المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده: إذ إذا حضراني - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٢

[ابن جرير الطبري]

الفصل: يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده: إذ إذا حضراني

يصف ذئبا وغرابا تبعاه لينالا من طعامه وزاده:

إذ إذا حضراني قلت: لو تعلمانه!!

ألم تعلما أني من الزاد مرمل (1)

فأخبر أنه قال لهما:"لو تعلمانه"، فنفى عنهما العلم، ثم استخبرهما فقال: ألم تعلما؟ قالوا: فكذلك قوله: (ولقد علموا لمن اشتراه) و (لو كانوا يعلمون)

* * *

وهذا تأويل وإن كان له مخرج ووَجْه فإنه خلاف الظاهر المفهوم بنفس الخطاب، أعني بقوله:(ولقد علموا) وقوله: (لو كانوا يعلمون) ، وإنما هو استخراج. وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر الخطاب = دون الخفي الباطن منه، حتى تأتي دلالة - من الوجه الذي يجب التسليم له - بمعنىً خلافَ دليله الظاهر المتعارف في أهل اللسان الذين بلسانهم نزل القرآن = أولى. (2)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‌

(103) }

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا) ، لو أن الذين يتعلمون من الملكين ما يفرقون به بين المرء وزوجه،"آمنوا" فصدقوا الله ورسوله وما جاءهم به من عند ربهم، و"اتقوا" ربهم فخافوه فخافوا عقابه، فأطاعوه بأداء فرائضه وتجنبوا معاصيه - لكان جزاء الله إياهم، وثوابه لهم على إيمانهم به وتقواهم إياه، خيرا لهم من السحر وما اكتسبوا به،"لو كانوا يعلمون" أن ثواب الله إياهم على ذلك

(1) ديوانه: 51، وأمالي الشريف المرتضى 1: 424، وكأنه كان ينقل كلام الطبري في تفسير هذه الآية، مع التصرف. والمرمل: الذي نفد زاده. أرمل الرجل فهو مرمل، كأنه لصق بالرمل لما أنفض.

(2)

يقول: "وتأويل القرآن على المفهوم الظاهر من الخطاب. . أولى" وفصل فأطال.

ص: 457

خير لهم من السحر ومما اكتسبوا به. وإنما نفى بقوله: (لو كانوا يعلمون) العلم عنهم: أن يكونوا عالمين بمبلغ ثواب الله، وقدر جزائه على طاعته.

* * *

و"المثوبة" في كلام العرب، مصدر من قول القائل: أثبتك إثابة وثوابا ومثوبة". فأصل ذلك من:"ثاب إليك الشيء" بمعنى: رجع. ثم يقال:"أثبته إليك": أي، رجعته إليك ورددته. فكان معنى"إثابة الرجل الرجل على الهدية وغيرها": إرجاعه إليه منها بدلا (1) ورده عليه منها عوضا. ثم جعل كل معوض غيره من عمله أو هديته أو يد له سلفت منه إليه: مثيبا له. ومنه"ثواب" الله عز وجل عباده على أعمالهم، بمعنى إعطائه إياهم العوض والجزاء عليه، حتى يرجع إليهم بدل من عملهم الذي عملوا له.

* * *

وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله: (ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير) مما اكتفي - بدلالة الكلام على معناه - عن ذكر جوابه. وأن معناه: ولو أنهم آمنوا واتقوا لأثيبوا، ولكنه استغنى - بدلالة الخبر عن المثوبة - عن قوله: لأثيبوا.

* * *

وكان بعض نحويي أهل البصرة ينكر ذلك، ويرى أن جواب قوله:(ولو أنهم آمنوا واتقوا) ، (لمثوبه) ، وأن"لو" إنما أجيبت"بالمثوبة"، وإن كانت أخبر عنها بالماضي من الفعل لتقارب معناه من معنى"لئن" في أنهما جزاءان، فإنهما جوابان للإيمان. فأدخل جواب كل واحدة منهما على صاحبتها - فأجيبت"لو" بجواب "لئن"، و"لئن" بجواب "لو"، لذلك، وإن اختلفت أجوبتهما، فكانت"لو" من حكمها وحظها أن تجاب بالماضي من الفعل، وكانت"لئن" من حكمها وحظها أن تجاب بالمستقبل من الفعل - لما وصفنا من تقاربهما. فكان يتأول معنى قوله:(ولو أنهم آمنوا واتقوا) : ولئن آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير.

* * *

(1) في المطبوعة: "إرجاعه إليها" سهو من ناسخ.

ص: 458

وبما قلنا في تأويل"المثوبة" قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

1717 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(لمثوبة من عند الله)، يقول: ثواب من عند الله.

1718 -

حدثني يونس قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله) ، أما"المثوبة"، فهو الثواب.

1719 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير)، يقول: لثواب من عند الله.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا تقولوا راعنا) . فقال بعضهم: تأويله: لا تقولوا خلافا.

* ذكر من قال ذلك:

1720 -

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:(لا تقولوا راعنا)، قال: لا تقولوا خلافا.

1721 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا خلافا.

1722 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

1723 -

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن رجل عن مجاهد مثله.

1724 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.

* * *

ص: 459

وقال آخرون: تأويله: أَرْعِنَا سمعك. أي: اسمع منا ونسمع منك.

* ذكر من قال ذلك:

1725 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:(راعنا)، أي: أَرْعِنا سمعك.

1726 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، لا تقولوا اسمع منا ونسمع منك.

1727 -

وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:(راعنا)، قال: كان الرجل من المشركين يقول: أَرْعِني سمعك.

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله نهى الله المؤمنين أن يقولوا"راعنا". فقال بعضهم: هي كلمة كانت اليهود تقولها على وجه الاستهزاء والمسبة، فنهى الله تعالى ذكره المؤمنين أن يقولوا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال ذلك:

1728 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) قول كانت تقوله اليهود استهزاء، فزجر الله المؤمنين أن يقولوا كقولهم.

1729 -

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:(لا تقولوا راعنا)، قال: كان أناس من اليهود يقولون أرعنا سمعك! حتى قالها أناس من المسلمين: فكره الله لهم ما قالت اليهود فقال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، كما قالت اليهود والنصارى.

ص: 460

1730 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)، قال: كانوا يقولون: راعنا سمعك! فكان اليهود يأتون فيقولون مثل ذلك مستهزئين، فقال الله:(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) .

1731 -

وحدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(لا تقولوا راعنا)، قال: كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم: راعنا سمعك! وإنما"راعنا" كقولك، عاطنا.

1732 -

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) قال:"راعنا" القول الذي قاله القوم، قالوا:(سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)[سورة النساء: 46] قال:"قال: هذا الراعن" - والراعن: الخطاء - قال: فقال للمؤمنين: لا تقولوا خطاء، كما قال القوم، وقولوا: انظرنا واسمعوا. قال: كانوا ينظرون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويكلمونه، ويسمع منهم، ويسألونه ويجيبهم. (1)

* * *

وقال آخرون: بل هي كلمة كانت الأنصار في الجاهلية تقولها، فنهاهم الله في الإسلام أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال ذلك:

1733 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن عطاء في قوله:(لا تقولوا راعنا)، قال: كانت لغة في الأنصار في الجاهلية، فنزلت هذه الآية:(لا تقولوا راعنا) ولكن قولوا انظرنا) إلى آخر الآية.

(1) قوله"الراعن: الخطاء" لم أجده في غيره بعد. والذي في كتب التفسير واللغة. وربما كانت"الخطأ". وقد قالوا: "راعنا: الهجر من القول". وقالوا اشتقوه من الرعونة: وهي الحمق والجهل والاسترخاء.

ص: 461

1734 -

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء قال:(لا تقولوا راعنا)، قال: كانت لغة في الأنصار.

1735 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.

1736 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(لا تقولوا راعنا)، قال: إن مشركي العرب كانوا إذا حدث بعضهم بعضا يقول أحدهم لصاحبه: أَرْعِني سمعك! فنهوا عن ذلك.

1737 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"راعنا"، قول الساخر. فنهاهم أن يسخروا من قول محمد صلى الله عليه وسلم.

* * *

وقال بعضهم: بل كان ذلك كلام يهودي من اليهود بعينه، يقال له: رفاعة بن زيد. كان يكلم النبي صلى الله عليه وسلم به على وجه السب له، وكان المسلمون أخذوا ذلك عنه، فنهى الله المؤمنين عن قيله للنبي صلى الله عليه وسلم.

* ذكر من قال ذلك:

1738 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا)، كان رجل من اليهود - من قبيلة من اليهود يقال لهم بنو قينقاع - كان يدعى رفاعة بن زيد بن السائب - قال أبو جعفر: هذا خطأ، إنما هو ابن التابوت، ليس ابن السائب - كان يأتي النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا لقيه فكلمه قال:(1) أَرْعِني سمعك، واسمع غير مسمع = فكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تفخم بهذا، فكان

(1) في المطبوعة: "فقال"، والفاء لا مكان لها.

ص: 462

ناس منهم يقولون:"اسمع غير مسمع"، كقولك اسمع غير صاغر = وهي التي في النساء (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ) [سورة النساء: 46] ، يقول: إنما يريد بقوله طعنا في الدين. ثم تقدم إلى المؤمنين فقال:"لا تقولوا راعنا". (1)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في نهي الله جل ثناؤه المؤمنين أن يقولوا لنبيه:"راعنا" أن يقال: إنها كلمة كرهها الله لهم أن يقولوها لنبيه صلى الله عليه وسلم، نظير الذي ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

1739 -

"لا تقولوا للعنب الكرم، ولكن قولوا: الحبَلة". (2)

1740 -

و"لا تقولوا: عبدي، ولكن قولوا: فتاي". (3)

وما أشبه ذلك، من الكلمتين اللتين تكونان مستعملتين بمعنى واحد في كلام العرب، فتأتي الكراهة أو النهي باستعمال إحداهما، واختيار الأخرى عليها في المخاطبات.

* * *

فإن قال لنا قائل: فإنا قد علمنا معنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم في "العنب" أن يقال له"كرم"، وفي"العبد" أن يقال له"عبد"، فما المعنى الذي في قوله:(راعنا) حينئذ، الذي من أجله كان النهي من الله جل ثناؤه للمؤمنين

(1) تقدم إليه: أمره.

(2)

الحديث: 1739 - ذكره الطبري معلقا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 7509، من حديث أبي هريرة، مرفوعا:"ولا تسموا العنب الكرم". ورواه الشيخان وغيرهما، كما بينا هناك. ورواه أيضًا قبل ذلك إشارة موجزا:7256.

وروى مسلم 2: 197، من حديث علقمة بن وائل، عن أبيه، مرفوعا:"لا تقولوا الكرم، ولكن قولوا: الحبلة، يعني العنب".

(3)

الحديث: 1740 - وهذا معلق أيضًا. وهو جزء من حديث طويل. رواه البخاري ومسلم وغيرهما، من حديث أبي هريرة، مرفوعا:". . ولا يقل أحدكم عبدي، أمتي، وليقل: فتاى، فتاتي، غلامي". انظر البخاري 5: 128 - 131 (فتح)، ومسلم 2:197.

ص: 463

عن أن يقولوه، حتى أمرهم أن يؤثروا قوله:(انظرنا) ؟

قيل: الذي فيه من ذلك، نظير الذي في قول القائل:"الكرم" للعنب، و"العبد" للمملوك. وذلك أن قول القائل:"عبدي" لجميع عباد الله، فكره للنبي صلى الله عليه وسلم أن يضاف بعض عباد الله - بمعنى العبودية - إلى غير الله، وأمر أن يضاف ذلك إلى غيره، بغير المعنى الذي يضاف إلى الله عز وجل، فيقال:"فتاي". وكذلك وجه نهيه في"العنب" أن يقال:"كرم" خوفا من توهم وصفه بالكرَم، وإن كانت مُسَكَّنَة، فإن العرب قد تسكن بعض الحركات إذا تتابعت على نوع واحد. فكره أن يتصف بذلك العنب. فكذلك نهى الله عز وجل المؤمنين أن يقولوا:"راعنا"، لما كان قول القائل:"راعنا" محتملا أن يكون بمعنى احفظنا ونحفظك، وارقبنا ونرقبك. من قول العرب بعضهم لبعض:"رعاك الله": بمعنى حفظك الله وكلأك - ومحتملا أن يكون بمعنى: أَرْعنا سمعك، من قولهم:"أرعيت سمعي إرعاء - أو راعيته - سمعي رِعاء أو مراعاة"، بمعنى: فرغته لسماع كلامه. كما قال الأعشى ميمون بن قيس:

يُرْعِي إلى قول سادات الرجال إذا

أبدوا له الحزم أو ما شاءه ابتدعا (1)

يعني بقوله"يرعى"، يصغي بسمعه إليه مفرغه لذلك.

وكان الله جل ثناؤه قد أمر المؤمنين بتوقير نبيه صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، حتى نهاهم جل ذكره فيما نهاهم عنه عن رفع أصواتهم فوق صوته، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وخوفهم على ذلك حبوط أعمالهم. (2)

(1) ديوانه: 86، وسيأتي في هذا الجزء 2: 540 وقد سلف تخريج أبيات من هذه القصيدة في 1: 106، 2: 94، وهي في هوذة بن علي كما سلف. يقول قبله: يا هوذ، يا خير من يمشي على قدم

بحر المواهب للوراد والشرعا

وابتدع: أحدث ما شاء.

(2)

اقرأ قول الله تعالى في صدر"سورة الحجرات".

ص: 464

فتقدم إليهم بالزجر لهم عن أن يقولوا له من القول ما فيه جفاء، وأمرهم أن يتخيروا لخطابه من الألفاظ أحسنها، ومن المعاني أرقها. فكان من ذلك قولهم:(راعنا) لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك، إذ كانت المفاعلة لا تكون إلا من اثنين، كما يقول القائل:"عاطنا، وحادثنا، وجالسنا"، بمعنى: افعل بنا ونفعل بك - (1) ومعنى: أرعنا سمعك، حتى نفهمك وتفهم عنا. فنهى الله تعالى ذكره أصحاب محمد أن يقولوا ذلك كذلك، وأن يفردوا مسألته بانتظارهم وإمهالهم، ليعقلوا عنه بتبجيل منهم له وتعظيم، وأن لا يسألوه ما سألوه من ذلك على وجه الجفاء والتجهم منهم له، ولا بالفظاظة والغلظة، تشبها منهم باليهود في خطابهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، بقولهم له:(اسمع غير مسمع وراعنا) .

يدل على صحة ما قلنا في ذلك قوله: (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم) ، (2) فدل بذلك أن الذي عاتبهم عليه، مما يسر اليهود والمشركين.

* * *

فأما التأويل الذي حكي عن مجاهد في قوله: (راعنا) أنه بمعنى: خلافا، فمما لا يعقل في كلام العرب. لأن"راعيت" في كلام العرب إنما هو على أحد وجهين: أحدهما بمعنى"فاعلت" من "الرِّعْية" وهي الرِّقبة والكَلاءة. والآخر بمعنى إفراغ السمع، بمعنى"أرعيته سمعي". وأما"راعيت" بمعنى"خالفت"، فلا وجه له مفهوم في كلام العرب. إلا أن يكون قرأ ذلك بالتنوين، ثم وجهه إلى معنى الرعونة والجهل والخطأ، على النحو الذي قال في ذلك عبد الرحمن بن زيد، فيكون لذلك - وإن كان مخالفا قراءة القراء - معنى مفهوم حينئذ.

* * *

وأما القول الآخر الذي حكي عن عطية ومن حكي ذلك عنه: أن قوله: (راعنا)

(1) قوله: "ومعنى" معطوف على قوله آنفًا: "لما فيه من احتمال معنى: ارعنا نرعاك. . ".

(2)

وهي الآية التي تلي الآية التي يفسرها.

ص: 465

كانت كلمة لليهود بمعنى السب والسخرية، فاستعملها المؤمنون أخذا منهم ذلك عنهم، فإن ذلك غير جائز في صفة المؤمنين: أن يأخذوا من كلام أهل الشرك كلاما لا يعرفون معناه، ثم يستعملونه بينهم وفي خطاب نبيهم صلى الله عليه وسلم. ولكنه جائز أن يكون ذلك مما روي عن قتادة، أنها كانت كلمة صحيحة مفهومة من كلام العرب، وافقت كلمة من كلام اليهود بغير اللسان العربي، هي عند اليهود سب، وهي عند العرب: أرعني سمعك وفرغه لتفهم عني. فعلم الله جل ثناؤه معنى اليهود في قيلهم ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن معناها منهم خلاف معناها في كلام العرب، فنهى الله عز وجل المؤمنين عن قيلها للنبي صلى الله عليه وسلم، لئلا يجترئ من كان معناه في ذلك غير معنى المؤمنين فيه، أن يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم به. وهذا تأويل لم يأت الخبر بأنه كذلك، من الوجه الذي تقوم به الحجة. وإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الآية ما وصفنا، إذ كان ذلك هو الظاهر المفهوم بالآية دون غيره.

* * *

وقد حكي عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (لا تقولوا راعنا) بالتنوين، بمعنى: لا تقولوا قولا"راعنا"، من"الرعونة" وهي الحمق والجهل. وهذه قراءة لقراء المسلمين مخالفة، فغير جائز لأحد القراءة بها لشذوذها وخروجها من قراءة المتقدمين والمتأخرين، وخلافِها ما جاءت به الحجة من المسلمين.

ومن نون"راعنا" نونه بقوله: (لا تقولوا)، لأنه حينئذ عامل فيه. ومن لم ينونه فإنه ترك تنوينه لأنه أمر محكي. لأن القوم كأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:(راعنا)، بمعنى مسألته: إما أن يرعيهم سمعه، وإما أن يرعاهم ويرقبهم - على ما قد بينت فيما قد مضى - فقيل لهم: لا تقولوا في مسألتكم إياه"راعنا". فتكون الدلالة على معنى الأمر في"راعنا" حينئذ سقوط الياء التي كانت

ص: 466

تكون في"يراعيه" ويدل عليها - أعني على"الياء" الساقطة - كسرة"العين" من"راعنا".

* * *

وقد ذكر أن قراءة ابن مسعود: (لا تقولوا راعونا) ، بمعنى حكاية أمر صالحة لجماعة بمراعاتهم. فإن كان ذلك من قراءته صحيحا، وجه أن يكون القوم كأنهم نهوا عن استعمال ذلك بينهم في خطاب بعضهم بعضا، كان خطابهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو لغيره. ولا نعلم ذلك صحيحا من الوجه الذي تصح منه الأخبار.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا انْظُرْنَا}

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقولوا انظرنا)، وقولوا يا أيها المؤمنون لنبيكم صلى الله عليه وسلم: انظرنا وارقبنا، نفهم ونتبين ما تقول لنا، وتعلمنا، كما:

1741 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد.

1742 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وقولوا انظرنا) فهمنا، بين لنا يا محمد.

1743 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.

* * *

يقال منه:"نظرت الرجل أنظره نظرة" بمعنى انتظرته ورقبته، ومنه قول الحطيئة:

ص: 467

وقد نَظَرتكمُ أَعْشاء صادرةٍ

للخِمس، طال بها حَوْزي وتَنْساسي (1)

ومنه قول الله عز وجل: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)[سورة الحديد: 13]، يعني به: انتظرونا.

* * *

وقد قرئ"أنظرنا" و"أنظرونا" بقطع"الألف" في الموضعين جميعا (2) فمن قرأ ذلك كذلك أراد: أخرنا، كما قال الله جل ثناؤه:(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[سورة ص: 79] ، أي أخرني. ولا وجه لقراءة ذلك كذلك في هذا الموضع. لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمروا بالدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاستماع منه، وإلطاف الخطاب له، وخفض الجناح - لا بالتأخر عنه، ولا بمسألته تأخيرهم عنه. فالصواب - إذْ كان ذلك كذلك - (3) من القراءة قراءة من وصل الألف من قوله:(انظرنا)، ولم يقطعها بمعنى: انتظرنا.

* * *

وقد قيل: إن معنى (أنظرنا) بقطع الألف بمعنى: أمهلنا. حكي عن بعض

(1) ديوانه: 53، واللسان (نظر)(حوز)(نس)(عشا) . من قصيدة يهجو بها الزبرقان ابن بدر، ويمدح بغيض بن عامر من شماس. والأعشاء جمع عشى (بكسر فسكون) : وهو ما تتعشاه الإبل. والصادرة: الإبل التي تصدر عن الماء. والخمس: من أظماء الإبل، وهو أن تظل في المرعى بعد يوم ورودها ثلاثة أيام، ثم ترد في الرابع. والحوز: السوق اللين، حاز الإبل: ساقها سوقا رويدا. والتنساس والنس، مصدر قولك: نس الإبل بينها: ساقها سوقا شديدا لورود الماء. ويروى"إيتاء صادرة". والإيتاء مصدر آنيت الشيء: إذ أخرته. يقول للزبرقان، حين نزل بداره، ثم تحول عنها إلى دار بغيض (انظر خبرهما في طبقات فحول الشعراء: 96 - 98) : انتظرت خيركم انتظار الإبل الخوامس لعشائها. وذلك أن الإبل إذا صدرت تعشت طويلا، وفي بطونها ماء كثير، فهي تحتاج إلى بقل كثير. يصف طول انتظاره حين لا صبر له على طول الانتظار. وقد شكاه الزبرقان إلى عمر لهذه القصيدة، ولقوله فيها: دع المكارم لا ترحل لبغيتها

واقعد، فإنك أنت الطاعم الكاسي

(2)

زدت قول الله تعالى: "أنظرونا"، من أجل اختلاف" الحرفين.

(3)

في المطبوعة: "إن كان ذلك. . "، ليست بشيء.

ص: 468

العرب سماعا:"أنظرني أكلمك"، وذكر سامع ذلك من بعضهم أنه استثبته في معناه، فأخبره أنه أراد أمهلني. فإن يكن ذلك صحيحا عنهم"فانظرنا" و"أنظرنا" - بقطع"الألف" ووصلها - متقاربا المعني. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن القراءة التي لا أستجيز غيرها، قراءة من قرأ:(وقولوا انظرنا)، بوصل"الألف" بمعنى: انتظرنا، لإجماع الحجة على تصويبها، ورفضهم غيرها من القراآت.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى {وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (واسمعوا) ، واسمعوا ما يقال لكم ويتلى عليكم من كتاب ربكم، وعُوه وافهموه، كما:-

1744 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(واسمعوا) ، اسمعوا ما يقال لكم.

* * *

فمعنى الآية إذًا: يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا لنبيكم: راعنا سمعك وفرغه لنا نفهمك وتفهم عنا ما نقول. ولكن قولوا: انتظرنا وترقبنا حتى نفهم عنك ما تعلمنا وتبينه لنا. واسمعوا منه ما يقول لكم، فعوه واحفظوه وافهموه. ثم أخبرهم جل ثناؤه أن لمن جحد منهم ومن غيرهم آياته، وخالف أمره ونهيه، وكذب رسوله، العذاب الموجع في الآخرة، فقال: وللكافرين بي وبرسولي عذاب أليم. يعني بقوله:"الأليم"، الموجع. وقد ذكرنا الدلالة على ذلك فيما مضى قبل، وما فيه من الآثار. (1)

* * *

(1) انظر ما سلف 1: 283، ثم هذا الجزء 2: 140، 377.

ص: 469

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ}

قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ما يود) ، ما يحب، أي: ليس يحب كثير من أهل الكتاب. يقال منه:"ود فلان كذا يوده ودا وودا ومودة".

* * *

وأما"المشركين"(1) فإنهم في موضع خفض بالعطف على"أهل الكتاب". ومعنى الكلام: ما يحب الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم.

* * *

وأما (أن) في قوله: (أن ينزل) فنصب بقوله: (يود) . وقد دللنا على وجه دخول"من" في قوله: (من خير) وما أشبه ذلك من الكلام الذي يكون في أوله جحد، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (2)

* * *

فتأويل الكلام: ما يحب الكافرون من أهل الكتاب ولا المشركين بالله من عبدة الأوثان، أن ينزل عليكم من الخير الذي كان عند الله فنزله عليكم. (3) فتمنى المشركون وكفرة أهل الكتاب أن لا ينزل الله عليهم الفرقان وما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه وسلم من حكمه وآياته، وإنما أحبت اليهود وأتباعهم من المشركين ذلك، حسدا وبغيا منهم على المؤمنين.

وفي هذه الآية دلالة بينة على أن الله تبارك وتعالى نهى المؤمنين عن الركون إلى أعدائهم من أهل الكتاب والمشركين، والاستماع من قولهم، وقبول شيء مما يأتونهم به على وجه النصيحة لهم منهم، بإطلاعه جل ثناؤه إياهم على ما يستبطنه لهم أهل الكتاب والمشركون من الضغن والحسد، وإن أظهروا بألسنتهم خلاف ما هم مستبطنون.

* * *

(1) في المطبوعة: "وأما المشركون"، والصواب ما أثبت.

(2)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 126، 127، وكان ينبغي أن يذكره في تفسير الآية: 102 أو يحيل كما أحال هنا.

(3)

كان في المطبوعة: "الذي كان عند الله ينزله عليهم"، ولا يستقيم الكلام إلا كما أثبتنا.

ص: 470

القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (والله يختص برحمته من يشاء) : والله يختص من يشاء بنبوته ورسالته، فيرسله إلى من يشاء من خلقه، فيتفضل بالإيمان على من أحب فيهديه له. و"اختصاصه" إياهم بها، إفرادهم بها دون غيرهم من خلقه. وإنما جعل الله رسالته إلى من أرسل إليه من خلقه، وهدايته من هدى من عباده، رحمة منه له ليصيره بها إلى رضاه ومحبته وفوزه بها بالجنة، واستحقاقه بها ثناءه. وكل ذلك رحمة من الله له.

* * *

وأما قوله: (والله ذو الفضل العظيم) . فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن أن كل خير ناله عباده في دينهم ودنياهم، فإنه من عنده ابتداء وتفضلا منه عليهم، من غير استحقاق منهم ذلك عليه.

* * *

وفي قوله: (والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم)، تعريض من الله تعالى ذكره بأهل الكتاب: أن الذي آتى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من الهداية، تفضل منه، (1) وأن نعمه لا تدرك بالأماني، ولكنها مواهب منه يختص بها من يشاء من خلقه.

* * *

(1) في المطبوعة: "تفضلا منه"، وهو خطأ، بل هذا خبر"أن".

ص: 471

القول في تأويل قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية) : ما ننقل من حكم آية، إلى غيره فنبدله ونغيره. (1) وذلك أن يحول الحلال حراما، والحرام

(1) كان في المطبوعة: "ما نسخ من آية إلى غيره فنبد له"، والزيادة من تفسير ابن كثير 1:273.

ص: 471

حلالا والمباح محظورا، والمحظور مباحا. ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي، والحظر والإطلاق، والمنع والإباحة. فأما الأخبار، فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ.

* * *

وأصل"النسخ" من"نسخ الكتاب"، وهو نقله من نسخة إلى أخرى غيرها. فكذلك معنى"نسخ" الحكم إلى غيره، إنما هو تحويله ونقل عبارته عنه إلى غيرها. (1) فإذا كان ذلك معنى نسخ الآية، فسواء - إذا نسخ حكمها فغير وبدل فرضها، ونقل فرض العباد عن اللازم كان لهم بها - أَأُقر خطها فترك، أو محي أثرها، فعفِّي ونسي، (2) إذ هي حينئذ في كلتا حالتيها منسوخة، والحكم الحادث المبدل به الحكم الأول، والمنقول إليه فرض العباد، هو الناسخ. يقال منه:"نسخ الله آية كذا وكذا ينسخه نسخا، و "النُّسخة" الاسم. وبمثل الذي قلنا في ذلك كان الحسن البصري يقول:

1745 -

حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها)، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه فلم يكن شيئا، (3) ومن القرآن ما قد نسخ وأنتم تقرءونه.

* * *

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ما ننسخ) فقال بعضهم بما:-

(1) في المطبوعة: "عنه إلى غيره"، وفي تفسير ابن كثير:"ونقل عبارة إلى غيرها". والصواب ما أثبت.

(2)

في المطبوعة: "أوفر حظها فترك، أو محي أثرها فعفي أو نسي"، وهي جملة حشيت تصحيفا وخلطا. ومراد الطبري أن النسخ، وهو تغير الحكم، قد يكون مع إقرار الخط كما هو، والإتيان بحكم آخر في عبارة أخرى - أو رفع الخط، ونسيان الناس ما حفظوه عند التنزيل. وقوله"عفي"، من قولهم: عفا الأثر يعفو: درس وذهب. وعفاه يعفيه (بالتشديد) : طمسه وأذهبه.

هذا والجملة التالية: "إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة"، وحديث الحسن الآتي، يدل على صواب ما أثبته في قراءة نص الطبري.

(3)

في المطبوعة: "قال أقرئ قرآنا"، سقط منه ما أثبته، وسيأتي على الصواب في الأثر برقم: 1754، ومنه زدت هذه الزيادة.

ص: 472

1746 -

حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ما ننسخ من آية) ، أما نسخها، فقبضها.

* * *

وقال آخرون بما:-

1747 -

حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:(ما ننسخ من آية)، يقول: ما نبدل من آية.

* * *

وقال آخرون بما:

1748 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أصحاب عبد الله بن مسعود أنهم قالوا:(ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، [ونبدل حكمها] .

1749 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(ما ننسخ من آية) ، نثبت خطها، ونبدل حكمها. حدثت به عن أصحاب ابن مسعود.

1750 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود:(ما ننسخ من آية) نثبت خطها، [ونبدل حكمها] . (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ نُنْسِهَا}

قال أبو جعفر: اختلفت الْقَرَأَة في قوله ذلك. فقرأها أهل المدينة والكوفة: (أو ننسها) . ولقراءة من قرأ ذلك وجهان من التأويل.

(1) الأثر: 1750 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1: 273 ثم 274.

ص: 473

أحدهما: أن يكون تأويله: ما ننسخ يا محمد من آية فنغير حكمها أو ننسها. وقد ذكر أنها في مصحف عبد الله: (ما نُنسكَ من آية أو ننسخها نجيء بمثلها)، فذلك تأويل:"النسيان". وبهذا التأويل قال جماعة من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

1751 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، كان ينسخ الآية بالآية بعدها، ويقرأ نبي الله صلى الله عليه وسلم الآية أو أكثر من ذلك، ثم تنسى وترفع.

1752 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها)، قال: كان الله تعالى ذكره ينسي نبيه صلى الله عليه وسلم ما شاء، وينسخ ما شاء.

1753 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) ، نرفعها من عندكم.

1754 -

حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عوف، عن الحسن أنه قال في قوله:(أو ننسها)، قال: إن نبيكم صلى الله عليه وسلم أقرئ قرآنا، ثم نسيه. (1)

* * *

وكذلك كان سعد بن أبي وقاص يتأول الآية، إلا أنه كان يقرؤها:(أو تَنسها) بمعنى الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه عنى أو تنسها أنت يا محمد * ذكر الأخبار بذلك:

1755 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يعلى

(1) الأثر: 1754 - انظر الأثر السالف: 1745 والتعليق عليه.

ص: 474

بن عطاء، عن القاسم [بن ربيعة] قال، سمعت سعد بن أبي وقاص يقول:(ما ننسخ من آية أو تنسها)، قلت له: فإن سعيد بن المسيب يقرؤها: (أو تُنْسها)، (1) قال: فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب ولا على آل المسيب! قال الله: (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى)[الأعلى: 6](وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ)(2)[سورة الكهف: 24] .

1756 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء قال، حدثنا القاسم بن ربيعة بن قانف الثقفي قال، سمعت ابن أبي وقاص يذكر نحوه. (3)

1757 -

حدثنا محمد بن المثنى وآدم العسقلاني قالا جميعا، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء قال، سمعت القاسم بن ربيعة الثقفي يقول: قلت لسعد بن أبي وقاص: إني سمعت ابن المسيب يقرأ: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) فقال سعد: إن الله لم ينزل القرآن على المسيب ولا على ابنه! إنما هي: (ما ننسخ من آية أو تنسها) يا محمد. ثم قرأ: (سنقرئك فلا تنسى) و (واذكر ربك إذا نسيت) . (4)

1758 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن

(1) في المطبوعة: "أو ننسها". والصواب ما أثبت، وفي ابن كثير 1: 275"أو ننساها، ولكن أبا حيان نص في البحر المحيط 1: 334 على أن قراءة سعيد"أو تنساها" بغير همزة بضم التاء، وأما ابن خالوية فقد نص في شواذ القراآت: 9 قال: "أو تنسها" كذلك، إلا أنه لم يسم فاعله. سعيد بن المسيب". فأثبت هذا، لأنها هي رسم ما في نص الطبري. وانظر الآثار الآتية: 1756، 1757، والمستدرك للحاكم 2:242.

(2)

الأثر: 1755 - الزيادة بين القوسين من تفسير ابن كثير 1: 275. والقاسم بن ربيعة، هو القاسم بن عبد الله بن ربيعة بن قانف الثقفي، وربما نسب إلى جده. وهو ابن ابن أخي ليلى بنت قانف الصحابية. روى عن سعد بن أبي وقاص في قوله: "ما ننسخ من آية"، وعنه يعلى بن عطاء العامري. ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: قرأت بخط الذهبي: ما حدث عنه سوى يعلى (تهذيب التهذيب 8: 320) . وانظر رقم: 1756، 1757.

(3)

الأثر: 1756 - في المطبوعة: "بن قانف" وهو"قانف" بقاف ثم نون ثم فاء. هكذا نص عليه في الإصابة في ترجمة: "ليلى بنت قانف".

(4)

الأثر 1757 - انظر الأثرين السالفين. وقال الحاكم في المستدرك 2: 242: "هذا حديث صحيح عى شرط الشيخين، ولم يخرجاه".

ص: 475

أبيه، عن الربيع في قوله:(ما ننسخ من آية أو نُنسها)، يقول:"ننسها": نرفعها. وكان الله تبارك وتعالى أنزل أمورا من القرآن ثم رفعها.

* * *

والوجه الآخر منهما، أن يكون بمعنى"الترك"، من قول الله جل ثناؤه:(نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ)[التوبة: 67]، يعني به: تركوا الله فتركهم. فيكون تأويل الآية حينئذ على هذا التأويل: ما ننسخ من آية فنغير حكمها ونبدل فرضها، نأت بخير من التي نسخناها أو مثلها. وعلى هذا التأويل تأول جماعة من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

1759 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:(أو نَنسها)، يقول: أو نتركها لا نبدلها. (1)

1760 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(أو ننسها) ، نتركها لا ننسخها.

1761 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها)، قال: الناسخ والمنسوخ.

* * *

قال أبو جعفر: وكان عبد الرحمن بن زيد يقول في ذلك ما:-

1762 -

حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(نُنسها) ، نمحها.

* * *

وقرأ ذلك آخرون: (أو ننسأها) بفتح النون وهمزة بعد السين، بمعنى نؤخرها، من قولك:"نسأت هذا الأمر أنسؤه نَسْأ ونَسَاء"، إذا أخرته، وهو من قولهم:"بعته

(1) الأثر: 1759 - في تفسير ابن كثير: "أو ننساها". والصواب ما في الطبري، بفتح النون.

ص: 476

بنساء، يعني بتأخير، ومن ذلك قول طرفة بن العبد:

لعمرك إن الموت ما أَنْسَأ الفتى

لكالطِّوَل المُرْخى وثِنْياه باليد (1)

يعني بقوله"أنسأ"، أخر.

وممن قرأ ذلك جماعة من الصحابة والتابعين، وقرأه جماعة من قراء الكوفيين والبصريين، وتأوله كذلك جماع من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

1763 -

حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:(ما ننسخ من آية أو نَنْسأها)، قال: نؤخرها.

1764 -

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله:(أو ننسأها)، قال: نُرْجئها.

1765 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(أو ننسأها) ، نرجئها ونؤخرها.

1766 -

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل، عن عطية:(أو ننسأها)، قال: نؤخرها فلا ننسخها.

1767 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي، عن عبيد بن عمير (أو ننسأها) ، إرجاؤها وتأخيرها.

هكذا حدثنا القاسم، عن عبد الله بن كثير،"عن عبيد الأزدي"، وإنما هو عن"علي الأزدي".

1768 -

حدثني أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن علي الأزدي، عن عبيد

(1) ديوانه: 318 (من أشعار الستة الجاهليين) من معلقته المشهورة. وروايتهم: "ما أخطأ الفتى". والطول: حبل يطول للدابة لترعى وهي مشدودة فيه. وثنياه" طرفاء. أي إنه لا يفلت من حبال المنية، وإن أخر في أجله. وما أصدق ما قال! ولكننا ننسى!

ص: 477

بن عمير أنه قرأها: (ننسأها) . (1)

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل من قرأ ذلك كذلك: ما نبدل من آية أنزلناها إليك يا محمد، فنبطل حكمها ونثبت خطها، أو نؤخرها فنرجئها ونقرها فلا نغيرها ولا نبطل حكمها، نأت بخير منها أو مثلها.

* * *

وقد قرأ بعضهم ذلك: (ما ننسخ من آية أو تُنسها) . وتأويل هذه القراءة نظير تأويل قراءة من قرأ: (أو نُنسها) ، إلا أن معنى (أو تُنسها) ، أنت يا محمد.

* * *

وقد قرأ بعضهم: (ما نُنسخ من آية) ، بضم النون وكسر السين، بمعنى: ما ننسخك يا محمد نحن من آية - من"أنسختك فأنا أنسخك". وذلك خطأ من القراءة عندنا، لخروجه عما جاءت به الحجة من الْقَرَأَة بالنقل المستفيض. وكذلك قراءة من قرأ (تُنسها) أو (تَنسها) لشذوذها وخروجها عن القراءة التي جاءت بها الحجة من قراء الأمة.

وأولى القراءات في قوله: (أو ننسها) بالصواب، من قرأ:(أو نُنْسها) بمعنى: نتركها. لأن الله جل ثناؤه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه مهما بدل حكما أو غيره، أو لم يبدله ولم يغيره، فهو آتيه بخير منه أو بمثله. فالذي هو أولى بالآية، إذْ كان ذلك معناها، أن يكون - إذ قدم الخبر

(1) الخبران: 1767، 1768 - أبان الطبري في الإسناد الأول أن شيخه القاسم قال في الإسناد:"عبد الله بن كثير، عن عبيد الأزدي"، وبين أن صوابه"عن علي الأزدي". ثم ساق الإسناد الثاني على الصواب. وهو كما قال عبد الله بن كثير الداري المكي: هو القارئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2 /144.

علي الأزدي: هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي، وهو تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1/193.عبيد بن عمير - بالتصغير فيهما -: هو الليثي الجندعي المكي، ثقة من كبار التابعين، بل ذكره بعضهم في الصحابة، وأثنى عليه الناس خيرا في مجلس ابن عمر، في المسند:5359. مترجم في التهذيب، والإصابة 5: 79، وابن سعد 5: 341 - 342،وابن أبي حاتم 2/2/409.

ص: 478

عما هو صانع إذا هو غير وبدل حكم آية أن يعقب ذلك بالخبر عما هو صانع، إذا هو لم يبدل ذلك ولم يغير. فالخبر الذي يجب أن يكون عقيب قوله:(ما ننسخ من آية) . قوله: أو نترك نسخها، إذ كان ذلك المعروف الجاري في كلام الناس. مع أن ذلك إذا قرئ كذلك بالمعنى الذي وصفت، فهو يشتمل على معنى"الإنساء" الذي هو بمعنى الترك، (1) ومعنى "النَّساء" الذي هو بمعنى التأخير. إذ كان كل متروك فمؤخر على حال ما هو متروك.

* * *

وقد أنكر قوم قراءة من قرأ: (أو نَنْسها) ، إذا عني به النسيان، وقالوا: غير جائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نسي من القرآن شيئا مما لم ينسخ، إلا أن يكون نسي منه شيئا، ثم ذكره. قالوا: وبعد، فإنه لو نسي منه شيئا لم يكن الذين قرءوه وحفظوه من أصحابه، بجائز على جميعهم أن ينسوه. قالوا: وفي قول الله جل ثناؤه: (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)[الإسراء: 86] ، ما ينبئ عن أن الله تعالى ذكره لم ينس نبيه شيئا مما آتاه من العلم.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا قول يشهد على بطوله وفساده، الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بنحو الذي قلنا.

1769 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن أولئك السبعين من الأنصار الذين قتلوا ببئر معونة، قرأنا بهم وفيهم كتابا:"بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا". ثم إن ذلك رفع. (2)

(1) قد رد أهل اللغة أن يكون الإنساء بمعنى الترك، وقالوا: إنما يقال نسيت: إذا تركت، لا يقال: أنسيت، تركت. وانظر ما جاء في ذلك في اللسان (نسي) ، وسائر كتب التفسير.

(2)

الحديث: 1769 - يزيد بن زريع - بضم الزاي - العيشي: ثقة حافظ حجة، روى عنه شعبة والثوري وغيرهما من الكبار. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/335، وابن سعد 7 / 2 / 44 وابن أبي حاتم 4/2/263 - 265. وسعيد: هو ابن أبي عروبة.

وهذا الحديث مختصر من حديث لأنس، في قصة القراء الذين قتلوا في بئر معونة. ورواه الأئمة عن أنس، من أوجه مختلفة.

فمن ذلك: أنه رواه البخاري 7: 297 (فتح الباري) ، عن عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، بهذا الإسناد. وفي آخره:"قال أنس: فقرأنا فيهم قرآنا، ثم إن ذلك رفع: بلغوا عنا قومنا، أنا قد لقينا ربنا، فرضي عنا وأرضانا".

وروى مسلم 1: 187 - 188، من رواية مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس. وانظر تفصيل ذلك في تاريخ ابن كثير4: 71 - 74.

ص: 479

1770 -

والذي ذكرنا عن أبي موسى الأشعري أنهم كانوا يقرءون:"لو أن لابن آدم واديين من مال لابتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب". ثم رفع. (1)

وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بإحصائها الكتاب.

وغير مستحيل في فطرة ذي عقل صحيح، ولا بحجة خبرٍ أن ينسي الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعض ما قد كان أنزله إليه. فإذْ كان ذلك غير مستحيل من أحد هذين الوجهين، فغير جائز لقائل أن يقول: ذلك غير جائز.

وأما قوله: (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) ، فإنه جل ثناؤه لم يخبر أنه لا يذهب بشيء منه، وإنما أخبر أنه لو شاء لذهب بجميعه، فلم يذهب به والحمد لله، بل إنما ذهب بما لا حاجة بهم إليه منه، وذلك أن ما نسخ منه فلا حاجة بالعباد إليه. وقد قال الله تعالى ذكره:(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ)[الأعلى: 6-7] ، فأخبر أنه ينسي نبيه منه ما شاء. فالذي ذهب منه الذي استثناه الله.

فأما نحن، فإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل طلب اتساق الكلام على نظام في المعنى، لا إنكار أن يكون الله تعالى ذكره قد كان أنسى نبيه بعض ما نسخ من وحيه إليه وتنزيله. (2)

* * *

(1) الحديث: 1770 - ذكره الطبري تعليقا. وهو جزء من حديث طويل، رواه مسلم 1: 286، من حديث أبي موسى الأشعري. وذكره السيوطي في الدر المنثور1: 105، ونسبه أيضًا لابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في الدلائل.

وقد أفاض السيوطي في الإتقان 2: 29 - 32 (طبعة المطبعة الموسوية بمصر سنة 1287) - في هذا البحث، ونقل روايات كثيرة فيه.

(2)

في المطبوعة: "قد كان آتى نبيه بعض ما ننسخ"، والصواب ما أثبت.

ص: 480

القول في تأويل قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) . فقال بعضهم بما:-

1771 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(نأت بخير منها أو مثلها)، يقول: خير لكم في المنفعة، وأرفق بكم.

* * *

وقال آخرون بما:

1772 -

حدثني به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(نأت بخير منها أو مثلها)، يقول: آية فيها تخفيف، فيها رحمة، (1) فيها أمر، فيها نهي.

* * *

وقال آخرون: نأت بخير من التي نسخناها، أو بخير من التي تركناها فلم ننسخها.

* ذكر من قال ذلك:

1773 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(نأت بخير منها)، يقول: نأت بخير من التي نسخناها، أو مثلها، أو مثل التي تركناها.

* * *

"فالهاء والألف" اللتان في قوله: (منها) - عائدتان على هذه المقالة - على الآية في قوله: (ما ننسخ من آية) . و"الهاء والألف" اللتان في قوله: (أو مثلها)، عائدتان على"الهاء والألف" اللتين في قوله:(أو ننسها) .

* * *

وقال آخرون بما:-

1774 -

حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن

(1) في تفسير ابن كثير: 1: 275"فيها رخصة" مكان: "فيها رحمة".

ص: 481

ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان عبيد بن عمير يقول: (ننسها) : نرفعها من عندكم، نأت بمثلها أو خير منها. (1)

1775 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(أو نُنسها) ، نرفعها، نأت بخير منها أو بمثلها. (2)

1776 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شوذب، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أصحاب ابن مسعود مثله.

* * *

والصواب من القول في معنى ذلك عندنا: ما نبدل من حكم آية فنغيره، أو نترك تبديله فنقره بحاله، نأت بخير منها لكم - من حكم الآية التي نسخنا فغيرنا حكمها - إما في العاجل لخفته عليكم، من أجل أنه وضع فرض كان عليكم، فأسقط ثقله عنكم، وذلك كالذي كان على المؤمنين من فرض قيام الليل، ثم نسخ ذلك فوضع عنهم، فكان ذلك خيرا لهم في عاجلهم، لسقوط عبء ذلك وثقل حمله عنهم = وإما في الآجل لعظم ثوابه، من أجل مشقة حمله وثقل عبئه على الأبدان. كالذي كان عليهم من صيام أيام معدودات في السنة، فنسخ وفرض عليهم مكانه صوم شهر كامل في كل حول، فكان فرض صوم شهر كامل كل سنة، أثقل على الأبدان من صيام أيام معدودات. غير أن ذلك وإن كان كذلك، فالثواب عليه أجزل، والأجر عليه أكثر، لفضل مشقته على مكلفيه من صوم أيام معدودات، فذلك وإن كان على الأبدان أشق، فهو خير من الأول في الآجل لفضل ثوابه وعظم أجره، الذي لم يكن مثله لصوم الأيام المعدودات. فذلك معنى قوله:(نأت بخير منها) . لأنه إما بخير منها في العاجل لخفته على من كلفه، أو في الآجل لعظم ثوابه وكثرة أجره.

أو يكون مثلها في المشقة على البدن واستواء الأجر والثواب عليه، نظير نسخ الله تعالى ذكره فرض الصلاة شطر بيت المقدس، إلى فرضها شطر المسجد الحرام.

(1) الأثر: 1774 - مضى شطره برقم: 1753.

(2)

الأثر: 1775 - مضى شطره برقم: 1758.

ص: 482

فالتوجه شطر بيت المقدس، وإن خالف التوجه شطر المسجد، فكلفة التوجه - شطر أيهما توجه شطره - واحدة. لأن الذي على المتوجه شطر البيت المقدس من مؤؤنة توجهه شطره، نظير الذي على بدنه مؤنة توجهه شطر الكعبة، سواء. فذلك هو معنى"المثل" الذي قال جل ثناؤه:(أو مثلها) .

* * *

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ما ننسخ من آية أو ننسها) : ما ننسخ من حكم آية أو ننسه. غير أن المخاطبين بالآية لما كان مفهوما عندهم معناها، اكتفي بدلالة ذكر"الآية" من ذكر"حكمها". وذلك نظير سائر ما ذكرنا من نظائره فيما مضى من كتابنا هذا، كقوله:(وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ)[البقرة: 93] ، بمعنى حب العجل، ونحو ذلك. (1)

* * *

فتأويل الآية إذا: ما نغير من حكم آية فنبدله، أو نتركه فلا نبدله، نأت بخير لكم -أيها المؤمنون- حكما منها، أو مثل حكمها في الخفة والثقل والأجر والثواب.

* * *

فإن قال قائل: فإنا قد علمنا أن العجل لا يشرب في القلوب، وأنه لا يلتبس على من سمع قوله:(وأشربوا في قلوبهم العجلَ)، أن معناه: وأشربوا في قلوبهم حب العجل، فما الذي يدل على أن قوله:(ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها) - لذلك نظير؟

قيل: الذي دل على أن ذلك كذلك قوله: (نأت بخير منها أو مثلها) ، وغير جائز أن يكون من القرآن شيء خير من شيء، لأن جميعه كلام الله، ولا يجوز في صفات الله تعالى ذكره أن يقال: بعضها أفضل من بعض، وبعضها خير من بعض. (2)

* * *

(1) انظر ما سلف من هذا الجزء 2: 357 - 360.

(2)

من شاء أن يرى كيف كان أبو جعفر رضي الله عنه يبصر معنى كل حرف، متحريا للحق والصواب حريصا على دلالة كل كلمة، فليقرأ أمثال هذا القول فيما مضى وفيما يستقبل.

ص: 483

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) }

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ، ألم تعلم يا محمد أني قادر على تعويضك مما نسخت من أحكامي، وغيرته من فرائضي التي كنت افترضتها عليك، ما أشاء مما هو خير لك ولعبادي المؤمنين معك، وأنفع لك ولهم، إما عاجلا في الدنيا، وإما آجلا في الآخرة - أو بأن أبدل لك ولهم مكانه مثله في النفع لهم = عاجلا في الدنيا وآجلا في الآخرة = وشبيهه في الخفة عليك وعليهم؟ فاعلم يا محمد أني على ذلك وعلى كل شيء قدير.

* * *

ومعنى قوله: (قدير) في هذا الموضع: قوي. يقال منه:"قد قدرت على كذا وكذا"، إذا قويت عليه"أقدر عليه وأقدر عليه قدرة وقِدرانا ومقدرة"، وبنو مرة من غطفان تقول:"قدِرت عليه" بكسر الدال. (1)

فأما من"التقدير" من قول القائل:"قدرت الشيء"، فإنه يقال منه"قدرته أقدِره قدْرا وقدَرا".

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) }

قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أو لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله على كل شيء قدير، وأنه له ملك السموات والأرض، حتى قيل له ذلك؟

(1) انظر ما سلف 1: 361.

ص: 484

قيل: بلى! فقد كان بعضهم يقول: إنما ذلك من الله جل ثناؤه خبر عن أن محمدا قد علم ذلك، ولكنه قد أخرج الكلام مخرج التقرير، كما تفعل مثله العرب في خطاب بعضها بعضا، فيقول أحدهما لصاحبه:"ألم أكرمك؟ ألم أتفضل عليك؟ " بمعنى إخباره أنه قد أكرمه وتفضل عليه، يريد: أليس قد أكرمتك؟ أليس قد تفضلت عليك؟ بمعنى قد علمت ذلك.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا لا وجه له عندنا. وذلك أن قوله جل ثناؤه: (ألم تعلم)، إنما معناه: أما علمت. وهو حرف جحد أدخل عليه حرف استفهام، وحروف الاستفهام إنما تدخل في الكلام إما بمعنى الاستثبات، وإما بمعنى النفي، فأما بمعنى الإثبات، فذلك غير معروف في كلام العرب، ولا سيما إذا دخلت على حروف الجحد. ولكن ذلك عندي، وإن كان ظهر ظهور الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنما هو معني به أصحابه الذين قال الله جل ثناؤه:(لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) . والذي يدل على أن ذلك كذلك قوله جل ثناؤه: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير) ، فعاد بالخطاب في آخر الآية إلى جميعهم، وقد ابتدأ أولها بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:(ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) . لأن المراد بذلك الذين وصفت أمرهم من أصحابه. وذلك من كلام العرب مستفيض بينهم فصيح: أن يخرج المتكلم كلامه على وجه الخطاب منه لبعض الناس وهو قاصد به غيره، وعلى وجه الخطاب لواحدٍ وهو يقصد به جماعةً غيره، أو جماعة والمخاطب به أحدهم - وعلى وجه الخطاب للجماعة، والمقصود به أحدهم. من ذلك قول الله جل ثناؤه:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)[الأحزاب: 1-2] ، فرجع إلى خطاب الجماعة، وقد ابتدأ الكلام بخطاب النبي صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك قول الكميت بن زيد في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ص: 485

إلى السراج المنير أحمد، لا

يَعْدِلني رغبة ولا رهب (1) عنه إلى غيره ولو رفع الن

اس إليّ العيونُ وارتقبوا (2) وقيل: أفرطتَ! بل قصدتُ ولو

عنفني القائلون أو ثَلَبُوا (3) لج بتفضيلك اللسان، ولو

أكثر فيك الضِّجاج واللجَب (4) أنت المصفي المحض المهذب في الن

سبة، إن نص قومَك النسب (5)

فأخرج كلامه على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو قاصد بذلك أهل بيته، فكنى عن وصفهم ومدحهم، بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وعن بني أمية، بالقائلين المعنفين. لأنه معلوم أنه لا أحد يوصف بتعنيف مادح النبي صلى الله عليه وسلم وتفضيله، ولا بإكثار الضجاج واللجب في إطناب القيل بفضله. (6)

(1) الهاشميات: 34، والحيوان للجاحظ 5: 170 - 171.

(2)

"عنه إلى غيره" متعلق بقوله: لا يعدلني. . "، في البيت قبله.

(3)

أفرطت: أي جاوزت الحد. و"قصدت" من القصد: وهو العدل بين الإفراط والتقصير. والثلب: العيب والذم.

(4)

قوله"فيك" أي بسببك ومن أجلك. والضجاج مصدر: ضاجه يضاجه (بتشديد الجيم) مضاجة وضجاجا: وهو المشاغبة مع الصياح والضجيج. واللجب: ارتفاع الأصوات واختلاطها طلبا للغلبة.

(5)

هذب الشيء: نقاء وخلصه وطهره من كل ما يعيبه. وقوله"المهذب في النسبة"، أي المهذب النسبة، وأدخل"في" للتوكيد، بمعنى الزيادة. ونص الشيء: رفعه وأظهره وأبانه. يعني أبان فضلهم على غيرهم.

(6)

من شاء أن يعرف فضل ما بين عقلين من عقول أهل الذكاء والفطنة، فلينظر إلى ما بين قول أبي جعفر في حسن تأتيه، وبين قول الجاحظ في استطالته بذكائه حيث يقول في كتابه الحيوان 5: 169 - 171.

ومن المديح الخطأ، الذي لم أر قط أعجب منه قول الكميت بن زيد، وهو يمدح النبي صلى الله عليه وسلم: فلو كان مديحه لبني أمية لجاز أن يعيبهم بذلك بعض بني هاشم، أو لو مدح به بعض بني هاشم، لجاز أن يعترض عليه بعض بني أمية، أو لو مدح أبا بلال الخارجي لجاز أن تعيبه العامة، أو لو مدح عمرو بن عبيد لجاز أن يعيبه المخالف، أو لو مدح المهلب، لجاز أن يعيبه أصحاب الأحنف، فأما مديح النبي صلى الله عليه وسلم. فمن هذا الذي يسوؤه ذلك؟ " ثم أنشد الأبيات السالفة، وقال:"ولو كان لم يقل فيه عليه السلام إلا مثل قوله: وبورك قبر أنت فيه وبوركت

به وله أهل بذلك يثرب

لقد غيبوا برا وحزما ونائلا

عشية واراك الصفيح المنصب

فلو كان لم يمدحه عليه السلام إلا بهذه الأشعار التي لا تصلح في عامة العرب، لما كان بالمحمود، فكيف مع الذي حكينا قبل هذا؟ ".

والجاحظ تأخذ قلمه أحيانا مثل الحكة، لا تهدأ من ثوراتها عليه حتى يشتفى منها ببعض القول، وببعض الاستطالة، وبفرط العقل! ومع ذلك، فإن النقاد يتبعون الجاحظ ثقة بفضله وعقله، فربما هجروا من القول ما هو أولى، فتنة بما يقول.

ص: 486

وكما قال جميل بن معمر:

ألا إن جيراني العشية رائح

دعتهم دواع من هوى ومنادح (1)

فقال:"ألا إن جيراني العشية" فابتدأ الخبر عن جماعة جيرانه، ثم قال:"رائح"، لأن قصده - في ابتدائه ما ابتدأ به من كلامه - الخبر عن واحد منهم دون جماعتهم، وكما قال جميل أيضا في كلمته الأخرى:

خليلي فيما عشتما، هل رأيتما

قتيلا بكى من حب قاتله قبلي (2)

وهو يريد قاتلته، لأنه إنما يصف امرأة، فكنى باسم الرجل عنها، وهو يعنيها. فكذلك قوله:(ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير * ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض) ، وإن كان ظاهر الكلام على وجه الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه مقصود به قصد أصحابه. وذلك بين بدلالة قوله: (وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير * أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى

(1) لم أجد البيت فيما طبع من شعر جميل، ولا فيما جمعته منه. والمنادح: البلاد الواسعة البعيدة. كأنهما جمع مندوحة، حذفت ياؤه. وقال تميم بن أبي بن مقبل. وإني إذا ملت ركابي مناخها

ركبت، ولم تعجز على المنادح

وربما حسن أن يقال: إنه جمع لا واحد له من لفظه، كمحاسن مشابه، والواحد من ذلك ندح وجمعه أنداح: وهو ما اتسع من الأرض.

(2)

الأمالي 2: 74، والأغاني 1: 117، 7: 140، وهي قصيدة من جيد شعر جميل.

ص: 487

من قبل) الآيات الثلاث بعدها - على أن ذلك كذلك. (1)

* * *

أما قوله: (له ملك السموات والأرض) ولم يقل: ملك السموات، فإنه عنى بذلك "ملك" السلطان والمملكة دون "المِلك". والعرب إذا أرادت الخبر عن "المملكة" التي هي مملكة سلطان، قالت:"ملك الله الخلق مُلكا". وإذا أرادت الخبر عن "المِلك" قالت: "ملك فلان هذا الشيء فهو يملكه مِلكا ومَلَكة ومَلْكا.

* * *

فتأويل الآية إذًا: ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السموات والأرض وسلطانهما دون غيري، أحكم فيهما وفيما فيهما ما أشاء، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء، وأنهى عما أشاء، وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي ما أشاء إذا أشاء، وأقر منها ما أشاء؟

* * *

وهذا الخبر وإن كان من الله عز وجل خطابا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة وجحدوا نبوة عيسى، وأنكروا محمدا صلى الله عليه وسلم، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غير الله من حكم التوراة. فأخبرهم الله أن له ملك السموات والأرض وسلطانهما، فإن الخلق أهل مملكته وطاعته، عليهم السمع له والطاعة لأمره ونهيه، وأن له أمرَهم بما شاء ونهيَهم عما شاء، ونسخ ما شاء، وإقرار ما شاء، وإنساء ما شاء من أحكامه وأمره ونهيه. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: انقادوا لأمري، وانتهوا إلى طاعتي فيما أنسخ وفيما أترك فلا أنسخ، من أحكامي وحدودي وفرائضي، ولا يهولنكم خلاف مخالف لكم في أمري ونهيي وناسخي ومنسوخي، فإنه لا قيم بأمركم سواي، ولا ناصر لكم غيري، وأنا المنفرد بولايتكم، والدفاع عنكم، والمتوحد بنصرتكم بعزي وسلطاني وقوتي على من ناوأكم وحادكم، ونصب حرب العداوة بينه وبينكم، حتى أعلي حجتكم،

(1) انظر ما سيأتي بعد قليل: 499 - 500.

ص: 488

وأجعلها عليهم لكم.

* * *

و"الولي" معناه"فعيل" من قول القائل:"وَلِيت أمر فلان"، إذا صرت قيِّما به،"فأنا أليه، فهو وليه" وقَيِّمُه. ومن ذلك قيل:"فلان ولي عهد المسلمين"، يُعْنَى به: القائم بما عهد إليه من أمر المسلمين.

* * *

وأما"النصير" فإنه"فعيل" من قولك:"نصرتك أنصرك، فأنا ناصرك ونصيرك"، وهو المؤيد والمقوي.

* * *

وأما معنى قوله: (من دون الله) ، فإنه سوى الله، وبعد الله، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:

يا نفس مالك دون الله من واقي

وما على حدثان الدهر من باقي (1)

يريد: مالك سوى الله وبعد الله من يقيك المكاره.

* * *

فمعنى الكلام إذا: وليس لكم، أيها المؤمنون، بعد الله من قيم بأمركم، ولا نصير فيؤيدكم ويقويكم، فيعينكم على أعدائكم.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية. فقال بعضهم بما:

1777 -

حدثنا به أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير - وحدثنا

(1) ديوانه: 43. ومثله قول ابن أحمر: إن نحن إلا أناس أهل سائمة

وما لهم دونها حرث ولا غُرر

يريد: ليس لنا مال سوى السائمة، فليس لنا زرع ولا خيل.

ص: 489

ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل- (1) قالا حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة عن ابن عباس: قال رافع بن حريملة ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك! فأنزل الله في ذلك من قولهما:(2)(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، الآية. (3)

* * *

وقال آخرون بما:-

1778 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، وكان موسى يسأل، فقيل له:(أرنا الله جهرة) .

1889 -

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت العرب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالله فيروه جهرة.

* * *

وقال آخرون بما:-

1780 -

حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله الله:(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة. فسألت قريش محمدا صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم الصفا ذهبا، قال: نعم! وهو لكم كمائدة بني إسرائيل إن كفرتم"! فأبوا ورجعوا.

1781 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(1) في المطبوعة: "قال حدثنا إسحاق" والصواب ما أثبت.

(2)

في المطبوعة: "من قولهم"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام.

(3)

الأثر 1777 - في سيرة ابن هشام 2: 197.

ص: 490

ابن جريج، عن مجاهد قال: سألت قريش محمدا أن يجعل لهم الصفا ذهبا، فقال:"نعم! وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل إن كفرتم! فأبوا ورجعوا، فأنزل الله:(أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) ، أن يريهم الله جهرة.

1782 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

* * *

وقال آخرون بما:-

1783 -

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية قال، قال رجل: يا رسول الله، لو كانت كفاراتنا كفارات بني إسرائيل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"اللهم لا نبغيها! ما أعطاكم الله خير مما أعطى بني إسرائيل، كانت بنو إسرائيل إذا فعل أحدهم الخطيئة وجدها مكتوبة على بابه وكفارتها، فإن كفرها كانت له خزيا في الدنيا، وإن لم يكفرها كانت له خزيا في الآخرة، وقد أعطاكم الله خيرا مما أعطى بني إسرائيل، قال: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء: 110] . قال: وقال:"الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارات لما بينهن".

وقال:"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشر أمثالها، ولا يهلك على الله إلا هالك".

فأنزل الله: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل) . (1)

* * *

(1) الحديث: 1783 - هذا حديث مرسل، من مراسيل أبي العالية. وقد نقله ابن كثير 1: 279، عن الطبري. ونقله السيوطي 1: 107، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.

وأبو العالية الرياحي: ثقة من كبار التابعين، كما قلنا في:184. ونزيد هنا أنه مترجم في التهذيب والكبير 2/1/298، والصغير: 109، وابن سعد 7 /1 /81 - 85، وابن أبي حاتم 1/510 والإصابة 2: 221. ولكن الاحتجاج بحديثه - كغيره من التابعين فمن بعدهم - هو في الإسناد المتصل، أما المرسل والمنقطع، فلا حجة فيهما.

ص: 491

واختلف أهل العربية في معنى (أم) التي في قوله: (أم تريدون) . فقال بعض البصريين: هي بمعنى الاستفهام. وتأويل الكلام: أتريدون أن تسألوا رسولكم؟

* * *

وقال آخرون منهم: هي بمعنى استفهام مستقبل منقطع من الكلام، كأنك تميل بها إلى أوله، كقول العرب: إنها لإبل يا قوم أم شاء" و"لقد كان كذا وكذا أم حدس نفسي؟ " قال: وليس قوله: (أم تريدون) على الشك، ولكنه قاله ليقبح له صنيعهم. واستشهد لقوله ذلك ببيت الأخطل:

كذبَتْك عينُك أم رأيت بواسط

غَلَس الظلام من الرَّباب خيالا (1)

* * *

وقال بعض نحويي الكوفيين: إن شئت جعلت قوله: (أم تريدون) استفهاما على كلام قد سبقه، كما قال جل ثناؤه:(الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)[السجدة: 1-3] ، فجاءت"أم" وليس قبلها استفهام، فكان ذلك عنده دليلا على أنه استفهام مبتدأ على كلام سبقه. وقال قائل هذه المقالة:"أم" في المعنى تكون ردا على الاستفهام على جهتين: إحداهما أن تُفَرِّق معنى"أي"، (2) والأخرى: أن يستفهم بها فتكون على جهة النسق، والذي ينوي بها الابتداء، إلا أنه ابتداء متصل بكلام. (3) فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام ثم استفهمت، لم يكن إلا بـ "الألف" أو بـ "هل". (4)

(1) ديوانه: 41، ونقائض جرير والخطل:70. وواسط: قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة، وهي من منازل بني تغلب، وهي غير واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة. الغلس: ظلمة آخر الليل إذا اختلطت بتباشير الصباح، فهي سواد مختلط ببياض وحمرة.

(2)

في المطبوعة: "تعرف معنى أي"، وفي لسان العرب (أمم 14: 300) : "أن تفارق معنى أم" وكلتاهما خطأ صرف. والصواب في معاني القرآن للفراء1: 71. وذلك أن قولك: أزيد عندك أم عمرو"، معناه أيهما عندك. وبين أن"أم" تفرق الاستفهام، وأن"أي" تجمع متفرق الاستفهام. وقد قال الطبري فيما سلف في هذا الجزء 2: 198: "إن أصل"أي" و"ما" جمع متفرق الاستفهام".

(3)

في المطبوعة: "وتكون على جهة النسق، وللذي ينوى به الابتداء"، والصواب من معاني القرآن للفراء.

(4)

هذا نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 71.

ص: 492

قال: وإن شئت قلت في قوله: (أم تريدون) ، قبله استفهام، فرد عليه وهو في قوله:(ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) . (1)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، على ما جاءت به الآثار التي ذكرناها عن أهل التأويل: أنه استفهام مبتدأ، بمعنى: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم؟ وإنما جاز، أن يستفهم القوم بـ "أم"، وإن كانت"أم" أحد شروطها أن تكون نسقا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام، لأنها تكون استفهاما مبتدأ إذا تقدمها سابق من الكلام. ولم يسمع من العرب استفهام بها ولم يتقدمها كلام. ونظيره قوله جل ثناؤه:(الم تَنزيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)[السجدة: 1-3] وقد تكون"أم" بمعنى"بل"، إذا سبقها استفهام لا يصلح فيه"أي"، فيقولون:"هل لك قِبَلَنا حق، أم أنت رجل معروف بالظلم؟ "(2) وقال الشاعر:

فوالله ما أدري أسلمى تغولت

أم النوم أم كل إلي حبيب (3)

يعني: بل كل إلي حبيب.

وقد كان بعضهم يقول - منكرا قول من زعم أن"أم" في قوله: (أم تريدون)

(1) وهذا أيضًا بعض نص الفراء في معاني القرآن.

(2)

هذا أيضًا ذكره الفراء. ثم قال بعده: "يريدون: بل أنت رجل معروف بالظلم".

(3)

لم أعرف قائله. وسيأتى في تفسيره 20: 6 (بولاق) على الصواب، وفي معاني القرآن للفراء 1: 72، واللسان (أمم)، والصاحبي:98. وفي المطبوعة هنا: "تقولت. . أم القول، وهو خطأ محض. وقوله:"تغولت"، أي تصورت في صورة امرأة أحسها وأراها. من تغول الغول: وهي أن تتلون وتتخيل في صور شتى. يعنى أنها بعيدة لا شك في بعدها، ولكنه يخال أنه يراها أمامه ماثلة قائمة. وقال الأخطل: وتعرضت لك بالأباطح بعد ما

قطعت بأبرق خلة ووصالا

وتغولت لتروعنا جنية

والغانيات يرينك الأهوالا

ثم يقول: "أم النوم" أي: أم هو حلم. بل كلاهما حبيب إلى، يعني أي ذلك كان، فهو حبيب إلى.

ص: 493

استفهام مستقبل منقطع من الكلام، يميل بها إلى أوله -: إن الأول خبر، والثاني استفهام، والاستفهام لا يكون في الخبر، والخبر لا يكون في الاستفهام، ولكن أدركه الشك - بزعمه - بعد مضي الخبر، فاستفهم.

* * *

قال أبو جعفر: فإذا كان معنى"أم" ما وصفنا، فتأويل الكلام: أتريدون أيها القوم أن تسألوا رسولكم من الأشياء نظير ما سأل قوم موسى من قبلكم، فتكفروا -إن مُنِعتموه- في مسألتكم ما لا يجوز في حكمة الله إعطاؤكموه، أو أن تهلكوا إن كان مما يجوز في حكمته عطاؤكموه، (1) فأعطاكموه، ثم كفرتم من بعد ذلك، كما هلك من كان قبلكم من الأمم التي سألت أنبياءها ما لم يكن لها مسألتها إياهم، فلما أعطيت كفرت، فعوجلت بالعقوبات لكفرها، بعد إعطاء الله إياها سؤلها.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ومن يتبدل) ، ومن يستبدل "الكفر"، (2) ويعني بـ "الكفر"، الجحود بالله وبآياته، (3)(بالإيمان) ، يعني بالتصديق بالله وبآياته والإقرار به. (4)

وقد قيل: عنى بـ "الكفر" في هذا الموضع: الشدة، وبـ "الإيمان" الرخاء. ولا أعرف الشدة في معاني"الكفر"، ولا الرخاء في معنى"الإيمان"، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بتأويله"الكفر" بمعنى الشدة في هذا الموضع، وبتأويله"الإيمان" في معنى الرخاء -: ما أعد الله للكفار في الآخرة من الشدائد، وما أعد الله لأهل

(1) في المطبوعة: "أو أتهلكوا" خطأ.

(2)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 130.

(3)

انظر ما سلف في هذا الجزء 1: 255، 382، 552 وغيرها بعدها.

(4)

انظر ما سلف 1: 234 - 235، 271، 560 وغيرها بعدها.

ص: 494

الإيمان فيها من النعيم، فيكون ذلك وجها، وإن كان بعيدا من المفهوم بظاهر الخطاب.

* ذكر من قال ذلك:

1784 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية:(ومن يتبدل الكفر بالإيمان)، يقول: يتبدل الشدة بالرخاء.

1785 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية بمثله.

* * *

وفي قوله: (ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل)، دليل واضح على ما قلنا:(1) من أن هذه الآيات من قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) ، خطاب من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) وعتاب منه لهم على أمر سلف منهم، مما سر به اليهود، وكرهه رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، فكرهه الله لهم، فعاتبهم على ذلك، وأعلمهم أن اليهود أهل غش لهم وحسد وبغي، وأنهم يتمنون لهم المكاره، ويبغونهم الغوائل، ونهاهم أن ينتصحوهم، وأخبرهم أن من ارتد منهم عن دينه فاستبدل بإيمانه كفرا، فقد أخطأ قصد السبيل.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108) }

قال أبو جعفر: أما قوله: (فقد ضل) ، فإنه يعني به ذهب وحاد. وأصل"الضلال عن الشيء"، الذهاب عند والحيد، (3) ثم يستعمل في الشيء الهالك،

(1) انظر ما سلف قريبا: 462 - 466، 484 - 488، وانظر ما سيأتي قريبا: 498، 499

(2)

في المطبوعة: "المؤمنين به أصحاب رسول الله. . "، وزيادة"به" خطأ.

(3)

انظر ما سلف 1: 195.

ص: 495

والشيء الذي لا يؤبه له، كقولهم للرجل الخامل الذي لا ذكر له ولا نباهة:"ضُل بن ضُل"، و "قُل بن قُل"، وكقول الأخطل، في الشيء الهالك:

كنتَ القَذَى في موجِ أكدر مُزْبدٍ

قذف الأتِيُّ به فضل ضلالا (1)

يعني: هلك فذهب.

* * *

والذي عنى الله تعالى ذكره بقوله: (فقد ضل سواء السبيل) ، فقد ذهب عن سواء السبيل وحاد عنه.

* * *

وأما تأويل قوله: (سواء السبيل) ، فإنه يعني بـ "السواء"، القصد والمنهج.

وأصل"السواء" الوسط. ذكر عن عيسى بن عمر النحوي أنه قال:"ما زلت أكتب حتى انقطع سوائي"، يعني: وسطي. وقال حسان بن ثابت:

يا ويح أنصار النبي ونسله

بعد المغيب في سواء الملحد (2)

(1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 83 وسيأتي في تفسير الطبري 3: 219 / 21: 61 (بولاق) . وقوله: "كنت"، يعني جريرا، وهو جواب"إذا"، فقبل البيت: وإذا سما للمجد فرعا وائل

واستجمع الوادي عليك فسالا

" فرعا وائل" يعني بكرا وتغلب رهط الأخطل. والقذي" ما يكون فوق الماء من تبن وورق وأعواد. وفي المطبوعة هنا: "أكبر" مكان"أكدر"، وهو تصحيف، وأتى على صوابه في الموضعين الآخرين من التفسير. وقوله"أكدر" يعني بحرا متلاطما، فكدر بعد صفاء. ومزبد: بحر هائج مائج يقذف بالزبد. والأتي: السيل الذي يأتي من مكان بعيد. وقوله: "قذف الآتي به"، صفة للقذى. يقول: كنت عندئذ كالقذى رمى به السيل في بحر مزبد لا يهدأ موجه، فهلك هلاكا. ورواية الديوان: "في لج أكدر".

(2)

ديوانه: 98، وسيأتي في تفسير الطبري 10: 20 (بولاق) ، وهكذا جاءت الرواية هنا"نسله"، وأظنها خطأ من ناسخ أو خطأ في رواية. ورواية الديوان وما سيأتي في الطبري، وغيرهما"ورهطه". وهو من رثاء حسان رسول الله بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم. وعنى بقوله:"ورهطه" المهاجرين رضي الله عنهم. والمغيب مصدر غيبه في الأرض: واراه. و"الملحد" بضم الميم وفتح الحاء بينهما لام ساكنة: هو اللحد، والقبر.

ص: 496

يعني بالسواء: الوسط. والعرب تقول:"هو في سواء السبيل"، يعني في مستوى السبيل،"وسواء الأرض": مستواها، عندهم.

وأما"السبيل"، فإنها الطريق المسبول، صرف من"مسبول" إلى"سبيل". (1)

* * *

فتأويل الكلام إذا: ومن يستبدل بالإيمان بالله وبرسوله الكفر، فيرتد عن دينه، فقد حاد عن منهج الطريق ووسطه الواضح المسبول. (2)

وهذا القول ظاهره الخبر عن زوال المستبدل بالإيمان والكفر عن الطريق، والمعْنِيُّ به الخبر عنه أنه ترك دين الله الذي ارتضاه لعباده، وجعله لهم طريقا يسلكونه إلى رضاه، وسبيلا يركبونها إلى محبته والفوز بجناته. فجعل جل ثناؤه الطريق - الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته - لدينه الذي دعا إليه عباده، مثلا لإدراكهم بلزومه واتباعه، طلباتهم في آخرتهم، (3) كالذي يدرك اللازم محجة السبيل = بلزومه إياها = طلبته من النجاة منها، والوصول إلى الموضع الذي أمه وقصده. وجعل مثل الحائد عن دينه، الجائر عن اتباع ما دعاه إليه من عبادته - (4) في إخطائه ما رجا أن يدركه بعمله في آخرته وينال به في معاده، (5) وذهابه عما أمل من ثواب عمله، وبعده به من ربه، مثلَ الحائد عن منهج الطريق وقصد السبيل، الذي لا يزداد وغولا في الوجه الذي سلكه، (6) إلا ازداد من موضع حاجته بعدا،

(1) لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري:"مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.

(2)

لم أجد لقوله: "مسبول" فعلا، وكأنه أراد أن يؤوب به إلى الأصل، فإن"فعيلا" لا بد له من فعل ثلاثي هو"سبل" وإن لم يستعملوه، وهو مصروف عن"مفعول". فقال الطبري:"مسبول". ويهون ذلك أنهم قالوا: "السابلة" وهو"فاعلة من فعل ثلاثي. ولكنهم لم يستعملوه، ومعناه: "السالكة الطريق من الناس". وقالوا سبيل سابلة: أي مسلوكة، فهذه أيضًا "فاعلة" بمعنى"مفعولة". فعنى بقوله"المسبول" في الموضعين: المسلوك.

(3)

في المطبوعة: "لإدراكهم بلزومه واتباعه إدراكهم طلباتهم. . " وقوله: "إدراكهم" زائدة من ناسخ.

(4)

في المطبوعة: "والحائد عن اتباع ما دعاه. . "، وأظن الصواب ما أثبت.

(5)

في المطبوعة: "في حياته ما رجا أن يدركه. . "، وهي مصحفة ولا شك، وأثبت ما أداني إليه اجتهادي في قراءته. لأنهم يقول أخطأ الطريق، وأخطأ ما ابتغى، إلى أشباه ذلك.

(6)

الوغول، مصدر"وغل يغل وغولا"، إذا ذهب فأبعد المذهب.

ص: 497

وعن المكان الذي أمه وأراده نأيا.

وهذه السبيل التي أخبر الله عنها، أن من يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواءها، هي الصراط المستقيم"، الذي أمرنا بمسألته الهداية له بقوله:(اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم) .

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا}

قال أبو جعفر: وقد صرح هذا القول من قول الله جل ثناؤه، بأن خطابه بجميع هذه الآيات من قوله:(يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا) - وإن صرف في نفسه الكلام إلى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، إنما هو خطاب منه للمؤمنين من أصحابه، (1) وعتاب منه لهم، ونهي عن انتصاح اليهود ونظرائهم من أهل الشرك وقبول آرائهم في شيء من أمور دينهم - ودليل على أنهم كانوا استعملوا أو من استعمل منهم في خطابه ومسألته رسول الله صلى الله عليه وسلم الجفاء، وما لم يكن له استعماله معه، (2) تأسيا باليهود في ذلك أو ببعضهم. فقال لهم ربهم ناهيا عن استعمال ذلك:(3) لا تقولوا لنبيكم صلى الله عليه وسلم كما تقول له اليهود:"راعنا"، تأسيا منكم بهم، ولكن قولوا:"انظرنا واسمعوا"، فإن أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم كفر بي، وجحود لحقي الواجب لي عليكم في تعظيمه وتوقيره، ولمن كفر بي عذاب أليم; فإن اليهود والمشركين ما يودون أن ينزل عليكم

(1) في المطبوعة: "للمؤمنين وأصحابه"، وكأنه الصواب ما أثبت.

(2)

سياق العبارة: أو من استعمل. . الجفاء، واستعمل ما لم يكن له استعماله معه، تأسيا باليهود.

(3)

في المطبوعة: "قال لهم ربهم"، والصواب زيادة الفاء.

ص: 498

من خير من ربكم، ولكن كثيرا منهم ودوا أنهم يردونكم من بعد إيمانكم كفارا، حسدا من عند أنفسهم لكم ولنبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، من بعد ما تبين لهم الحق في أمر محمد، وأنه نبي إليهم وإلى خلقي كافة.

* * *

وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب) ، كعب بن الأشرف.

1786 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:(ود كثير من أهل الكتاب) ، هو كعب بن الأشرف.

1787 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان العمري، عن معمر، عن الزهري وقتادة:(ود كثير من أهل الكتاب)، قال: كعب بن الأشرف. (1)

وقال بعضهم بما:-

1788 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان حُيَيّ بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود للعرب حسدا، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم، وكانا جاهِدَين في رد الناس عن الإسلام بما استطاعا، فأنزل الله فيهما:(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم) الآية. (2)

* * *

قال أبو جعفر: وليس لقول القائل عنى بقوله: (ود كثير من أهل الكتاب)

(1) الأثر: 1787 - في المطبوعة: "أبو سفيان المعمري". وهو محمد بن حميد اليشكري المعمري البصري نزيل بغداد، قيل له المعمري" لأنه رحل إلى معمر بن راشد الأزدي. وهو ثقة صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات. وذكره العقيلي في الضعفاء، وقال: "في حديثه نظر" مات سنة 182 (تهذيب التهذيب 9: 132) .

(2)

الأثر: 1788 - في سيرة ابن هشام 2: 197.

ص: 499

كعب بن الأشرف، معنى مفهوم. لأن كعب بن الأشرف واحد، وقد أخبر الله جل ثناؤه أن كثيرا منهم يودون لو يردون المؤمنين كفارا بعد إيمانهم، والواحد لا يقال له"كثير"، بمعنى الكثرة في العدد، إلا أن يكون قائل ذلك أراد بوجه الكثرة التي وصف الله بها من وصفه بها في هذه الآية، الكثرة في العز ورفعة المنزلة في قومه وعشيرته، كما يقال:"فلان في الناس كثير"، يراد به كثرة المنزلة والقدر. فإن كان أراد ذلك فقد أخطأ، لأن الله جل ثناؤه قد وصفهم بصفة الجماعة فقال:(لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا) ، فذلك دليل على أنه عنى الكثرة في العدد = أو يكون ظن أنه من الكلام الذي يخرج مخرج الخبر عن الجماعة، والمقصود بالخبر عنه الواحد، نظير ما قلنا آنفا في بيت جميل، (1) فيكون ذلك أيضا خطأ. وذلك أن الكلام إذا كان بذلك المعنى، فلا بد من دلالة فيه تدل على أن ذلك معناه، ولا دلالة تدل في قوله:(ود كثير من أهل الكتاب) أن المراد به واحد دون جماعة كثيرة، فيجوز صرف تأويل الآية إلى ذلك، وإحالة دليل ظاهره إلى غير الغالب في الاستعمال.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ}

قال أبو جعفر: ويعني جل ثناؤه بقوله: (حسدا من عند أنفسهم) ، أن كثيرا من أهل الكتاب يودون للمؤمنين ما أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يودونه لهم، من الردة عن إيمانهم إلى الكفر، حسدا منهم وبغيا عليهم.

* * *

و"الحسد" إذا منصوب على غير النعت للكفار، ولكن على وجه المصدر الذي يأتي خارجا من معنى الكلام الذي يخالف لفظه لفظ المصدر، كقول القائل لغيره:"تمنيت لك ما تمنيت من السوء حسدا مني لك"، فيكون"الحسد" مصدرا

(1) انظر ما سلف قريبا: 487 قوله: "ألا إن جيراني العشية رائح".

ص: 500

من معنى قوله:"تمنيت من السوء". لأن في قوله تمنيت لك ذلك، معنى: حسدتك على ذلك. فعلى هذا نصب"الحسد"، لأن في قوله:(ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا)، معني: حسدكم أهل الكتاب على ما أعطاكم الله من التوفيق، ووهب لكم من الرشاد لدينه والإيمان برسوله، وخصكم به من أن جعل رسوله إليكم رجلا منكم رءوفا بكم رحيما، ولم يجعله منهم، فتكونوا لهم تبعا. فكان قوله:(حسدا) ، مصدرا من ذلك المعنى.

* * *

وأما قوله: (من عند أنفسهم)، فإنه يعني بذلك: من قبل أنفسهم، كما يقول القائل:"لي عندك كذا وكذا"، بمعنى: لي قبلك، وكما:

1789 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:(من عند أنفسهم)، قال: من قبل أنفسهم. (1)

وإنما أخبر الله جل ثناؤه عنهم المؤمنين أنهم ودوا ذلك للمؤمنين، من عند أنفسهم، إعلاما منه لهم بأنهم لم يؤمروا بذلك في كتابهم، وأنهم يأتون ما يأتون من ذلك على علم منهم بنهي الله إياهم عنه.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (من بعد ما تبين لهم الحق) ، أي من بعد ما تبين لهؤلاء الكثير من أهل الكتاب -الذين يودون أنهم يردونكم كفارا من بعد إيمانكم- الحقُّ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من عند ربه، والملة التي دعا إليها فأضاء لهم: أن ذلك الحق الذي لا يمترون فيه، كما:-

(1) الأثر: 1789 - كان هذا الإسناد مبتورا، فأتممه استظهارا من الإسناد الدائر في التفسير في مئات المواضع السالفة، أقربها رقم: 1647 وسيأتي أيضًا رقم: 1792، وكان الأثر نفسه مبتورا فأتممته من تفسير ابن كثير 1: 280، والدر المنثور 1:107.

ص: 501

1790 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(من بعد ما تبين لهم الحق) ، من بعد ما تبين لهم أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإسلام دين الله.

1791 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:(من بعد ما تبين لهم الحق)، يقول: تبين لهم أن محمدا رسول الله، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

1792 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله - وزاد فيه: فكفروا به حسدا وبغيا، إذْ كان من غيرهم.

1793 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(من بعد ما تبين لهم الحق)، قال: الحق هو محمد صلى الله عليه وسلم، فتبين لهم أنه هو الرسول.

1794 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:(من بعد ما تبين لهم الحق)، قال: قد تبين لهم أنه رسول الله.

* * *

قال أبو جعفر: فدل بقوله ذلك: أن كفر الذين قص قصتهم في هذه الآية بالله وبرسوله، عناد، وعلى علم منهم ومعرفة بأنهم على الله مفترون، كما:-

1795 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(من بعد ما تبين لهم الحق)، يقول الله تعالى ذكره: من بعد ما أضاء لهم الحق، لم يجهلوا منه شيئا، ولكن الحسد حملهم على الجحد. فعيرهم الله ولامهم ووبخهم أشد الملامة.

* * *

ص: 502

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فاعفوا) فتجاوزوا عما كان منهم من إساءة وخطأ في رأي أشاروا به عليكم في دينكم، إرادة صدكم عنه، ومحاولة ارتدادكم بعد إيمانكم - وعما سلف منهم من قيلهم لنبيكم صلى الله عليه وسلم:(وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)، [النساء: 46] ، واصفحوا عما كان منهم من جهل في ذلك حتى يأتي الله بأمره، فيحدث لكم من أمره فيكم ما يشاء، ويقضي فيهم ما يريد. فقضى فيهم تعالى ذكره، وأتى بأمره، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم، وللمؤمنين به:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) . [التوبة: 29] . فنسخ الله جل ثناؤه العفو عنهم والصفح، بفرض قتالهم على المؤمنين، حتى تصير كلمتهم وكلمة المؤمنين واحدة، أو يؤدوا الجزية عن يد صغارا، كما:-

1796-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير)، ونسخ ذلك قوله:(فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، [التوبة: 5]

1797-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، فأتى الله بأمره فقال:(قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، حتى بلغ (وهم صاغرون)، أي: صغارا

ص: 503

ونقمة لهم. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها: (فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) .

1798-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، قال: اعفوا عن أهل الكتاب حتى يحدث الله أمرا. فأحدث الله بعد فقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، إلى:(وهم صاغرون) .

1799-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره) قال: نسختها: (اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) .

1800-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره)، قال: هذا منسوخ، نسخه (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر)، إلى قوله:(وهم صاغرون) .

* * *

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) }

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"القدير"، وأنه القوي. (1)

فمعنى الآية ههنا: إن الله - على كل ما يشاء بالذين وصفت لكم أمرهم من أهل الكتاب وغيرهم - قدير، إن شاء انتقم منهم بعنادهم ربهم، (2) وإن شاء هداهم لما هداكم الله له من الإيمان، لا يتعذر عليه شيء أراده، ولا يتعذر عليه أمر شاء قضاءه، لأن له الخلق والأمر.

* * *

(1) انظر ما سلف قريبا: 484 وفي 1: 361.

(2)

في المطبوعة: "إن شاء الله الانتقام منهم" والسياق يقتضي ما أثبت.

ص: 504

القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ}

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على معنى"إقامة الصلاة"، وأنها أداؤها بحدودها وفروضها، وعلى تأويل"الصلاة" وما أصلها، وعلى معنى"إيتاء الزكاة"، وأنه إعطاؤها بطيب نفس على ما فُرضت ووجبت، وعلى معنى"الزكاة" واختلاف المختلفين فيها، والشواهد الدالة على صحة القول الذي اخترنا في ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

وأما قوله: (وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله)، فإنه يعني جل ثناؤه بذلك: ومهما تعملوا من عمل صالح في أيام حياتكم، فتقدموه قبل وفاتكم ذخرا لأنفسكم في معادكم، تجدوا ثوابه عند ربكم يوم القيامة، فيجازيكم به.

* * *

و"الخير" هو العمل الذي يرضاه الله. وإنما قال: (تجدوه)، والمعنى: تجدوا ثوابه، كما:-

1801-

حدثت عن عمار بن الحسن قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:(تجدوه) يعني: تجدوا ثوابه عند الله.

قال أبو جعفر: لاستغناء سامعي ذلك بدليل ظاهر على معنى المراد منه، كما قال عمر بن لجأ:(2)

وسبحت المدينة لا تلمها

رأت قمرا بسوقهم نهارا (3)

وإنما أراد: وسبح أهل المدينة.

(1) انظر ما سلف 1: 241 - 242، ثم 1: 573 - 574.

(2)

في المطبوعة: "عمرو بن لجأ"، وهو خطأ.

(3)

سلف هذا البيت وتخريجه في 1: 279.

ص: 505

وإنما أمرهم جل ثناؤه في هذا الموضع بما أمرهم به، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وتقديم الخيرات لأنفسهم، ليَطَّهروا بذلك من الخطأ الذي سلف منهم في استنصاحهم اليهود، وركون من كان ركن منهم إليهم، وجفاء من كان جفا منهم في خطابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:(راعنا) ، إذْ كانت إقامة الصلوات كفارة للذنوب، وإيتاء الزكاة تطهيرا للنفوس والأبدان من أدناس الآثام، وفي تقديم الخيرات إدراك الفوز برضوان الله.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) }

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين، أنهم مهما فعلوا من خير وشر سرا وعلانية، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء، فيجزيهم بالإحسان خيرا، وبالإساءة مثلها. (1)

وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر، فإن فيه وعدا ووعيدا، وأمرا وزجرا. وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم، ليجدوا في طاعته، إذْ كان ذلك مذخورا لهم عنده حتى يثيبهم عليه، كما قال:(وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله) ، وليحذروا معصيته، إذْ كان مطلعا على راكبها، بعد تقدمه إليه فيها بالوعيد عليها، وما أوعد عليه ربنا جل ثناؤه فمنهي عنه، وما وعد عليه فمأمور به.

* * *

وأما قوله: (بصير) ، فإنه"مبصر" صرف إلى"بصير"، كما صرف"مبدع" إلى"بديع"، و"مؤلم" إلى"أليم". (2)

* * *

(1) في المطبوعة: "جزاءه" والصواب من تفسير ابن كثير 1: 281.

(2)

انظر ما سلف 1: 283، وهذا الجزء 2: 140، 377.

ص: 506

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (وقالوا)، وقالت اليهود والنصارى:(لن يدخل الجنة) .

* * *

فإن قال قائل: وكيف جمع اليهود والنصارى في هذا الخبر مع اختلاف مقالة الفريقين؛ واليهود تدفع النصارى عن أن يكون لها في ثواب الله نصيب، والنصارى تدفع اليهود عن مثل ذلك؟

قيل: إن معنى ذلك بخلاف الذي ذهبت إليه. وإنما عنى به: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. ولكن معنى الكلام لما كان مفهوما عند المخاطبين به معناه، جُمع الفريقان في الخبر عنهما، فقيل:(وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) الآية - أي قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهوديا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا.

* * *

وأما قوله: (من كان هودا)، فإن في"الهود" قولين: أحدهما أن يكون جمع"هائد"، كما جاء "عُوط" جمع "عائط"، و "عُوذ" جمع "عائذ"، و "حُول" جمع"حائل"، فيكون جمعا للمذكر والمؤنث بلفظ واحد. و"الهائد" التائب الراجع إلى الحق. (1)

والآخر أن يكون مصدرا عن الجميع، كما يقال:"رجل صَوم وقوم

(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143.

ص: 507

صوم"، و "رجل فِطر وقوم فطر، ونسوة فطر". (1)

وقد قيل: إن قوله: (إلا من كان هودا) ، إنما هو قوله، إلا من كان يهودا، ولكنه حذف الياء الزائدة، ورجع إلى الفعل من اليهودية. وقيل: إنه في قراءة أبي:"إلا من كان يهوديا أو نصرانيا". (2)

* * *

وقد بينا فيما مضى معنى"النصارى"، ولم سميت بذلك، وجمعت كذلك، بما أغنى عن إعادته. (3)

* * *

وأما قوله: (تلك أمانيهم)، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن قول الذين قالوا:(لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، أنه أماني منهم يتمنونها على الله بغير حق ولا حجة ولا برهان، ولا يقين علم بصحة ما يدعون، ولكن بادعاء الأباطيل وأماني النفوس الكاذبة، كما:-

1802-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(تلك أمانيهم) ، أماني يتمنونها على الله كاذبة.

1803-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(تلك أمانيهم)، قال: أماني تمنوا على الله بغير الحق.

* * *

(1) أخشى أن يكون أبو جعفر قد زل زلة العجلان. فإنه ذكر آنفًا (2: 143) مصدر الفعل: "هاد" وهو"هودا" بفتح فسكون، وعلى ذلك إجماع أهل اللغة، ولم يأت منه مصدر مضموم الهاء، حتى يشبه بقولهم"صوم"، و"فطر"، فهما مصدران. ولا يستقيم كلام أبي جعفر حتى يكون مصدر"هاد يهود هودا" بضم الهاء، ولم يقله هو ولا قاله غيره. فسقط هذا الوجه، حتى تقيمه حجة من رواية صادقة.

(2)

انظر معاني القرآن للفراء 1: 73.

(3)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 143 - 145.

ص: 508

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) }

قال أبو جعفر: وهذا أمر من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم بدعاء الذين قالوا: (لن يدخل الجنة

ص: 509

إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى أمر عدل بين جميع الفرق: مسلمها ويهودها ونصاراها، وهو إقامة الحجة على دعواهم التي ادعوا: من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، قل للزاعمين أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى، دون غيرهم من سائر البشر:(هاتوا برهانكم) ، على ما تزعمون من ذلك، فنسلم لكم دعواكم إن كنتم في دعواكم - من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا أو نصارى - محقين.

* * *

والبرهان: هو البيان والحجة والبينة. كما:-

1804-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(هاتوا برهانكم) ، هاتوا بينتكم.

1805-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(هاتوا برهانكم) ، هاتوا حجتكم.

1806-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:(قل هاتوا برهانكم)، قال: حجتكم. (1)

1807-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(قل هاتوا برهانكم)، أي: حجتكم.

* * *

قال أبو جعفر: وهذا الكلام، وإن كان ظاهره ظاهر دعاء القائلين:(لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) - إلى إحضار حجة على دعواهم ما ادعوا من ذلك، فإنه بمعنى تكذيب من الله لهم في دعواهم وقيلهم، لأنهم لم يكونوا قادرين على إحضار برهان على دعواهم تلك أبدا. وقد أبان قوله:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) ، عن أن الذي ذكرنا من الكلام، (2) بمعنى التكذيب لليهود والنصارى في دعواهم ما ذكر الله عنهم.

* * *

وأما تأويل قوله: (قل هاتوا برهانكم) فإنه: أحضروا وأتوا به.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ) ، أنه ليس كما قال الزاعمون (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) ، ولكن من أسلم وجهه لله وهو محسن، فهو الذي يدخلها وينعم فيها، كما:-

1809-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، أخبرهم أن من يدخل الجنة هو من أسلم وجهه لله الآية.

* * *

وقد بينا معنى (بلى) فيما مضى قبل. (3)

* * *

وأما قوله: (من أسلم وجهه لله)، فإنه يعني بـ "إسلام الوجه": التذلل لطاعته والإذعان لأمره. وأصل"الإسلام": الاستسلام، لأنه"من استسلمت لأمره"، وهو الخضوع لأمره. وإنما سمي"المسلم" مسلما بخضوع جوارحه لطاعة ربه. كما:-

1810-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ)، يقول: أخلص لله.

(1) الأثر: 1806 - كان في المطبوعة"حدثنا الحسن" وهو خطأ، إسناد دائر، والحسين هو الحسين بن داود المصيصي، ولقبه"سنيد" عرف به.

(2)

في المطبوعة: "على أن الذي ذكرنا"، وهو تحريف.

(3)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 280، 281.

ص: 510

وكما قال زيد بن عمرو بن نفيل:

وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له المزن تحمل عذبا زلالا (1)

يعني بذلك: استسلمت لطاعة من استسلم لطاعته المزن وانقادت له.

* * *

وخص الله جل ثناؤه بالخبر عمن أخبر عنه بقوله: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) ، بإسلام وجهه له دون سائر جوارحه، لأن أكرم أعضاء ابن آدم وجوارحه وجهه، وهو أعظمها عليه حرمة وحقا، فإذا خضع لشيء وجهه الذي هو أكرم أجزاء جسده عليه فغيره من أجزاء جسده أحرى أن يكون أخضع له. ولذلك تذكر العرب في منطقها الخبر عن الشيء، فتضيفه إلى"وجهه" وهي تعني بذلك نفس الشيء وعينه، كقول الأعشى:

أَؤُوِّل الحكم على وَجهه

ليس قضائي بالهوى الجائر (2)

يعني بقوله:"على وجهه": على ما هو به من صحته وصوابه، وكما قال ذو الرمة:

فطاوعت همي وانجلى وجه بازل

من الأمر، لم يترك خِلاجا بُزُولُها (3)

(1) سيرة ابن هشام 1: 246 وغيره.

(2)

ديوانه: 106 من قصيدته المشهورة. في منافرة علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل، فهجا الأعشى علقمة لأمر كان بينهما. وفضل عليه عامرا. (انظر الأغاني 15: 50 - 56) . وأول الحكم: قدره ودبره ورده إلى صوابه وأصله. والجائر: المائل عن سبيل الحق. جار: ظلم ومال وقبل البيت: علقم، لا تسفه، ولا تجعلن

عرضك للوارد والصادر

وبعده: قد قلت قولا فقضى بينكم

واعترف المنفور للنافر

(3)

ديوانه: 560 يمدح عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، في آخر القصيدة، فقال بعد البيت: فقالت: عبيد الله من آل معمر

إليه ارحل الأنقاض يرشد رحيلها

وقوله: "طاوعت همي"، ما هم به في نفسه. يقول: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: "بازل من الأمر" يعني خطة يركبها. هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير بزولا، أي طله وانشق وظهر. ومنه قيل: بزل الأمر والرأى: قطعه. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. فقوله"بازل من الأمر" صفة لما أضمره من قوله"خطة"، وأتى بها على التذكير، كما أتوا بها على التذكير في قولهم:"ناقة بازل". والخلاج: الشك والتردد والتنازع. يقول: طاوعت ما جال في نفسي، فانجلى عن خطة ظاهرة انشقت وظهرت، فلم تدع للنفس مذهبا في الشك والتردد، إذ قالت: اقصد عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر.

ص: 511

يريد: وانجلى البازل من الأمر فتبين - وما أشبه ذلك، إذْ كان حسن كل شيء وقبحه في وجهه، وكان في وصفها من الشيء وجهه بما تصفه به، (1) إبانة عن عين الشيء ونفسه. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه:(بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)، إنما يعني: بلى من أسلم لله بدنه، فخضع له بالطاعة جسده، وهو محسن في إسلامه له جسده، فله أجره عند ربه. فاكتفى بذكر"الوجه" من ذكر"جسده" لدلالة الكلام على المعنى الذي أريد به بذكر"الوجه".

* * *

وأما قوله: (وهو محسن)، فإنه يعني به: في حال إحسانه. وتأويل الكلام: بلى من أخلص طاعته لله وعبادته له، محسنا في فعله ذلك.

* * *

القول في تأويل قوله: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) }

قال أبو جعفر: يعنى بقوله جل ثناؤه: (فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) ، فللمسلم وجهه لله محسنا، جزاؤه وثوابه على إسلامه وطاعته ربه، عند الله في معاده.

* * *

ويعني بقوله: (ولا خوف عليهم) ، على المسلمين وجوههم لله وهم محسنون،

(1) الضمير في قوله، "وصفها" إلى العرب، فيما سلف.

ص: 512

المخلصين له الدين في الآخرة - من عقابه وعذاب جحيمه، وما قدموا عليه من أعمالهم.

* * *

ويعني بقوله: (ولا هم يحزنون) ، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم في الدنيا، ولا أن يمنعوا ما قدموا عليه من نعيم ما أعد الله لأهل طاعته.

* * *

وإنما قال جل ثناؤه: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)، وقد قال قبل:(فله أجره عند ربه)، لأن"من" التي في قوله:(بلى من أسلم وجهه لله) ، في لفظ واحد ومعنى جميع، فالتوحيد في قوله:(فله أجره) للفظ، والجمع في قوله:(ولا خوف عليهم) ، للمعنى.

* * *

ص: 513

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ}

قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتابين تنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال بعضهم لبعض.

* ذكر من قال ذلك:

1811-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، قالا جميعا- حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رافع بن حريملة:

ص: 513

ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى ابن مريم وبالإنجيل. فقال رجل من أهل نجران من النصارى: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهما:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، إلى قوله:(فيما كانوا فيه يختلفون)(1)

1812-

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، قال: هؤلاء أهل الكتاب الذين كانوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

* * *

قال أبو جعفر: وأما تأويل الآية، فإن قالت اليهود: ليست النصارى في دينها على صواب! ، وقالت النصارى: ليست اليهود في دينها على صواب! وإنما أخبر الله عنهم بقيلهم ذلك للمؤمنين، إعلاما، منه لهم بتضييع كل فريق منهم حكم الكتاب الذي يظهر الإقرار بصحته وبأنه من عند الله، وجحودهم مع ذلك ما أنزل الله فيه من فروضه، لأن الإنجيل الذي تدين بصحته وحقيته النصارى، يحقق ما في التوراة من نبوة موسى عليه السلام، وما فرض الله على بني إسرائيل فيها من الفرائض، وأن التوراة التي تدين بصحتها وحقيقتها اليهود تحقق نبوة عيسى عليه السلام، وما جاء به من الله من الأحكام والفرائض.

ثم قال كل فريق منهم للفريق الآخر ما أخبر الله عنهم في قوله: (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، مع تلاوة كل واحد من الفريقين كتابه الذي يشهد على كذبه في قيله ذلك. فأخبر جل ثناؤه أن كل فريق منهم قال ما قال من ذلك، على علم منهم أنهم فيما قالوه مبطلون؛ وأتوا ما أتوا من كفرهم بما كفروا به على معرفة منهم بأنهم فيه ملحدون.

(1) الأثر: 1811 - في سيرة ابن هشام 2: 197 - 198.

ص: 514

فإن قال لنا قائل: أو كانت اليهود والنصارى بعد أن بعث الله رسوله على شيء، فيكون الفريق القائل منهم ذلك للفريق الآخر مبطلا في قيله ما قال من ذلك؟

قيل: قد روينا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس قبل، من أن إنكار كل فريق منهم، إنما كان إنكارا لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي ينتحل التصديق به، وبما جاء به الفريق الآخر، لا دفعا منهم أن يكون الفريق الآخر في الحال التي بعث الله فيها نبينا صلى الله عليه وسلم على شيء من دينه، بسبب جحوده نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وكيف يجوز أن يكون معنى ذلك إنكار كل فريق منهم أن يكون الفريق الآخر على شيء بعد بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، وكلا الفريقين كان جاحدا نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الحال التي أنزل الله فيها هذه الآية؟ ولكن معنى ذلك: وقالت اليهود: ليست النصارى على شيء من دينها منذ دانت دينها، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء منذ دانت دينها. وذلك هو معنى الخبر الذي رويناه عن ابن عباس آنفا. فكذب الله الفريقين في قيلهما ما قالا. كما:-

1813-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء)، قال: بلى! قد كانت أوائل النصارى على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا، وقالت النصارى:(ليست اليهود على شيء) ، ولكن القوم ابتدعوا وتفرقوا.

1814-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء)، قال: قال مجاهد: قد كانت أوائل اليهود والنصارى على شيء.

* * *

وأما قوله: (وهم يتلون الكتاب) ، فإنه يعني به كتاب الله التوراة والإنجيل،

ص: 515

وهما شاهدان على فريقي اليهود والنصارى بالكفر، وخلافهم أمر الله الذي أمرهم به فيه. كما:-

1815-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل - قالا جميعا، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس في قوله:(وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به: أي يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم من الميثاق على لسان موسى بالتصديق بعيسى عليه السلام، وفي الإنجيل مما جاء به عيسى تصديقُ موسى، وما جاء به من التوراة من عند الله ; وكل يكفر بما في يد صاحبه. (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون) . فقال بعضهم بما:-

1816-

حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، (قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، قال: وقالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

1817-

حدثنا بشر بن سعيد، عن قتادة:(قال الذين لا يعلمون مثل قولهم)، قال: قالت النصارى مثل قول اليهود قبلهم.

* * *

وقال آخرون بما:-

(1) الأثر: 1815 - في سيرة ابن هشام 2: 198.

ص: 516

1818-

حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: من هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال: أمم كانت قبل اليهود والنصارى، وقبل التوراة والإنجيل.

* * *

وقال بعضهم: عنى بذلك مشركي العرب، لأنهم لم يكونوا أهل كتاب فنسبوا إلى الجهل، ونفي عنهم من أجل ذلك العلم.

* ذكر من قال ذلك:

1819-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، فهم العرب، قالوا: ليس محمد صلى الله عليه وسلم على شيء.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تبارك وتعالى أخبر عن قوم وصفهم بالجهل، ونفى عنهم العلم بما كانت اليهود والنصارى به عالمين - أنهم قالوا بجهلهم نظير ما قال اليهود والنصارى بعضها لبعض مما أخبر الله عنهم أنهم قالوه في قوله:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) . وجائز أن يكونوا هم المشركين من العرب، وجائز أن يكونوا أمة كانت قبل اليهود والنصارى. ولا أمة أولى أن يقال هي التي عنيت بذلك من أخرى، إذْ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي، ولا خبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتت حجته من جهة نقل الواحد العدل، ولا من جهة النقل المستفيض.

وإنما قصد الله جل ثناؤه بقوله: (كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم) ، إعلام المؤمنين أن اليهود والنصارى قد أتوا من قيل الباطل، وافتراء الكذب على الله، وجحود نبوة الأنبياء والرسل، وهم أهل كتاب يعلمون أنهم فيما يقولون مبطلون، وبجحودهم ما يجحدون من ملتهم خارجون، وعلى الله مفترون، مثل الذي قاله أهل الجهل بالله وكتبه ورسله، الذين لم يبعث الله لهم رسولا ولا أوحى إليهم كتابا.

ص: 517

وهذه الآية تنبئ عن أن من أتى شيئا من معاصي الله على علم منه بنهي الله عنها، فمصيبته في دينه أعظم من مصيبة من أتى ذلك جاهلا به. لأن الله تعالى ذكره عظم توبيخ اليهود والنصارى بما وبخهم به في قيلهم ما أخبر عنهم بقوله:(وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء) ، من أجل أنهم أهل كتاب قالوا ما قالوا من ذلك على علم منهم أنهم مبطلون.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فالله يقضي فيفصل بين هؤلاء المختلفين، = القائل بعضهم لبعض: لستم على شيء من دينكم - يوم قيام الخلق لربهم من قبورهم - فيتبين المحق منهم من المبطل، بإثابة المحق ما وعد أهل طاعته على أعماله الصالحة، ومجازاته المبطل منهم بما أوعد أهل الكفر به على كفرهم به = فيما كانوا فيه يختلفون من أديانهم ومللهم في دار الدنيا.

* * *

وأما"القيامة" فهي مصدر من قول القائل:"قمت قياما وقيامة"، كما يقال:"عدت فلانا عيادة" و"صنت هذا الأمر صيانة".

* * *

وإنما عنى"بالقيامة" قيام الخلق من قبورهم لربهم. فمعنى"يوم القيامة": يوم قيام الخلائق من قبورهم لمحشرهم.

* * *

ص: 518

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا}

قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. (1) وتأويل قوله: (ومن أظلم) ، وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟

* * *

و"المساجد" جمع مسجد: وهو كل موضع عبد الله فيه. وقد بينا معنى السجود فيما مضى. (2) فمعنى"المسجد": الموضع الذي يسجد لله فيه، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه:"المجلس"، وللموضع الذي ينزل فيه:"منزل"، ثم يجمع:"منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد. وقد حكي سماعا من بعض العرب"مساجد" في واحد المساجد، وذلك كالخطأ من قائله.

* * *

وأما قوله: (أن يذكر فيها اسمه)، فإن فيه وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، فتكون"أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض، وتعلق الفعل بها.

والوجه الآخر: أن يكون معناه: ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده، فتكون"أن" حينئذ في موضع نصب، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه. (3)

* * *

وأما قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا)، فإن معناه: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن

(1) انظر ما سلف 1: 523 - 524، وهذا الجزء 2: 101 - 102، 369

(2)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 104 - 105.

(3)

قوله: "تكريرا"، أي بدل اشتمال.

ص: 519

يذكر فيها اسمه، وممن سعى في خراب مساجد الله. فـ "سعى" إذًا عطف على "منع".

* * *

فإن قال قائل: ومن الذي عنى بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ؟ وأي المساجد هي؟

قيل: إن أهل التأويل في ذلك مختلفون، فقال بعضهم: الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى، والمسجد بيت المقدس.

* ذكر من قال ذلك:

1820-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أنهم النصارى.

1821-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه.

1822-

حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

* * *

وقال آخرون: هو بُخْتَنَصَّر وجنده ومن أعانهم من النصارى، والمسجد: مسجد بيت المقدس.

* ذكر من قال ذلك:-

1823-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، الآية، أولئك أعداء الله النصارى، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.

1824-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا

ص: 520

معمر، عن قتادة في قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: هو بختنصر وأصحابه، خرب بيت المقدس، وأعانه على ذلك النصارى.

1825-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: الروم، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس، حتى خربه، وأمر به أن تطرح فيه الجيف، وإنما أعانه الروم على خرابه، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا.

* * *

وقال آخرون: بلى عنى الله عز وجل بهذه الآية مشركي قريش، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام.

* ذكر من قال ذلك:

1826-

حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال، حدثنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها)، قال: هؤلاء المشركون، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم، وقال لهم:"ما كان أحد يرد عن هذا البيت، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده، وقالوا: لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!

وفي قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) قال: إذْ قطعوا من يعمرها بذكره، (1) ويأتيها للحج والعمرة.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال: عنى الله عز وجل بقوله: (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) النصارى. وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس، وأعانوا بختنصر

(1) في المطبوعة: "قالوا إذا قطعوا"، والصواب من تفسير ابن كثير 1: 285 فهذا جزء من من الأثر، والقائل هو: ابن زيد.

ص: 521

على ذلك، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده.

والدليل على صحة ما قلنا في ذلك، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله:(وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) ، إلا أحد المسجدين، إما مسجد بيت المقدس، وإما المسجد الحرام. وإذ كان ذلك كذلك = وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه = صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده، غير الذين وصفهم الله بعمارتها. إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية، وبعمارته كان افتخارهم، وإن كان بعض أفعالهم فيه، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم.

وأخرى، أن الآية التي قبل قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر، ولا للمسجد الحرام قبلها، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) - إليهم وإلى المسجد الحرام.

وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت. (1)

فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك، إذْ كان المسلمون لم يلزمهم

(1) أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري في تفسير الآية، في تفسيره 1: 285 / 287 وقال:"اختار ابن جرير القول الأول، واحتج- بأن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، وأما الروم فسعت في تخريب بيت المقدس، قال ابن كثير: والذي يظهر والله أعلم، القول الثاني، كما قاله ابن زيد

" ثم قال:"وأما اعتماده على أن قريشا لم تسع في خراب الكعبة، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم.."

ثم استدل بآيات من كتاب الله وقال:"ليس المراد بعمارتها، زخرفتها وإقامة صورتها، فقط، إنما عمارتها بذكر الله وإقامة شرعه فيها" إلى آخر ما قاله.

هذا الاعتراض من ابن كثير على أبي جعفر رحمهما الله، ليس يقوم في وجه حجة الطبري على صواب ما ذهب إليه في تأويل الآية. والطبري لم يغفل عن مثل اعتراض ابن كثير، ولكن ابن كثير غفل عن سياق تأويل الطبري. وصحيح أن ما كان من أمر أهل الشرك في الجاهلية في البيت الحرام يدخل في عموم معنى قوله:{وَسَعَى فِي خَرَابها} ، ولكن سياق الآيات السابقة، ثم التي تليها، توجب-كما ذهب إليه الطبري- أن يكون معنيا بها من كانت الآيات نازلة في خبره وقصته.

والآيات السالفة جميعا خبر عن بني إسرائيل الذين كانوا على عهد موسى، وتأنيب لبني إسرائيل الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما كان منهم لأهل الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تحذير لهم من أهل الكتاب جميعا، يهوديهم ونصرانيهم، وذكر لافتراء الفريقين بعضهم على بعض، وادعاء كل فريق أنه هو الفريق الناجي يوم القيامة. ثم أفرد بعد ذلك أخبار النصارى، كما أفرد من قبل أخبار بني إسرائيل، فعدد سوء فعلهم في منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، ثم كذبهم على ربهم أنه اتخذ ولدا، ثم قول بعضهم:{لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية} ، وأن ذلك شيبه بقول اليهود:{أرنا الله جهرة} ، ثم أخبر أنه أرسل رسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وأمره أن يعرض عن أهل الجحيم من هؤلاء وهؤلاء، ثم أعلنه أن اليهود والنصارى جميعا لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وطريقهم، في الافتراء على رب العالمين. فالسياق كما ترى، بمعزل عن المشركين من العرب، ولكن ابن كثير وغيره من أئمتنا رضوان الله عليهم، تختلط عليهم المعاني حين تتقارب، ولكن أبا جعفر صابر على كتاب ربه، مطيق لحمله، لا يعجله شيء عن شيء ما استطاع. فهو يخلص معاني كتاب ربه تخليصا لم أجده قط لأحد بعده، ممن قرأ كتابه. وأكثرهم يعترض عليه، ولو صبر على دقة هذا الإمام. لكان ذلك أولى به، وأشبه بخلق أهل العلم، وهم له أهل، غفر الله لنا ولهم.

ص: 522

قط فرض الصلاة في [المسجد المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون] توجيه قوله (1)(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك. وذلك أن الله جل ذكره إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل، وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد. وإن كان قد دل بعموم قوله:(ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله، (2) فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا-، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين.

* * *

القول في تأويل قوله جل ذكره {أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلا خَائِفِينَ}

قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عمن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، أنه قد حرم عليهم دخول المساجد التي سعوا في تخريبها، ومنعوا عباد الله المؤمنين من ذكر الله عز وجل فيها، ما داموا على مناصبة الحرب، إلا على خوف ووجل من العقوبة على دخولهموها، كالذي:-

1827-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، وهم اليوم كذلك، لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلا نهك ضربا، وأبلغ إليه في العقوبة.

1828-

حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: قال الله عز وجل: (ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، وهم النصارى، فلا يدخلون المسجد إلا مسارقة، إن قدر عليهم عوقبوا.

1829-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(أولئك ما كان لهم إن يدخلوها إلا خائفين) ، فليس في الأرض رومي يدخلها

(1) الذي بين القوسين، هكذا جاء في النسخ المطبوعة والمخطوطة السقيمة. ولم أجد نقلا عن أبي جعفر يهديني إلى تصويب هذا الخلط. فاجتهدت أن استظهر سياق كلامه. فأقرب ما انتهيت إليه أن يكون فيه سقطا وتحريفا، وأن يكون سياقه كما يلي:

[إذ كان المسلمون هم المخاطبون بالآيات التي سبقت هذه الآية، وكان المسلمون لم يلزمهم قط فرض الصلاة في مسجد بيت المقدس، فمنعوا من الصلاة فيه، وكان النصارى واليهود لم يمنعوهم قط من الصلاة فيه، فيجوز توجيه قوله -:} وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} - إلى أنه معنى به مسجد بيت المقدس] . هذا اجتهادي في قراءة هذا النص المختلط، والله أعلم.

(2)

في المطبوعة: "في مسجد الله"، والصواب ما أثبت.

ص: 523

اليوم إلا وهو خائف أن تضرب عنقه، أو قد أخيف بأداء الجزية، فهو يؤديها.

1830-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين)، قال: نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. قال: فجعل المشركون يقولون: اللهم إنا منعنا أن ننزل!.

* * *

وإنما قيل: (أولئك ما كان لهم أن يدخلوها إلا خائفين) ، فأخرج على وجه الخبر عن الجميع، وهو خبر عن (من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) ، لأن"من" في معنى الجميع، وإن كان لفظه واحدا. (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114) }

قال أبو جعفر: أما قوله عز وجل: (لهم)، فإنه يعني: الذين أخبر عنهم أنهم منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه. أما قوله: (لهم في الدنيا خزي)، فإنه يعني بـ "الخزي": العار والشر والذلة (2) إما القتل والسباء، وإما الذلة والصغار بأداء الجزية، كما:-

1831-

حدثنا الحسن قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:(لهم في الدنيا خزي)، قال: يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.

1832-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(لهم في الدنيا خزي) ، أما خزيهم في الدنيا، فإنهم إذا قام المهدي وفتحت القسطنطينية قتلهم. فذلك الخزي. وأما العذاب العظيم، فإنه عذاب جهنم الذي لا يخفف عن أهله، ولا يقضى عليهم فيها فيموتوا. وتأويل الآية: لهم في الدنيا الذلة والهوان والقتل والسبي - على منعهم مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعيهم

(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 513.

(2)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 314.

ص: 525

في خرابها، ولهم = على معصيتهم وكفرهم بربهم وسعيهم في الأرض فسادا = عذاب جهنم، وهو العذاب العظيم.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولله المشرق والمغرب) ، لله ملكهما وتدبيرهما، كما يقال:"لفلان هذه الدار"، يعني بها: أنها له، ملكا. فذلك قوله:(ولله المشرق والمغرب) ، يعني أنهما له، ملكا وخلقا.

* * *

و"المشرق" هو موضع شروق الشمس، وهو موضع طلوعها، كما يقال: لموضع طلوعها منه"مطلع" بكسر اللام، وكما بينا في معنى"المساجد" آنفا. (1)

* * *

فإن قال قائل: أو ما كان لله إلا مشرق واحد ومغرب واحد، حتى قيل:(ولله المشرق والمغرب) ؟ قيل: إن معنى ذلك غير الذي ذهبت إليه، وإنما معنى ذلك: ولله المشرق الذي تشرق منه الشمس كل يوم، والمغرب الذي تغرب فيه كل يوم. فتأويله إذْ كان ذلك معناه: ولله ما بين قطري المشرق، وما بين قطري المغرب، إذ كان شروق الشمس كل يوم من موضع منه لا تعود لشروقها منه إلى الحول الذي بعده، وكذلك غروبها كل يوم.

فإن قال: أو ليس وإن كان تأويل ذلك ما ذكرت، فلله كل ما دونه (2) الخلق خلقه!

(1) انظر ما سلف قريبا: 519.

(2)

قوله: "فلله كل ما دونه"، أي كل ما سواه من شيء.

ص: 526

قيل: بلى!

فإن قال: فكيف خص المشارق والمغارب بالخبر عنها أنها له في هذا الموضع، دون سائر الأشياء غيرها؟

قيل: قد اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله خص الله ذكر ذلك بما خصه به في هذا الموضع. ونحن مبينو الذي هو أولى بتأويل الآية بعد ذكرنا أقوالهم في ذلك. فقال بعضهم: خص الله جل ثناؤه ذلك بالخبر، من أجل أن اليهود كانت توجه في صلاتها وجوهها قبل بيت المقدس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك مدة، ثم حولوا إلى الكعبة. فاستنكرت اليهود ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فقال الله تبارك وتعالى لهم: المشارق والمغارب كلها لي، أصرف وجوه عبادي كيف أشاء منها، فحيثما تُوَلوا فثم وجه الله.

* ذكر من قال ذلك:

1833-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قال، كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهرا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله تبارك وتعالى:(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ)[سورة البقرة: 144] إلى قوله: (فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[سورة البقرة: 144-150] ، فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا:(مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)[سورة البقرة: 142]، فأنزل الله عز وجل:(قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)، وقال:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (1)

(1) الحديث: 1833 - علي: هو ابن أبي طلحة الهاشمي: ثقة، تكلموا فيه. والراجح أن كلامهم فيه من أجل تشيعه. ولكن لم يسمع من ابن عباس، فروى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 52، عن دحيم قال:"إن علي بن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس التفسير". وروي عن أبيه أبي حاتم مثل ذلك. وفي التهذيب أنه ذكره ابن حبان في الثقات، وقال:"روى عن ابن عباس، ولم يره". فهذا إسناد ضعيف، لانقطاعه.

ولكن معناه ثابت عن ابن عباس، من وجه صحيح. فرواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب الناسخ والمنسوخ - فيما نقل ابن كثير 1: 288 -"أخبرنا حجاج بن محمد، أخبرنا ابن جريج، وعثمان بن عطاء، عن عطاء، عن ابن عباس.." فذكر نحوه. وهذا إسناد صحيح، من جهة رواية ابن جريج عن عطاء، وهو ابن أبي رباح. وأما"عثمان ابن عطاء"، فإنه"الخراساني". وهو ضعيف. وحجاج بن محمد: سمعه منهما، من ثقة ومن ضعيف، فلا بأس. ورواه الحاكم 2: 267 - 268، من طريق ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس. وقال:"هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. وذكره السيوطي 1: 108، ونسبه لأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في سننه.

ص: 527

1834-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي نحوه.

* * *

وقال آخرون: بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض على نبيه صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين به التوجه شطر المسجد الحرام. وإنما أنزلها عليه معلما نبيه عليه الصلاة والسلام بذلك وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجها من ذلك وناحية، إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية، لأن له المشارق والمغارب، وأنه لا يخلو منه مكان، (1) كما قال جل وعز:(وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا)[سورة المجادلة: 7] قالوا: ثم نسخ ذلك بالفرض الذي

(1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 289 تعليقا على كلمة أبي جعفر رحمه الله: "في قوله: وأنه تعالى لا يخلو منه مكان - إن أراد علمه تعالى، فصحيح. فإن علمه تعالى، محيط بجميع المعلومات، وأما ذاته تعالى فلا تكون محصورة في شيء من خلقه، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا". قلت: الذي قاله ابن كثير هو عقيدة أبي جعفر رحمه الله، وقد بين ذلك في تفسير سورة المجادلة من تفسيره 28: 10، فلا معنى لتشكك ابن كثير في كلام إمام ضابط من أئمة أهل الحق، وعبارته صحيحة اللفظ، ولكن أهل الأهواء جعلوا الناس يفهمون من عربية الفصحاء معنى غير المعنى الذي تدل عليه.

ص: 528

فرض عليهم في التوجه شطر المسجد الحرام.

* ذكر من قال ذلك:

1835-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة: قوله جل وعز: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) ، ثم نسخ ذلك بعد ذلك، فقال الله:(ومن حيث خرجت فول وجهك شطر المسجد الحرام)[سورة البقرة: 149-150]

1836-

حدثنا الحسن قال (1) أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، قال: هي القبلة، ثم نسختها القبلة إلى المسجد الحرام.

1837-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام قال، حدثنا يحيى قال، سمعت قتادة في قول الله:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، قال: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة، وبعد ما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم وجه بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. فنسخها الله في آية أخرى:(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) إِلَى (وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ)[سورة البقرة: 144]، قال: فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة.

1838-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني زيدا - يقول: قال عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هؤلاء قوم يهود يستقبلون بيتا من بيوت الله لو أنا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرا، فبلغه أن يهود تقول: والله ما درى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله عز وجل:

(1) في المطبوعة: "حدثت عن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في تفسيره أقربه رقم:1731.

ص: 529

(قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) الآية [سورة البقرة: 144] .

* * *

وقال آخرون: نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، إذنا من الله عز وجل له أن يصلي التطوع حيث توجه وجهه من شرق أو غرب، في مسيره في سفره، وفي حال المسايفة، وفي شدة الخوف، والتقاء الزحوف في الفرائض. وأعلمه أنه حيث وجه وجهه فهو هنالك، بقوله:(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) .

* ذكر من قال ذلك:

1839-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ويتأول هذه الآية:(أينما تولوا فثم وجه الله) . (1)

1840-

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عمر أنه قال:"إنما نزلت هذه الآية: (أينما تولوا فثم وجه الله) أن تصلي حيثما توجهت بك راحلتك في السفر تطوعا، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رجع من مكة يصلي على راحلته تطوعا يومئ برأسه نحو المدينة". (2)

* * *

(1) الحديث: 1839 - ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، سبق توثيقه:438. عبد الملك: هو ابن أبي سليمان، كما سيأتي في الإسناد التالي لهذا، وقد سبق توثيقه: 1455.

والحديث رواه أحمد في المسند: 5001، عن عبد الله بن إدريس، بهذا الإسناد. وسيأتي تمام تخريجه في الذي بعده.

(2)

الحديث: 1840 - ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الضبي، وهو ثقة، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما. بل روى عنه الثوري، وهو أكبر منه. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 1207 -208، وابن أبي حاتم 4/1/57 -58.

والحديث رواه أحمد أيضًا: 4714، عن يحيى القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، بنحوه. ورواه مسلم 1: 195، من طريق يحيى، وآخرين. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 4، بأسانيد من طريق عبد الملك.

وقد رجحنا في شرح المسند الرواية السابقة، بأن هذه الآية لم تنزل في ذلك، بل هي في معنى أعم، وإنما تصلح شاهدا ودليلا، كما يتبين ذلك من فقه تفسيرها في سياقها.

ص: 530

وقال آخرون بل نزلت هذه الآية في قوم عُمِّيت عليهم القبلة فلم يعرفوا شطرها، فصلوا على أنحاء مختلفة، فقال الله عز وجل لهم: لي المشارق والمغارب، فأنى وليتم وجوهكم فهنالك وجهي، (1) وهو قبلتكم - معلمهم بذلك أن صلاتهم ماضية.

* ذكر من قال ذلك:

1841-

حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو الربيع السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال،"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فنزلنا منزلا فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجدا يصلي فيه، فلما أصبحنا، إذا نحن قد صلينا على غير القبلة، فقلنا: يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة. فأنزل الله عز وجل: (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) . (2)

(1) في المطبوعة: "فإن وليتم وجوهكم". والصواب ما أثبت.

(2)

الحديث: 1841 - أحمد، شيخ الطبري: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى الأهوازي، كما سبق نسبه كاملا في: 159، وهو صدوق، من شيوخ أبي داود، مترجم في التهذيب، وأبو أحمد: هو الزبيري. واسمه: محمد بن عبد الله بن الزبير بن عمر بن درهم، وهو ثقة حافظ، من شيوخ الإمام أحمد. مترجم في التهذيب. والكبير 1/1/133 - 134، وابن سعد 6: 281، وابن أبي حاتم 3 /2 /297.أبو الربيع السمان. هو أشعث بن سعيد، سبق في: 24 أنه ضعيف جدا. عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: هو ضعيف، وقد بينا ضعفه في شرح المسند:5229.

عبد الله بن عامر بن ربيعة: ثقة من كبار التابعين. وأبوه صحابي معروف، من المهاجرين الأولين، هاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد كلها.

والحديث ذكره ابن كثير 1: 289 - 290، عن هذا الموضع. ووقع فيه خطأ في اسم شيخ الطبري، كتب"محمد بن إسحاق"، بدل"أحمد". وهو خطأ ناسخ أو طابع. ثم أشار ابن كثير إلى روايته الآتية:1843. ثم ذكر أنه رواه أيضًا الترمذي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم. ثم نقل كلام الترمذي قال:"هذا حديث ليس إسناده بذاك، لا نعرفه إلا من حديث أشعث السمان، وأشعث بن سعيد أبو الربيع السمان: يضعف في الحديث". قال ابن كثير:"قلت: وشيخه عاصم، أيضًا ضعيف قال البخاري: منكر الحديث. وقال ابن معين: ضعيف لا يحتج به. وقال ابن حبان: متروك.

وقد ذهبت في شرحي للترمذي، رقم: 345، إلى تحسين إسناده. ولكني أستدرك الآن، وأرى أنه حديث ضعيف.

ونقله السيوطي 1: 109، مع تخريجه وبيان ضعفه.

ص: 531

1842-

حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد قال، قلت للنخعي: إني كنت استيقظت - أو قال أيقظت، شك الطبري - (1) فكان في السماء سحاب، فصليت لغير القبلة. قال: مضت صلاتك، يقول الله عز وجل:(فأينما تولوا فثم وجه الله) .

1843-

حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أشعث السمان، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه قال، كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة في سفر، فلم ندر أين القبلة فصلينا، فصلى كل واحد منا على حياله، (2) ثم أصبحنا فذكرنا للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) . (3)

* * *

وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في سبب النجاشي، لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تنازعوا في أمره، من أجل أنه مات قبل أن يصلي إلى القبلة، فقال الله عز وجل: المشارق والمغارب كلها لي، فمن وجه وجهه نحو شيء منها يريدني به ويبتغي به طاعتي، وجدني هنالك. يعني بذلك أن النجاشي وإن لم يكن صلى إلى القبلة، فإنه قد كان يوجه إلى بعض وجوه المشارق والمغارب وجهه، يبتغي بذلك رضا الله عز وجل في صلاته.

* ذكر من قال ذلك:

1844-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن معاذ قال، حدثني أبي، عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه. قالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم! قال فنزلت (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ) [سورة

(1) لم يرد في كتب اللغة: "أيقظت" لازما، وأخشى أن يكون الطبري يصححها، وأشباهها في العربية كثير.

(2)

في لسان العرب"فصلى كل منا حياله"، أي تلقاء وجهه، وزيادة"علي" لا تضر المعنى.

(3)

الحديث: 1843 - هو مكرر الحديث: 1841.

ص: 532

آل عمران: 199] ، قال: قتادة، فقالوا: إنه كان لا يصلي إلى القبلة، فأنزل الله عز وجل:(ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله) . (1)

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الله تعالى ذكره إنما خص الخبر عن المشرق والمغرب في هذه الآية بأنهما له ملكا، وإن كان لا شيء إلا وهو له ملك - إعلاما منه عباده المؤمنين أن له ملكهما وملك ما بينهما من الخلق، وأن على جميعهم = إذ كان له ملكهم = طاعته فيما أمرهم ونهاهم، وفيما فرض عليهم من الفرائض، والتوجهِ نحو الوجه الذي وجهوا إليه، إذْ كان من حكم المماليك طاعة مالكهم. فأخرج الخبر عن المشرق والمغرب، والمراد به من بينهما من الخلق، على النحو الذي قد بينت من الاكتفاء بالخبر عن سبب الشيء من ذكره والخبر عنه، كما قيل:(وأشربوا في قلوبهم العجل) ، وما أشبه ذلك. (2)

ومعنى الآية إذًا: ولله ملك الخلق الذي بين المشرق والمغرب يتعبدهم بما شاء، ويحكم فيهم ما يريد عليهم طاعته، فولوا وجوهكم - أيها المؤمنون - نحو وجهي، فإنكم أينما تولوا وجوهكم فهنالك وجهي.

* * *

فأما القول في هذه الآية ناسخة أم منسوخة، أم لا هي ناسخة ولا منسوخة؟ فالصواب فيه من القول أن يقال: إنها جاءت مجيء العموم، والمراد الخاص، وذلك أن قوله:(فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، محتمل: أينما تولوا - في حال سيركم في أسفاركم، في صلاتكم التطوع، وفي حال مسايفتكم عدوكم، في تطوعكم ومكتوبتكم، فثم وجه الله، كما قال ابن عمر والنخعي، ومن قال ذلك ممن ذكرنا عنه آنفا.

(1) الحديث: 1844 - هو حديث ضعيف، لأنه مرسل وقد نقله السيوطي 1: 109، ونسبه لابن جرير: وابن المنذر. ونقله ابن كثير 1: 291، عن هذا الموضع. ثم قال:"هذا غريب". وأقول: وسياقته تدل على ضعفه ونكارته.

(2)

انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 357 - 360، 483.

ص: 533

= ومحتمل: فأينما تولوا - من أرض الله فتكونوا بها - فثم قبلة الله التي توجهون وجوهكم إليها، لأن الكعبة ممكن لكم التوجه إليها منها. كما قال:-

1845 -

أبو كريب قال حدثنا وكيع، عن أبي سنان، عن الضحاك، والنضر بن عربي، عن مجاهد في قول الله عز وجل:(فأينما تولوا فثم وجه الله)، قال: قبلة الله، فأينما كنت من شرق أو غرب فاستقبلها.

1846-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن ابن أبي بكر، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها قال، الكعبة.

= ومحتمل: فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم، كما:-

1847-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: لما نزلت: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)[سورة غافر: 60]، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فأينما تولوا فثم وجه الله) .

* * *

فإذ كان قوله عز وجل: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، محتملا ما ذكرنا من الأوجه، لم يكن لأحد أن يزعم أنها ناسخة أو منسوخة إلا بحجة يجب التسليم لها.

لأن الناسخ لا يكون إلا بمنسوخ، ولم تقم حجة يجب التسليم لها بأن قوله:(فأينما تولوا فثم وجه الله)، مَعْنِيٌّ به: فأينما توجهوا وجوهكم في صلاتكم فثم قبلتكم؛ ولا أنها نزلت بعد صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، أمرا من الله عز وجل لهم بها أن يتوجهوا نحو الكعبة، فيجوز أن يقال: هي ناسخة الصلاة نحو بيت المقدس، إذ كان من أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة التابعين، من ينكر أن تكون نزلت في ذلك المعنى، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بأنها نزلت فيه، وكان الاختلاف في أمرها موجودا على ما وصفت.

ص: 534

= ولا هي - إذ لم تكن ناسخة لما وصفنا - قامت حجتها بأنها منسوخة، إذ كانت محتملة ما وصفنا: بأن تكون جاءت بعموم، ومعناها: في حال دون حال - (1) إن كان عني بها التوجه في الصلاة، وفي كل حال إن كان عني بها الدعاء، وغير ذلك من المعاني التي ذكرنا.

وقد دللنا في كتابنا:"كتاب البيان عن أصول الأحكام"، على أن لا ناسخ من آي القرآن وأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما نفى حكما ثابتا، وألزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. (2) فأما إذا ما احتمل غير ذلك من أن يكون بمعنى الاستثناء أو الخصوص والعموم، أو المجمل، أو المفسر، فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل، بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع. ولا منسوخ إلا المنفي الذي كان قد ثبت حكمه وفرضه.

ولم يصح واحد من هذين المعنيين لقوله: (فأينما تولوا فثم وجه الله) ، بحجة يجب التسليم لها، فيقال فيه: هو ناسخ أو منسوخ.

* * *

وأما قوله: (فأينما)، فإن معناه: حيثما.

* * *

وأما قوله: (تولوا) فإن الذي هو أولى بتأويله أن يكون: تولون نحوه وإليه، كما يقول القائل:"وليته وجهي ووليته إليه"، (3) بمعنى: قابلته وواجهته. وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لإجماع الحجة على أن ذلك تأويله وشذوذ من تأوله بمعنى: تولون عنه فتستدبرونه، فالذي تتوجهون إليه وجه الله، بمعنى قبلة الله.

* * *

وأما قوله: (فثم) فإنه بمعنى: هنالك.

* * *

(1) في المطبوعة: "أو معناها في حال دون حال"، وهو فاسد. ومراده أن الآية جاءت عامة، وتحتمل أحد معنيين: إما في حال دون حال_ وإما في كل حال، كما فصل بعد.

(2)

في المطبوعة: "لظاهره"، وانظر ما سلف في معنى"الظاهر والباطن" 2: 15 والمراجع

(3)

في المطبوعة: "وليت وجهي"، والصواب ما أثبت.

ص: 535

واختلف في تأويل قوله: (فثم وجه الله)(1) فقال بعضهم: تأويل ذلك: فثم قبلة الله، يعني بذلك وجهه الذي وجههم إليه.

* ذكر من قال ذلك:

1848-

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد:(فثم وجه الله) قال: قبلة الله.

1849-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إبراهيم، عن مجاهد قال، حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها.

* * *

وقال آخرون: معنى قول الله عز وجل: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فثم الله تبارك وتعالى.

* * *

وقال آخرون: معنى قوله: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ، فثم تدركون بالتوجه إليه رضا الله الذي له الوجه الكريم.

* * *

وقال آخرون: عنى بـ "الوجه" ذا الوجه. وقال قائلو هذه المقالة: وجه الله صفة له.

* * *

فإن قال قائل: وما هذه الآية من التي قبلها؟

قيل: هي لها مواصلة. وإنما معنى ذلك: ومن أظلم من النصارى الذين منعوا عباد الله مساجده أن يذكر فيها اسمه، وسعوا في خرابها، ولله المشرق والمغرب، فأينما توجهوا وجوهكم فاذكروه، فإن وجهه هنالك، يسعكم فضله وأرضه وبلاده، ويعلم ما تعملون، ولا يمنعكم تخريب من خرب مسجد بيت المقدس، ومنعهم من منعوا من ذكر الله فيه - أن تذكروا الله حيث كنتم من أرض الله، تبتغون به وجهه.

* * *

(1) في المطبوعة: "فثم، فقال بعضهم"، والصواب إثبات"وجه الله".

ص: 536

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) }

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واسع) يسع خلقه كلهم بالكفاية والإفضال والجود والتدبير.

وأما قوله: (عليم) ، فإنه يعني أنه عليم بأفعالهم لا يغيب عنه منها شيء ولا يعزب عن علمه، بل هو بجميعها عليم.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وقالوا اتخذ الله ولدا) ، الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه، (وقالوا) : معطوف على قوله: (وَسَعَى فِي خَرَابِهَا) .

* * *

وتأويل الآية: ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها، وقالوا اتخذ الله ولدا، وهم النصارى الذين زعموا أن عيسى ابن الله؟ فقال الله جل ثناؤه مكذبا قيلهم ما قالوا من ذلك ومنتفيا مما نحلوه وأضافوا إليه بكذبهم وفريتهم:(1)(سبحانه)، يعني بها: تنزيها وتبريئا من أن يكون له ولد، وعلوا وارتفاعا عن ذلك. وقد دللنا فيما مضى على معنى قول القائل:"سبحان الله"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)

* * *

ثم أخبر جل ثناؤه أن له ما في السموات والأرض ملكا وخلقا. ومعنى ذلك:

(1) في المطبوعة: "ومنفيا ما نحلوه". وانتفى من الشيء: تبرأ منه. ونحله الشيء: نسبه إليه. والفرية: الكذب المختلق.

(2)

انظر ما سلف 1: 474، 495.

ص: 537