الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حسداً للذين آمنوا، ويتوسلون لتحقيق ذلك بقولهم {رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} إنهم يتوسلون بكون ربهم عز وجل هو الرؤوف بعباده الرحيم بهم، ونعم ما توسلوا به؛ لقد توسلوا بوصفين لله تبارك وتعالى، من مقتضاهما إجابة دعوة الداعين، وإعطاء السائلين سؤلهم.
ومما يدعو للتأمل ما وقع من نبي الله نوح عليه السلام حيث دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فلم يجد منهم غير الصدّ والإعراض، وإيذائه والمؤمنين به، فأمره الله عز وجل أن يصنع الفلك، فاستجاب لأمر ربه وصنع السفينة، ولما جاء أمر الله، وبدت علامات هلاك القوم، ركب نوح عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وحملوا معهم ما أمروا بحمله في الفلك قال تعالى {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ. وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} 1 علم الله عز وجل رسوله نوحا أن يدعو بهذا الدعاء، وبعد أن قدّم من الوسائل ما يكون سببا في إجابة دعائه، وهي دعوته لقومه هذه المدة الطويلة، وصبره على أذاهم، واجتهاده في دعوتهم؛ إذ سلك كل ما يمكن أن يكون سبباً في هدايتهم، ثم استجابته لأمر ربه بصنع الفلك، ثم حمله عليها من كل صنف من الحيوانات والنباتات زوجين أي ذكر وأنثى، بعد هذه الوسائل أمر أن يقدّم بين يدي دعائه شكر ربه، وحمده على إنجائه والمؤمنين معه من القوم الظالمين، ثم أمر أن يدعو ويقول {رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبَارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} وهكذا يختم دعاءه بالتوسل بكون ربه عز وجل خير المنزلين، أي أنت خير من أنزل عباده المنازل المباركة الطيبة بل لا ينزلهم تلك المنازل سواك.
1 المؤمنون: 28-29
توسل إبراهيم عليه السلام
…
هذا وقد حكى الله عز وجل في سورة الممتحنة ما كان من خليله
إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه، ولندع المجال للإمام أبي الفداء ابن كثير رحمه الله وهو يقول: “ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه حين فارقوا قومهم وتبرءوا منهم، فلجؤوا إلى الله وتضرعوا إليه فقالوا {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا} 1 أي توكلنا عليك في جميع الأمور وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} أي المعاد في الدار الآخرة {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} 2 قال مجاهد: “معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك فيقولوا: لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا”، وكذا قال الضحاك، وقال قتادة: “لا تظهرهم علينا فيفتنونا بذلك يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه”، واختاره ابن جرير، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: “لا تسلطهم علينا فيفتنونا”، وقوله تعالى:{وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 3 أي واستر ذنوبنا عن غيرك، واعف عنها فيما بيننا وبينك {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ} أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك {الْحَكِيمُ} في أقوالك وأفعالك، وشرعك وقدرك” 4.
فهذا إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام ومن معه من أهل الإيمان فارقوا قومهم طاعة لله عز وجل، وهرباً بدينهم من الفتنة، وطلباً لمكان يقيمون فيه شرع الله عز وجل، ويظهرون شعائر الإيمان، فبعد أن قدموا هذه الوسيلة العظيمة دعوا الله عز وجل مظهرين اعتمادهم على ربهم، وتفويضهم أمورهم إليه، وأبانوا عن إنابتهم إلى ربهم ورجوعهم إليه، وعدم التفاتهم إلى ما سواه؛ إذ
1 الممتحنة: 4
2 الممتحنة: 5
3 الممتحنة: 5
4 تفسير ابن كثير 4/348.