الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والقسّ ممّا شاء طول مقامنا
…
يدعو بعود حولنا بزبوره
يهدي لنا بالرّاح كل مصفّرٍ
…
كالخشف خفّره التماح خفيره
يتناول الظّرفاء فيه وشربهم
…
لسلافه، والأكل من خنزيره
رجع إلى بناء (1)
الزهراء
قال بعض من أرّخ الأندلس: كان يتصرّف في عمارة الزهراء كل يوم من الخدام والفعلة عشرة آلاف رجل، ومن الدواب ألف وخمسمائة دابة، وكان من الرجال من له درهم ونصف ومن له الدرهمان والثلاثة، وكانيصرف فيها كل يوم من الصخر المنحوت المعدل ستّة آلاف صخرة سوى الآجرّ والصخر غير المعدل، انتهى، وسيأتي في الزهراء (2) مزيد كلام.
وقال ابن حيّان (3) : ابتدأ الناصر بناء الزهراء ألو يوم من محرم سنة 325، وجعل طولها من شرق إلى غرب ألفين وسبعمائة ذراع، وتكسيرها تسعمائة ألف ذراع وتسعون ألف ذراع، كذا نقله بعضهم، وللنظر فيه مجال، قال (4) : وكان يثيب على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير سوى ما كان يلزمه [من النفقة](5) على قطعها ونقلها ومؤونة حملها (6) ، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية، والمجزّع من رية، والوردي والأخضر من إفريقية من إسفاقس وقرطاجنة، والحوض المنقوش المذهب من الشام، وقيل: من القسطنطينية، وفيه نقوش وتماثيل (7) على صور الإنسان، وليس له قيمة، ولمّا جلبه أحمد (8)
(1) ك: أنباء.
(2)
ق: الزاهرة.
(3)
انظر مخطوط الرباط: 135.
(4)
قارن بما جاء في أزهار الرياض 2: 270.
(5)
زيادة من مخطوط الرباط.
(6)
مخطوط الرباط: سوقها.
(7)
ك: وتماثيل وصور.
(8)
سماه في مخطوط الرباط: أحمد بن حزم الفيلسوف.
الفيلسوف - وقيل غيره - أمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالاً، بنى في قصرها المجلس المسمّى بقصر الخلافة، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ في جرمه (1) الصافي لونه المتلوّنة أجناسه، وكانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها أليون ملك القسطنطينية، وكانت قرامد هذه القصر من الذهب والفضّة، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والآبنوس المرصّع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سواري من الرخام الملون والبلّور الصافي، وكانت الشمس تدخل على تلك الأبواب فيضرب شعاعها في صدر (2) المجلس وحيطانه فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحداً من أهل مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته فيحرّك ذلك الزئبق فيظهر في المجلس كلمعان البرق من النور، ويأخذ بمجامع القلوب، حتى يخيّل لكل من في المجلس أن المحلّ قد طار بهم، ما دام الزئبق يتحرّك، وقيل: إن هذا المجلس كان يدور ويستقبل الشمس، وقيل: كان ثابتاً على صفة (3) هذا الصهريج، وهذا المجلس لم يتقدّم لأحد بناؤه في الجاهلية ولا في الإسلام وإنّما تهيأ له لكثرة الزئبق عندهم، وكان بناء الزهراء في غاية الإتقان والحسن، وبها من المرمر والعمد كثير، وأجرى فيها المياه، وأحدق بها البساتين، وفيها يقول الشاعر السميسر (4) :
وقفت بالزّهراء مستعبراً
…
معتبراً أندب أشتاتا
فقلت: يا زهرا ألا فارجعي
…
قالت: وهل يرجع من ماتا؟
(1) في جرمه: سقطت من ك.
(2)
ق ط ج: في سمك.
(3)
ج ط: ضفة.
(4)
مخطوط الرباط: 137.
فلم أزل أبكي وأبكي بها
…
هيهات يغني الدمع هيهاتا
كأنّما آثار من قد مضى
…
نوادبٌ يندبن أمواتا انتهى كلام هذا المؤرخ ملخصاً، وسيأتي ما يوافق جلّه، ويخالف قلّه، والله سبحانه يعلم الأمر كلّه، فإنّه ربّما ينظر المتأمّل هذا الكتاب فيجد في بعض الأخبار تخالفاً، فيحمل ذلك على الغلط، وليس كذلك، وإنّما السبب الحامل لذلك جلب كلام الناس بعباراتهم، والناقد البصير لا يخفاه مثل هذا، وربّما يقع التكرار، وذلك من أجل ما ذكر، والله أعلم.
[قصور بني ذي النون]
وتذكرت بما وصفه من مجلس الناصر ما حكاه غير واحد عن القصر العظيم الذي شاده ملك طليطلة المأمون ابن ذي النّون بها (1) ، وذلك أنّه أتقنه إلى الغاية، وأنفق عله أموالاً طائلة، وصنع في وسطه بحيرة، وصنع في وسط البحيرة قبّة من زجاج ملوّن منقوش بالذهب، وجلب الماء على رأس القبة بتدبير أحكمه المهندسون، فكان الماء ينزل من أعلى القبة على جوانبها محيطاً بها ويتّصل بعضه ببعض، فكانت قبة الزجاج في غلالة ممّا سكب (2) خلف الزجاج لا يفتر من الجري، والمأمون قاعد فيها لا يمسّه من الماء شيء ولا يصله، وتوقد في الشموع فيرى لذلك منظر بديع عجيب، وبينما هو فيها مع جواريه (3) ذات ليلة إذ سمع منشداً ينشد:
أتبني بناء الخالدين، وإنّما
…
بقاؤك (4) فيها لو علمت قليل
لقد كان في ظل الأراك كفاية
…
لمن كلّ يوم يقتضيه رحيل
(1) الذخيرة 4: 102 وما بعدها.
(2)
ق ط ج: من ماء سكب.
(3)
ق: وجواريه.
(4)
ك: مقامك.
فنغص عليه حاله، وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، أظن أن الأجل قد قرب (1) ، فلم يلبث بعدها غير شهر وتوفّي، ولم يجلس في تلك القبّة بعدها، وذلك سنة 467، تجاوز الله تعالى عنه، هكذا حكاه بعض مؤرخي المغرب.
وقد ذكر في غير هذا الموضع من هذا الكتاب حكاية هذه القبّة بلفظ ابن بدرون (2) شارح العبدونيّة فليراجع.
وتذكرت هنا قول أبي محمّد المصريّ (3) في صفة قصر طليطلة:
قصرٌ يقصّر عن مداه الفرقد
…
عذبت مصادره وطاب المورد
نشر الصباح عليه ثوب مكارم
…
فعليه ألوية السعادة تعقد
وكأنّما المأمون في أرجائه
…
بدر تمام قابلته أسعد
وكأنّما الأقداح في راحاته
…
بدٌّ جمادٌ ذاب فيه العسجد وله في صفة البركة والقبة عليها:
شمسيّة الأنساب بدريّة
…
يحار في تشبيهها الخاطر
كأنّما المأمون بدر الدّجى
…
وهي عليه الفلك الدائر [أشعار ورسائل للأندلسيين في وصف المجالس]
وكان ملوك الأندلس في غية الاحتفال بالمجالس والقصور، وللوزير الجزيري (4) - رحمه الله تعالى - في وصف مجلس المنصور بن أبي عامر ما
(1) ق: أظن الأجل قرب.
(2)
ق: ابن زيدون - وهو خطأ -.
(3)
الذخيرة 4: 109.
(4)
الوزير الجزيري: أبو مروان عبد الملك بن إدريس أحد كتاب الدولة العامرية وكان حيناً على الشرطة للمنصور، سخط عليه المنصور فسجنه وله القصيدة الرائية المشهورة في السجن، ثم كتب بعده للمظفر فلما قتل صهره عيسى بن سعيد بن القطاع تغير المظفر على أبي مروان فسجنه في برج من طرطوشة وقتله (394) هنالك. (ترجمة ف الجذوة: 261 وبغية الملتمس رقم: 1158 والمغرب 2: 321 واعتاب الكتاب: 193 والذخيرة 4: 31 والمطمح: 13 والصلة: 350 وله شعر في اليتيمة والتشبيهات والبديع) .
يشهد لذلك، وهو قوله (1) :
وتوسّطتها لجّة في قعرها
…
بنت السّلاحف ما تزال تنقنق
تنساب من فكّي هزبر إن يكن
…
ثبت الجنان فإن فاه أخرق
صاغوه من ندّ وخلّق صفحتي
…
هاديه محض الدرّ فهو مطوّق (2)
للياسمين تطلّعٌ في عرشه
…
مثل المليك عراه زهوٌ مطرق
ونضائد من نرجس وبنفسج
…
وجنيّ خيريّ وورد يعبق
ترنو بسحر عيونها وتكاد من
…
طرب إليك بلا لسان تنطق
وعلى يمينك سوسنات أطلعت
…
زهر الربيع فهنّ حسناً تشرق
فكأنّما هي في اختلاف رقومها
…
رايات نصرك يوم بأسك تخفق
في مجلس جمع السرور لأهله
…
ملكٌ إذا جمعت قناه يفرق
حازت بدولته المغارب عزةً (3)
…
فغدا ليحسدها عليه المشرق ومن هذه القصيدة:
أمّا الغمام فشاهدٌ لك أنّه
…
لا شكّ صنوك أو أخوك (4) الأوثق
وافى الصنيع فحين تمّ تمامه
…
في الصّحو أنشأ ودقه يتدفّق
وأظنّه يحكيك جوداً إذ رأى
…
في اليوم بحرك زاخراً يتفهّق وكان السبب في هذه الأبيات أن المنصور صنع في ذلك الأوان صنيعاً لتطهير ابنه عبد الرحمن، وكان عام قحطٍ، فارتفع السعر بقرطبة، وبلغ ربع الدقيق
(1) المقتطفات (الورقة: 23) .
(2)
المقتطفات: فيه مطبق؛ وفي ك: فهو مخلق.
(3)
ك: رفعة.
(4)
ق: بل أخوك.
إلى دينارين، فجلا الناس من قرطبة، فلمّا كان يوم ذلك الصنيع نشأت في السماء سحابة عمّت الأفق، ثم أتى المطر الوابل، فاستبشر الناس، وسرّ المنصور بن أبي عامر فقال الجزيري بديهةّ: أمّا الغمام إلخ.
وهو القائل على لسان نرجس العامرية (1) :
حيّتك يا قمر العلا والمجلس
…
أزكى تحيّتها عيون النرجس
زهر تريك بحسنها (2) وبلونها
…
زهر النجوم الجاريات الكنّس
ملّكن الهمام العامريّ محمّدٍ
…
للمكرمات وللنّهى والأنفس قال ابن بسام (3) : ومن شعر الجزيري ما اندرج له أثناء نثره (4) الذي ملح فيه مخاطبته للمنصور على السنة أسماء كرائمه بزهر رياضه، فمن ذلك عن بهار العامريّة:
حدق الحسان تقرّ لي وتغار
…
وتضلّ في صفتي النّهى وتحار
طلعت على قضبي عيون كمائمي (5)
…
مثل العيون تحفّها الأشفار
وأخصّ شيء بي إذا شبّهتني
…
دررٌ تنطّق سلكها دينار
أهدى له قضب الزمرّد ساقه
…
وحباه أنفس عطره العطّار
أنا نرجسٌ حقاً بهرت عقولهم
…
ببديع تركيبي فقيل بهار ومن أخرى عن بنفسج العامريّة (6) : إذا تدافعت الخصوم - أيّد الله مولانا
(1) الذخيرة 4: 32 والبديع: 115 - 116 والمقتطفات: 33.
(2)
البديع: بشكلها.
(3)
الذخيرة 4: 33 والبديع: 99 والمقتطفات: 33.
(4)
ك: مدحه.
(5)
في الأصول: تمائمي، والتصويب عن البديع.
(6)
الذخيرة 4: 33 والبديع: 78 - 79 والمقتطفات: 33 - 34.
المنصور - في مذاهبها، وتنافرت في مفاخرها، فإليه (1) مفزعها، وهو المقنع في فصل القضيّة بينها لاستيلائه على المفاخر بأسرها، وعلمه بسرّها وجهرها، وقد ذهب البهار والنرجس في وصف محاسنهما، والفخر بمشابههما، كل مذهب، وما منها إلا ذو فضيلة غير أن فضلي عليهما أوضح من الشمس التي تعلونا، وأعذب من الغمام الذي يسقينا، وإن كانا قد تشبّها في شعرهما ببعض ما في العالم من جواهر الأرض ومصابيح السماء وهي من الموات الصامت، فإنّي أتشبّه بأحسن ما زيّن الله بها الإنسان وهو الحيوان الناطق، مع أنّي أعطر منهما عطراً، وأحمد خبراً، وأكرم إمتاعاً شاهداً وغائباً ويانعاً وذابلاً، وكلاهما لا يمتع، إلاّ ريثما يينع (2) ، ثم إذا ذبل تستكره النفوس (3) شمّه، وتستدفع الأكفّ ضمّه، وأنا أمتع يابساً ورطباً، وتدخرني الملوك في خزائنها (4) وسائر الأطباء، وأصرف في منافع الأعضاء، فإن فخرا باستقلالهما على ساق هي أقوى من ساقي، فلا غرو أن الوشي ضعيف، والهوى لطيف، والمسك خفيف، وليس المجد يدرك بالصّراع، وقد أودعت أيّد الله مولانا قوافي الشعر من وصف مشابهي ما أودعاه، وحضرت بنفسي لئلاّ أغيب عن حضرتهما، فقديماً فضل الحاضر وإن كان مفضولاً، ولذا قالوا: ألذ الطعام ما حضر لوقته، وأشعر الناس من أنت في شعره، فلمولانا أتم الحكم في أن يفصل بحكمه العدل، وأقول:
شهدت لنوّار البنفسج ألسنٌ
…
من لونه الأحوى ومن إيناعه (5)
(1) البديع: فإليك، وكذلك جرى الضمير في سائر الرسالة للخطاب، وفي النصين اختلافات كثيرة، نشير إلى بعضها.
(2)
البديع: وكلاهما لا يمتعك إلا ريثما يبدو للعيون ويسلم من الذبول.
(3)
البديع: ثم تستكثره الأنوف.
(4)
البديع: فإن هذه الحال من الاستمتاع بي رطباً وإدخاري في خزائن الملوك جافاً.
(5)
ق ط ج: ومن أتباعه.
لمشابه الشعر الأعمّ أعاره ال
…
قمر المنير الطلق نور شعاعه
ولربّما جمع (1) النجيع من الطلى
…
من صارم المنصور يوم قراعه
فحكاه غير مخالف في لونه
…
لا في روائحه وطيب طباعه
ملك جهلنا قبله سبل العلا
…
حتى وضحن بنهجه وشراعه
في سيفه قصرٌ لطول نجاده
…
وتمام ساعده وفسحة باعه
ذو همّة كالبرق في إسراعه
…
وعزيمة كالحين في إيقاعه
تلقى الزمان له مطيعاً سامعاً
…
وترى الملوك الشّمّ من أتباعه وما أحسن قول بعض الأندلسيين يصف حديقة (2) :
وحديقة مخضرّة أثوابها
…
في قضبها للطير كل مغرد
نادمت فيها فتية صفحاتهم
…
مثل البدور تنير بين الأسعد
والجدول الفضّيّ يضحك ماؤه
…
فكأنّه في العين صفح مهنّد
وإذا تجعّد بالنسيم حسبته
…
لمّا تراه مشبهاً للمبرد
وتناثرت نقطٌ على حافاته
…
كالعقد بين مجمّع ومبدّد
وتدحرجت (3) للناظرين كأنّها
…
درٌّ نثيرٌ في بساط زبرجد وكان بحمّام الشطارة بإشبيلية صورة بديعة الشكل فوصفها بعض أهل الأندلس بقوله:
ودمية مرمرٍ تزهى بجيدٍ
…
تناهى في التّورّد والبياض
لها ولدٌ ولم تعرف حليلاً
…
ولا ألمت بأوجاع المخاض
ونعلم أنّها حجرٌ، ولكن
…
تتيّمنا بألحاظٍ مراض
(1) البديع: جف.
(2)
وردت الأبيات في المقتطفات (الورقة: 24) .
(3)
ق ط: وترجرجت؛ وفي ج؛ وتزخرفت.
وكان بسرقسطة في القصر المسمى (1) بدار السرور، مجلس الذهب أحد قصور المقتدر بن هود وفيه يقول ذو الوزارتين بن غندشلب (2) يهجو وزيراً كان (3) ينبز بتحقون:
ضجّ من تحقون بيت الذّهب
…
ودعا ممّا به واحربي
ربّ طهّرني فقد دنّسني
…
عار تحقون الموفّى الذنب وكتب بعض كبراء الأندلس إلى إخوانه (4) : كتابي هذا من وادي الزيتون، ونحن فيه مختلفون (5) ، ببقعة اكتست من السندس الأخضر، وتحلّت بأنواع الزهر، وتخايلت بأنهار تتخلّلها، وأشجار تظللها، تحجب أدواحها الشمس لالتفافها، وتأذن للنسيم فيميل من أعطافها، وما شئتم من محاسن تروق وتعجب، وأطيار تتجاوب بألحان تلهي وتطرب، في مثلها يعود الزمان كلّه صباً، وتجري الحياة على الأمل والمنى، وأنا فيها - أبقاكم الله سبحانه - بحال من طاب غذاؤه، وحسن استمراؤه، وصحا من جنون العقر، واستراح من مضض (6) الخمار، وزايلته وساوسه، وخلصت من الخباط هواجسه؛ ثم ذكر كلاماً من هذا النمط في وصف الخمار والدعاء إلى العقار.
(1) ق: الذي يسمى.
(2)
ك: عيد شلب - وهو خطأ -.
(3)
كان: سقطت من ق.
(4)
هذه الرسالة للكاتب بي المطرف عبد الرحمن بن فاخر المعروف بابن الدباغ، كان كاتباً عند المقتدر بن هود فاستوحش منه ولحق بالمعتمد بن عباد فرحب به وسفر بينه وبين المتوكل ابن الأفطس، ثم اختلف مع ابن عمار فهرب إلى المتوكل في بطليوس وكانت نهايته أن قتل ببطليوس (راجع ترجمته في الذخيرة - القسم الثالث: 82 وهذه القطعة من رسالته فيها ص: 93؛ والقلائد: 106 والمغرب 2: 440 ومسالك الأبصار 8: 221) .
(5)
كذا في ق ك ولعله: محتفلون، وفي ط ج: محتلون، وهو صواب.
(6)
الذخيرة: فضول.
فراجعه أبو الفضل بن حسداي برقعة قال في صدرها (1) : " إلى سيدنا (2) الذي ألزمنا بامتنانه الشكر، وكبيرنا الذي علّمنا ببيانه السّحر، وعميدنا الذي عقدنا بحرمه وانحلّ (3) ، ورمانا بدائه وانسلّ، أبقاك الله تعالى كتابك الذي أنفذتته من معرّسك بوادي الزيتون، ووقفنا على ما لقنت في أوصافه من حجّة المفتون، وإعجابك بالتفاف شجره ودوحاته، واهتزازك بلطيف بواكرهوروحاته، وغرورك (4) به وهو حوّ تلاعه، مورودة هضابه وأجراعه، وكل المشارب ما خلا ذميم (5) ، وماؤه الدهر خصر والمياه حميم، وتلك عادة تلوّنك، وسجيّة تخضرمك (6) ، وشاكلة ملالك وسأمك، وأشعر الناس عندك من أنت في شعره، وأحب البلاد إليك ما أنت في عقره، فأين منك بساتين جلّق وجنانه، ورياضه المونقة وخلجانه، وقبابه البيض في حدائقه الخضر، وجوّه العطر في جنابه النضر (7) ، وما تضمّه (8) جيطانه، وتمجّه أنجاده (9) غيطانه، من أمهات الراح التي طلّقتها (10) بزعمك، وموادّ (11) الشّمول التي
(1) الرسالة في الذخيرة (القسم الثالث) : 94 وأبو الفضل بن حسداي: هو حسداي بن يوسف بن حسداي الإسرائيلي أحد كتاب عصر الطوائف، الذخيرة (القسم الثالث) : 153 والقلائد: 183 والمغرب 2: 441 والمطرب: 196 وابن أبي أصيبعة 2: 50) .
(2)
ق ج: يا سيدنا.
(3)
ق ك ط: بحرمة الحل؛ ج: بحرمة الخل.
(4)
ق ج ودوزي: ومرورك؛ ك: وسرورك.
(5)
إشارة إلى قول الشاعر:
اقرأ على الوشل السلام وقل له
…
كل المشارب مذ هجرت ذميم (6) ق ط: تحضرمك؛ وفي ج ط ق ودوزي: وشجية.
(7)
دوزي وق: ووجوه العطر في جنابه النضر؛ ج: وجون العطر في جنابه النضر.
(8)
دوزي: وما تضمنه.
(9)
الذخيرة: وتحتوي عليه نجاده.
(10)
ق: هجرتها.
(11)
ك: ومورد. ج: وموارد.
طلّقتها برغمك، وهيهات فوالله ما فارقتك تلك الأجارع والمجاني، ولا شاقتك من جميل المشاهد، وأين من المشتاق عنقاء مغرب ثم ذكر كلاماً في جواب ما مرّ من الخمار لم يتعلّق لي به غرض.
وما أحلى ما كتب به أبو إسحاق بن خفاجة من رسالة في ذكر منتزه (1) :
ولما أكبّ الغمام إكباباً، لم أجد منه إغباباً، واتصل المطر اتّصالاً، لم ألف منه انفصالاً، أذن الله تعالى للصّحو أن يطلع صفحته، وينشر صحيفته، فقشعت الريح السحاب، كما طوى السجلّ الكتاب، وطفقت السماء تخلع جلبابها، والشمس تحطّ (2) نقابها، وتطلّعت (3) الدنيا تبتهج كأنّها عروس تجلّت، وقد تحلّت، ذهبت في لمّة من الإخوان نستبق إلى الراحة ركضاً، ونطوي للتفرّج أرضاً، فلا ندفع إلا إلى غدير، نمير، قد استدارت منه في كل قرارة سماء، سحائبها غمّاء، وانساب في كلّ تلعةٍ حباب، وجلده حباب، فتردّدنا بتلك الأباطح، نتهادى تهادي أغصانها، ونتضاحك تضاحك أقحوانها، وللنسيم، أثناء ذلك المنظر الوسيم، تراسل مشي، على بساط وشي، فإذا مر بغدير نسجه درعاً، وأحكمه صنعاً، وإن عثر بجدول شطب منه نصلاً، وأخلصه صقلاً، فلا ترى إلاّ بطاحاً، مملوءة سلاحاً، كأنّما انهزمت هنالك كتائب فألقت بما لبسته من درع مصقول، وسيفٍ مسلول.
ومن فصل منها: فاحتللنا قبّة خضراء ممدودة أشطان الأغصان، وسندسية رواق الأوراق، ومازلنا نلتحف منها ببرد ظلٍّ ظليل، ونشتمل عليه برداء
(1) انظر هذه الرسالة في الذخيرة (القسم الثالث) : 173 وديوان ابن خفاجة: 317 والمقتطفات (الورقة: 22) .
(2)
ك: تميط.
(3)
ك: وطلعة.
نسيم عليل، ونجيل الطرف في نهر صقيل، صافي لجين الماء، كأنّه مجرّة السماء، مؤتلق جوهر الحباب، كأنّه من ثغور الأحباب، وقد حضرنا مسمعٌ يجري مع النفوس لطافة فهو يعلم غرضها وهواها، ويغني لها مقترحها ومناها، فصيح لسان النقر، يشفي من الوقر، كأنّه كاتب حاسب، تمشق يمناه، وتعقد يسراه:
يحرّك حين يشدو ساكناتٍ
…
وتنبعث الطبائع للسكون وكانت بين أبي إسحاق وبعض إخوانه مقاطعة، فاتفق أن ولي ذلك الصديق حصناً، فخاطبه أبو إسحاق برقعة، منها (1) : أطال الله بقاء سيّدي النبيهة أوصافه النزيهة عن الاستثناء، المرفوعة إمارته الكريمة بالابتداء، وما انحذفت ياء يرمي للجزم، واعتلت واو يغزو لموضع الضم، كتبت عن ودّ قديم هو الحال، لم يلحقها انتقال، وعهد كريم هو الفعل لم يدخله الاعتلال، والله يجعل هاتيك من الأحوال الثابتة اللازمة، ويعصم هذا بعدمن الحروف الجازمة، وأنا أستنهض طولك إلى تجديد عهدك بمطالعة ألف الوصل، وتعدية فعل الفصل، وعدولك عن باب ألف القطع، إلى باب الوصل والجمع، حتى يسقط لدرج الكلام بيننا هاء السكت، ويدخل الانتقال حال الصمت، فلا تتخيّل أعزّك الله أن رسم إخائك عندي ذو حساً (2) قد درس عفاء، ولا أن صدري دار مية أمسى من ودّك خلاء (3) ، وإنّما أنا فعلٌ إذا ثنّي ظهر من ضمير ودّه ما بطن، وبدا منها ما كمن، وهنيئاً أعزّك الله أن فعل وزارتك حاضر لا يلحق رفعه تغيير، وأن فعل سيفك ماضٍ ما به للعوامل تأثير، وأنت بمجدك جماع أبواب الظّرف، تأخذ نفسك العلية بمطالعة باب الصرف،
(1) الذخيرة: 176 والديوان: 326 والمقتطفات: 23.
(2)
إشارة إلى قول النابغة: " عفا ذو حساص من فرقتنا فالفوارع " وفي ك: دوحه قد درس.
(3)
إشارة أخرى إلى قول النابغة في وصف دارمية: " أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ".
ودرس حروف العطف، وتدخل لام التبرئة على ما حدث من عتبك، وتوجب بعد النفي ما سلف من قربك (1) ، وتدع ألف الألفة أن تكون بعد من حروف اللين، وترفع بالإضافة بيننا وجود التنوين، وتسوم ساكن الود أن يتحرّك ومعتلّ الإخاء أن يصح، وكتابي هذا حرف صلة فلا تحذفه حتى تعود الحال الأولى صفة، وتصير هذه النكرة معرفة، فأنت أعزّك الله مصدر فعل السرور والنبل، ومنك اشتقاق اسم السؤدد والفضل، وإنّك وإن تأخّر العصر بك كالفاعل وقع مؤخراً، وعدوك وإن تكبر كالكميت لم يقع إلاّ مصغّراً، وللأيّام علل تبسط وتقبض، وعوامل ترفع وتخفض، فلا دخل عروضك قبض، ولا عاقب رفعك خفض، ولا زلت مرتبطاً بالفضل شرطك وجزاؤك، جارياً على الرفع سروك الكريم وسناؤك، حتى يخفض الفعل، وتبنى على الكسر قبل، إن شاء الله.
وكتب رحمه الله تعالى يستدعي عود غناء (2) : انتظم من إخوانك - أعزّك الله تعالى - عقد شرب يتساقون في ودّك، ويتعاطون ريحانة شكرك وحمدك، وما منهم إلا شره المسامع إلى رنّة حمامة ناد، لا حمامة بطن واد، والطّول لك في صلتها بجماد ناطق قد استعار من بنانٍ لساناً، وصار لضمير صاحبه ترجماناً، وهو على الإساءة والإحسان لا ينفكّ من إيقاع به، من غير إيجاع له، فإن هفا عركت أذنه وأدّب، وإن تأتّى (3) واستوى بعج بطنه وضرب، لا زلت منتظم الجذل، ملتئم الأمل، انتهى.
[قصيدة لابن خفاجة]
ومن نظمه رحمه الله تعالى يتفجع ويتوجع (4) :
(1) ك: عبدك؛ ق: عتبك.
(2)
الذخيرة: 174 والديوان: 319.
(3)
ك: تأبى؛ ق ج: تأنى.
(4)
الذخيرة: 181 والديوان: 217 وفيها يرثي الوزير أبا محمد بن ربيعة إثر وفاة جملة من إخوانه.
شراب الأماني لو علمت سراب
…
وعتبى الليالي لو عرفت عتاب
وهل مهجة الإنسان إلا طريدةٌ
…
يحوم عليها للحمام عقاب
يخبّ بها في كلّ يوم وليلة
…
مطايا إلى دار البلى وركاب
وكيف يغيض الدمع أو يبرد الحشا
…
وقد باد أقرانٌ وفات شباب
أقلّب طرفي لا أرى غير ليلة
…
وقد حطّ عن وجه الصباح نقاب
كأنّي، وقد طار الصباح، حمامةٌ
…
يمدّ جناحيه عليّ غراب
دعا بهم داعي الردى فكأنّم
…
تبارت بهم خيلٌ هناك عراب
فها هم وسلم الدهر حرب كأنّما
…
جثا بهم (1) طعن لهم وضراب
هجود ولا غير التراب حشيّةٌ
…
لجنب ولا غير القبور قباب
ولست بناس صاحباً من ربيعة
…
إذا نسيت رسم الوفاء صحاب
ومما شجاني أن قضى حتف أنفه
…
وما اندقّ رمحٌ دونه وكعاب (2)
وأنّا تجارينا ثلاثين حجّةً
…
ففات (3) سباقاً والحمام قصاب
كأن لم نبت في منزل القصف ليلة
…
نجيب بها داعي الصّبا ونجاب
إذا قام منّا قائمٌ هزّ عطفه
…
شبابٌ أرقناه بها وشراب
ولمّا تراءت للمشيب بريقةٌ
…
وأقشع من ظلّ الشباب سحاب
نهضنا بأعباء الليالي جزالةً
…
وأرست بنا في النائبات هضاب
فيا ظاعناً قد حطّ من ساحة البلى
…
بمنزلٍ بينٍ ليس عنه مآب
كفى حزناً أن لم يزرني على النّوى
…
رسولٌ ولم ينفذ إليك كتاب
وأنّي إذا يمّمت قبرك زائراً
…
وقفت ودوني للتراب حجاب
ولو أنّ حيّاً كان حاور ميتاً
…
لطال كلامٌ بيننا وخطاب
وأعرب عمّا عنده من جليّةٍ
…
فأقشع عن شمسٍ هناك ضباب
(1) ك: بينهم.
(2)
الذخيرة والديوان: وذباب.
(3)
أصول المقري: حقبة، فمات.
[عود إلى عمران قرطبة]
وقد أبعدنا عمّا كنّا بصدده من ذكر قرطبة أعادها الله للإسلام، فنقول: قال بعض من أرّخ الأندلس:
انتهت مساجد قرطبة أيّام عبد الرحمن الداخل إلى أربعمائة وتسعين مسجداً، ثم زادت بعد ذلك كثيراً كما يأتي ذكره.
وقال بعضهم (1) : كانت قرطبة قاعدة الأندلس، وأم المدائن، وقرارة الملك، وكان عدد شرفاتها أربعة آلاف وثلاثمائة، وكانت عدّة الدور في القصر الكبير أربعمائة دار ونيّفاً وثلاثين، وكانت عدّة دور الرعايا والسّواد بها الواجب على أهلها المبيت في السور مائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار، حاشا دور الوزراء وأكابر الناس والبياض.
ورأيت في بعض الكتب أن هذا العدد كان أيام لمتونة والموحّدين، قال: وكانت ديار أهل الدولة إذ ذاك ستة آلاف دار وثلاثمائة دار، انتهى.
وعدد أرباضها ثمانية وعشرون، وقيل: واحد وعشرون، ومبلغ المساجد بها ثلاثة آلاف وثمانمائة وسبعة وثلاثون مسجداً، وعدد الحمّامات المبرزة للناس سبعمائة حمّام: وقيل ثلاثمائة حمّام.
وقال ابن حيان: إن عدّة امساجد عند تناهيها في مدة ابن أبي عامر ألف وستمائة مسجد، والحمامات تسعمائة حمام (2) .
وفي بعض التواريخ القديمة: كان بقرطبة في الزمن السالف ثلاثة آلاف مسجد وثمانمائة وسبعة وسبعون مسجداً - منها بشقندة ثمانية عشر مسجداً - وتسعمائة حمّام وأحد عشر حمّاماً، ومائة ألف دار وثلاثة عشر ألف دار للرعية خصوصاً، وربما نصف العدد أو أكثر لأرباب الدولة وخاصتها، هكذا نقله
(1) انظر أزهار الرياض 2: 272.
(2)
دوزي: ستمائة حمام.
في المغرب، وهو أعلم بما يأتي ويذر، رحمه الله تعالى.
وقال بعض المؤرخين - بعد ذكره نحو ما تقدّم (1) -: ووسط الأرباض قبّة قرطبة التي تحيط (2) بالسور دونها، وأمّا اليتيمة التي كانت في المجلس البديع فإنّها كانت من تحف قصر اليونانيين بعث بها صاحب القسطنطينية إلى الناصر مع تحف كثيرة سنية، انتهى.
ونحوه لابن الفرضي وغير واحد، لكن خالفهم صاحب " المسالك والممالك "(3) فذكر أن عدد المساجد بقرطبة أربعمائة مسجد وأحد وسبعون مسجداً، وهو بعيد، وقال قبله (4) : إن دور قرطبة في كمالها ثلاثون ألف ذراع، وتفسيرها باللسان القوطي القلوب المختلفة، وهو بالقوطيّة بالظاء المشالة، وقيل: إن معنى قرطبة أجر فاسكنها (5)، قال: وبقرطبة أقاليم كثيرة وكورٌ جليلة، وكانت جبايتها في أيّام الحكم بن هشام مائة ألف دينار وعشرة آلاف دينار وعشرين ديناراً، وسبق ما يخالف هذا، ومن القمح أربعة آلاف مدي وستمائة مدي، ومن الشعير سبعة آلاف مدي وستمائة مدي وسبعة وأربعين مدياً.
وقال بعض العلماء: أحصيت دور قرطبة التي بها وأرباضها أيام ابن أبي عامر فكان مائتي ألف دار وثلاثة ألف دار وسبعاً وسبعين داراً، وهذه دور الرعيّة، وأمّا دور الأكابر والوزراء والكتّاب والأجناد وخاصّة الملك فستّون ألف دار وثلاثمائة دار، سوى مصاري (6) الكراء والحمّامات والخانات، وعدد الحوانيت ثمانون ألف حانوت وأربعمائة وخمسة وخمسون، ولما كانت الفتنة على رأس المائة الرابعة غيرت رسوم ذلك العمران، ومحيت آثار تلك
(1) أزهار الرياض 2: 272.
(2)
ق ط ج: تختص.
(3)
مخطوطة المسالك والممالك (الورقة: 220) .
(4)
المصدر السابق (الورقة: 219) .
(5)
قد مر أنه " أجر ساكنها " وفي نسخة الروض المعطار: " آخر فاسكنها ".
(6)
المصاري: جمع مصرية وهي غرفة علوية منعزلة، تكرى أو تجعل للخدم.
القرى والبلدان، انتهى ملخّصاً. وسيأتي في رسالة الشّقندي ما هو أشمل من هذا.
[قصيدة القرطبي والمتنزهات]
ولمّا رقّت حال أبي القاسم عامر بن هشام القرطبي (1) بقرطبة وزيّن له بعض أصحابه الرحلة إلى حضرة ملك الموحّدين مرّاكش قال وذكر المنتزهات القرطبية:
يا هبّةً باكرت من نحو دارين
…
وافت إليّ على بعدٍ تحيّيني
سرت على صفحات النهر ناشرة
…
جناحها بين خيريّ ونسرين
ردّت إلى جسدي روح الحياة وما
…
خلت النسيم إذا ما متّ يحييني
لولا تنسّمها من نشر أرضكم
…
ما أصبحت من أليم الوجد تبريني
مرّت على عقدات الرمل حاملةً
…
من سرّكم خبراً بالوحي يشفيني
عرفت من عرفه ما لست أجهله (2)
…
لما تنسّم في تلك الميادين
نزوت من طربٍ لمّا هفا سحراً
…
وظلّ ينشرني طوراً ويطويني
خلت الشمال شمولاً إذ سكرت بها
…
سكراً بما لست أرجوه يمنّيني
أهدت إليّ أريجاً من شمائلكم
…
فقلت: قربني من كان يقصيني
وخلت من طمعٍ أن اللّقاء على
…
إثر النسيم وأضحى الشوق يحدوني
فظلت ألثم من تعظيم حقّكم
…
مجرّ أذيالها والوجد ويغريني
مسارح كم بها سرحت من كمدٍ
…
قلبي وطرفي ولا سلوان يثنيني
بين المصلّى إلى وادي العقيق وما
…
يزال مثل اسمه مذ بان يبكيني
إلى الرّصافة فالمرج النضير فوا
…
دي الدير فالعطف من بطحاء عبدون
(1) شاعر وشاح مترسل مشهور بالبطالة صلحت حاله بأخرة وأقبل على النسك (توفي سنة 623) - انظر التكملة رقم: 1944 والمغرب 1: 75.
(2)
ك: ما كنت أجهله.
لباب عبد سقته السّحب وابلها
…
فلم يزل بكؤوس الأنس يسقيني
لا باعد الله عيني عن منازهه
…
ولا يقرّب لها أبواب جيرون
حاشا لها من محلاّت (1) مفارقة
…
من شيّق دونها في القرب محزون
أين المسير ورزق الله أدركه
…
من دون جهدٍ وتأميل يعنّيني
يا من يزيّن لي الترحال عن بلدي
…
كم ذا تحاول نسلاً عند عنّين
وأين يعدل عن أرجاء قرطبة
…
من شاء يظفر بالدّنيا وبالدين
قطرٌ فسيحٌ ونهر ما به كدرٌ
…
حفّت بشطّيه ألفاف البساتين
يا ليت لي عمر نوجٍ في إقامتها
…
وأنّ مالي فيه كنز قارون
كلاهما كنت أفنيه على نشوا
…
ت الراح نهباً ووصل الخرّد العين (2)
وإنّما أسفي أنّي أهيم بها
…
وأنّ حظّي منها حظّ مغبون
أرى بعيني ما لا تستطيل يدي
…
له وقد حازه من قدره دوني
وأنكد الناس عيشاً من تكون له
…
نفس الملوك وحالات المساكين
يغضّ طرف التصابي حين تبهته
…
قضبان نعمان في كثبان يبرين
قالوا: الكفاف مقيمٌ قلت: ذاك لمن
…
لا يستخفّ إلى بيت الزراجين
ولا يبلبله هبّ الصّبا سحراً
…
ولا يلطّفه عرف الرياحين
ولا يهيم بتفّاح الخدود ورمّا
…
ن الصّدور (3) وترجيع التلاحين
لا تجتنى راحةٌ إلاّ على تعبٍ
…
ولا تنال العلا إلاّ على الهون
وصاحب العقل في الدنيا أخو كدرٍ
…
وإنّما الصفو فيها للمجانين
يا آمري أن أحثّ العيس عن وطني
…
لمّا رأى الرزق فيه ليس يرضيني
نصحت لكنّ لي قلباً ينازعني
…
فلو ترحّلت عنه حلّه دوني
لألزمن وطني طوراً تطاوعني
…
قود الأماني وطوراً فيه تعصيني
(1) ق ط: مجلات.
(2)
ك: الحور والعين.
(3)
دوزي: النهود.
مدللاً بين عرفاني واضرب عن
…
سير لأرضٍ بها من ليس يدريني
هذا يقول غريبٌ ساقه طمعٌ
…
وذاك حين أريه البرّ يجفوني
إليك عنّي آمالي فبعدك يه
…
ديني وقربك يطغيني ويغويني
يا لحظ كلّ غزالٍ لست أملكه
…
يدنو وما لي حالٌ منه تدنيني
ويا مدامة ديرٍ لا ألمّ به
…
لولاكما كان ما أعطيت يكفيني
لأصبرنّ على ما كان من كدرٍ
…
لمن عطاياه بين الكاف والنّون وتسمى هذه القصيدة عند أهل الأندلس " كنز الأدب " وقد أشرنا في الباب (1) الأول إلى كثير ممّا يتعلّق بقرطبة، أعادها الله تعالى إلى الإسلام، فأغنى عن إعادته، وإن كان ذكره هنا أنسب، لأن ما تقدّم إنّما هو في ذكرها مع غيرها من بلاد الأندلس، وهذا الباب (2) لها بالاستقلال.
وأنشد أبو العاصي غالب بن أميّة الموروري (3) لما جلس على نهر قرطبة بإزاء الرّبض ملتفتاً إلى القصر، بديهة (4) :
يا قصر كم [قد] حويت من نعمٍ
…
عادت لقىً في عوارض (5) السكك
يا قصر كم [قد] حويت من ملكٍ
…
دارت عليه دوائر الفلك
ابق بما شئت كلّ متّخذٍ
…
يعود يوماً (6) بحال متّرك وقال القاضي أبو الفضل عياض عند ارتحاله عن قرطبة (7) :
(1) ق ك ط ج: الفصل.
(2)
ق ك ط ج: الفصل.
(3)
غالب بن أمية بن غالب الموروري (ويترجم له أيضاً تحت أمية بن غالب) من شعراء القرن الرابع سكن قرطبة. (انظر ترجمته في التكملة رقم: 1955 والجذوة: 305 وبغية الملتمس رقم: 1275) والأبيات الوادة له مذكورة في هذه المصادر.
(4)
حولت الأبيات حسب رواية النفح إلى الوزن الكامل امرفل، ولكنها جاءت مع أبيات أخرى في الجذوة والبغية على وزن المنسرح فلذلك عدلنا بها إلى ذلك الوزن.
(5)
أصول النفح: بعوارض.
(6)
أصول النفح: ما شئت فابق فكل متخذ يوماً يعود.
(7)
وردت الأبيات في ترجمة القاضي عياض في القلائد: 222 - 226 وانظر أزهار الرياض 3: 18.
أقول وقد جدّ ارتحالي وغرّدت
…
حداتي وزمّت للفراق ركائبي
وقد غمضت من كثرة الدّمع مقلتي
…
وصارت هواء من فؤادي ترائبي
ولم يبق إلا وقفة يستحثّها
…
وداعي للأحباب لا للحبائب
رعى الله جيراناً بقرطبة العلا
…
وجاد رباها بالعهاد السّواكب
وحيّا زماناً بينهم قد ألفته
…
طليق المحيّا مستلان الجوانب
أإخواننا بالله فيها تذكّروا
…
مودّة جارٍ أو مودّة صاحب
غدوت بهم من برّهم واحتفائهم
…
كأنّي في أهلي وبين أقاربي [مسجد قرطبة]
وأمّا مسجد قرطبة فشهرته تغني عن كثرة الكلام فيه، ولكن نذكر من أوصافه وننشر من أحواله ما لا بدّ منه، فنقول:
قال بعض المؤرخين: ليس في بلاد الإسلام أعظم منه، ولا أعجب بناء وأتقن صنعة، وكلّما اجتمعت منه أربع سواري كان رأسها واحداً، ثم صف رخام منقوش بالذهب واللازورد في أعلاه وأسفله، انتهى.
وكان الذي ابتدأ بنيان (1) هذا المسجد العظيم عبد الرحمن بن معاوية المعروف بالداخل، ولم يكمل في زمانه، وكمله ابنه هشام، ثمّ توالى الخلفاء من بني أميّة على الزيادة فيه، حتى صار المثل مضروباً به، والذي ذكره غير واحد أنّه لم يزل كل خليفة يزيد فيه على من قبله إلى أن كمل على يد نحو الثمانية من الخلفاء.
وقال بعض المؤرخين: إن عبد الرحمن الداخل لما استقر أمره وعظم (2) بنى القصر بقرطبة، وبنى المسجد الجامع، وأنفق عليه ثمانين ألف دينار، وبنى بقرطبة الرّصافة تشبيهاً برصافة جده هشام بدمشق.
(1) ك: بناه.
(2)
وعظم: زيادة في ك.
وقال بعض (1) : إنّه أنفق على الجمع ثمانين ألف دينار، واشترى موضعه إذ كان كنيسة بمائة ألف دينا، فالله تعالى أعلم.
وقال بعض في ترجمة عبد الرحمن الداخل ما صورته: إنّه لما تمهّد ملكه شرع في تعظيم قرطبة، فجدد مغانيها، وشيّد مبانيها، وحصّنها بالسور، وابتنى قصر الإمارة والمسجد الجامع، ووسع فناءه، وأصلح مساجد الكور، ثم ابتنى مدينة الرّصافة متنزهاً له، واتخذ بها قصراً حسناً، وجناناً واسعة، نقل إليها غرائب الغراس وكرائم الشجر من بلاد الشام وغيرها من الأقطار، انتهى.
وكانت أخته أم الأصبغ ترسل إليه من الشام بالغرائب، مثل الرّمان العجيب الذي أرسلته إليه من دمشق الشام كما مرّ، وسيأتي كلام ابن سعيد بما هو أتم من هذا.
ولما ذكر ابن بشكوال زيادة المنصور بن أبي عامر في جامع قرطبة قال (2) : ومن أحسن ما عاينه الناس في بنيان هذه الزيادة العامريّة أعلاج النصارى مصفّدين في الحديد من أرض قشتالة وغيرها، وهم كانوا يتصرّفون في البنيان عوضاً من رجّالة المسلمين، إذلالاً للشّرك وعزةً للإسلام، ولما عزم على زيادته هذه جلس لأرباب الدور التي نقلها أصحابها عنها بنفسه، فكان يؤتى بصاحب المنزل فيقول له: إن هذه الدار التي لك يا هذا أريد ابتياعها (3) لجماعة المسلمين من مالهم ومن فيئهم لأزيدها في جامعهم وموضع صلاتهم، فشطّط واطلب ما شئت، فإذا ذكر له أقصى الثمن أمر أن يضاعف له، وأن تشترى له بعد ذلك دار عوضاً منها، حتى أتي بامرأة لها دار بصحن الجامع فيها نخلة، فقالت: لا أقبل عوضاً إلاّ داراً بنخلة، فقال: تبتاع لها دار بنخلة، ولو ذهب فيها
(1) ك: وقال بعض المؤرخين.
(2)
قارن بما ورد في مخطوط الرباط: 30.
(3)
ك: أريد أن أبتاعها.
بيت المال، فاشتريت لها دار بنخلة، وبولغ في الثمن؛ وحكى ذلك ابن حيّان أيضاً.
وقيل: إن إنفاق الحكم في زيادة الجامع كان مائة ألف وواحداً وستين ألف دينار ونيّفاً، وكلّه من الأخماس.
وقال صاحب كتاب مجموع المفترق: وكان يقف البلاط من المسجد الجامع من القبلة إلى الجوف قبل الزيادة مائتين وخمسة وعشرين ذراعاً، والعرض من الشرق إلى الغرب قبل الزيادة مائة ذراع وخمسة أذرع، ثم زاد الحكم في طوله مائة ذراع وخمسة أذرع، فكمل الطول ثلاثمائة ذراع وثلاثين ذراعاً، وزاد محمّد بن أبي عامر بأمر هشام بن الحكم في عرضه من جهة المشرق ثمانين ذراعاً، فتم العرض مائتي ذراع وثلاثين ذراعاً، وكان عدد بلاطاته أحد عشر بلاطاً، عرض أوسطها ستة عشر ذراعاً، وعرض كل واحد من اللذين يليانه غرباً واللذين يليانه شرقاً أربعة عشر ذراعاً، وعرض كل واحد من الستة الباقية أحد عشر ذراعاً، وزاد ابن أبي عامر فيه ثمانيةً عرض كل واحد عشرة أذرع، وكان العمل في زيادة المنصور سنتين ونصفاً، وخدم فيه بنفسه، وطول الصحن من المشرق إلى المغرب مائة ذراع وثمانية وعشرون ذراعاً، وعرضه من القبلة إلى الجوف مائة ذراع وخمسة أذرع، وعرض كل واحدة من السقائف المستديرة بصحنه عشرة أذرع، فتكسيره ثلاثة وثلاثون ألف ذراع ومائة وخمسون ذراعاً، وعدد أبوابه تسعة: ثلاثة في صحنه غرباً وشرقاً وجوفاً، وأربعة في بلاطاته: اثنان شرقيان واثنان غربيّان، وقي مقاصير النساء من السقائف بابان، وجميع ما فيه من الأعمدة ألف عمود ومائتا عمود وثلاثة وتسعون عموداُ رخاماُ كلّها، وباب مقصورة الجامع ذهب، كذلك جدار المحراب وما يليه قد أجري فيه الذهب على الفسيفساء، وثريّت المقصورة فضّة محضة، وارتفاع الصومعة اليوم - وهي من بناء عبد الرحمن ابن محمد - ثلاثة وسبعون ذراعاً إلى أعلى القبّة المفتّحة التي يستدير بها المؤذن