الدولة؛ واسمه عبد الكريم (انظر مقدمة ابن خلدون: 631) .
(3)
لدينا من الكتب التي رسلها صلاح الدين للخليفة الموحدي المنصور كتاب تاريخه سنة 585 من إنشاء الفاضل، وفيه يسجيشه على الفرنج أثناء قتاله معهم حول عكا (صبح الأعشى 6: 526 - 530) يلقبه فيه بأمير المؤمنين، يتلوه كتاب ثان في 27 شعبان سنة 586 بقلم الفاضل أيضاً إلى شمس الدين بن منقذ (الروضتين 2: 170) يطلب فيه المعاونة بإرسال قطع من الأسطول المغربي أثناء حصار الفرنج لعكا، ويحتوي التعليمات الموجه بها شمس الدين، ثم خطاب مرسل إلى المنصور (الروضتين 2: 171) وهو الذي يشير إليه المقري وبدايته " من الفقير إلى رحمة ربه يوسف بن أيوب "(وتاريخه شعبان سنة 586) ؛ وهناك كتاب للقاضي الفاضل رفعه إلى صلاح الدين (الروضتين 2: 174) وهو يحاول فيه أن يقنع صلاح الدين بقبول صيغة " من الفقير إلى الله تعالى " ويستقبح أن يكتب " الخادم "؛ ومن رأي الفاضل أن لا تتم المكاتة لأن الجواب عنها يستغرق سنتين وفي هذه المدة " فما يتخلى الله عنا ولا تستمر هذه الشدة ولا نسيء الظن بالله ". وأثناء مقام ابن منقذ في المغرب أرسل إليه كتاب يشرح فيه أخبار القتال حو مكا (الروضتين 2: 188) .
المؤمنين، فلم يجبه إلى ما طلبه، وكلّ ذلك في سنة 587، ومدحه ابن منقذ بقوله من قصيدة:
سأشكر بحراً ذا عباب قطعته
…
إلى بحر جودٍ ما لأخراه ساحل
إلى معدن التّقوى إلى كعبة النّدى
…
إلى من سمت بالذكر منه الأوائل
إليك أمير المؤمنين ولم تزل
…
إلى بابك المأمول تزجى الرّواحل
قطعت إليك البر والبحر موقناً
…
بأن نداك الغمر بالنجح كافل
وحزت بقصديك العلا فبلغتها
…
وأدنى عطاياك العلا والفواضل
فلا زلت للعلياء والجود بانياً
…
تبلّغك الآمال ما أنت آمل وعدّتها أربعون بيتاً، فأعطاه بكل بيت ألفاً، وقال له: إنّما أعطيناك لفضلك ولبيتك.
وكان عنوان الكتاب الذي أرسله صلاح الدين إلى أمير المسلمين وفي أوّله الفقير إلى الله تعالى يوسف بن أيوب وبعده من إنشاء الفاضل الحمد لله الذي استعمل على المّلة الحنيفية من استعمر الأرض، وأغنى من أهلها من سأله القرض، وأجزى من على يده النافلة والفرض، وزيّن سماء الملّة بدراراي الذراري التي بعضها من بعض وهو كتاب طويل سأله فيه أن يقطع عنه مادّة البحر، واستنجده على الإفرنج إذ كانت له اليد عليهم، وعاد ابن منقذ من هذه الرسالة سنة 588 بغير فائدة، وبعث معه هديّة حقيرة، وأمّا ابن منقذ فإنّه أحسن إليه وأغناه، لا لأجل صلاح الدين، بل لبيته وفضله كما مرّ، وما وقع من يعقوب في صلاح الدين إنّما هو لأجل أنّه لم يوفّه حقّه في الخطاب.
[الموحدون والأندلس]
رجع (1) : ولمّا استفحل أمر الموحّدين بالأندلس استعملوا القرابة على الأندلس
(1) في ق: رجع إلى أخبار يعقوب؛ والنص متابع لما ورد عند ابن خلدون 4: 166.
وكانوا يسمّونهم السادة، واقتسموا ولاياتها بينهم، ولهم مواقف في جهاد العدوّ مذكورة، وكان صاحب الأمر بمراكش يأتي الأندلس للجهاد، وهزم يعقوب المنصور كما سبق قريباً بالأرك ابن أذفونش ملك الجلالقة الهزيمة الشنعاء.
[العقاب والتياث أمر الموحدين]
وأجز ابنه الناصر الوالي بعده البحر إلى الأندلس من المغرب سنة تسع وستمائة ومعه من الجنود ما لا يحصى، حتى حكى بعض الثقات من مؤرخي المغرب أنّه اجتمع معه من أهل الأندلس والمغرب ستمائة ألف مقاتل، فمحص الله المسلمين بالموضع المعروف بالعقاب، واستشهد منهم عدّة، وكانت سبب ضعف المغرب والأندلس، أمّا المغرب فبخلاء كثير من قراه وأقطاره، وأمّا الأندلس فبطلب العدوّ عليها، لأنّه لمّا التاث أمر الموحدين بعد الناصر ابن المنصور انتزى السادة بنواحي الأندلس كلٌّ في عمله، وضعف ملكهم بمراكش، فصاروا إلى الاستجاشة بالطاغية بعضهم على بعض، وإسلام حصون المسلمين إليه في ذلك، فمشت رجالات الأندلس وأعقاب العرب منذ الدولة الأموية، وأجمعوا على إخراجهم، فثاروا بهم لحين واحد وأخرجوهم، وتولى كبر ذلك محمد بن يوسف بن هود الجذامي الثائر بالأندلس وابن مردنيش وثوّار آخرون.
[ابن هود ومنافسه ابن الأحمر]
قال ابن خلدون (1) : ثم خرج على ابن هود في دولته من أعقاب دولة العرب أيضاً وأهل نسبهم محمد بن يوسف بن نصر المعروف بابن الأحمر، وتلقّب محمد هذا بالشيخ، فجاذبه الحبل، وكانت لكل واحد منهما دولة أورثها بنيه، انتهى.
(1) تاريخ ابن خلدون 4: 167.
وكان ابن هود يخطب للعباسي صاحب بغداد، ثم حصلت لابن هود وأعقابه حروبٌ وخطوب إلى أن كان آخرهم الواثق بن المتوكّل، فضايقه الفنش والبرشلوني فبعث بالطاعة لابن الأحمر، فبعث إليه ابن أشقيلولة، وتسلم مرسية منه، وخطب لابن الأحمر بها، ثم خرج منها راجعاً إلى ابن الأحمر، فأوقع به النصارى في طريقه، ثم رجع الواثق إلى مرسية ثالثة، فلم يزل إلى أن ملكها العدوّ من يده سنة ثمان وستين وستمائة، وعوّضه عنها حصناً يسمى يسر، وهو من عملها، فبقي فيه إلى أن هلك. وانقرضت دولة ابن هود، والله وارث الأرض ومن عليها.
[دولة بين الأحمر]
ولنذكر ملوك بني الأحمر (1) إجمالاً لن لسان الدين وزير أحدهم، ولأنهم آخر ملوك الأندلس، ومن يدهم استولى النصارى على جميعها كما سنذكره. قال ابن خلدون (2) : أصلهم من أرجونة من حصون قرطبة، ولهم فيها سلفٌ من أبناء الجند، ويعرفون ببني نصر، وينتسبون إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج، وكان كبيرهم لآخر دولة الموحّدين محمّد بن يوسف بن نصر، ويعرف بالشيخ، وأخوه إسماعيل وكانت له وجاهة في ناحيتهم.
ولمّا فشلت ريح الموحّدين، وانتزى الثوار بالأندلس، وأعطى السادة حصونها للطاغية، استقل بأمر الجماعة محمد بن يوسف بن هود الثائر بمرسية بدعوة العباسية، وتغلب على شرق الأندلس أجمع، فتصدى الشيخ هذا للثورة وبويع له سنة تسع وعشرين وستمائة، ودعا لأبي زكرياء صاحب إفريقية، وأطاعته جيّان وشريش سنة ثلاثين بعدها، واستظهر إلى أمره بقرابته من
(1) في ك: رجع إلى ذكر دولة أولاد الأحمر؛ وسقطت لفظة " ملوك " من ج.
(2)
ابن خلدون 4: 170.
بني نصر وأصهاره بني أشقيلولة، ثم بايع لبني هود سنة إحدى وثلاثين، عندما بلغه خطاب الخليفة من بغداد، ثمّ ثار بإشبيلية أبو مروان الباجي عند خروج ابن هود عنها ورجوعه إلى مرسية، فداخله محمد بن الأحمر في الصلح على أن يزوّجه ابنته، فأطاعه، ودخل إشبيلية سنة اثنتين وثلاثين، ثمّ فتك بابن الباجي فقتله، وتناول البطش (1) به عليّ بن أشقيلولة، ثمّ راجع أهل إشبيلية بعدها بشهر دعوة ابن هود، وأخرج ابن الأحمر، ثمّ تغلب على غرناطة سنة خمس وثلاثين بمداخلة أهلها (2) حين ثار ابن أبي خالد بدعوته فيها، ووصلته بيعتها وهو بجيّان، فقدم إليها عليّ بن أشقيلولة، ثم جاء على أثره، ونزلها، وابتنى بها حصن الحمراء لنزوله، ثمّ تغلّب على مالقة، ثم تناول المريّة من يد ابن الرميمي وزير ابن هود الثائر بها سنة ثلاث وأربعين، ثمّ بايعه أهل لورقة سنة ثلاث وستين، وكان ابن الأحمر أول أمره وصل يده بالطاغية استظهاراً على أمره، فعضده وأعطاه ابن هود ثلاثين حصاناً في كفّ غربه بسبب ابن الأحمر، وليعينه على قرطبة، فتسلّمها، ثم تغلّب على قرطبة سنة ثلاث وثلاثين وستمائة، أعادها الله، ثمّ نازل إشبيلية سنة ست وأربعين وابن الأحمر معه، ثمّ دخلها صلحاً، وملك أعمالها، ثمّ ملك مرسية سنة خمس وستين، ولم يزل الطاغية يقتطع ممالك المسلمين كورةً كورةً وثغراً ثغراً إلى أن لجأ المسلمون (3) إلى سيف البحر ما بين رندة من الغرب وإلبيرة من شرق الأندلس نحو عشر مراحل من الغرب إلى الشرق، وفي قدر مرحة أو دونها في العرض ما بين البحر والجوف، ثم سخط ابن الأحمر وطمع في الاستيلاء على سائر الجزيرة فامتنعت عليه، وتلاحق بالأندلس الغزاة من بني مرين وغيرهم، وعقد ملك المغرب يعقوب بن عبد الحق لنحو الثلاثة
(1) ابن خلدون: الفتك.
(2)
كذلك في ابن خلدون وبعض الأصول؛ وفي ك: بمداجاة أهلها.
(3)
ان خلدون: ألجأ المسلمين.
آلاف منهم، فأجازوا في حدود الستين وستمائة، وتقبّل ابن الأحمر إجازتهم، ودفع بهم في نحر عدوّه، ورجعوا، ثم تناسلوا إليه بعد ذلك، ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك الشيخ ابن الأحمر سنة إحدى وسبعين وستمائة، وولي بعده ابنه محمّد الفقيه، وأوصاه باستصراخ بني مرين، ملوك المغرب بعد الموحدين، إن طرقه أمر أن يعتضد بهم، فأجاز الفقيه إلى يعقوب بن عبد الحقّ سلطان فاس والمغرب سنة ثنتين وسبعين، فأجاب صريخه، وأرسل ابنه وعساكره معه، ثمّ أجاز على أثره وتسلّم الجزيرة الخضراء من ثائر كان بها وجعلها ركاباً لجهاده، ونزل إليه ابن الأحمر عن طريف وما إليها من الحصون، وهزم هو وابن الأحمر زعيم النصرانية دنّنه (1) وفرق جمعه، وأوقع بجموع الطاغية من كل جهة، وبثّ سراياه وبعوثه في أرض النصرانية، ثم خاف ابن الأحمر على ملكه، وصالح الطاغية ثمّ عاد؛ انتهى كلام ابن خلدون ملخّصاً.
وثبتت قدم عقب ابن الأحمر بالأندلس، واستولوا على جميع ما بأيدي المسلمين من ملكها مثل الجزيرة وطريف ورندة التي كانت بيد بني مرين.
[بين دون بطره وأبي الوليد ابن الأحمر]
وبعد مدة ألّب ملوك النصارى سنة تسع عشرة وسبعمائة على غرناطة، وجاءها الطاغية دون بطره (2) في جيش لا يحصى ومعه خمسة وعشرون ملكاً، وكان من خبر هذه الوقعة أن الإفرنج حشدوا وجمعوا وذهب سلطانهم دون بطره إلى طليطلة، ودخل على مرجعهم الذي يقال له البابا، وسجد له، وتضرّع، وطلب منه استئصال ما بقي من المسلمين بالأندلس، وأكد عزمه، فقلق المسلمون بغرناطة وغيرها، وعزموا على الاستنجاد بالمريني أبي سعيد
(1) دننه (Don Nuno) .
(2)
دون بطره (Don Pedro) .
صاحب فاس، وأنفذوا غليه رسلاً، فلم ينجع ذلك الدواء، فرجعوا إلى أعظم الأدوية وهو اللّجأ إلى الله تعالى، وأخلصوا النيّات، وأقبل الإفرنج في جموعٍ لا تحصى، فقضى ناصر من لا ناصر له سواه بهزم أمم النصرانية، وقتل طاغيتهم دون بطره ومن معه، وكان نصراً عزيزاً ويوماً مشهوداً.
وكان السلطان إذ ذاك بالأندلس الغالب بالله أبو الوليد إسماعيل ابن الرئيس أبي سعيد فرج بن نصر المعروف بابن الأحمر رغب أن يحصن البلاد والثغور، فلمّا بلغ النصارى ذلك عزموا على منازلة الجزيرة الخضراء، فانتدب السلطان ابن الحمر لردّهم، وجهز الأساطيل والرجال، فلمّا رأوا ذلك طلبوا إلى طليطلة، وعزموا على استئصال بلاد المسلمين وتأهّبوا لذلك غاية الأهبة، ووصلت الأثقال والمجانيق وآلات الحصار والأقوات في المراكب، ووصل العدو إلى غرناطة، وامتلأت الأرض بهم، فتقدم السلطان إلى شيخ الغزاة الشيخ العالم أبي سعيد عثمان بن أبي العلاء المريني بالخروج إلى لقائهم بأنجاد المسلمين وشجعانهم، فخرج إليهم يوم الخميس الموفي عشرين لربيع الأول.
ولمّا كانت ليلة الأحد أغارت سريّةٌ من العدو على ضيعة من المسلمين، فخرجت إليهم جماعة من فرسان الأندلس الرماة، فقطعوهم عن الجيش، وفرّت تلك السرية أمامهم إلى جهة سلطانهم، فتبعهم المسلمون إلى الصبح، فاستأصلوهم، وكان هذا أول النصر.
ولما كان يوم الأحد ركب الشيخ أبو سعيد لقتال العدو في خمسة آلاف من أبطال المسلمين المشهورين، فلمّا شاهدهم الفرنج عجبوا من إقدامهم مع قلتهم في تلك الجيوش العظيمة، فركبوا وحملوا بجملتهم عليهم، فانهزم الفرنج أقبح هزيمة، وأخذتهم السيوف، وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون ثلاثة أيّام، وخرج أهل غرناطة لجمع الأموال، وأخذ الأسرى، فاستولوا على أموال عظيمة منها من الذهب - فيما قيل - ثلاثة وأربعون قنطاراً، ومن الفضة مائة وأربعون قنطاراً، ومن السّبي سعة آلاف نفس حسبما كتب بذلك
بعض الغرناطيين إلى الديار المصرية، وكان من جملة الأسرى (1) امرأة الطاغية وأولاده، فبذلت في نفسها مدينة طريف وجبل الفتح وثمانية عشر حصناً فيما حكى بعض المؤرخين، فلم يقبل المسلمون ذلك، وزادت عدّة القتلى في هذا الغزوة على خمسين ألفاً، ويقال: إنّه هلك منهم بالوادي مثل هذا العدد، لعدم معرفتهم بالطريق، وأمّا الذين هلكوا بالجبال والشّعاب فلا يحصون، وقتل الملوك الخمسة والعشرون جميعهم، واستمر البيع في الأسرى والأسباب والدواب ستة أشهر، ووردت البشائر بهذا النصر العظيم إلى سائر البلاد.
ومن العجب أنّه لم يقتل من المسلمين والأجناد سوى ثلاثة عشر فارساً، وقيل: عشرة أنفس، وقيل: كان عسكر الإسلام نحو ألف وخمسمائة فارس، والرّجّالة نحواً من أربعة آلاف راجل، وقيل دون ذلك.
وكانت الغنيمة تفوت الوصف، وسلخ الطاغية دون بطره وحشي جلده قطناً، وعلّق على باب غرناطة، وبقي معلّقاً سنوات؛ وطلبت النصارى الهدنة، فعقدت لهم بعد أن ملكوا جبل الفتح الذي كان من أعمال سلطان فاس والمغرب، وهو جبل طارق، ولم يزل بأيديهم إلى أن ارتجعه أمير المسلمين أبو الحسن المريني صاحب فاس والمغرب، بعد أن أنفق عليه الأموال، وصرف إليه الجنود والحشود، ونازلته جيوشه مع ولده وخواصه، وضيقوا به، إلى أن استرجعوه ليد المسلمين، واهتم ببنائه وتحصينه، وأنفق عليه أحمال مالٍ في بنائه وحصنه وسوره وأبراجه وجامعه ودوره ومخازنه، ولم كاد يتم ذلك نازله العدوّ برّاً وبحراً، فصبر المسلمون، وخيّب الله سعي الكافرين، فأراد السلطان المذكور أن يحصّن سفح الجبل بسور محيط به من جميع جهاته حتى لا يطمع عدوّ في منازلته، ولا يجد سبيلاً للتضييق عند محاصرته، ورأى الناس ذلك من المحال، فأنفق الأموال، وأنصف العمال، فأحاط بمجموعه إحاطةً
(1) ك: الأسارى.
الهالة الهلال، وكان بقاء هذا الجبل بيد العدوّ نيّفاً وعشرين سنة، حاصره السلطان أبو الحسن ستة أشهر، وزاد في تحصينه ابنه السلطان أبو عنان، ولمّا أجاز السلطان أبو الحسن المذكور إلى الأندلس، واجتمع عليه ابن الأحمر، وقاتلهم الطاغية، هزمهم في وقعة طريف، واستولى على الجزيرة الخضراء، حتى قيّض الله من بني الأحمر الغني بالله محمداً الذي كان لسان الدين بن الخطيب وزيره، فاسترجعها وجملة بلاد كجيّان وغيرها.
وكانت له في الجهاد مواقف مشهورة، وامتدّ ملكه واشتدّ حتى محا دولة سلاطين فاس ممّا وراء البحر، وملك جبل الفتح، ونصر الله الإسلام على يده، كما ستقف عليه في بعض مكاتبات لسان الدين رحمه الله في مواضع من هذا الكتاب، وسعد هذا الغنيّ بالله من العجائب. وبقي ملك الأندلس في عقبه إلى أن أخذ ما بقي من الأندلس العدوّ الكافر واستولى على حضرة الملك غرناطة أعادها الله للإسلام، كما نبين إن شاء الله، وخلت جزيرة الأندلس من أهل الإسلام، وأبدلت من النور بالظلام، حسبما اقتضته الأقدار النافذة والأحكام (1) ، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
[شيخ الغزاة أيام بني الأحمر]
قال ابن خلدون (2) : واتفق بنو الحمر سلاطين غرناطة أن يجعلوا مشيخة الغزاة لواحد يكون من أقارب بني مرين سلاطين المغرب، لأنهم أوّل من ولي الأندلس عند استيلاء بني عمهم على ملك المغرب لما بينهم من المنافسة،
(1) سقطت من ق ط ج.
(2)
في ق: قلت وكان بنو الأحمر (دون ذكر لابن خلدون) . وفي ج: ولقد كان بنو الأحمر
…
يجعلون.
وكان لهؤلاء في الجهاد مواقف مشهورة، وسأذكر لك ما (1) كتب على قبر شيخ الغزاة عثمان بن أبي العلاء لتستدل عند ذلك على ما ذكرناه: بحمد الله تعالى هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال الكماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتائب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، القائم بباب الجنّة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الهمام المجاهد الأرضى، البطل الباسل الأمضى، المقدّس، المرحوم أبي سعيد عثمان ابن الشيخ الجليل الهمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدّس المرحوم أبي العلاء إدريس بن عبد الله بن عبد الحق، كان عمره ثمانياً وثمانين سنة أنفقه ما بين روحة في سبيل الله وغدوة، حتى استوفى في المشهور سبعمائة واثنتين وثلاثين غزوةً، وقطع عمره مجاهداً مجتهداً في طاعة الرب، محتسباً في إدارة الحرب، ماضي العزائم في جهاد الكفّار، مصادماً بين جموعهم تدفّق التيّار، وصنع الله تعالى له فيهم من الصنائع الكبار، ما سار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السّيّار، حتى توفّي رحمه الله وغبار الجهاد طيّ أثوابه، وهو مراقب لطاغية الكفار وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله تعالى إليه، واستأثر يه سعيداً مرتضى، وسيفه على رأس ملك الروم منتضى، مقدّمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً على نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجّت الأندلس لبعده، أتحفه الله تعالى رحمة من عنده، توفّي يوم الأحد الثاني لذي الحجّة من عام ثلاثين وسبعمائة انتهى.
ومنها ما كتب به لسان الدين بن الخطيب رحمه الله في تولية علي ابن بدر الدين مشيخة الغزاة ما نصّه: هذا شيخ الغزاة الذي فتح على الإسلام
(1) ك: منها ما كتب؛ وفي ط بياض. وفي ج: فلنذكر منها.
أبواب السرّاء، وراق طرازاً مذهباً على عاتق الدولة الغرّاء، وأعمل عوامل الجهاد، في طاعة ربّ العباد، شارعةً لأهل الكفر والعناد، من باب الإعمال والإغراء، أمر به فلان صدر صدور أودّائه، وحسامه المشهور على أعدائه، ووليه الذي خبر صدق وفائه، وجلّى في مضمار الخلوص له مغبّراً في وجوه أكفائه، شيخ شيوخ المجاهدين، وقائد كتائبه المنصورة إلى غزو الكافرين المعتدين، وعترته التي يدافع بها عن الدين، وسابق ودّه المبرّز في الميادين، الشيخ الأجل إلى آخر ما وصفه به ممّا ضاق الوقت عن مثله، والله وليّ التوفيق.