المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٨

[ابن جرير الطبري]

الفصل: القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ

القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ‌

(84) }

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1)"فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك"، فجاهد، يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك به ="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك. (2)

* * *

فأما قوله:" لا تكلف إلا نفسك" فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك. (3)

* * *

ثم قال له:"وحرض المؤمنين"، يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك ="عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا"، يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك، عنك وعنهم، ونكايتهم. (4)

* * *

وقد بينا فيما مضى أن"عسى" من الله واجبة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (5)

(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق ما أثبت.

(2)

انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 8: 3470، 546، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(3)

انظر تفسير"التكليف" فيما سلف 5: 45.

(4)

سياق الكلام"أن يكف

عنك وعنهم" ثم عطف"ونكايتهم" على قوله: "قتال من كفر بالله".

(5)

لم أجد هذا الموضع الذي أشار الطبري، وأخشى أن لا يكون مضى شيء من ذلك، وأنه قد وهم.

ص: 579

="والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا"، يقول: والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به = منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، (1) فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم.

و"التنكيل" مصدر من قول القائل:"نكلت بفلان"، فأنا أنكّل به تنكيلا"، إذا أوجعته عقوبة، (2) كما:-

10014 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وأشد تنكيلا"، أي عقوبة.

* * *

القول في تأويل قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}

قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو"الشفاعة الحسنة"(3) ="يكن له نصيب منها"، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ (4) - من ثواب الله وجزيل كرامته ="ومن يشفع شفاعة سيئة، يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على

(1)"نكل عن الشيء": أحجم وارتد عنه من الفرق. والمعنى: أشد نكاية في عدوه

من نكاية عدوه فيك يا محمد.

(2)

انظر تفسير"النكال" و"التنكيل" فيما سلف 2: 176، 177.

(3)

انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 2: 31، 32 / 5: 382- 384، 395.

(4)

انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 472، تعليق: 2، والمراجع هناك.

ص: 580

المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو"الشفاعة السيئة" ="يكن له كِفل منها".

يعني: بـ "الكفل"، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من"كِفل البعير والمركب"، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال منه:"جاء فلان مكتَفِلا"، إذا جاء على مركب قد وطِّئَ له -على ما بيّنا- لركوبه. (1)

* * *

وقد قيل إنه عنى بقوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر.

* * *

وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد.

ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.

10015 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة"، قال: شفاعة بعض الناس لبعض.

10016 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

10017 -

حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله يقول:

(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135.

ص: 581

"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، ولم يقل"يشفَّع". (1)

10018 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال:"من يشفع شفاعة حسنة"، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها.

10019 -

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن قول الله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، قال: هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين.

ذكر من قال:"الكفل": النصيب.

10020 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، أي حظ منها="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، و"الكفل" هو الإثم.

10021 -

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يكن له كفل منها"، أما"الكفل"، فالحظ.

10022 -

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يكن له كفل منها"، قال: حظ منها، فبئس الحظ.

10023 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:

(1) الأثر: 10016- كان في المطبوعة: "كان له أجرها وإن لم يشفع، لأن الله يقول:.." وهو نص ما في الدر المنثور 2: 187. وأثبت ما في المخطوطة. والظاهر أنه تصرف من السيوطي، وتبعه ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في المخطوطة، إلا أنه ينبغي أن تقرأ"يشفع" الأولى في قول الحسن مشددة الفاء بالبناء للمجهول. ويعني الحسن: أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان له أجران، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه، وأجر آخر هو مثل أجر المشفوع إليه في فعله ما فعل من الخير.

ص: 582

"الكفل" و"النصيب" واحد. وقرأ: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ)[سورة الحديد: 8] .

* * *

القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا".

فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.

*ذكر من قال ذلك:

10024 -

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" يقول: حفيظًا.

10025 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مقيتًا" شهيدًا.

10026 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله.

10027 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مقيتًا" قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.

10028 -

حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الحسيب.

* * *

ص: 583

وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير.

*ذكر من قال ذلك:

10029 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الواصب. (1)

وقال آخرون: هو القدير.

*ذكر من قال ذلك:

10030 -

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، أما"المقيت"، فالقدير.

10031 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" قال: على كل شيء قديرًا،"المقيت" القدير.

* * *

قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال: معنى"المقيت"، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم:(2)

وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ

وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا (3)

أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-

(1) يقال: "وصب الرجل على ماله يصب"(مثل: وعد يعد) : إذا لزمه وأحسن القيام عليه.

(2)

لم أجده للزبير، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة، مرفوع القافية في طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 243، ومراجعه هناك. ونسبه في الدر المنثور 2: 187، 188 إلى أحيحة ابن الجلاح الأنصاري.

(3)

اللسان (قوت)، وانظر طبقات فحول الشعراء: 242، 243 والتعليق عليه هناك.

ص: 584

10032 -

"كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من يُقيت". (1)

في رواية من رواها:"يُقيت"، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال= منه."أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة" و"قاته يقوته قياتةً وقُوتًا"، و"القوت" الاسم. وأما"المقيت" في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه:(2)

لَيْتَ شِعْرِي، وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا

قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ (3) ! أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إذا حُوسِبْتُ?

إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ (4)

= فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى. (5)

* * *

(1) الحديث: 10032- رواه أحمد في مسنده، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رقم: 6495، 6819، 6828، 6842، والحاكم في المستدرك 1: 415، وهو حديث صحيح، وروايته"يقوت".

(2)

هو السموأل بن عادياء اليهودي.

(3)

ديوانه: 13، 14، والأصمعيات: 85، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135، وطبقات فحول الشعراء للجمحي: 236، 237، اللسان (قوت) وغيرها. وقوله:"ليت شعري": أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله: "وأشعرن" استفهام، أي: وهل أشعرن. وقوله: "قربوها منشورة" يعني: صحف أعماله يوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي البيت روايات أخر.

(4)

يعني بالفضل: الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله."أم على": أم على الإثم المستحق للعقوبة.

(5)

هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر، هو قول أبي عبيدة، وهو أحسن ما قيل في معنى"المقيت" في هذا البيت. وانظر اعتراض المعترضين على البيت، واختلافهم في تفسيره في مادة (قوت) من لسان العرب.

ص: 585

القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. (1) ="فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم="أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية.

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها.

فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم"،:"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، (2) أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. (3)

*ذكر من قال ذلك:

10033 -

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت:"وعليك السلام ورحمة الله"، أو تقطع إلى"السلام عليك"، كما قال لك.

10034 -

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،

(1) وذلك لأن معنى"التحية": البقاء والسلامة من الآفات.

(2)

في المخطوطة، مكان قوله:"كما قيل له"="قال قيل له"، ولا أدري ما هو، وتصرف الطابع الأول لا بأس به.

(3)

في المطبوعة: "فيدعو الداعي له"، والصواب من المخطوطة، ولكن أوقعه في الخطأ، أن الناسخ كتب:"فيدعوا" بالألف بعد الواو.

ص: 586

عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: في أهل الإسلام.

10035 -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء قال: في أهل الإسلام.

10036 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح أنه كان يرد:"السلام عليكم"، كما يسلم عليه.

10037 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم أنه كان يرد:"السلام عليكم ورحمة الله".

10038 -

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر: أنه كان يرد:"وعليكم".

* * *

وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام، أو ردوها على أهل الكفر.

*ذكر من قال ذلك:

10039 -

حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من سلَّم عليك من خلق الله، فاردُدْ عليه وإن كان مجوسيًّا، فإن الله يقول:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".

10040 -

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين="أو ردوها"، على أهل الكتاب.

10041 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،

ص: 587

عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين=" أو ردوها"، على أهل الكتاب.

10042 -

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، يقول: حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين="أو ردوها"، أي: على أهل الكتاب.

10043 -

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام، أن يرد عليه مثل ما قال.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك في أهل الإسلام، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ الأحسن والمثل في هذه الآية، من غير تمييز منه بين المستوجب ردَّ الأحسن من تحيته عليه، والمردودِ عليه مثلها، بدلالة يعلم بها صحة قولُ من قال:"عنى برد الأحسن: المسلم، وبرد المثل: أهل الكفر".

والصواب= إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك، ولا صحة أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم (1) = أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلَّم عليه: بين رد الأحسن، أو المثل، إلا في الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الأحسن

(1) في المطبوعة: "ولا بصحته أثر لازم"، وفي المخطوطة:"ولا بصحة أثر لازم"، وكلتاهما غير مستقيمة، فرجحت أن يكون ما أثبت أقرب إلى حق السياق.

ص: 588

من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال:"وعليكم"، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلَّم عليه منهم في الردّ من الخيار، ما جعل الله له من ذلك.

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا، خَبَرٌ. وذلك ما:-

10044 -

حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي قال، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، فرددناها عليك. (1)

* * *

(1) الحديث: 10044- عبد الله بن السري المدائني الأنطاكي: ضعيف، وكان رجلا صالحًا، كما قالوا. وقال أبو نعيم:"يروى المناكير، لا شيء". وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: "روى عن أبي عمران العجائب التي لا يشك أنها موضوعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 78. ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث عن هشام بن لاحق، كما سيأتي.

هشام بن لاحق، أبو عثمان المدائني: مختلف فيه، قال أحمد:"يحدث عن عاصم الأحول، وكتبنا عنه أحاديث، لم يكن به بأس، ورفع عن عاصم أحاديث لم ترفع، أسندها هو إلى سلمان". وأنكر عليه شبابة حديثًا. وهذا خلاصة ما في ترجمته عند البخاري في الكبير 4 / 2 / 200- 201، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 69- 70. وفي لسان الميزان أن النسائي قواه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات وفي الضعفاء. وقال ابن عدي: "أحاديثه حسان، وأرجو أنه لا بأس به". فيبدو من كل هذا أن الكلام فيه ليس مرجعه الشك في صدقه، بل إلى وهم أو خطأ منه- فالظاهر أنه حسن الحديث.

والحديث ذكره ابن كثير 2: 526- 527، عن هذا الموضع من الطبري. ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه رواه معلقًا من طريق عبد الله بن السري الأنطاكي، بهذا الإسناد، مثله.

ثم قال ابن كثير: "ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان -فذكر مثله. ولم أره في المسند".

وهو كما قال ابن كثير، ليس في المسند.

ولكن السيوطي ذكره في الدر المنثور 2: 188، وأنه رواه أحمد"في الزهد". وزاد نسبته أيضًا لابن المنذر، والطبراني، وأنه"بسند حسن".

وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 33، وقال:"رواه الطبراني. وفيه هشام بن لاحق، قواه النسائي، وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح".

وإطلاقه أن أحمد ترك حديث هشام- ليس بجيد، فإن النص الثابت عن أحمد عند البخاري وابن أبي حاتم، لا يدل على ذلك.

ص: 589

فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر الله به في كتابه؟

قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين.

*ذكر من قال ذلك:

10045 -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه، قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها". (1)

10046 -

حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: السلام: تطوُّع، والرد فريضة.

* * *

(1) أي: يوجب رد السلام.

ص: 590

القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، كما:-

10047 -

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حسيبًا"، قال: حفيظًا.

10048 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

* * *

وأصل"الحسيب" في هذا الموضع عندي،"فعيل" من"الحساب" الذي هو في معنى الإحصاء، (1) يقال منه:"حاسبت فلانًا على كذا وكذا"، و"فلان حاسِبُه على كذا"، و"هو حسيبه"، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه.

* * *

وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة: أن معنى"الحسيب" في هذا الموضع، الكافي. يقال منه:"أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا"، بمعنى كفاني، من قولهم:"حسبي كذا وكذا". (2)

وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في"أحسبني الشيء"، (3)

(1) انظر تفسير"الحسيب" فيما سلف 7: 596، 597. = وتفسير"الحساب" فيما سلف 4: 207، 274، 275 / 6:279.

(2)

هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 135، وانظر ما سلف 7: 596، 597.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت"، والصواب"أحسبني" كما دل عليه السياق.

ص: 591