الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقال صاحب نشق الأزهار: إن في جامع قرطبة تنّوراً من نحاس أصفر يحمل ألف مصباح، وفيه أشياء غريبة، من الصنائع العجيبة، يعجز عن وصفها الواصفون، قيل: أحكم عمله في سبع سنين، وفيه ثلاثة أعمدة من رخام أحمر، مكتوب على الواحد اسم محمد، وعلى الآخر صورة عصا موسى وأهل الكهف، وعلى الثالث (1) صورة غراب نوح عليه الصلاة والسلام، الثلاثة خلقها الله تعالى ولم يصنعها صانع، انتهى.
قلت: لم أر أحداً من محققي المؤرخين للأندلس وثقاتهم ذكر هذا، على قلّة اطلاعي، وهو عندي بعيد، لأنّه لو كان لذكره الأئمة.
وقد حكى القاضي (2) عياض في الشفاء أشياء وجد عليها اسم نبينا صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر هذا، ويستبعد أن يكون بجامع قرطبة ولا يذكره، والله تعالى أعلم بحقيقة الأمر.
وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: من دور قرطبة أربعة عشر ميلاً، وعرضها ميلان، وهي على النهر الكبير وعليه جسران، وبها الجامع الكبير الإسلامي، وبها الكنيسة المعظمة بين النصارى، وبهذه المدينة معدن الفضّة ومعدن الشاذنج (3) ، وهو حجر من شأنه أن يقطع الدم؛ وكان يجلب منها البغال التي تباع كل واحدة منها بخمسمائة دينار من حسنها وعلوّها الزائد، انتهى.
رجع إلى أخبار البنيان:
ولا خفاء أنّه يدل على عظيم قدر بانيه، ولذلك قال أمير المؤمنين الناصر المرواني باني الزهراء رحمه الله تعالى حسبما نسبهما له بعض العلماء وبعض ينسبهما لغيره، وسيأتيان في ترجمة نور الدين بن سعيدٍ عليٍّ منسوبين:
(1) ط: وعلى الأرض؛ ق ج: وعلى الآخر.
(2)
القاضي: سقطت من ك ط ج.
(3)
الشاذنج والشاذلة: يسمونه حجر الدم، ويستعمل لدمل القروح، وتعمل منه شيافات لأمراض العين.
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
…
من بعدهم فبألسن البنيان
إن البناء إذا تعاظم قدره
…
أضحى يدلّ على عظيم الشان وتذكرت هنا قصيدة قالها بعض الشاميين، وهو الأديب الفاضل الشيخ أسد بن معين الدين، ممّا يكتب على أبراج (1) دار الحسيب النسيب، الشهير البيت، الكبير الحي والميت، القاضي عبد الرحمن بن الفرفور الدمشقي، وضمّنها بيتي الناصر المذكورين:
زر مجلساً أضحى أعزّ مكان
…
ومحلّ أهل العلم والعرفان
المجد خيّم في ذرى أبراجه
…
والسعد عبد الباب طول زمان
كالخلد مرفوع البناء، وأرضه
…
مفروشة بالدّرّ والعقيان
بيت به فخر البيوت لأنّه
…
بيت القصيد ومنزل الضيفان
مغنىً فسيحٌ فيه معنى مفصح
…
عن قدر بانيه بغير لسان
قد قال بعض ذوي الفضائل قبلنا
…
قولاً بديعاً واضح التبيان
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها
…
من بعدهم فبألسن البنيان
إن البناء إذا تعاظم قدره
…
أضحى يدلّ على عظيم الشان
قد شاده من ساد أهل زمانه
…
بالأصل والإفضال والرّجحان
ورث السيادة كابراً عن كابر
…
وسما برفعته على كيوان
قاضي القضاة ومفخر العصر الذي
…
قد جاء فيه سابق الأقران
في العلم بحرٌ لا ينال قراره
…
في الحكم مثل مهنّدٍ وسنان
يروي عطاءٌ عن يديه قد اقتفى
…
آثار آباء ذوي إحسان
لا زال يبقى شائداً بيت العلا
…
وعدوّه في الوهن والنقصان
يا أيّها المولى الذي يجري مع الإق
…
بال والإسعاد طلق عنان (2)
(1) أبراج: سقطت من ط.
(2)
ق: طول زمان.
دم شامخ المقدار مرتفع البنا
…
والناس تحت رضاك كالغلمان
متمتّعاً ببنيك سادات الورى
…
في عزّ ربّ دائم السلطان
ما رجّع القمريّ في تغريده
…
في الروض فوق منابر الأغصان وكان القاضي عبد الرحمن بن فرفور المذكور عالي الهمّة، تضيق يده عمّا يريد، فلذلك كان كثيراً ما يبث شكواه في الطروس والدفاتر، ويعتب على الزمان الذي أخنى على أهل الأدب وقطع آمالهم بحسامه الباتر، ويرحم الله القائل:
هذا زمان دريهمي لا غيره
…
فدع الدفاتر للزمان الفاتر فمن نظم المذكور وقد أبطأ بجزء استعاره من بعض إخوانه، فكتب إليه معتذراً، وأدمج شكوى الزمان الذي كان من شماتة الأعداء به حذراً:
أبطأت في ذا الجزء يا سيّدي
…
كتابة من جور دهرٍ بغيض
صابرته فالجسم مني لقىً
…
تجلّداً والقلب مني مريض
فإذ أبى إلا تلافي وقد
…
أحلّني منه محلّ النقيض
واقتادني قسراً إلى مصرعٍ
…
قد رقّ منه اللحم والعظم هيض
سلّمت للأقدار مستسرعاً
…
لباب مولىً ذي عطاء عريض
جموم صبر كنت أسطو به
…
على روايا الدهر بالهمّ غيض
فلا تلم يا صاح من بعد ذا
…
إذا تمثلت به حال الجريض ورأيت بخطّه رحمه الله تعالى ممّا نسبه جده القطب الخيضري الحافظ لإبراهيم بن نصر الحموي ثم المصري المعروف بابن الفقيه:
يا زماناً كلّما حا
…
ولت أمراً يتمنّع
إن تعصّبت فإنّي
…
باصطباري أتقنّع
وهذه تورية بديعة للغاية في التعصب والتقنّع، مع حلاوة النظم وجودة السبك وخفّة الوزن، والله سبحانه يروّح تلك الأرواح في الجنان، ويعاملنا وإيّاهم بمحض الفضل والامتنان، ويكفينا شجون دهر جرى بنا طلق العنان.
حديث عن الزهراء
رجع إلى ما كنّا فيه: وكنت وقفت في كلام بعض العلماء على أن البيتين السابقين المنسوبين إلى أمير المؤمنين الناصر المرواني - رحمه الله تعالى - قالهما في الزهراء التي بناها، وسيأتي ذكرها قريباً.
وقال الشيخ سيّدي محيي الدين بن عربي في المسامرات: قرأت على مدينة الزهراء بعد خرابها وصيرورتها مأوى الطير والوحش، وبناؤها عجيب في بلاد الأندلس، وهي قريبة من قرطبة، أبياتاً تذكّر العاقل، وتنبّه الغافل، وهي:
ديارٌ بأكناف الملاعب تلمع
…
وما إن بها من ساكنٍ وهي بلقع
ينوح عليها الطير من كل جانب
…
فيصمت أحياناً وحيناً يرجّع
فخاطبت منها طائراً متغرّداً (1)
…
له شجنٌ في القلب وهو مروّع
فقلت: على ماذا تنوح وتشتكي؟
…
فقال: على دهرٍ مضى ليس يرجع ثم قال: وأخبرني بعض مشايخ قرطبة عن سبب بناء مدينة الزهراء أن الناصر ماتت له سرّيّة، وتركت مالاً كثيراً، فأمر أن يفك بذلك المال أسرى المسلمين، وطلب في بلاد الإفرنج أسيراً فلم يوجدن فشكر الله تعالى على ذلك، فقالت له جاريته الزهراء؟ وكان يحبّها حبّاً شديداً -: اشتهيت لو بنيت لي مدينة تسميها باسمي، وتكون خاصّة لي، فبناها تحت جبل العروس من قبلة الجبل، وشمال قرطبة، وبينها وبين قرطبة اليوم ثلاثة أميال أو نحو ذلك، وأتقن بناءها، وأحكم الصنعة فيها، وجعلها مستنزها ومسكناً للزهراء
(1) ق: متفرداً.
وحاشية ارباب دولته، ونقش صورتها على الباب، فلمّا قعدت الزهراء في مجلسها نظرت إلى بياض المدينة وحسنها في حجر الجبل الأسود، فقالت: يا سيّدي، ألا ترى إلى حسن هذه الجارية الحسناء في حجر ذلك الزنجي؟ فأمر بزوال ذلك الجبل، فقال بعض جلسائه: أعيذ أمير المؤمنين أن يخطر له ما يشين العقل سماعه، لو اجتمع الخلق ما أزالوه حفراً ولا قطعاً، ولا يزيله إلاّ من خلقه، فأمر بقطع شجره وغرسه تيناً ولوزاً، ولم يكن منظر أحسن منها، ولا سيّما في زمان الإزهار وتفتّح الأشجار (1) ، وهي بين الجبل والسهل، انتهى ببعض اختصار.
[وصف ابن خلّكان للزهراء]
وقال ابن خلكان (2) في ترجمة المعتمد بن عباد ما صورته (3) : الزّهراء - بفتح الزاي وسكون الهاء وفتح الراء، وبعدها همزة ممدودة -[سراية] وهي من عجائب أبنية الدنيا، وأنشأها أبو المظفّر (4) عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الملقّب بالناصر، أحد ملوك بني أميّة بالأندلس، بالقرب من قرطبة، في أول سنة خمس وعشرين وثلاثمائة، ومسافة ما بنيهما أربعة أميال وثلثا ميل، وطول الزهراء من الشرق إلى الغرب ألفان وسبعمائة ذراع، وعرضها من القبلة إلى الجنوب ألف وخمسمائة ذراع، وعدد السواري التي فيها أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية، وعدد أبوابها يزيد على خمسة عشر ألف باب؛ وكان الناصر يقسم جباية البلاد أثلاثاً: فثلث للجند، وثلث مدخر، وثلث ينفقه على عمارة الزهراء، وكانت جباية الأندلس خمسة آلاف ألف دينار وأربعمائة ألف
(1) ق: وتفتح الأزهار.
(2)
في ج: وقال ابن خلدون.
(3)
وفيات الأعيان 4: 117.
(4)
كذا في الأصول وابن خلكان، والصواب: أبو المطرف.
وثمانين ألف دينار، ومن السوق والمستخلص (1) سبعمائة ألف دينار وخمسة وستون ألف دينار، وهي من أهول ما بناه الإنس، وأجلّه خطراً، وأعظمه شأناً، ذكر ذلك كلّه ابن بشكوال في تاريخ الأندلس، انتهى كلامه.
وحكى في المطمح (2) أن الوزير الكبير الشهير أبا الحزم بن جهور قال وقد وقف على قصور الأمويين التي تقوّضت أبنيتها، وعوّضت من أنيسها بالوحوش (3) أفنيتها:
قلت يوماً لدار قوم تفانوا:
…
أين سكّانك العزاز علينا؟
فأجابت: هنا أقاموا قليلاً،
…
ثم ساروا، ولست أعلم أينا وفيه (4) أن أبا عامر بن شهيد بات ليلة بإحدى كنائس قرطبة وقد فرشت بأضغاث آس، وعرشت بسرورٍ وائتناس، وقرع النواقيس يهيج سمعه، وبرق الحميّا يسرع (5) لمعه، والقس قد برز في عبدة المسيح، ومتوشّحاً بالزنانير أبدع توشيح، وقد هجروا الأفراح، واطّرحوا النعم كل اطّراح:
لا يعمدون إلى ماء بآنيةٍ
…
إلاّ اغترافاً من الغدران بالراح وأقام بينهم بعملها حميّا، كأنّما يرشف من كأسها شفة لميا، وهي تنفح له بأطيب عرف، كلّما رشفها أعذب رشف، ثم ارتجل، بعدما ارتحل، فقال:
ولربّ حانٍ قد شممت بديره
…
خمر الصبا مزجت بصرف عصيره
في فتية جعلوا السّرور شعارهم
…
متصاغرين تخشّعاً لكبيره
(1) ك: المستخلصة؛ ج ق ط: ومن السوق المستخلص.
(2)
انظر المطمح: 15.
(3)
ك: بالوحش.
(4)
المطمح: 18.
(5)
ق ط: يسرج.