الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تمهيد
موضوع التوسل من أهم المواضيع، بل هو من أعظمها خطراً، وهو من الأمور التي يخطئ فيها كثير من الناس، وذلك لعدم معرفتهم سبل التوسل الصحيحة المشروعة، وكل ذلك ناشئ عن فهم خاطئ لحقيقة التوسل، أو تصور غير صحيح، أو تقليد أعمى.
والمتدبر لكتاب الله عز وجل يجد أن الكتاب الكريم قد أبان في مواضع كثيرة منه السبل المشروعة في التوسل إلى الله جل وعلا، وهذه السبل هي التوسل إلى الله جل وعلا بالإيمان الصادق الصحيح، والتوسل إلى الله تبارك وتعالى بما شرع من أعمال صالحة، والتوسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والتوسل إلى الله تعالى بفضله ورحمته وإحسانه، والتوسل إلى الله عز وجل بدعاء الصالحين الأحياء من عباده.
هذا ومن المعلوم أن كثيراً من عباد القبور اليوم، والمستغيثين بالأولياء والصالحين، إنما كان سبب انحرافهم هذا هو تعظيمهم للصالحين، تعظيماً بلغ حدّ الغلو، وإذا ما نوقش أحدهم ونهي عما يقع منه من شرك يقول: إنه لا يعبد هذا الصالح وإنما يتوسل به إلى الله تعالى، وربما يضرب لك مثلاً فيقول: إنك عند ما تريد أمراً ما من ملك أو رئيس فإنك تتوسل إليه وتستشفع بمقرّب عنده؛ فيشبه هذا المسكين الخالق جل وعلا بالمخلوق؛ وما علم المسكين أن عظماء الدنيا يحتاجون إلى شفعاء لأمور:
منها: أن ذلك العظيم لا يعلم حال الناس، ولا يطلع على حوائجهم، فيحتاج إلى من يبلغه ذلك عنهم، وهل الرب جل وعلا الذي أحاط علمه بكل شيء يحتاج إلى من يخبره عن خلقه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} 1.
1 سورة الملك: 14.
وأيضا فإن ذلك الرئيس إنما يقبل شفاعة الشافع رجاءً أو خوفاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك علوا كبيراً.
وهذا العظيم يحتاج إلى من يرقق قلبه، ويسترحمه لينظر في أمور هؤلاء المحتاجين، والله عز وجل هو أرحم الراحمين، بل هو أشد رحمة بالعبد من أمه وأبيه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “جعل الله الرحمة مائة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء يتراحم الخلق حتى ترفع الفرس حافرها عن ولدها خشية أن يصيبه” 1، وروى مسلم في صحيحه من حديث سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض، فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها، والوحش والطير بعضها على بعض، فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة” 2، والله جل وعلا عند ما أرشد إلى دعائه لم يجعل بيننا وبينه وسائط ووسائل من الخلق في ذلك {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} 3 {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} 4.
هذا وإن ما يقوله بعض مدعي الإسلام اليوم ممن يقع في عبادة القبور هو ما قاله بالأمس كفار قريش {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي
1 صحيح البخاري 8/18.
2 صحيح مسلم 8/96.
3 البقرة: 186
4 غافر: 60
مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} 1 فإنهم لم يكونوا يعتقدون أن أصنامهم تخلق وترزق وتمرض وتشفي {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 2 {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} 3
هذا ومن المعلوم أيضاً أن أول شرك وقع في الأرض وهو شرك قوم نوح عليه السلام إنما كان بسبب تعظيم الصالحين، والتوسل بهم، فقد روى البخاري رحمه الله في صحيحه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح إلى العرب بعد؛ أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل، وأما سواع فكانت لهذيل، وأما يغوث فكانت لمراد، ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ، وأما يعوق فكانت لهمدان، وأما نسر فكانت لحمير، لآل ذي الكلاع. أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسمّوها بأسمائهم، ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسّخ العلم عبدت” 4.
وأورد ابن حجر رحمه الله عن السهيلي رحمه الله تعالى في التعريف “إن يغوث هو ابن شيث بن آدم فيما نقل، وكذلك سواع وما بعده، وكانوا يتبركون بدعائهم، فلما مات منهم أحد مثلوا صورته فتمسحوا بها إلى زمن مهلائيل فعبدوا بتدريج الشيطان لهم” 5.
وهكذا نرى الشرك إنما دخل على الناس من باب الصالحين والغلو فيهم،
1 الزمر: 3
2 الزمر: 38
3 يونس: 31
4 صحيح البخاري 6/160.
5 فتح الباري 8/668
وتصوير صورهم، والتبرك بهم، والتوسل بهم، ومن هنا يتبين عظيم حاجتنا إلى معرفة سبل التوسل الصحيحة، وهي بحمد الله تعالى بينة واضحة في كتاب ربنا الذي ما فرط الله عز وجل فيه من شيء، على أن أعظم ما يتوسل به المرء هو التقرب إلى الله عز وجل بصالح الأعمال، وجليل الخلال، وإلى هذا أشار سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول فداه أبي وأمي ونفسي “انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا المبيت إلى غار، فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم، فقال رجل منهم اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا1، فناء 2 بي في طلب شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين، وكرهت أن أغبق قبلهما أهلا أو مالا، فلبثت والقدح على يدي أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج، قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الآخر: اللهم كانت لي بنت عم كانت أحبّ الناس إليّ، فأردتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها، ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها، فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلي، وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلت ابتغاء وجهك ففرج عنّا ما نحن فيه، فانفرجت غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها، قال النبي صلى الله عليه وسلم: وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب، فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد
1 أغبق فلانا: أي أسقيه عشاءً فيشرب.
2 أي ابتعد في طلب شيء فكان سبب تأخره عنهما.
حين، فقال يا عبد الله أد إلي أجري، فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق، فقال يا عبد الله لا تستهزئ بي، فقلت إني لا أستهزئ بك، فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا، اللهم فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون” 1.
فهؤلاء الثلاثة الصالحون لما وقعوا في الشدة لم يجدوا ما ينقذهم منها، أو يخلصهم من الهلكة سوى أن يتوسلوا إلى الله عز وجل بأفضل ما عملوا مما ابتغوا به وجه ربهم عز وجل، ولم يجدوا أعظم من بر الوالدين والإحسان إليهما، وكذا إعطاء الأجير أجره وحفظه له، وتنميته، ومن ثم تسليمه له دون طمع في شيء منه مع كثرته، وكذا التوسل بالعفاف وترك الحرام مع القدرة التامة عليه.
وبمثل هذا أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، وعلمهم كيف يتوسلون إلى ربهم، ومما يؤكد ذلك ويزيل كل وهم في باب الوسيلة ما حدّث به ربيعة بن كعب الأسلمي رضي الله عنه قال: “كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته، فقال لي: “سل” فقلت: أسألك مرافقتك في الجنة، قال: “أو غير ذلك” قلت: هو ذاك، قال: “فأعني على نفسك بكثرة السجود” 2.
وهكذا نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم هذه الأمة كيف تتوسل إلى ربها، وذلك بإخباره عما كان من الأمم السابقة من التوسلات الصحيحة التي قبلت فرأى أصحابها آثارها، وكذلك بإرشاد من أراد مرافقة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، وهذا مقام من أعظم المقامات، ولذا دله الرسول صلى الله عليه وسلم على عمل هو من أفضل الأعمال، ألا وهو الإكثار من الصلاة.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
1 صحيح البخاري 3/91، وصحيح مسلم 8/89، واللفظ للبخاري.
2 صحيح مسلم 2/52، ولفظ أبي داود 4/304 والنسائي 2/180 “كنت أبيت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم آتيه بوضوئه وبحاجته، فقال: سلني
…