الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جل وعز أخبر عنه أنه لما أفاق قال: (تبت إليك)[الأعراف: 143]- ولا شبه جرير الفرزدق وهو حي بالقرد ميتا. ولكن معنى ذلك ما وصفنا.
* * *
ويعني بقوله: (وأنتم تنظرون) ، وأنتم تنظرون إلى الصاعقة التي أصابتكم، يقول: أخذتكم الصاعقة عيانا جهارا وأنتم تنظرون إليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى (1) {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
(56) }
يعني بقوله: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم.
* * *
وأصل"البعث" إثارة الشيء من محله. ومنه قيل:"بعث فلان راحلته" إذا أثارها من مبركها للسير، كما قال الشاعر:
فأبعثها وهيَّ صنيعُ حول
…
كركن الرَّعنِ، ذِعْلِبَةً وَقاحا (2)
(1) عند هذا انتهى الخرم الذي ذكرناه في ص: 77 وبدأنا المخطوطة.
(2)
لم أجد البيت في مكان. وقوله: "هي" بتشديد الياء، وهي لغة همدان، يشددون الواو من"هو" كقول القائل.
وإن لساني شُهدة يشتفى بها
…
وهوَّ، على من صبه الله، علقم
ويشدد الياء من"هي" كقول القائل:
والنفس ما أمرت بالعنف آبيه
…
وهي - إن أمرت باللطف تأتمر
والضمير في"أبعثها"إلى ناقته. وقوله:"صنيع حول" أي قد رعت حولا - عاما - حتى سمنت وقويت. يقال صنع فرسه صنعا وصنعة، فهو فرس صنيع، والأنثى بغير هاء: إذا أحسن القيام عليه فغذاه وعلفه وسمنه. وكل ما تعهدته حتى جاد فهو صنيع. والرعن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدما. شبه ناقته في جلالها وقوتها بركن الجبل. ذعلبة: ناقة سريعة باقية على السير. وقاح: صلبة صبور، الذكر والأنثى سواء.
و"الرعن": منقطع أنف الجبل، و"الذعلبة": الخفيفة، و"الوقاح": الشديدة الحافر أو الخف. ومن ذلك قيل:"بعثت فلانا لحاجتي"، إذا أقمته من مكانه الذي هو فيه للتوجه فيها. ومن ذلك قيل ليوم القيامة:"يوم البعث"، لأنه يوم يثار الناس فيه من قبورهم لموقف الحساب.
* * *
يعني بقوله: (من بعد موتكم) ، من بعد موتكم بالصاعقة التي أهلكتكم.
* * *
وقوله: (لعلكم تشكرون)، يقول: فعلنا بكم ذلك لتشكروني على ما أوليتكم من نعمتي عليكم، بإحيائي إياكم، استبقاء مني لكم، لتراجعوا التوبة من عظيم ذنبكم، بعد إحلالي العقوبة بكم بالصاعقة التي أحللتها بكم، فأماتتكم بعظيم خطئكم الذي كان منكم فيما بينكم وبين ربكم.
وهذا القول على تأويل من تأول قوله قول: (ثم بعثناكم) ثم أحييناكم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ثم بعثناكم) ، أي بعثناكم أنبياء.
955 -
حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام على ما تأوله السدي: فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم من بعد موتكم، وأنتم تنظرون إلى إحيائنا إياكم من بعد موتكم، ثم بعثناكم أنبياء لعلكم تشكرون.
وزعم السدي أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
956 -
حدثنا بذلك موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
وهذا تأويل يدل ظاهر التلاوة على خلافه، مع إجماع أهل التأويل على تخطئته. والواجب على تأويل السدي الذي حكيناه عنه، أن يكون معنى قوله:(لعلكم تشكرون) ، تشكروني على تصييري إياكم أنبياء.
* * *
وكان سبب قيلهم لموسى ما أخبر الله جل وعز عنهم أنهم قالوا له، من قولهم:(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، ما:-
957 -
حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال: لما رجع موسى إلى قومه، ورأى ما هم فيه من عبادة العجل، وقال لأخيه وللسامري ما قال، وحرق العجل وذراه في اليم، (1) اختار موسى منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، وقال: انطلقوا إلى الله عز وجل، فتوبوا إليه مما صنعتم، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم؛ صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم. فخرج بهم إلى طور سيناء لميقات وقته له ربه، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال له السبعون -فيما ذكر لي- حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا للقاء ربه:(2) يا موسى، اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا، (3) قال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود غمام حتى تغشى الجبل كله، (4) ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا. وكان موسى إذا كلمه ربه وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه. فضرب دونه الحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجودا، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل. فلما فرغ إليه من أمره، انكشف عن موسى الغمام. (5) فأقبل إليهم، فقالوا لموسى:(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، فأخذتهم
(1) في المخطوطة: "وذراه في البحر".
(2)
في المطبوعة: " للقاء الله"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. وفي المخطوطة بعد قوله:"ربه": "لموسى"، وأما التاريخ، فلم يذكر"يا موسى"، ولا"لموسى".
(3)
في المطبوعة: "لنسمع كلام. . " وفي التاريخ: "اطلب لنا نسمع كلام ربنا" بحذف"إلى ربك".
(4)
في المطبوعة: "وقع عليه الغمام"، وفي التاريخ:"وقع عليه عمود الغمام".
(5)
في المطبوعة: "فلما فرغ من أمره"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفيها أيضًا:"وانكشف"بزيادة الواو، وهو خطأ.
الرجفة -وهي الصاعقة-[فافتلتت أرواحهم] فماتوا جميعا. (1) وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي! قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما تفعل السفهاء منا؟ (2) -أي: إن هذا لهم هلاك، اخترت منهم سبعين رجلا الخير فالخير، أرجع إليهم وليس معي منهم رجل واحد! فما الذي يصدقوني به أو يأمنوني عليه بعد هذا؟ (إنا هدنا إليك) . فلم يزل موسى يناشد ربه عز وجل ويطلب إليه، (3) حتى رد إليهم أرواحهم، فطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل، فقال: لا إلا أن يقتلوا أنفسهم. (4) .
958 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تابت بنو إسرائيل من عبادة العجل، وتاب الله عليهم بقتل بعضهم بعضا كما أمرهم به، أمر الله تعالى موسى أن يأتيه في ناس من بنى إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا:"لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة"، فإنك قد كلمته فأرناه: فأخذتهم الصاعقة فماتوا. فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم؟ رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجل، فذلك حين يقول موسى:(إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ)[إلى قوله]
(1) الذي بين القوسين زيادة من تاريخ الطبري، وهي هناك:"فانفلتت أرواحهم"، والصواب ما أثبته. يقال:"افتلتت نفسه"(بالبناء للمجهول) ، مات فلتة، أي بغتة، وفي الحديث: أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي افتلتت نفسها، فماتت ولم توص، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم.
(2)
في التاريخ: "قد سفهوا، فيهلك من ورائي. . . إن هذا لهم هلاك"، بحذف"أي".
(3)
قوله: "ويسأله" ليست في المطبوعة.
(4)
الأثر: 957 - في تاريخ الطبري 1: 220 - 221.
(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)[الأعراف: 155-156] . [يقول تبنا إليك] . (1) وذلك قوله: (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة) . ثم إن الله جل ثناؤه أحياهم فقاموا وعاشوا رجلا رجلا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون، فقالوا: يا موسى أنت تدعو الله فلا تسأله شيئا إلا أعطاك، فادعه يجعلنا أنبياء! فدعا الله تعالى فجعلهم أنبياء، فذلك قوله:(ثم بعثناكم من بعد موتكم) ، ولكنه قدم حرفا وأخر حرفا. (2)
959 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال لهم موسى لما - رجع من عند ربه بالألواح، قد كتب فيها التوراة، فوجدهم يعبدون العجل، فأمرهم بقتل أنفسهم، ففعلوا، فتاب الله عليهم -، (3) : إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به، ونهيه الذي نهاكم عنه. فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت! لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا (4) فيقول: هذا كتابي فخذوه، فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، (5) فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ وقرأ قول الله تعالى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة)، قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة بعد التوبة، فصعقتهم فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله من بعد موتهم، وقرأ قول الله تعالى:(ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون) . فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. فقال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: أصابنا أنا متنا ثم حيينا. قال: خذوا كتاب الله. قالوا: لا. فبعث الله تعالى ملائكة فنتقت الجبل
(1) الزيادة التي بين الأقواس من تاريخ الطبري، والأولى منهما زيادة لا بد منها.
(2)
الأثر: 958 في تاريخ الطبري 1: 221. وقوله: "قدم حرفا وأخر حرفا"، هو ما ذكره في تأويل الآية على ما ذهب إليه السدي (ص: 85) "فأخذتكم الصاعقة، ثم أحييناكم. .)
(3)
في المطبوعة: "فقال: إن هذه الألواح. . "
(4)
في المطبوعة: "يطلع الله علينا".
(5)
في المطبوعة: "كما يكلمك أنت". وسيأتي على الصواب في رقم: 1115.
فوقهم. (1)
960 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون. ثم بعثناكم من بعد موتكم)، قال: أخذتهم الصاعقة، ثم بعثهم الله تعالى ليكملوا بقية آجالهم.
961 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:(فأخذتهم الصاعقة)، قال: هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه. قال: فسمعوا كلاما، فقالوا:(لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) . قال: فسمعوا صوتا فصعقوا - يقول: ماتوا - فذلك قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) ، فبعثوا من بعد موتهم، لأن موتهم ذاك كان عقوبة لهم، فبعثوا لبقية آجالهم.
* * *
فهذا ما روي في السبب الذي من أجله قالوا لموسى: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا خبر عندنا بصحة شيء مما قاله من ذكرنا قوله في سبب قيلهم ذلك لموسى، تقوم به حجة فيسلم له. (2) وجائز أن يكون ذلك بعض ما قالوه، فإذ كان لا خبر بذلك تقوم به حجة، فالصواب من القول فيه أن يقال: إن الله جل ثناؤه قد أخبر عن قوم موسى أنهم قالوا له: (يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ، كما أخبر عنهم أنهم قالوه. وإنما أخبر الله عز وجل بذلك عنهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، توبيخا لهم في كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وقد قامت حجته على من احتج به عليه، ولا حاجة لمن
(1) الأثر: 959 - سيأتي أيضًا رقم: 1115، وفيه تمام الخبر نتقوا الجبل: اقتلعوه من أصله ورفعوه فوقهم.
(2)
في المطبوعة: "فسلم لهم"، وهو خطأ وتعبير فاسد. وإنما أراد التسليم للخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الذي قاله الطبري دليل على صحة ما ذكرنا من أنه لم يستدل بهذه الأخبار إلا للبيان عن بعض المعاني، وإن كانت لا تقوم بها الحجة في التفسير، كما قلنا في التذكرة التي كتبناها في الجزء الأول: 453 - 454. وانظر بقية كلام الطبري في هذه الفقرة. فإنه كلام بليغ الدلالة، مفيد في معرفة أسلوب الطبري في تفسيره.
انتهت إليه إلى معرفة السبب الداعي لهم إلى قيل ذلك. وقد قال الذين أخبرنا عنهم الأقوال التي ذكرناها، وجائز أن يكون بعضها حقا كما قال.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ}
(وظللنا عليكم الغمام) عطف على قوله: (ثم بعثناكم من بعد موتكم) . فتأويل الآية: ثم بعثناكم من بعد موتكم، وظللنا عليكم الغمام - وعدد عليهم سائر ما أنعم به عليهم - لعلكم تشكرون.
* * *
و"الغمام" جمع"غمامة"، كما السحاب جمع سحابة،"والغمام" هو ما غم السماء فألبسها من سحاب وقتام، وغير ذلك مما يسترها عن أعين الناظرين. وكل مغطى فالعرب تسميه مغموما. (1)
* * *
وقد قيل: إن الغمام التي ظللها الله على بني إسرائيل لم تكن سحابا.
962 -
حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:(وظللنا عليكم الغمام)، قال: ليس بالسحاب.
963 -
وحدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:(وظللنا عليكم الغمام)، قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي يأتي الله فيه يوم القيامة، لم يكن إلا لهم. (2)
964 -
وحدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:(وظللنا عليكم الغمام)، قال: هو بمنزلة السحاب.
965 -
وحدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وظللنا عليكم
(1) في المطبوعة: "فإن العرب تسميه".
(2)
الأثر 963 - في المخطوطة، ساق هذا الأثر إلى قوله"قال: ليس بالسحاب" ثم قال بعده ما نصه: "وبإسناده عن مجاهد قال: ليس بالسحاب، هو الغمام الذي. . . " إلى آخر الخبر.
الغمام) ، قال: هو غمام أبرد من هذا وأطيب، وهو الذي يأتي الله عز وجل فيه يوم القيامة في قوله:(1)(في ظلل من الغمام)[البقرة: 210]، وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر. قال ابن عباس: وكان معهم في التيه. (2)
* * *
وإذ كان معنى الغمام ما وصفنا، مما غم السماء من شيء يغطى وجهها عن الناظر إليها، (3) فليس الذي ظلله الله عز وجل على بني إسرائيل - فوصفه بأنه كان غماما - بأولى، بوصفه إياه بذلك أن يكون سحابا، منه بأن يكون غير ذلك مما ألبس وجه السماء من شيء.
* * *
وقد قيل: إنه ما ابيض من السحاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَأَنزلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ}
اختلف أهل التأويل في صفة"المن". فقال بعضهم بما: -
966 -
حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:(وأنزلنا عليكم المن)، قال: المن صمغة.
967 -
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن
(1) في المخطوطة: "فيه في قوله" بحذف"يوم القيامة".
(2)
الضمير في قوله: "وكان"، للغمام.
(3)
في المطبوعة: "فغطى وجهها" وتلك أجود.
أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
968 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(وأنزلنا عليكم المن والسلوى)، يقول: كان المن ينزل عليهم مثل الثلج.
* * *
وقال آخرون: هو شراب.
* ذكر من قال ذلك:
969 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: المن، شراب كان ينزل عليهم مثل العسل، فيمزجونه بالماء، ثم يشربونه.
* * *
وقال آخرون:"المن"، عسل.
* ذكر من قال ذلك:
970 -
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المن: عسل كان ينزل لهم من السماء.
971 -
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: عسلكم هذا جزء من سبعين جزءا من المن.
* * *
وقال آخرون:"المن" الخبز الرقاق. (1)
* ذكر من قال ذلك:
972 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما المن؟ قال: خبز الرقاق،، مثل الذرة، ومثل النقي. (2)
* * *
وقال آخرون:"المن"، الزنجبيل. (3)
* ذكر من قال ذلك:
(1) في المطبوعة: "خبز الرقاق". خبز رقاق رقيق، كطويل وطوال، صفة. وهو خبز منبسط رقيق.
(2)
الأثر: 972 - بعض أثر سيأتي برقم: 995. وفي المخطوطة: "من الذرة"، وفي ابن كثير كما في المطبوعة، وسيأتي كذلك في رقم: 995.
(3)
في المطبوعة"الترنجبين"، وكذلك في البغوي"الترنجبين". وفي تاج العروس:"الترنجبين". بالضم، هو المن المذكور في القرآن". وسيأتي ذلك بعد رقم: 977، وهو هنا"الزنجيل" كما في ابن كثير، والمخطوطة. وانظر لسان العرب:(منن) .
973 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: المن كان يسقط على شجر الزنجبيل (1)
* * *
وقال آخرون:"المن"، هو الذي يسقط على الشجر الذي يأكله الناس.
* ذكر من قال ذلك:
974 -
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثتي حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كان المن ينزل على شجرهم، فيغدون عليه، فيأكلون منه ما شاءوا. (2) .
975 -
وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر في قوله:(وأنزلنا عليكم المن)، قال: المن: الذي يقع على الشجر.
976 -
حدثت عن المنجاب بن الحارث قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(المن)، قال: المن الذي يسقط من السماء على الشجر فتأكله الناس.
977 -
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: المن، هذا الذي يقع على الشجر.
* * *
وقد قيل. إن"المن"، هو الترنجبين.
* * *
وقال بعضهم:"المن"، هو الذي يسقط على الثمام والعُشَر، وهو حلو كالعسل، وإياه عنى الأعشى -ميمون بن قيس- بقوله:
(1) في المطبوعة"شجر الترنجبين".
(2)
الأثر: 974 - هو في المخطوطة بعد رقم: 976.
لو أُطعِموا المن والسلوى مكانَهمُ
…
ما أبصر الناس طُعما فيهمُ نجعا (1)
وتظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال:
978 -
"الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين". (2)
وقال بعضهم:"المن"، شراب حلو كانوا يطبخونه فيشربونه.
* * *
وأما أمية بن أبي الصلت، فإنه جعله في شعره عسلا فقال يصف أمرهم في التيه وما رزقوا فيه:
فرأى الله أنهم بمَضِيعٍ
…
لا بذي مَزْرعٍ ولا معمورا (3)
(1) ديوانه: 87 من قصيدة طويلة، يذكر فيها ذا التاج هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة، وكانت بنو تميم قد وثبت على مال وطرف كانت تساق إلى كسرى، فأوقع بهم المكعبر الفارسي، والي كسرى على البحرين، وأدخلهم المشقر - وهو حصن بالبحرين - بخديعة خدعهم بها، فقتل رجالهم واستبقى الغلمان. وكلم هوذة بن علي المكعبر يومئذ في مائة من أسرى بني تميم، فوهبهم له يوم الفصح، فأعتقهم، فقال الأعشى، يذكر ما كان من قبل هوذة في بني تميم:
سائل تميما به أيام صفقتهم
…
لما أتوه أسارى كلهم ضرعا
وسط المشقر في عيطاء مظلمة
…
لا يستطيعون فيها ثَمَّ ممتنعا
لو أُطعموا المن. . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فوصف بني تميم بالكفر لنعمته (تاريخ الطبري 2: 132 - 134) . والطعم: ما أكل من الطعام. ونجع الطعام في الإنسان: هنا أكله وتبينت تنميته، واستمرأه وصلح عليه.
(2)
الحديث: 978 - هكذا رواه الطبري دون إسناد. وقد صدق في أنه تظاهرت به الأخبار. فقد رواه أحمد والشيخان والترمذي، من حديث سعيد بن زيد. ورواه أيضًا أحمد والشيخان وابن ماجه، من حديث أبي سعيد وجابر. ورواه أبو نعيم في الطب، من حديث ابن عباس وعائشة. انظر مثلا، المسند: 1625، 1626. والجامع الصغير:6463. وزاد المعاد لابن القيم 3: 383. وتفسير ابن كثير 1: 174 - 176، وقد ساق كثيرا من طرقه.
(3)
ديوانه: 34 - 35. في الأصول والديوان. "ولا مثمورا". مضيع: بموضع ضياع وهوان وهلاك. يقال: هو بدار مضيعة (بفتح الميم وكسر الضاد) ، كأنه فيها ضائع. وهو مفعلة، وطرح التاء منها كما يقولون: المنزل والمنزلة. ومزرع: مصدر ميمي من"زرع" يعني ليس بذي زرع، ومعمور: أي آهل ذهب خرابه. ونصب"ولا معمورا"، عطفا على محل"بذي مزرع"، وهو نصب. وآثرت هذه الكلمة، لأنها هي التي تتفق مع سياقه الشعر، ولأن التحريف في"معمور" و"مثمور" سهل، ولما سترى في شرح البيت الثالث.
فَنَساها عليهم غاديات،
…
ومرى مزنهم خلايا وخورا (1) عسلا ناطِفا وماء فراتا
…
وحليبا ذا بهجة مثمورا (2)
المثمور: الصافي من اللبن (3) . فجعل المن الذي كان ينزل عليهم عسلا ناطفا، والناطف: هو القاطر. (4) .
* * *
(1) في المطبوعة: "فعفاها" وفي المخطوطة: "فسناها"، وفي الديوان"فعفاها" ولا معنى لشيء منها، فاستظهرت أن أقرأها من المخطوط"فنساها"، أصلها"فنسأها" مهموزة، كما قالوا: برأ الله الخلق وبراهم بطرح الهمزة. ونسأ الدابة رالإبل ينسؤها نسأ: زجرها وساقها. يقول: ساق عليهم السحاب. غاديات جمع غادية: وهي السحابة التي تنشأ غدوة. ومرى الناقة مريا: مسح ضرعها لتدر. والمزن جمع مزنة: وهي السحابة ذات الماء. وخلايا جمع خلية: وهي الناقة التي خليت للحلب لكرمها وغزارة لبنها. الخور": إبل حمر إلى الغبرة، رقيقات الجلود، طوال الأوبار، لها شعر ينفذ وبرها، وهي أطول من سائر الوبر، فإذا كانت فهي غزار كثيرة اللبن. شبه السحاب الغزير الماء بهذين الضربين من النوق الغزيرة اللبن، يحلب مطرها عليهم حلبا، ثم فصل في البيت التالي أنواع ما نزل عليهم من السماء.
(2)
ناطف، من نطف ينطف: قطر. وهو مشروح بعد - أي يقطر من السماء. والفرات: أشد الماء عذوبة. ووصف اللبن بأنه ذو بهجة. وهي الحسن والنضارة، لأنه لم يؤخذ زبده، فيرق، وتذهب لمعة الزبد منه، فاستعار البهجة لذلك. أما قوله:"مثمورا"، فهي في المطبوعة "ممرورا"، وفي المخطوطة في الصلب كانت تقرأ "مثمورا" ثم لعب فيها قلم الناسخ في الثاء والميم، ثم كتب هو نفسه في الهامش:"مزمورا"، ثم شرح في طرف الصفحة فقال:"المزمور: الصافي من اللبن". وذلك شيء لا وجود له في كتب اللغة، وقد رأيت أنه كتب في البيت الأول"مثمورا"، ورجحت أن صوابها"معمورا"، ورجحت في هذا البيت أن يكون اختلط عليه حين كتب"مثمورا" فعاد فجعلها"مزمورا".
ولم أجد"مثمورا" في كتب اللغة، ولكن يقال: الثمير والثميرة: اللبن الذي ظهر زبده وتحبب قال ابن شميل: إذا مخض رؤي عليه أمثال الحصف في الجلد، ثم يجتمع فيصير زبدا، وما دامت صغارا فهو ثمير. ويقولون: إن لبنك لحسن الثمر، وقد أثمر مخاضك. فكأنه قال:"مثمورا" ويعني"ثميرا"، لأن فعيلا بمعنى مفعول هنا.
(3)
كانت في المطبوعة"الممرور"، وقد ذكرت في التعليقة، أنها بهامش المخطوطة"المزمور".
(4)
قوله: "فجعل المن. . . " إلى آخر الجملة ليس في المخطوطة.
القول في تأويل قوله تعالى {وَالسَّلْوَى}
قال أبو جعفر: و"السلوى" اسم طائر يشبه السُّمانَى، واحده وجِماعه بلفظ واحد، كذلك السماني لفظ جماعها وواحدها سواء. وقد قيل: إن واحدة السلوى سلواة.
* ذكر من قال ذلك:
979 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: السلوى طير يشبه السُّمانى. (1) .
980 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان طيرا أكبر من السمانى.
981 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: السلوى: طائر كانت تحشرها عليهم الريح الجنوب.
982 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: السلوى: طائر.
983 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: السلوى طير.
984 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال: سمعت وهبا - وسئل: ما السلوى؟ فقال: طير سمين مثل الحمام. (2)
(1) الأثر: 978 - اقتصر في المخطوطة على بعض هذا الإسناد، إلى قوله: عن السدي"، وأسقط الباقي، وهو الإسناد الدائر في تفسيره، فكأن كل إسناد وقف على السدي، هو هذا الإسناد، ثم اجتزأ ببعضه عن جميعه، كما مضى آنفًا، وكما سيأتي بعد.
(2)
الأثر 984 - بعض أثر سيأتي برقم: 995.
985 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: السلوى طير.
986 -
حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: السلوى كان طيرا يأتيهم مثل السمانى.
987 -
حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر، قال: السلوى السمانى.
988 -
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: السلوى، هو السمانى.
989 -
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، أخبرنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن مجالد، عن عامر قال: السلوى السمانى.
990 -
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك قال: السمانى هو السلوى.
* * *
فإن قال قائل: وما سبب تظليل الله جل ثناؤه الغمام، وإنزاله المن والسلوى على هؤلاء القوم؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في ذلك. ونحن ذاكرون ما حضرنا منه: -
991 -
فحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي: لما تاب الله على قوم موسى، (1) وأحيا السبعين الذين اختارهم موسى بعد ما أماتهم، أمرهم الله بالسير إلى أريحا، (2) وهي أرض بيت المقدس. فساروا حتى إذا كانوا قريبا منها بعث موسى اثني عشر نقيبا. فكان من أمرهم وأمر الجبارين وأمر قوم موسى، ما قد قص الله في كتابه. (3)
(1) في المخطوطة: "على موسى" بحذف"قوم".
(2)
في المطبوعة: "بالمسير"، وهما سواء.
(3)
هذا اختصار، وتفصيله في التاريخ في موضعه، كما سيأتي في موضعه من ذكره مراجعه.
فقال قوم موسى لموسى: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) . فغضب موسى فدعا عليهم فقال: (رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين) . فكانت عَجْلَةً من موسى عجلها، فقال الله تعالى:(إنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض) . فلما ضرب عليهم التيه، ندم موسى، وأتاه قومه الذين كانوا معه يطيعونه فقالوا له: ما صنعت بنا يا موسى؟ فلما ندم، أوحى الله إليه: أن لا تأس على القوم الفاسقين - أي لا تحزن على القوم الذين سميتهم فاسقين - فلم يحزن، فقالوا: يا موسى كيف لنا بماء ههنا؟ أين الطعام؟ فأنزل ألله عليهم المن - فكان يسقط على شجر الترنجبين (1) - والسلوى = وهو طير يشبه السمانى = فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير، إن كان سمينا ذبحه وإلا أرسله، فإذا سمن أتاه. فقالوا: هذا الطعام، فأين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، فشرب كل سبط من عين. فقالوا: هذا الطعام والشراب؟ فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام. فقالوا: هذا الظل، فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرق لهم ثوب، فذلك قوله:(وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى) وقوله: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ) . [البقرة: 60](2)
992 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما تاب الله عز وجل على بني إسرائيل، وأمر موسى أن يرفع عنهم السيف من عبادة العجل، أمر موسى أن يسير بهم إلى الأرض المقدسة، (3) وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدو، فإني ناصركم
(1) في المخطوطة وحدها: "الزنجبيل". وانظر ما مضى: 92.
(2)
الأثر: 991 - في تاريخ الطبري 1: 221 - 222.
(3)
في المخطوطة: "أن يسبق بهم"، وأراد الناسخ أن يصححها في الهامش، فكتب"-" ولم يتمها.
عليهم. فسار بهم موسى إلى الأرض المقدسة بأمر الله عز وجل. حتى إذا نزل التيه -بين مصر والشام، وهي أرض ليس فيها خَمَر ولا ظل (1) - دعا موسى ربه حين آذاهم الحر، فظلل عليهم بالغمام؛ ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله لهم المن والسلوى.
993 -
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس -
994 -
وحدثت عن عمار بن الحسن، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع (2) قوله:(وظللنا عليكم الغمام)، قال: ظلل عليهم الغمام في التيه، تاهوا في خمسة فراسخ أو ستة، (3) كلما أصبحوا ساروا غادين، فأمسوا فإذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه. فكانوا كذلك حتى مرت أربعون سنة. (4) قال: وهم في ذلك ينزل عليهم المن والسلوى، ولا تبلى ثيابهم. ومعهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا.
995 -
حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد قال، سمعت وهبا يقول: إن بني إسرائيل -لما حرم الله عليهم أن يدخلوا الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون في الأرض- شكوا إلى موسى فقالوا: ما نأكل؟ فقال: إن الله سيأتيكم بما تأكلون. قالوا: من أين لنا؟ إلا أن يمطر علينا خبزا! قال: إن الله عز وجل سينزل عليكم خبزا مخبوزا. فكان ينزل عليهم المن - سئل وهب: ما المن؟ قال: خبز الرقاق مثل الذرة أو
(1) الخمر (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
(2)
هذا الإسناد الثاني ساقط من المخطوطة.
(3)
في المخطوطة: "فإذا هو في قدر" مصفحة، وانظر تفسير الطبري 6: 116 - 117، 119 (بولاق) وقوله:"قدر" ليست في المطبوعة.
(4)
في المخطوطة: "حتى قمرت أربعين سنة" محرفا.
مثل النقيّ - (1) قالوا: وما نأتدم؟ وهل بد لنا من لحم؟ قال: فإن الله يأتيكم به. فقالوا: من أين لنا؟ إلا أن تأتينا به الريح! قال: فإن الريح تأتيكم به. فكانت الريح تأتيهم بالسلوى - فسئل وهب: ما السلوى؟ قال: طير سمين مثل الحمام، (2) كانت تأتيهم فيأخذون منه من سبت إلى سبت - (3) قالوا: فما نلبس؟ قال: لا يخلق لأحد منكم ثوب أربعين سنة. قالوا: فما نحتذي؟ قال: لا ينقطع لأحدكم شسع أربعين سنة. (4) قالوا: فإن يولد فينا أولاد، فما نكسوهم؟ (5) قال: ثوب الصغير يشب معه. قالوا: فمن أين لنا الماء؟ قال: يأتيكم به الله. قالوا: فمن أين؟ إلا أن يخرج لنا من الحجر! فأمر الله تبارك وتعالى موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فما نبصر! تغشانا الظلمة! (6) فضرب لهم عمودا من نور في وسط عسكرهم، أضاء عسكرهم كله، قالوا: فبم نستظل؟ فإن الشمس علينا شديده! قال: يظلكم الله بالغمام. (7) .
996 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد، فذكر نحو حديث موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد، عن أسباط، عن السدي.
997 -
حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال عبد الله بن عباس: خلق لهم في التيه ثياب لا تخلق
(1) هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: 972
(2)
هذه الجملة سلفت في الأثر رقم: 984
(3)
في المطبوعة: "من السبت إلى السبت".
(4)
الشسع: أحد سيور النعل الذي يدخل بين الإصبعين
(5)
في المطبوعة: "فإن فينا أولادا".
(6)
في المطبوعة: "فبم نبصر".
(7)
الأثر: 995 - إسحاق: هو ابن راهويه الإمام الكبير. إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل ابن منبه الصنعاني: ثقة، مترجم في التهذيب، ترجمة البخاري 1 /1 /367، وابن أبي حاتم 1 / 1 /187. وهو يروي هنا عن عمه: عبد الصمد بن معقل بن منبه، وهو ثقة أيضًا، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /50. وعبد الصمد يروى عن عمه: وهب بن منبه، هذا الأثر.
ولا تدرن. (1) قال، وقال ابن جريج: إن أخذ الرجل من المن والسلوى فوق طعام يوم فسد، إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت، فلا يصبح فاسدا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}
وهذا مما استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن تأويل الآية: وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فترك ذكر قوله:"وقلنا لكم"، لما بينا من دلالة الظاهر في الخطاب عليه. وعنى جل ذكره بقوله:(كلوا من طيبات ما رزقناكم) : كلوا من شهيات رزقنا الذي رزقناكموه. (2) وقد قيل عنى بقوله: (من طيبات ما رزقناكم) : من حلاله الذي أبحناه لكم فجعلناه لكم رزقا.
والأول من القولين أولى بالتأويل، لأنه وصف ما كان القوم فيه من هنيء العيش الذي أعطاهم، فوصف ذلك ب"الطيب"، الذي هو بمعنى اللذة، أحرى من وصفه بأنه حلال مباح.
و"ما" التي مع"رزقناكم"، بمعنى"الذي". كأنه قيل: كلوا من طيبات الرزق الذي رزقناكموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) }
وهذا أيضا من الذي استغني بدلالة ظاهره على ما ترك منه. وذلك أن معنى
(1) درن الثوب يدرن درنا فهو درن وأدرن: تلطخ بالوسخ.
(2)
في المطبوعة: "من مشهيات"، ليست بشيء.
الكلام: كلوا من طيبات ما رزقناكم. فخالفوا ما أمرناهم به وعصوا ربهم، ثم رسولنا إليهم، و"ما ظلمونا"، فاكتفى بما ظهر عما ترك.
وقوله: (وما ظلمونا) يقول: وما ظلمونا بفعلهم ذلك ومعصيتهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
ويعني بقوله: (وما ظلمونا) ، وما وضعوا فعلهم ذلك وعصيانهم إيانا موضع مضرة علينا ومنقصة لنا، ولكنهم وضعوه من أنفسهم موضع مضرة عليها ومنقصة لها. كما: -
999 -
حدثنا عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) قال: يضرون.
* * *
وقد دللنا فيما مضى، على أن أصل"الظلم": وضع الشيء في غير موضعه - بما فيه الكفاية، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
وكذلك ربنا جل ذكره، لا تضره معصية عاص، ولا يتحيَّف خزائنه ظلم ظالم، ولا تنفعه طاعة مطيع، ولا يزيد في ملكه عدل عادل، بل نفسه يظلم الظالم، وحظها يبخس العاصي، وإياها ينفع المطيع، وحظها يصيب العادل.
* * *
(1) انظر ما مضى 1: 523 - 524، وهذا الجزء 2:69.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ}
و"القرية" -التي أمرهم الله جل ثناؤه أن يدخلوها، فيأكلوا منها رغدا حيث شاءوا- فيما ذكر لنا: بيت المقدس * ذكر الرواية بذلك:
999 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أنبأنا عبد الرزاق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة في قوله:(ادخلوا هذه القرية)، قال: بيت المقدس.
1000 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا
أسباط، عن السدي:(وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) أما القرية، فقرية بيت المقدس.
1001 -
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:(وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية) ، يعني بيت المقدس.
1002 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: سألته -يعني ابن زيد- عن قوله: (ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم) قال: هي أريحا، وهي قريبة من بيت المقدس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا}
يعني بذلك: فكلوا من هذه القرية حيث شئتم عيشا هنيا واسعا بغير حساب. وقد بينا معنى"الرغد" فيما مضى من كتابنا، وذكرنا أقوال أهل التأويل فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا}
أما "الباب" الذي أمروا أن يدخلوه، فإنه قيل: هو باب الحطة من بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
1003 -
حدثني محمد بن عمرو الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(ادخلوا الباب سجدا) قال: باب الحطة، من باب إيلياء، من بيت المقدس.
1004 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(1) انظر ما مضى 1: 515 - 516.
1005 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:(وادخلوا الباب سجدا) ، أما الباب فباب من أبواب بيت المقدس.
1006 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(وادخلوا الباب سجدا) أنه أحد أبواب بيت المقدس، وهو يدعى باب حطة. وأما قوله:(سجدا) فإن ابن عباس كان يتأوله بمعنى الركع.
1007 -
حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:(ادخلوا الباب سجدا)، قال: ركعا من باب صغير.
1008 -
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:(ادخلوا الباب سجدا)، قال: أمروا أن يدخلوا ركعا.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"السجود" الانحناء لمن سُجد له معظَّما بذلك. فكل منحن لشيء تعظيما له فهو"ساجد". ومنه قول الشاعر: (1)
بجَمْع تضل البُلْقُ في حَجَراته
…
ترى الأكْم منه سجدا للحوافر (2)
(1) هو زيد الخيل بن مهلهل الطائي، الفارس المشهور.
(2)
سيأتي بعد في هذا الجزء 1: 289 (بولاق)، والكامل 1: 258، والمعاني الكبير: 890، والأضداد لابن الأنباري: 256، وحماسة ابن الشجري: 19، ومجموعة المعاني: 192، وغيرها. والباء في قوله "بجمع" متعلقة ببيت سالف هو: بَنِي عَامِرٍ، هَلْ تَعْرِفُونَ إِذَا غَدَا
…
أَبُو مِكْنَفٍ قَدْ شَدَّ عَقْدَ الدَّوَابِرِ?
والبلق جمع أبلق وبلقاء: الفرس يرتفع تحجيلها إلى الفخذين. والحجرات جمع حجرة (بفتح فسكون) : الناحية. والأكم (بضم فسكون، وأصلها بضمتين) جمع إكام، جمع أكمة: وهي تل يكون أشد ارتفاعا مما حوله، دون الجبل، غليظ فيه حجارة. قال ابن قتيبة في المعاني الكبير:"يقول: إذا ضلت البلق فيه مع شهرتها فلم تعرف، فغيرها أحرى أن يضل. يصف كثرة الجيش، ويريد أن الأكم قد خشعت من وقع الحوافر". وفي المطبوعة هنا "فيه" والجيد ما أثبته، والضمير في "منه" للجيش أو الجمع.
يعني بقوله:"سجدا" خاشعة خاضعة. ومن ذلك قول أعشى بني قيس بن ثعلبة:
يراوح من صلوات المليك
…
طورا سجودا وطورا جؤارا (1)
فذلك تأويل ابن عباس قوله: (سجدا) ركعا، لأن الراكع منحن، وإن كان الساجد أشد انحناء منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُولُوا حِطَّةٌ}
وتأويل قوله: (حطة) ، فعلة، من قول القائل:"حط الله عنك خطاياك فهو يحطها حطة"، بمنزلة الردة والحِدة والمِدة من حددت ومددت.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويله. فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك: (2)
1009 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر:(وقولوا حطة)، قال قال: الحسن وقتادة: أي احطُط عنا خطايانا.
1010 -
حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (وقولوا
(1) ديوانه: 41، وسيأتي في 18: 28 (بولاق)، ومعه بيت آخر في 14: 82 (بولاق) راوح يراوح مراوحة: عمل عملين في عمل، يعمل ذامرة وذا مرة، قال لبيد يصف فرسا. وولّى عامدا لِطِيات فَلْج
…
يراوح بين صون وابتذال
وقوله: "من صلوات""من" هنا لبيان الجنس، مثل قوله تعالى: يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق". وحذف"بين" التي تقتضيها"يراوح"، لدلالة ما يأتي عليها، وهو قوله: "طورا. . وطورا". والجؤار: رفع الصوت بالدعاء مع تضرع واستغاثة وجزع. جأر إلى ربه يجأر جؤارا.
(2)
في المطبوعة: "ذلك منهم" بالزيادة.
حطة) ، يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئتكم. (1)
1011 -
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:(قولوا حطة) قال: يحط عنكم خطاياكم.
1012 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:(حطة) ، مغفرة.
10113 -
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:(حطة)، قال: يحط عنكم خطاياكم.
1014 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في قوله:(وقولوا حطة)، قال: سمعنا أنه: يحط عنهم خطاياهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قولوا"لا إله إلا الله"، كأنهم وجهوا تأويله: قولوا الذي يحط عنكم خطاياكم، وهو قول لا إله إلا الله.
* ذكر من قال ذلك:
1015 -
حدثني المثنى بن إبراهيم وسعد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قالا أخبرنا حفص بن عمر، قال حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة:(وقولوا حطة)، قال: قولوا،"لا إله إلا الله".
* * *
وقال آخرون بمثل معنى قول عكرمة، إلا أنهم جعلوا القول الذي أمروا بقيله: الاستغفار.
* ذكر من قال ذلك:
1016 -
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:(وقولوا حطة) قال: أمروا أن يستغفروا.
* * *
(1) في المطبوعة: "وخطاياكم".
وقال آخرون نظير قول عكرمة، إلا أنهم قالوا: القول الذي أمروا أن يقولوه، هو أن يقولوا: هذا الأمر حق كما قيل لكم.
* ذكر من قال ذلك:
1017 -
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(وقولوا حطة)، قال: قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم.
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله رفعت "الحطة".
فقال بعض نحويي البصرة: رفعت"الحطة" بمعنى"قولوا" ليكن منك حطة لذنوبنا، كما تقول للرجل: سَمْعُك.
وقال آخرون منهم: هي كلمة أمرهم الله أن يقولوها مرفوعة، وفرض عليهم قيلها كذلك.
وقال بعض نحويي الكوفيين: رفعت"الحطة" بضمير"هذه"، كأنه قال: وقولوا:"هذه" حطة. (1)
وقال آخرون منهم: هي مرفوعة بضمير معناه الخبر، كأنه قال: قولوا ما هو حطة، فتكون"حطة" حينئذ خبرا لـ "ما".
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أقرب عندي في ذلك إلى الصواب، وأشبه بظاهر الكتاب: أن يكون رفع"حطة" بنية خبر محذوف قد دل عليه ظاهر التلاوة، وهو دخولنا الباب سجدا حطة، فكفى من تكريره بهذا اللفظ، ما دل عليه الظاهر من التنزيل، وهو قوله:(وادخلوا الباب سجدا)، كما قال جل ثناؤه:
(1) الضمير: المضمر أو الإضمار، كما سلف في 1: 427 تعليق: 1، وقد رأينا أيضًا في كلام نقله الشريف المرتضى في أماليه 1: 334 عن أبي بكر بن الأنباري قال: "كاد، لا تضمر، ولابد من أن يكون منطوقا بها، ولو جاز ضميرها لجاز: قام عبد الله، بمعنى كاد عبد الله يقوم. . . "، وهي هنا بمعنى الإضمار لا شك. وسيأتي في الفقرة التالية أيضًا، بمعنى المضمر.
(وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ)[الأعراف: 164]، (1) يعني: موعظتنا إياهم معذرة إلى ربكم. فكذلك عندي تأويل قوله: (وقولوا حطة)، يعني بذلك: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية، وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: دخولنا ذلك سجدا حطة لذنوبنا. وهذا القول على نحو تأويل الربيع بن أنس وابن جريج وابن زيد، الذي ذكرناه آنفا.
(2)
قال أبوجعفر: وأما على تأويل قول عكرمة، فإن الواجب أن تكون القراءة بالنصب في"حطة"، لأن القوم إن كانوا أمروا أن يقولوا:"لا إله إلا الله"، أو أن يقولوا:"نستغفر الله"، فقد قيل لهم: قولوا هذا القول، ف"قولوا" واقع حينئذ على"الحطة"، لأن"الحطة" على قول عكرمة - هي قول"لا إله إلا الله"، وإذا كانت هي قول"لا إله إلا الله"، فالقول عليها واقع، كما لو أمر رجل رجلا بقول الخير فقال له:"قل خيرا" نصبا، ولم يكن صوابا أن يقول له:"قل خير"، إلا على استكراه شديد.
وفي إجماع القَرَأَةِ على رفع"الحطة"(3) بيان واضح على خلاف الذي قاله عكرمة من التأويل في قوله: (وقولوا حطة) . وكذلك الواجب على التأويل الذي رويناه عن الحسن وقتادة في قوله: (وقولوا حطة) ، (4) أن تكون القراءة في"حطة" نصبا. لأن من شأن العرب -إذا وضعوا المصادر مواضع الأفعال، وحذفوا الأفعال- أن ينصبوا المصادر. كما قال الشاعر:(5)
(1) قراءتنا: "معذرة" بالنصب في مصاحفنا. وقد ذكر الطبري في تفسير الآية 9: 63 (بولاق) أن الرفع قراءة عامة قراء الحجاز والكوفة والبصرة، وقرأ بعض أهل الكوفة"معذرة" بالنصب
(2)
من هنا أول جزء في التجزئة القديمة التي نقل عنها كاتب مخطوطتنا. وأولها: بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر برحمتك
(3)
في المطبوعة"القراء"، كما جرت عليه في كل ما مضى
(4)
انظر رقم: 1010 فيما سلف.
(5)
هو الفرزدق
أبيدوا بأيدي عصبة وسيوفهم
…
على أمهات الهام ضربا شآميا (1)
وكقول القائل للرجل:"سمعا وطاعة" بمعنى: أسمع سمعا وأطيع طاعة، وكما قال جل ثناؤه:(معاذ الله)[يوسف: 23] بمعنى: نعوذ بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {نَغْفِرْ لَكُمْ}
يعني بقوله: (نغفر لكم) نتغمد لكم بالرحمة خطاياكم، ونسترها عليكم، فلا نفضحكم بالعقوبة عليها.
* * *
وأصل "الغفر" التغطية والستر، فكل ساتر شيئا فهو غافره. ومن ذلك قيل للبيضة من الحديد التي تتخذ جُنة للرأس"مغفر"، لأنها تغطي الرأس وتجنه. ومثله"غمد السيف"، وهو ما تغمده فواراه. (2) ولذلك قيل لزئبر الثوب:"غفرة"، لتغطيته الثوب، (3) وحوله بين الناظر والنظر إليه. ومنه قول أوس بن حجر:
(1) ديوانه: 890 في قصيدة يمدح فيها يزيد عبد الملك، ويذكر إيقاعه بيزيد بن المهلب في سنة 102 (انظر خبره في تاريخ الطبري 8: 151 - 160) . ورواية ديوانه.
"أناخوا بأيدى طاعة، وسيوفهم" قوله:"أناخوا"، أي ذلوا وخضعوا، أو صرعوا فماتوا، كأنهم إبل أناخت واستقرت. وقوله:"أيدي طاعة"، أي أهل طاعة.
(2)
في المطبوعة "ومنه غمد السيف"، وهذا يجعل الكلام مضطربا مقحما، فرجح عندي أن تكون"ومنه"، و"مثله" لأنه فسر"نغفر" بقوله"نتغمد". وفي المطبوعة:" ما يغمده فيواريه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3)
في المطبوعة:"غفر". والغفر جمع غفرة، وزئبر الثوب: هو ما يعلو الثوب الجديد من مائه، كالذي يعلو القطيفة والخز، ويسمونه"درز الثوب" أيضًا. وفي المطبوعة:"لتغطيته العورة.. والنظر إليها"، وهي عبارة غريبة فاسدة، والذي في المخطوطة"لتغطيته الثوب" كما أثبتناها، يعني الزئبر كما وصفنا. ويقال غفر الثوب: إذا أثار زئبره، يكون كالمنتفش على وجه الثوب. هذا، وقد انتهت المخطوطة التي اعتمدنا عند قوله:"لتغطية الثوب". ويأتي بعدها خرم طويل سيستغرق أجزاء برمتها، كما سنبينه في مواضعه.
فلا أعتب ابن العم إن كان جاهلا
…
وأغفر عنه الجهل إن كان أجهلا (1)
يعني بقوله: وأغفر عنه الجهل: أستر عليه جهله بحلمي عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {خَطَايَاكُمْ}
و"الخطايا" جمع"خطية" بغير همز، كما"المطايا" جمع"مطية"، والحشايا جمع حشية. وإنما ترك جمع"الخطايا" بالهمز، لأن ترك الهمز في"خطيئة" أكثر من الهمز، فجمع على"خطايا"، على أن واحدتها غير مهموزة. ولو كانت"الخطايا" مجموعة على"خطيئة" بالهمز: لقيل خطائي على مثل قبيلة وقبائل، وصحيفة وصحائف. وقد تجمع"خطيئة" بالتاء، فيهمز فيقال"خطيئات". و"الخطيئة" فعيلة، من " خَطِئَ الرجل يخطأ خِطْأ "، وذلك إذا عدل عن سبيل الحق. ومنه قول الشاعر:(2)
وإن مُهَاجِرَيْن تَكَنَّفاه
…
لعمر الله قد خطئا وخابا (3)
يعني: أضلا الحق وأثما.
* * *
(1) ديوانه، قصيدة" 31. وهذه الرواية جاءت في شرح شواهد المغني: 137، وأما في سائر الكتب:"إن كان ظالما"، وهي أجود. وقوله:"أجهل" بمعنى جاهل، كما قالوا"أوجل" بمعنى وجل، وأميل بمعنى مائل، وأوحد بمعنى واحد، وغيرها. ورواية صدر البيت على الصواب:"ألا أعتب" كما في المفضليات 590 وغيره، أو"وقد أعتب" كما في القرطين 2:69. ويروى"ولا أشتم ابن العم". يقول: أبلغ رضاه إذا ظلم او جهل، فأترك له ما لا يحب إلى ما يرضاه.
(2)
هو أمية بن الأسكر (طبقات فحول الشعراء: 159 - 160)
(3)
أمالي القالي 3: 109، وكتاب المعمرين: 68 والخزانة 2: 405، ويروى صدره"أتاه مهاجران تكنفاه". وأما عجزه فاختلفت رواياته:"بترك كبيرة خطئا. . " و"ليترك شيخه خطئا. . "، "ففارق شيخه،. . " وكان أمية قد أسن، عمر في الجاهلية عمرا طويلا، وألفاه الإسلام هرما. ثم جاء زمن عمر، فخرج ابنه كلاب غازيا، وتركه هامة اليوم أو غد. فقال أبياتا منها هذا للبيت، فلما سمعها عمر، كتب إلى سعد بن أبي وقاص: أن رحل كلاب بن أمية بن الأسكر، فرحله. وله مع عمر في هذه الحادثة قصة جيدة (في القالي 1: 109) .
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَسَنزيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) }
وتأويل ذلك ما روي لنا عن ابن عباس، وهو ما:-
1018 -
حدثنا به القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:(وسنزيد المحسنين) ، من كان منكم محسنا زيد في إحسانه، ومن كان مخطئا نغفر له خطيئته.
فتأويل الآية: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية مباحا لكم كل ما فيها من الطيبات، موسعا عليكم بغير حساب؛ وادخلوا الباب سجدا، وقولوا: سجودنا هذا لله حطة من ربنا لذنوبنا يحط به آثامنا، نتغمد لكم ذنوب المذنب منكم فنسترها عليه، ونحط أوزاره عنه، وسنزيد المحسن منكم - إلى إحساننا السالف عنده - إحسانا. ثم أخبر الله جل ثناؤه عن عظيم جهالتهم، وسوء طاعتهم ربهم وعصيانهم لأنبيائهم، واستهزائهم برسله، مع عظيم آلاء الله عز وجل عندهم، وعجائب ما أراهم من آياته وعبره، موبخا بذلك أبناءهم الذين خوطبوا بهذه الآيات، ومعلمهم أنهم إن تعدوا (1) في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم، وجحودهم نبوته، مع عظيم إحسان الله بمبعثه فيهم إليهم، وعجائب ما أظهر على يده من الحجج بين أظهرهم - أن يكونوا كأسلافهم الذين وصف صفتهم، وقص علينا أنباءهم في
(1) سياق الجملة: ". . إن تعدوا. . أن يكونوا"، و"إن" هنا، نافية بمعنى"ما"، كالتي في قوله:"قل إن أدري أقريب ما توعدون"، وقوله:"إن أدري لعله فتنة لكم".
هذه الآيات، فقال جل ثناؤه:(فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء) الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}
وتأويل قوله: (فبدل)، فغير. ويعني بقوله:(الذين ظلموا)، الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله. ويعني بقوله:(قولا غير الذي قيل لهم) ، بدلوا قولا غير الذي أمروا أن يقولوه، فقالوا خلافه. وذلك هو التبديل والتغيير الذي كان منهم. وكان تبديلهم - بالقول الذي أمروا أن يقولوا - قولا غيره، (1) ما:-
1019 -
حدثنا به الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر عن همام بن منبه، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله لبني إسرائيل:"ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة نغفر لكم خطاياكم"، فبدلوا ودخلوا الباب يزحفون على أستاهم، وقالوا: حبة في شعيرة. (2)
1020 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة وعلي بن مجاهد قالا حدثنا محمد بن إسحاق، عن صالح بن كيسان، عن صالح مولى التوأمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:-
1021 -
وحدثت عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد
(1) قوله: "قولا" مفعول"تبديلهم". وأما خبر"كان" فهو قوله: "ما حدثنا به الحسن. . . ".
(2)
الحديث: 1019 - رواه أحمد في المسند: 8213 (ج 2 ص 318 حلبي) ، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد، ولكن بلفظ"حبة في شعرة". وكذلك رواه البخاري 6: 312، و8: 228- 229 (فتح الباري)، من طريق عبد الرازق. وذكر الحافظ (8: 229) أن لفظ "شعرة" رواية أكثر رواة البخاري، وأن رواية الكشميهني"شعيرة". وذكره ابن كثير 1: 180، ونسبه أيضًا لمسلم والترمذي، من رواية عبد الرزاق.
بن جبير، أو عن عكرمة، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: دخلوا الباب - الذي أمروا أن يدخلوا منه سجدا - يزحفون على أستاههم، يقولون: حنطة في شعيرة. (1)
1022 -
وحدثني محمد بن عبد الله المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن معمر، عن همام، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:(حطة)، قال: بدلوا فقالوا: حبة. (2)
1023 -
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي سعيد، عن أبي الكنود، عن عبد الله:(ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) قالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فأنزل الله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
1024 -
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:(ادخلوا الباب سجدا) قال: ركوعا - من باب صغير، فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم ويقولون: حنطة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
1025 -
حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد، عن ابن عباس قال: أمروا
(1) الحديث: 1020، 1021 - هو الحديث السابق، ولكن رواه الطبري هنا بإسنادين. أحدهما صحيح متصل، والآخر ضعيف فيه راو مبهم بين ابن إسحاق ومحمد ابن أبي محمد.
صالح بن كيسان المدني: تابعي ثقة. وصالح مولى التوأمة: هو ابن نبهان، وهو ثقة أيضًا، إلا أنه تغير بأخرة، فمن روى عنه قديما فحديثه صحيح. وصالح بن كيسان قديم، وهو بلديه، فالراجح أن يكون ممن سمع منه قبل تغيره.
(2)
الحديث: 1022 - هو مختصر من الحديث: 1019. وقد رواه أحمد في المسند: 8095 (ج 2 ص 312 حلبي) عن يحيى بن آدم، عن ابن المبارك، بهذا الإسناد، مطولا. وكذلك رواه البخاري 8: 125 (فتح الباري) ، مطولا، من طريق عبد الرحمن بن مهدي. عن ابن المبارك.
أن يدخلوا ركعا ويقولوا: حطة. قال أمروا أن يستغفروا، قال: فجعلوا يدخلون من قبل أستاههم من باب صغير ويقولون: حنطة - يستهزئون. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
1026 -
حدثنا الحسن بن يحيي قال، أنبأنا عبد الرازق قال، أنبأنا معمر، عن قتادة والحسن:(ادخلوا الباب سجدا) قالا دخلوها على غير الجهة التي أمروا بها، فدخلوها متزحفين على أوراكهم، وبدلوا قولا غير الذي قيل لهم، فقالوا حبة في شعيرة.
1027 -
حدثني محمد بن عمرو الباهلي. قال، حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا: حطة، وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا، ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة. (1)
1028 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا المسجد ويقولوا: حطة. وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رءوسهم، فلم يسجدوا ودخلوا على أستاهم إلى الجبل -وهو الجبل الذي تجلى له ربه- وقالوا: حنطة. فذلك التبديل الذ قال الله عز وجل: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) . (2)
1029 -
حدثني موسى بن هارون الهمداني [قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة الهمداني]،عن ابن مسعود أنه قال: إنهم قالوا:" هطى سمقا يا ازبة هزبا"، وهو بالعربية: حبة حنطة حمراء مثقوبة فيها شعيرة سوداء. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
1030 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش،
(1) الأثر: 1027. سيأتي تمامه في رقم: 1116.
(2)
الأثر: 1028 - انظر ما سيأتي رقم: 1117، فهو منه.
عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:(وادخلوا الباب سجدا) قال: فدخلوا على أستاهم مقنعي رءوسهم.
1031 -
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي عن النضر بن عدي، عن عكرمة:(وادخلوا الباب سجدا) فدخلوا مقنعي رءوسهم - (وقولوا حطة) فقالوا: حنطة حمراء فيها شعيرة. فذلك قوله: (فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
1032 -
حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس:(وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة)، قال: فكان سجود أحدهم على خده. و (قولوا حطة) نحط عنكم خطاياكم، فقالوا: حنطة. وقال بعضهم: حبة في شعيرة، فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم.
1033 -
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:(وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة) يحط الله بها عنكم ذنبكم وخطيئاتكم، قال: فاستهزءوا به - يعني بموسى - وقالوا: ما يشاء موسى أن يلعب بنا إلا لعب بنا، حطة حطة!! أي شيء حطة؟ وقال بعضهم لبعض: حنطة.
1034 -
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، وقال ابن عباس: لما دخلوا قالوا: حبة في شعيرة.
1035 -
حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي سعد بن محمد بن الحسن قال، أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما دخلوا الباب قالوا: حبة في شعيرة،"فبدلوا قولا غير الذي قيل لهم".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ}
يعني بقوله: (فأنزلنا على الذين ظلموا) ، = على الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله، من تبديلهم القول - الذي أمرهم الله جل وعز أن يقولوه - قولا غيره، ومعصيتهم إياه فيما أمرهم به، وبركوبهم ما قد نهاهم عن ركوبه، = (رجزا من السماء بما كانوا ينسقون) .
* * *
و" الرِّجز " في لغة العرب، العذاب، وهو غير " الرُّجز ". (1) وذلك أن الرِّجز: البثر، (2) ومنه الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الطاعون أنه قال:"إنه رجز عذب به بعض الأمم الذين قبلكم".
1036 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن هذا الوجع -أو السقم- رجز عذب له بعض الأمم قبلكم". (3)
1037 -
وحدثني أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة قال، حدثنا عمر بن حفص قال، حدثنا أبي، عن الشيباني، عن رياح بن عبيدة، عن عامر بن سعد قال: شهدت أسامة بن زيد عند سعد بن مالك يقول: قال رسول الله صلى
(1) الرجز (بضم فسكون)، وهو الذي جاء في قوله تعالى في سورة المدثر:"والرجز فاهجر". وذكر الطبري فرق ما بينهما في 29: 92 (بولاق) فقال: "الرجز بضم الراء. . . الأوثان"
(2)
البثر: خراج صغار، كالذي يكون من الطاعون والجدري.
(3)
الحديث: 1036 - إسناده صحيح. وقد ذكره ابن كثير 1: 182، وقال:"وهذا الحديث أصله مخرج في الصحيحين، من حديث الزهري، ومن حديث مالك عن محمد بن المنكدر وسالم أبي النضر - عن عامر بن سعد، بنحوه". ورواه أحمد في المسند، من طريق الزهري (5: 207 - 208 حلبي) . ورواية أيضًا (5: 209) ، من طريق حبيب بن أبي ثابت، عن إبراهيم بن سعد، عن أسامة بن زيد، مطولا.
الله عليه وسلم: إن الطاعون رجز أنزل على من كان قبلكم - أو على بني إسرائيل. (1)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
1038 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(رجزا)، قال: عذابا.
1039 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء)، قال: الرجز، الغضب.
1040 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قيل لبني إسرائيل: - ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة، فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم - بعث الله جل وعز عليهم الطاعون، فلم يبق منهم أحدا. وقرأ:(فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون)، قال: وبقي الأبناء = ففيهم الفضل والعبادة -التي توصف في بني إسرائيل- والخير = وهلك الأباء كلهم، أهلكهم الطاعون.
1041 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: االرِّجز العذاب. وكل شيء في القرآن" رِجز "، فهو عذاب.
(1) الحديث 1037 - وهذا إسناد آخر صحيح، للحديث السابق. أبو شيبة بن أبي بكر بن أبي شيبة: هو"إبراهيم بن عبد الله بن محمد"، وهو ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو زرعة وأبو حاتم، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 /1/ 110. عمر بن حفص بن غياث: ثقة، روى عنه البخاري ومسلم في الصحيحين. أبوه حفص بن غياث: ثقة مأمون، معروف، أخرج له الجماعة. الشيباني: هو أبو إسحاق، سليمان بن أبي سليمان، ثقة حجة. رياح بن عبيدة: هو بكسر الراء وفتح الياء التحتية المخففة، ووقع في المطبوعة"رباح" بالوحدة، وهو تصحيف. و"عبيدة" بفتح العين وكسر الباء الموحدة، ورياح هذا بصري ثقة، وثقه ابن معين وأبو زرعة، وهو مترجم في التهذيب 3: 299 - 300، والكبير للبخاري 2 / 1 /300، وابن أبي حاتم 1 / 2 /511، والمشتبه للذهبي، ص:212. وهو غير"رياح بن عبيدة السلمى الكوفي"، فرق بينهما المزى في التهذيب. والذهبي في المشتبه. وأنكر الحافظ ابن حجر ذلك على المزى، ولكنه تبع الذهبي في تبصير المنتبه، ولم يعقب عليه، وهو الصواب، إن شاء الله.
1042 -
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(رجزا)، قال: كل شيء في كتاب الله من " الرِّجز " يعني به العذاب.
* * *
وقد دللنا على أن تأويل " الرِّجز" العذاب. وعذاب الله جل ثناؤه أصناف مختلفة. وقد أخبر الله جل ثناؤه أنه أنزل على الذين وصفنا أمرهم الرجز من السماء. وجائز أن يكون ذلك طاعونا، وجائز أن يكون غيره. ولا دلالة في ظاهر القرآن ولا في أثر عن الرسول ثابت، (1) أي أصناف ذلك كان.
فالصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله عز وجل: فأنزلنا عليهم رجزا من السماء بفسقهم.
غير أنه يغلب على النفس صحة ما قاله ابن زيد، للخبر الذي ذكرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الطاعون أنه رجز، وأنه عذب به قوم قبلنا. وإن كنت لا أقول إن ذلك كذلك يقينا، لأن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بيان فيه أي أمة عذبت بذلك. وقد يجوز أن يكون الذين عذبوا به، كانوا غير الذين وصف الله صفتهم في قوله:(فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59) }
وقد دللنا -فيما مضى من كتابنا هذا- على أن معنى"الفسق"، الخروج من الشيء. (2)
(1) انظر تفسير قوله"ظاهر القرآن" فيما مضى: 2: 15 والمراجع.
(2)
انظر ما سلف 1: 409 - 410، وقد ذكر الآية هناك في أثر عن ابن عباس، فيه:"أي بما بعدوا عن امري"، (ص 410) .
فتأويل قوله: (بما كانوا يفسقون) إذا: بما كانوا يتركون طاعة الله عز وجل، فيخرجون عنها إلى معصيته وخلاف أمره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ}
يعني بقوله: (وإذ استسقى موسى لقومه) ، وإذ استسقانا موسى لقومه، أي سألنا أن نسقي قومه ماء. فترك ذكر المسئول ذلك، والمعنى الذي سأل موسى، (1) إذْ كان فيما ذكر من الكلام الظاهر دلالة على معنى ما ترك.
وكذلك قوله: (فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا)، مما استغني بدلالة الظاهر على المتروك منه. وذلك أن معنى الكلام: فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فضربه، فانفجرت. فترك ذكر الخبر عن ضرب موسى الحجر، إذ كان فيما ذكر دلالة على المراد منه.
وكذلك قوله: (قد علم كل أناس مشربهم)، إنما معناه: قد علم كل أناس منهم مشربهم. فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن"أناس" جمع لا واحد له من لفظه، (2) وأن"الإنسان" لو جمع على لفظه لقيل: أناسيّ وأناسية. (3)
* * *
(1) قوله" والمعنى الذي سأل موسى"، يعني"والشيء" وهو الماء
(2)
في المطبوعة: "ان الناس جمع لا واحد له"، وقد مضى ذلك، ولكنه هنا أراد"أناس"، المذكور في الآية، وهو أيضًا جمع لا واحد له من لفظه، وإن قال بعضهم إنه جمع إنس
(3)
انظر ما سلف 1: 268.
وقوم موسى هم بنو إسرائيل، الذين قص الله عز وجل قصصهم في هذه الآيات. وإنما استسقى لهم ربه الماء في الحال التي تاهوا فيها في التيه، كما:-
1043 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة قوله:(وإذ استسقى موسى لقومه) الآية قال، كان هذا إذْ هم في البرية اشتكوا إلى نبيهم الظمأ، فأمروا بحجر طوري - أي من الطور - أن يضربه موسى بعصاه. فكانوا يحملونه معهم، فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط عين معلومة مستفيض ماؤها لهم.
1044 -
حدثني تميم بن المنتصرقال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا أصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ذلك في التيه؛ ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجُعل بين ظهرانيهم حجر مربع، وأمر موسى فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا في كل ناحية منه ثلاث عيون، لكل سبط عين؛ ولا يرتحلون منقلة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان به معهم في المنزل الأول. (1) .
1045 -
حدثني عبد الكريم قال، أخبرنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة عن ابن عباس قال: ذلك في التيه. ضرب لهم موسى الحجر، فصار فيه اثنتا عشرة عينا من ماء، لكل سبط منهم عين يشربون منها.
1046 -
وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) لكل سبط منهم عين. كل ذلك كان في تيههم حين تاهوا.
1047 -
حدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
(1) المنقلة: المرحلة من مراحل السفر، والجمع مناقل.
، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(وإذ استسقى موسى لقومه)، قال: خافوا الظمأ في تيههم حين تاهوا، فانفجر لهم الحجر اثنتي عشرة عينا، ضربه موسى. قال ابن جريج: قال ابن عباس:"الأسباط" بنو يعقوب، كانوا اثني عشر رجلا كل واحد منهم ولد سبطا، أمة من الناس. (1)
1048 -
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: استسقى لهم موسى في التيه، فسقوا في حجر مثل رأس الشاة، قال: يلقونه في جوانب الجوالَق إذا ارتحلوا، (2) ويقرعه موسى بالعصا إذا نزل، فتنفجر منه اثنتا عشرة عينا، لكل سبط منهم عين، فكان بنو إسرائيل يشربون منه، حتى إذا كان الرحيل استمسكت العيون، وقيل به فألقى في جانب الجوالق (3) . فإذا نزل رمى به، فقرعه بالعصا، فتفجرت عين من كل ناحية مثل البحر.
1049 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثني أسباط، عن السدي قال: كان ذلك في التيه.
* * *
وأما قوله: (قد علم كل أناس مشربهم) ، فإنما أخبر الله عنهم بذلك. لأن معناهم -في الذي أخرج الله جل وعز لهم من الحجر، الذي وصف جل ذكره في هذه الآية صفته- (4) من الشرب كان مخالفا معاني سائر الخلق فيما أخرج الله لهم من المياه من الجبال والأرضين، التي لا مالك لها سوى الله عز وجل. وذلك
(1) في المطبوعة: "ولد سبطا وأمة من الناس"، والصواب حذف واو العطف فإن قوله "أمة من الناس" تفسير قوله"سبطا".
(2)
الجوالق: وعاء كبير منسوج من صوف أو شعر، تحمل فيه الأطعمة، وهو الذي نسميه في بلادنا"الشوال" محرفة من"الجوالق".
(3)
"قيل به" مبني للمجهول من"قال به". وقال بالشيء: رفعه أو حمله. والعرب تجعل القول عبارة عن جميع الأفعال وتطلقه على غير الكلام واللسان. يقولون: قال برجله: إذا بدأ يتقدم ومشى، أو إذا أشار بها للركل. ويقولون: قال بالماء على يده أي قلبه وصبه. وما أشبه ذلك. وقد مضى مثل ذلك آنفًا ص 54 تعليق: 3، ص: 64 تعليق: 4.
(4)
سياق الجملة "لأن معناهم. . من الشرب، كالذي مخالفا معاني"، وفصل كعادته فيما بينا مرارا. يعني لأن شربهم كان مخالفا شرب سائر الناس. .
أن الله كان جعل لكل سبط من الأسباط الاثني عشر، عينا من الحجر الذي وصف صفته في هذه الآية، يشرب منها دون سائر الأسباط غيره، لا يدخل سبط منهم في شرب سبط غيره. وكان مع ذلك لكل عين من تلك العيون الاثنتي عشرة، موضع من الحجر قد عرفه السبط الذي منه شربه. فلذلك خص جل ثناؤه هؤلاء بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم كانوا عالمين بمشربهم دون غيرهم من الناس. إذ كان غيرهم -في الماء الذي لا يملكه أحد- شركاء في منابعه ومسايله. وكان كل سبط من هؤلاء مفردا بشرب منبع من منابع الحجر - دون سائر منابعه - خاص لهم دون سائر الأسباط غيرهم. فلذلك خصوا بالخبر عنهم: أن كل أناس منهم قد علموا مشربهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ}
وهذا أيضا مما استغني بذكر ما هو ظاهر منه، عن ذكره ما ترك ذكره. وذلك أن تأويل الكلام:(فقلنا اضرب بعصاك الحجر) ، فضربه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، قد علم كل أناس مشربهم، فقيل لهم: كلوا واشربوا من رزق الله. أخبر الله جل ثناؤه أنه أمرهم بأكل ما رزقهم في التيه من المن والسلوى، وبشرب ما فجر لهم فيه من الماء من الحجر المتعاور، (1) الذي لا قرار له في الأرض، ولا سبيل إليه [إلا] لمالكيه، (2) يتدفق بعيون الماء، ويزخر بينابيع العذب الفرات، بقدرة ذي الجلال والإكرام.
ثم تقدم جل ذكره إليهم (3) - مع إباحتهم ما أباح، وإنعامه بما
(1) الحجر المتعاور: الحجر المتبادل، ينقل من يد إلى يد. من تعاوروا الشيء: إذا تبادلوه، ولا يتعاور شيء حتى يكون منقولا، أما الثابت فلا يتعاوره الناس ولا يتبادلونه.
(2)
في المطبوعة: "لا سبيل إليه لمالكيه"، وهو كلام بلا معنى. والصواب ما أثبتناه بزيادة"إلا" ويدل على صواب ذلك ما مضى منذ قليل في تفسير ما سبق من الآية.
(3)
تقدم إليه بكذا: إذا أمره.
أنعم به عليهم من العيش الهنيء - بالنهي عن السعي في الأرض فسادا، والعَثَا فيها استكبارا، فقال جل ثناؤه لهم:(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) }
يعني بقوله: (لا تعثوا) لا تطغوا، ولا تسعوا في الأرض مفسدين. كما:-
1050 -
حدثني به المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(ولا تعثوا في الأرض مفسدين)، يقول: لا تسعوا في الأرض فسادا.
1051 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) لا تعث: لا تطغ.
1052 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، أي لا تسيروا في الأرض مفسدين.
1053 -
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، لا تسعوا في الأرض.
وأصل " العَثَا " شدة الإفساد، بل هو أشد الإفساد. (1) يقال منه: عَثِيَ فلان في الأرض" -إذا تجاوز في الإفساد إلى غايته-"يعثى عثا" مقصور، وللجماعة: هم يعثون. وفيه لغتان أخريان، إحداهما: "عثا يعثو عُثُوّا ". ومن قرأها بهذه اللغة، فإنه ينبغي له أن يضم الثاء من"يعثو"، ولا أعلم قارئا يقتدى بقراءته
(1) العثا: مصدر: عثى يعثى، كرضى يرضى، وهي لغة الحجاز. ولم أجد هذا المصدر إلا في تاج العروس. ولست أعلم أهو بفتح العين ام بكسرها. ولكني أستظهر أن يكون فتح العين هو الأرجح.
قرأ به. (1) ومن نطق بهذه اللغة مخبرا عن نفسه قال:"عثوت أعثو"، ومن نطق باللغة الأولى قال: عَثِيت أَعْثَى".
والأخرى منهما:"عاث يعيث عيثا وعيوثا وعيثانا، كل ذلك بمعنى واحد. ومن"العيث" قول رؤبة بن العجاج:
وعاث فينا مستحل عائث:
…
مُصَدِّق أو تاجر مقاعث (2)
يعني بقوله:"عاث فينا"، أفسد فينا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا}
قد دللنا -فيما مضى قبل- على معنى "الصبر" وأنه كف النفس وحبسها عن الشيء. (3) فإذ كان ذلك كذلك، فمعنى الآية إذا: واذكروا إذا قلتم -يا معشر بني إسرائيل-: لن نطيق حبس أنفسنا على طعام واحد - وذلك"الطعام الواحد"، هو ما أخبر الله جل ثناؤه أنه أطعمهموه في تيههم، وهو"السلوى"
(1)"القراءة سنة، ولا يقرأ بما قرأ به القراء". لسان العرب (عثى) .
(2)
ديوانه" 30. مستحل: قد استحل أموالهم واستباحها. والمصدق: هو العامل الذي يقبض زكاة أموال الناس، وهو وكيل الفقراء في القبض، وله أن يتصرف لهم بما يؤديه إليه اجتهاده، فربما جار إذا لم يكن من أهل الورع. قعث الشيء يقعثه: استأصله واستوعبه. وقعثه فانقعث: إذا قلعه من أصله فانقلع. ولم تذكر معاجم اللغة: " قاعث فهو مقاعث"، ولكنه لما أراد أن التاجر يأتي بظلمه وجوره وإغلائه السعر، فيستأصل أموال الناس ويقتلعها، والناس يدافعونه عن أموالهم - اشتق له من المفاعلة التي تكون بين اثنين: "قاعث فهو مقاعث"، أي يحاول استئصال أموال الناس، والناس يدافعونه عن أموالهم.
(3)
انظر ما مضى في هذا الجزء 2: 11
في قول بعض أهل التأويل، وفي قول وهب بن منبه هو"الخبز النقي مع اللحم" - فاسأل لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من البقل والقثاء، وما سمى الله مع ذلك، وذكر أنهم سألوه موسى.
* * *
وكان سبب مسألتهم موسى ذلك فيما بلغنا، ما: -
1054 -
حدثنا به بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد) قال: كان القوم في البرية قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كان لهم بمصر، فسألوه موسى. فقال الله تعالى:(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) .
1055 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(لن نصبر على طعام واحد)، قال: ملوا طعامهم، وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه قبل ذلك، قالوا:(ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها) الآية.
1056 -
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد)، قال: كان طعامهم السلوى، وشرابهم المن، فسألوا ما ذكر، فقيل لهم:(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) .
* * *
قال أبو جعفر: وقال قتادة: إنهم لما قدموا الشام فقدوا أطعمتهم التي كانوا يأكلونها، فقالوا:(ادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) ، وكانوا قد ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، فملوا ذلك، وذكروا عيشا كانوا فيه بمصر.
1057 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى
قال، سمعت ابن أبي نجيح في قوله عز وجل:(لن نصبر على طعام واحد) ، المن والسلوى، فاستبدلوا به البقل وما ذكر معه.
1058 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله سواء.
1059 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بمثله.
1060 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أُعطوا في التيه ما أُعطوا، فملوا ذلك وقالوا:(يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) .
1061 -
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أنبأنا ابن زيد قال: كان طعام بني إسرائيل في التيه واحدا، وشرابهم واحدا. كان شرابهم عسلا ينزل لهم من السماء يقال له المن، وطعامهم طير يقال له السلوى، يأكلون الطير ويشربون العسل، لم يكونوا يعرفون خبزا ولا غيره. فقالوا: يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها"، فقرأ حتى بلغ:(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) .
* * *
وإنما قال جل ذكره: (يخرج لنا مما تنبت الأرض) - ولم يذكر الذي سألوه أن يدعو ربه ليخرج لهم من الأرض، فيقول: قالوا ادع لنا ربك يخرج لنا كذا وكذا مما تنبته الأرض من بقلها وقثائها - لأن"من" تأتي بمعنى التبعيض لما بعدها، فاكتفي بها عن ذكر التبعيض، إذ كان معلوما بدخولها معنى ما أريد بالكلام الذي هي فيه. كقول القائل: أصبح اليوم عند فلان من الطعام" يريد شيئا منه.
وقد قال بعضهم:"من" ههنا بمعنى الإلغاء والإسقاط. كأن معنى الكلام
عنده: يخرج لنا ما تنبت الأرض من بقلها. واستشهد على ذلك بقول العرب:"ما رأيت من أحد" بمعنى: ما رأيت أحدا، وبقول الله:(وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ)[البقرة: 271]، وبقولهم:"قد كان من حديث، فخل عني حتى أذهب"، يريدون: قد كان حديث.
وقد أنكر من أهل العربية جماعة أن تكون"من" بمعنى الإلغاء في شيء من الكلام، وادعوا أن دخولها في كل موضع دخلت فيه، مؤذن أن المتكلم مريد لبعض ما أدخلت فيه لا جميعه، وأنها لا تدخل في موضع إلا لمعنى مفهوم.
فتأويل الكلام إذا - على ما وصفنا من أمر"من"(1) -: فادع لنا ربك يخرج لنا بعض ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها.
* * *
و"البقل" و"القثاء" و"العدس" و"البصل"، هو ما قد عرفه الناس بينهم من نبات الأرض وحبها.
* * *
وأما"الفوم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه. فقال بعضهم: هو الحنطة والخبز.
* ذكر من قال ذلك:
1062 -
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الفوم:، الخبز.
1063 -
حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد قوله:(وفومها) قالا خبزها.
1064 -
حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ومحمد بن عمرو قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(وفومها)، قال: الخبز.
(1) في المطبوعة: "على ما وصفنا من أمر من ذكرنا"، و"ذكرنا" زائدة ولا شك، كما تبين من سياق كلامه السالف والآتي.
1065 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة والحسن: الفوم، هو الحب الذي يختبزه الناس.
1066 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن بمثله.
1067 -
حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:(وفومها) قال: الحنطة.
1068 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط بن نصر عن السدي:(وفومها) ، الحنطة.
1069 -
حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن وحصين، عن أبي مالك في قوله:(وفومها) ، الحنطة.
1070 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن قتادة قال: الفوم، الحب الذي يختبز الناس منه.
1071 -
حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لى عطاء بن أبي رياح قوله:(وفومها)، قال: خبزها، قالها مجاهد.
1072 -
حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال لي ابن زيد: الفوم، الخبز.
1073 -
حدثني يحيى بن عثمان السهمي قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:(وفومها) يقول: الحنطة والخبز.
1074 -
حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(وفومها) قال: هو البر بعينه، الحنطة.
1075 -
حدثنا علي بن الحسن قال، حدثنا مسلم الجرمي قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن رشدين بن كريب، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله عز
وجل: (وفومها) قال: الفوم، الحنطة بلسان بني هاشم. (1)
1076 -
حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد العزيز بن منصور، عن نافع بن أبي نعيم، أن عبد الله بن عباس سئل عن قول الله:(وفومها)، قال: الحنطة، أما سمعت قول أُحَيْحة بن الجُلاحح وهو يقول:
قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا
…
وَرَد المدينة عن زراعة فوم (2)
* * *
وقال آخرون: هو الثوم.
* ذكر من قال ذلك:
1077 -
حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد قال: هو هذا الثوم.
1078 -
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفوم، الثوم.
* * *
وهو في بعض القراءات"وثومها".
* * *
(1) الحديث: 1075 - مسلم الجرمي: سبق أن رجحنا في: 154، 649، 846 أنه"الجرمي" بالجيم. وقد ثبت هنا في المطبوعة بالجيم على ما رجحنا. رشدين - بكسر الراء وسكون الشين المعجمعة وكسر الدال المهملة - بن كريب: ضعيف، بينا القول في ضعفه في شرح المسند:2571. وأبوه، كريب بن أبي مسلم: تابعي ثقة.
(2)
الحديث: 1076 - عبد الرحمن بن عبد الحكم المصري: ثقة، كان من أهل الحديث عالما بالتواريخ، صنف تاريخ مصر وغيره، كما في التهذيب، مات سنة 257. وهو مؤلف كتاب (فتوح مصر) المطبوع في أوربة. شيخه عبد العزيز بن منصور: لم أجد له ذكرا فيما بين يدي من المراجع، إلا في فتوح مصر، ص 40 س 7 - 8 قال ابن عبد الحكم هناك:"حدثنا عبد العزيز بن منصور اليحصبى، عن عاصم بن حكيم.." وشيخه، نافع: هو نافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم المدني، أحد القراء السبعة المعروفين وهو لم يدرك ابن عباس، إنما يروي عن التابعين، وله ترجمة في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 8، وابن أبي حاتم 4 / 1 /456 - 457، وتاريخ إصبهان لأبي نعيم 2: 326 - 327.
والبيت في اللسان (فوم) ، ونسبه لأبي محجن الثقفي، أنشده الأخفش له، وروايته:
قد كنت أحسبني كأغنى واحد
…
نزل المدينة. . .
وفي الروض الأنف 2: 45 نسبه لأحيحة، أو لأبي محجن، ورواه"سكن المدينة".
وقد ذكر أن تسمية الحنطة والخبز جميعا"فوما" من اللغة القديمة. حكي سماعا من أهل هذه اللغة:"فوموا لنا"، بمعنى اختبزوا لنا.
* * *
وذكر أن ذلك قراءة عبد الله بن مسعود:"وثومها" بالثاء. (1) فإن كان ذلك صحيحا، فإنه من الحروف المبدلة كقولهم:"وقعوا في عاثور شر: وعافور شر" وكقولهم""للأثافي، أثاثي؛ وللمغافير، مغاثير" وما أشبه ذلك مما تقلب الثاء فاء والفاء ثاء، لتقارب مخرج الفاء من مخرج الثاء. و"المغافير" شبيه بالشيء الحلو، يشبه بالعسل، ينزل من السماء حلوا، يقع على الشجر ونحوها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}
يعني بقوله: (قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، قال: لهم موسى: أتأخذون الذي هو أخس خطرا وقيمة وقدرا من العيش، بدلا بالذي هو خير منه خطرا وقيمة وقدرا؟ وذلك كان استبدالهم.
* * *
وأصل"الاستبدال": هو ترك شيء لآخر غيره مكان المتروك.
* * *
ومعنى قوله: (أدنى) أخس وأوضع وأصغر قدرا وخطرا. وأصله من قولهم:"هذا رجل دني بين الدناءة" و"إنه ليدنِّي في الأمور" بغير همز، إذا كان يتتبع خسيسها. وقد ذكر الهمز عن بعض العرب في ذلك، سماعا منهم. يقولون:"ما كنتَ دانئا، ولقد دنأتَ، (2) وأنشدني بعض أصحابنا عن غيره، أنه سمع بعض بني كلاب ينشد بيت الأعشى (3)
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 41
(2)
هذا كله من قول الفراء في معاني القرآن 1: 42. وكان في المطبوعة"ما كنت دنيا"، والصواب ما أثبته من كتاب الفراء.
(3)
الذي سمع هذا هو الفراء. انظر معاني القرآن له 1: 42، والطبري يجهله دائما
باسلةُ الوقعِ سرابيلها
…
بيض إلى دانِئِها الظاهر (1)
بهمز الدانئ، وأنه سمعهم يقولون:"إنه لدانئ خبيث" بالهمز. (2) فإن كان ذلك عنهم صحيحا، فالهمز فيه لغة، وتركه أخرى.
* * *
ولا شك أن من استبدل بالمن والسلوى البقل والقثاء والعدس والبصل والثوم، فقد استبدل الوضيع من العيش الرفيع منه.
* * *
وقد تأول بعضهم قوله: (الذي هو أدنى) بمعنى: الذي هو أقرب، ووجه قوله:(أدنى) ، إلى أنه أفعل من"الدنو" الذي هو بمعنى القرب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى قوله: (الذي هو أدنى) قاله عدد من أهل التأويل في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
1079 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قال:(أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)، يقول: أتستبدلون الذي هو شر بالذي هو خير منه.
1080 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج
(1) ديوانه: 108، وروايته"إلى جانبه الظاهر". يصف حصنا. قال قبل:
في مجدل شيد بنيانه
…
يزل عنه ظفر الطائر
يجمع خضراء لها سورة
…
تعصف بالدارع والحاسر
باسلة الوقع. . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في قوله:"سرابيلها" راجع إلى"خضراء" يقال: كتيبة خضراء، وهي التي غلب عليها لبس الحديد وعلاها سواده، والخضرة سواد عندهم. والسرابيل هنا: الدروع، جمع سربال: وهو كل ما لبس كالدرع وغيره. وقال الفراء:"يعني الدروع على خاصتها - يعني الكتيبة - إلى الخسيس منها". كأنه أراد: يلبسون الدروع من شريف إلى خسيس. وأما رواية الديوان: فالضمير في"جانبه"، راجع إلى"المجدل" وهي أبين الروايتين معنى وأصحهما.
(2)
في معاني الفراء زيادة بين قوسين من بعض النسخ: [إذا كان ماجنا]
عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(الذي هو أدنى) قال: أردأ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ}
وتأويل ذلك: فدعا موسى، فاستجبنا له، فقلنا لهم:"اهبطوا مصرا"، وهو من المحذوف الذي اجتزئ بدلالة ظاهره على ذكر ما حذف وترك منه.
* * *
وقد دللنا -فيما مضى- على أن معنى"الهبوط" إلى المكان، إنما هو النزول إليه والحلول به. (1)
* * *
فتأويل الآية إذا: وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد، فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. قال لهم موسى: أتستبدلون الذي هو أخس وأردأ من العيش، بالذي هو خير منه. فدعا لهم موسى ربه أن يعطيهم ما سألوه، فاستجاب الله له دعاءه، فأعطاهم ما طلبوا، وقال الله لهم:(اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم) .
* * *
ثم اختلف القَرَأَة في قراءة قوله (2)(مصرا) فقرأه عامة القَرَأَة: "مصرا" بتنوين"المصر" وإجرائه. وقرأه بعضهم بترك التنوين وحذف الألف منه. فأما الذين نونوه وأجروه، فإنهم عنوا به مصرا من الأمصار، لا مصرا بعينه. فتأويله -على قراءتهم-: اهبطوا مصرا من الأمصار، لأنكم في البدو، والذي طلبتم لا يكون في البوادي والفيافي، وإنما يكون في القرى والأمصار، فإن لكم -إذا هبطتموه- ما سألتم من العيش. وقد يجوز أن يكون بعض من قرأ ذلك
(1) انظر ما مضى 1: 534.
(2)
في المطبوعة: "الفراء"، ورددناها إلى الذي جرى عليه لفظ الطبري فيما سلف، في كل المواضع التي جروا على تبديلها من"قرأة"، إلى"قراء".
بالإجراء والتنوين، كان تأويل الكلام عنده:"اهبطوا مصرا" البلدة التي تعرف بهذا الاسم، وهي"مصر" التي خرجوا عنها. غير أنه أجراها ونونها اتباعا منه خط المصحف، لأن في المصحف ألفا ثابتة في"مصر"، فيكون سبيل قراءته ذلك بالإجراء والتنوين، سبيل من قرأ:(قواريرا قواريرا من فضة)[الإنسان: 15-16] منونة اتباعا منه خط المصحف. وأما الذي لم ينون"مصر" فإنه لا شك أنه عنى"مصر" التي تعرف بهذا الاسم بعينها دون سائر البلدان غيرها. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك، نظير اختلاف القَرَأَة في قراءته.
1081 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:(اهبطوا مصرا) ، أي مصرا من الأمصار، فإن لكم ما سألتم.
1082 -
وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(اهبطوا مصرا) من الأمصار، فإن لكم ما سألتم. فلما خرجوا من التيه، رفع المن والسلوى وأكلوا البقول.
1083 -
وحدثني المثنى قال، حدثني آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن قتادة في قوله:(اهبطوا مصرا) قال: يعني مصرا من الأمصار.
1084 -
وحدثنا القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:(اهبطوا مصرا) قال: مصرا من الأمصار. زعموا أنهم لم يرجعوا إلى مصر.
1085-
حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:(اهبطوا مصرا)، قال: مصرا من الأمصار. و"مصر" لا تُجْرَى في الكلام. فقيل: أي مصر. فقال: الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، وقرأ قول الله جل ثناؤه:(ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)[المائدة: 21] .
* * *
(1) انظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 42 - 43.
وقال آخرون: هي مصر التي كان فيها فرعون.
* ذكر من قال ذلك:
1086 -
حدثني المثنى، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(اهبطوا مصرا) قال: يعني به مصر فرعون.
1087 -
حدثنا عن عمار بن الحسن، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
ومن حجة من قال إن الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله: (اهبطوا مصرا)، مصرا من الأمصار دون"مصر" فرعون بعينها -: أن الله جعل أرض الشام لبني إسرائيل مساكن بعد أن أخرجهم من مصر. وإنما ابتلاهم بالتيه بامتناعهم على موسى في حرب الجبابرة، إذ قال لهم:(يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة: 21-24] ، فحرم الله جل وعز على قائلي ذلك -فيما ذكر لنا- دخولها حتى هلكوا في التيه. وابتلاهم بالتيهان في الأرض أربعين سنة، ثم أهبط ذريتهم الشأم، فأسكنهم الأرض المقدسة، وجعل هلاك الجبابرة على أيديهم مع يوشع بن نون - بعد وفاة موسى بن عمران. فرأينا الله جل وعز قد أخبر عنهم أنه كتب لهم الأرض المقدسة، ولم يخبرنا عنهم أنه ردهم إلى مصر بعد إخراجه إياهم منها، فيجوز لنا أن نقرأ:"اهبطوا مصر"، ونتأوله أنه ردهم إليها.
قالوا: فإن احتج محتج بقول الله جل ثناؤه: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)[الشعراء: 57-59] قيل لهم: (1) فإن الله جل ثناؤه إنما أورثهم ذلك، فملكهم إياها ولم يردهم إليها، وجعل مساكنهم الشأم.
* * *
وأما الذين قالوا: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: (اهبطوا مصرَ) مصرَ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: (فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ)[الشعراء: 57-59] وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ)[الدخان: 25-28]، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم، فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها، وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا:(2) وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود:"اهبطوا مصر" بغير ألف. قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها"مصر" بعينها.
* * *
قال أبوجعفر: والذي نقول به في ذلك أنه لا دلالة في كتاب الله على الصواب من هذين التأويلين، ولا خبر به عن الرسول صلى الله عليه وسلم يقطع مجيئه العذر. وأهل التأويل متنازعون تأويله، فأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال:(3) إن موسى سأل ربه أن يعطي قومه ما سألوه من نبات الأرض - على ما بينه الله جل وعز في كتابه - وهم في الأرض تائهون، فاستجاب الله لموسى دعاءه، وأمره أن يهبط بمن معه من قومه
(1) في المطبوعة: "قيل لهم"، وهو خطأ. والضمير في"له" راجع إلى قوله:"فإن احتج محتج".
(2)
قوله: "وأخرى"، أي وحجة أخرى. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 43
(3)
في المطبوعة: "عندنا والصواب"، وهو سهو ناسخ.
قرارا من الأرض التي تنبت لهم ما سأل لهم من ذلك، إذ كان الذي سألوه لا تنبته إلا القرى والأمصار، وأنه قد أعطاهم ذلك إذ صاروا إليه. وجائز أن يكون ذلك القرار"مصر"، وجائز أن يكون"الشأم".
فأما القراءة فإنها بالألف والتنوين: (اهبطوا مصرا) وهي القراءة التي لا يجوز عندي غيرها، لاجتماع خطوط مصاحف المسلمين، واتفاق قراءة القَرَأَة على ذلك. ولم يقرأ بترك التنوين فيه وإسقاط الألف منه، إلا من لا يجوز الاعتراض به على الحجة، (1) فيما جاءت به من القراءة مستفيضا بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ}
قال أبو جعفر: يعنى بقوله: (وضربت) أي فرضت. ووضعت عليهم الذلة وألزموها. من قول القائل:"ضرب الإمام الجزية على أهل الذمة" و"ضرب الرجل على عبده الخراج" يعني بذلك وضعه فألزمه إياه، ومن قولهم:"ضرب الأمير على الجيش البعث"، يراد به: ألزمهموه. (2)
* * *
وأما"الذلة" فهي"الفعلة" من قول القائل: ذل فلان يذل ذلا وذلة"، كـ "الصغرة" من "صغُر الأمر"، و "القِعدة" من "قعد". (3)
و"الذلة" هي الصغار الذي أمر الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن لا يعطوهم أمانا على القرار على ما هم عليه من كفرهم به وبرسوله - إلا أن يبذلوا الجزية عليه لهم، فقال عز وجل: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِر
(1) الحجة هنا: الذين يحتج بهم.
(2)
البعث: بعث الجند إلى الغزو.
(3)
لم أجد فيما بين يدي من الكتب من نص على صِغرة فرة" و"قعدة" مصدر على فعلة مثل: نشد الدابة نِشدة، ليس للهيئة، وإن وافقها في الوزن.
ِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [التوبة: 29] كما:-
1088 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:(وضربت عليهم الذلة) ، قالا يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون.
* * *
وأما"المسكنة" فإنها مصدر"المسكين". يقال:"ما فيهم أسكن من فلان"(1) و"ما كان مسكينا" و"لقد تمسكن مسكنة". ومن العرب من يقول:"تمسكن تمسكنا". و"المسكنة" في هذا الموضع مسكنة الفاقة والحاجة، وهي خشوعها وذلها، كما:-
1089 -
حدثني به المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:(والمسكنة) قال: الفاقة.
1090 -
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:(وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: الفقر.
1091 -
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(وضربت عليهم الذلة والمسكنة)، قال: هؤلاء يهود بني إسرائيل. قلت له: هم قبط مصر؟ قال: وما لقبط مصر وهذا، لا والله ما هم هم، ولكنهم اليهود، يهود بني إسرائيل.
* * *
فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه يبدلهم بالعز ذلا وبالنعمة بؤسا، وبالرضا عنهم غضبا، جزاء منه لهم على كفرهم بآياته، وقتلهم أنبياءه ورسله، اعتداء وظلما منهم بغير حق، وعصيانهم له، وخلافا عليه.
* * *
(1) قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: 42، وفسره فقال:"أي أفقر منه".
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (وباءوا بغضب من الله) ، انصرفوا ورجعوا. ولا يقال"باؤوا" إلا موصولا إما بخير، وإما بشر. يقال منه:"باء فلان بذنبه يبوء به بوءا وبواء". ومنه قول الله عز وجل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ)[المائدة: 29] يعني: تنصرف متحملهما وترجع بهما، قد صارا عليك دوني.
* * *
فمعنى الكلام إذا: ورجعوا منصرفين متحملين غضب الله، قد صار عليهم من الله غضب، ووجب عليهم منه سخط. كما:-
1092 -
حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:(وباؤوا بغضب من الله) فحدث عليهم غضب من الله.
1093 -
حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:(وباؤوا بغضب من الله) قال: استحقوا الغضب من الله.
* * *
وقدمنا معنى غضب الله على عبده فيما مضى من كتابنا هذا، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
(1) انظر ما سلف 1: 188 - 189.
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك" ضرب الذلة والمسكنة عليهم، وإحلاله غضبه بهم. فدل بقوله:"ذلك" - وهي يعني به ما وصفنا - على أن قول القائل:"ذلك يشمل المعاني الكثيرة إذا أشير به إليها.
* * *
ويعني بقوله: (بأنهم كانوا يكفرون)، من أجل أنهم كانوا يكفرون. يقول: فعلنا بهم -من إحلال الذل والمسكنة والسخط بهم- من أجل أنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق، كما قال أعشى بني ثعلبة:
مليكيةٌ جَاوَرَتْ بالحجا
…
ز قوما عداة وأرضا شطيرا (1) بما قد تَرَبَّع روض القطا
…
وروض التناضِب حتى تصيرا (2)
يعني بذلك: جاورت بهذا المكان، هذه المرأة، قوما عداة وأرضا بعيدة من أهله - لمكان قربها كان منه ومن قومه وبلده - (3) من تربعها روض القطا وروض التناضب.
(1) ديوانه: 67. مليكية، منسوبة إلى"المليك": وهو الملك، يعني من نبات الملوك. العداة، جمع عاد، وهو العدو. الشطير: البعيد، والغريب، أراد أنها في أرض مجهولة. وذكره الأرض في هذا البيت. يعني أنها نزلت ديار قوم نشبت العداوة بيننا وبينهم، في غربة بعيدة. فصرت لا أقدر عليها.
(2)
قوله"بما" بمعنى بسبب تربعها وتربع القوم المكان وارتبعوه: أقاموا فيه في زمن الربيع. وروض القطا، من أشهر رياض العرب، في أرض الحجاز. وروض التناضب أيضًا بالحجاز عند سرف. وقوله:"حتى تصيرا"، من قولهم صار الرجل يصير فهو صائر: إذا حضر الماء، والقوم الذين يحضرون الماء يقال لهم: الصائرة. والصير (بكسر الصاد) الماء الذي يحضره الناس. يقول: اغتربت في غير قومها، لما دفعها إلى ذلك طلب الربيع والخصب ومساقط الماء في البلاد.
(3)
كانت هذه الجملة في المخطوطات والمطبوعة هكذا: "وأرضا بعيدة من أهله بمكان قربها كان منه ومن قومه وبدلا من تربعها. . "، وهو كلام لا معنى له. وقد جعلت"بمكان"، "لمكان" و"بدلا"، "بلده". فصار لها معنى تطمئن إليه النفس والجملة بين الخطين اعتراض، وتفسير لقوله:" أرضا بعيدة من أهله".
فكذلك قوله: (وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله)، يقول: كان ذلك منا بكفرهم بآياتنا، وجزاء لهم بقتلهم أنبياءنا.
* * *
وقد بينا فيما مضى من كتابنا أن معنى"الكفر": تغطية الشيء وستره، (1) وأن"آيات الله" حججه وأعلامه وأدلته على توحيده وصدق رسله. (2)
فمعنى الكلام إذا: فعلنا بهم ذلك، من أجل أنهم كانوا يجحدون حجج الله على توحيده وتصديق رسله، ويدفعون حقيتها، ويكذبون بها.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) : ويقتلون رسل الله الذين ابتعثهم -لإنباء ما أرسلهم به عنه- لمن أرسلوا إليه.
* * *
وهم جماع، وأحدهم"نبي"، غير مهموز، وأصله الهمز، لأنه من"أنبأ عن الله فهو ينبئ عنه إنباء"، وإنما الاسم منه،"منبئ" ولكنه صرف وهو"مفعل" إلى"فعيل"، كما صرف"سميع" إلى"فعيل" من"مسمع"، و"بصير" من"مبصر"، وأشباه ذلك، (3) وأبدل مكان الهمزة من"النبيء" الياء، فقيل:"نبي". هذا ويجمع"النبي" أيضا على"أنبياء"، وإنما جمعوه كذلك، لإلحاقهم"النبيء"، بإبدال الهمزة منه ياء، بالنعوت التي تأتي على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو. وذلك أنهم إذا جمعوا ما كان من النعوت على تقدير"فعيل" من ذوات الياء والواو، جمعوه على"أفعلاء" كقولهم:"ولي وأولياء"، و"وصي وأوصياء"
(1) انظر ما سلف 1: 255.
(2)
انظر ما سلف 1: 552.
(3)
كان في المطبوعة: "مفعل" مكان"مسمع". وليس يعني بقوله"سميع"، صفة الله عز وجل، بل يعني ما جاء في شعر عمرو بن معد يكرب. أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ?
…
يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
أي: الداعي المسمع. وانظر ما سلف 1: 283.
، و"دعى وأدعياء". ولو جمعوه على أصله الذي هو أصله، وعلى أن الواحد"نبيء" مهموز، لجمعوه على"فعلاء"، فقيل لهم"النبآء"، على مثال"النبهاء"، (1) لأن ذلك جمع ما كان على فعيل من غير ذوات الياء والواو من النعوت، كجمعهم الشريك شركاء، والعليم علماء، والحكيم حكماء، وما أشبه ذلك. وقد حكي سماعا من العرب في جمع"النبي""النبآء"، وذلك من لغة الذين يهمزون"النبيء"، ثم يجمعونه على"النبآء" - على ما قد بينت. ومن ذلك قول عباس بن مرداس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم.
يا خاتم النبآء إنك مرسل
…
بالخير كلُّ هدى السبيل هداكا (2)
فقال:"يا خاتم النبآء"، على أن واحدهم"نبيء" مهموز. وقد قال بعضهم:(3)"النبي" و"النبوة" غير مهموز، لأنهما مأخوذان من " النَّبْوَة "، وهي مثل " النَّجْوَة "، وهو المكان المرتفع، وكان يقول: إن أصل"النبي" الطريق، ويستشهد على ذلك ببيت القطامي:
لما وردن نَبِيَّا واستَتَبّ بها
…
مُسْحَنْفِر كخطوط السَّيْح مُنْسَحِل (4)
(1) في المطبعة: "النبعاء" وفي المخطوطات"النبآء".
(2)
من أبيات له في سيرة ابن هشام 4: 103 وغيرها. والضمير الفاعل في قول"هداكا"، لله سبحانه وتعالى، دل عليه ما في قوله"إنك مرسل بالخير"، فإن الله هو الذي أرسله. وهو مضبوط في أكثر الكتب"كل" بالرفع، و"هدى"، و"هداكا" بضم الهاء.
(3)
كأنه يريد الكسائي (البحر المحيط 1: 220) . ووجدت في معجم البلدان 8: 249"وقال أبو بكر بن الأنباري في"الزاهر" في قول القطامي. . إن النبي في هذا البيت هو الطريق"، وليس يعنيه أبو جعفر، فإن أبا بكر قد ولد سنة 271 وتوفى 328. وقد رد هذا القول أبو القاسم الزجاج - فيما نقل ياقوت - فقال:"كيف يكون ذلك من أسماء الطريق، وهو يقول: "لما وردن نبيا"، وقد كانت قبل وروده على الطريق؟ فكأنه قال: "لما وردن طريقا"، وهذا لا معنى له، إلا أن يكون أراد طريقا بعينه في مكان مخصوص، فيرجع إلى أنه اسم مكان بعينه، قيل: هو رمل بعينه، وقيل: هو اسم جبل". وانظر تحقيق ذلك في معجم البلدان، ومعجم ما استعجم، وغيرهما.
(4)
ديوان: 4، في قصيدته الجيدة المشهورة، والضمير في"وردن" للإبل ذكرها قبل. وروايته"واستتب بنا". نبي كثيب رمل مرتفع في ديار بني تغلب، ذكره القطامي في كثير من شعره. واستتب الأمر والطريق: استوى واستقام وتبين واطراد وامتد. مسحنفر، صفة للطريق: واسع ممتد ذاهب بين. والسبح: ضرب من البرود أو العباء مخطط، يلبس، أو يستتر به ويفرش. شبه آثار السير عليها بخطوط البرد. وسجلت الريح الأرض فانسحلت: كشطت ما عليها. ووصف الطريق بذلك، لأنه قد استتب بالسير وصار لاحبا واضحا.
يقول: إنما سمى الطريق"نبيا"، لأنه ظاهر مستبين، من " النَّبوة ". ويقول: لم أسمع أحدا يهمز"النبي". قال. وقد ذكرنا ما في ذلك، وبينا ما فيه الكفاية إن شاء الله.
* * *
ويعني بقوله: (ويقتلون النبيين بغير الحق) ، أنهم كانوا يقتلون رسل الله، بغير إذن الله لهم بقتلهم، منكرين رسالتهم، جاحدين نبوتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61) }
وقوله: (ذلك)، رد على"ذلك" الأولى. ومعنى الكلام: وضربت عليهم الذلة والمسكنة، وباؤوا بغضب من الله من أجل كفرهم بآيات الله، وقتلهم النبيين بغير الحق، من أجل عصيانهم ربهم، واعتدائهم حدوده، فقال جل ثناؤه. (ذلك بما عصوا)، والمعنى: ذلك بعصيانهم وكفرهم معتدين.
* * *
و"الاعتداء"، تجاوز الحد الذي حده الله لعباده إلى غيره. وكل متجاوز حد شيء إلى غيره فقد تعداه إلى ما جاوز إليه. ومعنى الكلام: فعلت بهم ما فعلت من ذلك، بما عصوا أمري، وتجاوزوا حدي إلى ما نهيتهم عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا}
قال أبو جعفر: أما"الذين آمنوا"، فهم المصدقون رسول الله فيما أتاهم به من الحق من عند الله، وإيمانهم بذلك، تصديقهم به - على ما قد بيناه فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
* * *
وأما"الذين هادوا"، فهم اليهود. ومعنى:"هادوا"، تابوا. يقال منه:"هاد القوم يهودون هودا وهادة. (2) وقيل: إنما سميت اليهود"يهود"، من أجل قولهم:(إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ) . [سورة الأعراف: 156] .
1094 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: إنما سميت اليهود من أجل أنهم قالوا: (إنا هدنا إليك) .
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَالنَّصَارَى}
قال أبو جعفر: و"النصارى" جمع، واحدهم نصران، كما واحد السكارى سكران، وواحد النشاوى نشوان. وكذلك جمع كل نعت كان واحده على"فعلان" فإن جمعه على"فعالى". إلا أن المستفيض من كلام العرب في واحد"النصارى""نصراني". وقد حكى عنهم سماعا"نصران" بطرح الياء، ومنه قول الشاعر:
تراه إذا زار العشي مُحَنِّفًا
…
ويضحي لديه وهو نصران شامس (3)
(1) انظر ما سلف 1: 234 - 235.
(2)
قوله"هادة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة.
(3)
لم أعرف قائله. الأضداد لابن الأنباري: 155، ورواه:"تراه ويضحى وهو. . " ونقله أبو حيان في البحر المحيط 1: 238 عن الطبري، وفيهما"إذا دار العشى" وأخطأ القرطبي (تفسيره 1: 369) فقال: و"أنشد سيبويه" وذكر البيت، ولم ينشده سيبويه. وروى صدره.
(تراه إذا دار العشا متحنفا)
والبيت في صفة الحرباء. و"محنفا": قد تحنف، أو صار إلى الحنيفية. ويعني أنه مستقبل القبلة. وقوله:"لديه"، أي لدى العشى، ويريد قبل أن يستوى العشى أو لدى الضحى، ويكون قد ذكره في بيت قبله. وقوله:"شامس"، يريد مستقبل الشمس، قبل المشرق. يقول يستقبل الشمس كأنه نصراني، وهو كقول ذي الرمة في صفة الحرباء أيضًا: إذا حول الظل العشى رأيته
…
حنيفا، وفي قرن الضحى ينتصر
وسمع منهم في الأنثى: "نصرانة"، قال الشاعر:(1)
فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا
…
كَمَا سَجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ (2)
يقال: أسجد، إذا مال. (3) وقد سمع في جمعهم"أنصار"، بمعنى النصارى. قال الشاعر:
لَمَّا رَأَيْتُ نَبَطًا أَنْصَارَا
…
شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتِيَ الإِزَارَا
كُنْتُ لَهُمْ مِنَ النَّصَارَى جَارَا (4)
وهذه الأبيات التي ذكرتها، تدل على أنهم سموا"نصارى" لنصرة بعضهم بعضا، وتناصرهم بينهم. وقد قيل إنهم سموا"نصارى"، من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة".
(1) هو أبو الأخزر الحماني.
(2)
سيبويه 2: 29، 104، واللسان (حنف) ، يصف ناقتين، طأطأتا رؤوسهما من الإعياء، فشبه رأس الناقة في طأطأتها، برأس النصرانية إذا طأطأته في صلاتها. وأسجد الرجل: طأطأ رأسه وخفضه وانحنى. قال حميد بن ثور، يصف نوقا: فلما لوين على معصم
…
وكف خضيب وأسوارها
فضول أزمتها أسجدت
…
سجود النصاري لأحبارها
(3)
بيان الطبري عن معنى"أسجد" ليس بجيد.
(4)
لم أعرف صاحب الرجز. والأبيات، في معاني القرآن للفراء 1: 44 أمالي ابن الشجرى 1: 79، 371. أنشده شاهدا على حذف واو العطف: أي"وكنت لهم من النصارى جارا"، ثم أنشده في الموضع الآخر شاهدا على حذف الفاء العاطفة أي"فكنت لهم. . ".
1095 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"النصارى" إنما سموا نصارى من أجل أنهم نزلوا أرضا يقال لها"ناصرة".
* * *
ويقول آخرون: لقوله: (مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)[سورة الصف: 14] .
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس من طريق غير مرتضًى أنه كان يقول: إنما سميت النصارى نصارى، لأن قرية عيسى ابن مريم كانت تسمى"ناصرة"، وكان أصحابه يسمون الناصريين، وكان يقال لعيسى:"الناصري".
1096 -
حدثت بذلك عن هشام بن محمد، عن أبيه، عن أبي صالح، عن ابن عباس.
1096 -
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إنما سموا نصارى، لأنهم كانوا بقرية يقال لها ناصرة ينزلها عيسى ابن مريم، فهو اسم تسموا به، ولم يؤمروا به.
1098 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى)[المائدة: 22] قال: تسموا بقرية يقال لها"ناصرة"، كان عيسى ابن مريم ينزلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّابِئِينَ}
قال أبو جعفر: و"الصابئون" جمع"صابئ"، وهو المستحدث سوى دينه دينا، كالمرتد من أهل الإسلام عن دينه. وكل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره، تسميه العرب:"صابئا". يقال منه:"صبأ فلان يصبأ صبْأ". ويقال:"صبأت النجوم": إذا طلعت."وصبأ علينا فلان موضع كذا وكذا"، يعني به: طلع.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن يلزمه هذا الاسم من أهل الملل. فقال بعضهم: يلزم ذلك كل من خرج من دين إلى غير دين. وقالوا: الذين عنى الله بهذا الاسم، قوم لا دين لهم
* ذكر من قال ذلك:
1099 -
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي.
1100 -
وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق جميعا، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الصابئون ليسوا بيهود ولا نصارى، ولا دين لهم.
1101 -
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الحجاج بن أرطاة، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد مثله.
1102 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج، عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس واليهود، لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم.
1103 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن حجاج، عن قتادة، عن الحسن مثل ذلك.
1104 -
حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح:"الصابئين" بين اليهود والمجوس لا دين لهم.
1105 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1106 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قال مجاهد:"الصابئين" بين المجوس واليهود، لا دين لهم. قال ابن جريج: قلت لعطاء:"الصابئين" زعموا أنها قبيلة من نحو السواد، (1) ليسوا بمجوس ولا يهود ولا نصارى. قال: قد سمعنا ذلك، وقد قال المشركون للنبي: قد صبأ.
(1) يعني سواد العراق.
1107 -
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والصابئين" قال: الصابئون، [أهل] دين من الأديان كانوا بجزيرة الموصل (1) يقولون: لا إله إلا الله، وليس لهم عمل ولا كتاب ولا نبي، إلا قول لا إله إلا الله. قال: ولم يؤمنوا برسول الله، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه:"هؤلاء الصابئون"، يشبهونهم بهم.
* * *
وقال آخرون: هم قوم يعيدون الملائكة ويصلون إلى القبلة
* ذكر من قال ذلك:
1108 -
حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحسن قال: حدثني زياد (2) أن الصابئين يصلون إلى القبلة، ويصلون الخمس. قال: فأراد أن يضع عنهم الجزية. قال: فخبر بعد أنهم يعبدون الملائكة.
1109 -
وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(والصابئين) قال: الصابئون قوم يعبدون الملائكة، يصلون إلى القبلة، ويقرءون الزبور.
1110 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرءون الزبور. قال أبو جعفر الرازي: وبلغني أيضا أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة، ويقرءون الزبور، ويصلون إلى القبلة.
* * *
وقال آخرون: بل هم طائفة من أهل الكتاب
* ذكر من قال ذلك:
1111 -
حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال: سئل السدي عن الصابئين، فقال: هم طائفة من أهل الكتاب.
* * *
(1) في المطبوعة"الصابئون دين من الأديان"، والزيادة بين القوسين لا بد منها.
(2)
زياد، هو زياد بن أبيه، والى العراق في زمن معاوية رضي الله عنه.
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) ، من صدق وأقر بالبعث بعد الممات يوم القيامة، وعمل صالحا فأطاع الله، فلهم أجرهم عند ربهم. يعني بقوله:(فلهم أجرهم عند ربهم) ، فلهم ثواب عملهم الصالح عند ربهم.
* * *
فإن قال لنا قائل: فأين تمام قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) ؟
قيل: تمامه جملة قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر) . لأن معناه: من آمن منهم بالله واليوم الآخر، فترك ذكر"منهم" لدلالة الكلام عليه، استغناء بما ذكر عما ترك ذكره.
فإن قال: وما معنى هذا الكلام؟
قيل: إن معناه: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين، من يؤمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم.
فإن قال: وكيف يؤمن المؤمن؟
قيل: ليس المعنى في المؤمن المعنى الذي ظننته، من انتقال من دين إلى دين، كانتقال اليهودي والنصراني إلى الإيمان = وإن كان قد قيل إن الذين عنوا بذلك، من كان من أهل الكتاب على إيمانه بعيسى وبما جاء به، حتى أدرك محمدا صلى الله عليه وسلم فآمن به وصدقه، فقيل لأولئك الذين كانوا مؤمنين بعيسى وبما جاء به، إذ أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم: آمنوا بمحمد وبما جاء به = ولكن معنى إيمان المؤمن في هذا الموضع، ثباته على إيمانه وتركه تبديله. وأما إيمان اليهود والنصارى والصابئين، فالتصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما
جاء به، فمن يؤمن منهم بمحمد، وبما جاء به واليوم الآخر، ويعمل صالحا، فلم يبدل ولم يغير حتى توفي على ذلك، فله ثواب عمله وأجره عند ربه، كما وصف جل ثناؤه.
فإن قال قائل: وكيف قال:"فلهم أجرهم عند ربهم"، وإنما لفظه"من" لفظ واحد، والفعل معه موحد؟
قيل:"من"، وإن كان الذي يليه من الفعل موحدا، فإن معنى الواحد والاثنين والجمع، والتذكير والتأنيث، لأنه في كل هذه الأحوال على هيئة واحدة وصورة واحدة لا يتغير. فالعرب توحد معه الفعل - وإن كان في معنى جمع - للفظه، وتجمع أخرى معه الفعل لمعناه، كما قال جل ثناؤه:(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ)[يونس: 42-43] . فجمع مرة مع"من" الفعل لمعناه، ووحد أخرى معه الفعل لأنه في لفظ الواحد، كما قال الشاعر:
ألما بسلمى عنكما إن عرضتما،
…
وقولا لها: عوجي على من تخلفوا (1)
(1) في ديوان لامرىء القيس، منسوب إليه من قصيدة عدتها 23 بيتا، وفيه:"ويقال إنها لرجل من كندة" وأولها: ديار بها الظلمان والعِين تعكف
…
وقفت بها تبكي ودمعك يذرف
والأضداد لابن الأنباري: 288 قال أنشده الفراء، وروايته صدره:(ألما بسلمى لمة إذ وقفتما)
والذي في رواية الطبري من قوله: "عنكما" زائدة في الكلام، والعرب تقول:"سر عنك"، و"أنفذ عنك" أي امض، وجز - لا معنى ل"عنك" وفي حديث عمر رضي الله عنه: أنه طاف بالبيت مع يعلى بن أمية، فلما انتهى إلى الركن الغربي الذي يلي الأسود قال له: ألا تستلم؟ فقال: انفذ عنك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستلمه. وفي الحديث تفسيره: أي دعه وتجاوزه. وقوله"عرضتما" من قولهم: عرض الرجل: إذا أتى العروض (بفتح العين) ، وهي مكة والمدينة وما حولهما.
فقال:"تخلفوا"، وجعل"من" بمنزلة"الذين"، وقال الفرزدق:
تعال فإن عاهدتني لا تخونني
…
نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (1)
فثنى "يصطحبان " لمعنى "من". فكذلك قوله: (من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) ، وحد "آمن وعمل صالحا" للفظ "من"، وجمع ذكرهم في قوله:(فلهم أجرهم) ، لمعناه، لأنه في معنى جمع.
* * *
وأما قوله: {وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) }
فإنه يعني به جل ذكره: ولا خوف عليهم فيما قدموا عليه من أهوال القيامة، ولا هم يحزنون على ما خلفوا وراءهم من الدنيا وعيشها، عند معاينتهم ما أعد الله لهم من الثواب والنعيم المقيم عنده.
* * *
* ذكر من قال عُني بقوله: (من آمن بالله)، مؤمنو أهل الكتاب الذين أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم:
1112 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط بن نصر، عن السدي:(إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية، قال: نزلت هذه الآية في أصحاب سلمان الفارسي. وكان سلمان من جُنْدَيسابور، وكان من أشرافهم، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه، وكانا يركبان إلى الصيد جميعا. فبينما هما في الصيد، إذ رفع لهما بيت من عباء، (2) فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف يقرأ فيه
(1) ديوانه: 870، وسيبويه 1: 404، والكامل 1: 216، وطبقات فحول الشعراء: 310، والأضداد: 288، وأمالي ابن الشجري 2:311. ورواية ديوانه"تعش فإن واثقتني". وهو بيت من قصيدته الجيدة التي قالها حين نزل به ذئب فأضافه.
(2)
رفع له الشيء (بالبناء للمجهول) : أبصره من بعد. وفي المطبوعة: " بيت من خباء" والخباء بيت من وبر أو صوف. فهو كلام لا معنى له. وفي الدر المنثور 1: 73 وروى الخبر بطوله: "من عباءة". والصواب ما أثبته. والعباء ضرب من الأكسية فيه خطوط سود كبار، وهو هنا مفرد، وجمعه أعبية. والعباء أيضًا جمع عباءة.
وهو يبكي. فسألاه: ما هذا؟ فقال: الذي يريد أن يعلم هذا لا يقف موقفكما، فإن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا حتى أعلمكما. فنزلا إليه، فقال لهما: هذا كتاب جاء من عند الله، أمر فيه بطاعته ونهى عن معصيته، فيه: أن لا تزني، ولا تسرق، ولا تأخذ أموال الناس بالباطل. فقص عليهما ما فيه، وهو الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى. فوقع في قلوبهما، وتابعاه فأسلما. وقال لهما: إن ذبيحة قومكما عليكما حرام.
فلم يزالا معه كذلك يتعلمان منه، حتى كان عيد للملك، فجعل طعاما، (1) ثم جمع الناس والأشراف، وأرسل إلى ابن الملك فدعاه إلى صنيعه ليأكل مع الناس. فأبى الفتى، وقال: إني عنك مشغول، فكل أنت وأصحابك. فلما أكثر عليه من الرسل، أخبرهم أنه لا يأكل من طعامهم. فبعث الملك إلى ابنه فدعاه. وقال: ما أمرك هذا؟ قال: إنا لا نأكل من ذبائحكم، إنكم كفار، ليس تحل ذبائحكم. فقال له الملك: من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمره بذلك. فدعا الراهب فقال: ماذا يقول ابني؟ قال: صدق ابنك. قال له: لولا أن الدم فينا عظيم لقتلتك، ولكن اخرج من أرضنا. فأجله أجلا. فقال سلمان: فقمنا نبكي عليه، فقال لهما: إن كنتما صادقين، فإنا في بِيعة بالموصل مع ستين رجلا نعبد الله فيها، فأتونا فيها.
فخرج الراهب، وبقي سلمان وابن الملك: فجعل يقول لابن الملك: انطلق بنا! وابن الملك يقول: نعم. وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان، خرج سلمان حتى أتاهم، فنزل على صاحبه، وهو رب البيعة.
(1) في الدر المنثور: "فجمع طعاما"، وأظن أن الصواب: فصنع طعاما"، ويدل على صواب ذلك قوله بعد: "فدعاه إلى صنيعه". يقال: صنع لهم طعاما، وكنت في صنيع فلان: أي مأدبته ومدعاته.
وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان، (1) فكان سلمان: معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه، فقال له الشيخ: إنك غلام حدث تتكلف من العبادة ما لا تطيق، وأنا خائف أن تفتر وتعجز، فارفق بنفسك وخفف عليها. فقال له سلمان: أرأيت الذي تأمرني به، أهو أفضل أو الذي أصنع؟ قال: بل الذي تصنع. قال: فخل عني.
ثم إن صاحب البيعة دعاه فقال: أتعلم أن هذه البيعة لي، وأنا أحق الناس بها، ولو شئت أن أخرج هؤلاء منها لفعلت! ولكني رجل أضعُف عن عبادة هؤلاء، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة أخرى هم أهون عبادة من هؤلاء، فإن شئت أن تقيم ههنا فأقم، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق. قال له سلمان: أي البيعتين أفضل أهلا؟ قال: هذه. قال سلمان: فأنا أكون في هذه. فأقام سلمان بها وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان، فكان سلمان يتعبد معهم.
ثم إن الشيخ العالم أراد أن يأتي بيت المقدس، فقال لسلمان: إن أردت أن تنطلق معي فانطلق، وإن شئت أن تقيم فأقم. فقال له سلمان: أيهما أفضل، أنطلق معك أم أقيم؟ قال: لا بل تنطلق معي. فانطلق معه. فمروا بمقعد على ظهر الطريق ملقى، فلما رآهما نادى: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فلم يكلمه ولم ينظر إليه. وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس، فقال الشيخ لسلمان: اخرج فاطلب العلم، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم، فرجع يوما حزينا، فقال له الشيخ: ما لك يا سلمان؟ قال: أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم! فقال له الشيخ: يا سلمان لا تحزن، فإنه قد بقي نبي ليس من نبي بأفضل تبعا منه، وهذا زمانه الذي يخرج فيه، ولا أراني أدركه، وأما أنت فشاب لعلك أن تدركه، وهو ي
(1) في الدر المنثور: "فكان أهل تلك البيعة، أفضل مرتبة من الرهبان".
خرج في أرض العرب فإن أدركته فآمن به واتبعه. فقال له سلمان: فأخبرني عن علامته بشيء. قال: نعم، هو مختوم في ظهره بخاتم النبوة، وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. ثم رجعا حتى بلغا مكان المقعد، فناداهما فقال: يا سيد الرهبان، ارحمني يرحمك الله! فعطف إليه حماره، فأخذ بيده فرفعه، فضرب به الأرض ودعا له وقال: قم بإذن الله! فقام صحيحا يشتد، (1) فجعل سلمان يتعجب وهو ينظر إليه يشتد. وسار الراهب فتغيب عن سلمان، ولا يعلم سلمان.
ثم إن سلمان فزع فطلب الراهب. فلقيه رجلان من العرب من كلب، فسألهما: هل رأيتما الراهب؟ فأناخ أحدهما راحلته، قال: نعم راعي الصرمة هذا! (2) فحمله فانطلق به إلى المدينة.
قال سلمان: فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط. فاشترته امرأة من جهينة فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما، فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمد صلى الله عليه وسلم. فبينا هو يوما يرعى، إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه، (3) فقال: أشعرت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟ (4) فقال له سلمان: أقم في الغنم حتى آتيك.
فهبط سلمان إلى المدينة، فنطر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودار حوله. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم عرف ما يريد، فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه، فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى بدينار، ببعضه شاة وببعضه خبزا، ثم أتاه به. فقال:"ما هذا"؟ قال سلمان: هذه صدقة قال: لا حاجة لي بها،
(1) اشتد: عدا وأسرع.
(2)
الصرمة: القطيع من الإبل والغنم.
(3)
عقبه يعقبه: جاء بعده في نوبته، ومنه التعاقب: أن يأتب هذا ويذهب ذاك.
(4)
أشعرت: علمت.
فأخرجها فليأكلها المسلمون". ثم انطلق فاشترى بدينار آخر خبزا ولحما، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: هذه هدية. قال: فاقعد [فكل](1) فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه إذ ذكر أصحابه فأخبره خبرهم فقال: كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك، ويشهدون أنك ستبعث نبيا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم، قال له نبي الله صلى الله عليه وسلم: يا سلمان، هم من أهل النار. فاشتد ذلك على سلمان، وقد كان قال له سلمان: لو أدركوك صدقوك واتبعوك، فأنزل الله هذه الآية:(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر) . (2)
فكان إيمان اليهود: أنه من تمسك بالتوراة وسنة موسى، حتى جاء عيسى. فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسنة موسى - فلم يدعها ولم يتبع عيسى - كان هالكا. وإيمان النصارى: أنه من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمنا مقبولا منه، حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبع محمدا صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل - كان هالكا.
* * *
1113 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:(إن الذين آمنوا والذين هادوا) الآية. قال
(1) الزيادة من الدر المنثور 1: 74.
(2)
الحديث: 1112 - هذا حديث منقطع، في شأن إسلام"سلمان الفارسي". وقال الحافظ في الإصابة 3: 113: "ورويت قصته من طرق كثيرة، من أصحها ما أخرجه أحمد من حديثه نفسه. وأخرجها الحاكم من وجه آخر عنه أيضًا. وأخرجه الحاكم من حديث بريدة. وعلق البخاري طرفا منها. وفي سياق قصته في إسلامه اختلاف يتعسر الجمع فيه". وإشارته إلى رواية أحمد، هي في المسند هـ: 441 - 444 (حلبي)، وهي بالإسناد نفسه في ابن سعد 4: 53 - 57. وانظر المستدرك للحاكم 3: 599 - 604. وتاريخ إصبهان لأبي نعيم 1: 48 - 57، والحلية لأبي نعيم 1: 190 - 195.
سأل (1) سلمان الفارسي النبي صلى الله عليه وسلم عن أولئك النصارى وما رأى من أعمالهم، قال: لم يموتوا على الإسلام. قال سلمان: فأظلمت عليّ الأرض، وذكرت اجتهادهم، (2) فنزلت هذه الآية:"إن الذين آمنوا والذين هادوا". (3) فدعا سلمان فقال: نزلت هذه الآية في أصحابك". ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم"من مات على دين عيسى ومات على الإسلام قبل أن يسمع بي، فهو على خير؛ ومن سمع بي اليوم ولم يؤمن بي فقد هلك". (4)
* * *
وقال ابن عباس بما:-
1114 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن ابن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين) إلى قوله: (ولا هم يحزنون) . فأنزل الله تعالى بعد هذا: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران: 85]
وهذا الخبر يدل على أن ابن عباس كان يرى أن الله جل ثناؤه كان قد وعد من عمل صالحا - من اليهود والنصارى والصابئين - على عمله، في الآخرة الجنة، ثم نسخ ذلك بقوله:(ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه) .
* * *
فتأويل الآية إذًا على ما ذكرنا عن مجاهد والسدي: إن الذين آمنوا من هذه الأمة، والذين هادوا، والنصارى، والصابئين - من آمن من اليهود والنصارى والصابئين بالله واليوم الآخر - فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
والذي قلنا من التأويل الأول، أشبه بظاهر التنزيل، لأن الله جل ثناؤه لم
(1) في المطبوعة: "قال سلمان الفارسي للنبي صلى الله عليه وسلم"، بحذف"سأل". والصواب من الدر المنثور 1:74.
(2)
في المطبوعة: "وذكر اجتهادهم"، والصواب من الدر المنثور
(3)
الآية لم ترد في المطبوعة، ووردت في نص المدر المنثور.
(4)
الحديث: 1113 - وهذا منقطع أيضًا.
يخصص - بالأجر على العمل الصالح مع الإيمان - بعض خلقه دون بعض منهم، والخبر بقوله:(من آمن بالله واليوم الآخر) ، عن جميع ما ذكر في أول الآية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ}
قال أبو جعفر:"الميثاق"،"المفعال"، من"الوثيقة"، إما بيمين، وإما بعهد أو غير ذلك من الوثائق. (1)
ويعني بقوله: (وإذ أخذنا ميثاقكم) الميثاق الذي أخبر جل ثناؤه أنه أخذ منهم في قوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)[البقرة: 83-85] الآيات الذي ذكر معها. وكان سبب أخذ الميثاق عليهم - فيما ذكره ابن زيد - ما:-
1115 -
حدثني به يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما رجع موسى من عند ربه بالألواح. قال لقومه بني إسرائيل: إن هذه الألواح فيها كتاب الله، فيه أمره الذي أمركم به ونهيه الذي نهاكم عنه. (2) فقالوا: ومن يأخذه بقولك أنت؟ لا والله حتى نرى الله جهرة، حتى يطلع الله إلينا فيقول: هذا كتابي فخذوه! فما له لا يكلمنا كما كلمك أنت يا موسى، فيقول: هذا كتابي فخذوه؟ قال: فجاءت غضبة من الله، فجاءتهم صاعقة فصعقتهم، فماتوا أجمعون. قال: ثم أحياهم الله بعد موتهم، فقال لهم موسى: خذوا كتاب الله. فقالوا: لا. قال: أي شيء أصابكم؟ قالوا: متنا ثم حيينا! (3) قال: خذوا
(1) انظر ما سلف 1: 414، في قوله تعالى:"من بعد ميثاقه"[سورة البقرة: 27] .
(2)
في المطبوعة: "وأمره الذي أمركم"، والتصحيح من روايته في رقم:959.
(3)
في رقم: 959: "قالوا أصابنا أنا متنا. . ".
كتاب الله. قالوا: لا. فبعث ملائكته فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، قال: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم. قال: فأخذوه بالميثاق، وقرأ قول الله:(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) حتى بلغ: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)[البقرة: 83-85]، قال: ولو كانوا أخذوه أول مرة، لأخذوه بغير ميثاق. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ}
قال أبو جعفر: وأما"الطور" فإنه الجبل في كلام العرب، ومنه قول العجاج:
دانَى جناحيه من الطور فمر
…
تَقَضِّيَ البازي إذا البازي كسر (2)
وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى. وقيل: إنه من الجبال ما أنبت دون ما لم ينبت. (3)
* * *
(1) الأثر رقم: 1115 - مضى أكثره في رقم: 959.
(2)
ديوانه: 17، وهو من قصيدة جيدة يذكر فيها مآثر عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد ولي الولايات العظيمة، وفتح الفتوح الكثيرة، وقاتل الخوارج. والضمير في قوله:"دانى" يعود إلى متأخر، وهو"البازي" المذكور في البيت بعده. فإن قبله، ذكر عمر بن عبيد الله وكتائبه من حوله: حول ابن غراء حصان إن وتر
…
فات، وإن طالب بالوغم اقتدر
إذا الكرام ابتدروا الباع ابتدر
…
دانى جناحيه.........
يريد: "ابتدر منقضا انقضاض البازي من الطور، دانى جناحيه. . فمر" فقدم وأخر. وهو من جيد التقديم والتأخير. وقوله: "دانى" أي ضم جناحيه وقر بهما وضيق ما بينهما تأهبا للانقضاض من ذروة الجبل. ومر: أسرع إسراعا شديدا. وقوله: "تقضى" أصلها"تقضض"، فقلب الضاد الأخيرة ياء، استثقل ثلاث ضادات، كما فعلوا في"ظنن""وتظنى" على التحويل. وتقضض الطائر: هوى في طيرانه يريد الوقوع. والبازي: ضرب من الصقور، شديد. وكسر الطائر جناحيه: ضم منهما شيئا - أي قليلا- وهو يريد السقوط.
(3)
هذا قول لم أجده في كتب اللغة في مادته.
* ذكر من قال: هو الجبل كائنا ما كان:
1116 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: أمر موسى قومه أن يدخلوا الباب سجدا ويقولوا:"حطة" وطؤطئ لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا حنطة. فنتق فوقهم الجبل - يقول: أخرج أصل الجبل من الأرض فرفعه فوقهم كالظلة = و"الطور"، بالسريانية، الجبل = تخويفا، أو خوفا، شك أبو عاصم، فدخلوا سجدا على خوف، وأعينهم إلى الجبل. هو الجبل الذي تجلى له ربه. (1)
1117 -
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: رفع الجبل فوقهم كالسحابة، فقيل لهم: لتؤمنن أو ليقعن عليكم. فآمنوا. والجبل بالسريانية:"الطور".
1118 -
حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:(وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) قال: الطور الجبل؛ كانوا بأصله، فرفع عليهم فوق رؤوسهم، فقال: لتأخذن أمري، أو لأرمينكم به.
1119 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:(ورفعنا فوقكم الطور)، قال: الطور الجبل. اقتلعه الله فرفعه فوقهم، فقال:(خذوا ما آتيناكم بقوة) فأقروا بذلك.
1120 -
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(ورفعنا فوقكم الطور) قال: رفع فوقهم الجبل، يخوفهم به.
(1) الأثر رقم: 1116 - مضى صدر منه برقم: 1027.
1121 -
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة قال: الطور الجبل.
1122 -
وحدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما قال الله لهم: ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة. فأبوا أن يسجدوا، أمر الله الجبل أن يقع عليهم، فنظروا إليه وقد غشيهم، فسقطوا سجدا على شق، ونظروا بالشق الآخر، فرحمهم الله فكشفه عنهم فذلك قوله:(وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)[الأعراف: 171]، وقوله:(وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) .
1123 -
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الجبل بالسريانية الطور.
* * *
وقال آخرون:"الطور" اسم للجبل الذي ناجى الله موسى عليه.
* ذكر من قال ذلك:
1124 -
حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: الطور، الجبل الذي أنزلت عليه التوراة - يعني على موسى - وكانت بنو إسرائيل أسفل منه. قال ابن جريج: وقال لي عطاء: رفع الجبل على بني إسرائيل، فقال: لتؤمنن به أو ليقعن عليكم. فذلك قوله: (كأنه ظلة) .
* * *
وقال آخرون: الطور، من الجبال، ما أنبت خاصة.
* ذكر من قال ذلك:
1125 -
حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:(الطور) قال: الطور من الجبال ما أنبت، وما لم ينبت فليس بطور.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل العربية في تأويل ذلك. فقال بعض نحويي أهل البصرة: هو مما استغني بدلالة الظاهر المذكور عما ترك ذكره له. وذلك أن معنى الكلام: ورفعنا فوقكم الطور، وقلنا لكم: خذوا ما آتيناكم بقوة، وإلا قذفناه عليكم.
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: أخذ الميثاق قول فلا حاجة بالكلام إلى إضمار قول فيه، فيكون من كلامين، غير أنه ينبغي لكل ما خالف القول من الكلام -الذي هو بمعنى القول- أن يكون معه"أن" كما قال الله جل ثناؤه (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) [نوح: 1] قال: ويجوز أن تحذف"أن".
والصواب في ذلك عندنا: أن كل كلام نطق به -مفهوم به معنى ما أريد- ففيه الكفاية من غيره.
ويعني بقوله: (خذوا ما آتيناكم) ، ما أمرناكم به في التوراة.
وأصل"الإيتاء"، الإعطاء. (1)
* * *
ويعني بقوله: (بقوة) بجد في تأدية ما أمركم فيه وافترض عليكم، كما:-
1126 -
حدثت عن إبراهيم بن بشار قال،: حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(خذوا ما آتيناكم بقوة) . قال: تعملوا بما فيه.
1127 -
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
1128 -
وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن
(1) انظر ما سلف 1: 574.
الربيع، عن أبي العالية:(خذوا ما آتيناكم بقوة)، قال: بطاعة.
1129 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:(خذوا ما آتيناكم بقوة) . قال:"القوة" الجد، وإلا قذفته عليكم. قال: فأقروا بذلك: أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة.
1130 -
حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(بقوة)، يعني: بجد واجتهاد.
1131 -
وحدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - وسألته عن قول الله:(خذوا ما آتيناكم بقوة) - قال: خذوا الكتاب الذي جاء به موسى يصدق ويحق.
* * *
فتأويل الآية إذا: خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض، فاقبلوه، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه، من غير تقصير ولا توان. وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة، بجد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) }
قال أبو جعفر: يعني: واذكروا ما فيما آتيناكم من كتابنا من وعد ووعيد شديد، وترغيب وترهيب، فاتلوه، واعتبروا به، وتدبروه إذا فعلتم ذلك، كي تتقوا وتخافوا عقابي، (1) بإصراركم على ضلالكم فتنتهوا إلى طاعتي، وتنزعوا عما أنتم عليه من معصيتي. كما:-
1132 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن
(1) انظر ما مضى في بيان"لعل" بمعنى"كى" 1: 364 -365، وهذا الجزء 2:68.
داود بن الحصين، عن عكرمة عن ابن عباس:(لعلكم تتقون)، قال: تنزعون عما أنتم عليه.
* * *
والذي آتاهم الله، هو التوراة. كما:-
1133 -
حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(واذكروا ما فيه) يقول: اذكروا ما في التوراة.
1134 -
كما حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:(واذكروا ما فيه) يقول: أمروا بما في التوراة.
1135 -
وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله:(واذكروا ما فيه)، قال: اعملوا بما فيه بطاعة لله وصدق. (1) قال: وقال: اذكروا ما فيه، لا تنسوه ولا تغفلوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (ثم توليتم) : ثم أعرضتم. وإنما هو"تفعلتم" من قولهم:"ولاني فلان دبره" إذا استدبر عنه وخلفه خلف ظهره. ثم يستعمل ذلك في كل تارك طاعة أمر بها، ومعرض بوجهه. (2) يقال:"قد تولى فلان عن طاعة فلان، وتولى عن مواصلته"، ومنه قول الله جل ثناؤه:(فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ)[التوبة: 76]، يعني بذلك: خالفوا ما كانوا وعدوا الله من قولهم: (لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ
(1) في المطبوعة: "بطاعة الله وصدق" خطأ.
(2)
في المطبوعة: "طاعة أمر: عز وجل"، بزيادة الثناء على ربنا سبحانه، وعلى أن"أمر" مبني للمعلوم. وهذا مخالف للسياق، وسهو من النساخ.
وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [التوبة: 75] ، ونبذوا ذلك وراء ظهورهم
* * *
ومن شأن العرب استعارة الكلمة ووضعها مكان نظيرها، كما قال أبو خراش الهذلي:(1)
فليس كعهد الدار يا أم مالك
…
ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل (2) وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل
…
سوى الحق شيئا واستراحل (3)
يعني بقوله:"أحاطت بالرقاب السلاسل"، أن الإسلام صار - في منعه إيانا ما كنا نأتيه في الجاهلية، مما حرمه الله علينا في الإسلام - بمنزلة السلاسل المحيطة برقابنا، التي تحول بين من كانت في رقبته مع الغل الذي في يده، وبين ما حاول أن يتناوله.
ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. فكذلك قوله: (ثم توليتم
(1) كان في المطبوعة: "قال أبو ذؤيب الهذلي"، وهو خطأ فاضح، لا يقع في مثله مثل أبي جعفر.
(2)
ديوان الهذليين 2: 150، وسيرة ابن هشام 4: 116، والأغاني 21: 41، والكامل 1:267. وهي أبيات جياد في رثاء صديق. وذلك أن زهير بن العجوة الهذلي من بني عمرو بن الحارث - وكان ابن عم ابي خراش، وله صديقا - خرج يطلب الغنائم يوم حنين فأسر، وكتف في أناس أخذهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرآه جميل بن معمر الجمحي - وكانت بينهما إحنة في الجاهلية - فقال له: أنت الماشي لنا بالمغايظ؟ فضرب عنقه، فقال أبو خراش يرثيه. وقال لجميل بن معمر: وإنك لو واجهته إذ لقيته
…
فنازلته، أو كنت ممن ينازل
لظل جميل أسوأ القوم تلة
…
ولكن قرن الظهر للمرء شاغل
فليس كعهد. . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة: "فليس لعهد الدار" خطأ. ويعني بقوله: "الدار": مكة وما حولها وما جاورها. يقول: ليس الأمر كما عهدت بها وعهدتا، جاء الإسلام فهدم ذلك كله.
(3)
يقول: فارق الفتى أخلاق فتوته وعرامه، وصار كالكهل في أناته وتثبته، فإن الدين قد وقذ الفتيان ذوى البأس وسكنهم من مخافة عقاب ربهم في القتل من غير قتال ومعركة. فاستراحت العواذل لأنهن أصبحن لا يجدن ما يعذلن فيه أزواجهن من التعرض للهلاك.
من بعد ذلك) ، يعني بذلك: أنكم تركتم العمل بما أخذنا ميثاقكم وعهودكم على العمل به بجد واجتهاد، بعد إعطائكم ربكم المواثيق على العمل به، والقيام بما أمركم به في كتابكم، فنبذتموه وراء ظهوركم.
وكنى بقوله جل ذكره:"ذلك"، عن جميع ما قبله في الآية المتقدمة، أعني قوله:(وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ذكره: (فلولا فضل الله عليكم) ، فلولا أن الله تفضل عليكم بالتوبة = بعد نكثكم الميثاق الذي واثقتموه - إذ رفع فوقكم الطور - بأنكم تجتهدون في طاعته، وأداء فرائضه، والقيام بما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه في الكتاب الذي آتاكم، فأنعم عليكم بالإسلام ورحمته التي رحمكم بها - وتجاوز عنكم خطيئتكم التي ركبتموها - بمراجعتكم طاعة ربكم = لكنتم من الخاسرين.
وهذا، وإن كان خطابا لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنما هو خبر عن أسلافهم، فأخرج الخبر مخرج المخبر عنهم - على نحو ما قد بينا فيما مضى، من أن القبيلة من العرب تخاطب القبيلة عند الفخار أو غيره، بما مضى من فعل أسلاف المخاطِب بأسلاف المخاطَب، فتضيف فعل أسلاف المخاطِب إلى نفسها، فتقول: فعلنا بكم، وفعلنا بكم. وقد ذكرنا بعض الشواهد في ذلك من شعرهم فيما مضى. (1)
* * *
(1) انظر ما مضى في هذا الجزء 2: 38 - 39.
وقد زعم بعضهم أن الخطاب في هذه الآيات، إنما أخرج بإضافة الفعل إلى المخاطبين به، والفعل لغيرهم، لأن المخاطبين بذلك كانوا يتولون من كان فعل ذلك من أوائل بني إسرائيل، فصيرهم الله منهم من أجل ولايتهم لهم.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك كذلك، لأن سامعيه كانوا عالمين -وإن كان الخطاب خرج خطابا للأحياء من بني إسرائيل وأهل الكتاب- (1) أن المعنى في ذلك إنما هو خبر عما قص الله من أنباء أسلافهم. فاستغنى بعلم السامعين بذلك، عن ذكر أسلافهم بأعيانهم. ومثل ذلك يقول الشاعر:(2)
إذ ما انتسبنا لم تلدني لئيمة،
…
ولم تجدي من أن تقري به بدا
(3)
فقال:"إذا ما انتسبنا"، و"إذا" تقتضي من الفعل مستقبلا ثم قال:"لم تلدني لئيمة"، فأخبر عن ماض من الفعل. وذلك أن الولادة قد مضت وتقدمت. وإنما فعل ذلك - عند المحتج به - لأن السامع قد فهم معناه. فجعل ما ذكرنا - من خطاب الله أهل الكتاب الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بإضافة أفعال أسلافهم إليهم - نظير ذلك.
والأول الذي قلنا، هو المستفيض من كلام العرب وخطابها.
* * *
(1) في المطبوعة: "إذ المعنى في ذلك. . "، وهو كلام لا يستقيم. وسياق الجملة يقتضي أن توضع"أن" مكان"إذ" أي:"لأن سامعيه كانوا عالمين. . أن المعنى في ذلك. . "، وما بينهما فصل واعتراض.
(2)
في حاشية الأمير على مغنى اللبيب 1: 25 قال: "في حاشية السيوطي" قائله زائدة ابن صعصعة الفقعسي، يعرض بزوجته، وكانت أمها سرية"، ولم ينسبه السيوطي في شرحه على شواهد المغنى:33.
(3)
سيأتي في هذا الجزء 1: 333 (بولاق)، وفي 3: 49 (بولاق)، ومعانى الفراء: 61، 178 وقبل البيت يقول لامرأته. رمتنى عن قوس العدو، وباعدت
…
عبيدة، زاد الله ما بيننا بعدا
وكان أبو العالية يقول في قوله: (فلولا فضل الله عليكم ورحمته) - فيما ذكر لنا - نحو القول الذي قلناه.
1136 -
حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو النضر، عن الربيع، عن أبي العالية:(فلولا فضل الله عليكم ورحمته)، قال:"فضل الله"، الإسلام،"ورحمته"، القرآن.
1137 -
وحدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر [عن أبيه] ، عن الربيع بمثله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64) }
قال أبو جعفر: فلولا فضل الله عليكم ورحمته إياكم - بإنقاذه إياكم بالتوبة عليكم من خطيئتكم وجرمكم - لكنتم الباخسين أنفسكم حظوظها دائما، الهالكين بما اجترمتم من نقض ميثاقكم، وخلافكم أمره وطاعته.
وقد تقدم بياننا قبل بالشواهد، عن معنى"الخسار" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (ولقد علمتم)، ولقد عرفتم. (3) كقولك:
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، وانظر آخر إسناد عن عمار بن الحسن رقم:1134.
(2)
انظر ما مضى 1: 417.
(3)
سيأتي دليل هذا من تفسير ابن عباس في رقم: 1138.
قد علمت أخاك ولم أكن أعلمه"، يعني عرفته، ولم أكن أعرفه، كما قال جل ثناؤه:(وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)[الأنفال: 60]، يعني: لا تعرفونهم الله يعرفهم.
* * *
وقوله: (الذين اعتدوا منكم في السبت) ، أي الذين تجاوزوا حدي، وركبوا ما نهيتهم عنه في يوم السبت، وعصوا أمري.
وقد دللت -فيما مضى- على أن"الاعتداء"، أصله تجاوز الحد في كل شيء. بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية وآيات بعدها تتلوها، مما عدد جل ثناؤه فيها على بني إسرائيل - الذين كانوا بين خلال دور الأنصار زمان النبي صلى الله عليه وسلم، الذين ابتدأ بذكرهم في أول هذه السورة من نكث أسلافهم عهد الله وميثاقه - (2) ما كانوا يبرمون من العقود، وحذر المخاطبين بها أن يحل بهم - بإصرارهم على كفرهم، ومقامهم على جحود نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه والتصديق بما جاءهم به من عند ربه - مثل الذي حل بأوائلهم من المسخ والرجف والصعق، وما لا قبل لهم به من غضب الله وسخطه. كالذي:-
1138 -
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت) يقول: ولقد عرفتم. وهذا تحذير لهم من المعصية. يقول: احذروا أن يصيبكم ما أصاب أصحاب السبت، إذ عصوني، اعتدوا - يقول: اجترؤوا - في السبت. قال: لم يبعث الله نبيا إلا أمره بالجُمعة،
(1) انظر ما مضى من هذا الجزء: 2: 142.
(2)
سياق عبارته: مما عدد الله على بني إسرائيل. . . ما كانوا يبرمون من العقود"، وما بينهما فصل بصفة"بني إسرائيل".
وأخبره بفضلها وعظمها في السموات وعند الملائكة، وأن الساعة تقوم فيها. فمن اتبع الأنبياء فيما مضى كما اتبعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم محمدا، قبل الجمعة وسمع وأطاع، وعرف فضلها وثبت عليها، كما أمر الله تعالى به نبيه صلى الله عليه وسلم. (1) ومن لم يفعل ذلك، كان بمنزلة الذين ذكر الله في كتابه فقال:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . وذلك أن اليهود قالت لموسى - حين أمرهم بالجمعة، وأخبرهم بفضلها -: يا موسى، كيف تأمرنا بالجمعة وتفضلها على الأيام كلها، والسبت أفضل الأيام كلها، لأن الله خلق السموات والأرض والأقوات في ستة أيام، وسبت له كل شيء مطيعا يوم السبت، (2) وكان آخر الستة؟ قال: وكذلك قالت النصارى لعيسى ابن مريم - حين أمرهم بالجمعة - قالوا له: كيف تأمرنا بالجمعة وأول الأيام أفضلها وسيدها، والأول أفضل، والله واحد، والواحد الأول أفضل؟ فأوحى الله إلى عيسى: أن دعهم والأحد، ولكن ليفعلوا فيه كذا وكذا. - مما أمرهم به. فلم يفعلوا، فقص الله تعالى قصصهم في الكتاب بمعصيتهم. قال: وكذلك قال الله لموسى - حين قالت له اليهود ما قالوا في أمر السبت -: أن دعهم والسبت، فلا يصيدوا فيه سمكا ولا غيره، ولا يعملوا شيئا كما قالوا. قال: فكان إذا كان السبت ظهرت الحيتان على الماء، فهو قوله:(إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا)[الأعراف: 163]، يقول: ظاهرة على الماء، ذلك لمعصيتهم موسى - وإذا كان غير يوم السبت، صارت صيدا كسائر الأيام فهو قوله:(وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ)[الأعراف: 163] . ففعلت الحيتان ذلك ما شاء الله. فلما رأوها كذلك، طمعوا في أخذها وخافوا العقوبة، فتناول بعضهم منها فلم تمتنع عليه، وحذر العقوبة التي حذرهم موسى من الله تعالى. فلما رأوا أن العقوبة لا تحل بهم، عادوا، وأخبر بعضهم بعضا بأنهم قد أخذوا السمك ولم يصبهم شيء، فكثَّروا في ذلك، وظنوا أن ما قال لهم موسى كان باطلا. وهو قول الله جل ثناؤه:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) - يقول: لهؤلاء الذين صادوا السمك - فمسخهم الله قردة بمعصيتهم. يقول: إذًا لم يحيوا في الأرض إلا ثلاثة أيام. [قال: ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام](3) ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل. وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكر الله في كتابه. فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة، وكذلك يفعل بمن شاء، كما يشاء، ويحوله كما يشاء.
1139 -
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن داود بن الحصين، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال ابن عباس: إن الله إنما افترض على بني إسرائيل اليوم الذي افترض عليكم في عيدكم -يوم الجمعة-. فخالفوا إلى السبت فعظموه، وتركوا ما أمروا به. فلما أبوا إلا لزوم السبت، ابتلاهم الله فيه، فحرم عليهم ما أحل لهم في غيره. وكانوا في قرية بين أيلة والطور يقال لها"مدين". فحرم الله عليهم في السبت الحيتان: صيدها وأكلها. وكانوا إذا كان يوم السبت أقبلت إليهم شرعا إلى ساحل بحرهم، حتى إذا ذهب السبت ذهبن، فلم يروا حوتا صغيرا ولا كبيرا. حتى إذا كان يوم السبت أتين إليهم شرعا، حتى إذا ذهب السبت ذهبن. فكانوا كذلك، حتى إذا طال عليهم الأمد وقَرِموا إلى الحيتان، (4) عمد رجل منهم فأخذ حوتا سرا يوم السبت، فخزمه بخيط، ثم أرسله في الماء، وأوتد له وتدا في الساحل فأوثقه، ثم تركه. حتى إذا كان الغد، جاء فأخذه - أي: إني لم آخذه في
(1) في المطبوعة: "بما أمره الله تعالى به ونبيه صلى الله عليه وسلم"، وهي جملة غير صحيحة، صححتها كما ترى.
(2)
سبت: سكن، وقولهم:"سبت له"، يريدون: خشع له وانقطع عن كل عمل إلا عبادته سبحانه وانظر ما سيأتي ص: 174.
(3)
هذه الزيادة من تفسير ابن كثير 1: 193، والدر المنثور 1: 75، وهي زيادة لا بد منها. وفي المطبوعة بعدها؛"ولم تأكل ولم تشرب، ولم تنسل" خطأ.
(4)
القرم: شدة الشهوة إلى اللحم، قرم يقرم (بفتح الراء) قرما (بفتحتين) .
يوم السبت - ثم انطلق به فأكله. حتى إذا كان يوم السبت الآخر، عاد لمثل ذلك، ووجد الناس ريح الحيتان، فقال أهل القرية: والله لقد وجدنا ريح الحيتان! ثم عثروا على صنيع ذلك الرجل. (1) قال: ففعلوا كما فعل، وأكلوا سرا زمانا طويلا لم يعجل الله عليهم بعقوبة، حتى صادوها علانية وباعوها بالأسواق. وقالت طائفة منهم من أهل البقيّة:(2) ويحكم! اتقوا الله! ونهوهم عما كانوا يصنعون. وقالت طائفة أخرى لم تأكل الحيتان، ولم تنه القوم عما صنعوا:(لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون) لسخطنا أعمالهم - (وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُون)[الأعراف: 164]، قال ابن عباس: فبينما هم على ذلك، أصبحت تلك البقية في أنديتهم ومساجدهم، وفقدوا الناس فلا يرونهم. فقال بعضهم لبعض: إن للناس لشأنا! فانظروا ما هو! فذهبوا ينظرون في دورهم، فوجدوها مغلقة عليهم، قد دخلوا ليلا فغلقوها على أنفسهم، كما يغلق الناس على أنفسهم، فأصبحوا فيها قردة، وإنهم ليعرفون الرجل بعينه وإنه لقرد، والمرأة بعينها وإنها لقردة، والصبي بعينه وإنه لقرد. قال: يقول ابن عباس: فلولا ما ذكر الله أنه أنجى الذين نهوا عن السوء، لقلنا أهلك الجميع منهم. قالوا: وهي القرية التي قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ) الآية [الأعراف: 163] .
1140 -
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة
(1) عثر على الأمر: اطلع عليه وكان خافيا. وفي المطبوعة: "على ما صنع"، وأثبت نص ابن كثير في التفسير 1:194.
(2)
في المطبوعة: "من أهل التقية"، وهو خطأ محض. أهل البقية: هم أهل التمييز والفهم، يبقون على أنفسهم بطاعة الله، وبتمسكهم بالدين المرضي. وفلان بقية: فيه فضل وخير فيما يمدح به وسيأتي بعد على الصواب. وقال الله تعالى: (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ)[سورة هود: 116] .
خاسئين) : أحلت لهم الحيتان، وحرمت عليهم يوم السبت بلاء من الله، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. فصار القوم ثلاثة أصناف: فأما صنف فأمسك ونهى عن المعصية، وأما صنف فأمسك عن حرمة الله، وأما صنف فانتهك حرمة الله ومرد على المعصية. فلما أبوا إلا الاعتداء إلى ما نهوا عنه، قال الله لهم:(كونوا قردة خاسئين) فصاروا قردة لها أذناب، تعاوى بعد ما كانوا رجالا ونساء.
1141 -
حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت)، قال: نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، فكانت تشرع إليهم يوم السبت، وبلوا بذلك، فاعتدوا فاصطادوها، فجعلهم الله قردة خاسئين.
1142 -
حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) قال: فهم أهل"أيلة"، وهي القرية التي كانت حاضرة البحر، فكانت الحيتان إذا كان يوم السبت - وقد حرم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئا - لم يبق في البحر حوت إلا خرج، حتى يخرجن خراطيمهن من الماء. فإذا كان يوم الأحد لزمن سُفل البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت. فذلك قوله:(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ)[الأعراف: 163] ، فاشتهى بعضهم السمك، فجعل الرجل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهرا إلى البحر. فإذا كان يوم السبت فتح النهر، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة. ويريد الحوت أن يخرج، فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر، فيمكث [فيها] . (1) فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه. فجعل الرجل يشوي
(1) الزيادة من تفسير ابن كثير 1: 195.
السمك، فيجد جاره ريحه، فيسأله فيخبره، فيصنع مثل ما صنع جاره. حتى إذا فشا فيهم أكل السمك، قال لهم علماؤهم: ويحكم! إنما تصطادون السمك يوم السبت وهو لا يحل لكم! فقالوا: إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه، فقال الفقهاء: لا ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل. فقالوا: لا! وعتوا أن ينتهوا. فقال بعض الذين نهوهم لبعض: (لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا)[الأعراف: 164]، يقول: لم تعظونهم، وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم؟ فقال بعضهم:(مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)[الأعراف: 164] . فلما أبوا قال المسلمون: والله لا نساكنكم في قرية واحدة. فقسموا القرية بجدار، ففتح المسلمون بابا والمعتدون في السبت بابا، ولعنهم داود. فجعل المسلمون يخرجون من بابهم والكفار من بابهم. فخرج المسلمون ذات يوم، ولم يفتح الكفار بابهم. فلما أبطئوا عليهم، تسور المسلمون عليهم الحائط، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض، ففتحوا عنهم، فذهبوا في الأرض. فذلك قول الله عز وجل:(فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)[الأعراف: 166]، فذلك حين يقول:(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ)[المائدة: 78] ، فهم القردة.
1143 -
حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:(الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . قال: لم يمسخوا، إنما هو مثل ضربه الله لهم، مثل ما ضرب مثل الحمار يحمل أسفارا (1) .
1144 -
حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(1) سورة الجمعة: 54.
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين) . قال: مسخت قلوبهم، ولم يمسخوا قردة، وإنما هو مثل ضربه الله لهم، كمثل الحمار يحمل أسفارا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله مجاهد، قول لظاهر ما دل عليه كتاب الله مخالف. (1) وذلك أن الله أخبر في كتابه أنه جعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، (2) كما أخبر عنهم أنهم قالوا لنبيهم:(أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)[النساء: 153] ، وأن الله تعالى ذكره أصعقهم عند مسألتهم ذلك ربهم، وأنهم عبدوا العجل، فجعل توبتهم قتل أنفسهم، وأنهم أمروا بدخول الأرض المقدسة فقالوا لنبيهم:(اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)[المائدة: 24] فابتلاهم بالتيه. فسواء قائل قال: (3) هم لم يمسخهم قردة، وقد أخبر جل ذكره أنه جعل منهم قردة وخنازير - وآخر قال: لم يكن شيء مما أخبر الله عن بني إسرائيل أنه كان منهم - من الخلاف على أنبيائهم، والنكال والعقوبات التي أحلها الله بهم. (4) ومن أنكر شيئا من ذلك وأقر بآخر منه، سئل البرهان على قوله، وعورض -فيما أنكر من ذلك- بما أقر به، ثم يسأل الفرق من خبر مستفيض أو أثر صحيح.
هذا مع خلاف قول مجاهد قول جميع الحجة التي لا يجوز عليها الخطأ والكذب فيما نقلته مجمعة عليه. وكفى دليلا على فساد قول، إجماعها على تخطئته.
* * *
(1) انظر معنى"ظاهر" فيما سلف 2: 15 والمراجع.
(2)
سورة المائدة: 60.
(3)
في المطبوعة: "فسواء قال قائل"، وسياق العبارة يقتضي التقديم. لقوله"وآخر قال".
(4)
في المطبوعة: "والعقوبات والأنكال"، ليس صوابا. والنكال: العذاب الشديد يكون عبرة للناس حتى ينكلوا عن شيء ويخافوه. وأما"الأنكال" فجمع نكل: وهو القيد.
في قلوبهم العجل) تأويل من قال: وأشربوا في قلوبهم حب العجل. لأن الماء لا يقال منه: أشرب فلان في قلبه، وإنما يقال ذلك في حب الشيء، فيقال منه:"أشرب قلب فلان حب كذا"، بمعنى سقي ذلك حتى غلب عليه وخالط قلبه، كما قال زهير:
فصحوت عنها بعد حب داخل
…
والحب يُشْرَبُه فؤادُك داء (1)
قال أبو جعفر: ولكنه ترك ذكر"الحب" اكتفاء بفهم السامع لمعنى الكلام. إذ كان معلوما أن العجل لا يُشرِب القلب، وأن الذي يشرب القلب منه حبه، كما قال جل ثناؤه:(وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ)[سورة الأعراف: 163]، (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا) [يوسف: 82] ، وكما قال الشاعر:(2)
ألا إنني سُقِّيت أسود حالكا
…
ألا بَجَلِي من الشراب ألا بَجَل (3)
(1) ديوانه: 339، وهو هناك"تشربه" بضم التاء وسكون الشين وكسر الراء ونصب"فؤادك"، وشرحه فيه دليل على ذلك، فإنه قال:"تدخله" وقال: "تشربه" تلزمه ولكن استدلال الطبري، كما ترى يدل على ضبطه مبنيا للمجهول، ورفع"فؤادك". وحب داخل، وداء داخل: قد خالط الجوف فأدخل الفساد على العقل والبدن.
(2)
هو طرفة بن العبد.
(3)
ديوانه: 343 (أشعار الستة الجاهليين)، ونوادر أبي زيد: 83، واللسان (سود) . واختلف فيما أراد بقوله:"أسود". قيل: الماء، وقيل: المنية والموت. قال أبو زيد في نوادره: "يقال ما سقاني فلان من سويد قطرة، (سويد: بالتصغير) هو الماء، يدعى الأسود". واستدل بالبيت. والصواب في ذلك أن يقال كما قال الطبري، ويعني به: سوء ما لقى من هم وشقاء حالك في حب صاحبته الحنظلية، التي ذكرها في شعره هذا قبل البيت: فقل لخيال الحنظلية ينقلب
…
إليها، فإني واصل حبل من وصل
ألا إنما أبكى ليوم لقيته
…
بجرثم قاس، كل ما بعده جلل
إذا جاء ما لا بد منه فمرحبا
…
به حين يأتي - لا كذاب ولا علل
ألا إنني. . . . . . . . . .
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى: "ألا بجلى من الحياة"، وهي أجود. . ورواية الديوان واللسان:(ألا إنني شربت)، والتي هنا أجود. وقوله:"بجل"، أي حسبي ما سقيت منك ومن الحياة.