الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عن السدي: (هم فيها خالدون) لا يخرجون منها أبدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
(82) }
قال أبو جعفر: ويعني بقوله: (والذين آمنوا)، أي صدقوا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم. ويعني بقوله:(وعملوا الصالحات) ، أطاعوا الله فأقاموا حدوده، وأدوا فرائضه، واجتنبوا محارمه. ويعني بقوله:(فأولئك) ، فالذين هم كذلك (أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، يعني أهلها الذين هم أهلها هم فيها (خالدون) ، مقيمون أبدا.
* * *
وإنما هذه الآية والتي قبلها إخبار من الله عباده عن بقاء النار وبقاء أهلها فيها، [وبقاء الجنة وبقاء أهلها فيها] ، (1) ودوام ما أعد في كل واحدة منهما لأهلها، تكذيبا من الله جل ثناؤه القائلين من يهود بني إسرائيل: إن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى الجنة. فأخبرهم بخلود كفارهم في النار، وخلود مؤمنيهم في الجنة * كما:-
1445 -
حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:(والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، أي من آمن بما كفرتم به، وعمل بما تركتم من دينه، فلهم الجنة خالدين فيها. يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا لا انقطاع له أبدا.
1446 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال،
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لسياقة الكلام.
قال ابن زيد: (والذين آمنوا وعملوا الصلحات) ، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه -"أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ}
قال أبو جعفر: قد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن"الميثاق""مفعال" من"التوثق باليمين" ونحوها من الأمور التي تؤكد القول. (1) فمعنى الكلام إذًا: واذكروا أيضا يا معشر بني إسرائيل، إذ أخذنا ميثاقكم لا تعبدون إلا الله، كما:-
1447 -
حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل) -أي ميثاقكم- (لا تعبدون إلا الله) .
* * *
قال أبو جعفر: والقَرَأَة مختلفة في قراءة قوله (2)(لا تعبدون) . فبعضهم يقرؤها بالتاء، وبعضهم يقرؤها بالياء، والمعنى في ذلك واحد. وإنما جازت القراءة بالياء والتاء، وأن يقال (لا تعبدون) و (لا يعبدون) وهم غَيَب، (3) لأن أخذ الميثاق، بمعنى الاستحلاف. فكما تقول:"استحلفت أخاك ليقومن" فتخبر عنه خبرك عن الغائب لغيبته عنك. وتقول:"استحلفته لتقومن"، فتخبر عنه خبرك عن المخاطب، لأنك قد كنت خاطبته بذلك - فيكون ذلك صحيحا جائزا.
(1) انظر ما سلف 1: 414، وهذا الجزء 2:156.
(2)
في المطبوعة: "والقراء مختلفة"، ورددتها إلى ما جرى عليه الطبري في كل ما سلف.
(3)
غيب (بفتح الغين والياء) جمع غائب، مثل خادم وخدم.
فكذلك قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) و (لا يعبدون) . من قرأ ذلك"بالتاء" فمعنى الخطاب، إذ كان الخطاب قد كان بذلك. ومن قرأ"بالياء" فلأنهم ما كانوا مخاطبين بذلك في وقت الخبر عنهم.
* * *
وأما رفع"لا تعبدون"، فبالتاء التي في"تعبدون"، ولا ينصب بـ "أن" التي كانت تصلح أن تدخل مع (لا تعبدون إلا الله) . لأنها إذا صلح دخولها على فعل فحذفت ولم تدخل، كان وجه الكلام فيه الرفع، كما قال جل ثناؤه:(قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ)[الزمر: 64] ، فرفع"أعبد" إذ لم تدخل فيها"أن" - بالألف الدالة على معنى الاستقبال، وكما قال الشاعر:(1)
ألا أيهذا الزاجري أحضرُ الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي (2)
فرفع"أحضر" وإن كان يصلح دخول"أن" فيها -إذ حذفت، بالألف التي تأتي بمعنى الاستقبال.
وإنما صلح حذف"أن" من قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون) ، لدلالة ما ظهر من الكلام عليها، فاكتفى - بدلالة الظاهر عليها - منها. (3)
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، حكاية، كأنك قلت: استحلفناهم: لا تعبدون، أي قلنا لهم: والله لا تعبدون - وقالوا: والله لا يعبدون. والذي قال من ذلك، قريب معناه من معنى القول الذي قلنا في ذلك.
(1) هو طرفة بن العبد.
(2)
ديوانه: 317 (أشعار الستة الجاهليين)، من معلقته النفيسة وسيأتي في 21: 22 / 30: 130 (بولاق)، وسيبويه 1:452.
(3)
انظر معاني القرآن للفراء 1: 53 - 54.
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) ، تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1448 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: أخذ مواثيقهم أن يخلصوا له، وأن لا يعبدوا غيره.
1449 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، قال: أخذنا ميثاقهم أن يخلصوا لله ولا يعبدوا غيره.
1450 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:(وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله)، قال: الميثاق الذي أخذ عليهم في المائدة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
قال أبو جعفر: وقوله جل ثناؤه: (وبالوالدين إحسانا) عطف على موضع"أن" المحذوفة في (لا تعبدون إلا الله) . فكان معنى الكلام: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بأن لا تعبدوا إلا الله وبالوالدين إحسانا. فرفع (لا تعبدون) لما حذف"أن"، ثم عطف بالوالدين على موضعها، كما قال الشاعر:(2)
معاوي إننا بشر فأسجح
…
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (3)
(1) قوله تعالى في سورة المائدة: 12: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا) إلى آخر الآية.
(2)
عقيبة بن هبيرة الأسدي، جاهلي إسلامي.
(3)
سيبويه 1: 34، 375، 448، والخزانة 1: 343، وسمط اللآلئ: 149 وفيه تحقيق جيد. وهذا البيت مما أخطأ فيه سيبويه، وكان عقيبة وفد على معاوية، ودفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات: معاوي إننا بشر فأسجح
…
فلسنا بالجبال ولا الحديد
فهبها أمة ذهبت ضياعا
…
يزيد أميرها وأبو يزيد
أكلتم أرضنا فجردتموها
…
فهل من قائم أو من حصيد ?
ذروا خَوْنَ الخلافة واستقيموا
…
وتأمير الأراذل والعبيد
وأعطونا السوية، لا تزركم
…
جنود مردفات بالجنود
فدعاه معاوية فقال له: ما أجرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك. فقال معاوية: ما أظنك إلا صادقا.
فنصب"الحديد" على العطف به على موضع"الجبال"، لأنها لو لم تكن فيها"باء" خافضة كانت نصبا، فعطف بـ "الحديد" على معنى "الجبال"، لا على لفظها. فكذلك ما وصفت من قوله:(وبالوالدين إحسانا) .
* * *
وأما"الإحسان" فمنصوب بفعل مضمر يؤدي معناه قوله: (وبالوالدين) ، إذ كان مفهوما معناه، فكان معنى الكلام - لو أظهر المحذوف -: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، فاكتفى بقوله:(وبالوالدين) من أن يقال: وبأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا، إذ كان مفهوما أن ذلك معناه بما ظهر من الكلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية في ذلك أن معناه: وبالوالدين فأحسنوا إحسانا، فجعل"الباء" التي في"الوالدين" من صلة الإحسان، مقدمة عليه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين إحسانا. فزعموا أن"الباء" التي في"الوالدين" من صلة المحذوف - أعني أحسنوا - فجعلوا ذلك من كلامين. وإنما يصرف الكلام إلى ما ادعوا من ذلك، إذا لم يوجد لاتساق الكلام على كلام واحد وجه. فأما وللكلام وجه مفهوم على اتساقه على كلام واحد، فلا وجه لصرفه إلى كلامين. وأخرى: أن القول في ذلك لو كان على ما قالوا، لقيل: وإلى الوالدين إحسانا، لأنه إنما يقال:"أحسن فلان
إلى والديه" ولا يقال: أحسن بوالديه، إلا على استكراه للكلام.
ولكن القول فيه ما قلنا، وهو: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل بكذا، وبالوالدين إحسانا - على ما بينا قبل. فيكون والإحسان حينئذ مصدرا من الكلام لا من لفظه، كما بينا فيما مضى من نظائره. (1)
* * *
فإن قال قاتل: وما ذلك"الإحسان" الذي أخذ عليهم وبالوالدين الميثاق؟ قيل: نظير ما فرض الله على أمتنا لهما من فعل المعروف لهما، والقول الجميل، وخفض جناح الذل رحمة بهما، والتحنن عليهما، والرأفة بهما، والدعاء بالخير لهما، وما أشبه ذلك من الأفعال التي ندب الله عباده أن يفعلوا بهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وذي القربي) ، وبذي القربى أن يصلوا قرابته منهم ورحمه.
* * *
و"القربي" مصدر على تقدير"فعلى"، من قولك،"قربت مني رحم فلان قرابة وقربي وقربا"، بمعنى واحد.
* * *
وأما"اليتامى". فهم جمع"يتيم"، مثل"أسير وأسارى". ويدخل في اليتامى الذكور منهم والإناث.
* * *
ومعنى ذلك: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وحده دون من سواه من الأنداد، وبالوالدين إحسانا، وبذي القربي: أن تصلوا رحمه، وتعرفوا حقه، وباليتامى: أن تتعطفوا عليهم بالرحمة والرأفة، وبالمساكين: أن تؤتوهم حقوقهم التي ألزمها الله أموالكم.
(1) انظر ما سلف 1: 138.
* * *
و"المسكين"، هو المتخشع المتذلل من الفاقة والحاجة، وهو"مفعيل" من"المسكنة". و"المسكنة" هي ذل الحاجة والفاقة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}
قال أبو جعفر: إن قال قائل: كيف قيل: (وقولوا للناس حسنا) ، فأخرج الكلام أمرا ولما يتقدمه أمر، بل الكلام جار من أول الآية مجرى الخبر؟ قيل: إن الكلام، وإن كان قد جرى في أول الآية مجرى الخبر، فإنه مما يحسن في موضعه الخطاب بالأمر والنهي. فلو كان مكان:"لا تعبدون إلا الله"، لا تعبدوا إلا الله - على وجه النهي من الله لهم عن عبادة غيره - كان حسنا صوابا. وقد ذكر أن ذلك كذلك في قراءة أبي بن كعب. وإنما حسن ذلك وجاز - لو كان مقروءا به - لأن أخذ الميثاق قول.
فكان معنى الكلام -لو كان مقروءا كذلك-: وإذ قلنا لبني إسرائيل: لا تعبدوا إلا الله، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[البقرة: 63] . فلما كان حسنا وضع الأمر والنهي في موضع: (لا تعبدون إلا الله)، عطف بقوله:(وقولوا للناس حسنا) ، على موضع (لا تعبدون) ، وإن كان مخالفا كل واحد منهما معناه معنى ما فيه، (2) لما وصفنا من جواز وضع الخطاب بالأمر والنهي موضع"لا تعبدون". فكأنه قيل: وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدوا إلا الله، وقولوا للناس حسنا. وهو نظير ما قدمنا البيان عنه: من أن العرب تبتدئ الكلام أحيانا على وجه الخبر عن الغائب في موضع الحكاية لما أخبرت عنه، (3) ثم تعود إلى الخبر على
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 2: 137.
(2)
في المطبوعة:"ومعناه" بزيادة الواو، والصواب حذفها.
(3)
في المطبوعة: "في موضع الحكايات كما أخبرت عنه"، والصواب ما أثبته.
وجه الخطاب؛ وتبتدئ أحيانا على وجه الخطاب، ثم تعود إلى الإخبار على وجه الخبر عن الغائب، لما في الحكاية من المعنيين، (1) كما قال الشاعر:(2)
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة
…
لدينا ولا مَقْلِيَّةً إن تَقَلَّت (3)
يعني: تقليت.
* * *
وأما"الحسن" فإن القَرَأَة اختلفت في قراءته. (4) فقرأته عامة قَرَأَة الكوفة غير عاصم: (وقولوا للناس حَسَنا) بفتح الحاء والسين. وقرأته عامة قراء المدينة: (حُسْنا) بضم الحاء وتسكين السين. وقد روي عن بعض القَرَأَة أنه كان يقرأ: "وقولوا للناس " حُسْنَى " على مثال "فُعلى".
* * *
واختلف أهل العربية في فرق ما بين معنى قوله: "حُسْنا" و"حَسَنا". فقال بعض البصريين: هو على أحد وجهين: إما أن يكون يراد بـ"الحَسَن""الحُسن" وكلاهما لغة، كما يقال:"البُخل والبَخَل"، وإما أن يكون جعل "الحُسن" هو "الحَسن" في التشبيه. وذلك أن الحُسن "مصدر" و "الحَسن" هو الشيء الحسن. ويكون ذلك حينئذ كقولك:"إنما أنت أكل وشرب"، وكما قال الشاعر:(5)
وخيل قد دلفت لها بخيل
…
تحية بينهم ضرب وجيع (6)
(1) انظر ما سلف 1: 153 - 154، وسيأتي في هذا الجزء 2:357.
(2)
هو كثير عزة.
(3)
ديوانه 1: 53 من قصيدته المشهورة. قلاه يقليه قلى فهو مقلي: كرهه وأبغضه. وتقلى تبغض، أي استعمل من الفعل أو القول ما يدعو إلى بغضه.
(4)
في المطبوعة: "فإن القراء"، ورددته إلى ما مضى عليه أبو جعفر في عبارته، كما سلف مرارا.
(5)
يقال هو: عمرو بن معد يكرب الزبيدي. (الخزانة 4: 56)، وليس في قصيدته التي على هذا الوزن في الأصمعيات: 43، ولكنه أتى في نوادر أبي زيد: 149 - 150 أنه لعمرو بن معد يكرب. فكأنه له، وكأنه سقط من رواية الأصمعي، وهو في رواية غيره.
(6)
نوادر أبي زيد: 150، وسيبويه 1: 365، 429 والخزانة 4:53. وغيرها.
فجعل"التحية" ضربا.
وقال آخر: بل "الحُسن" هو الاسم العام الجامع جميع معاني الحسن. و"الحسن" هو البعض من معاني"الحُسن". قال: ولذلك قال جل ثناؤه إذ أوصى بالوالدين: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)[العنكبوت: 8] يعني بذلك أنه وصاه فيهما بجميع معاني الحُسن، وأمر في سائر الناس ببعض الذي أمره به في والديه، فقال:(وقولوا للناس حسنا) ، يعني بذلك بعض معاني الحُسن.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله هذا القائل في معنى"الحسن" بضم الحاء وسكون السين، غير بعيد من الصواب، وأنه اسم لنوعه الذي سمي به. وأما"الحسن" فإنه صفة وقعت لما وصف به، وذلك يقع بخاص. وإذا كان الأمر كذلك، فالصواب من القراءة في قوله:(وقولوا للناس حَسنا)، لأن القوم إنما أمروا في هذا العهد الذي قيل لهم:"وقولوا للناس" باستعمال الحَسن من القول، دون سائر معاني الحسن الذي يكون بغير القول. وذلك نعت لخاص من معاني الحُسن، وهو القول. فلذلك اخترت قراءته بفتح الحاء والسين، على قراءته بضم الحاء وسكون السين.
* * *
وأما الذي قرأ ذلك: (وقولوا للناس حسنى) ، فإنه خالف بقراءته إياه كذلك، قراءة أهل الإسلام. وكفى شاهدا على خطأ القراءة بها كذلك، خروجها من قراءة أهل الإسلام، لو لم يكن على خطئها شاهد غيره. فكيف وهي مع ذلك خارجة من المعروف من كلام العرب؟ وذلك أن العرب لا تكاد أن تتكلم بـ "فعلى" "وأفعل" إلا بالألف واللام أو بالإضافة. لا يقال:"جاءني أحسن"، حتى يقولوا:"الأحسن". ولا يقال:"أجمل"، حتى يقولوا،"الأجمل". وذلك أن"الأفعل والفعلى"، لا يكادان يوجدان صفة إلا لمعهود معروف، كما تقول: بل أخوك الأحسن - وبل أختك الحسنى". وغير جائز أن يقال: امرأة حسنى، ورجل أحسن.
* * *
وأما تأويل القول الحسن الذي أمر الله به الذين وصف أمرهم من بني إسرائيل
في هذه الآية، أن يقولوه للناس، (1) فهو ما:-
1451 -
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(وقولوا للناس حسنا)، أمرهم أيضا بعد هذا الخلق: أن يقولوا للناس حسنا: أن يأمروا بـ "لا إله إلا الله" من لم يقلها ورغب عنها، حتى يقولوها كما قالوها، فإن ذلك قربة من الله جل ثناؤه. وقال الحسن أيضا، لين القول، من الأدب الحسن الجميل والخلق الكريم، وهو مما ارتضاه الله وأحبه.
1452 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(وقولوا للناس حسنا) ، قال، قولوا للناس معروفا.
1453 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج:(وقولوا للناس حسنا)، قال: صدقا في شأن محمد صلى الله عليه وسلم.
1454 -
وحدثت عن يزيد بن هارون قال، سمعت سفيان الثوري يقول في قوله:(وقولوا للناس حسنا)، قال: مروهم بالمعروف، وانهوهم عن المنكر. (2)
1455 -
حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان قال، سألت عطاء بن أبي رباح، عن قول الله جل ثناؤه:(وقولوا للناس حسنا)، قال: من لقيت من الناس فقل له حسنا من القول. قال: وسألت أبا جعفر، فقال مثل ذلك. (3)
1456 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا القاسم قال، أخبرنا عبد الملك،
(1) في المطبوعة: "لأن يقولوه للناس" بزيادة اللام، فاسدة.
(2)
الأثر: 1454 - أخشى أن يكون سقط من إسناده شيء.
(3)
الخبر: 1455 - هارون بن إدريس الأصم، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولا وجدته في مكان، إلا في رواية الطبري عنه في التاريخ أيضًا 1: 253، و2:126. روى عنه، عن المحاربي. عبد الملك بن أبي سليمان: هو العرزمي، أحد الأئمة الثقات الحفاظ. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 /366 - 368.
عن أبي جعفر وعطاء بن أبي رباح في قوله: (وقولوا للناس حسنا)، قال: للناس كلهم.
1457 -
حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وأقيموا الصلاة)، أدوها بحقوقها الواجبة عليكم فيها * كما:-
1458 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن مسعود قال:(وأقيموا الصلاة) ، هذه و"إقامة الصلاة" تمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال عليها فيها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ}
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى قبل، معنى"الزكاة" وما أصلها. (2)
* * *
وأما الزكاة التي كان الله أمر بها بني إسرائيل الذين ذكر أمرهم في هذه الآية، فهي ما:-
1459 -
حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(وآتوا الزكاة)، قال: إيتاء الزكاة، ما كان الله فرض عليهم في أموالهم من الزكاة، وهي سنة كانت لهم غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. كانت زكاة أموالهم قربانا تهبط إليه نار
(1) انظر ما سلف 1: 241، 573.
(2)
انظر ما سلف 1: 573 - 574.
فتحملها، فكان ذلك تقبله. ومن لم تفعل النار به ذلك كان غير متقبل، وكان الذي قرب من مكسب لا يحل: من ظلم أو غشم، أو أخذ بغير ما أمره الله به وبينه له.
1460 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:(وآتوا الزكاة)، يعني"بالزكاة": طاعة الله والإخلاص.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلا قَلِيلا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن يهود بني إسرائيل، أنهم نكثوا عهده ونقضوا ميثاقه، بعدما أخذ الله ميثاقهم على الوفاء له، بأن لا يعبدوا غيره، وأن يحسنوا إلى الآباء والأمهات، ويصلوا الأرحام، ويتعطفوا على الأيتام، ويؤدوا حقوق أهل المسكنة إليهم، ويأمروا عباد الله بما أمرهم الله به ويحثوهم على طاعته، ويقيموا الصلاة بحدودها وفرائضها، ويؤتوا زكاة أموالهم - فخالفوا أمره في ذلك كله، وتولوا عنه معرضين، إلا من عصمه الله منهم، فوفى لله بعهده وميثاقه، كما:-
1461 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما فرض الله جل وعز عليهم - يعني: على هؤلاء الذين وصف الله أمرهم في كتابه من بني إسرائيل - هذا الذي ذكر أنه أخذ ميثاقهم به، أعرضوا عنه استثقالا له وكراهية، وطلبوا ما خف عليهم إلا قليلا منهم، وهم الذين استثنى الله فقال:(ثم توليتم)، يقول: أعرضتم عن طاعتي، (إلا قليلا منكم)، قال: القليل الذين اخترتهم
لطاعتي، وسيحل عقابي بمن تولى وأعرض عنها يقول: تركها استخفافا بها. (1) .
1462 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس:(ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) ، أي تركتم ذلك كله.
* * *
وقال بعضهم: عنى الله جل ثناؤه بقوله: (وأنتم معرضون) ، اليهود الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنى بسائر الآية أسلافهم. كأنه ذهب إلى أن معنى الكلام:(ثم توليتم إلا قليلا منكم) : ثم تولى سلفكم إلا قليلا منهم، ولكنه جعل خطابا لبقايا نسلهم -على ما ذكرناه فيما مضى قبل- (2) ثم قال: وأنتم يا معشر بقاياهم معرضون أيضا عن الميثاق الذي أخذ عليكم بذلك، وتاركوه ترك أوائلكم.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: (ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون) ، خطاب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، وذم لهم بنقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم في التوراة، وتبديلهم أمر الله، وركوبهم معاصيه.
* * *
(1) انظر معنى "تولى" فيما سلف من هذا الجزء 2: 162.
(2)
انظر ما سلف في هذا الجزء 2: 38، 39 ثم: 164، ثم: 245، ثم 302.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ}
قال أبو جعفر: قوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) في المعنى والإعراب نظير قوله: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله) .
* * *
وأما"سفك الدم"، فإنه صبه وإراقته.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ؟ وقال: أو كان القوم يقتلون أنفسهم ويخرجونها من ديارها، فنهوا عن ذلك؟ قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت، ولكنهم نهوا عن أن يقتل بعضهم بعضا. فكان في قتل الرجل منهم الرجل قتل نفسه، إذ كانت ملتهما [واحدة، فهما] بمنزلة رجل واحد. كما قال عليه السلام: (1)
1463 -
"إنما المؤمنون في تراحُمهم وتعاطفهم بينهم بمنزلة الجسد الواحد، إذا اشتكى بعضه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر". (2)
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى قوله: (لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل الرجل منكم الرجل منكم، فيقاد به قصاصا، فيكون بذلك قاتلا نفسه، لأنه كان الذي سبب لنفسه ما استحقت به القتل. فأضيف بذلك إليه، قتل ولي المقتول إياه قصاصا بوليه. كما يقال للرجل يركب فعلا من الأفعال يستحق به العقوبة، فيعاقب العقوبة:"أنت جنيت هذا على نفسك".
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1464 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، أي: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، ونفسُك يا ابن آدم أهل ملتك.
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام.
(2)
الحديث: 1463 - هكذا رواه الطبري معلقا. والظاهر أنه رواه بالمعنى أيضًا. ولفظه في صحيح مسلم 2: 284، من حديث النعمان بن بشير:"مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". وكذلك رواه أحمد في المسند (4: 270 حلبي) . ورواه البخاري بنحو معناه 10: 367 (من الفتح) .
1465 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)، يقول: لا يخرج بعضكم بعضا من الديار.
1466 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله:(لا تسفكون دماءكم)، يقول: لا يقتل بعضكم بعضا بغير حق، (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) ، فتسفك يا ابن آدم دماء أهل ملتك ودعوتك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ثم أقررتم)، بالميثاق الذي أخذنا عليكم: لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم، كما:-
1467 -
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(ثم أقررتم)، يقول: أقررتم بهذا الميثاق.
1468 -
وحدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله: (وأنتم تشهدون) . فقال بعضهم: ذلك خطاب من الله تعالى ذكره لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام هجرته إليه، مؤنبا لهم على تضييع أحكام ما في أيديهم من التوراة التي كانوا يقرون بحكمها، فقال الله تعالى لهم:(ثم أقررتم) ،
يعني بذلك، إقرار أوائلكم وسلفكم، (وأنتم تشهدون) على إقرارهم بأخذ الميثاق عليهم، بأن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وتصدقون بأن ذلك حق من ميثاقي عليهم. وممن حُكي معنى هذا القول عنه، ابنُ عباس.
1469 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال:(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أن هذا حق من ميثاقي عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن أوائلهم، ولكنه تعالى ذكره أخرج الخبر بذلك عنهم مُخرج المخاطبة، على النحو الذي وصفنا في سائر الآيات التي هي نظائرها، التي قد بينا تأويلها فيما مضى. (1)
* * *
وتأولوا قوله: (وأنتم تشهدون)، على معنى: وأنتم شهود.
* ذكر من قال ذلك:
1470 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله:(وأنتم تشهدون)، يقول: وأنتم شهود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب عندي: أن يكون قوله: (وأنتم تشهدون) خبرا عن أسلافهم، وداخلا فيه المخاطبون منهم، الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما كان قوله:(وإذ أخذنا ميثاقكم) خبرا عن أسلافهم، وإن كان خطابا للذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) لأن الله تعالى أخذ ميثاق الذين كانوا على عهد رسول الله موسى صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل - على سبيل ما قد بينه لنا في كتابه - فألزم جميع من بعدهم من ذريتهم من حكم التوراة، مثل الذي ألزم منه من كان على عهد موسى منهم. ثم أنب الذين خاطبهم بهذه الآيات على نقضهم ونقض سلفهم
(1) انظر ما سلف: 2: 298، تعليق: 2، والمراجع.
(2)
في المطبوعة: "بأن كان خطابا. . "، وهو لا يستقيم.
ذلك الميثاق، وتكذيبهم ما وكدوا على أنفسهم له بالوفاء من العهود، (1) بقوله:(ثم أقررتم وأنتم تشهدون) . فإذْ كان خارجا على وجه الخطاب للذين كانوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم منهم، (2) فإنه معني به كل من واثق بالميثاق منهم على عهد موسى ومن بعده، وكل من شهد منهم بتصديق ما في التوراة. لأن الله جل ثناؤه لم يخصص بقوله:(ثم أقررتم وأنتم تشهدون) - وما أشبه ذلك من الآي - بعضهم دون بعض. والآية محتملة أن يكون أريد بها جميعهم. فإذْ كان ذلك كذلك، (3) فليس لأحد أن يدعي أنه أريد بها بعض منهم دون بعض. وكذلك حكم الآية التي بعدها، أعني قوله:(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية. لأنه قد ذكر لنا أن أوائلهم قد كانوا يفعلون من ذلك ما كان يفعله أواخرهم الذين أدركوا عصر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
قال أبو جعفر: ويتجه في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) وجهان. أحدهما أن يكون أريد به: ثم أنتم يا هؤلاء، فترك"يا" استغناء بدلالة الكلام عليه، كما قال:(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا)[يوسف: 29]، وتأويله: يا يوسف أعرض عن هذا. فيكون معنى الكلام حينئذ: ثم أنتم يا معشر يهود بني إسرائيل - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم
(1) سياق العبارة: "وتكذيبهم ما وكدوا من العهود على أنفسهم بالوفاء له. . "، فقدم وأخر.
(2)
في المطبوعة: "فإن كان خارجا. . " وهو تصحيف لا يستقيم.
(3)
في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك"، وهو تصحيف لا يستقيم أيضًا.
من دياركم، ثم أقررتم = بعد شهادتكم على أنفسكم = (1) بأن ذلك حق لي عليكم، لازم لكم الوفاء لي به - تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، متعاونين عليهم، في إخراجكم إياهم، بالإثم والعدوان. (2)
* * *
والتعاون هو"التظاهر". وإنما قيل للتعاون"التظاهر"، (3) لتقوية بعضهم ظهر بعض. فهو"تفاعل" من"الظهر"، وهو مساندة بعضهم ظهره إلى ظهر بعض.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: ثم أنتم قوم تقتلون أنفسكم. فيرجع إلى الخبر عن"أنتم". وقد اعترض بينهم وبين الخبر عنهم"بهؤلاء"، كما تقول العرب:"أنا ذا أقوم، وأنا هذا أجلس"، (4) وإذْ قيل:"أنا هذا أجلس" كان صحيحا جائزا كذلك: أنت ذاك تقوم".
وقد زعم بعض البصريين أن قوله"هؤلاء" في قوله: (ثم أنتم هؤلاء) ، تنبيه وتوكيد لـ "أنتم". وزعم أن"أنتم" وإن كانت كناية أسماء جماع المخاطبين، فإنما جاز أن يؤكدوا بـ "هؤلاء" و"أولاء"، (5) لأنها كناية عن المخاطبين، كما قال خفاف بن ندبة:
أقول له والرمح يَأطر متنه:
…
تبين خُفافا إنني أنا ذلكا (6)
يريد: أنا هذا، وكما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ
(1) في المطبوعة: "ثم أقررتم وبعد شهادتكم. . " والواو لا مكان لها هنا.
(2)
في المطبوعة"متعاونين عليه في إخراجكم. . "، وهذا سهو.
(3)
في المطبوعة: " وإنما قيل التعاون التظاهر. . " وهذا لا شيء.
(4)
في المطبوعة: "ولوقيل. أنا هذا أجلس". والصواب ما أثبت.
(5)
في المطبوعة: "وأولى"، وهو خطأ. ويعني قوله تعالى في سورة آل عمران: 119: "ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم"، وقوله تعالى في سورة طه: 84: " قال هم أولاء على أثرى".
(6)
مضى تخريجه فيما سلف 1: 227.
بِهِمْ) [يونس: 22]
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية، نحو اختلافهم فيمن عَني بقوله:(وأنتم تشهدون) * ذكر اختلاف المختلفين في ذلك:
1471 -
حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) إلى أهل الشرك، (1) حتى تسفكوا دماءهم معهم، وتخرجوهم من ديارهم معهم. (2) قال: أنبهم الله [على ذلك] من فعلهم، (3) وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم، فكانوا فريقين: طائفة منهم من بني قينقاع حلفاء الخزرج، والنضير وقريظة حلفاء الأوس. فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس، يظاهر كل من الفريقين حلفاءه على إخوانه، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم، وبأيديهم التوراة، يعرفون منها ما عليهم وما لهم. والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، (4) لا يعرفون جنة ولا نارا، ولا بعثا ولا قيامة، ولا كتابا، ولا حراما ولا حلالا فإذا وضعت الحرب أوزارها، افتدوا أسراهم، تصديقا لما في التوراة، وأخذا به، بعضهم من بعض. يفتدي بنو قينقاع ما كان من أسراهم في أيدي الأوس،
(1) في تفسير ابن كثير 1: 223، والدر المنثور 1: 86: "أي أهل الشرك"، والصواب ما في الطبري، وقوله:"إلى أهل الشرك"، أي تخرجون فريقا منكم - إلى أهل الشرك.
(2)
في المطبوعة: "فقال أنبهم"، والأجود حذفها.
(3)
ما بين القوسين زيادة لا بد منها. وأما ابن كثير في تفسيره 1: 223 فكتب: "أنبأهم الله بذلك من فعلهم"، وهو تحريف.
(4)
في المطبوعة: "أهل الشرك"، والصواب في سيرة ابن هشام 2: 188، وابن كثير 1:224.
وتفتدي النضير وقريظة ما كان في أيدي الخزرج منهم، ويطلون ما أصابوا من الدماء، (1) وقتلى من قتلوا منهم فيما بينهم، (2) مظاهرة لأهل الشرك عليهم. يقول الله تعالى ذكره، حين أنبهم بذلك:(3)(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، أي تفادونه بحكم التوراة وتقتلونه - وفي حكم التوراة أن لا يقتل، ولا يخرج من داره، (4) ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه - ابتغاء عرض من عرض الدنيا.
ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج -فيما بلغني- نزلت هذه القصة. (5)
1472 -
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون) قال: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة: أن لا يقتل بعضهم بعضا، وأيما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام ثمنه، فأعتقوه. (6) فكانت قريظة حلفاء الأوس، والنضير حلفاء الخزرج، فكانوا يقتتلون في حرب سُمير. (7) فيقاتل بنو قريظة مع حلفائها، النضير وحلفاءها. وكانت النضير تقاتل قريظة وحلفاءها، فيغلبونهم، فيخربون بيوتهم، ويخرجونهم منها. فإذا أسر الرجل من الفريقين كليهما، جمعوا له حتى
(1) طل دمه وأطله: أهدره وأبطله.
(2)
في المطبوعة: "وقتلوا من قتلوا. . "، والصواب من ابن هشام 2:189.
(3)
في المطبوعة: "أنباهم بذلك"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام 2: 189، وسترى ذلك في تفسير الآية نفسها بعد.
(4)
في المطبوعة: "من ذلك"، وهو محض خطأ.
(5)
هذه الجملة الأخيرة من كلام ابن إسحاق، لا من كلام ابن عباس.
(6)
في المطبوعة: "بما قدم يمينه فأعتقوه". وهو كلام من السقم بمكان. يقال: قامت الأمة مئة دينار، أي بلغت قيمتها مئة دينار. ويقال: كم قامت أمتك؟ أي كم بلغت؟ ووجدتها في تفسير البغوي على الصواب: "بما قام من ثمنه" 1: 224 (بهامش تفسير ابن كثير) .
(7)
حرب سُمير. كانت في الجاهلية بين الأوس والخزرج. وسُمير رجل من بني عمرو بن عوف. وانظر خبر هذه الحرب في الأغاني 3: 18: 26.
يفدوه، فتعيرهم العرب بذلك، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، وحرم علينا قتالهم. قالوا: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحيي أن تستذل حلفاؤنا. فذلك حين عيرهم جل وعز فقال: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان) .
1473 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كانت قريظة والنضير أخوين، وكانوا بهذه المثابة، (1) وكان الكتاب بأيديهم. وكانت الأوس والخزرج أخوين فافترقا، وافترقت قريظة والنضير، فكانت النضير مع الخزرج، وكانت قريظة مع الأوس، فاقتتلوا. وكان بعضهم يقتل بعضا، فقال الله جل ثناؤه:(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) الآية.
* * *
وقال آخرون بما:-
1474 -
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم. وقد أخذ عليهم الميثاق أن لا يسفكوا دماءهم، ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما "العدوان" فهو"الفعلان" من"التعدي"، يقال منه:"عدا فلان في كذا عدوا وعدوانا، واعتدى يعتدي اعتداء"، وذلك إذا جاوز حده ظلما وبغيا.
* * *
وقد اختلف الْقَرَأَة في قراءة: (تظاهرون) . (2) فقرأها بعضهم:"تظاهرون" على مثال"تفاعلون" فحذف التاء الزائدة وهي التاء الآخرة. وقرأها آخرون:
(1) المثابة: يعني المدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمثابة المنزل، لأن أهله يتصرفون في أمورهم ثم يثوبون إليه، يرجعون إليه. وقال الله تعالى:"وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا"
(2)
في المطبوعة: "وقد اختلف القراء"، ورددتها إلى منهج الطبري.
(تظَّاهرون) ، فشدد، بتأويل:(تتظاهرون) ، غير أنهم أدغموا التاء الثانية في الظاء، لتقارب مخرجيهما، فصيروهما ظاء مشددة. وهاتان القراءتان، وإن اختلفت ألفاظهما، فإنهما متفقتا المعنى. فسواء بأي ذلك قرأ القارئ، لأنهما جميعا لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في أمصار الإسلام بمعنى واحد، ليس في إحداهما معنى تستحق به اختيارها على الأخرى، إلا أن يختار مختار"تظاهرون" المشددة طلبا منه تتمة الكلمة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (وإن يأتوكم أسارى تفادوهم) اليهود. يوبخهم بذلك، ويعرفهم به قبيح أفعالهم التي كانوا يفعلونها، فقال لهم: ثم أنتم - بعد إقراركم بالميثاق الذي أخذته عليكم: أن لا تسفكوا دماءكم، ولا تخرجوا أنفسكم من دياركم - تقتلون أنفسكم = يعني به: يقتل بعضكم بعضا = وأنتم، مع قتلكم من تقتلون منكم، إذا وجدتم الأسير منكم في أيدي غيركم من أعدائكم، تفدونه، (1) ويخرج بعضكم بعضا من دياره. وقتلكم إياهم وإخراجكموهم من ديارهم، حرام عليكم، وتركهم أسرى في أيدي عدوكم [حرام عليكم] ، (2) فكيف تستجيزون قتلهم، ولا تستجيزون ترك فدائهم من عدوهم؟ أم كيف لا تستجيزون ترك فدائهم، وتستجيزون قتلهم؟ وهما جميعا في اللازم لكم من الحكم فيهم - سواء. (3) لأن الذي حرمت عليكم
(1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(2)
الزيادة بين القوسين لا معدى عنها لاستقامة الكلام.
(3)
في المطبوعة: "وهم جميعا"، والصواب ما أثبت.
من قتلهم وإخراجهم من دورهم، نظير الذي حرمت عليكم من تركهم أسرى في أيدي عدوهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب - الذي فرضت عليكم فيه فرائضي، وبينت لكم فيه حدودي، وأخذت عليكم بالعمل بما فيه ميثاقي - فتصدقون به، فتفادون أسراكم من أيدي عدوكم; وتكفرون ببعضه، فتجحدونه، فتقتلون من حرمت عليكم قتله من أهل دينكم ومن قومكم، وتخرجونهم من ديارهم؟ وقد علمتم أن الكفر منكم ببعضه نقض منكم عهدي وميثاقي؟ كما:-
1475 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تَفْدُوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، [أفتؤمنون ببعض الكتاب فادين، وتكفرون ببعض قاتلين ومخرجين] ؟ (1) والله إن فداءهم لإيمان، وإن إخراجهم لكفر. فكانوا يخرجونهم من ديارهم، وإذا رأوهم أسارى في أيدي عدوهم أفتكوهم.
1476 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن سعيد بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس:(وإن يأتوكم أسارى تَفْدوهم) ، قد علمتم أن ذلكم عليكم في دينكم، (وهو محرم عليكم) في كتابكم (إخراجهم، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، أتفادونهم مؤمنين بذلك، وتخرجونهم كفرا بذلك.
1477 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك؟
(1) كان في المطبوعة: ". . وتكفرون ببعض فادين والله إن فداء لإيمان"، وهو كلام مضطرب فزدت ما بين القوسين استظهارا، حتى يستقيم الكلام.
1478 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر قال، قال أبو جعفر: كان قتادة يقول في قوله: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ، فكان إخراجهم كفرا، وفداؤهم إيمانا.
1479 -
حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم) الآية، قال: كان في بني إسرائيل: إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم، وقد أخذ عليهم الميثاق: أن لا يسفكوا دماءهم ولا يخرجوا أنفسهم من ديارهم، وأخذ عليهم الميثاق: إن أسر بعضهم أن يفادوهم. فأخرجوهم من ديارهم، ثم فادوهم، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض. آمنوا بالفداء ففدوا، وكفروا بالإخراج من الديار فأخرجوا.
1480 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر قال، حدثنا الربيع بن أنس قال، أخبرني أبو العالية: أن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه العرب، ولا يفادي من وقع عليه العرب، فقال له عبد الله بن سلام: أما إنه مكتوب عندك في كتابك: أن فادوهن كلهن.
1481 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:(أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض)، قال: كفرهم القتل والإخراج، وإيمانهم الفداء. قال ابن جريج: يقول: إذا كانوا عندكم تقتلونهم وتخرجونهم من ديارهم، وأما إذا أسروا تفدونهم؟ (1) وبلغني أن عمر بن الخطاب قال في قصة بني إسرائيل: إن بني إسرائيل قد مضوا، وإنكم أنتم تعنون بهذا الحديث.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف الْقَرَأَة (2) في قراءة قوله: (وإن يأتوكم أسارى تفدوهم) .
(1) في المطبوعة: "تفدوهم"، خطأ.
(2)
في المطبوعة: "واختلف القراء"، ورددته إلى نهج أبي جعفر.
فقرأه بعضهم: (أسرى تَفْدوهم)، وبعضهم:(أُسارى تُفادوهم) ، وبعضهم (أُسارى تَفدوهم)، وبعضهم:(أسرى تفادوهم) .
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك: (وإن يأتوكم أسرى) ، فإنه أراد جمع"الأسير"، إذ كان على"فعيل"، على مثال جمع أسماء ذوي العاهات التي يأتي واحدها على تقدير"فعيل"، إذ كان"الأسر" شبيه المعنى - في الأذى والمكروه الداخل على الأسير - ببعض معاني العاهات، وألحق جمع المستلحق به بجمع ما وصفنا، فقيل: أسير وأسرى"، كما قيل:"مريض ومرضى، وكسير وكَسرى، وجريح وجرحى".
* * *
وقال أبو جعفر: وأما الذين قرءوا ذلك: (أُسارى) ، فإنهم أخرجوه على مخرج جمع "فَعلان"، إذ كان جمع "فَعلان" الذي له "فَعلى" قد يشارك جمع "فعيل" كما قالوا:"سَكارى وسَكرى، وكَسالى وكَسلى"، فشبهوا"أسيرا" - وجمعوه مرة"أسارى"، وأخرى"أسرى" - بذلك.
* * *
وكان بعضهم يزعم أن معنى"الأسرى" مخالف معنى"الأسارى"، ويزعم أن معنى"الأسرى" استئسار القوم بغير أسر من المستأسِر لهم، وأن معنى"الأسارى" معنى مصير القوم المأسورين في أيدي الآسرين بأسرهم وأخذهم قهرا وغلبة.
قال أبو جعفر: وذلك ما لا وجه له يفهم في لغة أحد من العرب. ولكن ذلك على ما وصفت من جمع"الأسير" مرة على "فَعلى" لما بينت من العلة، ومرة على"فُعالى"، لما ذكرت: من تشبيههم جمعه بجمع"سكران وكسلان" وما أشبه ذلك.
* * *
وأولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأ (وإن يأتوكم أسرى) ، لأن"فعالى" في جمع"فعيل" غير مستفيض في كلام العرب، فإذ كان ذلك غير مستفيض في كلامهم، وكان مستفيضا فاشيا فيهم جمع ما كان من الصفات - التي بمعنى
الآلام والزمانة - وواحده على تقدير"فعيل"، على"فعلى"، كالذي وصفنا قبل، وكان أحد ذلك"الأسير"، كان الواجب أن يلحق بنظائره وأشكاله، فيجمع جمعها دون غيرها ممن خالفها.
* * *
وأما من قرأ: (تفادوهم)، فإنه أراد: أنكم تفدونهم من أسرهم، ويفدي منكم - الذين أسروهم ففادوكم بهم - أسراكم منهم.
* * *
وأما من قرأ ذلك (تفدوهم)، فإنه أراد: إنكم يا معشر اليهود، إن أتاكم الذين أخرجتموهم منكم من ديارهم أسرى فديتموهم فاستنقذتموهم.
وهذه القراءة أعجب إلي من الأولى - أعني: (أسرى تفادوهم) - (1) لأن الذي على اليهود في دينهم فداء أسراهم بكل حال، فدى الآسرون أسراهم منهم أم لم يفدوهم.
* * *
وأما قوله: (وهو محرم عليكم إخراجهم)، فإن في قوله:(وهو) وجهين من التأويل. أحدهما: أن يكون كناية عن الإخراج الذي تقدم ذكره. كأنه قال: وتخرجون فريقا منكم من ديارهم، وإخراجهم محرم عليكم. ثم كرر"الإخراج" الذي بعد"وهو محرم عليكم" تكريرا على"هو"، لما حال بين"الإخراج" و"هو" كلام.
والتأويل الثاني: أن يكون عمادا، لمّا كانت "الواو" التي مع "هو" تقتضي اسما يليها دون الفعل. (2) فلما قدم الفعل قبل الاسم - الذي تقتضيه "الواو" أن يليها - أُولِيَتْ "هو"، لأنه اسم، كما تقول:"أتيتك وهو قائم أبوك"، بمعنى:"وأبوك قائم"، إذ كانت"الواو" تقتضي اسما، فعمدت بـ "هو"، إذ سبق الفعل الاسم ليصلح الكلام. (3) كما قال الشاعر:
(1) في المطبوعة: "أسرى تفدوهم"، وهو غير الصواب، فيما اختاره أبو جعفر من القراءة.
(2)
العماد، هو ما اصطلح عليه البصريون بقولهم:"ضمير الفصل"، ويسمى أيضًا:"دعامة"، "صفة". وأراد بقوله:"الفعل" هنا: المشتق الذي يعمل فيما بعده عمل الفعل. وسيتبين مراده في العبارات الآتية.
(3)
قد استوفى هذا كله الفراء في معاني القرآن 1: 50 - 52.
فأبلغ أبا يحيى إذا ما لقيته
…
على العيس في آباطها عَرَق يَبْسُ (1) بأن السُّلامِيَّ الذي بِضَرِيَّة
…
أميرَ الحمى، قد باع حَقِّي بني عبسِ (2) بثوب ودينار وشاة ودرهم
…
فهل هو مرفوع بما ههنا رَأْسُ (3)
فأوليت"هل""هو" لطلبها الاسم العماد. (4)
* * *
(1) سيأتي الشطر الثاني من البيت الأخير في 11: 34، 17: 73 ولم أجد الشعر في غير معاني القرآن للفراء 1: 52، ولم أعرف قائله. والعيس: إبل بيض يخالطها شقرة يسيرة، وهي من كرائم الإبل. ويبس يابس. قد يبس العرق في آباطها من طول الرحلة.
(2)
السلامي: يعني رجلا كان - فيما أرجح - مصدقا وعاملا على الزكاة، وأميرا على حمى ضرية، ولست أعرف نسبته، أهي قبيلة أم إلى بلد. وحمى ضرية: في نجد، على طريق البصرة إلى مكة، وهي إلى مكة أقرب، وهي أرض طيبة مذكورة في شعرهم. وفي البيت إقواء.
(3)
سيأتي الشطر الثاني بعد قليل: 374 قوله: "بثوب"، متعلق بقوله آنفًا "باع". يقول: أخذ هذه الرشى التي عددها من بني عبس، فأسلم إليهم حقي. وقوله:"فهل هو مرفوع بما هاهنا رأس" يقوله لأبي يحيى الذي ذكره، ويقول: فهل نجد ناصرا ينصرنا وياخذ لناحقنا، فنرفع رؤوسنا بعد ما نزل بنا من الضيم. وهذه كلمة يقولونها في مثل ذلك. قال الراعي (طبقات فحول الشعراء: 442) : فإن رفعت بهم رأسا نَعَشْتُهم
…
وإن لَقُوا مثلها في قابل فسدوا
وقال أعرابي: فتى مثل ضوء الشمس، ليس بباخل
…
بخير، ولا مهد ملاما لباخل
ولا ناطق عوراء تؤذى جليسه
…
ولا رافع رأسا بعوراء قائل
وجاءت هذه الكلمة في (باب فضل من علم وعلم) من حديث أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (البخاري 1: 23) : "فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
(4)
في المطبوعة: "فأوليت هل لطلبها"، وزيادة"هو" لا بد منها.
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (فما جزاء من يفعل ذلك منكم) : فليس لمن قتل منكم قتيلا = فكفر بقتله إياه، بنقض عهد الله الذي حكم به عليه في التوراة - وأخرج منكم فريقا من ديارهم مظاهرا عليهم أعداءهم من أهل الشرك ظلما وعدوانا وخلافا لما أمره الله به في كتابه الذي أنزله إلى موسى = جزاء - يعني"بالجزاء": الثواب، وهو العوض مما فعل من ذلك والأجر عليه - (1) إلا خزي في الحياة الدنيا. و"الخزي": الذل والصغار، يقال منه:"خزي الرجل يخزى خزيا"، (في الحياة الدنيا)، يعني: في عاجل الدنيا قبل الآخرة.
* * *
ثم اختلف في الخزي الذي أخزاهم الله بما سلف من معصيتهم إياه. فقال بعضهم: ذلك هو حكم الله الذي أنزله إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: من أخذ القاتل بمن قتل، والقود به قصاصا، والانتقام للمظلوم من الظالم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك، هو أخذ الجزية منهم ما أقاموا على دينهم، ذلة لهم وصغارا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الخزي الذي جوزوا به في الدنيا: إخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم النضير من ديارهم لأول الحشر، وقتل مقاتلة قريظة وسبي ذراريهم، فكان ذلك خزيا في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب عظيم.
(1) انظر ما سلف 2: 27 - 28 من هذا الجزء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب) : ويوم تقوم الساعة يرد من يفعل ذلك منكم - بعد الخزي الذي يحل به في الدنيا جزاء على معصية الله - إلى أشد العذاب الذي أعد الله لأعدائه.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك: ويوم القيامة يردون إلى أشد من عذاب الدنيا. (1)
ولا معنى لقول قائل ذلك. (2) ذلك بأن الله جل ثناؤه إنما أخبر أنهم يردون إلى أشد معاني العذاب، ولذلك أدخل فيه"الألف واللام"، لأنه عنى به جنس العذاب كله، دون نوع منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) }
قال أبو جعفر: اختلف الْقَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه بعضهم: (وما الله بغافل عما يعملون) بـ "الياء"، على وجه الإخبار عنهم، فكأنهم نحوا بقراءتهم معنى:(فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون)، يعني: عما يعمله الذين أخبر الله عنهم أنه ليس لهم جزاء على فعلهم إلا الخزي في الحياة الدنيا، ومرجعهم في الآخرة إلى أشد العذاب.
* * *
وقرأه آخرون: (وما الله بغافل عما تعملون) بـ "التاء" على وجه المخاطبة.
(1) في المطبوعة: "إلى أشد العذاب من عذاب الدنيا"، والصواب حذف"العذاب".
(2)
في المطبوعة: "ولا معنىلقول ذلك بأن. . " والصواب زيادة"ذلك".