المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

"ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٦

[ابن جرير الطبري]

الفصل: "ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ

"ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:-

6855 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.

* * *

وقوله:"والله سميعٌ عليمٌ"، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.

* * *

القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‌

(35) }

يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع". (1)

* * *

وأمّا"امرأة عمران"، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، (2) كذلك:-

6856 -

حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه = وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (3)

* * *

فأما زوجها"عمران"، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن

(1) يعني أن الظرف"إذ" متعلق بقوله: "سميع" في الآية السابقة. وقد ظن الناشر الأول للتفسير، أن في الكلام سقطًا، وليس كذلك، والكلام تام لا خرم فيه.

(2)

في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.

ص: 328

أحزيق (1) بن يوثم (2) بن عزاريا (3) بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو (4) بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر (5) بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:-

6857 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.

* * *

وأما قوله:"رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا"، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.

* * *

ونصب"محرّرًا" على الحال مما في الصفة من ذكر"الذي". (6)

* * *

"فتقبل مني"، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ ="إنك أنت السميع

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريق" وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.

(2)

في المطبوعة: "يويم"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وفي تاريخ الطبري:"يوثام" فجعلتها"ثاء" بغير ألف، مطابقة للرسم.

(3)

في تاريخ الطبري"عزريا" بغير ألف.

(4)

في المطبوعة والمخطوطة: "أحريهو" بالراء.

(5)

في المطبوعة والمخطوطة: "يازم" بالزاي، وفي تاريخ الطبري:"يهشافاظ"، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة:"أشا" بالشين المعجمة، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا:"أسابرابان" والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري.

(6)

في المطبوعة: "ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) ". فغيروا ما في المخطوطة، وأساءوا أشد الإساءة، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل"محررًا" حالا من"ما"، والذي ذهب إليه الطبري أن"محررًا" حال من الضمير الذي في الجار والمجرور"في بطني"، والعامل في الجار والمجرور هو"استقر". وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان 1: 437، وتفسير الألوسي 3: 118 وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى"الصفة"، وهو: حرف الجر، وحروف الصفات هي حروف الجر، كما مضى 1: 299 تعليق: 1 / 3: 475 تعليق: 1 / 4: 227 تعليق: 1 / ثم: 247 تعليق: 3.

ص: 329

العليم"، يعني: إنك أنتَ يا رب"السميع" لما أقول وأدعو ="العليمُ" لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته. (1)

* * *

وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران = الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-

6858 -

حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً = و"النذيرة"، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.

6859 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال = ثم ذكر امرأة عمران وقولها:"ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا = (2)"فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم". (3)

6860-

حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة

(1) انظر معنى"النذر" فيما سلف 5: 580.

(2)

نص ابن هشام: "أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا"، فتركت رواية الطبري على حالها.

(3)

الأثر: 6859- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم:6850.

ص: 330

قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"محررًا"، قال: خادمًا للبِيعة. (1)

6861 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.

6862 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا"، قال: فرّغته للعبادة.

6863 -

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.

6864 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.

6865 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للكنيسة يخدُمها.

6866 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

6867 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.

6868 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،

(1) الأثر: 6860-"عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون، مولى بني هاشم" بغدادي، روى عن محمد بن ربيعة، وروى عنه الترمذي والنسائي، وابن جرير. مترجم في التهذيب. و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي" ابن عم وكيع. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.

والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى، أو كنيسة اليهود.

ص: 331

عن سعيد بن جبير:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للبيعة والكنيسة.

6869 -

حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: محرّرًا للعبادة.

6870 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.

6871 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: نذرت ولدها للكنيسة.

6872 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم"، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.

6873 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.

6874 -

حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.

6875 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني

ص: 332

ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله:"نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = إنها للحرّة ابنة الحرائر ="محررًا" للكنيسة يخدمها.

6876 -

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إذ قالت امرأة عمران" الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها. (1)

* * *

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلما وضعتها"، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت"الهاء" عائدة على"ما" التي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، لكان الكلام:"فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى".

* * *

ومعنى قوله: (وضعتها)"، ولدتها. يقال منه:"وضعت المرأة تَضَع وضْعًا".

* * *

(1) سيب الشيء: تركه. وسيب الناقة أو الدابة: تركها تسيب حيث شاءت، والدابة سائبة، فإذا كانت نذرًا، كان لا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وهي التي قال الله فيها"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة". ثم قيل منه للعبد إذا أعتقه مولاه، وأراد أن لا يجعل ولاءه إليه، فهو لا يرثه، وللمعتق أن يضع نفسه وماله حيث شاء"سائبة". انظر ما سلف 3: 386 في خبر أبي العالية.

أما قوله: "سيبتها" هنا، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله، ليس لأحد عليها سبيل، وهو قريب من معنى"التحرير".

ص: 333

="قالت ربّ إني وضعتها أنثى"، أي: ولدت النذيرة أنثى ="والله أعلم بما وضعت".

* * *

واختلف القرأة في قراءة ذلك.

فقرأته عامة القرأة: (وَضَعَتْ)، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها:"ربّ إني وضعتها أنثى".

* * *

وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة:"والله أعلم بما ولدتُ مني".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ"والله أعلم بما وضعتْ"، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.

* * *

فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت = ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها -:"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس ="وإني سميتها مريم"، كما:-

6877 -

حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (1)

6878 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:

(1) الأثر: 6877- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم:6859. ونص ابن هشام في المطبوعة الأوربية: "لما جعلتها محررًا له نذيرة" كنص الطبري هنا، وفي مطبوعة الحلبي: "محررًا لك"، وفي إحدى نسخ سيرة ابن هشام"محررة"، وهي صواب جيد، ولكن مطبوعة الطبري غيرت نص المخطوطة الذي أثبته، فجعلتها: "لما جعلتها له محررة نذيرة"، ولست أدري لم فعل ذلك!!

ص: 334

"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.

6879 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليس الذكر كالأنثى"، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك = (1) يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها = مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت:(2)"ليس الذكر كالأنثى".

6880 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قالت رب إني وضعتها أنثى"، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال:"وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم".

6881 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك = يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها = لما يصيبها من الأذى.

6882 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله:"رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى"، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله:"والله أعلم بما وضعت"، فقالت:"إني سَمّيتها مريم".

(1) في المطبوعة: "لا تستطيع"، وفي المخطوطة:"لا تستطاع"، وهو الصواب، إلا أن الناسخ أخطأ فجعلها بالتاء الفوقية.

(2)

هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا أرجح أن الصواب:"فعن ذلك قالت"، أي من أجل ذلك قالت. و"عن" هنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالى:"وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك". وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية.

ص: 335

6883 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة:"فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى" ="وليس الذكر كالأنثى"، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال = أمها تقول ذلك.

* * *

القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }

قال أبو جعفر: تعني بقولها:"وإني أعيذُها بك وذُريتها"، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.

* * *

وأصل"المعاذ"، الموئل والملجأ والمعقل. (1)

* * *

= فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.

* * *

6884 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت:"رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه. (2)

(1) انظر ما سلف في تفسير"عاذ يعوذ" 1: 111، قال:"الاستعاذة: الاستجارة".

(2)

الحديث: 6884 - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني: تابعي فقيه ثقة من الثقات، من شيوخ مالك، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة.

والحديث سيأتي، عقب هذا، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق، بهذا الإسناد، نحوه.

وأشار إليه ابن كثير في التاريخ 2: 57، من رواية ابن إسحاق، دون تعيين في تخريجه.

ورواه الحاكم في المستدرك 2: 594، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هرير. وقال:"هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.

وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، قارئ أهل المدينة: ثقة مأمون، شارك مالكًا في أكثر شيوخه.

ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي: "يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن أبي هريرة". وزيادة"عن أبيه" في الإسناد - خطأ صرف، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية، ولم يذكره أحد في رواة الحديث.

ثم رواه ابن جرير بنحوه، بأسانيد متعددة، إلى رقم:6899. وكلها عن أبي هريرة، إلا: 6893، فإنه عن ابن عباس.

ص: 336

6885 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب.

6886 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.

6887 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (1)

(1) الحديث: 6887 -عمرو- شيخ هارون: هو عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق، وهو ثقة، أثنى عليه الثوري.

شعيب بن خالد البجلي، قاصي الري: ثقة، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة:"حفظ من الزهري ومالك شابًا".

وهو هنا يروي عن"الزهري". ووقع في المطبوعة"الزبير" بدل"الزهري". وهو خطأ. صوابه من المخطوطة.

والحديث رواه البخاري 6: 338 - 339، من طريق شعيب، عن الزهري، بهذا، بنحوه. و"شعيب" - في إسناد البخاري-: هو"شعيب بن أبي حمزة الحمصي". وأما "شعيب بن خالد" فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود.

وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق شعيب بن أبي حمزة.

وانظر: 6891.

ص: 337

6888 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها. (1)

6889 -

حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. (2)

6890 -

حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن

(1) الحديث: 6888- عجلان مولى المشمعل: تابعي ثقة.

والحديث: رواه أحمد في المسند: 7866، عن إسماعيل بن عمر: و: 7902، عن يزيد بن هارون، و: 7902، عن هاشم بن القاسم (2: 288، 292، 319 حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد.

ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الرواية الأولى من روايات المسند.

وذكره في التفسير 2: 130، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه.

(2)

الحديث: 6889 - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري: مضت ترجمته في: 1387.

سليم - بضم السين - بن جبير، أبو يونس مولى أبي هريرة: تابعي مصري ثقة.

وقع في المطبوعة: "أن أبا يونس سليمان"، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة"سليما"، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق:"أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة"، فرسم بالتنوين دون ألف، على لغة ربيعة، في الوقوف على المنصوب بالسكون.

والحديث رواه مسلم 2: 224، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بهذا الإسناد.

ص: 338

أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1)

6891 -

حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (2)

6892 -

حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". (3)

(1) الحديث 6890 -"عمران" - في الإسناد: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة. ولا ندري من هو؟ والظاهر أنه خطأ من الناسخين، فرجح أن صوابه"ابن عمران". فإن يكنه يكن"حرملة بن عمران التجيبي المصري". وهو ثقة، يروي عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة، راوي هذا الحديث. ويروي عنه ابن وهب. وهو الصواب إن شاء الله.

(2)

الحديث: 6891- مضى بنحوه: 6887، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري.

وقد رواه أحمد في المسند: 7694، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند.

وكذلك رواه البخاري 8: 159، ومسلم 2: 224 كلاهما من طريق عبد الرزاق.

ورواه أحمد أيضًا: 7182، عن عبد الأعلى، عن معمر، به.

وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق عبد الأعلى.

(3)

الحديث: 6892 - الحماني، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم: هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 291، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 168-170، وتاريخ بغداد 14: 167- 177، وتذكره الحفاظ 2: 10-11.

قيس: هو ابن الربيع الأسدي، وهو ثقة، كما رجحنا في:4842.

والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، والتاريخ 2: 57 - تعليقًا عن قيس، دون أن يبين مخرجه.

ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري، يعني هذا الإسناد.

فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية: 6899، ثم قال:"وروي من حديث قيس، عن الأعمش. . ." - إلخ. فهذا الفعل"روى"، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل، فيكون معناه أن ابن جرير"روى من حديث قيس". ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه، بالبناء للمجهول، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل.

ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا، عطفًا عليه - ما نصه:"ومن حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة".

فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين.

فرأيت - تمامًا للسياق- أن أذكره هنا من رواية أحمد، واحتياطًا أيضًا:

فقال الإمام أحمد في المسند: 8801 (ج 2 ص 368 حلبي) : "حدثنا هُشيم، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ، كيفَ يَصْرُخُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه".

وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.

ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي 2: 19، ولم ينسبها لغير الطبري.

وقوله: "عصره الشيطان. . ." - عصر العنب وغيره عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز، أي: شديده عليه وضغطه.

ص: 339

6893 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه. (1)

(1) الحديث: 6893- هذا إسناد صحيح.

ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري، وكذلك ذكره السيوطي 2: 19، ولم ينسبه لغيره.

وقوله"ولم ينهزه" - من"التهز"، وهو الدفع."تهزه ينهزه نهزًا": دفعه، مثل"نكزه"، و"وكزه".

ص: 340

6894 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! (1) فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، (2) ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، (3) وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، (4) ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة. (5)

6895 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء = وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. = وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.

(1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة.

(2)

الخافقان: أفق المشرق وأفق المغرب، محيطان بجانبي الأرض.

(3)

المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة.

(4)

أيس الرجل يأيس يأسًا، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة.

(5)

الأثر: 6894 - في المخطوطة"أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان"، أو كأنها تقرأ"معتمر" ثم ضرب على"معمر". والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق، وروى عنه معتمر بن سليمان، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري"حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال: أخبر المنذر بن النعمان الأفطس". والمنذر مترجم في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 242، وتعجيل المنفعة:410.

ص: 341

6896 -

حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ. (1)

6897 -

حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (2)

6898 -

حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن

(1) الأثران: 6895، 6896 - هذان خبران مرسلان كما هو ظاهر.

(2)

الحديث: 6897- جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري: ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة.

عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني: تابعي ثقة مشهور، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند: 7276، وابن سعد 5: 209، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك، ومات سنة 117.

والحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، من رواية الليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه.

وقد رواه أحمد في المسند: 10783 (ج 2 ص 523 حلبي) ، عن عبد الملك بن عمرو، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحوه.

ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند. وقال:"وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه".

ووقع في ابن كثير"المغيرة، وهو ابن عبد الله الحزامي"، وهو خطأ مطبعي.

ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم"لم يخرجوه من هذا الوجه" - فإن البخاري رواه 6: 242، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحو روايتي المسند والطبري.

فهذا من هذا الوجه: يجتمع مع إسناد المسند في"أبي الزناد"، ومع إسناد الطبري في"الأعرج".

ص: 342

جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها. (1)

6899 -

حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (2)

* * *

(1) الحديث: 6898- وهذا حديث صحيح، بالإسناد السابق نفسه. وظاهره أنه موقوف، من كلام أبي هريرة. وعن ذلك - فيما أرى - فصله الطبري عن المرفوع الذي قبله.

ومعناه ثابت صحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:

فرواه مسلم 2: 224، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه، عن أبي هرير، قال:"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان".

ثم معناه ثابت مرفوعًا، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة.

(2)

الحديث: 6899 - بقية بن الوليد الحمصي: ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة.

الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة، روى له الشيخان.

والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الموضع، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي"عبد الله بن الزبيدي"! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم.

وهذه الرواية، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه: 6887، 6891، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان.

وقد أشار الحافظ في الفتح 6: 338 إلى هذه الرواية، عند رواية الزهري عن ابن المسيب، فقال:"كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري".

ووقع في الفتح"السدي" بدل"الزبيدي". وهو تحريف من الناسخين.

ص: 343

القول في تأويل قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}

قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها = (1)"بقبول حَسن".

* * *

"والقبول" مصدر من:"قبِلها ربُّها"، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان:"فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا". وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم:"تكلم فلان كلامًا"، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل:"تكلم فلان تكلمًا". ومنه قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، ولم يقل: إنباتًا حسنًا. (2)

وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في"قبول"، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل:"الدُّخول، والخروج". قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.

6900 -

حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.

* * *

وأما قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-

(1) في المطبوعة: "بتحريرها"، وفي المخطوطة"تحريرها" بغير باء قبلها، وكأن الصواب"وتحريرها" كما أثبت، معطوفًا على"تقبل مريم".

(2)

انظر بيان ذلك فيما سلف 1: 116، وقد عدد هناك شواهده / ثم 5: 533، 534.

ص: 344

6901 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربها بقبول حسن"، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها ="وأنبتها"، قال: نبتت في غذاء الله.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}

قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكفلها"

فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (وَكَفَلَهَا) مخففة"الفاء". بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل:(يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)[سورة آل عمران: 44] .

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا)، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ:(وَكَفَّلَهَا) مشددة"الفاء"، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (1)

(1) قرع (بفتح القاف والراء) : أصابته القرعة دونهم. يقال: قارعني فلان فقرعته: خرجت لي القرعة دونه. وشاحه في الأمر وعليه، وتشاحا عليه وفيه (بتشديد الحاء) : إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته، كأن بعضهم يشح على بعض فيه.

ص: 345

وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. (1) فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، (2) فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها. (3)

* * *

وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، (4) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.

* * *

قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.

(1) في المطبوعة: "رموا بها"، والصواب بالفاء، من المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: " رتب قدح زكريا"، ورتب الشيء: ثبت، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها"ارتز"، والراء مشبوكة بأسفل التاء، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و"رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا، فارتز فيه": أثبته فثبت، مثل رز السكين في الحائط، فهو يرتز فيه.

(3)

في المطبوعة: "فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها" لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة"فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه

"، وكان النساخ قد كتب"آية"، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم، ليجعل"آية""وعلمًا"، فاضطرب الخط، فلم يحسن الناشر قراءتها، فأسقطها، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة"المتنازعين فيها ها" فلم يحسن قراءة"ها" الأخيرة، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا.

(4)

في المطبوعة: "بل صعد قدح زكريا"، وفي المخطوطة"صاعد"، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال:"صعد"، و"اصعد" (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و"اصاعد" (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع.

ص: 346

وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد"كفَّلها".

* * *

وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف"الفاء"، من قول الله:(أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله:"وكفلها" = فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (1)

ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل:"كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان". فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.

* * *

قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"زكريا".

فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.

وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.

وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.

* * *

غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ"زكريا" أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، (2) ولأن قراءتنا في"كفَّلها" بالتشديد، وتثقيل"الفاء". فـ"زكرياء" منصوب بالفعل الواقع عليه. (3)

* * *

(1) في المطبوعة: "على ضعف اختيار المحتج بها"، وهي فاسدة ضعيفة المعنى، والصواب من المخطوطة. والاحتيال: طلب الحيلة والمخرج.

(2)

الإجراء: الصرف. يعني: لا يصرف، لأنه ممنوع من الصرف، كما يقول النحاة.

(3)

الواقع عليه: المتعدي إليه. وقد سلف أن"الوقوع" هو"التعدي"، فاطلبه في فهرس المصطلحات.

ص: 347

وفي"زكريا" لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو"زكريّ" بحذف المدة و"الياء" الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ"ياء" النسبة. (1)

* * *

قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر:(2)

فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (3)

يراد به: (4) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:

فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (5)

بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم:"هفا الظَّليم"، إذا أسرَع الطيران.

يقال منه للرجل:"ما لك تكفُل كلَّ ضالة"؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.

* * *

وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

ذكر من قال ذلك:

6902 -

حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ

(1) انظر مقالة الفراء في"زكريا" في معاني القرآن 1: 208.

(2)

غاب عني قائله، وإن كنت أذكر الشعر.

(3)

"الهوام"، هي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء:490.

(4)

في المطبوعة: "يراد أنه"، والصواب من المخطوطة.

(5)

"الهوام"، وهي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء:490.

ص: 348

مَرْيَمَ) ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، (1) فكفلها زكريا.

6903 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وكفلها زكريا"، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، (2) فَقرَعهم.

6904 -

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، (3) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. (4) فلما أتوا بها اقترعوا

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا قلم زكريا صاعدًا"، وهو لا معنى له، وانظر ما سلف ص 346 تعليق:4. وقوله: "الجرية" (بكسر الجيم وسكون الراء) ، وهي حالة الجريان، والذي يسميه كتابنا اليوم: "التيار".

(2)

هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "فاستقبلت"، ولست أرتضيها، وكأنها"واستعلت"، من قولهم:"علاه وتعلاه واستعلاه"، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه:"ومنه: وعال قلم زكريا الجرية، وجرت الأقلام مع جرية الماء"، وكأن هذا اللفظ"وعالى"، وكلتاهما صواب بمعنى: قهر وغلب، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله:"فقرعهم"، فقد سلف تفسيرها ص: 345، تعليق:1.

(3)

في المطبوعة، وسنن البيهقي 10: 286 هكذا"يجربونه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وأخشى أن يكون هذا خطأ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور 2: 20، خرج هذا الأثر، ونسبه للبيهقي في السنن، وفيه: "إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر، اقترعوا عليه

"، فكأن صواب هذا الحرف"يحررونه" اتصلت الراء بالواو فقرأوها"يجربونه". وهذا الأثر الذي رواه السدي، هو في سنن البيهقي، بإسناد السدي في التفسير، الذي مضى الكلام فيه في رقم: 168، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي، لما طال الكتاب.

(4)

في سنن البيهقي، والدر المنثور:"وكانت أخت مريم تحته"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم، كانا متزوجين بأختين، إحداهما عند زكريا، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران، وهي أم مريم، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري 2:13.

ص: 349

عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! (1) فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، (2) فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:"وكفلها زكريا"، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. (3)

6905 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكفلها زكريا"، يقول: ضمها إليه.

6906 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وكفلها زكريا"، قال: سَهمهم بقلمه. (4)

6907 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

6908 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، (5) فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.

(1) في المطبوعة: "تحتي خالتها"، والصواب ما في الطبري والدر المنثور وسنن البيهقي، وكأن الناشر ظن أنه أراد"أخت مريم"، فغيرها، وإنما أراد زكريا بمقالته، أخت أم مريم، التي جاءت تحملها.

(2)

القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال: لحد السيف والسنان والسهم وغيرها"قرنة"، وهو طرفه وذبابه.

(3)

الأثر: 6904- سنن البيهقي 10: 286، والدر المنثور 2:20.

(4)

ساهم القوم فسهمهم، وقارعهم فقرعهم: فاز سهمه، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه.

(5)

هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "زوج أختها"، وظاهر أن كلام قتادة مختصر، كان في ذكر"أم مريم"، وأن قوله:" زوج أختها"، أي زوج أخت مريم، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص 350 تعليق:1. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد.

ص: 350

6909 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها = يعني: أمّ مريم = بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا = وكان عمران يؤُمهم في الصلاة = وصاحب قُرْباننا! (1) فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها.

6910 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل:"وكفلها زكريا" = قال حجاج قال، ابن جريج:"الكاهنُ" في كلامهم: العالمُ.

6911 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وكفلها زكريا"، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (2)

6912 -

حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن

(1) في المطبوعة: "وصاحب قربانهم"، وفي المخطوطة"وصاحب" وما بعدها بياض، واستظهر الناشر زيادتها هكذا، وأستظهر أن زيادتها كذلك، على أنها من تمام قولهم: "هذه ابنة إمامنا معطوفًا عليه، وما بينهما جملة معترضة للبيان من راوي الخبر.

(2)

الأثر: 6910- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم 6877.

ص: 351

عطاء، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: كانت عنده.

6913 -

حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.

6914 -

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.

* * *

وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (1) = وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع=. (2)

6915 -

حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع. (3)

* * *

(1) في المطبوعة: "إيشاع"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري 2: 13، وهو في كتاب القوم"أليصابات"، ومعناها كما في قاموسهم كتابهم"الله حلفها، أي عائدة الله"، وكأنه هو الاسم العبري القديم"أليشابع"، ومعناه أيضًا"الله حلفها"، وهو اسم امرأة هارون.

(2)

في المطبوعة: "أشيع" بالياء، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة.

(3)

الأثر: 6915-"وهب بن سليمان الجندي اليماني"، روى عن شعيب الجبأي، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير 4 / 2 / 169، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 27. و"شعيب الجبأي، الجندي البجلي"، منسوب إلى"جبأ" وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو: "شعيب بن الأسود". قال: يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير 2 / 2 / 219، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 353. وكان في المطبوعة:"شعيب الحياني" خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.

ص: 352

= فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.

قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.

6916 -

حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.

= فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ:"وكفَلها زكريا" بتخفيف"الفاء"، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (1) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.

* * *

القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.

فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.

(1) السهم الفالج: الفاتر.

ص: 353

ذكر من قال ذلك:

6917 -

حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (1)

6918 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا"، قال: العنب في غير حينه.

6919 -

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهة في غير حينها.

6920 -

حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف = يعني في قوله:"وجد عندها رزقًا". (2)

6921 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.

6922-

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.

6923 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.

6924 -

حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.

6925 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،

(1) المكتل والمكتلة (بكسر الميم) : الزبيل الكبير يحمل فيه التمر أو العنب، كأن فيه كتلا منه، أي قطعًا مجتمعة.

(2)

الأثر: 6920-"أبو إسحاق الكوفي"، هو: عبد الله بن ميسرة، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة، روى عنه هشيم، وكناه أبا إسحاق، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري.

ص: 354

عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.

6926 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.

6927 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.

6928 -

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.

6929 -

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.

6930 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.

6931 -

حدثني موسى [بن عبد الرحمن](1) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (2)

(1) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني"، وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم:168.

(2)

الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني" وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم:168.

ص: 355

6932 -

حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وجدَ عندها رزقًا"، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.

6933 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس"كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.

6934 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.

6935 -

حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها = يعني على مريم = المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.

ذكر من قال ذلك:

6936 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن

ص: 356

حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! (1) فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول:"يا مريم، أنَّى لك هذا"؟ فتقول:"هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب".

* * *

قال أبو جعفر: وأما"المحراب"، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:

كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ

كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (2)

(1) في المخطوطة: "لقد جهدنامن هذه السنة ما أصابكم" وبينهما بياض، والذي في المطبوعة صواب جيد.

(2)

ديوانه في شعراء الجاهلية: 455، وسيأتي في التفسير 22: 48 (بولاق) ، يصف نساء، يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة: وهي البستان الحسن، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي"الروض" على الإفراد فقال:"زهره مستنير"، كأنه عده مفردًا مذكرًا، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد، مثل ثور ونور، وأشباهها فذكره للفظه، وإن كنت أستجيز أن يكون"الروض" مفردًا غير جمع، ولم أجد ذلك في كتب اللغة، ولكن البيت شاهد عليه، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد.

وقوله: "مستنير" من"النور"، وهو زهر الشجر والنبات. يقال:"نورت الشجرة وأنارت"، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة"استنارت الشجرة"، ولكن بيت عدي شاهد جيد، وهو من عتيق العربية.

يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون، فزادها بهاء، وزادته حسنًا.

وهذا البيت في المخطوطة: "وهو مشتق / مستنير" و"مستنير" مكتوبة في هامش الصفحة، ولم أدر كيف كان، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة، وأخشى أن يكون الناسخ كتب:"وهو مشتق" ثم عاد فقرأ"مشتق""مستنير" فكتبها في الهامش، فيكون الخطأ في كتابته"وهو"، التي هي:"زهره".

ص: 357

و"المحاريب" جمع"محراب"، وقد يجمع على"محارب". (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قال" زكريا:"يا مريم: أنَّى لك هذا"؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ (2) قالت مريم مجيبة له:"هو من عند الله"، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.

* * *

وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله.

6937 -

حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.

6938 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.

6939 -

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله"، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة

(1) لم ينص على ذلك أصحاب اللغة، ولكنه قياس يرتضى. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1:91.

(2)

انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / ثم 5: 312، 447.

ص: 358