المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

*ذكر من قال ذلك: ‌ ‌103 79- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ٩

[ابن جرير الطبري]

الفصل: *ذكر من قال ذلك: ‌ ‌103 79- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا

*ذكر من قال ذلك:

‌103

79- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى"، عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا.

* * *

القول في تأويل قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}

قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا فرغتم، أيها المؤمنون، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوِّكم= التي بيّناها لكم، (1) فاذكروا الله على كل أحوالكم= قيامًا وقعودًا ومضطجعين على جنوبكم، بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[سورة الأنفال: 45]، وكما:-

10380-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واذكروا الله كثيرًا"، (2) يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، (3) ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غيرَ الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله، فقال:"فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم"، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حالٍ.

* * *

(1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543 / 4:195.

وقوله: "التي بينها لكم"، صفة قوله:"من صلاتكم".

وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو عدوكم"، خطأ. انظر التعليق السالف ص163، تعليق:2.

(2)

في المطبوعة: "فاذكروا الله قيامًا"، مكان قوله تعالى:"واذكروا الله كثيرًا"، وهو في ظني تصرف من الناشر، والصواب من المخطوطة.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "إلا جعل لها جزاء معلومًا"، وهو خطأ، والصواب"حدًا" كما يدل عليه سياق الكلام، وسياق المعنى.

ص: 164

وأما قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا اطمأننتم"، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم (1) ="فأقيموا"، يعني: فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. (2)

*ذكر من قال ذلك:

10381-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم"، قال: الخروج من دارِ السفر إلى دار الإقامة.

10382-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"فإذا اطمأننتم"، يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك:"فإذا استقررتم"="فأقيموا الصلاة"، أي: فأتموا حدودَها بركوعها وسجودها.

*ذكر من قال ذلك:

10383-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا اطمأننتم"، قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف.

10384-

وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: فإذا اطمأننتم فصلُّوا الصلاة، لا تصلِّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا. (3)

(1) وانظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492.

(2)

في المخطوطة: "فأقيمو الصلاة التي أذن

" ليس فيها"يعني: فأتموا".

(3)

انظر تفسير"إقامة الصلاة" فيما سلف 1: 241، وفهارس اللغة في الأجزاء السالفة.

ص: 165

10385-

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: أتموها.

10386-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم، أيها المؤمنون، واطمأنت أنفسكم بالأمن="فأقيموا الصلاة"، فأتموا حدودَها المفروضة عليكم، (1) غير قاصريها عن شيء من حدودها.

وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عرَّف عباده المؤمنين الواجبَ عليهم من فرض صَلاتهم بهاتين الآيتين في حالين:

إحداهما: حالُ شدة خوف، أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بيَّنت من قصر حدودها عن التمام.

والأخرى: حالُ غير شدة الخوف، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها، على ما وصفه لهم جل ثناؤه، من معاقبة بعضهم بعضًا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضًا من عدوهم. وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جل ثناؤه: لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة". فمعلوم بذلك أن قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم، فأقيموها. وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حالٍ غير شدة الخوف بقوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية.

* * *

(1) في المطبوعة: "فأتموها بحدودها"، غير ما في المخطوطة مسيئًا في تغييره.

ص: 166

القول في تأويل قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. (1)

*ذكر من قال ذلك:

10387-

حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (2)

10388-

حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا،"الموقوت"، المفروض. (3)

10389-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما"كتابًا موقوتًا"، فمفروضًا.

10390-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (4)

* * *

(1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409 / 4: 295، 297 / 5: 300، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.

(2)

في المطبوعة: "كتابًا موقوتًا، قال: فريضة مفروضة"، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

الأثر: 10388 - كان إسناد هذا الأثر في المطبوعة: "حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني علي، عن ابن عباس: إن الصلاة

". وأثبت الإسناد الذي في المخطوطة.

ومع ذلك فالإسناد الذي في المطبوعة فيه خطأ، فإنه أسقط بين"حدثنا عبد الله بن صالح" وبين"قال حدثني علي" ما لا ينبغي إسقاطه وهو:"قال حدثني معاوية"، فهذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم:10380.

(4)

الأثر: 10390 - هذا الأثر مقدم على الذي قبله في المخطوطة.

ص: 167

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا واجبًا.

*ذكر من قال ذلك:

10391-

حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: كتابًا واجبًا.

10392-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: واجبًا.

10393-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.

10394-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن معمر بن سام، عن أبي جعفر في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: مُوجَبًا. (1)

(1) الأثر: 10394 -"معمر بن سام"، يقال هو منسوب إلى جده وهو"معمر بن سام بن موسى" أو:"معمر بن يحيى بن سام"، روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وعن أخيه أبان بن يحيى بن سام، وفاطمة بنت علي. روى عنه وكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم. سئل أبو زرعة عن"معمر بن يحيى بن سام" فقال: كوفي ثقة. مترجم في التهذيب، وفي الكبير 4 / 1 / 377"معمر بن يحيى بن سام"، وفي 4 / 1 / 378"معمر بن موسى بن سام"، وهما ترجمة واحدة. وفي الجرح والتعديل 4 / 1 / 258 وسيأتي في رقم: 10396، "معمر بن يحيى".

وكان في المطبوعة: "معمر بن هشام" وهو خطأ محض، وفي المخطوطة"معمر بن شام"، والصواب ما أثبت.

و"أبو جعفر" هو: أبو جعفر الباقر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، كان ثقة كثير الحديث، وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال الزبير بن بكار:"كان يقال لمحمد: باقر العلم".

وكان في المخطوطة: "موقوتا قال: موجوبا" وهي غريبة لا يجيزها الاشتقاق، وكأن الناسخ سها، وغلب عليه وزن"موقوتا"، فكتب"موجوبا"، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. أو تكون كما يجيء في الأثر رقم: 10396"موقوتًا: وجوبها" فكتبها الناسخ"موجوبا"، وقرأها كذلك خطأ أو سهوًا.

ص: 168

10395-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، و"الموقوت"، الواجب.

10396-

حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا معمر بن يحيى قال، سمعت أبا جعفر يقول:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: وجوبها. (1)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، منجَّمًا يؤدُّونها في أنجمها. (2)

*ذكر من قال ذلك:

10397-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتًا كوقت الحجِّ.

10398-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: منجَّمًا، كلما مضى نجم جاء نَجْم آخر. يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر.

10399-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن

(1) الأثر: 10396 -"معمر بن يحيى" هو"معمر بن سام" الذي سلف في الأثر: 10394، وانظر التعليق السالف.

(2)

"النجم" هو الوقت المضروب، يقال:"جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة، يؤدي كل نجم في شهر كذا"، وهو القسط أو الوظيفة يؤديها عند حلول وقتها مشاهرة أو مساناة. وجمع"نجم""نجوم" و"أنجم"، و"نجم المال والدين ينجمه تنجيمًا". وانظر تفسير ذلك في الأثر التالي رقم:10398.

ص: 169

أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، بمثله.

* * *

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض. لأن ما كان مفروضًا فواجب، وما كان واجبًا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجَّم.

غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة، قول من قال:"إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا منجَّمًا"، لأن"الموقوت" إنما هو"مفعول" من قول القائل:"وَقَتَ الله عليك فرضه فهو يَقِته"، ففرضه عليك"موقوت"، إذا أخرته، جعل له وقتًا يجب عليك أداؤه. (1) فكذلك معنى قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، إنما هو: كانت على المؤمنين فرضًا وقَّت لهم وقتَ وجوب أدائه، فبيَّن ذلك لهم.

* * *

القول في تأويل قوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا.

* * *

من قولهم:"وهَنَ فلان في هذا الأمرَ يهِن وَهْنًا ووُهُونًا". (2)

* * *

وقوله:"في ابتغاء القوم"، يعني: في التماس القوم وطلبهم، (3) و"القوم"

(1) في المطبوعة: "إذا أخبر أنه جعل له وقتًا

" وهو كلام غسيل من كل معنى. وفي المخطوطة: "إذا احرانه" غير منقوطة، وبزيادة ألف بعد الراء، وصواب قراءتها ما أثبت، وهو صواب المعنى أيضًا.

(2)

انظر تفسير"وهن" فيما سلف 7: 234، 269، و"الوهون" مصدر لم تنص عليه أكثر كتب اللغة، ولم يذكره أبو جعفر فيما سلف 7:234.

(3)

انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 71 تعليق: 2، والمراجع هناك

ص: 170

هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله="إن تكونوا تألمون"، يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون، تَيْجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا، (1) ="فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: فإن المشركين يَيْجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تَيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها="وترجون"، أنتم أيها المؤمنون = "من الله" من الثواب على ما ينالكم منهم= "ما لايرجون" هم على ما ينالهم منكم. يقول: فأنتم= إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم، (2) بما هم به مكذّبون= أولى وأحرَى أن تصبروا على حربهم وقتالهم، منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجِدُّوا من طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يَهنون فيه ولا يَجِدّون، فكيف على ما جَدُّوا فيه ولم يهنوا؟ (3)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

*ذكر من قال ذلك:

10400-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون.

(1) يقال: "وجع الرجل يوجع وييجع وياجع وجعا"، كله صواب جيد.

(2)

في المطبوعة: "إن كنتم موقنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. وهذه الجملة بين الخطين، معترضة بين المبتدأ والخبر. والسياق:"فأنتم.. أولى وأحرى أن تصبروا".

(3)

في المطبوعة: "فإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون هم فيه ولا تجدون، فكيف على ما وجدوا فيه ولم يهنوا"، وهو كلام لا معنى له، وضع عليه ناشر الطبعة الأولى رقم (3) دلالة على اضطراب الكلام.

وفي المخطوطة: "وإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون ولا يحدون، فكيف على فاحذوا فيه ولم يهنوا"! وهي أشد اضطرابًا وفسادًا لعدم نقطها. وصواب قراءتها ما أثبت.

وسياق هذه العبارة كلها: "فأنتم

أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم

وأن تجدوا في طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يهنون

" أي: لكي يقاتلوهم على الأمر الذي لا يجدون فيه جدًا لا وهن معه.

ص: 171

10401-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، قال يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون الجراحات، (1) فإنهم يَيْجعون كما تيجعون.

* * *

10402-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، لا تضعفوا.

10403-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تهنوا"، يقول: لا تضعفوا. (2)

10404-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، قال يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم="إن تكونوا تألمون" القتال="فإنهم يألمون كما تألمون". وهذا قبل أن تصيبهم الجراح (3) = إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه="فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون"، يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال. (4)

10405-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تكونوا تألمون"، توجعون.

10406-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"إن تكونوا تألمون"، قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون

(1) في المطبوعة: "تيجعون من الجراحات" بزيادة"من"، والذي في المخطوطة صواب.

(2)

هذا الأثر لم يتم في المخطوطة، فقد انتهت الصحيفة بقوله تعالى"فلا تهنوا"، ثم قلب الوجه الآخر وكتب"في ابتغاء القوم

"، وساق بقية الخبر التالي وأسقط إسناده. وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو الصواب بلا شك.

(3)

في المطبوعة: "قال: وهذا

" بزيادة"قال"، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)

في المطبوعة: "مكان القتال"، وفي المخطوطة:"لمكان القتال"، وهذا صواب قراءتها، يعني: جدهم في التماس القوم في المعركة.

ص: 172

كما توجعون، وترجون أنتم من الثواب فيما يصيبكم ما لا يرجون.

10407-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أُحُد، وأصابَ المسلمين ما أصاب، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال:"يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ (1) الحرب سِجَال، يوم لنا ويوم لكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه. فقالوا:"لا سواء، لا سواء، (2) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". فقال أبو سفيان:"عُزَّى لنا ولا عُزَّى لكم"، (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان:"أُعْلُ هُبَل، أُعْل هبل"! (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله أعلى وأجل"! فقال أبو سفيان:"موعدنا وموعدكم بدر الصغرى"، ونام المسلمون وبهم الكلوم (5) = وقال عكرمة: وفيها أنزلت: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)[سورة آل عمران: 140]، وفيهم أنزلت:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا". (6)

10408-

حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"،

(1) في المطبوعة: "لا جرح إلا بجرح"، أساء قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، فكتبها كما كتب!! ولا معنى له. وقوله:"الحرب سجال"، أي: مرة لهذا ومرة لهذا.

(2)

في المطبوعة، حذف"لا سواء" الثانية، لأن الناسخ كان قد كتب شيئًا ثم ضرب عليه، فاختلط الأمر على الناشر الأول، فحذف.

(3)

"العزى" صنم كان لقريش وبني كنانة.

(4)

و"هبل" صنم كان في الكعبة لقريش. وقد مضى تفسير"اعل هبل" 7: 310، وخطأ من ضبطه"أعل" بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام، وأن الصواب أنها من"علا يعلو".

(5)

"الكلوم" جمع"كلم"(بفتح وسكون) : الجرح. و"الكليم": الجريح.

(6)

الأثر: 10407 - مضى برقم: 7098، وجاء فيه على الصواب، ومنه ومن المخطوطة صححت ما سلف.

ص: 173

قال: ييجعون كما تيجعون.

وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يتأول، (1) قوله:"وترجون من الله ما لا يرجون"، وتخافون من الله ما لا يخافون، من قول الله:(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ)[سورة الجاثية: 14]، بمعنى: لا يخافون أيام الله.

وغير معروف صرف"الرجاء" إلى معنى"الخوف" في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جل ثناؤه:(مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)[سورة نوح: 13]، بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر:(2)

لا تَرْتَجِي حِينَ تُلاقِي الذَّائِدَا

أَسَبْعَةً لاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا (3)

وكما قال أبو ذؤيب الهُذَليّ:

إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا

وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ (4)

(1) في المطبوعة: "وقد ذكرنا عن بعضهم" وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "الشاعر الهذلي"، وهو خطأ نقل نسبة أبي ذؤيب في البيت بعده إلى هذا المكان. ولم أعرف هذا الراجز من يكون، وإن كنت أخشى أن يكون الرجز لأبي محمد الفقعسي.

(3)

معاني القرآن للفراء 1: 286، والأضداد لابن الأنباري: 9، واللسان (رجا) .

(4)

ديوانه: 143، ومعاني القرآن للفراء 1: 286، وسيأتي في التفسير 11: 62 / 25: 83 / 29: 60 (بولاق) . يروى: "إذا لسعته الدبر"، وتأتي روايته في التفسير"نوب عواسل" أيضًا. وهذا البيت من قصيدة له، وصف فيها مشتار العسل من بيوت النحل، فقال قبل هذا البيت: تَدَلَّى عَلَيْهَا بالحِبَالِ مُوَثَّقًا

شَدِيدُ الْوَصَاةِ نابِلٌ وَابْنُ نِابِلِ

فَلَوْ كَانَ حَبْلا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً

وَسَبْعِينَ بَاعًا، نَالَهَا بالأَنامِلِ

يقول: تدلى على هذه النحل مشتار موثق بالحبال، شديد الوصاة والحفظ لما ائتمن عليه، حاذق وابن حاذق بما مرن عليه وجربه. ثم ذكر أنه لا يخاف لسع النحل، إذا هو دخل عليها فهاجت عليه لتلسعه.

وقوله: "فخالفها"، أي دخل بيتها ليأخذ عسلها، وقد خرجت إليه حين سمعت حسه، فخالفها إلى بيوت عسلها غير هياب للسعها. ويروى"حالفها" بالحاء، أي: لازمها، ولم يخش لسعها. و"النوب" جمع"نائب" وهو صفة للنحل، أي: إنها ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتضع عسلها، تجيء وتذهب. و"العوامل"، هي التي تعمل العسل. و"العواسل" النحل التي تصنع العسل، أو ذوات العسل.

ص: 174

وهي فيما بلغنا - لغةٌ لأهل الحجاز يقولونها، بمعنى: ما أبالي، وما أحْفِلُ. (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) }

يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله="عليمًا" بمصالح خلقه="حكيمًا"، في تدبيره وتقديره. (2) ومن علمه، أيها المؤمنون، بمصالحكم عرّفكم= عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم (3) = ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. (4)

* * *

القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) }

* * *

(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 286.

(2)

انظر تفسير"كان" و"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.

(3)

في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وقد مضى مثل هذا الخطأ مرارًا فيما سلف ص: 146، تعليق:1.

(4)

في المطبوعة: "بصركم بما فيه" بزيادة الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.

ص: 175

القول في تأويل قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) }

قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"،"إنا أنزلنا إليك" يا محمد="الكتاب"، يعني: القرآن="لتحكم بين الناس"، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم="بما أراك

ص: 175

الله"، يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله="خصيما" تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه="واستغفر الله"، يا محمد، وسَلْه أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره="إن الله كان غفورًا رحيمًا"، يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها="رحيما" بهم. (1)

فافعل ذلك أنت، يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن.

* * *

وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هَّم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك.

* * *

وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم: بنو أُبَيْرِق.

* * *

واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه، فوصفه الله بها.

فقال بعضهم: كانت سرقًة سرقها.

*ذكر من قال ذلك:

10409-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله"، فيما بين ذلك، في ابن أبيرق، (2) ودرعه من حديد، من يهود، التي سرق، (3)

(1) انظر تفسير"الاستغفار"، و"كان" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف في فهارس اللغة.

(2)

في المطبوعة: "طعمة بن أبيرق"، وسيأتي ذكر"طعمة بن أبيرق" في رقم: 10412، ولكنه في المخطوطة هنا"ابن أبيرق"، وسترى الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء.

(3)

قوله"من يهود" أثبتها من المخطوطة.

ص: 176

وقال أصحابه من المؤمنين للنبي:"اعذره في الناس بلسانك"، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا.

10410-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. (1)

10411-

حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبَشِير، ومُبَشِّر، وكان بشير رجلا منافقًا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول:"قال فلان كذا"، و"قال فلان كذا"، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال: (2)

أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً

أَضِمُوا وَقَالُوا: ابْنُ الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (3)

قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس

(1) الأثر: 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "إلا هذا الخبيث"، وأثبت ما في المخطوطة.

(3)

في المخطوطة: "نحلت وقالوا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ:. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ضموا إلى بان أبيرق قالها

والذي هنا هو صوابه، وأنشد بعده هناك: مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُم

جَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَا

هكذا جاء على الإقواء، على الخلاف بين القافية في"قالها" و"أبانها" وهو عيب جاء مثله في الشعر، لتقارب مخرج اللام والنون، وأعانه على ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية.

وقوله: "أضموا" أي: غضبوا عليه وحقدوا. وقوله: "متخمطين"، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط: شديد الغضب له ثورة وجلبة. وفي المستدرك: "متخطمين" بتقدم الطاء على الميم، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.

ص: 177

إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك، (1) ابتاع الرجل منها فخصَّ به نفسه. (2) فأما العِيال، فإنما طعامهم التمر والشَّعير. فقدمت ضافطة من الشأم، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك، فجعله في مَشْرُبة له، (3) وفي المشربة سلاح له: دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي عليه من تحت الليل، (4) فنُقِبَت المشربة، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، (5) فنقبت مشرُبتنا، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال: فتحسّسنا في الدار، (6) وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم.

= قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل! = رجلا منا له صلاح وإسلام. (7) فلما سمع بذلك لبيد، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال:(8) والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتُبَيّننَّ هذه

(1) الضافطة: كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما. ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الذي يكري الأحمال"الضافطة" و"الضفاط". و"الدرمك" هو الدقيق النقي الحواري، الأبيض.

(2)

في المطبوعة: "ابتاع الرجل منهم"، وفي المخطوطة:"منا"، وأثبت ما في المراجع.

(3)

"المشربة"(بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها) : وهي الغرفة، أو العلية، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب: العلالي.

(4)

في المراجع الأخرى: "من تحت البيت"، وكأن الذي في الطبري هو صواب الرواية.

(5)

"تعلم"(بتشديد اللام)، بمعنى: اعلم.

(6)

في المطبوعة والمخطوطة: "فتجسسنا" بالجيم، وهي صواب، وأجود منها بالحاء، كما في سائر المراجع."تحسس الخبر": تطلبه وتبحثه، وفي التنزيل:"يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".

و"الدار" هنا: المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها، ويعني بها القبيلة أو البطن، كما جاء في الحديث:"ألا أنبئكم بخير دور الأنصار؟ دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، وفي كل دور الأنصار خير". يعني القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها.

(7)

في المطبوعة: "رجل" بالرفع، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض عال.

(8)

"اخترط سيفه": سله من غمده.

ص: 178

السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!

= قال قتادة: فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ، (1) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. (3) فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له:"أسير بن عروة"، فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (4)

= قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عَمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال: فرجعت ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان!

= فلم نلبث أن نزل القرآن:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يعني: بني أبيرق="واستغفر الله"، أي: مما قلت لقتادة="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون

(1)"الجفاء" غلظ الطبع.

(2)

في المخطوطة: "فلا حاجة لنا به"، وهما سواء.

(3)

في المطبوعة: "سأنظر في ذلك"، وفي الترمذي وابن كثير:"سآمر في ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)

"الثبت"(بفتحتين) : الحجة والبينة والبرهان.

ص: 179

أنفسهم"، أي: بني أبيرق="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من الناس إلى قوله:"ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم="ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يَرْم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، قولهم للبيد="ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك"، يعني: أسيرًا وأصحابه="وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرُّونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا".

فلما نزل القرآن، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة. = قال قتادة: فلما أتيتُ عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) وكنت أرى إسلامه مَدْخولا (2) فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد، (3) فأنزل الله فيه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ

(1)"عسا في الجاهلية" أي: كبر وأسن، من قولهم:"عسا العود" أي: يبس واشتد وصلب.

(2)

"المدخول"، من"الدخل"(بفتحتين) وهو العيب والفساد والغش، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول: أي في عقله دخل وفساد.

(3)

في المطبوعة: "سلافة بنت سعد بن سهل"، وفي المخطوطة: "

بنت سعد بن سهيل"، وفي الترمذي وابن كثير"بنت سعد بن سمية" وفي المستدرك: "سلامة بنت سعد بن سهل، أخت بني عمرو بن عوف، وكانت عند طلحة بن أبي طلحة بمكة".

والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور، ثم جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت.

و"سلافة بنت سعد بن شهيد" أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس، استظهرت نسبها:"سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس". وذلك من جمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 314، إذ ذكر"عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو

" وقال: "له صحبة، ولاه عمر فلسطين". ولم أجد في تراجم الصحابة وسائر المراجع"عويمر بن سعد بن شهيد". هذا، ولكن نقل ابن حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و"سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية" معروفة غير منكورة، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة، وهي أم مسافع، والجلاس، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3: 66) ، وقد قتلوا يوم أحد هم وأبوهم، قتل مسافعًا والجلاس، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، حمى الدبر، فنذرت سلافة: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر (النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3: 180) .

فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما.

ص: 180

الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) . فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، (1)

فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح، (2) ثم قالت: أهديتَ إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (3)

(1) شعر حسان هذا في ديوانه: 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول، قال: وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًا

بذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْ

فَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ، فأَصْبَحَتْ

يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها وَتُنَازِعُهْ

(2)

في المطبوعة: "فرمته بالأبطح"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في الترمذي. و"الأبطح"، هو أبطح مكة، أو: بطحاء مكة، وهو مسيل واديها.

(3)

الأثر: 10411 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي" أبو مسلم الحراني. من أهل حران، سكن بغداد. قال الخطيب:"ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". روى عن محمد بن سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2، وتاريخ بغداد 7:266.

وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن، في تفسير هذه الآية، بإسناد الطبري نفسه، أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 385، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 574-576، والسيوطي في الدر 2: 214، 215، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.

وإسناد الحاكم في المستدرك: "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، حدثني محمد بن إسحاق

"، وساق إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان، كما في التفسير والترمذي.

وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده: "أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا، حدثنا محمد بن سلمة" وساقه كإسناد أبي جعفر.

وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن أبيه وجده، وأخشى أن يكون وهم، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله"حدثني جدي وأبي جميعًا"، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد، لا الحسن بن أحمد.

ثم قال الخطيب البغدادي: "قال أبو شعيب: "قال أبي (يعني الحسن بن أحمد) : سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن أبي إسرائيل". وأما في ابن كثير، فقائل هذا: "محمد بن سلمة"، وهو الصواب.

وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري) : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".

أما الترمذي فقد قال: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده".

غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير، مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان.

ص: 181

10412-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل الله عليك وبيَّن لك="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، فقرأ إلى قوله:"إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا". ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا.

= وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، (1) يقال له:"زيد بن السمين". (2) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف، (3) فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم،

(1) في المخطوطة والدر المنثور: "فقدمها" والصواب ما في المطبوعة.

(2)

في أسباب النزول للواحدي: 134: "زيد بن السمير" بالراء، وسائر الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة.

(3)

في المطبوعة والمخطوطة: "يهتف" بالتاء، كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون، من قولهم:"أهنف الصبي إهنافًا"، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال:"أهنف الرجل"، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح.

ص: 182

وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" إلى قوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"، يعني بذلك قومه="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه:

(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .

10413-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظَنَّ بها رجلا من الأنصار، (1) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك، عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيَّبْتُ الدرعَ وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلا (2) فقالوا: يا نبيّ الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطْنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! (3) فقام رسول الله صلى الله

(1)"ظننت الرجل، وأظننته"، اتهمته. و"الظنة" (بالكسر) : التهمة.

(2)

"ليلا" غير موجودة في المخطوطة، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على صواب إثباتها.

(3)

في المطبوعة: "إن لم يعصمه الله"، والذي في المخطوطة، صواب عريق.

ص: 183

عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب="واستغفر الله إنّ الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن= ثم قال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب (1) = ثم قال:"ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، يعني: السارقَ والذين يجادلون عن السارق.

10414-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" الآية، قال: كان رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" بما قلت لهذا اليهودي="إن الله كان غفورًا رحيمًا"= ثم أقبل على جيرانه فقال:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" فقرأ حتى بلغ"أم من يكون عليهم وكيلا". قال: ثم عرض التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم

(1) في المطبوعة، سقط من الناشر من أول قوله:"يجادلون عن الخائن" إلى قوله: "بالكذب"، فأثبتها من المخطوطة.

ص: 184

يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه"، فما أدخلكم أنتم أيها الناس، على خطيئة هذا تكلَّمون دونه="وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، وإن كان مشركًا="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فقرأ حتى بلغ:"لا خير في كثير من نجواهم"، (1) فقرأ حتى بلغ:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى". قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرَض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتًا يسرقه، (2) فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (3) "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى"، فقرأ حتى بلغ"وساءت مصيرًا"= ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظَفر.

* * *

وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، جحودُه وديعة كان أودِعها.

*ذكر من قال ذلك:

10415-

حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، قال: أما"ما أراك الله"، فما أوحى الله إليك. قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعًا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه، كافره عنها، (4) فانطلق إلى ناس من

(1) سقط من المطبوعة: "فقرأ حتى بلغ: لا خير في كثير من نجواهم"، وزاد في التي بعدها:"حتى بلغ إلى قوله". وأثبت نص المخطوطة.

(2)

في المطبوعة: "ليسرقه"، والذي في المخطوطة صواب معرق.

(3)

في المطبوعة: "فذلك قوله"، وأثبت نص المخطوطة.

(4)

"كافره حقه": جحده، و"كافره عنه"، عربي صريح.

ص: 185

اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبُّوه، وقال: أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة: أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني ويكذِّب حجة اليهودي، (1) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه:"ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" مما أردت="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيما"= ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول"، يقول: يقولون ما لا يرضى من القول (2) ="ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"= ثم دعا إلى التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"= ثم ذكر قوله حين قال:"أخذها أبو مليل" فقال:"ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه" ="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا" = ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه: (3) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه، فقال:"لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: النبوة= ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا عن طعمة، فقال:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس". فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده، (4) فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه، فمات بحرَّة بني سُلَيم كافرًا، (5) وأنزل الله فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى" إلى"وساءت مصيرًا".

10416-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع، (6) وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته، فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين: فتعلَّق صاحب الدرع بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ عنه، فهمّ بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا * واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: طعمة بن أبيرق وقومه= "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في

(1)"نضح عنه": أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به.

(2)

قوله: "يقول: يقولون ما لا يرضى من القول"، غير موجودة في المخطوطة، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى"التبيت" على وجه الدقة فيما يلي ص: 191، 192.

(3)

في المطبوعة: "وإتيانهم إياه"، وأثبت ما في المخطوطة.

(4)

"الخشخشة": صوت حركة، تكون من السلاح إذا احتك، والثوب الجديد، ويبيس النبات. و"القعقعة": أشد من الخشخشة، صوت يكون من الجلد اليابس، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض.

(5)

"حرة بني سليم" في عالية نجد. و"الحرة" أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار.

(6)

المشربة: الغرفة، كما أسلفت في التعليق.

ص: 186

الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة= "ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، محمد وطعمة وقومه= قال:"ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه" الآية، طعمة="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، يعني زيد بن السمين="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، طعمة بن أبيرق="ولولا فضل الله عليك ورحمته" يا محمد="لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء"، قوم طعمة بن أبيرق="وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا" يا محمد (1) ="لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف"، حتى تنقضي الآية للناس عامة="ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرَ سبيل المؤمنين" الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق، لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي، (2) حليفٌ لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلَحِج. (3) فلما أصبح أخرجوه من مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل مُنْقَطَعٌ به! فحملوه، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم، ثم انطلق. فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات= قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، أنزلت في طعمة بن أبيرق= ويقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخَزْرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.

10417-

حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خوَّنوا صاحبنا، وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فبين الله خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى قوله:"وساءت مصيرًا".

* * *

قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية، قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية، جحودَه ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني"الخيانات" في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل، أولى من غيره.

* * *

(1) في المطبوعة: "محمد صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

في المطبوعة والمخطوطة"البهري"، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا، بل الصحيح أن يقال:"السلمي ثم البهزي" بالتقديم والتأخير، فإنه"بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور"، فبهز بطن من سليم بن منصور.

(3)

"لحج بالمكان": نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و"لحج السيف": نشب في الغمد فلم يخرج.

ص: 188