الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ليهنكم مجدٌ تليدٌ بنيتم
…
أغار سناه في البلاد وأنجدا ومثله أبقاه الله سبحانه يستثمر إيراقه، فيثمر جناه، ويستمطر إبراقه، فيمطر حياه، لا سيّما وإنّي نشأةٌ حفّها إحسان أولئك الطاهرين، وألفها إنعام أكابرك الأخيار (1) الطيبين، وجديرٌ بقبولك وإقبالك، وبرّك وإجمالك، من أصله ثابت في أهل محبتكم، وفرعه نابت في خاصتكم (2) :
وما رغبتي في عسجد أستفيده
…
ولكنّها في مفخر أستجدّه
فكلّ نوالٍ كان أو هو كائن
…
فلحظة طرفٍ منك عند ندّه
فكن في اصطناعي محسناً كمجرب
…
يبن لك تقريب الجواد وشدّه
إذا كنت في شك من السيف فابله
…
فإمّا تنافيه وإمّا تعدّه
وما الصارم الهنديّ إلا كغيره
…
إذا لم يفارقه النجاد وغمده ولا غرو (3) أن يتطوّل مولاي بغرس الصنيعة في أزكى التراب، ووضع الهناء مكان النّقب (4) ، والله سبحانه يبقي مولاي آخذاً بزمام الفخر، ناهضاً بأعباء البر، مالكاً لأعنّة الدهر، وصنع الله سبحانه لسيدي أتم الصنع وأجمله، وأفضله وأكمله، بمنّه لا ربّ سواه، انتهى.
رجع إلى أخبار المنصور الكبير محمد بن أبي عامر، رحمه الله:
وكنا قد ذكرنا أنّه قبض على الوزير الحاجب المصحفي مع أنّه كان أحد أتباعه.
(1) الأخيار: زيادة من ك.
(2)
هذه الأبيات من قصيدة للمتنبي يمدح بها كافوراً ومطلعها:
أود من الأيام ما لا توده
…
وأشكو إليها بيننا وهي جنده (3) ك: ولا بأس.
(4)
ق ط: مكان النوب؛ وأصله من المثل: " يضع الهناء مواضع النقب "، والهناء: القطران، والنقب: الجرب؛ يعني يضع الشيء موضعه مسدداً مصيباً.
قال صاحب كتاب " روضة الأزهار، وبهجة النفوس ونزهة الأبصار "(1) : ولما مر أمر المنصور بن أبي عامر بسجن المصحفي بالمطبق في الزهراء ودّع أهله وودّعه وداع الفرقة، وقال لهم: لستم ترونني بعدها حيّاً، فقد أتى وقت إجابة الدعوة، وما كنت أرتقبه منذ أربعين سنة، وذلك أنّي أشركت (2) في سجن رجل في عهد الناصر، وما أطلقته إلاّ برؤيا رأيتها بأن قيل لي: أطلق فلاناً فقد أجيبت فيك دعوته، فأطلقته وأحضرته وسألته عن دعوته عليّ، فقال: دعوت على من شارك في أمري أن يميته الله في أضيق السجون، فقلت (3) : إنّها قد أجيبت، فأنّي كنت ممن شارك في امره، وندمت حين لا ينفع الندم، فيروى أنّه كتب للمنصور بن أبي عامر بهذه الأبيات (4) :
هبني أسأت فأين العفو والكرم
…
إذ قادني نحوك الإذعان والنّدم
يا خير من مدّت الأيدي إليه أما
…
ترثي لشيخ نعاه عندك القلم
بالغت في السّخط فاصفح صفح مقتدر
…
إنّ الملوك إذا ما استرحموا رحموا فأجابه المنصور بأبيات لعبد الملك الجزيري:
يا جاهلاً بعدما زلّت بك القدم
…
تبغي التكرّم لمّا فاتك الكرم
ندمت إذا لم تعد منّي بطائلةٍ
…
وقلّما ينفع الإذعان والنّدم
نفسي إذا جمحت ليست براجعةٍ
…
ولو تشفّع فيك العرب والعجم فبقي في المطبق حتى مات، نعوذ بالله تعالى من دعوة المظلوم، انتهى.
وقد ذكر بعضهم هذه الأبيات زيادة حسبما ذكرناه في غير هذا المحل، فإن هذه الأبيات للمنصور، وهذا المؤرخ مصرح بأنها لعبد الملك الجزيري،
(1) لم أتعرف إلى مؤلف هذا الكتاب، ولكن النص منقول عن ابن حيان في الذخيرة 4:50.
(2)
كذا في الأصول، وفي مطبوعة ليدن: شاركت، وفي الذخيرة: أسرفت.
(3)
الذخيرة: فعلمت.
(4)
انظر ما تقدم ص: 407 - 408 والذخيرة 4: 51.
وقد يقال: لا منافاة بينهما، فإن المنصور أجاب بالأبيات، وهل هو قائلها أم لا؟ الأمر أعم (1) ؛ فبيّن هنا، والله أعلم.
وقال بعض مؤرخي المغرب (2) : إن الحاجب المصحفي حصل له في هذه النكبة من الهلع والجزع ما لم يظن أنّه يصدر من مثله، حتى إنّه كتب إلى المنصور ابن أبي عامر يطلب منه أن يقعد في دهليزه معلّماً لأولاده، فقال المنصور بدهائه وحذقه: إن هذا الرجل يريد أن يحط من قدري عند الناس، لأنّهم طالما رأوني بدهليزه خادماً ومسلّماً (3) ، فكيف يرونه الآن في دهليزي معلّماً؟ وكان المنصور يذهب به بعد نكبته معه في غزواته، حتى إنّه حكى بعضهم أنّه رأى الحاجب المصحفي في ليلة نهى المنصور فيها الناس عن إيقاد النيران تعمية على العدوّ الكافر، وهو ينفخ فحماً في كانون صغير ويخفيه تحت ثيابه، أو كما قال، فسبحان مديل الدول، لا إله إلاّ هو، فإن المصحفي بلغ من الجلالة والعظمة والتحكم في الدولة المدة المديدة أمراً لا مزيد عليه، والله وارث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين.
ولقد ذكر بعض العلماء (4) المغاربة أن من أعاجيب انقلاب الدنيا بأهلها قصّة المنصور بن أبي عامر مع الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي. ولم يزل أعداء المنصور بن أبي عامر يتربّصون به الدوائر، فغلب سعده الذي هو المثل السائر، وربما همس بعض الشعراء بهجوه وهجو الدولة جميعاً إذ قال (5) :
اقترب الوعد وحان الهلاك
…
وكلّ ما تحذره قد أتاك
خليفة يلعب في مكتبٍ
…
وأمّه حبلى وقاضٍ يناك
(1) يقترح فليشر أن تقرأ " الأمر أعمى " أي مبهم غامض.
(2)
قارن بما أورد ابن عذاري 2: 399 - 400.
(3)
ج: ومعلماً.
(4)
ك: بعض علماء.
(5)
ابن عذاري: 2: 418.
يعني بالخليفة هشاماً المؤيد لكونه كان صغيراً، وأمّه صبح البشكنسية كان الأعداء يتهمون بها المنصور، وذلك بهتان وزور، وأفظع منه رميهم القاضي بالفجور، والله عالم بسرائر الأمور، ونعوذ بالله من ألسنة الشعراء الذين لا يراعون إلاًّ ولا ذمّة، ويطلقون ألسنتهم في العلماء والأئمة، ومن كان حاسداً لمن بات في نعمائه يتقلّب (1) ، جدير بأن لا يدرك ما يؤمّل ويتطلب، لأنّه يعترض على الله سبحانه في أحكامه، نعوذ بالله من شرّ أنفسنا ومن شرّ كل ذي شرّ، بجاه نبينا عليه أزكى صلوات الله وأفضل سلامه.
وقد قدّمنا أن المنصور بن أبي عامر كان أولاً يخدم جعفر بن عثمان المصحفي مدبر مملكة هشام المؤيد، ويريد النصيحة، وأنّه ما زال يستجلب القلوب بجوده وحسن خلقه، والمصحفي ينفّرها ببخله وسوء خلقه، إلى أن كان من أمره ما كان، فاستولى على الحجابة، وسجن المصحفي، وفي ذلك يقول المصحفي (2) :
غرست قضيباً خلته عود كرمةٍ
…
وكنت عليه في الحوادث قيّما
وأكرمه دهري فيزداد خبثه
…
ولو كان من أصل كريم تكرّما ولما يئس المصحفي من عفو المنصور قال (3) :
لي مدةٌ لا بدّ أبلغها
…
فإذا انقضت أيامها متّ
لو قابلتني الأسد ضاريةً
…
والموت لم يقرب (4) لما خفت
فانظر إليّ وكن على حذرٍ
…
في مثل حالك أمس قد كنت ومن أحسن ما نعى به نفسه قوله حسبما تقدم (5) :
(1) أخذه من قول الشاعر:
وأظلم أهل الأرض من كان حاسداً
…
لمن بات في نعمائه يتقلب (2) الذخيرة: 4: 52.
(3)
الحلة السيراء 1: 267 والذخيرة 4: 51.
(4)
الحلة: لم يقدر؛ الذخيرة: لم يدن.
(5)
انظر ما سبق ص: 593.
صبرت على الأيّام حتى تولّت
…
وألزمت نفسي صبرها فاستمرّت
فوا عجباً للقلب كيف اعترافه
…
وللنّفس بعد العزّ كيف استذلّت
وما النّفس إلاّ حيث يجعلها الفتى
…
فإن طمعت تاقت وإلاّ تسلّت
وكانت على الأيام نفسي عزيزةً
…
فلمّا رأت صبري على الذل ذلّت
فقلت لها يا نفس موتي كريمةً
…
فقد كانت الدنيا لنا ثم ولّت وأنشد له الفتح في المطمح، ونسبهما غيره لأحمد بن الفرج صاحب الحدائق (1) :
كلّمتني فقلت درٌّ سقيطٌ
…
فتأمّلت عقدها هل تناثر
فازداهاها تبسّمٌ فأرتني
…
نظم درّ من التبسّم آخر وله كما مرّ (2) :
صفراء تطرق في الزجاج، فإن سرت
…
في الجسم دبّت مثل صلٍّ لادغ
خفيت على شرّابه فكأنّما
…
يجدون ريّاً من إناء فارغ وله:
يا ذا الذي أودعني سرّه
…
لا ترج أن تسمعه منّي
لم أجره بعدك في خاطري
…
كأنّه ما مرّ في أذني وأنشد له صاحب بدائع التشبيهات (3) :
سألت نجوم الليل هل ينقضي الدّجى
…
فخطّت جواباً بالثّريّا كخطّ لا
(1) الحلة: 260 والتشبيهات واليتيمة ومسالك الأبصار، ولكن لم يوردهما صاحب المطمح.
(2)
الحلة والتشبيهات واليتيمة؛ وقد مرا ص: 594.
(3)
لعل المعنى هنا كتاب الفرائد في التشبيه لابن أبي الحسين القرطبي، والأبيات في الحلة: 259 والتشبيهات لابن الكتاني.
وكنت أرى أنّي بآخر ليلتي
…
فأطرق حتى خلته عاد أوّلا
وما عن هوىً سامرتها، غير أنّني
…
أنافسها المجرى إلى طرق العلا [؟ المصحف العثماني بقرطبة]
رجع: وكان كما تقدم بقرطبة المصحف العثماني، وهو متداول بين (1) أهل الأندلس، قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين، ثم إلى بني مرين، قال الخطيب ابن مروزق في كتابه " المسند الصحيح الحسن " (2) ما ملخصه: وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر (3) إلا ومعه المصحف الكريم العثماني، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، ومقام كبير، وكيف لا؟ قال ابن بشكوال: أخرج هذا المصحف من قرطبة وغرّب منها وكان بجامعها الأعظم، ليلة السبت حادي عشر شوّال سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار: مكّة، والبصرة، والكوفة، والشام. وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيدٌ، وإن يكن أحدها فلعلّه الشامي، قاله ابن عبد الملك.
قال أبو القاسم التجيبي السبتي: أما الشامي فهو باقٍ بمقصورة جامع بني أميّة بدمشق المحروسة، وعاينته هناك سنة 657، كما عاينت المكي بقبة اليهودية، وهو قبة التراب، قلت (4) : عاينتهما مع الذي بالمدينة سنة 735 وقرأت فيها، قال النخعي: لعلّه الكوفي أو البصري. وأقول: اختبرت الذي بالمدينة والذي
(1) ق ط ج ودوزي: وهو متواتر عند.
(2)
أبو عبد الله محمد بن أحمد بن مرزوق التلمساني الأصل (- بعد 780) من أكابر رجالات الدولة المرينية، وسيترجم له المقري ترجمة طويلة وانظر الديباج المذهب: 305 ونيل الابتهاج: 267 وتاريخ ابن خلدون 7: 312 والتعريف بابن خلدون: 49؛ وكتابه هذا في مناقب السلطان العظيم أبي الحسن المريني.
(3)
ك: يسافر موضعاً.
(4)
هذا تعليق ابن مرزوق.
نقل من الأندلس فألفيت خطّهما سواء، وما توهموا أنّه خطّه بيمينه فليس بصحيح، فلم يخطّ عثمان واحداً منها، وإنّما جمع عليها بعضاً من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني، ونص ما على ظهره: هذا ما أجمع عليه جماعة من (1) أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي، وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كتب المصحف، انتهى.
واعتنى به عبد المؤمن بن علي، ولم يزل الموحدون يحملونه في أسفارهم متبركين به، إلى أن حمله المعتضد، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس ابن المنصور، حين توجه لتلمسان آخر سنة 645، فقتل قريباً من تلمسان، وقدّم ابنه إبراهيم، ثم قتل، ووقع النهب في الخزائن، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر، ونهب المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة 737، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف (2) ، وحصل في بلاد برتقال، وأعمل الحيلة في استخلاصه، ووصل إلى فاس سنة 745 على يد أحد تجار أزمّور، واستمر بقاؤه في الخزانة؛ انتهى باختصار.
واعتنى به ملوك الموحدين غاية الاعتناء، كما ذكره ابن رشيد في رحلته، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته، والرسالة في شأن الصحف لما فيها من الفائدة، ونص محل الحاجة منه: أنشدني الخطيب أبو محمد بن برطله من لفظه وكتبته من خطه، قال: أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم عبد الرحمن ابن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى ممّا نظمه، وقد أمر أمير
(1) جماعة من: سقطت من ق.
(2)
كانت وقعة طريف سنة 741 وفيها غلب أبو الحسن المريني، وعاد إلى المغرب مفلولاً صابراً محتسباً يروم الكرة ويرتقب الطائلة (اللمحة البدرية: 93) .
المؤمنين المنصور بتحلية الصحف:
ونفّلته من كل ملك ذخيرة
…
كأنّهم كانوا برسم مكاسبه
فإن ورث الأملاك شرقاً ومغرباً
…
فكم قد أخلّوا جاهلين بواجبه
وكيف يفوت النصر جيشاً جعلته
…
أمام قناه في الوغى وقواضبه
وألبسته الياقوت والدّرّ حليةً
…
وغيرك قد روّاه من دم صاحبه وعلى ذكر هذا المصحف الكريم فلنذكر كيفية الأمر في وصوله إلى الخليفة أمير المؤمنين عبد المؤمن، وما أبدى في ذلك من الأمور الغريبة التي لم يسمع بمثلها في سالف الدهر، حسبما أطرفنا به الوزير الأجلّ أبو زكرياء يحيى بن أحمد بن يحيى بن محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي حفظه الله تعالى وشكره، ممّا استفاده وأفاده لنا ممّا لم نسمع به قبل، عن كتاب جده الوزير أبي بحر ممد بن عبد الملك بن طفيل المذكور، ممّا تضمنه من وصف قصّة المصحف، فقال: وصل إليهم أدام الله سبحانه تأييدهم قمرا الأندلس النيّران، وأميراها المتخيران، السيدان الأجلان أبو سعيد وأبو يعقوب أيدهما الله، وفي صحبتهما مصحف عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه، وهو الإمام الذي لم يختلف فيه مختلف، ومازال ينقله خلف عن سلف، قد حفظ شخصه على كثرة المتناولين، وذخره الله لخليفته المخصوص بمن سخر لخدمته من المتداولين، وله من غرائب الأنباء ومتقدم الإشعار بما آل إليه أمره من الإيماء ما ملئت به الطروس، وتحفظه من أهل الأندلس الرائس والمرؤوس، فتلقّي عند وصوله بالإجلال والإعظام، وبودر إليه بما يجب من التبجيل والإكرام، وعكف عليه أطول العكوف والتزم أشدّ الالتزام، وكان في وصوله ذلك الوقت من عظيم العناية وباهر الكرامة ما هو معتبر لأولي الألباب، وبلاغ في الإغراب والإعجاب، وذلك أن سيّدنا ومولانا الخليفة أمير المؤمنين، أدام الله له عوائد النصر والتمكين، كان قبل ذلك بأيام قد جرى ذكره في خاطر الكريم، وحرّكته إليه دواعي خلقه العظيم
وتراءى مع نفسه المطمئنّة المرضيّة، وسجاياه الحسنة الرضيّة، في معنى اجتلابه من مدينة قرطبة محل مثواه القديم، ووطنه الموصل بحرمته للتقديم، فتوقّع أن يتأذّى أهل ذلك القطر بفراقه، ويستوحشوا لفقدان إضاءته في أفقهم وإشراقه، فتوقف عن ذلك لما جبل عليه من رحمته وإشفاقه، فأوصله الله إليه تحفة سنية، وهدية هنية، وتحيّة من عنده مباركة زكية، دون أن يكدرها من البشر اكتساب، أو يتقدمها استدعاء أو اجتلاب، بل أوقع الله سبحانه وتعالى في نفوس أهل ذلك القطر من الفرح بإرساله إلى مستحقّه، والتبرع به إلى القائم إلى الله تعالى بحقّه، ما اطلع بالمشاهدة والتواتر على صحته وصدقه، وعضدت مخايل برقه سواكب ودقه، وكان ذلك من كرامات سيّدنا ومولانا الخليفة معدوداً، وإلى أمره الذي هو أمر الله مردوداً، وجمع (1) عند ذلك بحضرة مراكش - حرسها الله تعالى - سائر الأبناء الكرام، والسادة الأعلام، بدور الآفاق، وكواكب الإشراق، وأهل الاستئهال للمقامات الرفيعة وذوو (2) الاستحقاق، فانتظم عند ذلك هذا القصيد مشيراً إلى اجتماع هذه الدراري الزاهرة، والتئام خطوطها على مركز الدائرة، ووصول المتقدّم ذكره، المشهور في جميع المعمور أمره (3)، وهو هذا:
دراريّ من نور الهدى تتوقّد
…
مطالعها فوق المجرّة أسعد
وأنهار جودٍ كلّما أمسك الحيا
…
يمدّ بها طامي الغوارب مزبد
وآساد حربٍ غابها شجر القنا
…
ولا لبدةٌ (4) إلاّ العجاج الملبّد
مساعير في الهيجا مساريع (5) للنّدى
…
بأيديهم يحمى الهجير ويبرد
(1) ق: وأجمع.
(2)
وذوو: سقطت من ك.
(3)
ق ط ج: منه.
(4)
ك: ولا لبد.
(5)
ك: مساعير.
تشبّ بهم ناران للحرب والقرى
…
ويجري بهم سيلان جيشٌ وعسجد
وستمطرون البرق والبرق عندهم
…
سيوفٌ على أفق العداة تجرّد
إذا عنّ سجف الساريات مضاؤها
…
فماذا الذي يغني الحديد المسرّد
وسترشدون النجم والنجم عندهم
…
نصولٌ إلى حبّ القلوب تسدّد
تزاحم في جوّ السّماء كأنّما
…
عواملها في الأفق صرحٌ ممرّد
تخازر ألحاظ الكواكب دونها
…
ويفرق منها المرزمان وفرقد
ألم ترها في الأفق خافقة الحشا
…
كما تطرف العينان والقلب يزأد
وليس احمرار الفجر من أثر السّنا
…
ولكنّه ذاك النّجيع المورّد
وما انبسطت كفّ الثريّا فدافعت
…
ولكنّها في الحرب شلوٌ مقدّد
وحطّ سهيلاً ذعره عن سميّه
…
فأضحى على أفق البسيطة يرعد
ولمّا رأى نسرٌ وقوع أليفه
…
تطاير من خوفٍ فما زال يجهد
مواقع أمر الله في كلّ حالةٍ
…
يكاد لها رأس الثرى يتميّد
أهاب بأقصى الخافقين فنظّمت
…
وهيّب جمع المخفقين فبدّدوا
وأضفى على الدّنيا ملابس رحمةٍ
…
نضارتها في كلّ حين تجدّد
وأخضل أرجاء الرّبى فكأنّما
…
عليها من النّبت النضير زبرجد
فمن طربٍ ما أصبح البرق باسماً
…
ومن فرحٍ ما أضحت المزن ترعد
وغنّى على أفنان كل أراكةٍ
…
غذاها حيا النّعمى حمامٌ غرّد
وكبّر ذو نطقٍ وسبّح صامتٌ
…
وكاد به المعدوم يحيا ويوجد
وأبرز للأذهان ما كان غائباً
…
فسيّان فيها مطلقٌ ومقيّد
سلامٌ على المهديّ، أمّا قضاؤه
…
فحتمٌ، وأمّا أمره فمؤكّد
إمام الورى عمّ البسطة عدله
…
على حين وجه الأرض بالجور أبد
بصيرٌ رأى الدّنيا بعينٍ جليةٍ
…
فلم يغنه إلا المقام الممجّد
ولمّا مضى والأمر لله وحده
…
وبلّغ مأمولٌ وأنجز موعد
تردّى أمير المؤمنين رداءه
…
وقام بأمر الله والناس هجّد
بعزمة شيحان الفؤاد مصمّمٍ
…
يقوم به أقصى الوجود ويقعد
مشيئته ما شاءه الله، إنّه
…
إذا همّ فالحكم الإلهيّ يسعد
كتائبه مشفوعةٌ بملائكٍ
…
ترادفها في كلّ حالٍ وترفد
وما ذاك إلاّ نيّةٌ خلصت له
…
فليس له فيما سوى الله مقصد
إذا خطبت راياته وسط محفلٍ
…
ترى قمم الأعداء في التّرب تسجد
وإن نطقت بالفصل فيهم سيوفه
…
أقرّ بأمر الله من كان يجحد
معيد علوم الدين بعد ارتفاعها
…
ومبدي علومٍ لم تكن قبل تعهد
وباسط أنوار الهداية في الورى
…
وقد ضمّ قرص الشمس في الغرب ملحد
وقد كان ضوء الشمس عند طلوعها
…
يغان بأكنان الضلال ويغمد
فما زال يجلو عن مطالعها الصّدا
…
ويبرزها بيضاء والجوّ أسود
جزى الله عن هذا الأنام خليفةً
…
به شريوا ماء الحياة فخلّدوا
وحيّاه ما دامت محاسن ذكره
…
على مدرج الأيام تتلى وتنشد
بمصحف عثمان الشهيد وجمعه
…
تبيّن أنّ الحقّ بالحقّ يعضد
تحامته أيدي الرزم بعد انتسافه
…
وقد كاد ولولا سعده يتبدّد
فما هو إلاّ ان تمرّس صارخٌ
…
بدعوته العليا فصين المبدّد
وجاء وليّ الثأر يرغب نصره
…
فلبّاه منه عزمه المتجرّد
رأى أثر المسفوح في صفحاته
…
فقام لأخذ الثأر منه مؤيّد
وشبّهه بالبدر وقت خسوفه
…
فلله تشبيهٌ له الشرع يشهد
زمان ارتفاع العلم كان خسوفه
…
وقد عاد بالمهديّ والعود أحمد
أتتك أمير المؤمنين ألوكةٌ
…
من الحرم الأقصى لأمرك تمهد
سيوف بني عيلان قامت شهيرةً
…
لدعوتك العلياء تهدي وترشد
وطافت ببيت الله فاشتدّ شوقه
…
إليك ولبّى منه حجرٌ ومسجد
وحجّ إليك الركن والمرو والصّفا
…
فأنت لذاك الحجّ حجٌّ ومقصد
مشاعرها الأجسام والروح أمركم
…
ومنكم لها يرضى البقاء (1) المخلد
فلله حجٌّ واعتمارٌ وزورةٌ
…
أتتنا ولم يبرحك بالغرب مشهد
ولله سبعٌ نيّراتٌ تقارنت
…
بها فئة الإسلام تحمى (2) وتسعد
فدم للورى غيثاً وعزّاً ورحمةً
…
فقربك في الدارين منجٍ ومسعد
وزادت بك الأعياد حسناً وبهجةً
…
كأنّك للأعياد زيٌّ مجدّد
ولا زلت الأيّام تبلي جديدها
…
وعمرك في ريعانه ليس ينفد ثم إنّهم أدام الله سبحانه تأييدهم، ووصل سعودهم، لما أرادوا من المبالغة في تعظيم المصحف المذكور، واستخدام البواطن والظواهر فيما يجب له من التوقير والتعزير (3) ، شرعوا في انتخاب كسوته، وأخذوا في اختيار حليته، وتأنقوا في استعمال أحفظته، وبالغوا في استجادة أصونته، فحشروا له الصّنّاع المتقنين والمهرة المتفنّنين (4) ، ممن كان بحضرتهم العليّة، أو سائر (5) بلادهم القريبة والقصية، فاجتمع لذلك حذّاق كل صناعة، ومهرة كل طائفة من المهندسين والصواغين والنظّامين والحلائين والنقاشين والمرصّعين والنجارين والزواقين والرسامين والمجلدين وعرفاء البنائين، ولم يبق من يوصف ببراعة، أو ينسب إلى الحذق في صناعة، إلا أحضر للعمل فيه، والاشتغال بمعنى من معانيه، فاشتغل أهل الحيل الهندسية بعمل أمثلة مخترعة، وأشكال مبتدعة، وضمّنوها من غرائب الحركات، وخفيّ إمداد الأسباب للمسببات، ما بلغوا فيه منتهى طاقتهم، واستفرغوا فيه جهد قوتهم، والهمة العليّة أدام الله سموها
(1) ك: المقام.
(2)
ك: تحيا.
(3)
ق ط ج: والتعزيز.
(4)
والمهرة المتفننين: سقطت من ك.
(5)
ك: وسائر.
تترقى فوق معارجهم، وتتخلّص كالشهاب الثاقب وراء موالجهم، وتنيف على ما ظنّوه الغاية القصوى من لطيف مدارجهم، فسلكوا من عمل هذه الأمثلة كل شعب، ورأبوا من منتشرها كل شعب، وأشرفوا عند تحقيقها وإبراز دقيقها على كل صعب، فكانت منهم وقفة كادت لها النفس تيأس عن مطلبها، والخواطر تكرّ راجعةً عن خفيّ مذهبها، حتى أطلع الله خليفته في خلقه، وأمينه المرتضى لإقامة حقّه، على وجه انقادت فيه تلك الحركات بعد اعتياصها، وتخلّصت أشكالها عن الاعتراض على أحسن وجوه خلاصها، ألقوا ذلك - أيدّهم الله بنصره، وأمدهم بمعونته ويسره - إلى المهندسين والصنّاع فقبلوه أحسن القبول، وتصوروه بأذهانهم فرأوه على مطابقة المأمول، فوقفهم حسن تنبيهه ممّا جهلوه على طور غريب من موجبات التعظيم، وعلموا أن الفضل لله (1) يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم - وسيأتي بعد هذا إشارة إلى تفصيل تلك الحركات المستغربة، والأشكال المونقة المعجبة، إن شاء الله تعالى؟ ؛ ممّا صنع للمصحف العظيم من الأصونة الغريبة، والأحفظة العجيبة، أنّه كسي كلّه بصوان واحد من الذهب والفضّة ذي صنائع غريبة من ظاهره وباطنه، لا يشبه بعضها بعضاً، قد أجري فيه من ألوان الزجاج الرومي ما لم يعهد له في العصر الأول مثال، ولا عمر قبله بشبهه خاطر ولا بال، وله مفاصل تجتمع إليها أجزاؤه وتلتئم، وتتناسق عندها عجائبه وتنتظم، قد أسلست للتحرّك أعطافها، وأحكم إنشاؤها على البغية وانعطافها، ونظم على صفحته وجوانبه من فاخر الياقوت ونفيس الدّرّ وعظيم الزمرد ما لم تزل الملوك السالفة والقرون الخالية تتنافس في أفراده، وتتوارثه على مرور الزمن وترداده، وتظنّ العز الأقعس، والملك الأنفس، في ادخاره وإعداده، وتسمي الواحد منها بعد الواحد بالاسم العلم لشذوذه في صنفه واتحاده، فانتظم عليه منها ما شاكله زهر الكواكب في تلألؤه
(1) ط: بيد الله.
واتقاده، وأشبهه الروض المزخرف غبّ سماء أقلعت عن إمداده، وأتى هذا الصّوان الموصوف رائق المنظر، آخذاً بمجامع القلب والبصر، مستولياً (1) بصورته الغريبة على جميع الصّور، يدهش العقول بهاء، ويحير الألباب رواء، ويكاد يعشي الناظر تألّقاً وضياء، فحين تمّت خصاله، واستركبت أوصاله، وحان ارتباطه بالمصحف العظيم واتصاله، رأوا - أدام الله تأييدهم، وأعلى كلمتهم - مما رزقهم الله تعالى من ملاحظة الجهات، والإشراف على جميع الثنيات، أن يتلطف فيوجه يكون به هذا الصّوان المذكور طوراً متصلاً، وطوراً منفصلاً، ويتأتّى به للمصحف الشريف العظيم أن يبرز تارة للخصوص متبذّلاً، وتارة للعموم متجمّلاً، إذ معارج الناس في الاستبصار تختلف، وكلّ له مقام إليه ينتهي وعنده يقف، فعمل فيه على شاكلة هذا المقصد، وتلطف في تتميم هذا الغرض المعتمد، وكسي المصحف العزيز بصوان لطيف من السندس الأخضر، ذي حلية خفيفة تلازمه في المغيب والمحضر، ورتب ترتيباً يتأتى معه أن يكسى بالصّوان الأكبر، فيلتئم به التئاماً يغطي على العين من هذا الأثر، وكمل ذلك كلّه على أجمل الصفات وأحسنها، وأبدع المذاهب وأتقنها، وصنع له محمل غريب الصنعة، بديع الشكل والصيغة، ذو مفاصل ينبو عن دقتها الإدراك، ويشتد بها الارتباط بين المفصلين ويصح الاشتراك، مغشىًّ كلّه بضروب من الترصيع، وفنون من النقش البديع، في قطع من الآبنوس والخشب
الرفيع، لم تعمل قطّ في زمان من الأزمان، ولا انتهت قطّ إلى أيسره نوافذ الأذهان، مدار بصنعة قد أجريت في صفائح الذهب، وامتدت امتداد ذوائب الشّهب، وصنع لذلك المحمل كرسي يحمله عند الانتقال، ويشاركه في أكثر الأحوال، مرصّع مثل ترصيعه الغريب، ومشاكل له في جودة التقسيم وحسن الترتيب، وصنع لذلك كلّه تابوت يحتوي عليه احتواء المشكاة على أنوارها،
(1) ط: متولياً.
والصدور على محفوظ أفكارها، مكعب الشكل سامٍ في الطول، حسن الجملة والتفصيل، بالغ ما شاء من التتميم في أوصاله والتكميل، جرٍ مجرى المحمل في التزيين والتجميل، وله في أحد غواربه بابٌ ركبت عليه دفتان قد أحكم إرتاجهما، ويسر بعد الإبهام انفراجهما، ولانفتاح هذا الباب وخروج هذا الكرسي من تلقائه وتركب المحمل عليه، ما دبرت الحركات الهندسيّة، وتلقيت تلك التنبيهات القدسية، وانتظمت العجائب المعنويّة والحسيّة، والتأمت الذخائر النفيسة والنفسيّة، وذلك أن بأسفل هاتين الدفتين فيصلاً فيه موضع قد أعدّ له مفتاح لطيف يدخل فيه، فإذا أدخل ذلك المفتاح فيه وأديرت به اليد انفتح الباب بانعطاف الدفتين إلى داخل الدفتين من تلقائهما، وخرج الكرسي من ذاته بما عليه إلى أقصى غايته، وفي خلال خروج الكرسي يتحرك عليه المحمل حركة منتظمة مقترنة بحركته يأتي بها من مؤخر الكرسي زحفاً إلى مقدمه، فإذا كمل الكرسي بالخروج وكمل المحمل بالتقدم عليه انغلق الباب برجوع الدّفتين إلى موضعهما من تلقائهما دون أن يمسهما أحد، وترتبت هذه الحركات الأربع على حركة المفتاح فقط دون تكلف شيء آخر، فإذا أدير المفتاح إلى خلف الجهة التي أدير إليها أولاً انفتح الباب وأخذ الكرسي في الدخول والمحمل في التأخر عن مقدم الكرسي إلى مؤخره، فإذا عاد كلٌّ إلى مكانه انسدّ الباب بالدفتين أيضاً من تلقائه، كل ذلك يترتب على حركة المفتاح، كالذي كان في حال خروجه، وصحّت هذه الحركات اللطيفة على أسباب ومسبّبات غائبة عن الحس في باطن الكرسي، وهي ممّا يدقّ وصفها، ويصعب ذكرها، أظهرتها بركات هذا الأمر السعيد، وتنبيهات سيّدنا ومولانا الخليفة، أدام الله تعالى أمرهم وأعزّ نصرهم.
وفي خلال الاشتغال بهذه الأعمال التي هي غرر الدهر، وفرائد العمر، أمروا - أدام الله تعالى تأييدهم - ببناء المسجد الجامع بحضرة مراكش - حرسها
الله تعالى - فبدئ ببنيانه (1) وتأسيس قبلته في العشر الأول من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة، وكمل منتصف شعبان المكرم من العام المذكور، على أكمل الوجوه، وأغرب الصنائع، وأفسح المساحة، وأبعد البناء والنجارة، وفيه من شمسيّات الزجاج وحركات (2) المنبر المقصورة ما لو عمل في السنين العديدة لاستغرب تمامه، فكيف في هذا الأمر اليسير الذي لم يتخيّل أحد من الصّنّاع أن يتم فيه فضلاً عن بنائه؟ وصليت في الجمعة منتصف شعبان المذكور، ونهضوا - أدام الله سبحانه تأييدهم - عقب ذلك لزيارة البقعة المكرمة، والروضة المعظمة، بمدينة تينملل (3) أدام الله رفعتها، فأقاموا بها بقية شعبان المكرم، وأكثر شهر رمضان المعظم، وحملوا في صحبتهم المصحف العزيز ومعه مصحف الإمام المهديّ المعلوم رضي الله تعالى عنه في التابوت الموصوف، إذ كان قد صنع له غرفة في أعلاه، وأحكمت فيه إحكاماً كمل به معناه، واجتمع في مشكاته فعاد النور إلى مبتداه، وختم القرآن العزيز في مسجد الإمام المعلوم ختمات كادت لا تحصى لكثرتها، وهنا انتهى ما وجدناه من هذا المكتوب.
ثم قال ابن رشيد - بعد إيراد ما تقدّم - ما صورته: نجزت الرسالة في المصحف العظيم، والحمد لله رب العالمين، انتهى محل الحاجة منه.
[شعر في قرطبة]
وما أحسن قول الشيخ الإمام أبي محمد عبد الحق بن غالب بن عطية (4) يستودع أهل قرطبة:
(1) ك: ببنائه. ط: فبدأ بنيانه.
(2)
ك: ودرجات.
(3)
تينملل: المدينة التي دفن فيها المهدي ابن تومرت.
(4)
أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية المحاربي (- 542) من أهل غرناطة كان واسع المعرفة قوي الأدب متفنناً في العلوم (الصلة: 367 والقلائد: 208 وسيترجم له المقري) .
أستودع الله أهل قرطبة
…
حيث عهدت (1) الحياء والكرما
والجامع الأعظم العتيق ولا
…
زال مدى الدّهر مأمناً حرما وقال أبو الربيع ابن سالم (2) : حدثني بذلك أبو الحسن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري (3) قال: أنشدني أبو محمد بن عطية لنفسه، فذكرهما بعد أن قال: إنّه لما أزمع القاضي أبو محمد بن عطية الارتحال عن قرطبة قصد المسجد الجامع وأنشد (4) البيتين، انتهى.
وقال ابن عطية أيضاً رحمه الله تعالى (5) :
بأربعٍ فاقت الأمصار قرطبةٌ
…
وهنّ قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة،
…
والعلم أكبر شيء وهو رابعها وقد تقدم إنشادنا لهذين البيتين من غير نسبة لأحد (6) .
[أبو المغيرة والجارية]
ومما يدخل في أخبار الزاهرة من غير ما قدمناه ما حكاه عن نفسه الوزير
(1) ك: وجدت.
(2)
أبو الربيع ابن سالم: سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي (- 634) من أجل شيوخ الأندلس علماً وتأليفاً وأولي الحزم والجرأة وافقدام، استشهد بمعركة أنيشة صابراً محتسباً. (راجع ترجمته في الذيل والتكملة 4: 83 والتكملة رقم: 1991 والمرقبة إلعليا: 119 وبرنامج الرعيني: 66 وتحفة القادم: 129 وإعتاب الكتاب: 249 والديباج: 122 وتذكرة الحفاظ: 1417 وسيترجم المقري له في النفح) .
(3)
عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري من أهل قرطبة يعرف بابن أبي له برنامج شيوخ أخذه عنه أبو الربيع ابن سالم وعنه أخذه تلميذه ابن الأبار، ولي القضاء باستجة وكان شيخاً جليلاً معتنياً بصناعة الحديث، توفي بغرب العدوة صادراً عن مراكش سنة 585 (التكملة رقم: 1619) .
(4)
ك: وأنشدني.
(5)
انظر البيتين في ترجمة ابن ربيع الأشعري في التكملة.
(6)
انظر ما تقدم ص: 153.
الكاتب أبو المغيرة بن حزم قال: نادمت يوماً المنصور بن أبي عامر في منية السرور بالزاهرة ذات الحسن النضير، وهي جامعة بين روضة وغدير، فلما تضمخ النهار بزعفران العشيّ، ورفرف غراب الليل الدّجوجيّ، وأسبل الليل جنحه، وتقلّد السّماك رمحه، وهمّ النسر بالطيران، وعام في الأفق زورق الزّبر قان، أوقدنا مصابيح الراح، واشتملنا ملاء الارتياح، وللدّجن فوقنا رواق مضروب فغنتنا عند ذلك جارية تسمى أنس القلوب (1) :
قدم اللّيل عند سير النّهار
…
وبد البدر مثل نصف سوار (2)
فكأنّ النّهار صفحة خدٍّ
…
وكأنّ الظلام خطّ عذار
وكأنّ المؤوس جامد ماء
…
وكأن المدام ذائب نار
نظري قد جنى عليّ ذنوباً
…
كيف مما جنته عيناي اعتذاري؟
يا لقومي تعجّبوا من غزال
…
جائر في محبتي وهو جاري
ليت لو كان لي إليه سبيلٌ
…
فأقضّي من حبّه (3) أوطاري قال: فلمّا أكملت الغناء، أحسست بالمعنى، فقلت:
كيف كيف الوصول للأقمار
…
بين سمر القنا وبيض الشّفار
لو علمنا بأن حبّك حقّ
…
لطلبنا الحياة منك بثار
وإذا ما الكرام همّوا بشيء
…
خاطروا بالنفوس في الأخطار قال: فعند ذلك بادر المنصور لحسامه، وغلظ في كلامه، وقال لها: قولي واصدقي إلى من تشيرين، بهذا الشوق والحنين؟ فقالت الجارية: إن كان الكذب أنجى، فالصدق أحرى وأولى، والله ما كانت إلاّ نظرة، ولّدت في
(1) زاد في ك: وقالت.
(2)
ك: السوار.
(3)
ك: من الهوى.
القلب فكرة، فتكلّم الحب على لساني، وبرّح الشوق بكتماني، والعفو مضمون لديك عند المقدرة، والصفح معلوم منك عند المعذرة؛ ثم بكت فكأن دمعها درٌّ تناثر من عقد، أو طلٌّ تساقط من ورد، وأنشدت:
أذنبت ذنباً عظيماً
…
فكيف منه اعتذاري؟
والله قدّر هذا
…
ولم يكن باختياري
والعفو أحسن شيء
…
يكون عند اقتدار قال: فعند ذلك صرف المنصور وجه الغضب إليّ، وسلّ سيف السخط عليّ، فقلت: أيدك الله تعالى، إنّما كانت هفوةً جرها الفكر، وصبوة أيدها النظر، وليس للمرء إلاّ ما قدر له، لا ما اختاره وأمله. فأطرق المنصور قليلاً ثم عفا وصفح، وتجاوز عنّا وسمح، وخلّى سبيلي، فسكن وجيب قلبي وغليلي، ووهب الجارية لي فبتنا بأنعم ليلة وسجنها فيها للصباذيلة، فلما شمر الليل غدائره، وسل الصباح بواتره، وتجاوبت الأطيار بضروب الألحان، في أعالي الأغصان، انصرفت بالجارية إلى منزلي، وتكامل سروري.
[المأمون والجارية]
قال بعضهم: ذكرتني حكاية أبي المغيرة هذه حكاية قرأتها في النوادر (1) لأبي علي القالي البغدادي حذت في الظرف حذوها، وزهت في الإغراب زهوها، وهي ما أسنده عن منصور البرمكي أنّه كانت للرشيد جارية غلامية وكان المأمون يميل إليها، وهو إذ ذاك أمرد، فوقفت تصبّ على يد الرشيد من إبريق معها، والمأمون [جالس] خلف الرشيد، فأشار إليها [كأنّه] يقبّلها، فأنكرت ذلك بعينها، وأبطأت في الصب على قدر نظرها للمأمون وإشارتها إليه، فقال
(1) انظر القصة في أمالي القالي 1: 222 وما بين معقفين زيادة منه.
الرشيد: ما هذا؟ ضعي الإبريق من يدك، ففعلت، فقال: والله لئن لم تصدقيني لأقتلنك، فقالت: يا سيّدي، أشار إليّ [عبد الله] كأنّه يقبلني، فأنكرت ذلك عليه، فالتفت إلى المأمون فنظر إليه كأنّه ميت لما داخله من الجزع والخجل، فرحمه وضمه إليه، وقال: يا عبد الله، أتحبّها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: هي لك فاخل بها في تلك القبة، ففعل، ثم قال له: هل قلت في هذا الأمر شيئاً؟ فقال: نعم يا سيدي، ثم أنشد:
ظبيٌ كتبت بطرفي
…
من الضمير إليه
قبلته من بعيدٍ
…
فاعتلّ من شفتيه
وردّ أخبث ردّ
…
بالكسر من حاجبيه
فما برحت مكاني
…
حتى قدرت عليه وفي هذا المعنى يقول بعض البلغاء: اللحظ، يعرب عن اللفظ، وقال آخر: رب كناية تغني عن إيضاح، ورب لفظ يدل على ضمير، ونظمه الشاعر فقال:
جعلنا علامات المودّة بيننا
…
دقائق لحظٍ هنّ أمضى من السّحر
فأعرف منها الوصل في لين لحظها
…
وأعرف منها الهجر بالنظر الشزر وفي هذا قال بعض الحكماء: العين باب القلب، فما في القلب ظهر في العين، وقال الشاعر:
العين تبدي الذي في نفس صاحبها
…
من المحبّة أو بغضٍ إذا كانا
فالعين تنطق والأفواه صامتة
…
حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
[ترجمة أبي المغيرة من المطمح]
وأبو المغيرة ابن حزم قال في حقه في المطمح ما نصّه (1) : الوزير الكاتب أبو المغيرة عبد الوهّاب بن حزم، وبنو حزم فتية علم وأدب، وثنيّة مجد وحسب، وأبو المغيرة هذا في الكتابة أوحد، لا ينعت ولا يحد، وهو فارس المضمار، حامي ذلك الذّمار، وبطل الرّعيل، وأسد ذلك الغيل، ونسق المعجزات، وسبق في المعضلات الموجزات، إذا كتب وشّى المهارق ودبّج، وركب من بحر البلاغة الثّبج، وكان هو وأبو عامر ابن شهيد خليلي صفاء، وحليفي وفاء، لا ينفصلان في رواح (2) ولا مقيل، ولا يفترقان كمالك وعقيل (3) ، وكانا بقرطبة رافعي ألوية الصّبوة، وعامري أندية السلوة، إلى أن اتّخذ (4) أبو عامر في حبالة الردى وعلق، وغدا رهنه فيها قد غلق (5) ، فانفرد أبو المغيرة بذلك الميدان، واستردّ من سبقه ما فاته منذ زمان، فلم تذكر له مع أبي عامر حسنة، ولا سرت له فقرة مستحسنة، لتعذر ذلك وامتناعه، بشفوف أبي عامر وامتداد باعه، وأمّا شعر أبي المغيرة فمرتبط بنثره، ومختلط زهره بدرّه (6) ، وقد أثبتّ له منها فنوناً، تجن بها الأفهام جنوناً، فمن ذلك قوله:
ظعنت وفي أحداجها من شكلها
…
عينٌ فضحن بحسنهنّ العينا
(1) المطمح: 22؛ قلت وانظر ترجمة أبي المغيرة عبد الوهاب بن أحمد بن حزم في الذخيرة 1/1: 110 والصلة: 374 والمغرب 1: 357 والجذوة: 273 وبغية الملتمس رقم: 1110؛ وتوفي أبو المغيرة بطليطلة 438.
(2)
ق ك ط ج: رواد.
(3)
مالك وعقيل: نديما جذيمة بن الأبرش ويضرب بهما المثل في عدم الافتراق، قال أبو خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا
…
خليلاً صفاء مالك وعقيل (4) المطمح: أخذ.
(5)
ك: وغلق.
(6)
المطمح: ومختلط بزهره.
ما أنصفت في جنب توضح إذ قرت
…
ضيف الوداد بلابلاً وشجونا
أضحى الغرام قطين ربع فؤاده
…
إذ لم يجد بالرقمتين (1) قطينا وله:
لمّا رأيت الهلال منطوياً
…
في غرّة الفجر قارن الزّهره
شبّهته والعيان يشهد لي
…
بصولجان أوفى (2) لضرب كره [ترجمة ابن شهيد من المطمح]
وأبو عامر ابن شهيد المذكور قال في حقّه ما صورته (3) :
الوزير أبو عامر أحمد بن عبد الملك بن شهيد الأشجعي، عالم بأقسام البلاغة ومعانيها، حائز قصب السبق فيها، لا يشبهه أحد من أهل زمانه، ولا ينسق ما نسق من درّ البيان وجمانه، توغل في شعاب البلاغة وطرقها، وأخذ على متعاطيها ما بين مغربها ومشرقها، لا يقاومه عمرو بن بحر، ولا تراه يغترف إلا من بحر، مع انطباع، مشى في طريقه بأمدّ باع، وله الحسب المشهور، والمكان الذي لم يعده للظهور (4) ، وهو من ولد الوضّاح، المتقلّد تلك المفاخر والأوضاح، صاحب الضحّاك (5) يوم المرج، وراكب ذلك الهرج، وأبو عامر حفيده هذا من ذلك النسب، ونبع لا يراش إلا من ذلك الغرب (6) ، وقد أثبتّ له ما هو بالسحر لاحق، ولنور المحاسن ما حق، فمن ذلك قوله (7) :
(1) ق: بالرقتين.
(2)
في الأصول: انثنى، وأثبتنا ما في الجذوة.
(3)
المطمح: 19.
(4)
ك: الظهور.
(5)
ق ك ط ج: والضحاك صاحب.
(6)
ق ط ج: مع ذلك الغرب؛ ك: من ذلك الزغب.
(7)
ديوانه: 164.
إنّ الكريم إذا نابته مخمصةٌ
…
أبدى إلى الناس ريّاً وهو ظمآن
يحني الضلوع على مثل اللّظى حرقاً
…
والوجه غمرٌ بماء البشر ريّان (1) وهو مأخوذ من قول الرضى (2) :
ما إن رأيت كمعشرٍ صبروا
…
عزّاً على الأزلات والأزم
بسطوا الوجوه وبين أضلعهم
…
حرّ الجوى ومآلم الكلم وله أيضاً (3) :
كلفت بالحبّ حتى لو دنا أجلي
…
لما وجدت لطعم الموت من ألم
كلا النّدى والهوى قدماً ولعت به
…
ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم وأخبرني الوزير أبو الحسين (4) بن سراج - وهو بمنزل ابن شهيد - وكان من البلاغة في مدى غاية البيان، ومن الفصاحة في أعلى مراتب التبيان، وكنا نحضر مجلس شرابه، ولا نغيب عن بابه (5) ، وكان له بباب الصّومعة من الجامع موضع لا يفارقه أكثر نهاره، ولا يخليه من نثر درره وأزهاره، فقعد في ليلة 27 من رمضان في لمة من إخوانه، وأئمّة سلوانه، وقد حفّوا به ليقطفوا نخب أدبه، وهو يخلط لهم الجدّ بهزل، ولا يفرط في انبساط مشتهر ولا انقباض جزل، وإذا بجارية من أعيان أهل قرطبة معها من جواريها، من يسترها ويواريها، وهي ترتاد موضعاً لمناجاة ربها، وتبتغي منزلاً لاستغفار
(1) ق ط ج: ملآن.
(2)
ديوان الرضى 2: 422 مع اختلاف في بعض الرواية.
(3)
ديوان ابن شهيد: 148.
(4)
ق ك ج ط: أبو الحسن.
(5)
في طبعة ليدن أن في أصول المطمح هنا: " أن منزل أبي عامر بن شهيد كان منتدى الأعيان ومسرى البيان، وكان كل شاعر أو كاتب منه بين صلة أو راتب، وكانوا يحضرون مجلس شرابه ولا ينفصلون ساعة عن بابه " وهذه العبارة غير موجودة في المطمح المطوع.
ذنبها، وهي متنقبة، خائفة ممن يرقبها مترقبة، وأمامها طفل لها كأنّه غصن آس، أو ظبي يمرح في كناس، فلمّا وقعت عينها على أبي عامر ولّت سريعة، وتولت مروعة، خيفة أن يشبب بها، أو يشهرها باسمها، فلمّا نظرها، قال قولاً فضحها به وشهرها (1) :
وناظرةٍ تحت طيّ القناع
…
دعاها إلى الله بالخير داعي
سعت خفيةً تبتغي منزلاً
…
لوصل التبتّل والانقطاع
فجاءت تهادى كمثل الرّؤوم
…
تراعي (2) غزالاً بروض اليفاع (3)
وجالت بوضعنا (4) جولةً
…
فحلّ الربيع بتلك البقاع
أتتنا تبختر في مشيها
…
فحلّت بواد كثير السّباع
وريعت حذاراً على طفلها
…
فناديت يا هذه (5) لا تراعي
غزالك تفرق منه الليوث
…
وتفزع منه كماة (6) المصاع
فولت وللمسك في ذيلها
…
على الأرض خطٌّ كظهر الشّجاع انتهى المقصود منه.
[استيلاء المعتمد على قرطبة]
رجع: وممّا ينخرط في سلك أخبار الزهراء ما حكاه الفتح في ترجمة المعتمد ابن عباد إذ قال (7) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (8) بن سراج أنّه حضر مع
(1) انظر الديوان: 94 وبدائع البدائه 2: 108.
(2)
دوزي: تناغي.
(3)
ق ط ج: البقاع.
(4)
البدائع: بأكنافه.
(5)
البدائع: فقلت أيا هذه.
(6)
البدائع: وتهرب منه أسود.
(7)
قلائد العقيان: 10.
(8)
القلائد وق ط ج: ابو الحسن؛ وفي ك: أحمد بن سراج.
الوزراء والكتّاب بالزهراء في يوم قد غفل عنه الدهر فلم يرمقه بطرف، ولم يطرقه بصرف، أرّخت به المسرات عهدها، وأبرزت له الأماني خدّها (1) ، وأرشفت فيه لماها، وأباحت للزائرين حماها، وما زالوا ينقلون من قصر إلى قصر، ويبتذلون الغصون بجنىً وهصر، ويتوقّلون (2) في تلك الغرفات، يتعاطون الكؤوس بين تلك الشّرفات، حتى استقروا بالروض من بعد ما قضوا من تلك الآثار أوطاراً، وأوقروا (3) بالاعتبار قطاراً، فحلّوا منها في درانك ربيع مفوّفة بالأزهار، مطرّزة بالجداول والأنهار، والغصون تختال في أدواحها، وتتثنى في أكفّ أرواحها، وآثار الديار قد أشرفت عليهم كثكالى ينحن على خرابها، وانقراض أطرابها (4) ، والوهي بمشيدها لاعب، وعلى كل جدارٍ غرابٌ ناعب، وقد محت الحوادث ضياءها، وقلصت ظلالها وأفياءها، وطالما أشرقت بالخلائف وابتهجت، وفاحت من شذاهم وأرجت (5) ، أيام نزلوا خلالها وتفيأوا ظلالها، وعمروا حدائقها وجنّاتها، ونبّهوا الآمال من سناتها، وراعوا الليوث في آجامها، وأخجلوا الغيوث عند انسجامها (6) ، فأضحت ولها بالتداعي تلفّع واعتجار، ولم يبق من آثارها إلا نؤيٌ وأحجار، قد وهت قبابها، وهرم شبابها، وقد يلين الحديد، ويبلى على طيّه الجديد، فبينما هم يتعاطونها صغاراً وكباراً، ويديرونها أنساً واعتباراً، إذا برسول المعتمد قد وافاهم برقعة مكتوب (7) فيها:
حسد القصر فيكم الزهراء
…
ولعمري وعمركم ما أساء
(1) ك: خدها ونهدها.
(2)
ك: وينتقلون.
(3)
دوزي: ووفروا. وفي ك ق ط ج: ووقروا.
(4)
ك: أترابها وأطرابها.
(5)
ك: وتأرجت.
(6)
ك: في انسجامها.
(7)
مكتوب: سقطت من ك؛ ط: فيها مكتوب.
قد طلعتم بها شموساً صباحاً
…
فاطلعوا عندنا بدوراً مساء فساروا إلى قصر البستان بباب العطارين فألفوا مجلساً قد حار فيه الوصف، واحتشد فيه اللهو والقصف، وتوقدت نجوم مدامه، وتأوّدت قدود خدّامه، وأربى على الخورنق والسّدير، وأبدى صفحة البدر من أزرار المدير، فأقاموا ليلتهم ما عراهم (1) نوم، ولا عداهم عن طيب اللذات سوم، وكانت قرطبة منتهى أمله، وكان روم أمرها أشهى عمله، ومازال يخطبها بمداخلة أهليها، ومواصلة واليها، إذ لم يكن في منازلتها قائد، ولم يكن لها إلاّ حيل ومكائد، لاستمساكهم بدعوة خلفائها، وأنفتهم من طموس رسوم الخلافة وعفائها، وحين اتفق له تملّكها، وأطلعه فلكها، وحصل في قطب دائرتها (2) ، ووصل إلى تدبير رياستها وإدارتها، قال (3) :
من للملوك بشأو الأصيد البطل؟
…
هيهات جاءتكم مهديّة الدّول
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت
…
من جاء يخطبها بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها
…
فأصبحت في سريّ الحلي والحلل
عرس الملوك لنا في قصرها عرسٌ
…
كلّ الملوك بها في مأتم الوجل
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم
…
هجوم ليثٍ بدرع البأس مشتمل ولمّا انتظمت في سلكه، واتّسمت بملكه، أعطى ابنه الظافر زمامها، وولاه نقضها وإبرامها، فأفاض فيها نداه، وزاد على أمده ومداه، وجمّلها بكثرة حبائه، واستقل بأعبائها على فتائه (4) ، ولم يزل فيها آمراً وناهياً، غافلاً عن المكر ساهياً، حسن ظنٍّ بأهلها اعتقده، واغتراراً بهم ما رواه ولا انتقده،
(1) القلائد: ما طرقهم.
(2)
ط ق ج: دارتها.
(3)
ديوان المعتمد: 65.
(4)
القلائد: واشتغل بأعبائها عن فنائه.
وهيهات كم من ملك كفّنوه في دمائه، ودفنوه بذمائه، كم من عرشٍ ثلّوه (1) ، وكم من عزيز ملك أذلوه، إلى أن ثار فيها ابن عكاشة ليلاً، وجرّ إليها حرباً وويلاً، فبرز الظافر منفرداً عن كماته، عارياً من حماته، وسيفه في يمينه، وهاديه في الظلماء نور جبينه، فإنّه كان غلاماً كما بلله (2) الشباب بأندائه، وألحفه الحسن بردائه، فدافعهم أكثر ليله، وقد منع منه تلاحق رجله وخيله، حتى أمكنتهم منه عثرة لم يقل لها لعا، ولا استقل منها (3) ولا سعى، فترك ملتحفاً بالظلما (4) ، تحت نجوم السما (5) ، معفّراً في وسط الحمى (6) ، تحرسه الكواكب، بعد المواكب، ويستره الحندس، بعد السندس، فمرّ بمصرعه سحراً أحد أئمّة الجامع المغلّسين، فرآه وقد ذهب ما كان عليه ومضى، وهو أعرى من الحسام المنتضى، فخلع رداءه عن منكبيه ونضاه، وستره به ستراً أقنع المجد به وأرضاه، وأصبح لا يعلم رب تلك الصنيعة، ولا يعرف فتشكر له يده الرفيعة، فكان المعتمد إذا تذكر صرعته، وسعّر الحزن لوعته، رفع بالعويل نداءه، وأنشد:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه (7)
…
ولمّا كان من الغد حزّ رأسه ورفع على سن رمح وهو يشرق كنار على علم، ويرشق نفس كل ناظر بألم، فلمّا رمقته الأبصار، وتحققته الحماة والأنصار، رموا أسلحتهم، وسوّوا للفرار أجنحتهم، فمنهم من اختار فراره وجلاه، ومنهم من أتت به إلى حينه رجلاه، وشغل المعتمد عن رثائه بطلب
(1) ط: فلوه.
(2)
ك: قد بلله.
(3)
ك: استقال منها؛ ق: انتقل منها.
(4)
ق ك ط: في الظلما؛ ج: ملتفعاً في الظلما.
(5)
تحت نجوم السما: ساقطة من القلائد.
(6)
ك: وسط اكما؛ ط: الجما.
(7)
صدر بيت لأبي خراش الهذلي، وعجزه:" على أنه قد سل عن ماجد محض ".
ثاره، ونصب الحبائل لوقوع ابن عكاشة وعثاره، وعدل عن تأبينه، إلى البحث عن مفرقه وجبينه، فلم تحفظ له فيه قافية، ولا كلمة للوعته شافية، إلاّ إشارته إليه في تأبين أخويه، المأمون والراضي المقتولين في أول النائرة، والفتنة الثائرة، انتهى.
[ذكر المتنزهات في سياق التراجم]
وقد رأيت أن أزيد على ما تقدم - ممّا قصدت جلبه في هذا لموضع - نبذة من كلام الفتح في ذكر منتزهات قرطبة وغيرها من بلاد الأندلس، ووصف مجالس الأنس التي كانت بها ممّا تنشرح له الأنفس، ووقع ذكر غير قرطبة والزهراء لهما تبعاً، ولا يخلو ذلك من عبرة بحال من جعل في اللهو مصيفاً ومرتبعاً، ثم طواه الدهر طيّ السجلّ، ومحا آثاره التي كانت (1) تسمو وتجلّ، وما قصدنا علم الله غير الاعتبار، بهذه الأخبار، لا الحث على الحرام، وتسهيل القصد إليه والمرام، والأعمال بالنيات، والله سبحانه كفيل بفضله وكرمه ببلوغ الأمنيات، وتعويضنا عن هذه النعم الفانيات، بالنعم الباقيات السنيّات.
[1 - من ترجمة ابن زيدون في القلائد]
قال الفتح رحمه الله تعالى في ترجمة الوزير أبي الوليد بن زيدون، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو الحسين (3) بن سراج رحمه الله تعالى أنّه في وقت فراره أضحى، غداة الأضحى، وقد ثار به الوجد بمن كان يألفه والغرام، وتراءت لعينيه تلك الظّباء الأوانس والآرام، وقد كان الفطر وافاه،
(1) كانت: سقطت من ق ط ج.
(2)
القلائد: 72.
(3)
ق ك ج: أبو الحسن.
والشقاء قد استولى على رسم عافيته حتى عفاه (1) ، فلمّا عاده منهما ما عاد، وأعياه ذلك النكد المعاد، استراح إلى ذكر عهده الحسن، وأراح جفونه المسهّدة بتوهم ذلك الوسن، وذكر معاهد كان يخرج إليها في العيد، ويتفرج بها مع أولئك الغيد، فقال (2) :
خليليّ لا فطرٌ يسرّ ولا أضحى
…
فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى
لئن شاقني شرق العقاب فلم أزل
…
أخصّ بممحوض الهوى ذلك السّفحا
وما انفكّ جوفيّ الرّصافة مشعري
…
دواعي بثٍّ تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسيّ صبابةً
…
لقلبي لا يألو زناد الأسى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح
…
فأقبل في فرط الولوع به نصحا
كأنّي لم أشهد لدى عين شهدةٍ
…
نزال عتابٍ كان آخره الفتحا
وقائع جانيها التجنّي فإن مشى
…
سفير خضوعٍ بيننا أكّد الصّلحا
وأيّام وصلٍ بالعقيق اقتضيته
…
فإن لم يكن ميعاده العيد فالفصحا
وآصال لهوٍ في مسنّاة مالكٍ
…
معاطاة ندمانٍ إذا شئت أو سبحا
لدى راكدٍ تصبيك من صفحاته
…
قوارير خضرٌ خلتها مرّدت صرحا
معاهد لذّاتٍ وأوطان صبوةٍ
…
أجلت المعلّى في الأماني بها قدحا
ألا هل إلى الزهراء أوبة نازحٍ
…
تقضّى تنائيها مدامعه نزحا
مقاصير (3) ملكٍ أشرقت جنباتها
…
فخلنا العشايا الجون أثناءها صبحا
يمثّل قرطيها لي الوهم جمرةً
…
فقبّتها فالكوكب الجون (4) فالسّطحا
؟ محلّ ارتياح يذكر الخلد طيبه
…
إذا عزّ أن يصدى الفتى فيه أو يضحى
(1) في الأصول: أعفاه.
(2)
انظر ديوان ابن زيدون: 158.
(3)
في الأصول: مقاصر.
(4)
القلائد: الرحب.
هناك الجمام الزّرق تندى حفافها
…
ظلالٌ عهدت الدّهر فيها فتىً سمحا
تعوّضت (1) من شدو القيان خلالها
…
صدى فلواتٍ قد أطار الكرى صبحا
ومن حملي الكأس المفدّى مديرها
…
تقحّم أهوال حملت لها الرمحا
أجل إنّ ليلي فوق شاطئ بيطة (2)
…
لأقصر من ليلي بآنة فالبطحا وهذه معاهد بني أمية قطعوا بها ليالي وأياماً، ظلّت فيها الحوادث عنهم نياماً، فهاموا بشرق العقاب، وشاموا به برقاً يبدو من نقاب، ونعموا بجوفيّ الرّصافة، وطعموا عيشاً تولى الدهر جلاءه وزفافه، وأبعدوا نصح الناصح، وحمدوا أنس مجلس ناصح، وعموا بالزهراء، وصمّوا عن نبإ صاحب الزوراء، حتى رحلهم الموت عنها وقوّضهم، وعوّضهم منها ما عوّضهم، فصاروا أحاديث وأنباء، ولم يتزودوا منها إلاّ حنوطاً وكباء، وغدت تلك المعاهد تصافحها أيدي الغير، وتناوحها نعبات الطير، وراحت بعد الزينة سدى، وأمست مسرحاً للبوم وملعباً للصّدى، يسمع للجنّ بها عزيف، ويصرع فيها البطل الباسل والنزيف، وكذا الدنيا أعمالها خراب، وآمالها (3) آلٌ وسراب، أهلكت أصحاب الأخدود، وأذهبت ما كان بمأرب من حيازات وحدود، انتهى.
وقال الفتح بعد كلام ما صورته (4) : ولما عضّته ناب الاعتقال، ورضّته تلك النّوب الثقال، وعوّض بخشانة العيش من اللين، وكابد قسوة خطبٍ لا تلين، وتذكّر عهد عيشه الرقيق، ومرحه بين الرّصافة والعقيق، وحنّ إلى سعد زرّت عليه جيوبه، واستهدى نسيم عيشٍ طاب له هبوبه، وتأسّى بمن
(1) ط: تعرضت.
(2)
ق ك ج: نيطة؛ ط: ليطة.
(3)
ك ط: ومآلها.
(4)
القلائد: 77.
باتت له النوائب بمرصاد، ورمته بسهامٍ ذات إقصاد [وضيم من عهد الأحصّ إلى ذات الإصاد] (1) فقال (2) :
الهوى في طلوع تلك النجوم
…
والمنى في هبوب ذاك النّسيم
سرّنا عيشنا الرقيق الحواشي
…
لو يدوم السرور للمستديم
وطرٌ ما انقضى إلى أن تقضّى
…
زمنٌ ما ذمامه بالذّميم
أيّها المؤدني بظلم اللّيالي
…
ليس يومي بواحدٍ من ظلوم
ما ترى البدر إن تأمّلت والشم
…
س هما يكسفان دون النجوم
وهو الدّهر ليس ينفكّ ينحو
…
بالمصاب العظيم نحو العظيم وقال الفتح أيضاً في شأن ابن زيدون، ما صورته (3) :
ولما تعذر انفكاكه (4) ، وعفّر فرقده وسماكه، وعادته الأوهام والفكر، وخانه من أبي الحزم الصارم الذّكر، قال يصف ما بين مسرّاته وكروبه، ويذكر بعد طلوع أمله (5) من غروبه، ويبكي لما هو فيه من التعذير، ويعذر أبا الحزم وليس له غيره من عذير، ويتعزى بإنحاء (6) الدهر على الأحرار، وإلحاحه على التمام بالسّرار، ويخاطب ولاّدة بوفاء عهده، ويقيم لها البراهين على أرقه وسهده (7) :
(1) ما بين معقفين زيادة ليست في ق ك؛ والذي ضيم في الأحص وذات الأصاد هم بنو مرة أولاً ثم ثأروا بقتل كليب.
(2)
ديوان ابن زيدون: 278.
(3)
القلائد: 76.
(4)
القلائد: فكاكه.
(5)
ك: سعده.
(6)
ك: باخناه.
(7)
القلائد: 77 وديوان ابن زيدون: 250.
ما جال بعدك لحظي في سنا القمر
…
إلا ذكرتك ذكر العين بالأثر
ولا استطلت ذماء اللّيل من أسفٍ
…
إلاّ على ليلةٍ سرّت مع القصر
في نشوةٍ من شباب الوصل (1) موهمةٍ
…
أن لا مسافة بين الوهن والسّحر
يا ليت ذاك السّواد الجون متّصل
…
قد استعار سواد القلب والبصر
يا للرّزايا لقد شافهت منهلها
…
غمراً فما أشرب المكروه بالغمر
لا يهنإ الشّامت المرتاح خاطره
…
أنّي معنّى الأماني ضائع الخطر
هل الرياح بنجم الأرض عاصفة
…
أم الكسوف لغير الشمس والقمر
إن طال في السجن إيداعي فلا عجب
…
قد يودع الجفن حدّ الصارم الذّكر
وإن يثبّط أبا الحزم الرضى قدر
…
عن كشف ضرّي فلا عتب على القدر
من لم أزل من تأنّيه (2) على ثقةٍ
…
ولم أبت من تجنّيه على حذر وله يتغزل، ويعاتب من يستعطفه ويتنزل (3) :
يا مستخفّاً بعاشقيه
…
ومستغشّاً لناصحيه
ومن أطاع الوشاة فينا
…
حتى أطعنا السّلوّ فيه
الحمد لله إذ أراني
…
تكذيب ما كنت تدّعيه
من قبل أن يهزم التّسلّي
…
ويغلب الشوق ما يليه وما أحسن قول ابن زيدون المذكور في قصيدته النونية الشهيرة:
(1) الذخيرة والقلائد: سنات الدهر.
(2)
ك: من تدانيه؛ الديوان: تأتيه.
(3)
الديوان: 190.
غيظ (1) العدا من تساقينا الهوى فدعوا
…
بأن نغصّ فقال الدّهر آمينا [موشحة ابن الوكيل]
ومن أغرب (2) ما وقفت عليه موشّحى لابن الوكيل دخل فيها على أعجاز نونية ابن زيدون، وهي:
غدا منادينا محكّماً فينا
…
يقضي علينا الأسى لولا تأسّينا
بحر الهوى يغرق
…
من فيه جهده عام
وناره تحرق
…
من همّ أو قد هام
وربّما يقلق
…
فتىً عليه نام
قد غيّر الأجسام وصيّر الأيّام
…
سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
يا صاحب النّجوى
…
قف واستمع مني
إيّاك أن تهوى
…
إنّ الهوى يضني
لا تقرب البلوى
…
اسمع وقل عنّي
بحاره مرّه خضنا على غرّه
…
حيناً فقام بها للنّعي ناعينا
من هام بالغيد
…
لاقى بهم همّا
بذلت مجهودي
…
لأحورٍ ألمى
يهمّ بالجود
…
وردّ ما همّا
(1) ك: غص.
(2)
ق: ومن غريب.
وعندما قد جاد بالوصل أو قد كاد
…
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا
بحقّ ما بيني
…
وبينكم إلا
أقررتم عيني
…
فتجمعوا الشّملا
فالعين بالبين
…
بفقدكم أبلى
جديد ما قد كان بالأهل والإخوان
…
ومورد اللهو صافٍ من تصافينا
يا جيرةً بانت
…
عن مغرم صبّ
لعهده خانت
…
من غير ما ذنب
ما هكذا كانت
…
عوائد العرب
لا تحسبوا البعدا يغيّر العهدا
…
إذ طالما غيّر النأي المحبينا
يا نازلاً بالبان
…
بالشّفع والوتر
والنمل والفرقان
…
والليل آذا يسر
وسورة الرحمن
…
والنحل والحجر
هل حل في الأديان أن يقتل الظمآن
…
من كان صرف الهوى والود يسقينا
يا سائل القطر
…
عرّج على الوادي
من ساكني بدر
…
وقف بهم نادي
عسى صباً تسري
…
لمغرم صادي
إن شئت تحيينا بلّغ تحيينا
…
من لو على البعد حيّاً كان يحيينا
وافت لنا أيام
…
كأنّها أعوام
وكان لي أعوام
…
كأنّها أيّام
تمرّ كالأحلام
…
بالوصل لي لو دام
والكأس مترعة حثّت مشعشعة
…
فينا الشّمول وغنّانا مغنّينا
[2 - من ترجمة بني القبطورنة]
رجع إلى ما يتعلّق بقرطبة: قال الوزير أبو بكر بن القبطرنة، يخاطب الوزير أبا الحسين ين سراج، ويذكر لمّةً من إخوانه بقرطبة (1) :
يا سيّدي وأبي هوىً وجلالةً
…
ورسول ودّي إن طلبت رسولا
عرّج بقرطبةٍ ولذ إن جئتها (2)
…
بأبي الحسين وناده تمويلا (3)
فإذا سعدت بنظرة من وجهه
…
فاهد السلام لكفّه تقبيلا
واذكر له شكري وشوقي مجملاً
…
ولو استطعت شرحته (4) تفصيلا
بتحيّةٍ تهدى إليه كأنّما
…
جرّت على زهر الرياض ذيولا
وأشمّ منها المصحفيّ على النّوى
…
نفساً ينسّي السوسن المبلولا
وإلى أبي مروان منه نفحة
…
تهدي له نور الرّبى مطلولا
وإذا لقيت الأخطبيّ فسقّه
…
من صفو ودّي قرقفاً وشمولا
وأبو عليٍّ سقّ (5) منها ربعه
…
مسكاً بماء غمامة محلولا
واذكر لهم زمناً يهبّ نسيمه
…
أصلاً كنفث الراقيات عليلا
مولىً ومولي نعمةٍ وكرامة
…
وأخا إخاء مخلصاً وخليلا
(1) مر بعض هذه الأبيات فيما تقدم ص: 156 وانظر القلائد: 152.
(2)
ق ط ج: إن أنت بلغتها.
(3)
ك: تعويلا؛ والتمويل: أن تقول " يا مولاي ".
(4)
ك: سردته.
(5)
القلائد: وأبا علي بل.
بالحير ما عبست هناك غمامة
…
إلاّ تضاحك إذخراً وجليلا
يوماً وليلاً كان ذلك كلّه
…
سحراً وهذا بكرةً وأصيلا
لا أدركت تلك الأهلّة دهرها
…
نقصاً ولا تلك النجوم أفولا قال أبو نصر: الحير الذي ذكره هنا حير الزّجّالي خارج باب اليهود بقرطبة الذي يقول فيه أبو عامر بن شهيد (1) :
لقد أطلعوا عند باب اليهود
…
شمساً أبى الحسن أن تكسفا
تراه اليهود على بابها
…
أميراً فتحسبه يوسفا وهذا الحير من أبدع المواضع وأجملها، وأتمها حسناً وأكملها، صحنه مرمر صافي البياض، يخترقه جدول كالحيّة النّضناض، به جابية، كل لجّة بها كابية، قد قربصت بالذهب واللازورد سماؤه، وتأزّرت بهما جوانبه وأرجاؤه، والروض قد اعتدلت أسطاره، وابتسمت من كمائمها أزهاره، ومنع الشمس أن ترمق ثراه، وتطّر النسيم بهبوبه عليه ومسراه، شهدت له ليالي وأيّاماً كأنّما تصورت من لمحات الأحباب، أو قدّت من صفحات أيام الشباب، وكانت لأبي عامر بن شهيد به فرجٌ وراحات، أعطاه فيها الدهر ما شاء، ووالى عليه الصحو والانتشاء، وكان هو وصاحب الروض المدفون بإزائه أليفي صبوة، وحليفي نشوة، عكفا فيه على جريالهما، وتصرفا بين زهوهما واختيالهما، حتى ردّاهما الردى، وعداهما الحمام عن ذلك المدى، فتجاورا في الممات، تجاورهما في الحياة، وتقلصت عنهما وارفات تلك الفيئات، وإلىذلك العهد أشار ابن شهيد وبه عرّض، وبشوقه صحح وما مرض، حيث يقول عند موته يخاطب أبا مروان صاحبه وأمر أن يدفن بإزائه
(1) القلائد: 153 وديوان ابن شهيد: 100؛ وقد مرا في الكتاب ص: 156.
ويكتب على قبره (1) :
يا صاحبي قم فقد أطلنا
…
أنحن طول المدى هجود؟
فقال لي: لن نقوم منها
…
ما دام من فوقنا الصّعيد
تذكر كم ليلةٍ نعمنا
…
في ظلّها والزمان عيد
وكم سرورٍ همى علينا
…
سحابةً ثرّةً تجود؟
كلٌّ كأن لم يكن تقضّى (2)
…
وشؤمه حاضر عتيد
حصّله كاتب حفيظ
…
وضمّه صادق شهيد
يا ويلنا إن تنكّبتنا
…
رحمة من بطشه شديد
يا ربّ عفواً فأنت مولىً
…
قصّر في أمرك العبيد انتهى.
ثم قال بعد كلام (3) : وركب أبو الحسن ابن القبطرنة إلى سوق الدواب بقرطبة ومعه أبو الحسين ابن سراج، فنظر إلى أبي الحكم ابن حزم غلاماً كما عقّ تمائمه، وهو يروق كأنّه زهر فارق كمائمه، فسأل أبا الحسين ابن سراج أن يقول فيه، فأرتج عليه، فثنى عنان القول إليه، فقال:
رأى صاحبي عمراّ فكلّف وصفه
…
وحمّلني من ذاك ما ليس في الطوق
فقلت له: عمروٌ كعمروٍ، فقال لي:
…
صدقت ولكن ذاك شبّ على الطوق (4) وكان بنو القبطرنة بالأندلس أشهر من نار على علم، وقد تصرفوا في البراعة والقلم، ولهم الوزارة المذكورة، والفضائل المشكورة، ولذا قال أبو
(1) القلائد: 153 والديوان: 46 والذخيرة 1/1: 287.
(2)
ك: فخيره مسرعاً تقضى.
(3)
القلائد: 155.
(4)
ق ط ج: ذا أشب على الطوق.
نصر في حقهم ما صورته (1) :
هم للمجد كالأثافي، وما منهم إلاّ موفور القوادم والخوافي، إن ظهروا زهروا، وإن تجمّعوا، تضوّعوا، وإن نطقوا، صدقوا، ماؤهم صفو، وكل واحد منهم لصاحبه كفو، أنارت بهم نجوم المعالي وشموسها، ودانت لهم أرواحها ونفوسها، ولهم النظام الصافي الزجاجة، المضمحل العجاجة، انتهى.
ثم قال (2) : وبات منهم أبو محمد مع أخويه في أيام صباه، واستطابة (3) جنوب الشّباب وصباه، بالمنية المسماة بالبديع، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته، ويبتهج بحسن صفاته، ويقطف رياحينه وزهره، ويوقف عليه إغفاءه وسهره، ويستفزّه الطرب متى ذكره، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره، ويدي حميّاه على ضفة نهره، ويخلع سره فيه لطاعة جهره، ومعه أخواه فطاردوا اللذّات حتى أنضوها، ولبسوا برود السرور وما نضوها، حتى صرعتهم العقار، وطلّحتهم تلك الأوقار، فلمّا همّ رداء الفجر أن يندى، وجبين الصبح أن يتبدّى، قام الوزير أبو محمد فقال:
يا شقيقي وافى الصباح بوجهٍ
…
ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرّة يومٍ
…
ليست تدري بما يجيء مساؤه ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال (4) :
يا أخي قم تر النّسيم عليلا
…
باكر الرّوض والمدام شمولا
لا تنم واغتنم مسرّة يومٍ
…
إنّ تحت التراب نوماً طويلا
(1) القلائد: 148.
(2)
القلائد: 151.
(3)
القلائد: واستطابته.
(4)
القلائد: 151 والمغرب 1: 367.
في رياضٍ تعانق الزهر فيها
…
مثل ما عانق الخليل الخليلا (1) ثمّ استيقظ أخوهما أبوالحسن، وقد هبّ من غفلة الوسن (2)، فقال:
يا صاحبيّ ذرا لومي ومعتبتي
…
قم نصطبح خمرةً من خير ما ذخروا
وبادرا غفلة الأيام واغتنما
…
فاليوم خمرٌ ويبدو في غدٍ خبر (3) وساق صاحب البدائع هذه القصّة فقال (4) : وذكر الفتح ما هذا معناه أنّه خرج الوزراء بنو القبطرنة إلى المنية المسماة بالبديع، وهو روض قد اخضرّت مسارح نباته، واخضلّت مساري هبّاته، ودمعت بالطّلّ عيون أزهاره، وذاب على ربرجده بلّور أنهاره، وتجمعت فيه المحاسن المتفرّقة، وأضحت مقل الحوادث عنه مطرقة، فخيول النسيم تركض في ميادينه فلا تكبو، ونصول السواقي تحسم (5) أدواء الشجر فلا تنبو، والزروع قد نقّبت وجه الثرى، وحجبت الأرض عن العيون فما تبصر ولا ترى، وكان المتوكل بن الأفطس يعدّه غاية الأرب، ويعدّه مشهداً (6) للطرب، ومدفعاً للكرب، فباتوا فيه ليلتهم يديرون لمع لهب يتمنون فيه الخلود، ويتحسّون ذوب ذهب لا يصهر به ما في بطونهم والجلود، حتى تركتهم ابنة الخابية، كأنّهم أعجاز نخل خاوية، فلمّا هزم روميّ الصباح زنجيّ الظلام، ونادى الديك حيّ على المدام، انتبه
(1) ك: الخليل خليلا.
(2)
القلائد: وقد ذهب عن عقله الوسن.
(3)
هو من قول بشار:
اليوم هم ويبدو في غد خير
…
والدهر ما بين إنعام وإبآس وأصله من قول امرئ القيس: اليوم خمر وغداً أمر.
(4)
البدائع 2: 140.
(5)
البدائع: تصول لحسم.
(6)
البدائع: منبهة.
كبيرهم أبو محمد مستعجلاً، وأنشد مرتجلاً يا شقيقي
…
إلخ فانتبه أخوه أبو بكر لصوته، وتخوّف لذهاب ذلك الوقت وفوته، وأنبه أخاهما أبا الحسن وهو يرتجل يا أخي قم تر النسيم
…
إلخ فانتبه أخوه لكلامه، دافعاً لذة منامه للذة قيامه، وارتجل يا صاحبيّ ذرا
…
إلخ انتهى.
قال الفتح (1) : ولمّا أمر المعتمد بن عباد أبا بكر بن القبطرنة السابق الذكر مع الوزير أبي الحسين ابن سراج بلقاء ذي الوزارتين أبي الحسن ابن اليسع القائد (2) والمشي إليه، والنزول عليه، تنويهاً لمقدمه (3) ، وتنبيهاً على حظوته لديه وتقدمه، قصارا إلى بابه، فوجداه مقفراً من حجّابه، فاستغربا خلوّه من خول، وظنّ كلّ واحد منهما وتأوّل، ثم أجمعا على قرع الباب، ورفع ذلك الارتياب، فخرج وهو دهش، وأشار إليهما بالتحيّة ويده ترتعش، وأنزلهما خجلاً، ومشى بين أيديهما عجلاً، وأشار إلى شخص فتوارى بالحجاب، وبارى الريح سرعةً في الاحتجاب، فقعدا ومقلة الخشف، ترمق من خلال السّجف، فانصرفا عنه، وعزما أن يكتبا إليه بما فهما منه، فكتبا إليه:
سمعنا خشفة الخشف
…
وشمنا طرفة الطّرف
وصدّقنا ولم نقطع
…
وكذّبنا ولم ننف
وأغضينا لإجلال
…
ك عن أكرومة الظّرف
ولم تنصف وقد جئنا
…
ك ما ننهض من ضعف
وكان الحكم (4) أن تحم
…
ل أو تردف في الرّدف
(1) انظر القلائد: 168.
(2)
أهله بنو اليسع كانوا أعيان حصن قولية من عمل بسطة، وكان الأمير أبو الحسن يتوى مرسية للمعتمد بن عباد فثار عليه أهلها وخلعوه، ووصفه الفتح بأنه كان صاحب بطالة وراحة (انظر ترجمته في القلائد: 167 والمغرب 2: 87 والحلة السيراء 2: 172) .
(3)
ك: بمقدمه.
(4)
دوزي: الحق.
فراجعهما في الحين (1) بقطعة منها:
أيا أسفي على حالٍ
…
سلبت (2) بها من الظرف
ويا لهفي على جهلي
…
بصنفٍ كان من صنف (3) انتهى. ولأهل الأندلس في مغاني الأنس الحسان، ما لا يفي به لسان.
[3 - من ترجمة ابن حسداي]
وقال الفتح في ترجمة الوزير أبي الفضل بن حسداي، بعد كلام، ما صورته (4) : فمنها هذه القطعة التي أطلعها نيّرة، وترك الألباب بها متحيرة، في يوم كان عند المقتدر بالله مع علية، قد اتخذوا المجد حلية، والأمل قد سفر لهم عن محيّاه، وعبق لهم عن ريّاه، فصافحه الكل منهم وحيّاه، وشمس الراح، دائرة على فلك الراح، والملك يشر فضله، وينثر وابله وطلّه، يسدي العلاء، ويهب الغنى والغناء، فصدحت الغواني، وأفصحت المثالث والمثاني، بما استنزل من مرقب الوقار، وسرى في النفوس مسرى العقار:
توريد خدّك للأحداق لذّات
…
عليه من عنبر الأصداغ لامات
نيران هجرك للعشّاق نار لظىً
…
لكنّ وصلك إن واصلت جنّات
كأنّما الراح والراحات تحملها
…
بدور تمٍّ وأيدي الشّرب هالات
حشاشة ما تركنا الماء يقتلها
…
إلا لتحيا بها منّا حشاشات
(1) في نسخة: فراجعهما أبو الحسن.
(2)
دوزي: سللت.
(3)
في ق ط: بنصف كان من نصف؛ ج: لضيف كان من ضيف.
(4)
القلائد: 183.
قد كان في كأسها من قبلها ثقلٌ
…
فخفّ إذ ملئت منها الزّجاجات
عهدٌ للبنى تقاضته الأمانات
…
بانت وما قضيت منها لبانات
يدني التوهّم للمشتاق منتزحاً
…
من الأمور، وفي الأوهام راحات
تقضى عداتٌ إذا هبّ (1) الكرى، وإذا
…
هبّ النسيم فقد تهدى تحيّات
زورٌ يعلّل قلب المستهام به
…
دهراً، وقد بقيت في النفس حاجات
لعلّ عتب اللّيالي أن يعود إلى
…
عتبى فتبلغ أوطارٌ ولذّات
حتى نفوز بما جاد الخيال به
…
فربما صدقت تلك المنامات ولما أعرس المستعين بالله (2) ببنت الوزير الأجلّ أبي بكر بن عبد العزيز (3) احتفل أبوه المؤتمن في ذلك احتفالاً شهره، وأبدع فيه إبداعاً راق من حضره وبهره، فإنّه أحضر فيه من الآلات المبتدعة، والأدوات المخترعة، ما بهر الألباب، وقطع دون معرفتها الأسباب، واستدعى إليه جميع أعيان الأندلس، من دانٍ وقاص، ومطيع وعاص، فأتوه مسرعين، ولبّوه متبرعين، وكان مدير تلك الآراء ومدبّرها، ومنشئ مخاطباتها ومحبّرها، الوزير الكاتب أبو الفضل، وصدرت عنه في ذلك الوقت كتب ظهر إعجازها، وبهر اقتضابها وإيجازها، فمن ذلك ما خاطب به صاحب المظالم أبا عبد الرحمن بن طاهر (4) :
(1) القلائد: عاد.
(2)
المستعين بالله: أحمد ن محمد بن سليمان بن هود، تولى الحكم بعد أبيه المؤتمن محمد بن المقتدر أحمد سنة 478 وظل في الحكم حتى سنة 501، ولم يكن ممن نزعه يوسف بن تاشفين عن الحكم من أمراء الطوائف.
(3)
أبو بكر بن عبد العزيز كان وزيراً ببلنسية للمظفر عبد الملك بن المنصور عبد العزيز بن الناصر العامري (انظر ترجمته في القلائد: 163 وأعمال الأعلام: 202) .
(4)
ابو عبد الرحمن بن طاهر، محمد بن أحمد بن إسحاق بن طاهر: قام بأمر مرسية حيناً حتى ثار عليه أهلها واستغاثوا بالمعتمد بن عباد فأرسل إليه ان عمار فأخذها منه وعندئذ انحاز ابن طاهر إلى بلنسية وظل فيها حتى توفي سنة 507هـ؟. (انظر ترجمته في القلائد: 56 والذخيرة - القسم الثالث: 8 والمغرب 2: 247 وأعمال الأعلام: 201) . وفي ط ج: أبا عبد الله ابن طاهر.
محلّك أعزّك الله (1) في طيّ الجوانح ثابتٌ وإن نزحت الدار، وعيانك في أحناء الضلوع بادٍ وإن شحط المزار، فالنفس فائزة منك بتمثّل الخاطر بأوفر الحظ، والعين نازعة إلى أن تمتع من لقائك بظفر اللحظ، فلا عائدة أسبغ بردا، ولا موهبة أسوغ وردا، من تفضلك بالخفوف (2) إلى مأنسٍ يتم بمشاهدتك التئامه، ويتصل بمحاضرتك انتظامه، ولك فضل الإجمال، بالإمتاع من ذلك بأعظم الآمال، وأنا أعزّك الله على شرف سؤددك حاكم، وعلى مشرع سنائك حائم، وحسبي ما تتحقّقه من نزاعي وتشوّقي، وتتيقنه من تطلعي وتتوّقي، وقد تمكن الارتياح باستحكام الثقة، واعترض الاقتراح باستحباب (3) الصلة، وأنت وصل الله سعدك بسماحة شيمك، وبارع كرمك، تنشئ للمؤانسة عهدا، وتوري بالمكارمة زندا، وتقتضي بالمشاركة شكراً حافلاً وحمدا، لا زلت مهنّأً بالسعود المقبلة، مسوّغاً اجتلاء غرر الأماني المتهللة، بمنّه، انتهى.
ثم قال بعد هذا بيسير، ما نصّه (4) : وركب المستعين بالله يوماً نهر سرقسطة يريد طراد لذته، وارتياد نزهته، وافتقاد أحد حصونه المنتظمة بلبّته، واجتمع له من أصحابه، من اختصه لاستصحابه، وفيهم أبو الفضل مشاهداً لانفراجهم، سالكاً لمناهجهم، والمستعين قد أحضر من آلات إيناسه، وأظهر من أنواع ذلك وأجناسه، ما راق من حضر، وفاق حسنه الروض الأنضر، والزوارق قد حفّت به، والتفّت بجوانبه، ونغمات الأوتار تحبس السائر عن عدوه، وتخرس الطائر المفصح بشدوه، السمك تثيرها المكايد، وتغوص إليها المصايد، فتبرز منها للعين، قضبان درٍّ أو سبائك لجين، والراح لا
(1) ق: نصرك الله.
(2)
ك: باللحوق.
(3)
القلائد: الانتزاح بارتقاب.
(4)
القلائد: 185.
يطمس لها لمع، ولا يبخس منها بصر ولا سمع، والدهر قد غضت صروفه، واقتص من نكره معروفه، فقال:
لله يومٌ أنيقٌ واضح الغرر
…
مفضّضٌ مذهب الآصال والبكر
كأنّما الدهر لمّا ساء أعتبنا
…
فيه بعتبى وأبدى صفح معتذر
نسير في زورقٍ حفّ السّفين به
…
من جانبيه بمنظومٍ ومنتثر
مدّ الشراع به نشراً على ملكٍ
…
بذّ الأوائل في أيّامه الأخر
هو الإمام الهمام المستعين حوى
…
علياء مؤتمن عن هدي مقتدر
تحوي السفينة منه آيةً عجباً
…
بحرٌ تجمّع حتى صار في نهر
تصاد من قعره النينان مصعدة
…
صيداً كما ظفر الغوّاص بالدّرر
وللنّدامة به عبٌّ ومرتشفٌ
…
كالريق يعذب في وردٍ وفي صدر
والشّرب في مدح مولىً (1) خلقه زهرٌ
…
يذكو وغرّته أبهى من القمر [4 - من ترجمة ابن السيد]
وقال في ترجمة العلامة الكبير، الأستاذ أبي محمد عبد اله بن السّيد البطليوسي شارح أدب الكتاب (2) وسقط الزّند وغيرهما، ما صورته (3) : أخبرني أنّه حضر مع المأمون بن ذي النون في مجلس الناعورة بالمنية التي تطمح إليها المنى، ومرآها هو المقترح والمتمنى، والمأمون قد احتبى، وأفاض الحبا، والمجلس يروق كالشمس في أفقه، والبدر [كالتاج](4) في مفرقه، والنّور عبق، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق، والدولاب يئنّ كناقة إثر الحوار، أو كثكلى من حرّ الأوار، والجوّ قد عنبرته أنواؤه، والروض قد رشّته
(1) القلائد: في ود مولى.
(2)
ك: أدب الكاتب.
(3)
القلائد: 193.
(4)
زيادة من القلائد.
أنداؤه، والأسد قد فغرت أفواهها، ومجت أمواهها، فقال:
يا منظراً إن نظرت بهجته
…
أذكرني حسن جنّة الخلد
تربة مسكٍ، وجوّ عنبرةٍ،
…
وغيم ندّ، وطشّ ما ورد
والماء كاللاّزورد قد نظمت
…
فيه اللآلي فواغر الأسد
كأنما جائل الحباب به
…
يلعب في جانبيه بالنرد
تراه يزهو (1) إذا يحلّ به ال
…
مأمون زهو الفتاة بالعقد
تخاله إن بدا به قمراً
…
تمّاً بدا في مطالع السّعد (2)
كأنّما ألبست حدائقه
…
ما حاز من شيمةٍ ومن مجد
كأنّما جادها فروّضها
…
بوابلٍ من يمينه رغد
لا زال في رفعةٍ (3) مضاعفةٍ
…
متمّم الرّفد وادي الزّند وقال في وصف هذا المجلس بعينه، في الكتاب الذي أفرده لترجمة ابن السّيد، ما صورته (4) : فمن ذلك أنّه حضر مع القادر بالله بن ذي النون بمجلس الناعورة بطليطلة في المنية المتناهية البهاء والإشراق، المباهية لزوراء العراق، التي ينفح شذاها العطر، ويكاد من الغضارة يمطر، والقادر بالله رحمه الله قد التحف الوقار وارتداه، وحكّم العقر في جوده ونداه، والمجلس يشرق كالشمس في الحمل، ومن حواه (5) يبتهج كالنفس عند منال الأمل، والزهر عبق، وعلى ماء النهر مصطبح ومغتبق، والدولاب يئنّ كناقة إثر حوار، إلى آخر ما سبق.
(1) ط ج: يزهى.
(2)
قبل هذا البيت في القلائد: " ومنها ".
(3)
ق ط ج: في عزة.
(4)
هذا التأليف الذي أفرده الفتح لابن السيد أورده المقري بجملته في أزهار الرياض 3: 103 والنص الوارد هنا ثابت في الأزهار ص: 107.
(5)
ط: حماه.
وقال ابن ظافر (1) في وصف هذا المجلس حاذياً حذو الفتح، ما صورته:
حضر الأستاذ أبو محمد ابن السّيد عند المأمون ابن ذي النون في بعض منتزهاته، في وقت (2) طاب نعيمه، وسرت بالسعودنجومه، والروض قد أجاد وشيه راقمه، والماء قد جرت بين الأعشاب أراقمه، وثمّ بركة مملوّة، كأنّها مرآة مجلوّة، قد اتخذت سباع الصّفر بشاطئها غاباً، ومجّت بها من سائغ الماء لعاباً، فكأنّها آساد عين، أدلعت ألسنة من لجين، وهي لا تزال تقذف الماء ولا تفتر، وتنظم لآلي الحباب بعدما تنثر، فأمره بوصف ذلك الموضع، الذي تخد (3) إليه ركائب القلوب وتوضع، فقال بديهاً يا منظراً
…
إلخ، انتهى.
ثم قال الفتح في هذا التصنيف بعد كلام في المذكور، ما نصّه: وما أبدع قوله في وصف الراح، والحضّ على النّبذ للهموم والاطّراح، بمعاطاة كاسها، وموالاة إيناسها (4) ، ومعاقرة دنانها، واهتصار ثمار الفتوّة وأفنانها (5) ، والإعراض عن الأيّام وأنكادها، والجري في ميدان الصّبوة إلى أبعد آمادها:
سلّ الهموم إذا نبا زمن
…
بمدامة صفراء كالذّهب
مزجت فمن درّ على ذهبٍ
…
طافٍ ومن حببٍ على لهب
وكأنّ ساقيها يثير شذا
…
مسكٍ لدى الأقوام منتهب ولله هو فقد ندب إلى المندوب، وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب، وإبرائها من الآلام، وإهدائها كلّ تحيّةٍ وسلام، وإبهاجها بآصال وبكر، وعلاجها من هموم وفكر، في زمن حلي عاطله، وجلي في أحسن الصور
(1) في ك ق ط ج: وقال الفضل؛ وصوابه ما أثبت، فهذا النص في بدائع البدائه 2:40.
(2)
البدائع: يوم.
(3)
البدائع: تخب.
(4)
أزهار الرياض: بمعاطاة كؤوسها، وموالاة تأنيسها.
(5)
ك: من أفنائها.
باطله، ونفقت محالاته، وطبقت أرضه وسماءه استحالاته، فليثه كأسد، وذئبه مستأسد، وحفّاثه تنمّر (1) ، وبغاثه قد استنسر، فلا استراحة إلا في معاطاة حميّا، ومواخاة وسيم المحيّا، وقد كان ابن عمار ذهب مذهبه، وفضّضه بالإبداع وذهّبه، حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها، وتكاثف جهلها، وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلاً، وواصل من لا يعرف قطعاً ولا وصلاً، فأقبل على راحه يتعاطاها، وعكف عليها ما تعدّاها ولا تخطّاها، حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار، وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار، فقال:
نقمتم عليّ الرّاح أدمن شربها
…
وقلتم فتى راحٍ وليس فتى مجد
ومن ذا الذي قاد الجياد إلى الوغى
…
سواي ومن أعطى كثيراً ولم يكد؟
فديتكم لم تفهموا السّرّ، إنّما
…
قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي ودعي ابن السّيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب، وقرع فيه السرور نبعه بالغرب، ولاحت نجوم أكواسه، وفاح نسيم رنده وآسه، وأبدت صدور أباريقه أسرارها، وضمّت عليه المجالس أزرارها، والراح يديرها أهيف أوطف، والأماني تجنى وتقطف، فقال:
يا ربّ ليلٍ قد هتكت حجابه
…
بمدامةٍ وقّادة كالكوكب
يسعى بها أحوى الجفون كأنّها
…
من خدّه ورضاب فيه الأشنب
بدران بدرٌ قد أمنت غروبه
…
يسعى ببدر جانح للمغرب
فإذا نعمت برشف بد غارب
…
فانعم برشفة طالعٍ لم يغرب
(1) ق ك ط ج ودوزي: وأضغاثه تنسر، وفي أزهار الرياض: وأحفاشه، وكل ذلك خطأ؛ والحفاث تحدث عنه الجاحظ في الحيوان (4: 147) فقال: " وفي البادية حية يقال لها الحفاث
…
ولها وعيد منكر ونفخ وإظهار للصولة وليس وراء ذلك شيء. ".
حتى ترى زهر النّجوم كأنّها
…
حول المجرّة ربربٌ في مشرب
والليل منحفزٌ (1) يطير غرابه
…
والصّبح يطرده ببازٍ أشهب ثم قال الفتح، بعد كلام كثير، ما صورته (2) : ودخل - يعني ابن السّيد - سرقسطة أيام المستعين وهي جنّة الدنيا، وفتنة المحيا، ومنتهى الوصف، وموقف السرور والقصف، ملك نمير البشاشة، كثير الهشاشة، وملك أبهج الفناء، أرج الأرجاء، يروف المجتلي، ويفوق النجم المعتلي، وحضرة منسابة الماء، منجابة السماء، يبسم زهرها، وينساب نهرها، وتتفتح خمائلها، وتتضوع صباها وشمائلها، والحوادث لا تعترضها، والكوارث لا تقرضها (3) ، ونازلها من عرس إلى موسم، وآملها متصل بالأماني ومتّسم، فنزل منها في مثل الخورنق والسدير، وتصرف فيها بين روضة وغدير، فلم يخف على المستعين احتلاله (4) ، ولم تخف لديه خلاله، فذكره معلماً به ومعرّفاً، وأحضره منوّهاً به ومشرّفاً، وقد كان فرّ من ابن رزين، فرار السرور من نفس الحزين، وخلص من اعتقاله، خلوص السيف من صقاله، فقال يمدحه (5) :
هم سلبوني حسن صبري إذ بانوا
…
بأقمار أطواق مطالعها بان
لئن غادروني باللوى إنّ مهجتي
…
مسايرة أظعانهم حيثما كانوا
سقى عهدهم بالخيف عهد غمائم
…
ينازعها نهرٌ من الدمع هتّان
أأحبابنا هل ذلك العهد راجعٌ
…
وهل لي عنكم آخر الدهر سلوان
ولي مقلةٌ عبرى وبين جوانحي
…
فؤادٌ إلى لقياكم الدهر حنّان
تنكرت الدنيا لنابعد بعدكم
…
وحفّت بنا من معضل الخطب ألوان
(1) ك: منفجر.
(2)
أزهار الرياض 3: 109.
(3)
ك: تفترضها.
(4)
الأزهار: اختلاله؛ ج: إجلاله.
(5)
انظر القلائد أيضاً: 199.
أناخت بنا في أرض شنتمريّةٍ
…
هواجس ظنّ خان والظنّ خوان
وشمنا بروقاً للمواعيد أتعبت
…
نواظرنا دهراً ولم يهم تهتان (1)
فسرنا وما نلوي على متعذر
…
إذا وطنٌ أقصاك آوتك أوطان
ولا زاد إلاّ ما انتشته من الصّبا
…
أنوفٌ وحازته من الماء أجفان
رحلنا سوام الحمد (2) عنها لغيرها
…
فلا ماؤها صدّا ولا النبت سعدان (3)
إلى ملك حاباه بالمجد يوسف
…
وشاد له البيت الرفيع سليمان
إلى مستعين بالإله مؤيّدٍ،
…
له النصر حزبٌ والمقادير أعوان
جفتنا بلا جرم كأنّ مودّةً
…
ثنى نحونا منها الأعنّة شنآن
ولو لم تفد منّا سوى الشّعر وحده
…
لحقّ لنا برٌّ عليه وإحسان
فكيف ولم نجعل بها الشّعر مكسباً
…
فيوجب للمكدي جفاءٌ وحرمان
ولا نحن ممن يرتضي الشعر خطّة
…
وإن قصرت عن شأونا فيه أعيان
ومن أوهمته غير ذاك ظنونه
…
فثمّ مجال للمقال وميدان
خليليّ من يعدي على زمن له
…
إذا ما قضى حيفٌ عليّ وعدوان
وهل ريء من قبلي غريق مدامعٍ
…
يفيض بعينيه الحيا وهو حرّان
وهل طرفت عين لمجدٍ ولم يكن
…
لها مقلة من آل هود وإنسان
وبوجه ابن هودٍ كلما أعرض الورى
…
صحيفة إقبال لها البشر عنوان
فتى المجد في برديه بدرٌ وضيغم
…
وبحرٌ وقدسٌ ذو الهضاب ثهلان
من النفر الشّمّ الذين أكفّهم
…
غيوث ولكنّ الخواطر نيران
ليوث شرىً ما زال منهم لدى الوغى
…
هزبرٌ بيمناه من السّمر ثعبان
وهل فوق ما قد شاد مقتدرٌ لهم
…
ومؤتمن بالله لقياه إيمان
ألا ليس فخر في الورى غير فخرهم
…
وإلاّ فإنّ الفخر زور وبهتان
(1) ك والأزهار: هتان.
(2)
ك: الخمر؛ ط: الحمر.
(3)
إشارة إلى المثل: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان.
فيا مستعيناً مستعاناً (1) لمن نبا
…
به وطن يوماً وعضّته أزمان
كسوتك من نظمي قردة مفخر
…
يباهي بها جيد الزمان (2) ويزدان
وإن قصرت عمّا لبست فربّما
…
تجاور (3) درٌّ في النظام ومرجان
معانٍ حكت غنج الحسان كأنّني
…
بهن حبيب أو بطليوس بغداد
إذا غرست كفّاك غرس مكارم
…
بأرضي أجنتك الثنا منه أغصان وقال في وصف مجلس (4) لأبي عيسى ابن لبّون (5) أحضر إليه ابن السّيد منوهاً بقدره، ما صورته (6) : وأحضره إلى مجلس نام عنه الدهر وغفل، وقام لفرط أنسه واحتفل، قد بانت صروفه، ودنت من الزائر قطوفه، وقال: هلمّ بنا إلى الاجتماع بمذهبك، والاستمتاع بما شئته ببراعة (7) أدبك، فأقاموا يعملون كاسهم، ويصلون إيناسهم، وباتوا ليلهم (8) ما طرقهم نوم، ولا عداهم عن طيب اللّذّات سوم.
ثم قال بعد كلام كثير (9) : وحضر ابن السّيد عند عبد الرحمن الظافر بن ذي النون مجلساً رفعت في المنى لواءها، وخلعت عليه (10) أضواءها، وزفّت
(1) ك: مستغاثاً.
(2)
ك: جيد المعاني؛ ط والأزهار: جيد المعالي.
(3)
ط: تجاوز.
(4)
ط ج ق: في وصفه مجلساً.
(5)
أبو عيسى ابن لبون: هو لبون بن عبد العزيز بن لبون من صحا القادر بن ذي النون، رأس بمربيطر من أعمال بلنسية ثم تخلى عنها لأبي مروان بن رزين، وكان معدوداً في الأجواد موصوفاً بتجويد القريض (انظر ترجمته في الحلة 2: 167 والقلائد: 99 والمغرب 2: 376 والذخيرة - القسم الثالث: 33) .
(6)
أزهار الرياض 3: 121.
(7)
ك: من براعة.
(8)
ك: ليلتهم.
(9)
أزهار الرياض 3: 127.
(10)
زاد في الأزهار: الشمس.
إليه المسرات أبكارها، وفارقت إليه الطير أوكارها، فقال يصفه:
[ومجلس جمّ الملاهي أزهرا
…
ألذّ في الأجفان من طعم الكرى] (1)
لم تر عيني مثله ولا ترى
…
أنفس في نفسي وأبهى منظرا
إذا تردّى وشيه المصوّرا
…
من حوك صنعاء وحوك عبقرا
ونسج قرقوب ونسج تسترا (2)
…
خلت الربيع الطلق فيه نوّرا
كأنّما الإبريق حين قرقرا
…
قد أمّ لثم الكأس حين فغرا
وحشيّة ظلّت تناغي جؤذرا
…
ترضعه الدّرّ ويرنو حذرا
كأنّما مجّ عقيقاً أحمرا
…
أو فتّ من ريّاه مسكاً أذفرا
أو عابد الرحمن يوماً ذكرا
…
فنمّ مسكاً ذكره وعنبرا
الظافر الملك الذي من ظفرا
…
بقربه نال العلاء الأكبرا
لو أنّ كسرى راءه أو قيصرا
…
هلّل إكباراً له وكبّرا
تبدي سماء الملك منه قمرا
…
إذا حجاب المجد عنه سفرا
يا أيها المنضي بالسّرى
…
تبغي غمام المكرمات الممطرا [5 - من ترجمة ابن العطار]
وقال الفتح في ترجمة الأديب أبي القاسم ابن العطار، ما صورته (3) :
هو أحد أدباء إشبيلية ونحاتها، العامرين لأرجاء المعارف وساحاتها، ولولا مواصلة راحاته، وتعطيل بكره وروحاته، وموالاته للفرج، ومغالاته في عرف للأنس أو أرج (4) ، لا يعرّج إلا على ضفة نهر، ولا يلهج (5) إلا بقطعة
(1) زيادة من أزهار الرياض.
(2)
تستر: مدينة بخوزستان، وقرقوب: قرية من أعمالها.
(3)
القلائد: 284 (قلت: وانظر ترجمة أبي القاسم ابن العطار في المغرب 1: 254) .
(4)
ك: عرف الأنس والأرج.
(5)
ك: ولا يبتهج.
زهر، ولا يحفل بملام، ولا يتنقل (1) إلى في طاعة غلام، ناهيك من رجل مخلوع العنان في ميدان الصبابة، مغرم بالحسان غرام يزيد بحبابة، لا تراه إلا في ذمّة انهماك، ولا تلقاه إلا في لمّة انتهاك، رافعاً لرايات الهوى، فارعاً لثنيّات الجوى، لا يقفر فؤاده من كلف، ولا يبيت إلاّ رهن تلف، أكثر خلق الله تعالى علاقة، وأحضرهم لمشهد خلاقة (2) ، مع جزالةٍ تحرك السكون وتضحك الطير في الوكون، وقد أثبتّ له ما يرتجله (3) في أوقات أنسه وساعاته، وينفث (4) به أثناء زفراته ولوعاته، فمن ذلك ما قاله في يوم ركب فيه النهر على عادات انكشافه، وارتضاعه لثغور اللذّات وارتشافه (5) :
عبرنا سماء النهر والجوّ مشرقٌ
…
وليس لنا إلا الحباب نجوم
وقد ألبسته الأيك برد ظلالها
…
وللشمس في تلك البرود رقوم وله فيه:
مررنا بشاطي النهر بين حدائقٍ
…
بها حدق الأزهار تستوقف الحدق
وقد نسجت كف النسيم مغاضة
…
عليه وما غير الحباب لها حلق وله:
هبت الريح بالعشي فحاكت
…
زردة للغدير ناهيك جنه
وانجلى البدر بعد هدء فصاغت (6)
…
كفّه للقتال منه أسنّه
(1) القلائد: ينتقل عن المدام، وفي ق ج ط: لم يحفل بملام ولم يتنقل إلا
…
إلخ.
(2)
ج: خلافة؛ وقد أثبتها دوزي في ملحق المعاجم " خلافة " عن القلائد، وقال: كأنها تعني (Reunion de debauches) .
(3)
هذه رواية ق ج ط والقلائد؛ وفي ك: مما ارتجله.
(4)
هذه رواية ج ط ق والقلائد؛ وفي ك: ونفث.
(5)
انظرهما أيضاً في المغرب 1: 254.
(6)
ق ط ج: بعد هذا فحاكت.
وقوله (1) :
لله بهجة منزهٍ ضربت به
…
فوق الغدير رواقها الأنشام
فمع الأصيل النهر درعٌ سابغٌ
…
ومع الضّحى يلتاح منه حسام وله:
ما كالعشيّة في رواء جمالها
…
وبلوغ نفسي منتهى آمالها
ما شئت شمس الأرض مشرقة السّنا
…
والشمس قد شدّت مطيّ رحالها
في حيث تنساب المياه أراقماً
…
وتعيرك الأفياء برد ظلالها وله:
لله حسن حديقة بسطت لنا
…
منها النفوس سوالفٌ ومعاطف
تختال في حلل الربيع وحليه
…
ومن الربيع قلائدٌ ومطارف [6 - من ترجمة ابن عمّار]
وقال الفتح في ترجمة ابن عمار (2) : أخبرني ذو الوزارتين الأجلّ أبو المطرّف ابن عبد العزيز أنّه حضر معه عند المؤتمن في يوم جادت فيه السماء بهطلها، وأتبعت وبلها بطلّها، وأعقب (3) رعدها برقها وانسكب دراكاً ودقها، والأزهار قد تجلّت من كمامها، وتحلّت بدرّ غمامها، والأشجار قد جلي صداها، وتوشّحت بنداها، وأكؤس الراح كأنّها كواكب تتوقّد، تديرها أنامل تكاد من اللطافة تعقد، إذا بفتىً من فتيان المؤتمن أخرس لا يفصح،
(1) هذه الأبيات متقدمة في القلائد على القطعتين اللتين قبلها، وانظر المغرب 1:254.
(2)
القلائد: 85.
(3)
ق ج ط: وارتقب.
ومستعجم لا يبين ولا يوضح، متنمّر تنمّر الليث، متشمّر كالبطل الفارس عند الغيث (1) ، وقد أفاض على نفسه درعاً، تضيق بها الأسنّة ذرعاً، وهو يريد استشارة المؤتمن في التوجّه (2) إلى موضع بعثه إليه ووجّهه، وكلّ من صده عنه نهره ونهجه، حتى وصل إلى مكان انفراده، ووقف بإزاء وساده (3) ، فلمّا وقعت عين ابن عمّار عليه، أشار بيده إليه، وقرّبه واستدناه، وضمّه إليه كأنّه تبنّاه، وحدّ (4) أن يخلع عنه ذلك الغدير، وأن يكون هو الساقي والمدير، فأمره المؤتمن بخلعه، وطاعة أمره وسمعه، فنضاه عن جسمه، وقام يسقي على حكمه ورسمه، فلمّا دبت فيه الحميّا، وشبت غرامه بهجة ذلك المحيّا، واستنزلته سورة العقار، من مرقب الوقار، قال:
وهويته يسقي المدام كأنّه
…
قمرٌ يدور بكوكب في مجلس
متأرّج الحركات تندى ريحه
…
كالغصن هزّته الصّبا بتنفّس
يسعى بكأسٍ في أنامل سوسنٍ
…
ويدير أخرى من محاجر نرجس
يا حامل السيف الطويل نجاده
…
ومصرّف الفرس القصير المحبس
إيّاك بادرة الوغى من فارسٍ
…
خشن القناع على عذار أملس
جهمٍ وإن حسر اللّثام (5) فإنّما
…
كشف (6) الظلام عن النهار المشمس
يطغى ويلعب في دلال عذاره
…
كالمهر يمرح في اللجام المجرس
سلم فقد قصف القنا غصن النقا
…
وسطا بليث الغاب ظبي المكنس
عنّا بكاسك، قد كفتنا مقلة
…
حوراء قائمة بسكر المجلس (7)
(1) القلائد: متشمر تشمر البطل الباسل عند الغيث.
(2)
القلائد: في الخروج.
(3)
ق ج ط: أساده.
(4)
هذه رواية القلائد: وحد؛ وفي ك: وجد؛ وفي ق ط ج: واشار.
(5)
دوزي: القناع؛ ج: حدر اللثام.
(6)
بعض أصول القلائد: رفع.
(7)
بعض أصول القلائد: الأنفس.
وأورد هذه القصة صاحب البدائع بقوله (1) : حضر أبو المطرّق ابن عبد العزيز عند المؤتمن بن هود في يوم أجرى الجوّ فيه أشقر برقه، ورمى بنبل (2) ودقه، وتحملت (3) الرياح في أوقار السحاب على أعناقها، وتمايلت قامات الأغصان في الحلل الخضر من أوراقها (4) ، والرياح قد أشرقت نجومها في بروج الراح، وحاكت شمسها شمس الأفق فتلفعت بغيوم الأقداح، ومديرها قد ذاب ظرفاً فكاد يسيل من إهابه وأخجل خدّها حسناً فتظلل بعرق حبابه، إذا بفتى من فتيان المؤتمن قد أقبل متدرّعاً كالبدر اجتاب سحاباً، والخمر قد اكتست حباباً (5) ، وقد جاء يريد استشارة المؤتمن في الخروج إلى موضع كان عوّل فيه عليه، وأمره أن يتوجّه إليه، فحين لمحه ابن عمار والسكر قد استحوذ على لبّه، وبثّ سراياه في ضواحي قلبه (6) ، جدّ في أن يستخرج تلك الدرة من ماء ذلك الدّلاص، وأن يجلّي عنه سهكه كما يجلّى الخبث عن الخلاص، وأن يكون هو الساقي (7) ، فأمره المؤتمن بقبول أمره وامتثاله، واحتذاء مثاله، فحين ظهرت تلك الشمس من حجبها، ورميت شياطين النفوس من كميت المدام بشهبها، ارتجل ابن عمار وهويته
…
إلخ إلا أنّه قال إثر قوله:
(1) انظر بدائع البدائه 2: 133 وسيرد هذا النص في الباب السابع من النفح.
(2)
البدائع: ببندق.
(3)
البدائع: وحملت.
(4)
زاد في البدائع والباب السابع: والأزهار قد تفتحت عيونها والكمائم قد ظهر مكنونها، والأشجار قد انقلت بالقطر (بمداوس القطر) ؛ ونثرت ما يفوق ألوان البز، وبثت ما يعلو أرواح العطر.
(5)
بعدها في البدائع والباب السابع: والطاووس انقلب حباباً، فهو ملك حسناً إلا أنه جسد، وغزال ليناً إلا أنه (في هيئة) الأسد.
(6)
بعدها في البدائع والباب السابع: فأشار إليه وقربه واستبدع ذلك اللباس واستغربه وجد
…
(7)
ف البدائع والباب السابع: وأن يوفر على ذلك الوفر نعمة جسمه، ويكون هو الساقي على عادته القديمة ورسمه.
إيّاك بادرة الوغى من فارس
…
ما صورته:
يضع السنان على العذار الأملس
…
ولابن عمار الرائية المشهورة في مدح المعتضد عباد والد المعتمد، وهي (1) :
أدر المدامة (2) فالنسيم قد انبرى
…
والنجم قد صرف العنان عن السّرى
والصبح قد أهدى لنا كافوره
…
لمّا استردّ الليل منّا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره
…
وشياً وقلّده نداه جوهرا
أو كالغلام زها بورد خدوده
…
خجلاً وتاه بآسهنّ معذّرا
روضٌ كأنّ النهر فيه معصمٌ
…
صافٍ أطلّ على رداء أخضرا
وتهزه ريح الصّبا فتخاله
…
سيف ابن عباد يبدّد عسكرا
عبّادٌ المخضرّ نائل كفّه
…
والجوّ قد لبس الرداء الأغبرا
ملكٌ إذا ازدحم الملوك بموردٍ
…
ونحاه لا يردون حتى يصدرا
أندى على الأكباد من قطر الندى
…
وألذّ في الأجفان من سنة الكرى
يختار إذ يهب الخريدة كاعباً
…
والطّرف أجرد والحسام مجوهرا
قدّاح زند المجد لا ينفكّ من
…
نار الوغى إلاّ إلى نار القرى
لا خلق أقرأ من شفار حسامه
…
إن كنت شبّهت المواكب أسطرا
أيقنت أنّي من ذراه بجنّة
…
لمّا سقاني من نداه الكوثرا
وعلمت حقاً أنّ ربعي مخصبٌ
…
لمّا سألت (3) به الغمام الممطرا
من لا توازنه الجبال إذا احتبى
…
من لا تسابقه الرياح إذا جرى
ماضٍ وصدر الرمح يكهم والظّبا
…
تنبو وأيدي الخيل تعثر في الثرى
(1) انظر القلائد: 96 ومحمد بن عمار لصلاح خالص ص: 189 ولم تورد منها ج إلا بضعة أبيات وسائرها بياض.
(2)
ج: الزجاجة.
(3)
القلائد: أسال.
قاد الكتائب كالكواكب فوقهم
…
من لأمهم مثل السّحاب كنهورا (1)
من كلّ أبيض قد تقلّد أبيضاً
…
عضباً وأسمر قد تقلّد أسمرا
ملك يروقك خلقه أو خلقه
…
كالرّوض يحسن منظراً أو مخبرا
أقسمت باسم الفضل حتى شمته
…
فرأيته في بردتيه مصوّرا
وجهلت معنى الجود حتى زرته
…
فقرأته في راحتيه مفسّرا
فاح الثرى متعطّراً بثنائه
…
حتى حسبنا كلّ ترب عنبرا
وتتوّجت بالزّهر صلع هضابه
…
حتى ظننّا كلّ هضب قيصرا
هصرت يدي غصن الغنى من كفّه
…
وجنت به روض السّرور منوّرا
حسبي على الصّنع الذي أولاه أن
…
أسعى بجدّ أو أموت فأعذرا
يا أيّها الملك الذي حاز العلا
…
وحباه منه بمثل حمدي أنورا
السيف أفصح من زيادٍ خطبةً
…
في الحرب إن كانت يمينك منبرا
ما زلت تغني من عنا لك راجياً
…
نيلاً وتفني من عتا وتجبّرا
حتى حللت من الرياسة محجراً
…
رحباً وضمّت منك طرفاّ أحورا
شقت بسيفك أمّةٌ لم تعتقد
…
إلاّ اليهود وإن تسمّت بربرا
أثمرت رمحك من رؤوس ملوكهم
…
لمّا رأيت الغصن يعشق مثمرا
وصبغت درعك من دماء كماتهم
…
لمّا علمت الحسن يلبس أحمرا
وإليكها كالروض زارته الصّبا
…
وحنا عليه الطّلّ حتى نوّرا
نمّقتها وشياً بذكرك مذهباً
…
وفتقتها مسكاً بحمدك أذفرا
من ذا ينافحني وذكرك مندلٌ
…
أوردته من نار فكري مجمرا
فلئن وجدت نسيم مدحي عاطراً
…
فلقد وجدت نسيم برّك أعطرا
(1) الكنهور: قطع السحاب.
[7 - من ترجمة ابن وهبون]
وقال في ترجمة عبد الحليل بن وهبون المرسي (1) : ركب بإشبيلية زورقاً في نهرها الذي لا تدانيه الصّراة، ولا يضاهيه الفرات، في ليلة تنقبت بظلمتها (2) ، ولم يبد وضحٌ في دهمتها، وبين أيديهم شمعتان قد انعكس شعاعهما في اللجّة، وزاد في تلك البهجة، فقال:
كأنّما الشّمعتان إذ سمتا
…
خدّا غلامٍ محسّن الغيد
وفي حشا النهر من شعاعهما
…
طريق نار الهوى إلى كبدي وكان معه غلام البكري (3) معاطياً للراح، وجارياً في ميدان ذلك المراح، فلمّا جاء عبد الجليل بما جاء، وحلّى (4) للإبداع الجوانب والأرجاء، حسده على ذلك الارتجال، وقال بين البطء والاستعجال:
أعجب بمنظر ليلةٍ ليلاء
…
تجنى بها اللذّات فوق الماء
في زورقٍ يزهو بغرّة أغيدٍ
…
يختال مثل البانة الغيناء
قرنت يداه الشمعتين بوجهه
…
كالبدر بين النّسر والجوزاء
والتاح تحت الماء ضوء جبينه
…
كالبرق يخفق في غمام سماء [8 - من ترجمة ابن طاهر]
وقال الفتح رحمه الله (5) : دعيت يوماً إلى منية المنصور بن أبي عامر ببلنسية،
(1) القلائد: 242.
(2)
ق ج ط ك: في ظلمتها.
(3)
هو أبو الحسن حكم بن محمد غلام أبي عبيد البكري (انظر ترجمته في الذخيرة - القسم الثاني - 220 والقلائد: 290 وبغية الملتمس ص: 265 والمسالك 11: 381 والمغرب 1: 348) .
(4)
ق ط ج: وحل.
(5)
القلائد: 68.
وهي منتهى الجمال، ومزهى الصّبا والشمال، على وهي بنائها، وسكنى (1) الحوادث برهة بفنائها (2) ، فوافيتها والصبح قد ألبسها قميصه، والحسن قد شرح بها عويصه، وبوسطها مجلس قد تفتّحت للروض أبوابه، وتوشّحت بالأزر الذهبية (3) أثوابه، يخترقه جدول كالحسام المسلول، وينساب فيه انسياب الأيم في الطّلول، وضفّاته بالأدواح محفوفة، والمجلس يروق كالخريدة المزفوفة، وفيه يقول عليّ بن أحمد أحد شعرائها، وقد حلّه مع طائفة من وزرائها:
قم سقّني (4) والرياض لابسةٌ
…
وشياً من النّور حاكه القطر
في مجلسٍ كالسماء لاح به
…
من وجه من قد هويته بدر (5)
والشمس قد عصفرت غلائلها
…
والأرض تندى ثيابها الخضر
والنهر مثل المجرّ حفّ به
…
من الندامى كواكبٌ زهر فحللت ذلك المجلس وفيه (6) أخدان، كأنّهم الولدان، وهم في عيش لدن، كأنّهم في جنّة (7) عدن، فأنخت لديهم ركائبي وعقلتها، وتقلدت بهم رغائبي واعتقلتها، وأقمنا نتنعم بحسنه طول ذلك اليوم، ووافى الليل فذدناعن الجفون طروق النوم، وظللنا بليلة كأن الصبح منها مقدود، والأغصان تميس كأنّها قدود، والمجرّة تتراءى نهراً، والكواكب تخالها في الجو زهراً، والثريّا كأنّها راحة تشير، وعطارد لنا بالطرب بشير، فلمّا كان من الغد وافيت الرئيس أبا عبد الرحمن زائراً، فأفضنا في الحديث إلى أن أفضى بنا إلى ذكر
(1) القلائد: وسكون.
(2)
القلائد: في فنائها.
(3)
القلائد: المذهبة.
(4)
ك والقلائد: فاسقني.
(5)
تأخر هذا البيت عن الذي يليه في القلائد.
(6)
ق: وفيهم.
(7)
ق: جنات.
منتزهنا بالأمس، وما لقينا فيه من الأنس، فقال لي: ما بهجة موضع قد بان قطينه وذهب، وسلب الزمان بهجته وانتهب، وباد فلم يبق إلاّ رسمه، ومحاه الحدثان فما كاد يلوح وسمه (1) ، عهدي به عندما فرغ من تشييده، وتنوهي في تنسيقه وتنضيده، وقد استدعاني إليه المنصور في يوم (2) حلّت فيه الشمس برج شرفها، واكتست (3) الأرض بزخرفها، فحللت به والدوح تميس معاطفه، والنّور يخجله قاطفه، والمدام تطلع به وتغرب، وقد حلّ به قحطان ويعرب، وبين يدي المنصور مائة غلام ما يزيد أحدهم على العشر غير أربع، ولا يحل غير الفؤاد من مربع، وهم يديرون رحيقاً، خلتها في كأسها درّاً أو عقيقاً، فأقمنا والشّهب تغازلنا، وكأن الأفلاك منازلنا، ووهب المنصور في ذلك اليوم ما يزيد على عشرين ألفاً من صلات متصلات، وأقطع ضياعاً، ثم توجع لذلك العهد، وأفصح بما بين ضلوعه من الوجد، وقال:
سقياً لمنزلة اللّوى وكثيبها
…
إذ لا أرى زمناً كأزماني بها [9 - من رسالة للفتح]
وما أحسن ما كتب به الفتح إلى بعض الملوك يصف نزهة ببعض منتزهات الأندلس المونقة، ويذكر استضاءته فيها بشموس المسرّة المشرقة، وهو:
أطال الله سبحانه بقاء ناصر الدولة، ومحيي الملّة، الذي حسن بلقياه العيش، وتزين بمحياه الجيش، وراق باسمه الملك، وجرت بعجه الفلك وأنا ربه الليل الدامس؛ ولاح له الأثر الطامس؛ وجرى الدهر لسطوته خائفاً، وغدا السعد بعقوته طائفاً، والزمان ببرود علياه ملتحف، ولثغور نداه
(1) ق: إلا وسمه.
(2)
ك: وقت.
(3)
ك: واكتست فيه.
مرتشف، ولا زال للمجد يتملّكه، والسعد يحمله فلكه، وأما وقد وافقتني أيّامه أيده الله سبحانه وفاقاً، ورأيت للبيان عنده نفاقاً، فلا بد أن أرسل كتائبه أفواجاً، وأفيض من بحره أمواجاً، وأصف ما شاهدته من اقتداره، وعاينته من حسن إيراده وإصداره، بمقال أفصح من شكوى المحزون، وأملح من رياض الحزون، وقد كنت، أيّده الله تعالى، كلفاً بالدول وبهائها، لهجاً بالبلوغ إلى انتهائها، لأجد دولة أرتضيها، وحظوة علياء أقتضيها، فكلّ ملك فاوضته سرّاً وجهراً، وكلّ ملك قلبته بطناَ وظهراً، والنفس تصدّ عنه صدود الجبان عن الحرب، والملائكة الكرام عن الشرب، إلى أن حصلت لديه، ووصلت بين يديه، فقلت: الآن أمكن من راح البغية الانتشاء، وتمثّلت " الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنّة حيث نشاء " ومازلت أسايره حيث سار، وآخذ اليمين تارة وتارة اليسار، وكل ناحية تسفر لي عن خدّ روض أزهر، وعذار نبتٍ أخضر، وتبسم عن ثغر حباب، في نهر كالحباب، وترفل من الربيع في ملابس سندسيّات، وتهدي إلينا نوافح مسكيّات، وتزهى من بهجتها بأحسن منظر، وتتيه بجلباب أينع من برد الشباب الأنضر (1) ، فجلنا فيها يميناً وشمالاً، واستخبرنا عن أسرارها صباً وشمالاً، ثم مال بنا، أيّده الله تعالى، عن هذه المسارح السنيّة، والمنازل البهيّة، إلى إحدى ضياعه الحالية، وبقاعه العالية، فحللناها والأيم قد عري من جلبابه، واليوم قد اكتهل بعد شبابه، فنزلنا في قصور يقصر عنها جعفريّ جعفر (2) ، وقصور بني الأصفر، تهدي من لبّاتها برداً محبّراً، وتبدي من شذاها مسكاً وعنبراً، قد لاحت من جوانبها نجوم أكواس لو رآها أبو نواس لجعلها شعاره، ووقف على نعتها أشعاره، ولم يتخذ سواها نجعة، ولا نبّه خمّاره بعد هجعة، فتعاطيناها والسعد لنا خادم، وما غير السرور
(1) هذه رواية ق ك ج ط؛ وفي دوزي: الأخضر.
(2)
يعني جعفراً المتوكل وقصره المسمى بالجعفري.
علينا قادم، وخدود سقاتها قد اكتست من سناها، وقدودهم تتهيّل علينا بجناها، ونحن بين سكر وصحو، وإثبات لها ومحو، وإصاخة إلى بمّ وزير، والتفاتة إلى ملك ووزير، إلى أن ولّى النهار فحيّانا، وأقبل الليل المميت فأحيانا، فوصلنا بلهو وقصف، وعيش يتجاوز كلّ وصف، فكأن يومنا مقيم، أو كأن ليلنا من الظلام عقيم؛ ولما سلّ الفجر حسامه، وأبدى لعبوس الليل ابتسامه، وجاء يختال اختيالاً، ويمحو من بقايا الليل نيالاً، قمنا نتنادب للمسير، وكلّنا في يد النشوة أسير، فسرنا والملك الأجلّ يقدمنا، والأيام تخدمنا فلا زالت الأيام به زاهية، وعن سواه لاهية، ما عمر وكراً عقاب، وكان للشهور غرر وأعقاب، انتهى.
[10 - من ترجمة الراضي]
وقال الفتح في ترجمة الراضي بالله أبي خالد يزيد بن المعتمد بن عباد بعد كلام ما صورته (1) : وأخبرني المعتز (2) بالله أن أباه المعتمد وجّهه - يعني أخاه الراضي - إلى شلب والياً، وكانت ملعب شبابه، ومألف أحبابه، التي عمر نجودها غلاماً، وتذكر عهودها أحلاماً، وفيها يقول يخاطب ابن عمار وقد توجّه إليها:
ألا حيّ أوطاني بشلب أبا بكر
…
وسلهنّ هل عهد الوصال كما أدري
وسلّم على قصر الشراجيب من فتىً
…
له أبداً شوقٌ إلى ذلك القصر وقصر الشراجيب هذا متناهٍ في البهاء والإشراق، مباهٍ لزوراء العراق، ركضت في جياد راحاته، وأمضت بروق أمانيه في ساحاته، وجرى الدهر مطيعاً بين بكره وروحاته، أيام لم تحلّ عنه تمائمه، ولا خلت من أزاهير
(1) القلائد: 32.
(2)
القلائد وق ط: المعتد؛ ك ج: المعتمد.
الشباب كمائمه، وكان يعتدّها مشتهى (1) آماله، ومنتهى أعماله، إلى بهجة جنباتها، وطيب نفحاتها وهبّاتها، والتفاف خمائلها، وتقلدها بنهرها مكان حمائلها، وفيها يقول ابن اللّبّانة:
أما علم المعتزّ (2) بالله أنّني
…
بحضرته في جنّةٍ شقّها نهر
وما هو نهر أعشب النبت حوله
…
ولكنّه سيفٌ حمائله خضر فلمّا صدر عنها وقد حسنت آثاره في تدبيرها، وانسدلت رعايته على صغيرها وكبيرها، نزل المعتمد عليه مشرفاً لأوبته، ومعرفاً بسموّ قدره لديه ورتبته، وأقام يومه عنده مستريحاً، وجرى في ميدان الأنس بطلاً مشيحاً، وكان واجداً على الراضي فجلت الحميّا أفقه، ومحت غيظه عليه وحنقه، وصوّرته له عين حنوّه، وذكرته بعده فجنح إلى دنوّه، وبين ما استدعى وأوفى، مالت بالمعتمد نشوته وأغفى، فألفاه صريعاً في منتداه، طريحاً في منتهى مداه، فأقام تجاهه، يرتقب انتباهه، وفي أثناء ذلك صنع شعراً أتقنه وجوّده، فلمّا استيقظ أنشده:
ألان تعود حياة الأمل
…
ويدنو شفاء فؤادٍ معلّ
ويورق للعزّ غصنٌ ذوى
…
ويطلع للسّعد نجمٌ أفل
فقد وعدتني سحاب الرضا
…
بوابلها حين جادت بطلّ
أيا ملكاً أمره نافذٌ
…
فمن شا أعزّ ومن شا أذلّ
دعوت فطار بقلبي السرور
…
إليك، وإن كان منك الوجل
كما يستطيرك حبّ الوغى
…
إليها وفيها الظّبا والأسل
فلا غرو إن كان منك اغتفارٌ
…
وإن كان منّا جميعاً زلل
(1) في القلائد: مجنى؛ وفي دوزي: محيا.
(2)
في الأصول: المعتد.
فمثلك - وهو الذي لم نجده
…
عاد (1) بحلم على من جهل [11 - من ترجمة المتوكل]
وقال في ترجمة المتوكل على الله ابن الأفطس، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير أبو محمد بن عبدون، أن الجدب توالى بحضرته (3) حتى جفّت مذانبها، واغبرّت جوانبها، وغرد المكّاء في غير روضه، وخاض الياس بالناس أعظم خوضه، وأبدت الخمائل عبوسها، وشكت الأرض للسماء بوسها، فأقلع المتوكل عن الشرب واللهو، ونزع ملابس الخيلاء والزّهو، وأظهر الخشوع، وأكثر السجود والركوع، إلى أن غيّم الجوّ، وانسجم النوّ، وصاب الغمام، وترنّمت (4) الحمام، وسفرت الأنوار (5) ، وزهت النجود والأغوار، واتفق أن وصل أبو يوسف المغنّي والأرض قد لبست زخارفها، ورقم الغمام مطارفها، وتدبجت (6) الغيطان والرّبى، وأرجت نفحات الصّبا، والمتوكل ما فضّ لتوبته ختاماً، ولا نفض عن قلبه منها قتاماً (7)، فكتب إليه:
ألمّ أبو يوسفٍ والمطر
…
فيا ليت شعري ما ينتظر
ولست بآبٍ وأنت الشهيد
…
حضور نديّك فيمن حضر
ولا مطلعي وسط تلك السماء
…
بين النجوم وبين القمر
(1) القلائد: لم يزل يعود.
(2)
القلائد: 43.
(3)
ك: أن الأرض توالى عليها الجدب بحضرته.
(4)
القلائد: وغنت.
(5)
في الأصول: الأزهار.
(6)
هذه رواية القلائد، وفي ق ك ط ج: وتتوجت.
(7)
ك: ولا قوض
…
خياماً.
وركضي فيها جياد المدام
…
محثوثةً بسياط الوتر فتعث إليه مركوباً، وكتب معه:
بعثت إليك جناحاً فطر
…
على خفيةٍ من عيون البشر
على ذللٍ (1) من نتاج البروق
…
وفي ظللٍ من نسيج الشّجر
فحسبي ممّن نأى من دنا
…
ومن غاب كان فدا من حضر فوصل القصبة (2) المطلّة على البطحاء، المزرية بمنازل الرّوحاء، فأقام منها حيث قال عديّ بن زيد يصف مصنعاً (3) :
في قبابٍ حول دسكرةٍ
…
حولها الزيتون قد ينعا ومرّ (4) لهم من السرور يومٌ ما مر لذي رعين، ولا تصوّر قبل عيونهم لعين. وأخبرني أنّه سايره إلى شنترين قاصية أرض الإسلام، السامية الذرا والأعلام، التي لا يروعها صرف، ولا يفرعها طرف، لأنّها متوعّرة المراقي، معفّرة (5) للراقي، متمكّنة الرّواسي والقواعد، من (6) ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد، قد أطلّت على خمائلها، إطلال العروس من منصّتها، واقتطعت من الجوّ أكثر من حصّتها، فمروا بألبش (7) قطرٍ سالت به جداوله، واختالت فيه خمائله، فما يجول الطّرف منه إلاّ في حديقة،
(1) ك: على فلك.
(2)
القلائد: فوصل إلى القصبة؛ وفي ك: فوصل القبة.
(3)
البيت في اللسان (دسكر) منسوباص للأخطل؛ والدسكرة: بناء كالقصر حوله بيوت اللهو والشراب.
(4)
القلائد: ومضى.
(5)
القلائد: معثرة.
(6)
القلائد: على.
(7)
في الأصول: بأنفس؛ وألبش - كما في القلائد ودوزي - هي (Elvas) وتقع إلى الغرب من بطليوس (Badajos) .
أو بقعة أنيقة، فتلقّاهم ابن مقانا قاضي حضرته وأنزلهم عنده، وأورى لهم بالمبرّة زنده، وقدّم لهم طعاماً، واعتقد قبوله منّاً وإنعاماً، وعندما طعموا قعد القاضي بباب المجلس رقيباً لا يبرح، وعين المتوكل حياءٍ منه لا تجول ولا تمرح، فخرج أبو محمد وقد أرمه بتثقيله، وحرمه راحة رواحه ومقيله، فلقي ابن خيرون منتظراً له، وقد أعد لحلوله منزله، فسار إلى مجلس قد ابتسمت ثغور نوّاره، وخجلت خدود ورده من زوّاره، وأبدت صدور أباريقه أسرارها، وضمّت عليه المحاسن أزرارها، ولما حضر له وقت الأنس وحينه، وأرجت له رياحينه، وجّه من يرقب المتوكل حتى يقوم جليسه، ويزول موحشه لا أنيسه، فأقام رسوله وهو بمكانه لا يريمه، قد لازمه كأنّه غريمه، فما انفصل، حتى ظن أن عارض الليل قد نصل، فلمّا علم أبو محمد بانفصاله بعث إلى المتوكل قطيع راح (1) وطبق ورد، وكتب معهما:
إليكها فاجتلها منيرةً
…
وقد خبا حتى الشهاب الثاقب
واقفةً بالباب لم يؤذن لها
…
إلاّ وقد كاد ينام الحاجب
فبعضها من المخاف جامدٌ
…
وبعضها من الحياء ذائب فقبلها منه، رحمه الله تعالى وعفا عنه، وكتب إليه:
قد وصلت تلك التي زففتها
…
بكراً وقد شابت لها ذوائب
فهبّ حتى نستردّ ذاهباً
…
من أنسنا إن استردّ ذاهب فركب إليه، ونقل معه ما كان بالمجلس بين يديه، وباتا ليلتهما لا يريمان السهر، ولا يشيمان برقاً إلا الكاس والزّهر.
ثم قال بعد كلام (2) : وأخبرني الوزير الفقيه أبو أيوب بن أبي أمية أنّه مرّ
(1) القلائد: بقطيع خمر؛ والقطيع - بلغة الأندلسيين - الزجاجة.
(2)
القلائد: 46.
في بعض أيّامه بروض مفترّ المباسم، معطّر الرياح النواسم، قد صقل الربيع حوذانه، وأنطق بلبله وورشانه (1) ، وألحف غصونه بروداً مخضرّة، وجعل إشراقة للشمس ضرّة، وأزاهره تتيه على الكواكب، وتختال في خلع الغمائم السواكب، فارتاح إلى الكون به بقيّة نهاره، والتنعم ببنفسجه وبهاره، فلمّا حصل من أنسه في وسط المدى، عمد إلى ورقة كرنبٍ قد بللها النّدى، وكتب فيها بطرف غصن، يستدعي الوزير أبا طالب ابن غانم، أحد ندمائه، ونجوم سمائه:
أقبل أبا طالبٍ إلينا
…
وقع وقوع الندّى علينا
فنحن عقدٌ بغير وسطى
…
ما لم تكن حاضراً لدينا [12 - من ترجمة المعتصم بن صمادح]
وقال في ترجمة المعتصم بن صمادح، ما صورته (2) : وأخبرني الوزير أبو خالد بن بشتغير (3) أنّه حضر مجلسه بالصمادحية في يوم غيم وفيه أعيان الوزراء، ونبهاء الشعراء، فقعد على موضع يتداخل الماء فيه، ويلتوي (4) في نواحيه، والمعتصم منشرح النفس، مجتمع الأنس، فقال:
أنظر إلى حسن هذا الماء في صببه
…
كأنّه أرقمٌ قد جدّ في هربه فاستبدعوه، وتيّموه به وأولعوه، فاسكب عليه شآبيب نداه، وأغرب بما ظهر من بشره وأبداه.
(1) الورشان: طائر مفرد يشبه الحمام.
(2)
القلائد: 48.
(3)
تصحفت هذه الكلمة كثيراً في الأصول، وفي نسخة هامش ك: يستعير، وعند دوزي: يشتغير.
(4)
القلائد: ويتلوى.
ثم قال بعد كلام (1) : وخرج إلى برجة ودلاية وهما نظران (2) لم يجل في مثلهماناظر، ولم تدّع حسنهما الخدود النواضر، غصونٌ تثنّيها الرياح، ومياه لها انسياح، وحدائق تهدي الأرج والعرف، ومنازل (3) تبهج النفس وتمتع الطرف، فأقام فيها أيّاماً يتدرج في مسارحها، ويتصرف في منازهها، وكانت نزهة أربت على نزهة هشام بدير الرّصافة، وأنافت عليها أيّ إنافة.
[13 - من ترجمة ابن رزين]
وقال في ترجمة ابن رزين، ما ملخّصه (4) : أخبرني الوزير أبو عامر [ابن سنون](5) أنّه اصطبح يوماً والجوّ سماكي (6) العوارف، لازورديّ المطارف، والروض أنيقة لبّاته، رقيقة هبّاته، والنور مبتلّ، والنسيم معتلّ، ومعه قومه، وقد راقهم يومه، وصلاته تصافح معتفيهم، ومبرّاته تشافه موافيهم، والراح تشعشع، وماء الأماني ينشع، فكتب إلى ابن عمّار وهو ضيفه:
ضمانٌ على الأيّام أن أبلغ المنى
…
إذا كنت في ودّي مسرّاً ومعلنا
فلو تسأل الأيّام: من هو مفرد
…
بودّ ابن عمّارٍ؟ لقلت لها: أنا
فإن حالت الأيّام بيني وبينه
…
فكيف يطيب العيش أو يحسن الغنا (7) فلمّا وصلت الرقعة إليه تأخّر عن الوصول، واعتذر بعذر مختلّ المعاني
(1) القلائد: 51.
(2)
ك: منظران.
(3)
ك: ومنازه.
(4)
القلائد: 51.
(5)
زيادة من القلائد.
(6)
دوزي: مسكي.
(7)
ك: أو يحصل المنى.
والفصول، فقال أحد الحاضرين: إنّي لأعجب من قعود ابن عمار، عن هذا المضمار، مع ميله إلى السّماع، وكلفه بمثل هذا الاجتماع، فقال ذو الرياستين: إن الجواب تعذر، فلذا اعتذر، لنّه يعاني قوله ويعلّله، ويروّيه ولا يرتجله، ويقوله في المدة الممتدّة، فرأى أن الوصول بلا جواب إخجال لأدبه، وإخلال لمنازله في الشعر ورتبه، فلمّا كان من الغد ورد ابن عمار ومعه الجواب، وهو:
هصرت لي الآمال طيّبة الجنى
…
وسوّغتني الأحوال مقبلة الدّنى
وألبستني النّعما أغضّ من النّدى
…
وأجمل من وشي الرّبيع وأحسنا
وكم ليلةٍ أحظيتني بحضورها
…
فبتّ سميراً للسّناء وللسّنا
أعلّل نفسي بالمكارم والعلا
…
وأذني وكفّي بالغناء وبالغنى
سأقرن بالتمويل ذكرك كلّما
…
تعاورت الأسماء غيرك والكنى
لأوسعتني قولاً وطولاً كلاهما
…
يطوّق أعناقاً ويخرس ألسنا
وشرّفتني من قطعة الروض بالتي
…
تناثر فيها الطّبع ورداً وسوسنا
تروق بجيد الملك عقداً مرصّعاً
…
وتزهو على عطفيه برداً مزيّنا (1)
فدم هكذا يا فارس الدّست والوغى
…
لتطعن طوراً بالكلام وبالقنا وأخبرني الوزير [الكاتب أبو جعفر](2) ابن سعدون أنّه اصطبح (3) يوماً بحضرته وللرذاذ رشّ، وللربيع على وجه الأرض فرش، وقد صقل الغمام الأزهار حتى أذهب نمشها، وسقاها فأروى عطشها، فكتب إليه:
فديناك لا يسطيعك النظم والنثر
…
فأنت مليك الأرض، واتصل (4) الأمر
(1) ق ط ج: وشياً معيناً.
(2)
زيادة من القلائد.
(3)
ق ط: أصبح.
(4)
القلائد: وانفصل.
مرينا نداك الغمر فانهلّ صيّباً
…
كما سكبت وطفاء أو سكب البحر (1)
وجاء الربيع الطّلق يبدي غضارة
…
فحيّتك منه الشمس والروض والنهر إلى أن قال (2) : ثم وجّه إلى روضة قد أرجت نفحاتها، وتدبجت ساحاتها، وتفتّحت كمائمها، وأفصحت حمائمها (3) ، وجردت جداولها كالبواتر، ورمقت أزهارها كالعيون الفواتر (4) ، وأقاموا يعملون أكواسهم (5) ، ويشتملون إيناسهم، فقال ذو الرياستين (6) :
وروضٍ كساه الطّلّ وشياً مجدّدا
…
فأضحى مقيماً للنفوس ومقعدا
إذا صافحته الريح خلت غصونه
…
رواقص في خضر من القضب (7) ميّدا
إذا ما انسكاب الماء عايننت خلته
…
وقد كسرته راحة الريح مبردا
وإن سكنت عنه حسبت صفاءه
…
حساماً صقيلاً صافي المتن جرّدا
وغنّت به ورق الحمائم بيننا
…
غناءً ينسّيك الغريض ومعبدا
فلا تجفونّ الدّهر ما دام مسعداً
…
ومدّ إلى ما قد حباك به يدا
وخذها مداماً من غزال كأنّه
…
إذا ما سقى بدرٌ تحمّل فرقدا إلى أن قال (8) : وأخبرني الوزير [أبو عامر](9) ابن سنون، أنّه كان معه في منية العيون، في يوم مطرّز الأديم، ومجلس معزز النديم، والأنس يغازلهم
(1) دوزي: أو فتق الزهر؛ ق ج ط: أو فتق البحر.
(2)
القلائد: 53.
(3)
القلائد: كمامها
…
حمامها.
(4)
القلائد: بعيون فواتر.
(5)
القلائد: كأسهم.
(6)
انظر أيضاً المغرب 2: 428.
(7)
دوزي: العصب؛ وفي القلائد: العصف، خطأ.
(8)
القلائد: 55.
(9)
زيادة من القلائد.
من كلّ ثنية، ويواصلهم بكل أمنية، فسكر أحد الحاضرين سكراً مثّل له ميدان الحرب، وسهّل عليه مستوعر الطعن والضرب، فقلب مجلس الأنس حرباً وقتالاً، وطلب الطعن وحده والنزالا (1)، فقال ذو الرياستين:
نفس الذليل تعزّ بالجريال
…
فيقاتل الأقران دون قتال
كم من جبان ذي افتخار باطلٍ
…
بالراح (2) تحسبه من الأبطال
[كبش النديّ تخمّطاً وعرامةً
…
وإذا تشبّ الحرب شاة نزال] (3)[14 - ترجمة ابن طاهر]
وقال في ترجمة ابن طاهر، ما صورته (4) : وجئته يوماً وقد وقفت بباب الحنش، فقال لي: من أين؟ فأعلمته، ووصفت له ما عاينته من حسنه وتأمّلته، فقال لي: كنت أخرج إليه في أكثر الليالي مع الوزير الأجلّ أبي بكر؟ يعين ابن عبد العزيز؟ إلى روضته التي ودّت الشمس أني يكون منها طلوعها، وتمنى المسك أن تنضم عليه ضوعها، والزمان غلام، والعيش أحلامن والدنيا تحية وسلام، والناس قد انتشروا في جوانبه، وقعدوا على مذانبه، وفي ساقيته الكبرى دولاب يئنّ كناقة إثر حوار، أو كثكلى من حرّ الأوار، وكل مغرم يجعل فيه ارتياحه، بكرته ورواحه، ويغازل عليه حبيبه، ويصرف إليه تشبيبه، فخرجت عليه ليلة والمتنبي الجزيري (5) واقف وأمامه ظبي آنس، تهيم
(1) من قول المتنبي:
وإذا ما خلا الجبان بأرض
…
طلب الطعن وحده والنزالا (2) القلائد: بالخمر.
(3)
سقط هذا البيت من الأصول.
(4)
القلائد: 64.
(5)
هو أبو طالب عبد الجبار كان يلقب بالمتنبي ويعرف بالجزيري نسبة إلى جزيرة شقر (الذخيرة 2/1: 401) .
به المكانس، وفي أذنيه قرطان، كأنّهما كوكبان، وهو يتأوّد تأوّد غصن البان، والمتنبي يقول:
معشر النّاس بباب الحنش
…
بدر تمّ طالع في غبش
علّق القرط على مسمعه
…
من عليه آفة العين خشي فلمّا رآني أمسك، وسبّح كأنّه قد تنسك.
[15 - من ترجمة ابن عمّار]
وقال في ترجمة ابن عمار، ما صورته (1) : وتنزه بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده بنو أميّة بالصّفّاح والعمد، وجروا في إتقانه إلى غير أمد، وأبدع بناؤه، ونمقت ساحته وفناؤه، واتخذوه ميدان مراحهم، ومضماراً لانشراحهم، وحكوا به قصرهم بالمشرق، وأطلعوه كالكوكب الثاقب المشرق، فحلّه أبو بكر ابن عمّار على أثر بوسه، وابتسم له دهره بعد عبوسه، والدنيا قد أعطت عفوها، وسقته صفوها، وبات فيه مع لمّةٍ من أتباعه، ومتفيئ رباعه، وكلهم يحييه بكاس، ويفديه بنفسه من كل باس، فطابت له ليلته في مشيده، وأطربه الأنس ببسيطه ونشيده، فقال:
كلّ قصرٍ بعد الدمشق يذمّ
…
فيه طاب الجنى وفاح المشمّ
منظرٌ رائقٌ، وماءٌ نميرٌ
…
وثرىً عاطرٌ، وقصرٌ أشمّ
بتّ فيه الليل والفجر عندي
…
عنبرٌ أشهبٌ ومسكٌ أحمّ وعبّر صاحب البدائع عن هذه القصة بقوله (2) : تنزه ابن عمار بالدمشق بقرطبة، وهو قصر شيّده خلفاء بني أميّة وزخرفوه، ودفعوا صرف الدهر
(1) القلائد: 84، وقد ورد بعض هذا النص من قبل، انظر ما تقدم ص:470.
(2)
انظر بدائع البدائه 2: 131.
عنه وصرفوه، وأجروه على إرادتهم وصرّفوه، وذهّبوا سقفه وفضّضوها، ورخّموا أرضه وروّضوها، فبات به السعد يلحظه بطرفه، والروض يحييه بعرفه، فلمّا استنفد كافور الصباح به مسك الغسق، ورصع آبنوس الظلام نضار الشفق، قال مرتجلاً: كل قصر بعد الدمشق يذمّ
…
إلخ، انتهى.
[16 - من ترجمة ابن لبون]
وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي عيسى ابن لبّون (1) : أخبرني الوزير أبو عامر ابن الطويل أنّه كان بقصر مربيطر بالمجلس المشرف منها (2) ، والبطحاء قد لبست زخرفها، ودبج الغمام مطرفها، وفيها حدائق ترنو عن مقل نرجسها، وتبثّ طيب تنفّسها، والجلّنار قد لبس أردية الدماء، وراع أفئدة الندماء، فقال:
قم يا نديم عليّ القرقفا
…
أوما ترى زهر الرياض مفوّفا
فتخال محبوباً مدلاًّ وردها
…
وتظن نرجسها محبّاً مدنفا
والجلّنار دماء قتلى معرك
…
والياسمين حباب ماء قد طفا إلى أن قال (3) : وشرب مع الوزراء ببطحاء لورقة [عند أخيه، وابن اليسع غائب عنها](4) في عشية تجود بدمائها، ويصوب عليها دمع سمائها، والبطحاء قد خلع عليها سندسها، ودنّرها (5) نرجسها، والشمس تنفض على الرّبى زعفرانها، والأنوار تغمض أجفانها، فكتب إلى ابن اليسع:
(1) القلائد: 99 وانظر المغرب 2: 376.
(2)
ج ق ط: المشرق منها.
(3)
القلائد: 100 والمغرب 2: 377.
(4)
زيادة من القلائد.
(5)
في الأصول: ودرها.
لو كنت تشهد يا هذا عشيّتنا
…
والمزن تسكب أحياناً وتنحدر
والأرض مصفرة كالشمس (1) كاسية
…
أبصرت تبراً عليه الدّرّ ينتثر [17 - من ترجمة ابن رحيم]
وقال في ترجمة ذي الوزارتين أبي بكر ابن رحيم، ما صورته (2) : ووصل هو وابن وضاح (3) صهر المرتضى، وابن جمال الخلافة صاحب صقلية، إلى إحدى جنّات مرسية، فحلوا منها في قبة فوق جدول مطّرد، وتحت أدواحٍ طيرها غرد، فأقاموا يتعاطون رحيقهم، ويعمرون في المؤانسة طريقهم، إذا بالجنّان قد وقف عليهم وقال: كان بموضعكم بالأمس صاحب الموضع ومعه شعور منشورة، وخدود غير مستورة، قد رفعت عنها البراقع، وما منها نظرة إلاّ ومعها سهم واقع، فاستدعى فحماً وكتب في إحدى زوايا القبّة:
قادنا ودّنا إليك فجئنا
…
بنفوس تفديك من كل بوس
فنزلنا منازلاً لبدور
…
وحللنا مطالعاً لشموس [18 - من ترجمة ابن عبدون]
وقال في ترجمة الوزير الكاتب أبي محمد ابن عبدون، ما صورته (4) : حللت بيابرة (5) فأنزلني واليها بقصرها، ومكّنني من جني الأماني وهصرها، فأقمت
(1) القلائد: المزن.
(2)
القلائد: 116.
(3)
في بعض أصول القلائد: وابن صمادح.
(4)
القلائد: 145.
(5)
يابرة (Evora) مدينة من كورة باجة أي هي من البرتغال، تقع على بعد 117 كيلومتراص بالسكة الحديدية من الأشبونة (لشبونة) ؛ وفي الأصول: حللت يابرة.
ليلي، أجرّ على المجرّة ذيلي، وتتطارد في ميدان السرور خيلي، فلمّا كان من الغد باكرني الوزير أبو محمد مسلّماً، ومن تنكّبي عنه متألّماً، ثم عطف على القائد عاتباً عليه، في كوني لديه، ثم انصرف وقد أخذني من يديه، فحللت عنده في رحب، وهمت عليّ من البرّ أمطار سحب، في مجلس كأن الدراري فيه مصفوفة، أو كأن الشمس إليه مزفوفة، فلمّا حان انصرافي، وكثر تطلّعي إلى مآبي واستشرافي، ركب معي إلى حديقة نضرة، مجاورة للحضرة، فأنخنا عليها أيدي عيسنا، ونلنا منها ما شئنا من تأنيسنا، فلمّا امتطيت عزمي، وسدّدت إلى غرض الرحلة سهمي، أنشدني:
سلامٌ يناجي منه زهر الرّبى عرف
…
فلا سمع إلاّ ودّ لو أنّه أنف
حنيني إلى تلك السّجايا فإنّها
…
لآثار أعيان المساعي التي أقفو ثم سرد القصيدة إلى أن قال: وله رحمه الله تعالى (1) :
سقاها الحيا من مغانٍ فساح
…
فكم لي بها من معانٍ فصاح
وحلّى أكاليل تلك الرّبى
…
ووشّى معاطف تلك البطاح
فما أنس لا أنس عهدي بها
…
وجرّي فيها ذيول المراح
ونومي على حبرات الرّياض
…
يجاذب برديّ مرّ الرّياح
ولم أعط أمر النّهى طاعة
…
ولم أصغ سمعاً إلى لحي لاح (2)
وليلٍ كرجعة طرف المريب
…
لم أدر له شفقاً من صباح [19 - من ترجمة ابن مالك]
وقال في ترجمة الوزير أبي محمد ابن مالك بعد كلام له فيه وإنشاده بيتيه
(1) القلائد: 146 والمغرب 1: 375.
(2)
ك: سمعي إلى قول لاح.
البديعين اللذين هما:
لا تلمني بأن طربت لشجوٍ
…
يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شقّ الجيوب حقّاً علينا
…
إنّما الشأن (1) أن تشقّ القلوب ما صورته (2) : وخرجت من إشبيلية مشيّعاً لأحد زعماء المرابطين، فألفيته معه مسايراً له في جملة من شيّعه، فلمّا انصرفنا مال بنا إلى معرّس أمير المسلمين أدام الله تعالى تأييده الذي ينزله عند حلوله إشبيلية (3) ، وهو موضع مستبدع، كأن الحسن فيه مودع، ما شئت من نهر ينساب انسياب الأراقم، وروض كما وشّت البرد يد راقم، وزهر يحسد المسك ريّاه، ويتمنّى الصبح أن يسم به محيّاه، فقطف غلام وسيم من غلمانه نورة ومن يده إليّ وهي في كفّه، فعزم عليّ أن أقول بيتاً في وصفه، فقلت:
وبدرٍ بدا والطّرف مطلع حسنه
…
وفي كفّه من رائق النّور كوكب فقال أبو محمد:
يروح لتعذيب النّفوس ويغتدي
…
ويطلع في أفق الجمال ويغرب
ويحسد منه الغصن أيّ مهفهفٍ
…
يجيء على مثل الكئيب ويذهب [20 - من ترجمة ابن السقاط]
وقال في ترجمة الوزير أبي القاسم ابن السّقّاط بعد كلام كثير، ما صورته (4) : وحملنا الوزير القاضي أبو الحسن ابن أضحى إلى إحدى ضياعه بخارج غرناطة،
(1) القلائد: إنما الحق.
(2)
القلائد: 171.
(3)
ك: بإشبيلية.
(4)
القلائد: 174.
ومعنا الوزير أبو محمد ابن مالك، وجماعة من أعيان تلك الممالك (1) ، فحللنا بضيعة لم ينحت المحل أثلها، ولم ترمق العيون مثلها، وجلنا بها في أكناف، جنّاتٍ ألفاف، فما شئت من دوحة لفّاء، وغصن يميس كعطفي هيفاء، وماء ينساب في جداوله، وزهرٍ يضمّخ بالمسك راحة متناوله؛ ولما قضينا من تلك الحدائق أرباً، وافتضضنا منها أتراباً عرباً، ملنا إلى موضع المقيل، وزلنا عن منازه تزري بمنازه جذيمة مع مالك وعقيل، وعند وصولنا بدا لي من أحد الأصحاب تقصيرّ في المبرّة، عرض لي منه تكدير لتلك العين (2) الثّرة، فأظهرت التثاقل أكثر ذلك اليوم، ثم عدلت عنهم إلى الاضطجاع والنوم، فما استيقظت إلا والسماء قد نسخ صحوها، وغيّم جوّها، والغمام منهمل، والثرى من سقياه ثمل، فبسطني بتحفّيه، وأبهجني ببرٍّ له لم يزل يتممه ويوفيه، وأنشدني:
يومٌ تجهّم فيه الأفق وانتثرت
…
مدامع الغيث في خدّ الثرى هملا
رأى وجومك فاربدّت (3) طلاقته
…
مضاهياً لك في الأخلاق ممتثلا [21 - من ترجمة ابن أضحى]
وقال في ترجمة الوزير القاضي أبي الحسن ابن أضحى، ما نصّه (4) : وكان لصاحب البلد الذي كان يتولّى القضاء به ابنٌ من أحسن الناس صورة، وكانت محاسن الأفعال والأقوال عليه مقصورة، مع ما شئت من لسن، وصت حسن، وعفاف، واختلاط بالبهاء (5) والتفاف، فحملنا إلى إحدى ضياعه بقرب
(1) القلائد: المسالك.
(2)
دوزي: العيون.
(3)
ق ك ج ط: فارتدت.
(4)
القلائد: 217.
(5)
دوزي: بالنبهاء.
من حضرة غرناطة فحللنا قرية على ضفّة نهر، أحسن من شاذمهر (1) ، تشقّها جداول كالصّلال، ولا ترمقها الشمس من تكاثف الظلال، ومعنا جملة من أعيانها، فأحضرنا من أنواع الطعام، وأرانا من فرط الإكرام والإنعام، ما لا يطاق ولا يحد، ويقصر عن بعضه العد، وفي أثناء مقامنا بدا لي من ذلك الفتى المذكور ما أنكرته فقابلته بكلام أحقده، وملام اعتقده (2) ، فلمّا كان من الغد لقيت منه اجتنابه، ولم أر منه ما عهدته من الإنابه، فكتبت إليه مداعباً، فراجعني بهذه القطعة:
أتتني أبا نصرٍ نتيجة خاطرٍ
…
سريعٍ كرجع الطّرف في الخطرات
فأعربت عن وجدٍ كمينٍ طويته
…
بأهيف طاوٍ فاتر اللحظات
غزالٍ أحمّ المقلتين عرفته
…
بخيف منىً للحسن أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رميّةٌ
…
لكلّ كحيل الطّرف ذي فتكات
وظنّ بأن القلب منك محصّبٌ
…
فلبّاك من عينيه بالجمرات
تقرّب بالنّسّاك في كل منسكٍ
…
وضحّى غداة النّحر بالمهجات
وكانت له جيّان مثوىً فأصبحت
…
ضلوعك مثواه بكل فلاة
يعزّ علينا أن تهيم فتنطوي
…
كئيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للنّاس في الحبّ فديةٌ
…
فديناك بالأموال والبشرات [22 - من ترجمة ابن خفاجة]
وقال في ترجمة أديب الأندلس وشاعرها أبي إسحاق ابن خفاجة بعد كلام، ما صورته (3) : وقال يندب معاهد الشباب، ويتفجّع لوفاة الإخوان والأحباب،
(1) شاذمهر: موضع نزه بنيسابور.
(2)
ك: بكلام اعتقده وملام أحقده.
(3)
القلائد: 236 والديوان: 177.
بعقب سيل أعاد الديار آثاراً، وقضى عليها وهياً وانتثاراً:
ألا عرّس (1) الإخوان في ساحة البلى
…
وما رفعوا غير القبور قبابا
فدمعٌ كما سحّ الغمام ولوعةٌ
…
كما أضرمت ريح الشمال شهابا
إذا استوقفتني في الدّيار عشيّةٌ
…
تلدّدت (2) فيها جيئةً وذهابا
أكرّ بطرفي في معاهد فتيةٍ
…
ثكلتهم بيض الوجوه شبابا
فطال وقوفي بين وجدٍ وفرقةٍ (3)
…
أنادي رسوماً لا تحير جوابا
وأمحو جميل الصّبر طوراً بعبرة
…
أخطّ بها في صفحتيّ كتابا
وقد درست أجسامهم وديارهم
…
فلم أر إلاّ أعظماً ويبابا
وحسبي شجواً أن أرى الدار بلقعاً
…
خلاء وأشلاء الصّديق ترابا ولقد أحلّني بهذه الديار المندوبة وهي كعهدها في جودة مبناها، وعودة سناها، في ليلة اكتحلنا ظلامها إثمداً، ومحونا بها من نفوسنا كمداً، ولم يزل ذلك الأنس يبسطه، والسرور ينشطه، حتى نشر لي ما طواه، وبثّ مكتوم لوعته وجواه، وأعلمني بلياليه فيها مع أترابه، وما قضى بها من أطرابه.
انتهى ما وقع عليه اختياري من كلام أبي نصر الفتح بن عبيد الله رحمه الله تعالى في وصف بعض منتزهات الأندلس البديعة، ورياضها المونقة المريعة.
[23 - من رسالة للفتح]
وما أحسن رسالة له مختصرة كتبها مهنئاً بعض ملوك الأندلس بما منحه الله تعالى من التمكين الذي أيده الله به ونصره، وقد جوّد أوصافه، واستطرد منها إلى ذكر الناصر وولده الحكم اللذين عمرا الزهراء والرّصافة، ونصّها:
(1) ق ك ج ط: ألا عرض.
(2)
ق ك ج ط: تلذذت.
(3)
القلائد: وزفرة. دوزي: وحرقة.
أدام الله تعالى أيّام الأمير للأرض (1) يتملّكها، ويستدير بسعده فلكها، وقد استبشر الملك أيدك الله وحقّ له الاستبشار، فقد أومأ إليه السعد وأشار، بما اتفق له من توليتك، وخفق عليه من ألويتك، فلقد حبي منك بملك أمضى من السهم المسدّد، طويل نجاد السيف رحب المقلّد، يتقدّم حيث يتأخّر الذابل، ويتكّرم إذا بخل الوابل، ويحمي الحمى كربيعة بن مكدّم (2) ، ويسقي الظّبا نجيعاً كلون العندم، فهنيئاً للأندلس فقد استردت عهد خلفائها، واستجدّت رسوم تلك الإمامة بعد عفائها، فكأن لم تمت أعاصرها، ولم يمت حكمها ولا ناصرها، اللذان عمرا الرصافة والزهرا، ونكحا عفائل الروم وما بذلا غير المشرفية مهرا، والله سبحانه أسأله إظهار أيامك، وبه أرجو انتشار أعلامك، حتى يكون عصرك أجمل من عصرهم، ونصرك أغرب من نصرهم، بمنّه وكرمه ويمنه.
[24 - من ترجمة ابن عطية]
وقال رحمه الله تعالى في ترجمة الفقيه القاضي الحافظ أبي محمد عبد الحق ابن عطية صاحب التفسير الشهير، بعد كلام كثير، ما صورته (3) : ومررنا في إحدى نزهنا بمكان مقفر، وعن المحاسن مسفر، وفيه بكير نرجس كأنّه عيون مراض، يسيل وسطه ماء رضراض، بحيث لا حس إلا للهام، ولا أنس إلا ما يتعرض للأوهام، فقال:
نرجسٌ باكرت منه روضةً
…
لذّ قطع الدّهر فيها وعذب
حثّت الريح بها خمر حياً
…
رقص النبت لها ثمّ شرب
(1) بعض النسخ: للأزمن.
(2)
ق: ربيعة بن المكدم.
(3)
القلائد: 211.
فغدا يسفر عن وجنته
…
نوره الغضّ ويهتزّ طرب
خلت لمع الشمس في مشرقه
…
لهباً يجمد منه في لهب
وبياض الطّلّ في صفرته
…
نقط الفضّة في خطّ الذهب انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى كثير من وصف بلاد الأندلس ومنتزهاتها، وما اشتملت عليه من المحاسن، في كلام غير واحد ممن يجري ذكره في هذا الكتاب، وخصوصاً أديب زمانه غير مدافع، من اعترف له أهل الشرق، بالسبق، وأهل المغرب، بالإبداع المغرب، النور أبو الحسن عليّ بن سعيد العنسي، فإنّه لما دخل مصر اشتاق (1) إلى تلك المواطن الأندلسيّة الرائقة، ووصفها بالقصائد والمقطوعات الفائقة، وقد أسلفنا أيضاً فيما مرّ من هذا الكتاب بعض ما يتعلّق بمحاسن الأندلس، فليراجع في محلّه من هذا الكتاب.
قلت: وماذا عسى أن نذكر من محاسن قرطبة والزاهرة والزهرا، أو نصف من محاسن الأندلس التي تبصر بكل موضع منها ظلاًّ ضافياً ونهراً وزهرا، ويرحم الله تعالى أديبها المشهور، الذي اعترف له بالسبق الخاصة والجمهور، أبا إسحاق ابن خفاجة، إذ قال (2) :
يا أهل أندلسٍ لله درّكم
…
ماءٌ وظلٌ وأنهارٌ وأشجار
ما جنّة الخلد إلى في دياركم
…
ولو تخيّرت هذا كنت أختار
لا تحسبوا في غدٍ (3) أن تدخلوا سقراً
…
فليس تدخل بعد الجنّة الناري ويروى مكان قوله:
ولو تخيرت هذا كنت أختار
…
(1) ك: لما اتصل بمصر ودخلها اشتاق
…
إلخ.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 364.
(3)
ك: لا تختشوا بعد ذا.
ما مثاله:
وهذه كنت لو خيّرت أختار
…
وكذا رأيت بخط الحافظ التّنسي، والأول رايته بخط العلاّمة الوانشريشي رحمهما الله تعالى.
وحكي أن الخليليّ لما قدم من الندلس رسولاً إلى سلطان المغرب أبي عنان فارس ابن السلطان أبي الحسن المريني أنشد بحضرة السلطان المذكور أبيات ابن خفاجة هذه كالمفتخر ببلاد الأندلس، فقال السلطان أبو عنان: كذب هذا الشاعر - يشير إلى كونه جعلها جنّة الخلد، وأنّه لو خير لاختارها على ما في الآخرة - وهذا خروج من ربقة الدين، ولا أقلّ من الكذب والإغراق، وإن جرت عادة الشعراء بذلك الإطلاق، فقال الخليليّ: يا مولانا، بل صدق الشاعر، لأنّها موطن جهاد، ومقارعة للعدوّ وجلاد، والنبي صلى الله عليه وسلم الرؤوف الودود الرحيم العطوف (1)، يقول: الجنّة تحت ظلال السيوف، فاستحسن منه هذا الكلام، ورفع عن قائل الأبيات الملام، وأجزل صلته، ورفع منزلته. ولعمري إن هذا الجواب، لجدير بالصواب، وهكذا ينبغي أن تكون رسل الملوك في الافتنان، روّح الله تعالى أرواح الجميع في الجنان.
[قصائد لابن خفاجة]
وأبو إسحاق ابن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين، وقد سبق بعض كلامه، ويأتي أيضاً منه بعضٌ أثناء الكتاب، ومن ذلك قوله (2) :
(1) هكذا في ك؛ وفي ق: الرحيم الرؤوف يقول
…
(2)
ديوان ابن خفاجة: 336.
وكمامةٍ حدر الصباح قناعها
…
عن صفحة تندى من الأزهار
في أبطحٍ رضعت ثغور أقاحه
…
أخلاف كلّ غمامةٍ مدرار
نثرت بحجر الأرض فيه يد الصّبا
…
درر النّدى ودراهم النّوّار
وقد ارتدى غصن النّقا، وتقلّدت
…
حلي الحباب سوالف الأنهار
فحللت حيث الماء صفحة ضاحك
…
جذلٍ وحيث الشّطّ بدء عذار
والريح تنفض بكرةً لمم الرّبى
…
والطّلّ ينضح أوجه الأشجار
متقسّم الألحاظ بين محسنٍ
…
من ردف رابيةٍ وخضر قرار
وأراكة سجع الهديل بفرعها
…
والصبح يسفر عن جبين نهار
هزّت له أعطافها ولربّما
…
خلعت عليه ملاءة الأنوار وقوله (1) :
سقياً ليوم قد أنخت بسرحةٍ
…
ريّا تلاعبها الرياح فتلعب
سكرى يغنّيها الحمام فتنثني
…
طرباً ويسقيها الغمام فتشرب
يلهو فترفع للشبيبة رايةٌ
…
فيه، ويطلع للبهارة كوكب
والروض وجهٌ أزهرٌ، والظلّ فر
…
عٌ أسودٌ، والماء ثغرٌ أشنب
في حيث أطربنا الحمام عشيّةً
…
فشدا يغنّينا الحمام المطرب
واهتزّ عطف الغصن من طرب بنا
…
وافترّ عن ثغر الهلال المغرب
فكأنّه والحسن مقترنٌ به
…
طوقٌ على برد الغمامة مذهب
في فتيةٍ تسري فينصدع الدّجى
…
عنها، وتنزل بالجديب فيخصب
كرموا فلا غيث السّماحة مخلفٌ
…
يوماً، ولا برق اللطافة خلّب
من كل أزهر للنعيم بوجهه
…
ماء يرقرقه الشّباب فيسكب وقال يمدح الأمير أبا يحيى بن ابراهيم (2) :
(1) ديوانه: 289؛ وفي ق: وقال.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 33 وأبو يحيى هو أبو بكر بن إبراهيم المعروف بابن تيلفويت (- 510) أحد أمراء المرابطين، وكان والياً مدة على سرقسطة وهو ممدوح الفيلسوف ابن باجة. والشاعر يسأله في هذه القصيدة أن يشكر القائد الأعلى أبا عبد الله ابن عائشة لبر لحق ابن خفاجة من جهته.
سمح الخيال على النوى بمزار
…
والصبح يمسح عن جبين نهار
فرفعت من ناري لضيف طارق
…
يعشو إليها من خيال طاري
ركب الدّجى أحسن به من مركبٍ
…
وطوى السّرى أحسن به من ساري
وأناخ حيث دموع عيني منهل
…
يروي، وحيث حشاي موقد نار
وسقى فأروى غلّة من ناهل (1)
…
أورى بجانحتيه زند أوار
يلوي الضلوع من الولوع لخطرة
…
من شيم برق أو شميم عرار
مترقّبٌ رسل الرياح عشيّةً
…
بمساقط الأنواء والأنوار
ومجرّ ذيل غمامة لبست به
…
وشي الحباب معاطف الأنهار
خفقت ظلال الأيك فيه ذوائباً
…
وارتجّ ردفاً مائج (2) التّيّار
ولوى القضيب هناك جيداً أتلعاً
…
قد قبّلته مباسم النّوّار
باكرته والغيم قطعة عنبر
…
مشبوبةٌ والبرق لفحة نار
والريح تلطم فيه أرداف الرّبى
…
لعباً وتلثم أوجه الأزهار
ومنابر الأشجار قد قامت بها
…
خطباء مفصحةٌ من الأطيار
في فتية جنبوا العجاجة ليلةً
…
ولربّما سفروا عن الأقمار
ثار القتام بهم دخاناً وارتمى
…
زند الحفيظة منهم بشرار
شاهدت من هيئاتهم وهباتهم
…
إشراف أطوادٍ وفيض بحار
من كلّ منتقبٍ بوردة خجلة
…
كرماً ومشتمل بثوب وقار
في عمّةٍ خلعت عليه للمّةٍ
…
وذؤابة قرنت بها لعذار
ضافي رداء المجد طمّاح العلا
…
طامي عباب الجود رحب الدار
(1) الناهل: الظمآن.
(2)
ق ك: مائل.
جرّار أذيال المعالي والقنا
…
حامي الحقيقة والحمى والجار
طرد القنيص بكلّ قيد طريدةٍ
…
زجل الجناح مورّد الأظفار
ملتفّة أعطافه بجبيرةٍ
…
مكحولة أجفانه بنضار
يرمى به الأمل القصيّ فينثني
…
مخضوب راء (1) الظّفر والمنقار
وبكلّ نائي الشّوط أشدق أخزر
…
طاوي الحشا حالي المقلّد ضاري
يفترّ عن مثل النّصال (2) ، وإنّما
…
يمشي على مثل القنا الخطّار
مستقرياً أثر القنيص على الصّفا
…
والليل مشتمل بشملة قار
من كلّ مسودّ تلهّب طرفه
…
ترميك فحمته بشعلة نار
ومورّس السّربال يخلع قدّه
…
عن نجم رجمٍ في سماء غبار
يستنّ في سطر الطريق وقد عفا
…
قدماً فتقرأ أحرف الآثار
عطف الضمور سراته فكأنّه
…
والنّقع يحجبه هلال سرار
ولربّ روّاغٍ هنالك أنبطٍ
…
ذلق المسامع أطلس الأطمار
يجري على حذر فيجمع بسطه
…
يهوي فينعطف انعطاف سوار
ممتدّ حبل الشأو يعسل رائغاً
…
فيكاد يفلت أيدي الأقدار
وعنا الزمان لأمره فكأنما
…
أصغى الزمان به أمار
متردّد يرمي به خوف الرّدى
…
كرة تهادتها أكفّ قفار
ولربّ طيّارٍ خفيفٍ قد جرى
…
فشلاً بجارٍ خلفه طيّار
من كلّ قاصرة الخطا مختالة
…
مشي الفتاة تجرّ فضل إزار
مخضوبة المنقار تحسب أنّها
…
كرعت على ظمإ بكأس عقار
ولو استجارت منهما بحمى أبي
…
يحيى لآمنها أعزّ جوار
خدم القضاء مراده فكأنّما
…
ملكت يداه أعنّة الأقدار
وجلا الإمارة في رفيف نضارةٍ
…
جلت الدّجى في حلّة الأنوار
(1) ك: دره؛ والمعنى أن ظفره ومنقاره معوجان كحرف " الراء ".
(2)
ق: النضار.
في حيث وشّح لبّةً بقلادةٍ
…
منها وحلّى معصماً بسوار
جذلان يملأ منحةً وبشاشةً
…
أيدي العفاة وأعين الزّوّار
أرج النّديّ بذكره فكأنّه
…
متنفّسٌ عن روضةٍ معطار
بطل حوى الفلك المحيط بسرجه
…
واستلّ صارمه يد المقدار
بيمينه يوم الوغى وشماله
…
ما شاء من نارٍ ومن إعصار
والسّمر حمرٌ (1) ، والجياد عوابسٌ
…
والجوّ كاسٍ، والسيوف عواري
والخيل تعثر في شبا شوك القنا
…
قصداً وتسبح في الدم الموّار
والبيض تحنى في الطلى فكأنّما
…
تلوى عرىً منها على أزرار
والنقع يكسر من سنا شمس الضحى
…
فكأنّه صدأ على دينار
صحب الحسام النّصر صحبة غبطةٍ
…
في كفّ صوّالٍ به سوّار
ومضى وقد ملكه هزّة عزّةٍ
…
تحت العجاج وضحكة استبشار وقال رحمه الله تعالى (2) :
وأراكةٍ ضربت سماء فوقنا
…
تندى وأفلاك الكؤوس تدار
حفّت بدوحتها مجرّة جدولٍ
…
نثرت عليه نجومها الأزهار
وكأنّها وكأنّ جدول مائها
…
حسناء شدّ بخصرها زنّار
زفّ الزجاج بها عروس مدامةٍ
…
تجلى ونوّار الغصون نثار
في روضة جنح الدّجى ظلٌّ بها
…
وتجسّمت نوراً بها الأنوار
غنّاء ينشر وشيه البزّاز لي
…
فيها ويفتق مسكه العطّار
قام الغناء (3) بها وقد نضح النّدى (4)
…
وجه الثرى واستيقظ النّوّار
(1) ق: والشمس خمر.
(2)
ديوان ابن خفاجة: 351.
(3)
ج ط: الغبار.
(4)
ج: الدجى.
والماء في حلي الحباب مقلّد
…
زرّت عليه جيوبها الأشجار وقال ملتزماً ما لا يلزم (1) :
خذها إليك وإنّها لنضيرة
…
طرأت إليك قليلة النّظراء
حملت وحسبك بهجةً من نفحةٍ (2)
…
عبق العروس وخجلة العذراء
من كل وارسة القميص كأنّما
…
نشأت تعلّ بريقة الصّفراء
نجمت تروق بها نجوماً حسبها (3)
…
بالأيكة الخضراء من خضراء
وأتتك تسفرعن وجوهٍ طلقةٍ
…
وتنوب من لطفٍ عن الشعراء
يندى بها وجه النّدى ولربّما
…
بسطت هناك أسرّة (4) السرّاء
فاستضحكت وجه الدجى مقطوعة
…
حملت جمال الغرّة الغرّاء وقال أيضاً (5) :
وصدر نادٍ نظمنا
…
له القوافي عقدا
في منزل قد سحبنا
…
بظلّه العزّ بردا
تذكو به الشّهب جمراً
…
ويعبق الليل ندّا
وقد تأرّج نورٌ
…
غضٌّ يخالط وردا
كما تنفّس ثغرٌ
…
عذبٌ يقبّل خدّا وقال من قصيدة يصف منتزهاً (6) :
(1) ديوانه: 71.
(2)
ق ط ج: نفحة في بهجة.
(3)
ق: نجوم حسنها.
(4)
ك: هنالك أوجه.
(5)
ديوان ابن خفاجة: 80.
(6)
ديوانه: 337.
يا ربّ وضّاح الجبين كأنّما
…
رسم العذار بصفحتيه كتاب
تغرى بطلعته العيون مهابةً
…
وتبيت تعشق عقله الألباب
خلعت عليه من الصباح غلالة
…
تندى ومن شفق المساء (1) نقاب
فكرعت من ماء الصّبا في منهلٍ
…
قد شفّ عنه من القميص سراب
في حيث للريح الرّخاء تنفّسٌ
…
أرجٌ، وللماء الفرات عباب (2)
ولربّ غضّ الجسم مدّ بحوضه (3)
…
سبحاً كما شقّ السّماء شهاب
ولقد أنخت بشاطئيه يهزّني
…
طرباً شبابٌ راقني وشراب
وبكيت (4) دجلته يضاحكني بها
…
مرحاً حبيبٌ شاقني وحباب
تجلى من الدنيا عروسٌ بيننا
…
حسناء ترشف والمدام رضاب
ثم ارتحلت وللنهار ذؤابةٌ
…
شيباء تخضب والظلام (5) خضاب
تلوي معاطفي الصبابة والصّبا
…
والليل دون الكاشحين حجاب وقال (6) :
مرّ بنا وهو بدر تمّ
…
يسحب من ذيله سحابا
بقامةٍ تنثني قضيباً
…
وغرّةٍ تلتظي شهابا
يقرأ والليل مدلهمّ
…
لنور إجلائه كتابا
وربّ ليل سهرت فيه
…
أزجر من جنحه غرابا (7)
حتى إذا الليل مال سكراً
…
وشقّ سرباله وجابا
(1) ق ك ج ط: السماء.
(2)
بعد هذا البيت في الديوان " ومنها " اعتماداً على الذخيرة.
(3)
الديوان: مر يخوضه؛ ج: مر.
(4)
الديوان: وعبرت. ج: وبكت وحلته.
(5)
ق ك ج ط: والنهار.
(6)
ديوان ابن خفاجة: 338 وهي في الذخيرة أيضاً، وفي الروايتين اختلافات.
(7)
ق ك ج ط: نكابا.
وحام من سدفةٍ غرابٌ
…
طالت به سنّه (1) فشابا
ازددت من لوعتي خبالاً
…
فحثّ من غلّتي شرابا
وما خطا قادماً فوافى
…
حتى انثنى ناكصاً فآبا
وبين جفنيّ بحر شوقٍ
…
يعبّ في وجنتي عبابا
قد شبّ في وجهه شعاع
…
وشبّ عن قلبي التهابا
وروضة طلقة حياء
…
غنّاء مخضرّة جنابا
ينجاب عن نورها كمامٌ
…
يحطّ عن وجهه نقابا
بات بها مبسم الأقاحي
…
يرشف من طلّها رضابا
ومن خفوق البروق فيها
…
ألويةٌ حمّرت خضابا
كأنّها أنملٌ واردٌ
…
تحصر قطر الحيا حسابا وله أيضاً (2) :
رحلت عنكم ولي فؤادٌ
…
تنقض أضلاعه حنينا
أجود فيكم بعلق دمع
…
كنت به قبلكم ضنينا
يثور في وجنتيّ جيشاً
…
وكان في جفنه كميناً
كأنني بعدكم شمال
…
قد فارقت منكم يمينا وقال (3) :
فيا لشجا صدر (4) من الصبر فارغٍ
…
ويا لقذى طرفٍ من الدمع ملآن
ونفسٍ إلى جوّ الكنيسة صبّةٍ
…
وقلبٍ إلى أفق الجزيرة حنّان
(1) ق: مدة.
(2)
ديوانه: 340 والذخيرة؛ ولفظة أيضاً سقطت من ك ج ط.
(3)
ديوان ابن خفاجة: 345 والذخيرة.
(4)
ك: قلب.
تعوّضت من واهاً بآهٍ ومن هوىً
…
بهونٍ ومن إخوان صدق بخوّان
وما كلّ بيضاءٍ تروق بشحمةٍ
…
وما كلّ مرعىً ترتعيه بسعدان
فيا ليت شعري هل لدهري عطفةً
…
فتجمع أوطاري عليّ وأوطاني
ميادين أوطاري ولذة لذتي
…
ومنشأ تهيامي وملعب غزلاني
كأن لم يصلني في ظبيٌ يقوم لي
…
لماه وصدغاه براحي وريحاني
فسقياً لواديهم وإن كنت إنّما
…
أبيت لذكراه بغلّة ظمآن
فكم يوم لهوٍ قد أدرنا بأفقه
…
نجوم كؤوسٍ بين أقمار ندمان
شطر أول
…
شطر ثاني
وللقضب والأطيار ملهىً بجزعه (1)
…
فما شئت من رقصٍ على رجع ألحان
وبالحضرة الغرّاء غرٌّ (2) علقته
…
فأحببت حبّاً فيه قضبان نعمان
رقيق الحواشي في محاسن وجهه
…
ومنطقه مسلى قلوبٍ وآذان
أغار لخدّيه على الورد كلما
…
بدا ولعطفيه على غصن البان
وهبني أجني ورد خدّ بناظري
…
فمن اين لي منه بتفّاح لبنان
يعللني منه بموعد رشفةٍ
…
خيالٌ له يغري بمطلٍ وليّان
حبيب عليه لجّة من صوارم
…
علاها حبابٌ من أسنّة مرّان
تراءى لنا في مثل صورة يوسفٍ
…
تراءى لنا في مثل ملك سليمان
طوى برده منها صحيفة فتنةٍ
…
قرأنا لها من وجهه سطر عنوان
محبّته ديني ومثواه كعبتي
…
ورؤيته حجّي وذكراه قرآني وقال أيضاً رحمه الله تعالى (3) :
وليلٍ تعاطينا المدام وبيننا
…
حديثٌ كما هبّ النسيم على الورد
نعاوده والكأس يعبق نفحه (4)
…
وأطيب منها ما نعيد وما نبدي
(1) في بعض النسخ: بأفقه.
(2)
ق: الغرا أغن.
(3)
ديوان ابن خفاجة: 348.
(4)
الديوان: تعبق مسكة.
ونقلي أقاح الثّغر أو سوسن الطّلى
…
ونرجسة الأجفان أو وردة الخدّ
إلى أن سرت في جسمه الكاس والكرى
…
ومالا بعطفيه فمال على عضدي
فأقبلت أستهدي لما بين أضلعي
…
من الحرّ ما بين الثّنايا (1) من البرد
وعاينته قد سلّ من وشي برده
…
فعانقت منه السيف سلّ من الغمد
ليان مجسّ واستقامة قامةٍ
…
وهزّة أعطافٍ ورونق إفرند
أغازل منه الغصن في مغرس النّقا
…
وألثم وجه الشمس في مطلع السعد
فإن لم يكنها أو تكنه فإنّه
…
أخوها كما قدّ الشراك من الجلد
تسافر كلتا راحتيّ بجسمه
…
فطوراً إلى خصرٍ وطوراً إلى نهد
فتهبط من كشحيه كفٌّ (2) تهامةً
…
وتصعد من نهديه أخرى إلى نجد وقال أيضاً (3) :
ورداء ليل بات فيه معانقي
…
طيفٌ ألمّ لظبية (4) الوعساء
فجمعت بين رضابه وشرابه
…
وشربت من ريق ومن صهباء
ولثمت في ظلماء ليلة وفره
…
شفقاً هناك لوجنةٍ حمراء
والليل مشمطّ الذوائب (5) كبرةً
…
خرف يدبّ على عصا الجوزاء
ثمّ انثنى والصبح يسحب فرعه
…
ويجرّ من طربٍ فضول رداء
تندى بفيه أقحوانة أجرعٍ
…
قد غازلتها الشمس غبّ سماء
وتميس في أثوابه ريحانة
…
كرعت على ظمإ بجدول ماء
نفّاحة الأنفاس إلا أنّها
…
حذر النّدى خفّاقة الأفياء
(1) هذه رواية الذخيرة والديوان، وفي ق ك ج ط: الضلوع.
(2)
ق ك ج ط: كفي.
(3)
ديوان ابن خفاجة: 153.
(4)
في ق ك ط: بظبية. ج: بطيبة الوعثاء.
(5)
ق ج ط: الذؤابة.
فلويت معطفها اعتناقاً حسبنا (1)
…
فيه بقطر الدّمع من أنواء [قصيدتان لابن سعيد]
وكان المعتمد بن عباد رحمه الله تعالى كثيراً ما ينتاب وادي الطلح مع رميكيته، وأولي أنسه ومسرته، وهو واد بشرف إشبيلية ملتفّ الأشجار، كثير ترنم الأطيار، وفيه يقول نور الدين ابن سعيد:
سائل بوادي الطّلح ريح الصّبا
…
هل سخّرت لي من زمان (2) الصّبا
كانت رسولاً فيه ما بيننا
…
لن نأمن الرّسل ولن نكتبا
يا قاتل الله أناساً إذا
…
ما استؤمنوا خانوا فما أعجبا
هلاّ راعوا أنّا وثقنا بهم
…
وما اتّخذنا عنهم مذهبا
يا قاتل الله الذي لم يتب
…
من غدرهم من بعد ما جرّبا
واليمّ لا يعرف ما طعمه
…
إلاّ الذي وافى لأن يشربا
دعني من ذكر الوشاة الألى
…
لمّا يزل فكري بهم ملهبا
واذكر بوادي الطلح عهداً لنا
…
لله ما أحلى وما أطيبا
بجانب العطف وقد مالت ال
…
أغصان والزهر يبثّ الصّبا
والطير مازت بين ألحانها
…
وليس إلا معجباً مطربا
وخانني من لا أسميه من
…
شحّ أخاف الدهر أن يسلبا
قد أترع الكأس وحيّا بها
…
وقت أهلاً بالمنى مرحبا
أهلاً وسهلاً بالذي شئته
…
يا بدر تمّ مهدياً كوكبا
لكنّني آليت أسقى بها
…
أو تود عنها ثغرك الأشنبا
فمجّ لي في الكأس منثغره
…
ما حبّب الشرب وما طيّبا
(1) الديوان: حسبها.
(2)
دوزي: في زمان.
وقال ها لثمي نقلاً ولا
…
تشمّ إلا عرفي الأطيبا (1)
واقطف بخدّي الورد والآس (2) وال
…
نّسرين لا تحفل بزهر الرّبى
أسعفته غصناً غدا مثمراً
…
ومن جناه ميسه قرّبا
قد كنت ذا نهيٍ وذا إمرةٍ
…
حتى تبدّى فحللت الحبا
ولم أصن عرضي في حبّه
…
ولم أطع فيه الذي أنّبا
حتى إذا ما قال لي حاسدٌ
…
ترجوه والكوكب أن يغربا
أرسلت من شعري سحراً له
…
ييسّر المرغب والمطلبا
وقال عرّفه بأنّي سأح
…
تال فما أجتنب المكتبا
فزاد في شوقي له وعده
…
ولم أزل مقتعداً (3) مرقبا
أمدّ طرفي ثم أثنيه من
…
خوف أخي التنغيص أن يرقبا
أصدّق الوعد وطوراً أرى
…
تكذيبه والحرّ لن يكذبا
أتى ومن سخّره بعدما
…
أيأس (4) بطءٌ كاد أن يغضبا
قبلت في الترب ولم أستطع
…
من حصر اللّقيا سوى مرحبا
هنأت ربعي إذ غدا هالةً
…
وقلت يا من لم يضع أشعبا
بالله مل معتنقاً لاثماً
…
فمال كالغصن ثنته الصّبا
فقال ما ترغب قلت اتّئد
…
أدركت إذ كلّمتني المرغبا (5)
فقال لا مذهب (6) عن ذكر ما
…
ترغبه قلت إذن مركبا
وكان ما كان فوالله ما
…
ذكرته دهري أو أغلبا
(1) بعض النسخ: الطيبا.
(2)
بعض النسخ: الآس والورد.
(3)
ق ك ج ط: معتقداً.
(4)
ق ج ط: آيس.
(5)
في نسخة: المأربا.
(6)
ق ك: مرغب.
وستأتي هذه القصيدة بكاملها (1) في جملة من نظم ابن سعيد المذكور (2) .
وقال يتشوق إلى إشبيلية، وهو حمص الأندلس:
أنّ الخليج وغنّت الورقاء
…
هل برّحا إذ هاجت البرحاء
أنا منكما أولى بحلية عاشقٍ
…
أفنى وما نمّت بي الصعداء
أخشى الوشاة فما أفوه بلفظةٍ
…
والكتم عند العاشقين عناء
لولا تشوّق أرض حمصٍ ما جرى
…
دمعي ولا شمتت بي الأعداء
لم أستطع كتماً له فكأنّني
…
ما كان لي كتمٌ ولا إخفاء
والبدر مهما رام كتماً من سرى
…
فيه ينمّ على سراه ضياء
بلدٌ متى يخطر له ذكرٌ هفا
…
قلبي وخان تصبّرٌ وعزاء
من بعده ما الصبح يشرق نوره
…
عندي، ولا تتبدّل الظلماء
كم لي به من ذي وفاء لم يخن
…
عهدي، وينمو بالوداد وفاء
فتراه إما مرّ ذكري سائلاً (3)
…
عن حالتي إن قلّت الأنباء
يمسي ويصبح في تذكّر مدّة
…
يرضى بها الإصباح والإمساء
مع كل مبذول الوصال ممنّعٍ
…
من غيرنا تسمو به الخيلاء
كالظبي، كالشمس المنيرة، كالنّقا
…
كالغصن يثني معطفيه رخاء
يسعى براح كالشهاب، براحة
…
كالبدر، والوجه المنير ذكاء
ما لان نحو الوصل حتى طال من
…
هـ الهجر واتّصلت به البلواء
خير المحبّة ما تأتّت عن قلىً
…
تدرى ببؤس الفاقة النّعماء
ما زلت أرقي بالقريض جنونه
…
حتى استكان، وكان منه إباء
فظفرت منه بمدّة لو أنّها
…
دامت لدامت لي بها السّرّاء
(1) بكمالها: زيادة من نسخة ك.
(2)
سيأتي شعر ابن سعيد في الباب الخامس من الكتاب.
(3)
ط ج ق: فترى إذا ما مر ذكري سائل.
صفوٌ تكدّر بالتحرّك، ليته
…
ما زال (1) ، لكن لا يردّ قضاء
إنّ الفراق هو المنيّة، إنّما
…
أهل النّوى ماتوا وهم أحياء
لولا تذكّر لذّةٍ طابت لنا
…
بذرا الجزيرة حيث طاب هواء
وجرى النسيم على الخليج معطّراً
…
وتبدّدت في الدّوحة الأنداء
ما كابدت نفسي أليم تفكّر
…
ألوى به عن جفني الإغفاء (2)
يا نهر حمصٍ لا عدتك مسرّةٌ
…
ماءٌ يسيل لديك أم صهباء
كلّ النفوس تهشّ فيك كأنّما
…
جمعت عليك شتاتها الأهواء
ودّي إليك مع الزمان مجدّدٌ
…
ما إن يحول تذكّرٌ وعناء
ولو أنّني لم أحي ذكراً للّذي
…
أوليته ما كان فيّ حياء
ما كنت أطمع في الحياة لو أنني
…
ألقيت أن لا يسترو لقاء
غيري إذا ما بان حان، وإنّما
…
أبقى حياتي، حين بنت، رجاء وسيأتي إن شاء الله تعالى لهذا النمط وغيره مزيد أثناء الكتاب، بحسب ما اقتضته المناسبة، والله تعالى المرجو في حسن المتاب، وهو سبحانه لا إله إلا هو الموفّق للصواب (3) .
تم المجلد الأول
(1) ق ط ج: لينه ما زلت.
(2)
ك: الإغضاء.
(3)
عند هذا الحد تنتهي النسخة ك، وفي آخرها: " انتهى السفر الأول من كتاب نفح الطيب
…
الخ ".