الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي رواية قالت رضي الله عنها: قدمنا المدينة وهي وبيئة، فاشتكى أبو بكر، واشتكى بلال، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شكوى أصحابه، قال:«اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت مكة أو أشد، وصححها، وبارك لنا في صاعها ومدها، وحول حماها إلى الجحفة»
(1)
.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: لما قدمنا المدينة، نالنا وباء من وعكها شديد. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس، وهم يصلون في سبحتهم قعودا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد مثل نصف صلاة القائم»
(2)
، وفي رواية: فشا الوجع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكثر من يصلي وهو قاعد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم»
(3)
.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهي محمة
(4)
، فحم الناس، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، والناس قعود يصلون. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صلاة القاعد نصف صلاة القائم، فتجشم الناس الصلاة قياماً»
(5)
.
وفي زمننا هذا انتشر وباء كورونا في أكثر دول العالم، ودخل هذا الوباء المدينة كغيرها من المدن، وتم رصد إصابات ووفيات كثيرة في المدينة بعد إصابتهم بهذا الوباء، بينما ذكر بعض العلماء كما تقدم سابقاً أن الطاعون لم يدخل المدينة.
ثانياً: أن الطاعون من وخز الجن:
وقد جاء ذلك في الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فناء أمتي بالطعن
(6)
والطاعون». فقيل: يا رسول الله، هذا الطعن قد عرفناه، فما الطاعون؟ قال: «وخز
(7)
أعدائكم من الجن وفي كل شهداء»
(8)
.
(1)
رواه مسلم، في كتاب الحج، باب الترغيب في سكن المدينة والصبر على لأوائها، ح (1376)، (2/ 1002).
(2)
رواه مالك في الموطأ، ح (451)، (2/ 188).
(3)
رواه الطبراني في الكبير، ح (14261)، (12/ 420).
(4)
محمة: أي ذات حمى، يقال: أحمت الأرض: أي صارت ذات حمى. ينظر: النهاية في غريب الحديث، (1/ 446).
(5)
رواه أحمد في مسنده، ح (12395)، (19/ 387)، والبزار في مسنده، ح (6353)، (13/ 40)، وأبو يعلى في مسنده، ح (3583)، (6/ 275)، وقال الأرناؤوط في حاشية المسند، (19/ 387): حديث صحيح.
(6)
الطعن: هو النخس في الشيء بما ينفذه، من ذلك الطعن بالرمح. ينظر: مقاييس اللغة، (3/ 413).
(7)
الوخز: طعن ليس بنافذ. ينظر: النهاية في غريب الحديث، (5/ 163).
(8)
رواه أحمد في المسند، ح (19528)، (32/ 293)، والبزار في مسنده، ح (2986)، (8/ 16)، وأبو يعلى في مسنده، ح (7226)، (13/ 194)، والطبراني في الأوسط، ح (3422)، (3/ 367)، والحاكم في المستدرك، ح (158)، (1/ 114)، وقال الحاكم حديث صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الصحيحة، (4/ 561).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «ذُكر الطاعون فذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وخزة تصيب أمتي من أعدائهم من الجن: غدة كغدة الإبل. من أقام عليه كان مرابطاً، ومن أصيب به كان شهيداً، ومن فر منه كالفار من الزحف»
(1)
.
قال ابن حجر رحمه الله: ووصف طعن الجن بأنه وخز؛ لأنه يقع من الباطن إلى الظاهر فيؤثر بالباطن أولاً، ثم يؤثر في الظاهر وقد لا ينفذ، وهذا بخلاف طعن الإنس فإنه يقع من الظاهر إلى الباطن فيؤثر في الظاهر أولاً، ثم يؤثر في الباطن وقد لا ينفذ
(2)
.
وقال الزبيدي رحمه الله: والذي عليه المحققون من الفقهاء والمحدثين أنهما متباينان، فالوباء: وخم يغير الهواء فتكثر بسببه الأمراض في الناس، والطاعون هو الضرب الذي يصيب الإنحس من الجن، وأيدوه بما في الحديث أنه وخز أعدائكم من الجن
(3)
.
وقد حاول بعض الباحثين تفسير الوخز تفسيراً طبياً وذكر بأن المقصود به طعن البراغيث وليس طعن الجن.
فقال: الطعن غير نافد هو طعن البراغيث
(4)
المستترة، ووخزها المقصودة بلفظ الجن: والواقع أن هذه البراغيث التي تطعن في جلد الإنسان أو الحيوان بفكيها الحادين تطعن طعناً نافذاً، ويسيل دم قليل لا يلاحظه المرء، ويتغذى عليه البرغوث، وفي أثناء ذلك يقيء ما في معدته المسدودة بميكروبات الطاعون التي تنساب من فيه إلى مكان الوخزة، ثم تنتقل عبر الأوعية اللمفاوية إلى الغدد اللمفاوية في المراق أو الإبط أو العنق حسب مكان الوخزة .. ، ولا شك أن هذه البراغيث التي تسبب الطاعون، وهي مما لا يلاحظه الإنسان بل تستتر عنه وتختفي بين الملابس ولا يكاد يراها إلا بعد مشقة البحث عنها، ويمكن أن نطلق عليها لفظ الجن؛ لأن الجن كل مختفي ومستتر، والخلاصة أن لفظ الجن الوارد في الطاعون والمعبر عنه بلفظ وخز الجن، ينبغي أن ينصرف إلى هذه المخلوقات الصغيرة المختفية التي لا تكاد ترى إلا بالبحث عنها، وهي البراغيث. فهي التي تخز، وهي التي تسبب الطاعون وتنقله
…
ولا علاقة
(1)
رواه أبو يعلى في مسنده، ح (4664)، (8/ 125)، وقال الألباني في صحيح الجامع، (2/ 731): حسن.
(2)
فتح الباري، (10/ 182).
(3)
تاج العروس، (1/ 478).
(4)
البرغوث: نوع من الحشرات، من صغار الهوام من فصيلة البرغوثيات، عضوض شديد الوثب، يمتص دم الإنسان والحيوان وينقل إليه الأمراض الخبيثة. ينظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، (1/ 191).
للجن، - المخلوقات النارية - بموضوع الطاعون مطلقاً، وهو الذي ينبغي أن يصار إليه، وإلا فإن العلم يناقض القول بأن سبب الطاعون مخلوقات نارية تسمى الجن؛ فالعلم والطب واللغة كلها تؤيد ما ذهبنا أن لفظ الجن في أحاديث الطاعون المرتبط بالوخز يشير إلى إليه، وهو البراغيث المختفية المتوارية والتي تخز الجلد وخزاً، وتنقل ميكروبات الطاعون في إفرازاتها ورجيعها
(1)
.
وقد رد العلماء قديماً وحديثاً على مثل هذه الدعاوي وفندوها، فقد قال العيني رحمه الله: فإن قلت إن لشارع أخبر بأن الطاعون من وخز الجن فبينه وبين ما ذكر من الأقوال في تفسير الطاعون منافاة ظاهراً، قلت: الحق ما قاله الشارع، والأطباء تكلموا في ذلك على ما اقتضته قواعدهم، وطعن الجن أمر لا يدرك بالعقل فلم يذكروه على أنه يحتمل أن تحدث هذه الأشياء فيمن يطعن عند وخز الجن، ومما يؤيد أن الطاعون من وخز الجن وقوعه غالبا في أعدل الفصول وفي أصح البلاد هواء وأطيبها ماء، ولو كان من فساد الهواء لعم الناس الذين يقع فيهم الطاعون ولطعنت الحيوانات أيضاً
(2)
.
وقال ابن القيم رحمه الله: والرسل تخبر بالأمور الغائبة، وهذه الآثار التي أدركوها من أمر الطاعون ليس معهم ما ينفي أن تكون بتوسط الأرواح، فإن تأثير الأرواح في الطبيعة وأمراضها وهلاكها أمر لا ينكره إلا من هو أجهل الناس بالأرواح وتأثيراتها، وانفعال الأجسام وطبائعها عنها، والله سبحانه قد يجعل لهذه الأرواح تصرفاً في أجسام بني آدم عند حدوث الوباء، وفساد الهواء، كما يجعل لها تصرفاً عند بعض المواد الرديئة التي تحدث للنفوس هيئة رديئة، ولا سيما عند هيجان الدم، والمرة السوداء، وعند هيجان المني، فإن الأرواح الشيطانية تتمكن من فعلها بصاحب هذه العوارض ما لا تتمكن من غيره، ما لم يدفعها دافع أقوى من هذه الأسباب من الذكر، والدعاء، والابتهال والتضرع، والصدقة، وقراءة القرآن، فإنه يستنزل بذلك من الأرواح الملكية ما يقهر هذه الأرواح الخبيثة، ويبطل شرها ويدفع تأثيرها
(3)
.
(1)
ينظر: مقدمة د. محمد علي البار لكتاب ما رواه الواعون في أخبار الطاعون للسيوطي، ص (46 - 47).
(2)
عمدة القاري شرح صحيح البخاري، (21/ 257).
(3)
الطب النبوي، ص (32).