الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذكرى عظيمة، وموعظة كبرى للعابدين المخلصين الصادقين الصابرين الصالحين {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ. وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} 1 نعم إن الصالحين يستحقون رحمة الله الشاملة، فمن أراد أن يكون من أهل رحمة الله تعالى فليقتد بهؤلاء الأنبياء عليهم السلام في صبرهم وصلاحهم.
1 الأنبياء: 85-86
توسل يونس عليه السلام
…
ويمضي السياق الكريم فيذكر موقف يونس عليه السلام بقوله {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 2 قال ابن كثير رحمه الله تعالى: “هذه القصة مذكورة هنا وفي سورة الصافات3 وفي سورة ن 4، وذلك أن يونس بن متى عليه السلام، بعثه الله إلى أهل قرية نينوى، وهي قرية من أرض الموصل5، فدعاهم إلى الله تعالى، فأبوا عليه، وتمادوا على كفرهم، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث، فلما تحققوا منه ذلك، وعلموا أنّ النبي لا يكذب، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم، وأنعامهم، ومواشيهم، وفرقوا بين الأمهات وأولادها، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل، وجأروا إليه، ورغت الإبل وفصلانها، وخارت البقر وأولادها، وثغت الغنم وسخالها 6، فرفع الله عنهم العذاب، قال الله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ
1 الأنبياء: 87-88
2 الآيات 139-148.
3 الآيات 48-50.
4 في معجم البلدان 7/339 “نينوى بكسر أوله، وسكون ثانيه، وفتح النون والواو”.
قلت: والموصل مدينة كبيرة في شمال ما يعرف بالعراق اليوم.
5 الرغاء: صوت الإبل، والفصلان جمع فصيل، وهي صغار الإبل، والخوار: صوت البقر، والثغاء: صوت الغنم، والسخال: جمع سخلة، وهي صغار الغنم.
آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} 1.
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فلججت2 بهم، وخافوا أن يغرقوا فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه، فوقعت القرعة على يونس فأبوا أن يلقوه، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضاً فأبوا، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً، قال الله تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} 3 أي وقعت عليه القرعة فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه، ثم ألقى نفسه في البحر، وقد أرسل الله سبحانه من البحر الأخضر ـ فيما قاله ابن مسعود ـ حوتاً يشق البحار حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً، ولا تهشم له عظماً 4، فإن يونس ليس لك رزقاً وإنما بطنك تكون له سجناً.
وقوله: {وَذَا النُّونِ} يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة. وقوله: {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً} قال الضحاك لقومه: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي نضيق عليه في بطن الحوت، يروى نحو هذا عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وغيرهم، واختاره ابن جرير واستشهد عليه بقوله تعالى:{وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً} 5 وقال
1 يونس: 98
2 يقال: لججت السفينة أي خاضت اللجة، وهي معظمه ووسطه، وهي أيضاً هيجان أمواجه وترددها. ينظر: القاموس 1/205، ومختار الصحاح ص 592، والمعجم الوسيط ص 816 مادة لجج.
3 الصافات: 141
4 أي لا تكسر له عظماً.
5 الطلاق: 7، وينظر: تفسير الطبري 7/78، وروى ابن جرير رحمه الله بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} يقول: “ظن أن لن نقضي عليه عقوبة، ولا بلاء فيما صنع بقومه في غضبه؛ إذ غضب عليهم، وفراره، وعقوبته أخذ النون إيّاه “.
عطية العوفي: {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} ، أي نقضي عليه، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير، فإن العرب تقول: قدر وقدّر بمعنى واحد، وقال الشاعر:
فلا عائد ذاك الزمان الذي مضى
…
تباركت ما تقدر يكن ذلك الأمر
ومنه قوله تعالى: {وَفَجَّرْنَا الأرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} 1 أي قدّر. {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 2 قال ابن مسعود: ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل3“ وهنالك دعا يونس عليه السلام قائلا {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} إنها دعوة تائب منيب إلى ربه، معترفٍ بخطئه، وقدّم بين يدي اعترافه بذنبه توحيد ربه بقوله {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} فهذا إقرار موقن بوحدانية ربه تبارك وتعالى، ثم قال {سُبْحَانَكَ} أي أنزهك وأقدسك عما لا يليق بجنابك وبعظمتك، وبعد هذا التوسل العظيم، قدم أيضا إقراره بخطئه قائلا:{إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي الظالمين لأنفسهم بفعل ما لا ينبغي فعله، وإنه لتوسل من أعظم أنواع التوسلات، فكان أن أجاب الله عز وجل دعاءه، قال تعالى {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} 4.
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت
{لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} 5 فإنه لم يدع بها مسلم ربه في
1 القمر: 12
2 الأنبياء: 87.
3 تفسير ابن كثير 3/191-192
4 الأنبياء: 88
5 الأنبياء: 87