المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله تعالى {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٢

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله تعالى {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ

القول في تأويل قوله تعالى {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ ‌

(95) }

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود وكراهتهم الموت، وامتناعهم عن الإجابة إلى ما دعوا إليه من تمني الموت، لعلمهم بأنهم إن فعلوا ذلك فالوعيد بهم نازل، والموت بهم حال؛ ولمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أنه رسول من الله إليهم مرسل، وهم به مكذبون، وأنه لم يخبرهم خبرا إلا كان حقا كما أخبر. فهم يحذرون أن يتمنوا الموت، خوفا أن يحل بهم عقاب الله بما كسبت أيديهم من الذنوب، كالذي:-

1578 -

حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد فيما يروي أبو جعفر، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس:(قل إن كانت لكم الدار الآخرة) الآية، أي: ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب. فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، أي: لعلمهم بما عندهم من العلم بك، والكفر بذلك. (1)

1579 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(ولن يتمنوه أبدا)، يقول: يا محمد، ولن يتمنوه أبدا، لأنهم يعلمون أنهم كاذبون. ولو كانوا صادقين لتمنوه ورغبوا في التعجيل إلى كرامتي، فليس يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم.

1580 -

حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(1) الأثر: 1578 - مضى في رقم: 1571، وهنا تمامه. وفي سيرة ابن هشام 1: 191"أكذب عند الله". وفي المطبوعة: "وقالوا ذلك على رسول الله. . " وهو خطأ، صوابه ما في سيرة ابن هشام. وفي المطبوعة:"أي لعلمهم بما عندهم. . " والذي أثبته هو نص ابن هشام.

ص: 367

ابن جريج قوله: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) ، وكانت اليهود أشد فرارا من الموت، ولم يكونوا ليتمنوه أبدا.

* * *

وأما قوله: (بما قدمت أيديهم)، فإنه يعني به: بما أسلفته أيديهم. وإنما ذلك مثل، على نحو ما تتمثل به العرب في كلامها. فتقول للرجل يؤخذ بجريرة جرها أو جناية جناها فيعاقب عليها:"نالك هذا بما جنت يداك، وبما كسبت يداك، وبما قدمت يداك"، فتضيف ذلك إلى"اليد". ولعل الجناية التي جناها فاستحق عليها العقوبة، كانت باللسان أو بالفرج أو بغير ذلك من أعضاء جسده سوى اليد.

قال أبو جعفر: وإنما قيل ذلك بإضافته إلى"اليد"، لأن عُظْمَ جنايات الناس بأيديهم، فجرى الكلام باستعمال إضافة الجنايات التي يجنيها الناس إلى"أيديهم"، حتى أضيف كل ما عوقب عليه الإنسان مما جناه بسائر أعضاء جسده، إلى أنها عقوبة على ما جنته يده.

فلذلك قاله جل ثناؤه للعرب: (ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم)، يعني به: ولن يتمنى اليهود الموت بما قدموا أمامهم في حياتهم من كفرهم بالله، في مخالفتهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهم يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة، ويعلمون أنه نبي مبعوث. فأضاف جل ثناؤه ما انطوت عليه قلوبهم، وأضمرته أنفسهم، ونطقت به ألسنتهم - من حسد محمد صلى الله عليه وسلم، والبغي عليه، وتكذيبه وجحود رسالته - إلى أيديهم، وأنه مما قدمته أيديهم، لعلم العرب معنى ذلك في منطقها وكلامها. إذ كان جل ثناؤه إنما أنزل القرآن بلسانها وبلغتها. وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-

1581 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(بما قدمت أيديهم)، يقول: بما أسلفت أيديهم.

ص: 368

1582 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:(بما قدمت أيديهم)، قال: إنهم عرفوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبي فكتموه.

* * *

وأما قوله: (والله عليم بالظالمين)، فإنه يعني جل ثناؤه: والله ذو علم بظلمة بني آدم - يهودها ونصاراها وسائر أهل الملل غيرها - وما يعملون.

وظلم اليهود: كفرهم بالله في خلافهم أمره وطاعته في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، بعد أن كانوا يستفتحون به وبمبعثه، وجحودهم نبوته وهم عالمون أنه نبي الله ورسوله إليهم.

وقد دللنا على معنى"الظلم" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) - اليهود -. يقول: يا محمد، لتجدن أشد الناس حرصا على الحياة في الدنيا، وأشدهم كراهة للموت، اليهود * كما:-

1583 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس:(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) ، يعني اليهود.

1584 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، حدثنا الربيع، عن أبي العالية:(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) ، يعني اليهود. (2)

1585 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر، عن

(1) انظر ما سلف 1: 523 - 524.

(2)

الأثر: 1584 - في المطبوعة: "حدثنا أبو جعفر عن أبي العالية"، سقط منه"حدثنا الربيع"؛ وهو إسناد دائر، وأقربه في رقم:1573.

ص: 369

أبيه، عن الربيع مثله. (1)

1586 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

* * *

وإنما كراهتهم الموت، لعلمهم بما لهم في الآخرة من الخزي والهوان الطويل.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن الذين أشركوا) ، وأحرص من الذين أشركوا على الحياة، كما يقال:"هو أشجع الناس ومن عنترة" بمعنى: هو أشجع من الناس ومن عنترة. فكذلك قوله: (ومن الذين أشركوا) . لأن معنى الكلام: ولتجدن -يا محمد- اليهود من بني إسرائيل، أحرص [من] الناس على حياة ومن الذين أشركوا. (2) فلما أضيف"أحرص" إلى"الناس" وفيه تأويل"من"، أظهرت بعد حرف العطف، ردا - على التأويل الذي ذكرنا.

وإنما وصف الله جل ثناؤه اليهود بأنهم أحرص الناس على الحياة، لعلمهم بما قد أعد لهم في الآخرة على كفرهم بما لا يقر به أهل الشرك، (3) فهم للموت أكره من أهل الشرك الذين لا يؤمنون بالبعث، لأنهم يؤمنون بالبعث، ويعلمون ما لهم هنالك من العذاب. والمشركون لا يصدقون بالبعث ولا العقاب، (4) فاليهود أحرص

(1) الأثر: 1585 - في المطبوعة: "حدثني المثنى قال حدثنا ابن أبي جعفر" سقط منه"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر، وأقربه رقم:1574.

(2)

الزيادة بين القوسين، لا بد منها، يدل عليها سياقه.

(3)

في المطبوعة: "مما لا يقر به"، والصواب ما أثبته.

(4)

في المطبوعة: "وإن المشركين لا يصدقون. . "، و"إن" لا مكان لها هنا.

ص: 370

منهم على الحياة وأكره للموت.

* * *

وقيل: إن الذين أشركوا - الذين أخبر الله تعالى ذكره أن اليهود أحرص منهم في هذه الآية على الحياة - هم المجوس الذين لا يصدقون بالبعث * ذكر من قال هم المجوس:

1587 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة) ، يعني المجوس.

1588 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: المجوس.

1589 -

حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال قال ابن زيد:(ومن الذين أشركوا)، قال: يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة.

* * *

* ذكر من قال: هم الذين ينكرون البعث:

1590 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما يروي أبو جعفر- عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس:(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ومن الذين أشركوا) ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت، فهو يحب طول الحياة؛ وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي، بما ضيع مما عنده من العلم. (1)

* * *

(1) الأثر: 1590 - سيرة ابن هشام 2: 191.

ص: 371

القول في تأويل قوله تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ}

قال أبو جعفر: هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا (1) - الذين أخبر أن اليهود أحرص منهم على الحياة. يقول جل ثناؤه: يود أحد هؤلاء الذين أشركوا - الآيس، بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته، (2) أن يكون له بعد ذلك نشور أو محيا أو فرح أو سرور - لو يعمر ألف سنة، حتى جعل بعضهم تحية بعض:"عشرة آلاف عام" حرصا منهم على الحياة، كما:-

1591 -

حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي عليا، أخبرنا أبو حمزة، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول الأعاجم:"سال زه نوروز مهرجان حر". (3)

(1) في المطبوعة: "هذا خبر من الله جل ثناؤه بقوله عن الذين أشركوا" والصواب حذف"بقوله"، والنسخة المطبوعة ومخطوطاتها مضطربة في هذا الموضع من الكتاب اضطرابا شديدا.

(2)

في المطبوعة: "يود أحد هؤلاء الذين أشركوا إلا ما. . بفناء دنياه وانقضاء أيام حياته"، بياض فيها وفي الأصل. واستظهرت قراءتها كما أثبت، فإنه هو المعنى الذي يدور عليه تفسير أبي جعفر: أن هذا المشرك قد يئس أن يكون له بعد فناء الدنيا وانقضاء الحياة نشور أو محيا أو فرح أو سرور، فهو يود لو يعمر ألف سنة.

(3)

الأثر: 1591 - محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، وأبوه: ثقتان، ترجمنا لهما في شرح المسند:7437. أبو حمزة: هو السكري، محمد بن ميمون، ثقة إمام. وهذا الإسناد صحيح متصل. وانظر الإسناد الآتي. في تفسير ابن كثير 1: 238، ونص الكلام الفارسي فيه:"هزار سال نوروز مهرجان". وقد سألت أحد أصحابنا ممن يعرف الفارسية فقال: إن هذا النص لا ينطبق على قواعد الفارسية، وأنه يظن أن صوابها:"زه در مهرجان نو وروز هزار سال" ومعنى"زه": عش، و"در" ظرف بمعنى"في"، ومهرجان هو عيد لهم. ونيروز: عيد آخر في أول السنة. و"هزار" ألف، و"سال": سنة. فكأن"حر" التي في آخر الكلام في نص الطبري هي:"در" مصحفة. وباقي النصوص الفارسية صحيح، ومعناه: عش ألف سنة.

وفي المستدرك للحاكم 2: 264"هزار سال سرور مهرجان بخور"، وقال مصححه: يعني"تمتع ألف سنة كمثل عيد مهرجان. وهو عيد لهم"، وكأن هذا هو الصواب.

ص: 372

1592 -

وحدثت عن نعيم النحوي، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أهل الشرك بعضهم لبعض إذا عطس:"زه هزار سال".

1593 -

حدثنا إبراهيم بن سعيد ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن قتادة في قوله:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: حَبَّبَتْ إليهم الخطيئةُ طولَ العمر.

1594 -

حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثني علي بن معبد، عن ابن علية، عن ابن أبي نجيح في قوله:(يود أحدهم) ، فذكر مثله.

1595 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:(ولتجدنهم أحرص الناس على حياة) حتى بلغ: (لو يعمر ألف سنة) ، يهود، أحرص من هؤلاء على الحياة. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة.

1596 -

وحدثت عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، قال: هو قول أحدهم إذا عطس:"زه هزار سال"، يقول: عشرة آلاف سنة. (1)

* * *

(1) الخبر: 1596 - ذكره الطبري هكذا مجهول الإسناد، بقوله:"حدثت عن أبي معاوية"، إلخ. والعلة في ذلك - فيما أرى - أن الأعمش لم يسمعه من سعيد بن جبير، وإن كان أدركه وروى عنه.

فقد روى الحاكم هذا الخبر، في المستدرك 2: 263 - 264، من طريق إسحاق بن إبراهيم"حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس" - بنحوه. ثم قال الحاكم: "رواه قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس". ثم رواه بإسناده إلى محمد بن يوسف، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. . " وهذا إسناد صحيح متصل، دل على انقطاع الإسناد: "الأعمش عن سعيد بن جبير".

ص: 373

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، وما التعمير - وهو طول البقاء - بمزحزحه من عذاب الله.

* * *

وقوله: (هو) عماد لطلب "ما" الاسم أكثر من طلبها الفعل، (1) كما قال الشاعر:

فهل هو مرفوع بما ههنا رأس * (2)

و"أن" التي في: (أن يعمر) ، رفع، بـ "مزحزحه"، و"هو" الذي مع"ما" تكرير، عماد للفعل، لاستقباح العرب النكرة قبل المعرفة.

* * *

وقد قال بعضهم: إن"هو" الذي مع"ما" كناية ذكر العمر. كأنه قال: يود أحدهم لو يعمر ألف سنة، وما ذلك العمر بمزحزحه من العذاب. وجعل"أن يعمر" مترجما عن"هو"، يريد ما هو بمزحزحه التعمير. (3)

* * *

وقال بعضهم: قوله: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، نظير قولك: ما زيد بمزحزحه أن يعمر.

* * *

قال أبو جعفر: وأقرب هذه الأقوال عندنا إلى الصواب ما قلنا، وهو أن يكون"هو" عمادا، نظير قولك:"ما هو قائم عمرو".

* * *

(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 312 في معنى"الاسم" و"الفعل"، و"العماد"، تعليق رقم: 2، وانظر معاني الفراء 1: 50 - 52.

(2)

هذا شطر بيت مضى من أبيات ثلاثة، في هذا الجزء 2:313.

(3)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 340 معنى"الترجمة".

ص: 374

وقد قال قوم من أهل التأويل: إن"أن" التي في قوله:"أن يعمر" بمعنى: وإن عمر، وذلك قول لمعاني كلام العرب المعروف مخالف.

* ذكر من قال ذلك:

1597 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عمر.

1598 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

1599 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"أن يعمر"- ولو عمر.

* * *

وأما تأويل قوله: (بمزحزحه) ، فإنه بمبعده ومُنَحِّيه، كما قال الحطيئة:

وقالوا: تزحزح ما بنا فضل حاجة

إليك، وما منا لوَهْيِك راقع (1)

يعني بقوله::"تزحزح"، تباعد، يقال منه:"زحزحه يزحزحه زحزحة وزحزاحا،"وهو عنك متزحزح"، أي متباعد.

* * *

فتأويل الآية - وما طول العمر بمبعده من عذاب الله، ولا مُنَحِّيه منه، لأنه لا بد للعمر من الفناء، ومصيره إلى الله، كما:-

(1) البيت ليس للحطيئة، وإنما هو لقيس بن الحدادية، من قصيدة له نفيسة طويلة رواها أبو الفرج في أغانيه 13:6. يقول قبل البيت، يذكر مجيئه إلى صاحبته أم مالك. وما راعنى إلا المنادى: ألا اظعنوا

وإلا الرواغى غدوة والقعاقع

فجئت كأني مستضيف وسائل

لأخبرها كل الذي أنا صانع

فقالت: تزحزح! ما بنا كبر حاجة

إليك، ولا منا لفقرك راقع

فما زلت تحت الستر حتى كأنني

من الحر ذو طمرين في البحر كارع

ص: 375

1600 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد -فيما أروي- (1) عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس:(وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، أي: ما هو بمنحيه من العذاب.

1601 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر)، يقول: وإن عُمِّر، فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منحيه.

1602 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

1603 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب) ، فهم الذين عادوا جبريل عليه السلام.

1604 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:(يود أحدهم لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر) ، ويهود أحرص على الحياة من هؤلاء. وقد ود هؤلاء لو يعمر أحدهم ألف سنة، وليس ذلك بمزحزحه من العذاب، لو عمر كما عمر إبليس لم ينفعه ذلك، إذ كان كافرا، ولم يزحزحه ذلك عن العذاب.

* * *

القول في تأويل قوله جل ثناؤه {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96) }

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (والله بصير بما يعملون) ، والله ذو إبصار بما يعملون، لا يخفي عليه شيء من أعمالهم، بل هو بجميعها محيط، ولها حافظ ذاكر، حتى يذيقهم بها العقاب جزاءها.

* * *

(1) في المطبوعة: "فيما أرى"، خطأ، والصواب ما أثبت. وانظر الإسناد رقم:1590.

ص: 376

وأصل"بصير""مبصر" - من قول القائل:"أبصرت فأنا مبصر"، ولكن صرف إلى"فعيل"، كما صرف"مسمع" إلى"سميع"، و"عذاب مؤلم" إلى"أليم"،"ومبدع السموات" إلى بديع، وما أشبه ذلك. (1)

القول في تأويل قوله جل ثناؤه {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ}

قال أبو جعفر: أجمع أهل العلم بالتأويل جميعا على أن هذه الآية نزلت جوابا لليهود من بني إسرائيل، إذ زعموا أن جبريل عدو لهم، وأن ميكائيل ولي لهم. ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك. فقال بعضهم: إنما كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوته.

* ذكر من قال ذلك:

1605 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، (2) عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس أنه قال: حضرت عصابة من اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن خلال نسألك عنهن، لا يعلمهن إلا نبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا عما شئتم، ولكن اجعلوا لي ذمة الله، وما أخذ يعقوب على بنيه، لئن أنا حدثتكم شيئا فعرفتموه، لتتابعُني على الإسلام. فقالوا: ذلك لك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوني عما شئتم. فقالوا: أخبرنا عن أربع خلال نسألك عنهن: أخبرنا، أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ وأخبرنا

(1) انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2:140.

(2)

في المطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ محض.

ص: 377

كيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى؟ وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"عليكم عهد الله لئن أنا أنبأتكم لتتابعني! فأعطوه ما شاء من عهد وميثاق. فقال:"نشدتكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فطال سقمه منه، فنذر نذرا لئن عافاه الله من سقمه ليحرمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل - قال أبو جعفر: فيما أروي: (1) وأحب الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد الله عليكم وأنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ، وأن ماء المرأة أصفر رقيق، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله، فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة كان الولد ذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل كان الولد أنثى بإذن الله؟ قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قال: وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ قالوا: اللهم نعم! قال: اللهم اشهد! قالوا: أنت الآن تحدثنا من وليك من الملائكة، (2) فعندها نتابعك أو نفارقك. قال: فإن وليي جبريل، ولم يبعث الله نبيا قط إلا وهو وليه. قالوا: فعندها نفارقك، لو كان وليك سواه من الملائكة، تابعناك وصدقناك. قال:"فما يمنعكم أن تصدقوه؟ قالوا: إنه عدونا. فأنزل الله عز وجل: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون) ، فعندها باءوا بغضب على غضب. (3)

1606 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي الحسين -يعني المكي-، عن شهر بن حوشب الأشعري: أن نفرا من اليهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن، فإن فعلت اتبعناك وصدقناك وآمنا بك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم بذلك عهد الله وميثاقه، لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقني؟ قالوا: نعم. قال: فاسألوا عما بدا لكم. فقالوا: أخبرنا كيف يشبه الولد أمه، وإنما النطفة من الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة، فأيتهما علت صاحبتها كان لها الشبه؟ (4) نعم. قالوا: فأخبرنا كيف نومك؟ قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟

(1) في المطبوعة: "فيما أرى" - وانظر ما سلف قريبا: 376.

(2)

في تفسير ابن كثير 1: 239"أنت الآن فحدثنا. . "، وهي جيدة.

(3)

الأثر: 1605 - إسناده صحيح. يونس بن بكير بن واصل الشيباني: ثقة، من تكلم فيه فلا حجة له، وأخرج له مسلم في صحيحه. وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 411، وابن سعد 6: 279، وابن أبي حاتم 4 /2 /236. ووقع في المطبوعة هنا"يونس عن بكير" وهو خطأ واضح. عبد الحميد بن بهرام - بفتح الباء وسكون الهاء - الفزاري: ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وتكلم فيه بعضهم من أجل روايته عن شهر بن حوشب، وهو راويته، ولكن شهر ثقة أيضًا، كما أشرنا في:1489.

والحديث رواه أحمد في المسند، مطولا: 2514، وابن سعد في الطبقات 1/1/115 - 116، كلاهما من هاشم بن القاسم، عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد. ثم رواه أحمد: 2515، عن محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، به ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله. ورواه أحمد أيضًا: 2471، مختصرا، عن حسين، هو ابن محمد المروزي عن عبد الحميد بن بهرام.

ورواه أيضًا: 2483، من وجه آخر، أطول قليلا. وكذلك رواه أبو نعيم في الحلية 4: 304 - 305 من هذا الوجه. وذكر الهيثمي الرواية: 2483، وأشار إلى ما في الرواية: 2514 من الزيادة، في مجمع الزوائد 8: 241 - 242، وقال:"رواه أحمد والطبراني، ورجالهما ثقات".ونقل ابن كثير في التفسير 1: 238 - 239 رواية الطبري التي هنا، ثم أشار إلى رواية المسند:2514. ثم نقل رواية المسند: 2483 فيه 1: 240، ونقل روايتي المسند أيضًا 2: 186 - 187.

(4)

في المطبوعة: "فأيهما غلبت صاحبتها"، والصواب من نص سيرة ابن هشام 2: 191 - 192.

ص: 378

(1)

قالوا: اللهم نعم. قال: اللهم اشهد! قالوا أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ قال: هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها، وأنه اشتكى شكوى فعافاه الله منها، فحرم أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها؟ قالوا: اللهم نعم. قالوا: فأخبرنا عن الروح. قال: أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل، هل تعلمون أنه جبريل، (2) وهو الذي يأتيني؟ قالوا: نعم، ولكنه لنا عدو، وهو ملك إنما يأتي بالشدة وسفك الدماء، فلولا ذلك اتبعناك. فأنزل الله فيهم:(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك) إلى قوله (كأنهم لا يعلمون) . (3)

1607 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني القاسم بن أبي بزة: أن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي؟ فقال: جبريل. قالوا: فإنه لنا عدو ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال! فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. قال ابن جريج: وقال مجاهد: قالت يهود: يا محمد، ما ينزل جبريل إلا بشدة وحرب! وقالوا: إنه لنا عدو! (4) فنزل: (من كان عدوا لجبريل) الآية. (5)

* * *

وقال آخرون: بل كان سبب قيلهم ذلك، من أجل مناظرة جرت بين

(1) نص ابن إسحاق في رواية ابن هشام 2: 192: "هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به، تنام عيناه وقلبه يقظان؟ فقالوا: اللهم نعم. قال: فكذلك نومي، تنام عيني وقلبي يقظان. قالوا: فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه؟ " وبعد ذلك اختلاف أيضًا في رواية ابن جرير عن ابن إسحاق.

(2)

في سيرة ابن هشام: "هل تعلمونه"، وهو أشبه بالصواب.

(3)

الأثر: 1606 - هو حديث مرسل، مضى جزء منه، بهذا الإسناد:1489. وأشار إليه ابن كثير 239:1 - 240، عقب حديث ابن عباس الذي قبله، وصرح أيضًا بأنه رواه محمد بن إسحاق مرسلا. وفي سيرة ابن هشام 2: 191 - 192، وفيه اختلاف في بعض اللفظ. وقد ساق ابن كثير هذين الأثرين (1605، 1606) وخرجهما، وواستوفى الكلام في هذه القصة في تفسيره 1: 238 - 245.

(4)

في تفسير ابن كثير 1: 240: "إلا بشدة وحرب وقتال فإنه لنا عدو".

(5)

الأثر: 1607 - وهذا منقطع، وقد ذكره ابن كثير 1: 240، عن هذا الموضع و"القاسم بن أبي بزة": سبق في: 631، وهو يروى عن التابعين.

ص: 380

عمر بن الخطاب رضي الله عنه وبينهم، في أمر النبي صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال ذلك:

1608 -

حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ربعي بن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، قال: نزل عمر الروحاء، فرأى رجالا يبتدرون أحجارا يصلون إليها، فقال: ما هؤلاء؟ قالوا: يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ههنا. فكره ذلك وقال: أيما؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة بواد فصلى، ثم ارتحل فتركه! (1) ثم أنشأ يحدثهم فقال: كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم فأعجب من التوراة كيف تصدق الفرقان، ومن الفرقان كيف يصدق التوراة! فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا: يا ابن الخطاب، ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك. قلت: ولم ذلك؟ قالوا: إنك تغشانا وتأتينا. قال: قلت إني آتيكم فأعجب من الفرقان كيف يصدق التوراة، ومن التوراة كيف تصدق الفرقان! قال: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا ابن الخطاب، ذاك صاحبكم فالحق به. قال: فقلت لهم عند ذلك: أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه واستودعكم من كتابه، أتعلمون أنه رسول الله؟ قال: فسكتوا، قال: فقال عالمهم وكبيرهم: إنه قد عظم عليكم فأجيبوه. (2) قالوا: أنت عالمنا وسيدنا، فأجبه أنت. قال: أما إذ نشدتنا به، فإنا نعلم أنه رسول الله. قال: قلت: ويحكم! إذا هلكتم! (3) قالوا إنا لم نهلك. قال: قلت: كيف ذاك، وأنتم تعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لا تتبعونه ولا تصدقونه؟

(1) في المطبوعة: "وقال: إنما رسول الله صلى الله عليه وسلم أدركته الصلاة"، وهي عبارة ركيكة. وأثبت ما جاء في تفسير ابن كثير عن الطبري 1:240. وقوله"أيما" استفهام وتعجب، وأكثر ما تكتب: "أيم" (بفتح فسكون ففتح) ، وبحذف الألف. تقول: أيم تقول؟ أي: أي شيء تقول؟ وانظر اللسان (أيم) . يتعجب عمر من فعلهم.

(2)

في تفسير ابن كثير 1: 242: "قد غلظ عليكم".

(3)

في المطبوعة: "أي هلكتم"، والصواب في تفسير ابن كثير.

ص: 381

قالوا: إن لدينا عدوا من الملائكة وسلما من الملائكة، وإنه قرن به عدونا من الملائكة. (1) قال: قلت: ومن عدوكم؟ ومن سلمكم؟ قالوا: عدونا جبريل، وسلمنا ميكائيل. قال: قلت: وفيم عاديتم جبريل؟ وفيم سالمتم ميكائيل؟ قالوا: إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا، وإن ميكائيل ملك الرأفة والرحمة والتخفيف ونحو هذا. قال: قلت: وما منزلتهما من ربهما؟ قالوا: أحدهما عن يمينه، والآخر عن يساره. قال: قلت: فوالله الذي لا إله إلا هو، إنهما والذي بينهما لعدو لمن عاداهما، وسلم لمن سالمهما، ما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل، ولا لميكائيل أن يسالم عدو جبريل! قال: ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقته وهو خارج من مخرفة لبني فلان، (2) فقال لي: يا ابن الخطاب، ألا أقرئك آيات نزلن؟ فقرأ على:(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه) حتى قرأ الآيات. قال: قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، (3) والذي بعثك بالحق لقد جئت وأنا أريد أن أخبرك الخبر، فأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر! (4)

1609 -

حدثني يعقوب بن ابرهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال، قال عمر: كنت رجلا أغشى اليهود في يوم مدراسهم، ثم ذكر نحو حديث ربعي. (5)

1610 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب انطلق ذات يوم إلى اليهود، فلما أبصروه رحبوا به. فقال لهم عمر: أما والله ما جئت لحبكم ولا للرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه، فقالوا: من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم: جبريل. فقالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمدا على سرنا، وإذا جاء جاء بالحرب والسنة (6) ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالخصب وبالسلم، فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمدا؟ ففارقهم عمر عند ذلك، وتوجه نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم، فوجده قد أنزل عليه هذه الآية:(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) .

1611 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة قال: بلغنا أن عمر بن الخطاب أقبل على اليهود يوما، فذكر نحوه.

1612 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(من كان عدوا لجبريل)، قال: قالت اليهود:

(1) السلم: المسالم. تقول: أنا سلم لمن سالمني. رجل سلم، وقوم سلم، وامرأة سلم.

(2)

في المطبوعة: "خرقة"، وفي تفسير ابن كثير"خوخة" والصواب"مخرفة" كما أثبتها. والمخرفة: البستان، أو سكة بين صفين من نخل. خرف النخل والثمر: اجتناه، واجتناء الثمر هـ"الخرفة"(بضم فسكون) .

(3)

في المطبوعة: "بأبي وأمي يا رسول الله" بإسقاط"أنت"، وأثبت ما في تفسير ابن كثير

(4)

الحديث: 1608 - وهذا مرسل أيضًا. ذكره ابن كثير 1: 241 - 243، عن هذا الموضع، ثم عن تفسير ابن أبي حاتم، من رواية مجالد عن عامر - وهو الشعبي - وسيأتي نحوها أيضًا من رواية مجالد رقم:1614. ثم قال ابن كثير:"وهذان الإسنادان يدلان على أن الشعبي حدث به عن عمر. ولكن فيه انقطاع بينه وبين عمر، فإنه لم يدرك زمانه". وقال السيوطي في الدر المنثور 1: 90"صحيح الإسناد ولكن الشعبي لم يدرك عمر".

رِبْعِي، بكسر الراء والعين المهملة، بينهما باء موحدة ساكنة، وآخره ياء تحتية مشددة: هو"ربعي بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" عرف"بابن علية"، كأخيه"إسماعيل بن علية". وربعي: ثقة مأمون، من شيوخ أحمد وأبي خيثمة وغيرهما. وقال عبد الرحمن بن مهدي:"كنا نعد ربعي بن علية من بقايا شيوخنا". وفي المسند: 7444 أن أحمد بن حنبل قال:"كان يفضل على أخيه". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 /299، وابن أبي حاتم 1 /2 /509 - 510.داود بن أبي هند: ثقة، جيد الإسناد، رفع، من حفاظ البصرين. ترجمته في التهذيب، والكبير 2/1/211 -212، والصغير: 160، وابن أبي حاتم 1 /2 /411 - 412.

الشعبي: هو عامر بن شراحيل الهمداني، إمام جليل الشأن، من كبار التابعين. ولكنه لم يدرك عمر، كما قال ابن كثير. فإنه ولد سنة 19، أو سنة 20.

(5)

الأثر: 1609 - في المطبوعة: "حدثني يعقوب قال حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن علية" والصواب ما أثبته، يعقوب بن إبراهيم الدورقي، وقد سلف مرارا بهذا الإسناد، وروايته عن ابن علية

(6)

السنة: الجدب والقحط.

ص: 382

إن جبريل هو عدونا، لأنه ينزل بالشدة والحرب والسنة، وإن ميكائيل ينزل بالرخاء والعافية والخصب، فجبريل عدونا. فقال الله جل ثناؤه:(من كان عدوا لجبريل) .

1613 -

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه)، قال: كان لعمر بن الخطاب أرض بأعلى المدينة، فكان يأتيها، وكان ممره على طريق مدراس اليهود، وكان كلما دخل عليهم سمع منهم. وإنه دخل عليهم ذات يوم فقالوا: يا عمر ما في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أحد أحب إلينا منك، إنهم يمرون بنا فيؤذوننا، وتمر بنا فلا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك. فقال لهم عمر: أي يمين فيكم أعظم؟ قالوا: الرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أتجدون محمدا صلى الله عليه وسلم عندكم؟ فأَسْكتوا. (1) فقال: تكلموا، ما شأنكم؟ فوالله ما سألتكم وأنا شاك في شيء من ديني. فنظر بعضهم إلى بعض، فقام رجل منهم فقال: أخبروا الرجل، لتخبرنه أو لأخبرنه. قالوا: نعم، إنا نجده مكتوبا عندنا، ولكن صاحبه من الملائكة الذي يأتيه بالوحي هو جبريل، وجبريل عدونا، وهو صاحب كل عذاب أو قتال أو خسف، ولو أنه كان وليه ميكائيل، إذًا لآمنا به، فإن ميكائيل صاحب كل رحمة وكل غيث. فقال لهم عمر: فأنشدكم بالرحمن الذي أنزل التوراة على موسى بطور سيناء، أين مكان جبريل من الله؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره. قال عمر: فأشهدكم أن الذي هو عدو للذي عن يمينه، عدو للذي هو عن يساره؛ والذي هو عدو للذي هو عن يساره؛ عدو للذي هو عن يمينه؛ وأنه من كان عدوهما، فانه عدو لله. ثم رجع عمر ليخبر النبي صلى الله عليه وسلم،

(1) سكت الرجل: صمت. وأسكت الرجل (غير متعد) : انقطع كلامه فلم يتكلم، وأطرق من فكرة انتابته وقطعته.

ص: 384

فوجد جبريل قد سبقه بالوحي، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه، فقال عمر: والذي بعثك بالحق، لقد جئتك وما أريد إلا أن أخبرك! (1)

1614 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء أبو زهير، عن مجالد، عن الشعبي قال: انطلق عمر إلى يهود فقال: إني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجدون محمدا في كتابكم؟ قالوا: نعم. قال: فما يمنعكم أن تتبعوه؟ قالوا: إن الله لم يبعث رسولا إلا كان له كفل من الملائكة، وإن جبريل هو الذي يتكفل لمحمد، وهو عدونا من الملائكة، وميكائيل سلمنا، فلو كان هو الذي يأتيه اتبعناه. قال: فإني أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، ما منزلتهما من رب العالمين؟ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن جانبه الآخر. فقال: إني أشهد ما يقولان إلا بإذن الله، (2) وما كان لميكائيل أن يعادي سلم جبريل، وما كان جبريل ليسالم عدو ميكائيل. [فبينما هو عندهم] ، إذ مر نبي الله صلى الله عليه وسلم، (3) فقالوا: هذا صاحبك يا ابن الخطاب. فقام إليه، فأتاه وقد أنزل عليه:(من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) إلى قوله: (فإن الله عدو للكافرين) . (4)

(1) الأثر: 1613 - في الدر المنثور 1 - 91 مع اختلاف يسير في اللفظ واختصار في روايته.

(2)

في تفسير ابن كثير 1: 243: "ما ينزلان إلا بإذن الله"، وكأنه هو الصواب.

(3)

ما بين القوسين زيادة لا بد منها، زدتها من تفسير ابن كثير 1: 242، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره.

(4)

الحديث: 1614 - وهذا إسناد مرسل أيضًا، ووقع فيه في المطبوعة خطأ في موضعين أثبتنا الصواب لليقين به. وكان في المطبوعة"حدثنا عبد الرحمن بن مغراء قال حدثنا زهير عن مجاهد عن الشعبي". فلا يوجد في شيوخ ابن مغراء، ولا في الرواة عن"مجاهد" أو"مجالد" من يسمى"زهيرا". و"مجاهد عن الشعبي" خطأ أيضًا، وكلاهما من كبار التابعين، من طبقة واحدة، ومجاهد أقدم قليلا. وعبد الرحمن بن مغراء لا يدرك أن يروى عن مجاهد، ولا عن الشعبي.

ومجالد: هو ابن سعيد الهمداني، وهو ثقة، ضعفه بعض الأئمة. وروى عنه من الأئمة: شعبة والسفيانان وابن المبارك، ورجحنا تصحيح حديث القدماء عنه، في شرح المسند: 3781، لأن أعدل كلمة فيه قول عبد الرحمن بن مهدي:"حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء، ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم وهؤلاء القدماء،". قال ابن حاتم:"يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره". وذكر ابن سعد في ترجمته 6: 243 جرح يحيى القطان إياه، ثم قال:"وقد روى عنه يحيى بن سعيد القطان مع هذا، وروى عنه سفيان الثورى، وشعبة، وغيرهم". وترجمته في التهذيب، والكبير للبخاري 4/ 2/9، والصغير: 168، 169، وابن أبي حاتم 4 /1/ 361 - 362.

إسحاق بن الحجاج الرازي: هو الطاحوني المقرئ، ترجمنا له فيما مضى:230. وعبد الرحمن بن مغراء بن عياض الدوسي، أبو زهير: ثقة، تكلم بعضهم في روايته عن الأعمش، وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /2 /290 - 291.

وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 242 - 243، من تفسير ابن أبي حاتم."حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر.." - وهو الشعبي، فذكر نحوه. ثم بين ابن كثير أنه منقطع، كما أشرنا آنفًا.

الراجح عندي أن عبد الرحمن بن مغراء ممن روى عن مجالد بعد تغيره.

ص: 385

1615 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ليلى في قوله:(من كان عدوا لجبريل) . قال: قالت اليهود للمسلمين: لو أن ميكائيل كان الذي ينزل عليكم لتبعناكم، فإنه ينزل بالرحمة والغيث، وإن جبريل ينزل بالعذاب والنقمة، وهو لنا عدو. قال: فنزلت هذه الآية: (من كان عدوا لجبريل) .

1616 -

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بنحو ذلك.

* * *

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية - أعني قوله: (قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله) - فهو: أن الله يقول لنبيه: قل يا محمد - لمعاشر اليهود من بني إسرائيل، الذين زعموا أن جبريل لهم عدو، من أجل أنه صاحب سطوات وعذاب وعقوبات، لا صاحب وحي وتنزيل ورحمة، فأبوا اتباعك، وجحدوا نبوتك، وأنكروا ما جئتهم به من آياتي وبينات حكمي، من أجل أن جبريل وليك وصاحب وحيي إليك، وزعموا أنه عدو لهم -: من يكن من الناس

ص: 386

لجبريل عدوا، ومنكرا أن يكون صاحب وحي الله إلى أنبيائه، وصاحب رحمته، فإني له ولي وخليل، ومقر بأنه صاحب وحي إلى أنبيائه ورسله، وأنه هو الذي ينزل وحي الله على قلبي من عند ربي، بإذن ربي له بذلك، يربط به على قلبي، ويشد فؤادي، كما:-

1617 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(قل من كان عدوا لجبريل)، قال: وذلك أن اليهود قالت - حين سألت محمدا صلى الله عليه وسلم عن أشياء كثيرة، فأخبرهم بها على ما هي عندهم -"إلا جبريل"، فإن جبريل كان عند اليهود صاحب عذاب وسطوة، ولم يكن عندهم صاحب وحي - يعني: تنزيل من الله على رسله - ولا صاحب رحمة، فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما سألوه عنه: أن جبريل صاحب وحي الله، وصاحب نقمته. وصاحب رحمته، فقالوا: ليس بصاحب وحي ولا رحمة، هو لنا عدو! فأنزل الله عز وجل إكذابا لهم:(قل) يا محمد: (من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك)، يقول: فإن جبريل نزله. يقول: نزل القرآن - بأمر الله يشد به فؤادك، ويربط به على قلبك"، يعني: بوحينا الذي نزل به جبريل عليك من عند الله- وكذلك يفعل بالمرسلين والأنبياء من قبلك.

1618 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله)، يقول: أنزل الكتاب على قلبك بإذن الله.

1619 -

وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(فإنه نزله على قلبك)، يقول: نزل الكتاب على قليك جبريل.

* * *

قال أبو جعفر: وإنما قال جل ثناؤه: (فإنه نزله على قلبك) - وهو يعني

ص: 387

بذلك قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أمر محمدا في أول الآية أن يخبر اليهود بذلك عن نفسه - ولم يقل: فإنه نزله على قلبي = ولو قيل:"على قلبي" كان صوابا من القول = لأن من شأن العرب إذا أمرت رجلا أن يحكي ما قيل له عن نفسه، أن تخرج فعل المأمور مرة مضافا إلى كناية نفس المخبر عن نفسه، إذ كان المخبر عن نفسه؛ ومرة مضافا إلى اسمه، كهيئة كناية اسم المخاطب لأنه به مخاطب. فتقول في نظير ذلك:"قل للقوم إن الخير عندي كثير" - فتخرج كناية اسم المخبر عن نفسه، لأنه المأمور أن يخبر بذلك عن نفسه-: و"قل للقوم إن الخير عندك كثير" - فتخرج كناية اسمه كهيئة كناية اسم المخاطب، لأنه وإن كان مأمورا بقيل ذلك، فهو مخاطب مأمور بحكاية ما قيل له. وكذلك:"لا تقل للقوم إني قائم" و"لا تقل لهم إنك قائم"، و"الياء" من"إني" اسم المأمور بقول ذلك، على ما وصفنا. ومن ذلك قول الله عز وجل:(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) و (تغلبون)[آل عمران: 12] ، بالياء والتاء. (1)

* * *

وأما"جبريل" فإن للعرب فيه لغات. فأما أهل الحجاز فإنهم يقولون"جبريل، وميكال" بغير همز، بكسر الجيم والراء من"جبريل" وبالتخفيف. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل المدينة والبصرة.

أما تميم وقيس وبعض نجد فيقولون:"جَبرئيل وميكائيل" على مثال"جبرعيل وميكاعيل"، بفتح الجيم والراء، وبهمز، وزيادة ياء بعد الهمزة. وعلى القراءة بذلك عامة قَرَأَة أهل الكوفة، كما قال جرير بن عطية:

عبدوا الصليب وكذبوا بمحمد

وبجَبرَئيل وكذبوا ميكالا (2)

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 63.

(2)

ديوانه: 450، ونقائض جرير والأخطل: 87، من قصيدته الدامغة في هجاء الأخطل، والضمير إلى تغلب، رهط الأخطل، وقبله: قبح الإله وجوه تغلب، كلما

شَبَح الحجيج وكبروا إهلالا

ص: 388

وقد ذكر عن الحسن البصري وعبد الله بن كثير أنهما كانا يقرآن:"جبريل" بفتح الجيم. وترك الهمز.

قال أبو جعفر: وهي قراءة غير جائزةٍ القراءةُ بها، لأن"فعليل" في كلام العرب غير موجود. (1) وقد اختار ذلك بعضهم، وزعم أنه اسم أعجمي، كما يقال:"سمويل"، وأنشد في ذلك:(2)

بحيث لو وزنت لخم بأجمعها

ما وازنت ريشة من ريش سمويلا (3)

وأما بنو أسد فإنها تقول"جِبرين" بالنون. وقد حكي عن بعض العرب أنها تزيد في"جبريل""ألفا" فتقول: جبراييل وميكاييل.

وقد حكي عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ:"جَبْرَئِلّ" بفتح الجيم، والهمز، وترك المد، وتشديد اللام.

فأما"جبر" و"ميك"، فإنهما الاسمان اللذان أحدهما بمعنى:"عبد"، والآخر بمعنى:"عبيد".

* * *

(1) في المطبوعة: "فعيل"، هو خطأ.

(2)

هو الربيع بن زياد العبسي، أحد الكملة من بني فاطمة بنت الخرشب الأنمارية.

(3)

الأغاني 14: 92، 16: 22، واللسان (سمل) ، من أبيات أرسلها الربيع إلى النعمان ابن المنذر في خبر طويل، حين قال لبيد في رجزه: مهلا، أبيت اللعن، لا تأكل معه

وزعم أنه أبرص الخبيثة، وذكر من فعله قبيحا كريها، فرحل الربيع عن النعمان، وكان له نديما، وأرسل إليه أبياته. لئن رحلت جمالي لا إلى سعة

ما مثلها سعة عرضا ولا طولا

بحيث لو وزنت لخم بأجمعها

لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا

ترعى الروائم أحرار البقول بها

لا مثل رعيكم ملحا وغسويلا

فاثبت بأرضك بعدي، واخل متكئا

مع النطاسي طورا وابن توفيلا

ولخم: هم رهط آل المنذر ملوك الحيرة.

ص: 389

وأما"إيل" فهو الله تعالى ذكره، كما:-

1620 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جرير بن نوح الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس:"جبريل" و"ميكائيل"، كقولك: عبد الله.

1621 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"جبريل" عبد الله؛ و"ميكائيل"، عبيد الله. وكل اسم"إيل" فهو: الله.

1622 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إسماعيل بن رجاء، عن عمير مولى ابن عباس: أن"إسرائيل، وميكائيل وجبريل، وإسرافيل" كقولك: عبد الله.

1623 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال:"إيل"، الله، بالعبرانية.

1624 -

حدثنا الحسين بن يزيد الضحاك قال، حدثنا إسحاق بن منصور قال، حدثنا قيس، عن عاصم، عن عكرمة، قال:"جبريل" اسمه: عبد الله؛ و"ميكائيل" اسمه: عبيد الله."إيل": الله.

1625 -

حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: اسم"جبريل" عبد الله، واسم"ميكائيل" عبيد الله، واسم"إسرافيل": عبد الرحمن. وكل معبد،"إيل"، فهو عبد الله. (1)

1626 -

حدثنا المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن

(1) الخبر: 1625 - الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي: ضعيف قال أبو زرعة: "لا يصدق". وهو مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 1/2/61 -62، والأنساب، في الورقة:401. و"العنقزي": بفتح العين المهلة والقاف بينهما نون ساكنة وبالزاي. ووقع في المطبوعة"العبقري"، وهو تصحيف. وكذلك سيأتي في رقم: 1655، بالتصحيف، وصححناه هناك.

ص: 390

محمد المدني - قال المثنى: قال قبيصة: أراه محمد بن إسحاق - عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين، قال: ما تعدون"جبريل" في أسمائكم؟ قال:"جبريل" عبد الله، و"ميكائيل" عبيد الله. وكل اسم فيه"إيل"، فهو مُعَبَّدٌ لله.

1627 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن علي بن حسين قال: قال لي: هل تدري ما اسم"جبريل" من أسمائكم؟ قلت: لا. قال: عبد الله. قال: فهل تدري ما اسم"ميكائيل" من أسمائكم؟ قلت: لا. (1) قال: عبيد الله. وقد سمى لي"إسرائيل" باسم نحو ذلك فنسيته، إلا أنه قد قال لي: أرأيت، كل اسم يرجع إلى"إيل" فهو معبد له.

1628 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:(جبريل) قال:"جبر" عبد،"إيل" الله، و"ميكا" قال: عبد."إيل": الله. (2)

* * *

قال أبو جعفر: فهذا تأويل من قرأ"جبرئيل" بالفتح، والهمز، والمد. وهو -إن شاء الله- معنى من قرأ بالكسر، وترك الهمز.

وأما تأويل من قرأ ذلك بالهمز، وترك المد، وتشديد اللام، فإنه قصد بقوله ذلك كذلك، إلى إضافة"جبر" و"ميكا" إلى اسم الله الذي يسمى به بلسان العرب دون السرياني والعبراني. وذلك أن"الإلّ" بلسان العرب: الله، كما قال:(لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً)[التوبة: 10] . فقال جماعة من أهل العلم:"الإل" هو الله. ومنه قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة، حين سألهم عما كان مسيلمة يقول، فأخبروه - فقال لهم: ويحكم"

(1) في المطبوعة: "قال: لا"، والصواب ما أثبت.

(2)

لعله"وميكا". قال: "عبيد" بالتصغير، كما سلف آنفًا.

ص: 391

أين ذهب بكم؟ والله، إن هذا الكلام ما خرج من إل ولا بر. يعني"من إل": من الله * وقد:-

1629 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:(لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة) قال: قول"جبريل" و"ميكائيل" و"إسرافيل".

كأنه يقول: حين يضيف"جبر" و"ميكا" و"إسرا" إلى"إيل" يقول: عبد الله. (1)(لا يرقبون في مؤمن إلا)، كأنه يقول: لا يرقبون الله عز وجل.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (مصدقا لما بين يديه)، القرآن. ونصب "مصدقا" على القطع من"الهاء" التي في قوله:(نزله على قلبك) . (2)

فمعنى الكلام: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، يا محمد، مصدقا لما بين يدي القرآن. يعني بذلك: مصدقا لما سلف من كتب الله أمامه، ونزلت على رسله الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم. وتصديقه إياها، موافقة معانيه معانيها في الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، وهي تصدقه. (3) كما:-

1630 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق عن الضحاك، عن ابن عباس. (مصدقا لما بين

(1) لعل الصواب أن يقول: "إسراف"، مكان"إسرا"، أو تكون الأولى"إسرائيل" مكان"إسرافيل".

(2)

القطع: الحال هنا. وانظر ما سلف 1: 230 - 232، 330، 561.

(3)

في المطبوعة: "وهي تصديقه" والصواب ما أثبت، يريد: وهي توافقه. كما فسر قبل.

ص: 392

يديه) ، يقول: لما قبله من الكتب التي أنزلها الله، والآيات، والرسل الذين بعثهم الله بالآيات، نحو موسى ونوح وهود وشعيب وصالح، وأشباههم من الرسل صلى الله عليهم.

1631 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(مصدقا لما بين يديه) ، من التوراة والإنجيل.

1632 -

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وهدى) ودليل وبرهان. وإنما سماه الله جل ثناؤه"هدى"، لاهتداء المؤمن به. و"اهتداؤه به" اتخاذه إياه هاديا يتبعه، وقائدا ينقاد لأمره ونهيه وحلاله وحرامه. و"الهادي" من كل شيء: ما تقدم أمامه. ومن ذلك قيل لأوائل الخيل:"هواديها"، وهو ما تقدم أمامها، وكذلك قيل للعنق:"الهادي"، لتقدمها أمام سائر الجسد. (1)

* * *

وأما"البشرى" فإنها البشارة. أخبر الله عباده المؤمنين جل ثناؤه، أن القرآن لهم بشرى منه، لأنه أعلمهم بما أعد لهم من الكرامة عنده في جناته، وما هم إليه صائرون في معادهم من ثوابه، وذلك هو"البشرى" التي بشر الله بها المؤمنين في كتابه. لأن البشارة في كلام العرب، هي: إعلام الرجل بما لم يكن به عالما مما يسره من الخبر، قبل أن يسمعه من غيره، أو يعلمه من قبل غيره. (2)

وقد روي في ذلك عن قتادة قول قريب المعنى مما قلناه:

(1) انظر ما سلف 1: 166 - 170، 230، 249 ثم 549 - 551.

(2)

انظر ما سلف 1: 383.

ص: 393