الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والمحصنات من المؤمنات"، أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات = وهن الحرائر منهن (1) = أن تنكحوهن ="والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب (2) وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضًا ="إذا آتيتموهن أجورهن"، يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتِكم ومحصناتهم (3) ="أجورهن"، وهي مهورُهن. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خَاصة، فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أيِّ أجناس الناس كانت
(5)
بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفةً.
(1) انظر تفسير"المحصنات"، و"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190.
(2)
انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3)
انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4)
انظر تفسير"الأجور" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5)
في المطبوعة والمخطوطة: "من أي أجناس كانت"، وزدت"الناس"، لأن السياق يقتضيها اقتضاء لا شك فيه. ولو قلت مكانها:"من أي أجناس اليهود والنصارى كانت"، لكان صوابا أيضًا.
وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يُتَزَوَّجن بكل حال (1) لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)، [سورة النساء: 25] .
*ذكر من قال ذلك:
11256-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، قال: من الحرائر.
11257-
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: من الحرائر.
11258-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرًا! فقال: زوِّجها ولا تُخْبِر.
11259-
حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا عامر قال: زنت امرأة منَّا من همدان، قال: فجلدها مُصَدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدَّ (2) ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا:
(1) في المطبوعة: "أن نتزوجهن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2)
"المصدق" هو العامل على الصدقات، يجمعها من أهلها.
نزوّجها، وبئسَ ما كان من أمرها! قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة.
11260-
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته، فقالت: إني أخشى أن أفضَح أبي، فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر، فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى! قال: فزوّجها.
11261-
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن نُبَيْشة، امرأةً من همدان، بغتْ، فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها، فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: انكحوها نكاحَ العفيفة المسلمة.
11262-
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة، فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها، فَأُدْرِكت، فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونَسَكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلِّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه.
11263-
حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها:"نبيشة"، أصابت فاحشة، فذكر نحوه.
11264-
حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلما أسلمت أصابت حدًّا من
حدود الله، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. (1)
11265-
حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر، فذكر نحوه.
11266-
حدثنا مجاهد قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته، فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضرب الرجل وقال: ما لك والخبر! أنكح واسكُت. (2)
11267-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب!
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، العفائفَ من الفريقين، إماءً كنَّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية،
(1)"الأوداج" جمع"ودج"(بفتحتين) : وهو عرق متصل من الرأس إلى النحر، والأوداج: عروق تكتنف الحلقوم.
(2)
هذه الأخبار السالفة، أدب من آداب هذا الدين عظيم، وهدي من هدي أهل الإيمان، أمروا به، ومضوا عليه. حتى خلفت من بعدهم الخلوف، فجهلوا أمر دينهم، وغالوا غلوا فاحشًا في استبشاع زلة من زل من أهل الإيمان، فقتل الرجل منهم بنته وأخته ومن له عليها الولاية. وما فعلوا ذلك، إلا بعد أن فارقوا جادة الإيمان في سائر ما أمرهم الله به، فاستمسكوا بالغلو الفاحش، وظنوا ذلك من تمام ديانتهم ومروءتهم. وهذا دليل على أن كل تفريط في الدين، يقابله في الجانب الآخر غلو في التدين بغير دين! ورحم الله عمر بن الخطاب، ما كان أبصره بالناس وأرحمه بهم.
وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب.
*ذكر من قال ذلك:
11268-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: العفائف.
11269-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
11270-
حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتَسِل من الجنابة.
11271-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجَها.
11272-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مطرف، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة.
11273-
حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مطرف، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصانها: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزنا.
11274-
حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، قال، أخبرنا مطرف، عن عامر، بنحوه.
11275-
حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)، قال: العفائف.
11276-
حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: أما"المحصنات"، فهنّ العفائف.
11277-
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن امرأة اتخذت مملوكها (1) وقالت: تأوّلت كتابَ الله:"وما ملكت أيمانكم"، قال: فأتى بها عمر بن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ رأسه. (2) وقال: أنتِ بعده حرام على كل مسلم.
11278-
حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم أنه قال: في التي تزني قبل أن يُدْخل بها (3) قال: ليس لها صداق، ويفرَّق بينهما.
11279-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، في البكر تفجُر (4) قال: تضرب مئة سوط، وتنفى سنة، وترُدّ على زوجها ما أخذت منه.
11280-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، مثل ذلك.
11281-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث عن الحسن، مثل ذلك.
(1) قوله: "اتخذت مملوكها"، أي أمكنته من نفسها، وتسرت به كأنه زوج لها.
(2)
في المطبوعة: "فقرب العبد" بالقاف، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. و"التغريب": النفي. و"جز رأسه": أي قص شعره. ولم يرد القتل.
(3)
في المطبوعة والمخطوطة: "تسرى قبل أن يدخل بها"، وكأن الصواب ما أثبت. انظر الأثر التالي.
(4)
في المطبوعة والمخطوطة: "في البكر تهجر"، ولا معنى لذلك، والصواب ما أثبت.
11282-
حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فاستيقن، فإنه لا يمسكها.
11283-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي ميسرة قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، أعام أم خاصٌّ؟
فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهن، لأن"المحصنات"، العفائف. وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ، حربيةً كانت أو ذميَّةً.
واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، وأن المعنيَّ بهن العفائف، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بـ "المحصنات" في هذا الموضع: العفائف.
* * *
وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، الحرائرَ منهن، والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيّات كنّ أو ذميات، من أيِّ أجناس اليهود والنصارى كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
*ذكر من قال ذلك:
11284-
حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا أحلَّه الله على علم.
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن
خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة وعهدٌ. فأما أهل الحرب، فإن نساءهم حرام على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
11285-
حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عقبة، قال، حدثنا الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: من نساء أهل الكتاب من يحلُّ لنا، ومنهم من لا يحلُّ لنا، ثم قرأ:(قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ)، [سورة التوبة: 29] . فمن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه = قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فأعجبه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال:
(1) انظر الأم 5: 6 قوله: "ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنهما وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية، ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان، ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم". وانظر سنن البيهقي 7: 173.
(2)
الأثر: 11285-"محمد بن عقبة بن المغيرة الشيباني"، "أبو عبد الله الطحان". روى عن أبي إسحق الفزاري، وسوار بن مصعب، وغيرهما. روى عنه البخاري وأبو كريب وغيرهما. قال البخاري"معروف الحديث"، وقال أبو حاتم"ليس بالمشهور"، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر:"وماله في البخاري سوى حديثين: أحدهما في الجمعة، متابعة. والآخر في الاعتصام، مقرونًا". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/200.
و"الفزاري"، هو"أبو إسحق الفزاري":"إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري"، الإمام الثقة. مضى برقم:3833.
و"سفيان بن حسين الواسطي"، مضى برقم: 3471، 6462.
عنى بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، حرائرَ المؤمنين وأهل الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم، إلا أن يكنَّ مؤمنات، فقال عز ذكره:(وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)[سورة النساء: 25]، فلم يبح منهن إلا المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، العفائفَ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله:(وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ)[سورة النور: 32] . وقد دللنا على فساد قول من قال:"لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين"، في موضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
= فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذميةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر، بظاهر قول الله جل وعز:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
* * *
فأما قول الذي قال:"عنى بذلك نساء بني إسرائيل، الكتابيّات منهن خاصة"(2) فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه، لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل
(1) انظر ما سلف 8: 189، 190.
(2)
يعني قول الشافعي فيما سلف ص 587، 588: تعليق: 1.
هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:"إذا آتيتموهن أجورهن"، فإن"الأجر": العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر. (2) كما:-
11286-
حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"آتيتموهن أجورهن"، يعني: مهورهن.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان.
ويعني بقوله جل ثناؤه:"محصنين"، أعفَّاء ="غير مسافحين"، يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة، وهو الفجور ="ولا متخذي أخدان"، يقول: ولا منفردين ببغيّة واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإحصان" ووجوهه = ومعنى"السفاح" و"الخدن" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (3) وهو كما:-
(1) انظر ما سلف 4: 362-369.
(2)
انظر تفسير"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3)
انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190 = وتفسير"السفاح" فيما سلف 8: 174، 175، 193-195 = وتفسير"الخدن" فيما سلف 8: 193-195.
11287-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"محصنين غير مسافحين"، يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة (1) غير مسافحين متعالنين بالزنا ="ولا متخذي أخدان"، يعني: يسرُّون بالزنا.
11288-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة، ومحصنة من أهل الكتاب ="ولا متخذي أخدان": ذات الخدان، ذات الخليل الواحد.
11289-
حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان"، ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به
(1)"البينة"، سلف ذكرها في الأثرين رقم 9002، 9008 (انظر 8: 161، تعليق: 1 = ثم ص: 162 تعليق: 2) . وقد بدا لي هنا أنه عنى بقوله"البينة"، إعلان النكاح. فراجع ما كتبته هناك، فإني في شك من ذلك كله.
(2)
الأثر: 11289-"سليمان بن المغيرة القيسي"، "أبو سعيد البصري"، روى عن أبيه، وثابت البناني، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. روى عنه الثوري وشعبة، وماتا قبله، ثم جماعة كثيرة من الثقات، من ثقات أهل البصرة. مترجم في التهذيب.
من عند الله = وهو"الإيمان"، الذي قال الله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله" = يقول: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. (1) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد، وعملهم بغير طاعة الله. (2)
* * *
وقد ذكر أن قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، عنى به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما قيل لهم:"أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
*ذكر من قال ذلك:
11290-
حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم = يعني: نساء أهل الكتاب = وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، فأحل الله تزويجهن على علم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل"الإيمان" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
11291-
حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال:"الله"، الإيمان. (3)
(1) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317/6: 287.
(2)
انظر تفسير"الخاسر"، و"الخسران" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3)
في المطبوعة: "قال: بالإيمان، بالله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب.
11292-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن واصل، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان"، قال:"الإيمان"، التوحيد.
11293-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: بالله.
11294-
حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
11295-
حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: من يكفر بالله.
11296-
حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: من يكفر بالله.
11297-
حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: الكفر بالله.
11298-
حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11299-
حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: أخبر الله سبحانه أن"الإيمان" هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، إلى معنى: ومن يكفر بالله؟
قيل: وجه تأويله ذلك كذلك، أن"الإيمان" هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، و"الكفر" جحود ذلك. قالوا: فمعنى"الكفر بالإيمان"، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة.
فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟
قيل: تأويلها: ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله. وذلك أن"الكفر" هو الجحود في كلام العرب، و"الإيمان" التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به، فهو من الكافرين (1) فذلك تأويل الكلام على وجهه.
* * *
(1) انظر تفسير"الكفر" و"الإيمان" في فهارس اللغة.