الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المعصية بجهل أو نسيان أو إكراه فلا إثم عليه، لأنه معذور.
الثالث: أن قَدَرَ الله تعالى سرٌ مكتوم لا يُعْلَم إلا بعد وقوع المقدور، وإرادة العبد لما يفعله سابقةٌ على فعله، فتكون إرادته الفعل غيرُ مبنيةٍ على علم منه بقَدَر الله، وحينئذ تنتفي حُجته بالقدر؛ إذ لا حجة للمرء فيما لا يعلمه.
فإذا اعترض العاصي وقال: إن المعصية كانت مكتوبة عليّ، فيقال له: قبل أن تقترف المعصية، ما يدريك عن علم الله تعالى؛ فما دمتَ لا تعلم ومعك الاختيار والقدرة، وقد وُضِّحت لك طُرُق الخير والشر، فحينئذ إذا عصيت فأنت المختار للمعصية، المفضل لها على الطاعة، فتتحمل عقوبة معصيتك.
الرابع: أن المحتج بالقدر على ما تركه من الواجبات أو فعله من المعاصي لو اعتدى عليه شخص، فأخذ ماله، أو انتهك حرمته، ثم احتج بالقدر، وقال: لا تلمني فإن اعتدائي كان بقدر الله، لم يَقبل حجته، فكيف لا يقبل الاحتجاج بالقدر في اعتداء غيره عليه، ويحتج به لنفسه في اعتدائه على حق الله تعالى؟!
[آثار الإيمان بالقدر]
د- آثار الإيمان بالقدر: إن الإيمان بالقدر مع أنه عقيدة يجب الإيمان بها، وركن من
أركان الإيمان يَكفُر مُنكره، إلَاّ أن له آَثارا محسوسة في حياة الناس، ومن هذه الآثار ما يلي:
1 -
القدر من أكبر الدواعي التي تدعو الفرد إلى العمل والنشاط والسعي بما يرضي الله في هذه الحياة، والإيمان بالقدر من أقوى الحوافز للمؤمن لكي يعمل، ويُقدم على عظائم الأمور بثبات ويقين.
إن المؤمنين مأمورون بالأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، والإيمان بأن الأسباب لا تعطي النتائج إلا بإذن الله، لأن الله هو الذي خلق الأسباب، وهو الذي خلق النتائج.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كُلٍّ خير، إحرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجزن، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان» (1) .
وحين أراد المسلمون تغيير الواقع بالجهاد، أخذوا بأسباب الجهاد كلها، ثم توكلوا على الله تعالى، ولم يقولوا إن الله قدّر نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين واكتفوا بذلك عن
(1) رواه مسلم.
الاستعداد، والجهاد والصبر وخوض المعارك، بل فعلوا كل هذه الأمور فنصرهم الله وأعز الله بهم الإسلام.
2 -
ومن آثار الإيمان بالقدر أن يَعْرِف الإنسان قَدْر نفسه، فلا يتكبر ولا يَبْطُر ولا يتعالى أبدا؛ لأنه عاجز عن معرفة المقدورِ، ومستقبل ما هو حادث، ومن ثم يقرّ الإنسان بعجزه وحاجته إلى ربه تعالى دائما.
3 -
إن الإنسان إذا أصابه الخير بَطَر واغتر به، وإذا أصابه الشر والمصيبة جزع وحزن، ولا يعصم الإنسان من البطر والطغيان إذا أصابه الخير، والحزن إذا أصابه الشر، إلا الإيمان بالقدر، وأن ما وقع فقد جرت به المقادير، وسبق به علم الله.
يقول أحد السلف: من لم يؤمن بالقدر لم يتهنَّ بعيشه.
4 -
والإيمان بالقدر يقضي على كثير من الأمراض التي تعصف بالمجتمعات، وتزرع الأحقاد بين المؤمنين، وذلك مثل رذيلة الحسد، فالمؤمن لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله؛ لأن الله هو الذي رزقهم وقدّر لهم ذلك، وهو يعلم أنه حين يحسد غيره إنما يعترض على القدر.
5 -
إن الإيمان بالقدر يبعث في القلوب الشجاعة على
مواجهة الشدائد، ويقوي فيها العزائم، فتثبت في ساحات الجهاد، ولا تخاف الموت؛ لأنها توقن أن الآجال محدودة لا تتقدم ولا تتأخر لحظة واحدة.
ولما كانت هذه العقيدة راسخةً في قلوب المؤمنين ثبتوا في القتال وعزموا على مواصلة الجهاد، فجاءت ملاحم الجهاد تحمل أروع الأمثلة على الثبات والصمود أمام الأعداء مهما كانت قوَّتهم، ومهما كان عددهم؛ لأنهم أيقنوا أنه لن يصيب الإنسان إلا ما كتب له.
6 -
الإيمان بالقدر يغرس في نفس المؤمن حقائق الإيمان المتعددة، فهو دائم الاستعانة بالله، يعتمد على الله ويتوكل عليه مع فعل الأسباب، وهو أيضا دائم الافتقار إلى ربه تعالى يستمد منه العون على الثبات، وهو أيضا كريم يحب الإحسان إلى الآخرين فتجده يعطف عليهم ويسدي المعروف إليهم.
7 -
ومن آثار الإيمان بالقدر أن الداعي إلى الله يصدع بدعوته، ويجهر بها أمام الكافرين والظالمين، لا يخاف في الله لومة لائم، يبين للناس حقيقة الإيمان ويوضح لهم مقتضياته، كما يبين لهم مظاهر الكفر والنفاق ويحذَرهم منها، ويكشف
الباطل وزيفه، ويقول كلمة الحق أمام الظالمين، فإن المؤمن يفعل كل ذلك وهو راسخ الإيمان واثق بالله، متوكل عليه، صابر على كل ما يحصل له في سبيله؛ لأنه موقن أن الآجال بيد الله وحده، وأن الأرزاق عنده وحده، وأن العبيد لا يملكون من ذلك شيئا مهما وجد لهم من قوة وأعوان.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى اَله وصحبه أجمعين.