المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

1171 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٢

[ابن جرير الطبري]

الفصل: 1171 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج،

1171 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:(وموعظة للمتقين) ، أي لمن بعدهم.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ‌

(67) }

قال أبو جعفر: وهذه الآية مما وبخ الله بها المخاطبين من بني إسرائيل، في نقض أوائلهم الميثاق الذي أخذه الله عليهم بالطاعة لأنبيائه، فقال لهم: واذكروا أيضا من نكثكم ميثاقي،"إذ قال موسى لقومه" - وقومه بنو إسرائيل، إذ ادارؤوا في القتيل الذي قتل فيهم إليه:(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا) .

و"الهزؤ": اللعب والسخرية، كما قال الراجز:(1)

قد هزئت مني أم طيسله

قالت أراه معدما لا شيء له (2)

يعني بقوله: قد هزئت: قد سخرت ولعبت.

ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله -فيما أخبرت عن الله من أمر أو نهي- هزؤ أو لعب. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم -عن أمر الله تعالى ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب. ولم يكن لهم أن يظنوا ذلك بنبي الله، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة.

* * *

(1) هو صخير بن عمير التميمي، ويقال إن القصيدة للأصمعي نفسه.

(2)

الأصمعيات: 58، وأمالي القالي 2: 284، وانظر تحقيق ما قيل فيها في تعليق سمط اللآلي للراجكوتي: 930 وروايتهم جميعا: تهزأ مني أخت آل طيسله

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ويروى"مملقا لا شيء له" و"مبلطا"، وكلها بمعنى واحد: فقيرا لا شيء له.

ص: 182

وحذفت"الفاء" من قوله: (أتتخذنا هزوا) ، وهو جواب، لاستغناء ما قبله من الكلام عنه، وحَسُن السكوت على قوله:(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، فجاز لذلك إسقاط"الفاء" من قوله:(أتتخذنا هزوا)، كما جاز وحسن إسقاطها من قوله تعالى (قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا) [الحجر: 57، 58 الذاريات: 31، 32] ، ولم يقل: فقالوا إنا أرسلنا. ولو قيل"فقالوا" كان حسنا أيضا جائزا. ولو كان ذلك على كلمة واحدة، لم تسقط منه"الفاء". وذلك أنك إذا قلت:"قمت ففعلت كذا وكذا"، لم تقل: قمت فعلت كذا وكذا" (1) لأنها عطف، لا استفهام يوقف عليه.

فأخبرهم موسى -إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية، من الجاهلين. (2) وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال:(أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل.

* * *

وكان سبب قيل موسى لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)، ما:-

1172 -

حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: كان في بني إسرائيل رجل عقيم -أو عاقر- قال: فقتله وليه، ثم احتمله فألقاه في سبط غير سبطه. قال: فوقع بينهم فيه الشر حتى أخذوا السلاح. قال: فقال أولو النهى: أتقتتلون وفيكم رسول الله؟ قال: فأتوا نبي الله، فقال: اذبحوا بقرة! فقالوا: أتتخذنا هزوا، قال:"أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة) ، إلى قوله:(فذبحوها وما كادوا يفعلون) قال: فضرب، فأخبرهم بقاتله. قال: ولم تؤخذ البقرة إلا بوزنها ذهبا، قال:

(1) في المطبوعة: "قمت وفعلت" وفي المطبوعة: "ولم تقل: قمت. . " بزيادة الواو، وهو فاسد. وانظر معاني القرآن للفراء 1:44.

(2)

سياق معناه: أخبرهم موسى أن المخبر عن الله بهُزُء وسخرية، هو من الجاهلين.

ص: 183

ولو أنهم أخذوا أدنى بقرة لأجزأت عنهم. فلم يورث قاتل بعد ذلك. (1)

1173 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قول الله (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قال: كان رجل من بني إسرائيل، وكان غنيا ولم يكن له ولد، وكان له قريب وارثه، فقتله ليرثه، ثم ألقاه على مجمع الطريق، (2) وأتى موسى فقال له: إن قريبي قتل وأُتي إلي أمر عظيم، وإني لا أجد أحدا يبين لي من قتله غيرك يا نبي الله. قال: فنادى موسى في الناس: أنشد الله من كان عنده من هذا علم إلا بينه لنا. فلم يكن عندهم علمه. فأقبل القاتل على موسى فقال: أنت نبي الله، فاسأل لنا ربك أن يبين لنا. فسأل ربه، فأوحى الله إليه:(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . فعجبوا وقالوا: (أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي، قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض) - يعني: لا هرمة - (ولا بكر) - يعني: ولا صغيرة - (عوان بين ذلك) - أي: نصف، بين البكر والهرمة - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها، قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها) - أي: صاف لونها - (تسر الناظرين) - أي تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول) أي: لم يذللها العمل - (تثير الأرض) - يعني ليست بذلول فتثير الأرض - (ولا تسقي الحرث) - يقول: ولا تعمل في الحرث - (مسلمة) ، يعني مسلمة من العيوب، (لا شية فيها) - يقول: لا بياض فيها - (قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما

(1) الأثر: 1172 - عبيدة، بفتح العين وبعد الباء الموحدة ياء تحتية: هو عبيدة السلماني. وهذا الأثر نقله ابن كثير 1: 197 - 198، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق هشام بن حسان"عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه.

وقد مضى أثر آخر: 245 من رواية أيوب وابن عون، عن ابن سيرين، عن"عبيدة". ورجحنا هناك أن صوابه"عبيدة". فهذا الإسناد الذي هنا يؤيد ما رجحنا.

(2)

مجمع الطريق: هو حيث يلتقى الناس ويجتمعون، أو حيث تلتقى الطرق.

ص: 184

كادوا يفعلون) . قال: ولو أن القوم حين أمروا أن يذبحوا بقرة، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها، (1) لكانت إياها، ولكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم. ولولا أن القوم استثنوا فقالوا:(وإنا إن شاء الله لمهتدون) ، لما هدوا إليها أبدا. فبلغنا أنهم لم يجدوا البقرة التي نعتت لهم، إلا عند عجوز عندها يتامى، وهي القيمة عليهم. فلما علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، (2) أضعفت عليهم الثمن. فأتوا موسى فأخبروه أنهم لم يجدوا هذا النعت إلا عند فلانة، وأنها سألتهم أضعاف ثمنها. فقال لهم موسى: إن الله قد كان خفف عليكم، فشددتم على أنفسكم، فأعطوها رضاها وحكمها. ففعلوا، واشتروها فذبحوها. فأمرهم موسى أن يأخذوا عظما منها فيضربوا به القتيل. ففعلوا، فرجع إليه روحه، فسمى لهم قاتله، ثم عاد ميتا كما كان. فأخذوا قاتله - وهو الذي كان أتى موسى فشكى إليه، - فقتله الله على أسوء عمله.

1174 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قال: كان رجل من بني إسرائيل مكثرا من المال، وكانت له ابنة، وكان له ابن أخ محتاج. فخطب إليه ابن أخيه ابنته، فأبي أن يزوجه إياها، فغضب الفتى وقال: والله لأقتلن عمي، ولآخذن ماله، ولأنكحن ابنته، ولآكلن ديته! فأتاه الفتى، وقد قدم تجار في أسباط بني إسرائيل، فقال: يا عم، انطلق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم، لعلي أصيب منها، (3) فإنهم إذا رأوك معي أعطوني. فخرج العم مع الفتى ليلا فلما بلغ الشيخ ذلك السبط، قتله الفتى، ثم رجع إلى أهله.

(1) استعرضوا: أخذوا من عرض البقر (بضم العين وسكون الراء) فلم يبالوا أيها أخذوا. والعرض: الوجه والناحية، أي ما يعرض لك من الشيء.

(2)

تقول: "هذا الأمر لا يزكو بفلان" أي لا يليق به ولا يصلح له. فقوله: "لا يزكو لهم غيرها" أي لا يصلح لهم غيرها ولا ينفع فيما أمرهم الله به.

(3)

في المطبوعة: "أصيب فيها"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 1:200. أصاب الإنسان من المال وغيره: تناول وأخذ. ويريد أصيب منها ربحا.

ص: 185

فلما أصبح، جاء كأنه يطلب عمه، كأنه لا يدري أين هو، فلم يجده. فانطلق نحوه، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه، فأخذهم وقال: قتلتم عمي فأدوا إلي ديته. وجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادى: واعماه! فرفعهم إلى موسى، فقضى عليهم بالدية، فقالوا له: يا رسول الله، ادع لنا ربك حتى يبين له من صاحبه، فيؤخذ صاحب الجريمة، (1) فوالله إن ديته علينا لهينة، ولكنا نستحي أن نعير به. فذلك حين يقول الله جل ثناؤه:(وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون) . فقال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) . قالوا: نسألك عن القتيل وعمن قتله، وتقول: اذبحوا بقرة! أتهزأ بنا؟ قال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) - قال، قال ابن عباس: فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم، ولكنهم شددوا وتعنتوا موسى فشدد الله عليهم - (2) فقالوا:(ادع لنا ربك يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) - والفارض: الهرمة التي لا تلد، والبكر: التي لم تلد إلا ولدا واحدا، والعوان: النصف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدها -"فافعلوا ما تؤمرون" * (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) - قال: تعجب الناظرين - (قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي إن البقر تشابه علينا وإنا إن شاء الله لمهتدون * قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلمة لا شية فيها) - من بياض ولا سواد ولا حمرة - (قالوا الآن جئت بالحق) . فطلبوها فلم يقدروا عليها.

وكان رجل من بني إسرائيل من أبر الناس بأبيه، وإن رجلا مر به معه لؤلؤ يبيعه، فكان أبوه نائما تحت رأسه المفتاح، فقال له الرجل: تشتري

(1) في المطبوعة: "ادع لنا حتى يتبين". ونص ابن كثير في تفسيره 1: 200"ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه، فيؤخذ صاحب القضية".

(2)

أعنته وتعنته: سأله عن شيء أراد به اللبس عليه والمشقة.

ص: 186

مني هذا اللؤلؤ بسبعين ألفا؟ فقال له الفتى: كما أنت حتى يستيقظ أبي فآخذه بثمانين ألفا. فقال له الآخر: أيقظ أباك وهو لك بستين ألفا. فجعل التاجر يحط له حتى بلغ ثلاثين ألفا، وزاد الآخر على أن ينتظر حتى يستيقظ أبوه، حتى بلغ مائة ألف. فلما أكثر عليه قال: لا والله، لا أشتريه منك بشيء أبدا، وأبى أن يوقظ أباه. فعوضه الله من ذلك اللؤلؤ أن جعل له تلك البقرة. فمرت به بنو إسرائيل يطلبون البقرة، فأبصروا البقرة عنده، فسألوه أن يبيعهم إياها بقرة ببقرة، فأبي، فأعطوه ثنتين فأبي، فزادوه حتى بلغوا عشرا، فأبي، فقالوا: والله لا نتركك حتى نأخذها منك. فانطلقوا به إلى موسى فقالوا: يا نبي الله، إنا وجدنا البقرة عند هذا فأبي أن يعطيناها، وقد أعطيناه ثمنا. فقال له موسى: أعطهم بقرتك. فقال: يا رسول الله، أنا أحق بمالي. فقال: صدقت. وقال للقوم: أرضوا صاحبكم. فأعطوه وزنها ذهبا فأبي، فأضعفوا له مثل ما أعطوه وزنها، حتى أعطوه وزنها عشر مرات، فباعهم إياها وأخذ ثمنها. فقال: اذبحوها. فذبحوها فقال: اضربوه ببعضها. فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين، فعاش، فسألوه: من قتلك؟ فقال لهم: ابن أخي، قال: أقتله، وآخذ ماله، وأنكح ابنته. فأخذوا الغلام فقتلوه.

1175 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة -

1176 -

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد، عن مجاهد -

1177 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال، حدثني خالد بن يزيد، عن مجاهد -

1178 -

وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبا يذكر -

1179 -

وحدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد - وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس -

ص: 187

1180 -

وحدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، أخبرني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس -

- فذكر جميعهم أن السبب الذي من أجله قال لهم موسى: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) ، نحو السبب الذي ذكره عبيدة وأبو العالية والسدي، غير أن بعضهم ذكر أن الذي قتل القتيل الذي اختصم في أمره إلى موسى، كان أخا المقتول، وذكر بعضهم أنه كان ابن أخيه، وقال بعضهم: بل كانوا جماعة ورثة استبطئوا حياته. إلا أنهم جميعا مجمعون على أن موسى إنما أمرهم بذبح البقرة من أجل القتيل إذ احتكموا إليه - عن أمر الله إياهم بذلك - (1) فقالوا له: وما ذبح البقرة؟ يبين لنا خصومتنا التي اختصمنا فيها إليك في قتل من قتل، فادُّعِي على بعضنا أنه القاتل! أتهزأ بنا؟ كما:-

1181 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قتل قتيل من بني إسرائيل، فطرح في سبط من الأسباط، فأتى أهل ذلك القتيل إلى ذلك السبط فقالوا: أنتم والله قتلتم صاحبنا. قالوا: لا والله. فأتوا موسى فقالوا: هذا قتيلنا بين أظهرهم، وهم والله قتلوه! فقالوا: لا والله يا نبي الله، طرح علينا! فقال لهم موسى: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة. فقالوا: أتستهزئ بنا؟ وقرأ قول الله جل ثناؤه: (أتتخذنا هزوا) . قالوا: نأتيك فنذكر قتيلنا والذي نحن فيه، فتستهزئ بنا؟ فقال موسى: (أعوذ بالله أن أكون من

(1) الأجود أن يكون"عن أمر الله إياه بذلك".

ص: 188

الجاهلين) .

1182 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد وحجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب القرظي، ومحمد بن قيس: لما أتى أولياء القتيل والذين ادعوا عليهم قتل صاحبهم - موسى وقصوا قصتهم عليه، أوحى الله إليه أن يذبحوا بقرة، فقال لهم موسى:(إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة، قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . قالوا: وما البقرة والقتيل؟ قال: أقول لكم:"إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة"، وتقولون:"أتتخذنا هزوا".

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ}

(1)

قال أبو جعفر: فقال الذين قيل لهم: (إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) - بعد أن علموا واستقر عندهم، أن الذي أمرهم به موسى من ذلك عن أمر الله من ذبح بقرة - جد وحق، (2)(ادع لنا ربك يبين لنا ما هي)، فسألوا موسى أن يسأل ربه لهم ما كان الله قد كفاهم بقوله لهم:"اذبحوا بقرة". لأنه جل ثناؤه إنما أمرهم بذبح بقرة من البقر - أي بقرة شاءوا ذبحها من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع أو صنف دون صنف - فقالوا بجفاء أخلاقهم وغلظ طبائعهم، وسوء أفهامهم، وتكلف ما قد وضع الله عنهم مؤونته، تعنتا منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-

1183 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قال لهم موسى: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) . قالوا له يتعنتونه: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) .

فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا من البحث عما كانوا قد كفوه من صفة البقرة التي أمروا بذبحها، تعنتا منهم نبيهم موسى صلوات الله عليه، بعد الذي كانوا أظهروا له من سوء الظن به فيما أخبرهم عن الله جل ثناؤه، بقولهم:(أتتخذنا هزوا)(3) - عاقبهم عز وجل بأن حصر ذبح ما كان أمرهم بذبحه

(1) الآية كلها ساقطة من الأصول، فوضعتها في موضعها.

(2)

قوله"جد وحق"، خبر قوله"أن الذي أمرهم به موسى. . . "

(3)

سياق العبارة: "فلما تكلفوا جهلا منهم ما تكلفوا. . عاقبهم. . "، وما بينهما فصل.

ص: 189

من البقر على نوع منها دون نوع، (1) فقال لهم جل ثناؤه - إذ سألوه فقالوا: ما هي؟ ما صفتها؟ وما حليتها؟ حَلِّها لنا لنعرفها! (2) -قال: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر) .

* * *

يعني بقوله جل ثناؤه: (لا فارض) لا مسنة هرمة. يقال منه: فرضت البقرة تفرض فروضا"، يعني بذلك: أسنت. ومن ذلك قول الشاعر:

يا رب ذي ضغن عليَّ فارضِ

له قروء كقروء الحائضِ (3)

يعني بقوله:"فارض"، قديم. يصف ضغنا قديما. ومنه قول الآخر:

لها زِجاج ولهاة فارض

حدلاء كالوطب نحاه الماخض (4)

(1) في المطبوعة"بأن خص بذبح ما كان أمرهم"، وعبارة الطبري فيما أرجح هي ما أثبته/، وقد قال آنفًا: 189"من غير أن يحصر لهم ذلك على نوع منها دون نوع"، وسيقول بعد: 197"فحصروا على نوع دون سائر الأنواع".

(2)

الحلية (بكسر فسكون) الصفة والصورة: حلى الرجل يحليه تحلية: وصف صورته وهيأته. وتحليت الرجل: عرفت صفته.

(3)

مجالس ثعلب: 364، والمعاني الكبير: 850، 1143، والحيوان 6: 66 - 67، والأضداد: 22، وكتاب القرطين 1: 44، 77، واللسان (فرض) ، وغيرها، وصواب إنشاده: يارب مولى حاسد مباغض

عليّ ذي ضغن وضب فارض

والضب: الغيظ والحقد تضمره في القلب. قروء وأقراء جمع قرء (بضم فسكون) : وهو وقت الحيض قال ابن قتيبة: "أي له أوقات تهيج فيها عداوته"، وقال الجاحظ:"كأنه ذهب إلى أن حقده يخبو ثم يستعر، ثم يخبو ثم يستعر".

(4)

البيت الأول في اللسان (زجج)، والثاني في المخصص 1:162. وكان في الأصل: له زجاج ولهاة فارض

هدلاء كالوطب تجاه الماخض

وهو تصحيف. والزجاج جمع زج: وهو الحديدة التي تركب في أسفل الرمح يركز به في الأرض. فاستعاره للألباب. واللهاة: لحمة حمراء في الحنك، معلقة على عكدة اللسان، مشرفة على الحلق. والفارض في هذا البيت: الواسع العظيم الضخم يقال: لحية فارض، وشِقْشِقَة فارض. (وهي لهاة البعير) ودلو فارض قال أبو محمد الفقعسي يذكر دلوا واسعا (وهو الغرب) . والغرب غرب بقري فارض

وحدلاء وأحدل: وهو الذي يمشي في شق، وفي منكبيه ورقبته إقبال على صدره، وانحناء. والوطب: سقاء اللبن، يكون من جلد. ونحاه: صرفه وأماله. والماخض: من مخض اللبن: إذا وضع في الممخضة، ليخرج زبده. لعله يهجو امرأته، ويذكر قبح أنيابها، وسعة لهاتها، من شدة شرهها. ويصف مشيتها مائلة على شق، وتكدس بدنها بعضه على بعض، كأنها وطب أماله الماخض يمنة ويسرة يحركه.

ص: 190

وبمثل الذي قلنا في تأويل"فارض" قال المتأولون:

* ذكر من قال ذلك:

1184 -

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد:(لا فارض)، قال: لا كبيرة. (1)

1185 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، أو عن عكرمة، شك شريك-:(لا فارض)، قال: الكبيرة.

1185 -

حدثني محمد بن سعد قال، أخبرني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:(لا فارض)، الفارض: الهرمة.

1186 -

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(لا فارض)، يقول: ليست بكبيرة هرمة.

1187 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس:(لا فارض) ، الهرمة.

1188 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الفارض" الكبيرة.

1189 -

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال،

(1) الخبر 1184 - علي بن سعيد بن مسروق الكندي، شيخ الطبري: كوفي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 /189 - 190، مات سنة 249. عبد السلام بن حرب الملائي الكوفي، الحافظ: ثقة حجة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 /47.

ص: 191

حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قوله:(لا فارض)، قال: الكبيرة.

1190 -

حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(لا فارض)، يعني: لا هرمة.

1191 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.

1192 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الفارض"، الهرمة.

1193 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال معمر، قال قتادة:"الفارض" الهرمة. يقول: ليست بالهرمة ولا البكر عوان بين ذلك.

1194 -

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الفارض"، الهرمة التي لا تلد.

1195 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الفارض"، الكبيرة.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا بِكْرٌ}

قال أبو جعفر: و"البكر" من إناث البهائم وبني آدم، ما لم يفتحله الفحل، وهي مكسورة الباء، لم يسمع منه "فَعَل" ولا "يفعل". وأما"البكر" بفتح الباء فهو الفتي من الإبل.

* * *

وإنما عنى جل ثناؤه بقوله (ولا بكر) ولا صغيرة لم تلد، كما:-

1196 -

حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد:(ولا بكر) ، صغيرة.

ص: 192

1197 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"البكر"، الصغيرة.

1198 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك-:(ولا بكر)، قال: الصغيرة.

1199 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:(ولا بكر) ، الصغيرة.

1200 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:(ولا بكر) ولا صغيرة.

1201 -

حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(ولا بكر) ، ولا صغيرة ضعيفة.

1202 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(ولا بكر)، يعني: ولا صغيرة.

1203 -

حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

1204 -

وحدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: في"البكر"، لم تلد إلا ولدا واحدا.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {عَوَانٌ}

قال أبو جعفر:"العوان" النصف التي قد ولدت بطنا بعد بطن، وليست بنعت للبكر. يقال منه:"قد عونت" إذا صارت كذلك.

وإنما معنى الكلام أنه يقول: إنها بقرة لا فارض ولا بكر بل عوان

ص: 193

بين ذلك. ولا يجوز أن يكون"عوان" إلا مبتدأ. لأن قوله (بين ذلك) ، كناية عن الفارض والبكر، فلا يجوز أن يكون متقدما عليهما، ومنه قول الأخطل:

وما بمكة من شُمط مُحَفِّلة

وما بيثرب من عُونٍ وأبكار (1)

وجمعها"عون" يقال:"امرأة عوان من نسوة عون". ومنه قول تميم بن مقبل:

ومأتم كالدمي حورٍ مدامعها

لم تبأس العيش أبكارا ولا عونا (2)

وبقرة "عوان، وبقر عون". قال: وربما قالت العرب: "بقر عُوُن" مثل"رسل" يطلبون بذلك الفرق بين جمع"عوان" من البقر، وجمع"عانة" من الحمر. ويقال:"هذه حرب عوان"، إذا كانت حربا قد قوتل فيها مرة بعد مرة. يمثل ذلك بالمرأة التي ولدت بطنا بعد بطن. وكذلك يقال:"حاجة عوان"، إذا كانت قد قضيت مرة بعد مرة.

(1) ديوانه: 119، وهو يخالف ما رواه الطبري، وقبله: إني حلفت برب الراقصات وما

أضحي بمكة من حجب وأستار

وبالهدي - إذا احمرت مذارعها

في يوم نسك وتشريق وتنحار

وما بزمزم من شمط محلقه

وما بيثرب من عون وأبكار

يعني: حلقوا رؤوسهم، وقد تحللوا من إحرامهم وقضوا حجتهم، والشمط جمع أشمط: وهو الذي خالط سواد شعره بياض الشيب. فإن صحت رواية الطبري"شمط مُحَفِّلَةٍ"، فكأنها من الحفيل والاحتفال: وهو الجد والاجتهاد، يقال منه: رجل ذو حفيل، وذو حفل وحفلة: له جد واجتهاد ومبالغة فيما أخذ فيه من الأمور. فكأنه عنى: مجتهدون في العبادة والنسك.

(2)

جمهرة أشعار العرب: 162، من جيد شعر تميم بن أبي بن مقبل. والمأتم عند العرب: جماعة النساء - أو الرجال - في خير أو شر. قالوا: والعامة تغلط فتظن أن"المأتم" النوح والنياحة. والدمى جمع دمية: الصورة أو التمثال، يتنوق في صنعتها ويبالغ في تحسينها، والعرب تكثر من تشبيه النساء بالدمي. والحور جمع حوراء. والحور أن يشتد بياض بياض العين، وسواد سوادها، تستدير حدقتها، وترق جفونها، ويبيض ما حولها. وقوله:"لم تبأس" أي لم يلحقها بؤس عيش، أو لم تشك بؤس عيش بئس يبأس بؤسا، فهو بائس وبئيس، افتقر واشتد عليه البؤس. وفي الأصل المطبوع، وفي اللسان (أتم) :"لم تيأس" بالياء المثناة، وهو خطأ.

ص: 194

1205 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، أن ابن زيد أنشده:

قعود لدى الأبواب طلاب حاجة

عوانٍ من الحاجات أو حاجةً بكرا (1)

قال أبو جعفر: والبيت للفرزدق.

وبنحو الذي قلنا في ذلك تأوله أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

1206 -

حدثنا علي بن سعيد الكندي، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن خصيف، عن مجاهد:(عوان بين ذلك) ، وسط، قد ولدت بطنا أو بطنين. (2)

1207 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(عوان)، قال:"العوان": العانس النصف.

1208 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"العوان"، النصف.

1209 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس -أو عكرمة، شك شريك- (عوان)، قال: بين ذلك.

1210 -

حُدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:(عوان)، قال: بين الصغيرة والكبيرة، وهى أقوى

(1) ديوان الفرزدق: 227، وطبقات فحول الشعراء: 256، وتاريخ الطبري: 138، وغيرها. وسيأتي في 7: 188 (بولاق) ، والشعر في زياد، وقبله: دعاني زياد للعطاء ولم أكن

لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا

وعند زياد، لو يريد عطاءهم،

رجال كثير قد يرى بهمُ فقرا

ويروى: قعودا، ورواية ابن سلام"طالب حاجة"، ونصب"أو حاجة بكرا" عطفا على محل"حاجة عوان"، فمحلها نصب بقوله:"طلاب".

(2)

الخبر: 1206 -"على بن سعيد الكندي": ترجمنا له في: 1184، وفي الأصول هنا"سعد" بدل"سعيد"، وهو خطأ.

ص: 195

ما تكون من البقر والدواب، وأحسن ما تكون.

1211 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عطاء الخراساني عن ابن عباس:(عوان)، قال: النصف.

1212 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(عوان) نَصَف.

1213 -

وحُدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.

1214 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"العوان"، نَصَف بين ذلك.

1214 -

حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد:(عوان) ، التي تنتج شيئا بشرط أن تكون التي قد نتجت بكرة أو بكرتين.

1215 -

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"العوان"، النصَف التي بين ذلك، التي قد ولدت وولد ولدُها.

1216 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"العوان"، بين ذلك، ليست ببكر ولا كبيرة.

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {بَيْنَ ذَلِكَ}

قال أبو جعفر: يعني بقوله: (بين ذلك) بين البكر والهرمة، كما:-

1217 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(بين ذلك) ، أي بين البكر والهرمة.

* * *

فإن قال قائل: قد علمت أن"بين" لا تصلح إلا أن تكون مع شيئين

ص: 196

فصاعدا، فكيف قيل"بين ذلك" و"ذلك" واحد في اللفظ؟

قيل: إنما صلحت مع كونها واحدة، لأن"ذلك" بمعنى اثنين، والعرب تجمع في"ذلك" و"ذاك" شيئين ومعنيين من الأفعال، كما يقول القائل:"أظن أخاك قائما، وكان عمرو أباك"، (1) ثم يقول:"قد كان ذاك، وأظن ذلك". فيجمع ب"ذلك" و"ذاك" الاسم والخبر، الذي كان لا بد لـ "ظن" و "كان" منهما. (2)

* * *

فمعنى الكلام: قال: إنه يقول إنما بقرة لا مسنة هرمة، ولا صغيرة لم تلد، ولكنها بقرة نصف قد ولدت بطنا بعد بطن، بين الهرم والشباب. فجمع"ذلك" معنى الهرم والشباب لما وصفنا، ولو كان مكان الفارض والبكر اسما شخصين، لم يجمع مع"بين" ذلك. وذلك أن"ذلك" لا يؤدي عن اسم شخصين، وغير جائز لمن قال:"كنت بين زيد وعمرو"، أن يقول:"كنت بين ذلك"، وإنما يكون ذلك مع أسماء الأفعال دون أسماء الأشخاص. (3)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) }

قال أبو جعفر: يقول الله لهم جل ثناؤه: افعلوا ما آمركم به، تدركوا حاجاتكم وطلباتكم عندي؛ واذبحوا البقرة التي أمرتكم بذبحها، تصلوا - بانتهائكم إلى طاعتي بذبحها - إلى العلم بقاتل قتيلكم.

* * *

(1) عبارة الفراء هنا أوضح قال: فلا بد لـ"كان" من شيئين"، ولا بد لـ"أظن" من شيئين ثم يجوز أن تقول: "قد كان ذاك، وأظن ذلك". معاني القرآن 1:45.

(2)

كان في المطبوعة: "الذي كان لا بد للظن وكان منهما"، وهو كلام يضطرب.

(3)

انظر معاني القرآن للفراء 1: 45.

ص: 197

القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ}

قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: قال قوم موسى لموسى: ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها؟ أي لون البقرة التي أمرتنا بذبحها. وهذا أيضا تعنت آخر منهم بعد الأول، وتكلف طلب ما قد كانوا كفوه في المرة الثانية والمسألة الآخرة. وذلك أنهم لم يكونوا حصروا في المرة الثانية - إذ قيل لهم بعد مسألتهم عن حلية البقرة التي كانوا أمروا بذبحها، فأبوا إلا تكلف ما قد كفوه من المسألة عن صفتها، فحصروا على نوع دون سائر الأنواع، عقوبة من الله لهم على مسألتهم التي سألوها نبيهم صلى الله عليه وسلم، تعنتا منهم له. ثم لم يحصرهم على لون منها دون لون، فأبوا إلا تكلف ما كانوا عن تكلفه أغنياء، فقالوا - تعنتا منهم لنبيهم صلى الله عليه وسلم كما ذكر ابن عباس-:(ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها) فقيل لهم عقوبة لهم: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) . فحصروا على لون منها دون لون. ومعنى ذلك: أن البقرة التي أمرتكم بذبحها صفراء فاقع لونها.

* * *

قال أبو جعفر: ومعنى قوله: (يبين لنا ما لونها) ، أي شيء لونها؟ فلذلك كان اللون مرفوعا، لأنه مرافع"ما". وإنما لم ينصب"ما" بقوله"يبين لنا"، لأن أصل"أي" و"ما"، جمع متفرق الاستفهام. يقول القائل (1) بين لنا أسوداء هذه البقرة أم صفراء؟ فلما لم يكن لقوله:"بين لنا" أن يقع على الاستفهام متفرقا، لم يكن له أن يقع على"أي"، لأنه جمع ذلك المتفرق. (2) وكذلك كل ما كان من نظائره فالعمل فيه واحد، في"ما" و"أي".

(1) في الأصل المطبوعة"كقول القائل"، وهو فساد.

(2)

كانت هذه الجملة في المطبوعة: "فلما لم يكن كقوله: بين لنا، ارتفع على الاستفهام منصرفا، لم يكن له ارتفع على أي. . "، وهو كلام ضرب عليه التصحيف ضربا. وانظر ما جاء في معاني الفراء 1: 46 - 48، ففيه بيان شاف كاف.

ص: 198

واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (صفراء) . فقال بعضهم: معنى ذلك سوداء شديدة السواد.

* ذكر من قال ذلك منهم:

1218 -

حدثني أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن الحسن:(صفراء فاقع لونها)، قال: سوداء شديدة السواد. (1)

1219 -

حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائده. والمثنى بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس، عن محمد بن سيف، عن أبي رجاء، عن الحسن مثله. (2)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: صفراء القرن والظلف.

* ذكر من قال ذلك:

1220 -

حدثني هشام بن يونس النهشلي قال، حدثنا حفص بن غياث، عن أشعث، عن الحسن في قوله:(صفراء فاقع لونها)، قال: صفراء القرن والظلف. (3)

1221 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن كثير بن زياد، عن الحسن في قوله:(صفراء فاقع لونها)، قال: كانت وحشية. (4)

(1) الخبر: 1218 - أبو مسعود إسماعيل بن مسعود الجحدري البصري: ثقة، روى عنه أيضًا النسائي وأبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 200 مات سنة 248. نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني:، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 /111 - 112، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 483.

(2)

الخبر: 1219 - أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي يحيى بن أبي زائدة: ثقة، روى عنه أبو حاتم وغيره، وذكر بعضهم أن البخاري روى عنه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/601 - 602. مسلم بن إبراهيم: هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. محمد بن سيف عن أبي رجاء". وهو خطأ، صوابه حذف"عن".

(3)

الخبر: 1220 - هشام بن يونس بن وابل النهشلي اللؤلؤي: ثقة، روى عنه الترمذي، وسمع منه أبو حاتم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 72.

(4)

الخبر: 1221 - كثير بن زياد أبو سهل البرساني - بضم الموحدة وسكون الراء- الأزدي العتكي: ثقة من أكابر أصحاب الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 /215، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 151. والإسناد ضعيف، من أجل"جويبر بن سعيد"، كما ذكرنا ضعفه في: 284. وسيأتي قريبا برقم: 1254.

ص: 199

1222 -

حدثني يعقوب قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن إبراهيم، عن أبي حفص، عن مغراء - أو عن رجل -، عن سعيد بن جبير:(بقرة صفراء فاقع لونها)، قال: صفراء القرن والظلف. (1)

1223 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هي صفراء.

1224 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(إنها بقرة صفراء فاقع لونها)، قال: لو أخذوا بقرة صفراء لأجزأت عنهم.

* * *

قال أبو جعفر: وأحسب أن الذي قال في قوله: (صفراء) ، يعني به سوداء، ذهب إلى قوله في نعت الإبل السود:(2)"هذه إبل صفر، وهذه ناقة صفراء" يعني بها سوداء. وإنما قيل ذلك في الإبل لأن سوادها يضرب إلى الصفرة، ومنه قول الشاعر:(3)

تلك خيلي منه وتلك ركابي

هن صفر أولادها كالزبيب (4)

(1) الخبر: 1222 - مروان بن معاوية: هو الفزاري الكوفي الحافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق والأئمة. مغراء، بفتح الميم وسكون الغين المعجمة: تابعي روى عن ابن عمر، وذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 65، وابن أبي حاتم 4 / 1/429، فلم يذكروا فيه جرحا. ولكن هذا الإسناد ضعيف، لتردد الراوي: أنه عن مغراء، أو عن رجل، فتردد بين ثقة وبين مبهم

(2)

في المطبوعة: "ذهب إلى قوله"، وليس بشيء.

(3)

هو الأعشى الكبير.

(4)

ديوانه: 219، والأضداد: 138، واللسان (صفر)، وغيرها. من قصيدة يمدح بها أبا الأشعث قيس بن معد يكرب الكندي. وكان في الأصل:"تلك خيلي منها" وهو خطأ، فسياق الشعر: إن قيسا، قيس الفعال أبا الأشـ

عث أمست أمداؤه لِشعوب

كل عام يمدني بجموم

عند وضع العنان أو بنجيب

تلك خيلي منه

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وما أظن الطبري يخطئ في رواية هذا الشعر، والركاب: الإبل التي يسار عليها، لا واحد لها من لفظها، واحدتها راحلة. والزبيب: ذاوي العنب، وأسوده أجوده، ولكنه ليس خالص السواد. يقول: كل ما أملك من خيل، ومن إبل قد ولدت لي خير ما تلد الإبل، فهو من جود أبي الأشعث.

ص: 200

يعني بقوله:"هن صفر" هن سود وذلك إن وصفت الإبل به، فليس مما توصف به البقر. مع أن العرب لا تصف السواد بالفقوع، وإنما تصف السواد -إذا وصفته- بالشدة بالحلوكة ونحوها، فتقول:"هو أسود حالك وحانك وحُلكوك، وأسود غِربيب ودَجوجي" - ولا تقول: هو أسود فاقع. وإنما تقول:"هو أصفر فاقع". فوصفه إياه بالفقوع، من الدليل البين على خلاف التأويل الذي تأول قوله:(إنها بقرة صفراء فاقع) المتأول، بأن معناه سوداء شديدة السواد. (1)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {فَاقِعٌ لَوْنُهَا}

قال أبو جعفر: يعني خالص لونها. و"الفقوع" في الصفر، نظير النصوع في البياض، وهو شدته وصفاؤه، كما:-

1225 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة:(فاقع لونها) ، هي الصافي لونها.

1226 -

حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(فاقع لونها) ، أي صاف لونها.

1227 -

حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.

1228 -

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(فاقع)، قال: نقي لونها.

1229 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس:(فاقع لونها) ، شديدة الصفرة، تكاد

(1) مجرى العبارة: الذي تأول المتأول بأن معناه. "المتأول" فاعل مرفوع.

ص: 201

من صفرتها تَبْيَضُّ. وقال أبو جعفر: أُراه أبيض! (1)

1230 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:(فاقع لونها)، قال: شديدة صفرتها.

* * *

يقال منه:"فقع لونه يفقع ويفقع فقعا وفقوعا، فهو فاقع، كما قال الشاعر:

حملت عليه الوَرد حتى تركته

ذليلا يسُف الترب واللون فاقع (2)

* * *

القول في تأويل قوله تعالى: {تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله: (تسر الناظرين) ، تعجب هذه البقرة -في حسن خلقها ومنظرها وهيئتها- الناظر إليها، كما:-

1231 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:(تسر الناظرين) ، أي تعجب الناظرين.

1232 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا:(تسر الناظرين) ، إذا نظرت إليها يخيل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جلدها.

1233 -

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:(تسر الناظرين)، قال: تعجب الناطرين.

* * *

(1) كأن أبا جعفر أراد أن يعترض على قوله: "تكاد من صفرتها تبيض"، فقال ما معناه: لو صح ذلك لكان قوله: "فاقع لونها"، أي أبيض، والصفرة تشتد، فإذا خفت ابيضت. هذا هو معنى ما قاله فيما أرجح.

(2)

لم أعرف قائله. والورد: فرسه.

ص: 202