المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1) ثم ذكر جل ثناؤه ما - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٨

[ابن جرير الطبري]

الفصل: ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1) ثم ذكر جل ثناؤه ما

ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1)

ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه السلام، من الكرامة الدائمة لديه، والمنازل الرفيعة عنده. فقال:(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) الآية.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‌

(69)

ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يطع الله والرسول" بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضى بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه، وفي الآخرة إذا دخل الجنة ="والصديقين" وهم جمع"صِدِّيق".

* * *

واختلف في معنى:"الصديقين".

فقال بعضهم:"الصديقون"، تُبَّاع الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن"الصدِّيق"،"فِعِّيل"، على مذهب قائلي هذه المقالة، من"الصدق"، كما يقال:"رجل سِكّير" من"السُّكر"، إذا كان مدمنًا على ذلك، و"شِرِّيبٌ"، و"خِمِّير".

* * *

(1) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.

ص: 530

وقال آخرون: بل هو"فِعِّيل" من"الصَّدَقة"، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك، وهو ما:-

9923 -

حدثنا به سفيان بن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب قال، أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة ابنة المقداد، (1) عن ضباعة بنت الزبير، (2) وكانت تحت المقداد، عن المقداد قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: شيء سمعته منك شككت فيه! قال: إذا شكّ أحدكم في الأمر فليسألني عنه. قال قلت: قولك في أزواجك:"إنيّ لأرجو لهن من بعدِيَ الصدِّيقين" قال: من تَعُدُّون الصديقين؟ (3) قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارًا. قال: لا ولكن الصدِّيقين هم المصَّدِّقون. (4)

* * *

وهذا خبر، لو كان إسناده صحيحًا، لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه.

(1) في المخطوطة"كريمة ابنة المقدام"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.

(2)

في المخطوطة: "متاعة بنت الزبير"، خطأ، صوابه في المطبوعة.

(3)

في المخطوطة والمطبوعة: "من تعنون الصديقين"، وهو خطأ لا معنى له. والصواب ما أثبت من مختصر هذا الأثر في منتخب كنز العمال (هامش المسند) 5:113.

(4)

الحديث: 9923 - سفيان بن وكيع بن الجراح - شيخ الطبري: ضعيف، كما فصلنا في: 142، 143.

موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود، الزمعي -بسكون الميم - المدني: ثقة، وثقه ابن معين وابن القطان وغيرهما. وضعفه ابن المديني وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 298، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 167 - ولم يذكرا فيه جرحًا. بل اقتصر ابن أبي حاتم على توثيق ابن معين إياه.

قريبة - بالتصغير - بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عمة موسى بن يعقوب: مترجمة في التهذيب، دون جرحها بشيء.

أمها: "كريمة بنت المقداد بن الأسود": تابعية ثقة. ذكرها ابن حبان في الثقات.

ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم: صحابية معروفة. كانت زوجًا للمقداد بن الأسود. ولها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد.

وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 183، مختصرًا، ولم ينسبه لغير ابن جرير.

ولكنه ذكره في الجامع الكبير، المسمى"جمع الجوامع"، كما يدل عليه ذكره في كتاب"منتخب كنز العمال" للمتقي الهندي، المطبوع بهامش مسند أحمد - طبعة الحلبي - ذكره فيه مختصرًا (ج5 ص113) ، ونسبه للطبراني في الكبير.

وقد أعجزني أن أجده في مجمع الزوائد، لأنه على شرطه. ولست أعرف إذا كانت روايته عند الطبراني من طريق سفيان بن وكيع، أو من طريق راو آخر، فإن يكن من طريق راو غيره، كان الإسناد جيدًا، لأن جرح سفيان بن وكيع لم يكن من قبل صدقه، كما بينا في ترجمته.

ص: 531

فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بـ "الصديق"، أن يكون معناه: المصدِّق قوله بفعله. إذ كان"الفعِّيل" في كلام العرب، إنما يأتي، إذا كان مأخوذًا من الفعل، بمعنى المبالغة، إما في المدح، وإما في الذم، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم:(وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ)[سورة المائدة: 75] .

وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلا من كان موصوفًا بما قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين.

="والشهداء"، وهم جمع"شهيد"، وهو المقتول في سبيل الله، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل. (1)

* * *

="والصالحين"، وهم جمع"صالح"، وهو كل من صلحت سريرته وعلانيته. (2)

وأما قوله جل ثناؤه:"وحَسُن أولئك رفيقًا"، فإنه يعني: وحسن، هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم، (3) رفقاء في الجنة.

* * *

و"الرفيق" في لفظ واحدٍ بمعنى الجميع، (4) كما قال الشاعر:(5)

(1) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف: 368، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(2)

انظر تفسير"الصالح" فيما سلف: 293، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)

انظر ما كتبته في"حسن" 4: 458، تعليق:2.

(4)

في المطبوعة: "بلفظ الواحد"، وأثبت ما في المخطوطة.

(5)

هو جرير.

ص: 532

دَعَوْنَ الهَوَى، ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوَبنَا

بِأَسْهُمِ أَعْدَاءِ، وَهُنَّ صَدِيقُ (1)

بمعنى: وهن صدائق.

* * *

وأما نصب"الرفيق"، فإن أهل العربية مختلفون فيه.

فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، ويقول: هو كقول الرجل:"كَرُم زيد رجلا"، ويعدل به عن معنى:"نعم الرجل"، ويقول: إن"نعم" لا تقع إلا على اسم فيه"ألف ولام"، أو على نكرة.

* * *

وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير، (2) وينكر أن يكون حالا ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول:"كرم زيدٌ من رجل" و"حسن أولئك من رفقاء"، وأن دخول"مِنْ" دلالة على أن"الرفيق" مفسره. قال: وقد حكي عن العرب:"نَعِمتم رجالا"، فدل على أن ذلك نظير قوله:"وحسنتم رفقاء".

* * *

قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب، للعلة التي ذكرنا لقائليه.

* * *

(1) ديوانه: 398، وطبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) ، وغيرها كثير. من أبيات ذكر فيهن الحجاج، قبله أبيات حسان، تحفظ: وَبِتُّ أُرَائِي صَاحِبَيَّ تَجَلُّدًا

وَقَدْ عَلِقَتْنِي مِنْ هَوَاكِ عَلُوقُ

فَكَيْفَ بِهَا? لا الدَّارُ جَامِعَةُ الْهَوَى

وَلا أنْتَ عَصْرًا عَنْ صِبَاكَ مُفِيقُ

أَتجْمَعُ قَلْبًا بِالْعِرَاقِ فَرِيُقهُ،

ومِنْهُ بِأَظْلالٍ الأََرَاكِ فَرِيقُ?

كأنْ لَمْ تَرُقْني الرَّائِحَاتُ عَشِيَّةً

وَلَمْ يُمْسِ فِي أَهْل الْعِرَاقِ وَمِيقُ

أُعَالِجُ بَرْحًا مِنْ هَوَاكِ، وَشَفَّني

فُؤَادٌ إذَا مَا تُذْكَرِينَ خَفُوقُ

أَوَانِسُ، أَمَّا مَنْ أَرَدْنَ عَنَاءَهُ

فَعَانِ، وَمَنْ أَطْلَقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ

دَعَوْنَ الْهَوَى.............

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

وفي المطبوعة: "نصبن الهوى"، وهي رواية أخرى، غير التي في المخطوطة والديوان.

(2)

"التفسير". التمييز و"المفسر": المميز. كما سلف مرارًا. انظر فهرس المصطلحات.

ص: 533

وقد ذكر أن هذه الآية نزلت، (1) لأن قومًا حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرًا أن لا يروه في الآخرة.

ذكر الرواية بذلك:

9924 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان، مالي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه! فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك ونجالسك، غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا". قال: فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.

9925 -

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قَدْ مِتَّ رُفِعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية.

9926 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين"، ذكر لنا أن رجالا قالوا: هذا نبي الله نراه في الدنيا، فأما في الآخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول" إلى قوله:"رفيقًا".

9927 -

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية، قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول الله، إذا أدخلك الله الجنة فكنت

(1) في المخطوطة: "وقد ذكرنا أن

"، والصواب ما في المطبوعة.

ص: 534

في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فأنزل الله"ومن يطع الله والرسول".

9928 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من آمن به في درجات الجنة، (1) ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل الله في ذلك. يقال:(2) إن الأعلَين ينحدرون إلى من هم أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في رَوْضه يحبرون ويتنعَّمون فيه. (3) .

* * *

وأما قوله:"ذلك الفضل من الله"، فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ="الفضل من الله"، يقول: ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم، لا باستيجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم. (4)

* * *

فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟

قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم، فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.

* * *

وقوله:"وكفى بالله عليما"، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم ="عليما"

(1) في المطبوعة: "له فضل على من آمن"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "فقال"، والصواب ما في المخطوطة.

(3)

في المطبوعة: "في روضة"، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)

انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 518 / 7: 299، 414 / 8:268.

ص: 535