المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الذَّبَائِحُ جمع ذبيحة. الجوهري: والذَّبيح: المذبوح والأنثى ذبيحة، وثبتت التاء لغلبة - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٣

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الذَّبَائِحُ جمع ذبيحة. الجوهري: والذَّبيح: المذبوح والأنثى ذبيحة، وثبتت التاء لغلبة

‌الذَّبَائِحُ

جمع ذبيحة. الجوهري: والذَّبيح: المذبوح والأنثى ذبيحة، وثبتت التاء لغلبة الاسمية. والذبح مصدر ذبحت الشاة، والذِّبح بالكسر: ما يذبح قال الله تعالى: (وَفَدَيْنَهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ)[الصافات: 107].

وقال غيره: والذَّبح في اللغة: الشق، وفي الشرع: شق خاص، فيحتمل أن يكون من باب التواطؤ ويحتمل أن يكون من باب الاشتراك.

وحكمه مشروعية الذبح إزهاق النفس بسرعة واستخراج الفضلات. ولما قضى الله تعالى على خلقه بالفناء وشرف بني آدم بالعقل أباح لهم أكل الحيوان؛ قوة لأجسامهم وتصفية لمرآة عقولهم، وليستدلوا بطيب لحمها على كمال قدرته تعالى، وليتنبهوا على أن للمولى بهم عناية؛ إذ آثرهم بالحياة على غيرهم.

وَالإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَإِبَاحَةِ الْمُذَكِّي الْمَاكُولِ، وَالنَّظَرُ فِي الذَّابِحِ، وَالْمَّذْبُوحِ، وَالآلَةِ، وَالصِّفَةِ

ذكر المصنف هذه المقدمة؛ لأنه إذا كانت الإباحة متوقفة على الذكاة يجب الاعتناء بها، والمراد بالمأكول: المباح، فيصير تقدير كلامه: وإباحة المذكي المباح، وذلك غير سديد.

وقوله: (وَالنَّظَرُ فِي الذَّابِحِ

إلخ) يعني أن أركان هذا الباب أربعة، ثم شرع فيها الأول فالألو.

وَتَصِحُّ ذَكَاةُ الْمُسْلِمِ الْمُمَيِّزِ، فَيَخْرُجُ الْمَجْنُونُ، وَالسَّكْرَانُ، وَالْمُرْتَدُّ عَنِ الإِسْلامِ، وَالْمَجُوسِيُّ، وَالصَّابِيُّ ....

أي: تصح ذكاة المسلم المميز باتفاق، وأخرج بالمسلم المرتد والمجوسي والصابئ، ولا فرق في المرتد بين أن يرتد إلى دين أهل الكتاب أو لا.

ص: 216

وقال اللخمي: ينبغي أن تصح ذكاة المرتد إلى أهل الكتاب؛ لأنه صار من أهل الكتاب، وإن صار غير معصوم الدم كالحربي، وأباح أهل المذهب ذبيحة السامرية، وهم صنف من اليهود وإن أنكروا البعث، لكن إنما ينكرون بعث الأجساد ويقرون ببعث الأرواح، وهذا عليه جماعة من اليهود، ومنعوا ذبيحة الصابئين؛ لأنهم بين النصرانية [225/أ] والمجوسية. ابن بشير: وقليل من رأيت يطلع على مذهبهم، لكن الذي يتحصل منه أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فعالة.

وعن مجاهد أن الصابئين بين اليهود والمجوس، وعن قتادة أنهم يعبدون الملائكة ويصلون للشمس كل يوم خمس مرات، وينبغي لمن نزل به شيء من أمرهم أن يبحث عن معتقدهم.

وقال الطرطوشي: لا تؤكل ذبيحة الصابئ، وليست بحرام كتحريم ذبائح المجوس.

ابن المواز: وتؤكل ذبيحة النصراني العربي والمجوسي إذا تنصر، ولهذا قال المصنف:(وَالْمُرْتَدُّ عَنِ الإِسْلامِ) ليفهم أن الارتداد عن غيره غير مؤثر.

وأخرج المصنف بقوله: (الْمُمَيِّزِ) الصبي غير المميز، والمجنون، والسكران، فلا تصح ذكاتهم؛ لأن الذكاة تفتقر إلى نية بإجماع، والنية لا تصح منهم.

وفي البيان: ستة لا تجوز ذبائحهم، وستة تكره، وستة يختلف في ذبائحهم. أما الستة الذين لا تجوز ذبائحهم: الصغير الذي لا يعقل، والمجنون في حال جنونه، والسكران الذي لا يعقل، والمجوسي، والمرتد، والزنديق.

والثانية: الصغير المميز، والمرأة، والخنثى، والخصي، والأغلف، والفاسق.

والثالثة: تارك الصلاة، والسكران يخطئ ويصيب، والبدعي الذي يختلف في تكفيره، والعربي النصراني، والنصراني يذبح للمسلم بأمره، والعجمي يجيب إلى الإسلام قبل البلوغ.

ص: 217

وَتَصِحُّ مِنَ الصَّبيِّ الْمُمَيِّزِ وَالْمَرْأَةِ، مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى الأَصَحِّ

يعني: أن الصبي المميز والمرأة إن اضطر إلى تذكيتهما جازت وصحت، فإن لم يضطر فظاهر المذهب أن في صحة تذكيتهما قولين، والقول بعدم الصحة غير معلوم في المذهب.

ابن عبد السلام: والذي حكاه غيره أن الخلاف إنما هو في الكراهة، ونفي الكراهة مذهب المدونة، والكراهة لمالك في الموازية.

ابن بشير: وفي المذهب رواية بعدم الصحة، وهي محمولة على الكراهة.

وعن مالك: تذبح المرأة أضحيتها ولا يذبح الصبي أضحيته، فرأى بعضهم أن هذا يدل على أن ذبيحة الصبي أشد كراهة.

وحكى اللخمي عن أبي مصعب قولاً آخر بالكراهة مطلقاً، وإن كان من ضرورة.

وَفِي الصَّبيِّ وَالْمَجُوسِيِّ يُسْسلِمُ أَوْ يَرْتَدُّ قَوْلانِ

تقديره: أو الصبي المسلم يرتد، وحذف ذلك لقرينة الارتداد؛ لأنه إنما يستعمل عرفاً في المرتد عن الإسلام. ومنشأ الخلاف إن نظرنا إلى حالهم وقت الذبح أكلنا ذبيحة الذي أسلم ولم نبح ذبيحة المرتد، وإن راعينا الأصل انعكس الحكم.

ومذهب المدونة عدم أكل ذبيحة من ارتد قبل البلوغ، وذكر المصنف في باب الردة أن الأصح الحكم بإسلام المميز.

وَأَمَّا الْكَافِرُ الْكِتَابيُّ بَالِغاً أَوْ مُمَيِّزاً، ذَكَراً أَوْ أُنْثَى، ذِمِّيّاً أَوْ حَرْبيّاً مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ إِنْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ مَا يَسْتَحِلُّهُ فَمُذَكَّى ....

في المدونة: ورجال الكتابيين ونساؤهم وصبيانهم إذا أطاقوا الذبح سواءٌ في إجازة أكلها، ولا شك على القول بكراهة ذبيحة الصبي المميز والمرأة المسلمَين في كراهة ذكاتهما هنا.

ص: 218

واحترز بقوله: (مِمَّنْ لا يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ) ممن يستحلها وسيأتي حكمه. وعدل المصنف عن أن يقول: الشراء من ذبائحهم، والأصل في هذا أن الله تعالى أباح لنا طعامهم.

وَمَا لا يَسْتَحِلُّهُ إِنْ ثَبَتَ بِشَرْعِنَا كَذِي الظُّفُرِ فَمَشْهُورُهَا التَّحْرِيمُ، وَإِلا فَالْعَكْسُ

يعني: أن في المسألتين ثلاثة أقوال: التحريم فيهما؛ لأنه ليس من طعامهم فلا يحل لنا، ولأن الذكاة تفتقر إلى نية وهم لم ينووها.

والثاني: الإباحة فيهما، وهو قول ابن وهب وابن عبد الحكم نظراً إلى وجوب الذكاة: قد انتسخ شرعهم بشرعنا، والمشهور الفرق.

فما ثبت تحريمه عليهم بشرعنا فهو حرام كذي الظفر، وما لم يثبت تحريمه بشرعنا فهو جائز، كالذي يجدونه فاسد الرنة ويسمى الطريقة.

وزاد ابن بشير قولاً ثالثاً فيما ثبت تحريمه بشرعنا بالكراهة، وهو يؤخذ من بعض النسخ، كقول المصنف:(فَمَشْهُورُهَا التَّحْرِيمُ).

وذكر في المدونة في الطريقة قولين: مرة على الكراهة ولمي حرمه، وعلى هذا ففي قوله:(وَإِلا فَالْعَكْسُ) نظر؛ لأنه يقتضي أن المشهور الجواز، إذ هو عكس التحريم حقيقة، والذي رجع إليه مالك الكراهة. ورأى صاحب البيان أنه لا يحل لنا أكل ما ذبحوه من ذي الظفر بلا خلاف، وأن ما وقع مما يوهم خلاف ذلك فهو راجع إليه.

فرع: اختلف في شحوم اليهود، فحكى اللخمي فيها الثلاثة الأقوال التي تقدمت فيما ثبت تحريمه عليهم بشرعنا، وزاد رابعاً بالفرق وبجواز الشحم لأن الذكاة لا تتبعض، بخلاف ما ثبت تحريمه بشرعنا. والقول بتحريمه لمالك في كتاب محمد، ونسب لابن القاسم وأشهب في المبسوط الجواز. وهو قول ابن نافع.

ص: 219

ابن شاس: والمشهور من قول ابن القاسم كراهته، وهو الذي اقتصر عليه ابن الجلاب.

ابن حبيب: لا يؤكل من طعامهم ما حرم الله عليهم، فمنه كل ذي ظفر؛ الإبل وحمر الوحش والنعام والإوز، وكل ما ليس بمشقوق الظلف ولا منفرج القائم، وشحوم البقر والغنم الشحم الخالص كالثَّرْب والكِلاء وما لصق بالقَطِنَة وما أشبهه من الشحم المحض.

وَأَمَّا مَنْ يَسْتَحِلُّ الْمَيْتَةَ فَإِنْ غَابَ عَلَيْهَا لَمْ تُؤْكَلْ

كالفرنج فإنهم يستحلونها، ويلحق بمن عُلم منه استحلال الميتة من شك فيه، قاله في الجواهر. ومفهوم قوله:(فَإِنْ غَابَ) أنه لو لم يغب عليها لأبيح لنا الأكل وبذلك صرح الباجي [225/ب] وصاحب الذخيرة. والقياس: ألا تؤكل على ما قاله الباجي في تعليل ما حرم على أهل الكتاب، من أن الذكاة لابد فيها من النية، وإذا استحل الميتة فكيف ينوي الذكاة؟ وإن ادعى أنه نواها فكيف يصدق؟! انتهى.

ونقل ابن العربي الجواز فيما قتلوه، وإن رأينا ذلك لأنه من طعامهم. واستبعد؛ لأن معنى طعامهم: الحلال لهم، وأهل شرعهم مطبقون على تحريم ذلك.

وَإِنْ ذَبَحَ الْكِتَابِيُّ لِمُسْلِمٍ فَفِي الصِّحَّةِ قَوْلانِ

إذا ذبح الكتابي ذبيحة لمسلم، ففي جواز أكلها ومنعها قولان لمالك.

وَما ذُبِحَ لِعِيدٍ أَوْ كَنِيسَةٍ كُرِهَ بخِلافِ مَا ذُبِحَ لِلأَصْنَامِ

قوله: (لِعِيدٍ أضوْ كَنِيسَةٍ) يريد لعيسى أو لجبريل، زاد ابن حبيب: أو للصليب.

ابن المواز: لأن مالكاً خاف أن يكون داخلاً في عموم قوله تعالى: (أُهِلَّ بِهِ لِغَيّرِ اللهِ ([البقرة: 173ِ، ولم يحرمه لعموم قوله تعالى: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ حِلُّ لَكُمْ ([المائدة: 5]، والكراهة ظاهر المذهب.

ص: 220

وقال سحنون وابن لبابة: هو حرام، ورأياً أنه مما أُهل به لغير الله، وأجازه ابن وهب من غير كراهة ورآه من طعامهم.

وأما الذبح للأصنام فلا خلاف في المذهب في تحريمه. نقله ابن عبد السلام؛ لأنه مما أُهل به لغيره الله.

وسئل مالك عن الطعام يتصدق به النصراني عن موتاهم، فكره للمسلم قبوله، قال: لأنه يُعمل تعظيماً لشركهم.

ابن القاسم: وكذلك من أوصى منهم أن يباع من ماله شيء للكنيسة، فلا يجوز للمسلم أن يشتريه.

ابن شهاب: ولا ينبغي الذبح للعوامر من الجان، (وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح للجان".

وَكَرِهَ مَالِكٌ الشِّرَاءَ مِنْ ذَبَائِحِهمْ، وَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: لا يَكُونُوا جَزَّارِينَ وَلا صَيَارِفَةً، وَيُقَامُونَ مِنَ الأَسْوَاقِ كُلِّهَا

هذا مختصر من المدونة؛ لأنهم لا ينصحون المسلمين، ولأن مصارفتهم قد توقع في الربا.

مطرف وابن الماجشون: وينهي المسلون عن الشراء منهم، ومن اشترى منهم لم يفسخ شراؤه وهو رجل سوء، إلا أن يكون ما اشترى منهم مثل الطريقة وغيرها مما لا يأكلونه فيفسخ شراؤه.

وكره مالك في العتبية بيع الجزرة من النصراني وهو يعلم أنه يريدها للذبح في أعيادهم.

قيل لمالك في العتبية: أيكري المسلم الدواب والسفن إلى أعيادهم؟ قال يجتنبهم أحب إلي.

وفي المدونة في باب الإجارة: ولا يكري إبله وسفينته لهذا.

قال في البيان: وهذا كما قال؛ لأن ذلك مكروه ليس بحرام، قال: وروي عن مالك إجازة البيع لهم لأعيادهم، وهذا على القول بأنهم غير مخاطبين بفروع الشريعة، فلا يكون قد أعانهم على معصية، وأما الكراهة فتأتي على خطابهم.

ص: 221

فرع:

من العتبية: سمعت مالكاً يقول: أكره جبن المجوس؛ لما يجعل فيه من أنافح الميتة، وأما السمن والزيت فلا أرى به بأساً.

قال في البيان: لفظة "أكره" فيها تجوز، وفي موضع آخر منها سئل مالك عن جبن الروم فقال: ما أحب أن أحرم حلالاً، وأما أن يكرهه رجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً، وأما أني أحرمه على الناس فلا أدري ما حقيقته! قد قيل لي: نهم يجعلون فيه أنفحة الخنزير وهم نصارى، وما أحب أن أحرم حلالها، وأما أن يتقيه الرجل في خاصة نفسه فلا أرى بذلك بأساً. انتهى.

وكذلك قال التونسي: ما كان من عمل المجوس فلا يؤكل حتى يتيقن حلاله، وما كان من عمل أهل الكتاب فهو على الإباحة حتى تتبين نجاسته.

ونقل عن مالك أنه قال: أحب إلي غسل آنية النصراني وأن تسألهم عما قربوا إليك من الطعام وطيبه، وأما القدور التي يطبخون فيها فأحب أن يغلي فيها الماء حتى يذهب ودكها لأكلهم الميتة والخنزير.

ولا يؤكل جبن المجوس لعملهم فيه أنفحة الميتة إلا ما لم يغيبوا عليه، وأما اللبن والزبد فإن كانت آنيتهم نظيفة فكل، وإن شككت فدع. وقد مال صاحب الذخيرة إلى تحريم قديد الروم وجبنهم، قال: لا يختلف اثنان ممن باشر وسافر أن الإفرنج لا تتوقى الميتة، ولا تفرق بينها وبين الذكية، وأنهم يضربون الشاة حتى تموت، ويسلون رؤوس الدجاج. وقد صنف الطرطوشي في تحريم جبن الروم كتاباً وهو الذي عليه المحققون، فلا ينبغي لمسلم أن يشتري من حانوت فيه شيء منه؛ لأنه ينجس الميزان والبائع والآلة.

ص: 222

الْمّذْبُوحُ: الأَنْعَامُ – الْجَلَاّلَةُ وَغَيْرُهَا – وَما لا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ مُبَاحٌ، وَالْخِنْزِيرُ حَرَامٌ

هذا هو الركن الثاني، والمراد بالأنعام: الإبل والبقر والغنم، وما ذكره في الجلالة هو المشهور.

وفي اللخمي في باب الطهارة: واختلف في الحيوان يصيب النجاسة هل ينقله عن حكمه قبل أن يصيب تلك النجاسة؟ فقيل: هو على حكمه في الأصل في أسآرها وأعراقها ولحومها وألبانها وأبوالها، وقيل: ينتقل، وجميع ذلك نجس. انتهى. وقد نقل عن ابن حبيب الكراهة.

وفي البيان: اتفق العلماء على أكل ذوات الحواصل من الجلالة واختلفوا في ذوات الكرش، فكره جماعة من السلف أكل الجلالة منها وشرب ألبانها؛ لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الجلالة وألبانها"؛ ولا خلاف في المذهب أن أكل لحم الماشية والطير التي تتغذى بالنجاسة حلال جائز. وإنما اختلفوا في الألبان والأعراق والأبوال. انتهى. ابن عبد السلام: وكلام اللخمي [226/أ] هو الصحيح. انتهى بمعناه.

وقوله: (وَما لا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ مُبَاحٌ) كالغزلان وبقر الوحش وكلامه ظاهر.

وَأَمَّا مَا يَفْتَرِسُ مِنَ الْوَحْشِ فَالتَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، وَثَالِثُهَا: مَا يَعْدُو حَرَامٌ كَالأَسَدِ وَالنِّمِرِ، وَالآخَرُ مَكْرُوهٌ كَالضَّبُعِ وَالْهِرِّ ....

التحريم مذهب الموطأ لما خرجه مالك وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم: "أكل كل ذي ناب من السباع حرام".

(وَالْكَرَاهَةُ) هي التي يحكيها العراقيون عن المذهب، وهو ظاهر المدونة لقوله: ولا أحب أكل الضبع والثعلب ولا الذئب ولا الهر الوحشي ولا الإنسي ولا شيء من

ص: 223

السباع. لقوله تعالى: (قُل لَاّ أَجِدُ في مَآ أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلَاّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحَمَ خِنزِيرٍ ([الأنعام:145].

ويحمل قوله صلى الله عليه وسلم: "أكل كل ذي ناب من السباع" على أنه مصدر أضيف إلى الفاعل فيكون كقوله تعالى: (وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ ([المائدة: 3]، والظاهر في الضبع الإباحة لما في الموطأ عن عمر أن فيه كبشاً وذلك يدل على أنه صيد لا سبع.

والقول الثالث حكاه ابن حبيب عن المدنيين من أصحاب مالك.

ولصاحب الإكمال طريقة أخرى وهو أنه لا يختلف المذهب فيما لا يعدو أنه مكروه، وليس بحرام.

والافتراس لا يختص بالآدمي فالهر مفترس باعتبار افتراس الفأر، والعداء خاص بالآدمي فهو أخص.

وَأَمَّا مَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَمْسُوخٌ كَالْفِيلِ وَالْقِرْدِ وَالضَّبِّ فَفِي الْمَذْهَبِ الْجَوَازُ لِعُمُومِ الآيَةِ، وَالتَّحْرِيمُ لِمَا يُذْكَرُ أَنَّهُ مَمْسُوخٌ ....

وفي بعض النسخ (فثالثها الجواز) أي: ثلاثة أقوال: التحريم، والإباحة، والكراهة، وزاد ابن شاس مع ما ذكره المصنف الدب والقنفذ، والذي حاكه اللخمي وابن بشير قولان: الإباحة والتحريم، والكراهة إنما حكاها ابن شاس على الباجي في القرد. والقول بتحريمه في الواضحة، وهو قول ابن المواز، قال: لا يحل ثمن القرد ولا كسبه، وما سمعت من مالك ولا أصحابه فيه شيئاً. قال: وقد روي عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه نهى عن ثمنه. وجلب من الشام إلى المدينة قرد فأمر به عمر أن يخرج إلى الموضع الذي جلب منه. وقال ابن شعبان: لا يباع، وقد سئل عنه مالك، فقال: ليس من بهيمة الأنعام. وقد أجاز بعض أصحابنا أكله إذا كان يرعى الكلأ.

ص: 224

وقال الباجي: الأظهر عندي من مذهب مالك وأًحابه أنه ليس بحرام لعموم الآية، قال: وإن كانت كراهة فلا اختلاف فيه.

وقال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين العلماء أن القرد لا يؤكل ولا يجوز بيعه؛ لأنه لا منفعة فيه. انتهى. وحكى ابن المنذر عن مالك كراهة أكل القنفذ، والصحيح في الضب الجواز؛ لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عباس قال: دخلت أنا وخالد بن الوليد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة فأتى بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه"، قال خالد: فاجتررته فأكلته والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر.

والمحنوذ: المشوي. وفي بعض طرق مسلم أنه قال: "لا أدري لعله من القرون التي مسخت".

ومن هنا تعلم أن الصحيح في جميع ما ذكره المصنف الإباحة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم علل ذلك بقوله: "لعله من القرون التي مسخت". وأكل بحضرته، ولأن الله تعالى لما مسخه زالت حرمته، ولا تبعد الكراهة على أصل المذهب مراعاة للخلاف.

وَفِي الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ التَّحْرِيمُ وَالْكَرَاهَةُ، وَفِي الْخَيْلِ ثَالِثُهَا: الْجَوَازُ، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ عَلَى الْمَنْعِ بقَوْلِهِ تَعَالَى:

{لِِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ....

المشهور في البغال والحمير المنع، والكراهة أيضاً مروية عن مالك.

الطرطوشي: وانعقد مذهب مالك- في إحدى الروايتين وهي رواية العراقيين- أن من الفيل إلى النملة عدا ما استثنته الآية إما مكروه أو مباح، ونحو هذه العبارة نقلها صاحب البيان عن ابن بكير.

ص: 225

وظاهر الموطأ في الخيل الحرمة؛ لأنه قال: أحسن ما سمعت في الخيل زينة، والبغال والحمير أنها لا تؤكل لقوله تعالى: (وَالخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا وَزِينَةً ([النحل: 8]. انتهى.

أي لأن الله تعالى ذكرها في سياق الامتنان، وذلك يوجب ذكر جميع منافعها، ولو كانت تؤكل لذكره كما ذكره في الأنعام، ولما اقتصر فيها على الركوب والزينة فهم أن ذلك هو تمام المقصود منها.

وَفِيهَا: وَيَجُوزُ أَكْلُ الضَّبِّ وَالأَرْنَبِ وَالوَبْرِ وَالْضَرَابِيبِ وَالْقُنْفُذِ، وَلا أُحِبُّ أَكْلَ الضَّبُعِ، وَالثَّعْلَبِ، وَالذِّئْبِ، وَالْهِرِّ الْوَحْشِيِّ وَالإِنْسِيِّ، وَلا شَيْءٍ مِنَ السِّبَاعِ

ذكر هذه المسألة لاشتمالها على فوائد منها: إفادة المشهور في بعض المسائل المتقدمة كالضب والثعلب، ومنها إباحة القنفذ والوَبُر، ومنها التنبيه على أن ظاهر المدونة في السباع الكراهة؛ لقوله:(لا أُحِبُّ).

والمراد بالقنفذ قنفذ البر؛ لأن البحري سيأتي، والضب شبيه بالتمساح إلا أنه أصغر منه، والأرنب دابة قدر الهر، إلا أن في أذنيها طولاً.

عياض: الوَبْر بسكون الباء بواحدة، وآخره [226/ب] راء وواوه مفتوحة: دويبة نحو الهر.

وقال ابن عبد السلام: هو بفتح الباء من دواب الحجاز. انتهى. وفي الجوهري: الوبر بالتسكين دويبة أصغر من السنور كحلاء اللون، لا ذنب لها.

عياض: والضرابيب بالضاد جمع ضرب على وزن تمر، وهو حيوان ذو شوك كالقنفذ كبير.

وَلا بَاسَ بأكْلِ الْيَرْبُوعِ، وَالْخُلَدِ، وَالْحَيَّاتِ إِذَا ذُكِّيَ ذَلِكَ

اليربوع أكبر من الفأرة، رجلاه أطول من يديه.

ص: 226

عياض: والخلد بضم الخاء وفتح اللام، كذا ضبطناه في الكتاب، وبفتح الخاء وسكون اللام وفتحها أيضاً، وبكسر الخاء وسكون اللام، وهو فأر أعمى.

التونسي: ويكره أكل الفأر والقرد، وأجاز في المدونة أكل اليربوع والخلد؛ وهو فأر أعمى، وأظن له ناباً، لعله لا يفترس.

قوله: (وَالْحَيَّاتِ إِذَا ذُكِّيَ ذّلِكَ) كذا في المدونة وزاد فيها: إذا ذكيت في موضع ذكاتها. وصفة ذكاتها: أن يقطع من جهة رأسها شيء وكذلك من عند ذنبها دفعة واحدة، ولو بقي منها شيء ولو جلدة لم تؤكل؛ إذ السم يسري في ذلك (المحلين)، وذلك في سبيل علم الطب. ابن حبيب: ويكره أكلها لغير ضرورة.

وَيُؤْكَلُ خَشاشُ الأَرْضِ، وَذَكَاتُهُ كَالْجَرَادِ

وهذا كقوله في المدونة: ولا بأس بأكل خشاش الأرض وهوامها، وذكاة ذلك كذكاة الجراد. وقال الباجي: أكل الخشاش مكروه.

وفي ابن بشير: المخالفون يحكون عن المذهب جواز أكل المستقذرات، والمذهب خلافه.

ابن هارون: وظاهر المذهب كما ذكر المخالف، والأفصح في الخشاش فتح الخاء وفيها أيضاً ضمها وكسرها، وهو الدود والبعوض.

وَفِيهَا: وَإِنْ وَقَعَ الْخَشَاشُ فِي قِدْرٍ أُكِلَ مِنْهَا، وَاسْتَشْكَلَ لأَكُلِهِ حَتَّى قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: سَقَطَ لا، وَقَالَ آخَرُونَ: يَعْنِي وَلَمْ يَتَحَلَّلْ

قد تقدمت هذه المسألة في باب الطهارة.

وَدُودُ الطَّعَامِ لا يَحْرُمُ أَكْلُهُ مَعَ الطَّعَامِ

تصوره ظاهر، فإن قلت: روى أبو داود أنه صلى الله عليه وسلم "أوتي بتمر عتيق فجعل يفتشه، يخرج منه السوس" وذلك يدل على التحريم والكراهة، فالجواب: يجوز أن

ص: 227

يكون ذلك لإعافة نفسه ذلك صلى الله عليه وسلم كما فعل في الضب. فإن انفرد عن الطعام فلا شك أنه من جملة الخشاش، وقد تقدم حكمه.

وَالضَّفَادِعُ مِنْ صَيْدِ الْمَاءِ، وَتُؤْكَلُ مَيْتَةُ الْبَحْرِ وَإِنْ كَانَتْ تَعِيشُ فِي الْبَرِّ أَرْبَعَةَ أَيَّامِ، وَتُرْسُ الْبَحْرِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ

قد تقدمت هذه أيضاً في الطهارة بما فيها من الخلاف.

وَأَمَّا الْحَلَزُونُ فَكَالْجَرَادِ

أي: أنهما من صيد البر فيفتقران إلى الذكاة، وهذا هو المشهور كما سيأتي من كلام المصنف. والقول بأن الجراد لا يفتقر إلى الذكاة لمطرف، قيل: لأنه نثرة حوت كما روي عن كعب. وقيل: لأنه لا نفس له سائلة بناءً على أن ما هذا صفته لا يفتقر إلى الذكاة، وضعف اللخمي الأول بأن كونه نثرة حوت لا يعرف إلا من قول كعب الأحبار عن كتبهم، ولا خلاف انه لا يجب علينا العمل بمثل هذا ولا تُعُبِّدنا به، ولأنه الآن من صيد البر فيه يخلق وفيه يعيش فلم يكن لاعتبار الأصل فيه وجه. وقد حكم عمر رضي الله عنه على المحرِم فيه بالجزاء. وعلى الافتقار فقال ابن وهب: أخذه ذكاته، فيفرق بين ما يؤخذ حيّاً وميْتاً، والمشهور: لابد أن يفعل فيه فعل، فإن كان هذا الفعل مما يعجِّل موته به فهو ذكاته باتفاق.

قال في البيان: وذلك كقطع رؤوسها، وإلقائها في النار والماء الحار.

وإن كان مما لا يعجل قال في البيان: كقطع أرجلها وأجنحتها وسلقها في الماء البارد، فسحنون لا يرى ذلك ذكاة. ومذهب المدونة أن ذلك ذكاة، ولفظها: ولا تؤكل ميتة الجراد ولا ما مات منه في الغرائر. ولا يؤكل إلا ما قُطع رأسه أو سُلق أو قُلي أو شُوي حيّاً، وإن لم يقطع رأسه ولو قطعت أرجله وأجنحته فمات من ذلك لأُكل. انتهى.

ص: 228

يريد ولا تؤكل الرجل المقطوعة ولا اليد ونحوها، فإن سلق منها حي مع ميت، أو قطعت أرجلها أو أجنحتها ثم سلقت معها، فقال أشهب: يطرح جميعه وأكله حرام. وقال سحنون: تؤكل الأحياء بمنزلة خشاش الأرض يموت في قدر.

مالك: وذكاة الحلزون بالسلق أو ينقر بالإبر والشوك حتى يموت، ويسمي الله تعالى كما يسمي عند قطع رؤوس الجراد.

عياض: والحلزون بفتح الحاء واللام.

وَالطِّيْرُ كُلُّهُ مُبَاحٌ مَا يَاكُلُ الْجِيَفَ وَغَيْرُهُ، وَرُوِيَ: لا يُؤْكَلُ كُلُّ ذِي مَخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وَلا كَرَاهَةَ فِي الْخُطَّافِ عَلَى الْمَشْهُورِ

المشهور كما ذكر إباحة جميع الطيور، وروى ابن أبي أويس عن مالك أنه لا يؤكل كل ذي مخلب من الطير. هكذا حكى بعضهم هذا القول. وقال في الإكمال: وحكى عن ابن أبي أويس كراهة أكل كل ذي مخلب. وفي مسلم وأبي داود "أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير". والقولان في الخطاف لمالك والأصل الإباحة.

ابن بشير: ولعل هذا لأنه لا كثير لحم فيها، فدخلت في باب تعذيب الحيوان لغير فائدة.

وَأَمَّا ذَوَاتُ السُّمُومِ فَتَحْرُمُ لِسُمُومِهَا فَإِنْ أُمِنَتْ حَلَّتْ، وَحَيَوَانُ الْبَحْرِ كُلُّهُ مُبَاحٌ

تصوره ظاهر، قال في الإكمال: جميع ما في البحر مباح عند مالك على اختلاف أشكاله وأسمائه.

ابن الجلاب: ويجوز أكل الحوت طافياً كان [227/أ] أو راسياً، والطافي: ما مات وطفا على وجه الماء؛ أي: ارتفع. ونص مالك في الموازية على أن من باع حوتاً طافياً ولم يبيِّن أن للمشتري الرد؛ إذ لعله ممن لا يرى أكله.

ص: 229

وَفِي خِنْزِيرِ الْبَحْرِ قَوْلانِ، وَوَقَفَ مَالِكٌ فِيهِ وَكَرِهَ تَسْمِيَتَهُ خِنْزِيراً

ظاهر كلامه أن القولين بالجواز والمنع، وكذلك قال ابن بشير، والأقرب الإباحة؛ لأنه لو كان الشبه مقتضياً للمنع لحرم إنسان الماء، وإنما يعرف ذلك عن الليث، وفي المدونة: وتوقف مالك أن يجيب في خنزير الماء، فقال: أنتم تقولون: خنزيراً.

ابن القاسم: وأنا أتَّقيه ولا أراه حراماً. وفي الجلاب: يكره أكل كلب الماء وخنزيره.

وقال في الجواهر: وفي كراهة خنزيره وكلبه خاصة خلاف، ورأى غير واحد أن توقف الإمام حقيقة قالوا: لعموم قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ([المائدة: 96] وعموم قوله تعالى: (وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ)[المائدة: 3]، ورأى بعضهم أن الإمام غير متوقف فيه حقيقة وإنما امتنع عن الجواب إنكاراً عليهم تسميته خنزيراً لغة، ولذلك قال: أنتم تسمونه خنزيراً، يعني أن العرب لا تسميه خنزيراً.

وَفِي حِلِّ حِمَارِ الْوَحْشِ يَدْجُنُ وَيُعْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلانِ، لابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَالِكٍ

لا خفاء في إباحة حمار الوحش قبل تأنسه، وحديث أبي قتادة في الصحيحين يوضحه، فإذا تأنس وصار يُحمَل عليه فقال ابن القاسم: لا يكون ذلك ناقلاً والإباحة باقية، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: لا يؤكل. وتقدير كلامه: وفي حل حمار الوحش. وفي بعض النسخ تقديم مالك فيقدر: وفي منع حمار. ويرجح الأول بأنه لو تأنسه ناقلاً للزم في الحمار الإنسي إذا توحش أن ينتقل إلى الإباحة، ولا خلاف ان ذلك لا ينتقل وفيه نظر لمراعاة الاحتياط، والله أعلم.

الآلَةُ: وَتَجُوزُ بكُلِّ جَارِحٍ مِنْ حَجَرٍ أَوْ عُودٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِه، وَلَوْ كَانَ مَعَهُ سِكِّينٌ

هذا هو الركن الثالث، وظاهره أنه لا رجحان للحديد على غيره؛ لقوله:(وَلَوْ كَانَ مَعَهُ سِكِّينٌ).

ص: 230

ابن عبد السلام: وهو قول في المذهب وليس مذهب المدونة، وفي البيان: مذهب المدونة الجواز بغير الحديد إذا لم يجده. ونص الشيخ أبو محمد على من ذبح بغير سكين- وهي معه – على إساءته.

وفي مسلم والترمذي وأبي داود والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليُحِدَّ أحدكم شفرته وليُرح ذبيحته"، وروى الدارقطني عن سالم عن أبيه:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشِّفار وأن توارى عن البهائم، فإذا ذبح أحدكم فليجهز".

فأمره صلى الله عليه وسلم بحد الشفار دليل على أن الأَوْلى لمن كان معه الحديد ألا يذبح بغيره، وكره ربيعة أن يذبح الشاة وأخرى تنظر، وخفف ذلك مالك واحتج بالبدن. وقد ورد في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، واختار ابن حبيب قول ربيعة، ورأى صف البدن عند نحرها من سنتها، قال: وليس ذلك في الذبائح.

ابن حبيب: ولا بأس بالذبح بشفرة لا نصال لها، والرمح والقدوم والمنجل الأملس الذي يؤبر به، فأما المضرس الذي يحصد به فلا خير فيه لأنه يتردد، وإن قطع كقطع الشفرة فلا بأٍ به. ولكن ما أراه يفعل ذلك، وشرط ابن القصار ي صفة ما يذكى به أن يفري الأوداج والحلقوم في مرة واحدة، قال: وما كان من ذلك لا يفريه إلا في دفعات فلا يجوز، وإن كان حديداً، قالوا: وإن لم يكن تساعده السكين حين الذبح وأدخلها من تحت الغَلْصَمَة وقطع العروق فإنها لا تؤكل.

مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفُرَ الْمُتَّصِلَيْنِ لأَنَّهُمَا نَهْشٌ وَخَنْقٌ

وفي بعض النسخ: (وفي السن والظفر ثالثها: يجوز بهما منفصلين لأنه نهش وخنق). الجواز مطلقاً رواه ابن وهب عن مالك في المبسوط، واختاره ابن القصار. والمنع مطلقاً.

ص: 231

رواه ابن المواز، وقال ابن القصار: إنه حقيقة مذهب مالك. الباجي: وهو الصحيح. والثالث: التفصيل يجوز بهما منفصلين ولا يجوز بهما متصلين، حكاه ابن حبيب عن مالك. واختاره ابن رشد، وقال في بيانه: هو الصحيح. وروى عن مالك أنه أجازه بالعظم وكرهه بالسن. قال صاحب الإكمال: وهو المشهور.

وفي البخاري ومسلم عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله، إنا لاقوا العدو غداً، وليست معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ فقال:"ما أنهر الدم، وذكر اسم الله عليه فَكُل، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ، وسأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم وأما الظفر فمُدَى الحبشة" فهذا قد يحتج به للمنع مطلقاً، وقد يقال: في قوله: "مدى الحبشة" تنبيه على أن التذكية تجوز بهما منفصلين؛ لأن الحبشة إنما يذكون بالظفر خنقاً، ألا ترى أن مدى الحبشة وهي السكاكين يجوز الذبح بها. ويقال: نهس ونهش. عياض: نهشت اللحم ونهسته بالمعجمة والمهملة إذا أخذته بأسنانك عن العظم، وقال بعضهم: بالسين المهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة بجميع الفم.

الصِّفَةُ: إِنْ كَانَ صَيْداً فَقَدْ تَقَدَّمَ، وَغَيْرُهُ: ذَبْحٌ، وَنَحْرٌ، فَالنَّحْرُ فِي الإِبِلِ، وَفِي الْبَقَرِ الأَمْرَانِ، وَالذَّبْحُ فِي غَيْرِهِمَا ....

هذا هو الركن الرابع، وكلامه ظاهر، واستحب مالك ذبح البقر لقوله تعالى:[227/ب] (أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ([البقرة: 67].

الباجي: والخيل في الذكاة كالبقر يعني على القول بجوازه.

اللخمي: وكذلك البغال والحمير على القول بكراهتهما، وفي غيرهما الذبح يدخل فيه الطير جميعه ولو كان طويل العنق كالنعامة.

ابن المواز: وإن نحرت النعامة لم تؤكل.

ص: 232

الأبهري: وإذا نحر الفيل جاز الانتفاع بعظمه، وعلله الباجي بأنه لا يمكن فيه إلا ذلك.

فَإِنْ نُحِرَ مَا يُذْبَحُ أَوْ بالْعَكْسِ لَضَرُورَةٍ أُكِلَ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي مَهْوَاةٍ، وَلِغَيْرِ ضَرَورَةٍ فَالْمَشْهُورُ التَّحْرِيمُ، وَثَالِثُهَا: تُؤْكَلُ الإِبِلُ

إذا نحرت الغنم ونحوها مما فيه الذبح فقط، أو ذبحت الإبل وهو معنى قوله:(أَوْ بالْعَكْسِ)، فإن كان ذلك لضرورة، كما لو وقع بعير في مهواة ولم يصل إلى لَبَّتِهِ، جاز ذلك باتفاق، وإن لم ينك لضرورة فثلاثة أقوال: مذهب المدونة: عدم الأكل. عبد الوهاب: واختلف أصحابنا: هل يحمل قول مالك على التحريم أو الكراهة؟ ولما كان ظاهرها التحريم قال المصنف: (فَالْمَشْهُورُ التَّحْرِيمُ).

ومذهب أشهب: أن ذلك يؤكل كله. والقول بالتفصيل لابن بكير. ابن عبد السلام: وهو الأقرب؛ لأن الذبح يتضمن النحر وزيادة، لأنه قطع مجموع الودجين والحلقوم. والنحر لا يتضمن الذبح؛ لأنه إنما يشترط قطع الحلقوم مع ودج واحد.

خليل: وفيما ذكره نظر، فقد قال الباجي: لم أر أحداً من أصحابنا ذكر مراعاة معنّى في النحر غير اللَّبَّة. وقال اللخمي: لم يشترطوا في النحر الودجين والحلقوم كما قالوا في الذبح. وظاهر المذهب أنه حيثما طعن بين اللبة والمنحر أجزأ إذا كان في الودج. انتهى. وقال: والنحر لا يشترط فيه قطع شيء من الحلقوم ولا الودجين؛ لن محله اللَّبَّة وهو محل تصل فيه الآلة إلى القلب فيموت بسرعة.

فرع:

نص مالك على أنه إذا نحر ما يذبح أو بالعكس ناسياً لا يعذر قال في البيان: وقيل: إنَّ عدَمَ ما ينحر به ضرورة تجيز ذبحه. وقد قيل: إن الجهل في ذلك ضرورة.

ص: 233

وَمَا وَقَعَ فِي مَهْوَاةٍ فَعُجِزَ عَنْهُ فَطُعِنَ فِي جَنْبٍ أَوْ كَتِفٍ وَنَحْوِهِ لا يُؤْكَلُ عَلَى الْمِشْهُورِ ....

المشهور مذهب المدونة والماوزية، ومقابله لابن حبيب.

وَمَحلُّ النَّحْرِ اللَّبَّةِ، وَمَحَلُّ الذَّبْحِ الْحَلْقُ

مذهب أكثر الشيوخ أن النحر خاص باللَّبَّة، ومذهب ابن لبابة واللخمي أنه يصح فيما بين اللبة والمنحر، وأخذ اللخمي ذلك مما في المبسوط أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بعث منادياً ينادي: النحر في الحلق واللبة. ومن قول مالك في المدونة: ما بين المذبح واللبة منحر ومذبح، فإن نحر فجائز وإن ذبح فجائز.

اللخمي: ولا يتجزئ في ذلك بالطعن في الحلقوم بانفراده دون أن يصيب شيئاً من الأوداج؛ لأن ذلك مما لا يسرع معه الموت، وإنما يجزئ من ذلك ما كان يسيح معه الدم ويسرع بالموت. لما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما أنهر الدم وذُكر اسم الله عليه فكل". ورد في البيان قول اللخمي، أما قول عمر فإن المراد بالنحر الذكاة، وعبر عن الذكاة بالنحر؛ لأنه جُلُّ عملهم في ذلك اليوم كما سمي ذلك اليوم يوم النحر.

وأما مالك رحمه الله فلم يرد أن ما بين اللبة والمذبح هو موضع النحر والذبح مع القدرة، وإنما أجاز ذلك إذا لم يصل إلى المذبح ولا إلى المنحر بسقوط البهيمة في البئر؛ مراعاة لقول من أجاز نحرها حيث أمكن من جنب أو غيره، وهذا بَيِّن من مراده في المدونة.

ابن عبد السلام: وكلام ابن رشد راجح.

وَتُنْحَرُ الإِبِلُ قِيَاماً مَعْقُولَةً. وَيُسْتَحَبُّ فِي الذَّبْحِ الضَّجْعُ عَلَى الأَيْسَرِ لِلْقِبْلَةِ، وَيُوضِحُ مَحَلَّ الذَّبْحِ وَيُسَمِّي

هذا كله على الاستحباب، ما عدا التسمية فقد تقدم الكلام عليها.

ص: 234

محمد: والسنة: أخذ الشاة برفق وتضجع على شقها الأيسر إلى القبلة، ورأسها مشرف، وتأخذ بيدك اليسرى جلد حلقها من اللحي الأسفل بالصوف وغيره، فتمده حتى تبين البشرة، وموضع السكين في المذبح حيث تكون الخرزة في الرأس، ثم تُسمي الله، وتُمِرُّ السكين مرّاً مجهِزاً من غير ترديد ثم ترفع ولا تخنع، ولا تضرب بها الأرض ولا تجعل رجلك على عنقها. وفي نسبة الأخير إلى السنة نظر؛ لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم لما ضحى بكبشيكن وضع رجله على صفاحهما.

واستحب إضجاعها على الشق الأيسر؛ لأنه أمكن للذبح، ولذلك روي عن ابن القاسم أنه إذا كان أعسر أن يضجعها على شقها الأيمن.

ابن حبيب: ويكره للأعسر أن يذبح، فإن ذبح واستمكن أكلت.

فَإِنْ تَرَكَ الاسْتِقْبَالَ أُكِلَتْ وَلَوْ عَمْداً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ فَكَالصَّيْدِ، وَإِنْ كَبَّرَ مَعَهَا فَحَسَنٌ، وَإِنْ شَاءَ زَادَ فِي الأُضْحِيَّةِ: اللْهُمَّ تَقَبَّلْ مِنِّي، وَإِلا فَالتَّسْمِيَةُ كَافِيَةٌ، وَأُنْكِرَ: اللَّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ

مقابل المشهور في الاستقبال لابن حبيب يراه كالتسمية. والمشهور أظهر؛ لأنه لم يأتِ في الاستقبال ما أتى في التسمية. قال في المدونة: وبلغ مالكاً أن الجزارين يدورون حول الحفرة ويذبحون فنهاهم عن ذلك وأمرهم بتوجيهها إلى القبلة. وقد تقدم حكم التسمية في باب الصيد. قال في المدونة: وليقل: بسم الله والله أكبر، وليس بموضع صلاة على النبي صلى [228/أ] الله عليه وسلم، ولا يذكر هنا إلا الله عز وجل. وإن شاء قال في الأضحية بعد التسمية: اللهم تقبل مني، وإلا فالتسمية كافية.

وأنكر مالك قوله: (اللُّهُمَّ مِنْكَ وَإِلَيْكَ)، وقال: هذا بدعة. وقال ابن حبيب: أما قوله في الأضحية: اللهم تقبل مني، فلابد منه، وإن شاء قال: اللهم منك وإليك. قال في البيان: أي منك الرزق وبك الهدى ولك النسك. وحكاه عن علي بن أبي طالب رضي الله

ص: 235

عنه وهو قول سحنون قال: وإنما كره مالك التزام ذلك على وجه كونه مشروعاً في ذبح النسك كالتسمية، فمن قال على غير هذا الوجه في بعض الأوقات أجزئ على ذلك إن شاء الله تعالى. ابن حبيب: وإن قال: بسم الله فقط، أو الله أكبر فقط، أو لا إله إلا الله، أو سبحان الله، أو لا حول ولاقوة إلا بالله، من غير تسمية أجزأه. وكلٌّ تسمية ولكن ما مضى عليه الناس أحسن؛ وهو: بسم الله والله أكبر.

وَإّذَا أَفْرَى الْحُلْقُومَ وَالْوَدَجَيْنِ وَالْمَرِيءَ فَاتِّفَاقٌ

(أَفْرَى) رباعي؛ أي: إذا قطع. و (الودجان) عرقان في صفحتي العنق. و (الْحُلْقُومَ): القصبة التي هي مجرى النفس.

عياض: والمرئ بفتح الميم وكسر الراء وهمزة آخره، وقد يشدد آخره ولا يهمز: مبلغ الطعام والشراب وهو البلعوم. وقوله: (فَاتِّفَاقٌ) حكى عياض فيه الإجماع.

وَإِنْ تَرَكَ الْمَرِيءَ صَحَّتْ عَلَى الْمَشْهُورِ

والمشهور مذهب المدونة، ومقابله رواه أبو تمام عن مالك.

فَإِنْ تَرَكَ الأَوْدَاجَ جُمْلَةً لَمْ تُؤْكَلْ

لأن المقصود الأعظم وهو إنهار الدم لم يحصل.

وَإِنْ تَرَكَ الأَقَلَّ فَقَوْلانِ

يحتمل أن يريد بالأقل أحد الودجين؛ أي: اختلف إذا قطع الحلقوم وودجاً وترك ودجاً. والقولان روايتان. ابن عبد السلام: ويحتمل أن يريد به إذا حصل القطع في كل ودج وبقي منهما أو من أحدهما يسير، وفي ذلك قولان للمتأخرين: المنع لعبد الوهاب، والإباحة نقلها بعضهم عن ابن محرز، والذي في تبصرته: إن بقي اليسير من الحلقوم أو

ص: 236

من الأوداج لم تحرم. والأقرب في الوجه الأول عدم الأكل لعدم إنهار الدم، والأكل في الثاني. وحمله ابن هارون على أن المعنى: إن ترك الأقل من الحلقوم. وفيه قولان: ذكر في النوادر عن ابن حبيب أنه إن قطع الأوداج ونصف الحلقوم فأكثر أكلت، وإن قطع منه الأقل لم تؤكل. وروى يحيى مثله عن ابن القاسم في الدجاجة والعصفور، إذا أجهز على أوداجه ونصف حلقومه أو ثلثيه فلا بأٍ بذلك. وقال سحنون: لا يجوز حتى يقطع جميع الحلقوم والأوداج.

وَإِنْ تَرَكَ الْحُلْقُومَ تُؤْكَلْ، وَأَخَذَ اللَّخْمِيُّ خِلافَهُ مِنْ قَوْلِهِ: يُجْزِئُهُ إَذَا فَرَى الأَوْدَاجَ

أي: إذا قطع الودجين وترك الحلقوم لم تؤكل، نص على ذلك في المدونة وغيرها. وأخذ للخمي عدم اشتراط الحلقوم من ثلاث مسائل مما وقع لمالك في كتاب الصيد، إذا أدرك الصيد وقد أفرى الكلب أو البازي أوداجه فقد فرغ من ذكاته. ومما وقع في المبسوط لمالك إذا ذبح فقطع الأوداج فوقعت في ماء أنه لا بأس بأكلها. ولو كان قطع الحلقوم شرطاً لما اكتفى بقطع الودجين، ومن أحد القولين في عدم اشتراط الغَلْصَمَة: وذلك أن آخر الحلقوم هو الجوزة، فلو كان قطع الحلقوم شرطاً لما أجزأ القطع خارجاً عنه. وأجيب عن الأولين بأنه لما كان من لازم قطع الودجين في الغالب الحلقوم اكتفى بقطعهما للغالب، ولأن الجارح لما قطع ودجي الصيد في المسألة الأولى حلت ذكاته؛ إذ يكفي في ذكاة الصيد إنفاذ المقاتل، وقطع الودجين أحد المقاتل. وأما الثالث فلازم إلا أن يقال: قطع ما فوق الجوزة يتنزل منزلة القطع في الحلقوم لاتصاله به.

وَفِي قَطْعِ نِصْفِ الْحُلْقُومِ قَوْلانِ

قد تقدمت القولان، لكن مفهومه يقتضي لو قطع البعض أُكل، وقد تقدم أن الخلاف فيهما سواء، وأن القولين في الطير وغيره. ونص ابن القاسم على الأكل فيما إذا

ص: 237

قطع نصف حلقوم الطير كما تقدم. ابن عبد السلام: وبعض من لقيناه يقول: لا يلزم ابن القاسم الذي اغتفر بقاء نصف الحلقوم في الطير أن يقول مثله في غيره؛ لما علم عادة من صعوبة استئصال قطع الحلقوم في الطير دون غيره. ومقتضى الرسالة عدم الأكل في هذه المسائل كلها؛ لقوله: والذكاة: قطع الحلقوم والأوداج لا يجزئ أقل من ذلك، قيل: وهو المشهور.

وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَقْطَعِ الْجَوْزَةَ وَأَحَازَهَا إِلَى الْبَدَنِ، فَثَالِثُهَا: يُكْرَهُ

أي: يكون في المسألة قولان بالأكل وعدمه. وفي بعض النسخ: (ولو لم يقطع الجوزة وحازها إلى البدن فثالثها: يكره) أي: قول بالجواز، وقول بالمنع، وقول بالكراهة، والمنع لمالك وابن القاسم وغيرهما. التلمساني: وهو المشهور. وعلله ابن المواز بأنه لم يقطع شيئاً من الحلقوم. والجواز لابن وهب وأِهب وابن عبد الحكم وأبي مصعب. وأنكر أبو مصعب الأول، وقال: هذه دار الهجرة والسنة، وبها كان المهاجرون والأنصار والتابعون، وكانوا يعرفون الذبح لم يذكروا عقدة ولم يعينوها. والقول بالكراهة حكاه ابن بشير ولم يعزه. وأفتى بعض القرويين بأكله [228/ب] للفقير دون الغني، وليس بسديد.

ابن عبد السلام: وقعت هذه المسألة بتونس قبل هذا التاريخ، فاستشار القاضي فيها جماعة من الفقهاء، فأشاروا بجواز بيعها إذا بيَّن البائع ذلك. والجوزة: الغلصمة.

تنبيه:

وهذا الخلاف إنما هو إذا لم يقطع من الجوزة شيئاً ووقع القطع فوقها، وأما إن بقي في الرأس دائرة أكلت اتفاقاً، قاله ابن عبد السلام، وإن بقي في الرأس أقل من دائرة- فإما أن يكون النصف أو أقل – أجزأه على القولين في قطع بعض الحلقوم.

فرع:

فإن استأجر جزاراً، فذبح له شاة فغلصمها، ضمن قيمة الشاة في قول مالك وابن القاسم، ولا يضمن في قول غيرهما، حكاه ابن أبي زيد.

ص: 238

وَإِنْ رَفَعَ الآلَةَ وَرَدَّهَا فَإِنْ طَالَ لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِلا فَقَوْلانِ، وَعَنْ سُحْنُونٍ: إِنْ رَفَعَ مُخْتَبِراً أُكِلَتْ بخِلافِ مُعْتَقِدِ التَّمَامِ، قَالَ ابْنُ الْقَابِسِيِّ: الْعَكْسُ أَصْوَبُ

قوله: (فَإِنْ طَالَ لَمْ تُؤْكَلْ) لم أرَ في ذلك خلافاً، وهو مقيد بما إذا لو تركت لم تعش، وأما إن كانت حين الرفع لو تركت لعاشت أكلت، قاله ابن القصار؛ لأن الثانية ذكاة مستقلة. ابن عبد السلام: ولا إشكال في عدم الأكل إذا أعاد بعد البعد إذا كان ذلك عمداً أو بتفريط، وأما إن كان عن غلبة، وكثيراً ما يجري في العقر في البقر، فينبغي أن يجري الكلام فيه على عجز ماء المتطهر. انتهى. وعن أبي محمد صالح أنه قال: إن سقطت السكين من يد الذابح أو رفعها قهراً أو خائفاً ثم أعادها فإنها تؤكل. وإن لم يطل فأربعة أقوال: جواز الأكل وهو مذهب ابن حبيب واختيار اللخمي؛ لأن ما طلب فيه الفور يغتفر فيه التفريق اليسير، وعدم الأكل حكاه اللخمي والباجي عن سحنون، والقول الثالث: تأول بعضهم قول سحنون عليه. وحكى ابن يونس عن سحنون ثلاثة أقوال: عدم الأكل، والكراهة، والتفصيل المذكور. وحكى عنه أيضاً أبو بكر بن عبد الرحمن: قلت للشيخ أبي الحسن القابسي: يجب أن تعكس هذه التفرقة إن رفع يده وهو شاكٌّ في تمام الذبح، والآخر رفع يده موقناً، كقولهم فيمن سلم من اثنتين وكان على اليقين أنها أربع ثم أيقن أن سلم من اثنتين أنه لا يضره، ويتم باقي صلاته، فإن سلم على الشك أبطل صلاته، فصوب الشيخ ما قلته. فتحصل لنا في المسألة خمسة أقوال.

وَلَوْ ذَبَحَ مِنَ الْعُنُقِ أَوْ الْقَفَا لَمْ تُؤْكَلْ وَلَوْ نَوَى الذَّكَاةَ

قوله: (مِنَ الْعُنُقِ) أي: من صفحة العنق وعدم الأكل فيها واضح؛ إذ لا يصل إلى موضع الذبح إلا بعد أن ينخعها، وكذلك لو ذبح في ظلام وظن أنه أصاب وجه الذبح

ص: 239

ثم تبين له خلاف ذلك، نص عليه في النوادر محمد. وأما من أراد أن يذبح من الحلقوم فأخطأ فانحرف، فإنها تؤكل.

وَمَا شُكَّ هَلْ مَوْتُهُ مِنَ الذَّكَاةِ لَمْ يُؤْكَلْ عَلَى الْمَشْهُورِ

قد تقدمت قاعدة هذا في باب الصيد.

ابن راشد وغيره: وحكايته الخلاف مع الشك وهم. وقد حكى ابن بشير الاتفاق في الشك أنها لا تؤكل.

بخِلافِ أَنْ تَضْرِبَ بِرِجْلِهَا أَوْ تُحَرِّكَ ذَنَبَهَا، وَفِي الْمُوَطَّأِ: أَوْ تَطْرِفْ بعَيْنِهَا أَوْ يَجْرِي نَفَسُهَا

اعلم أن الذبيحة تارة تكون صحيحة، وتارة تكون مريضة، فالصحيحة يستدل على حياتها بسيلان الدم وإذا استدل على حياتها بالسيلان فالحركة أولى؛ لأن الباجي قال: لا يمكن عندي في الصحيحة أن تتحرك ولا يسيل دمها، فلا معنى لذكره. وأما المريضة فإن لم ييأس من حياتها عملت فيها الذكاة. ونص اللخمي على أنها ملحقة بالصحيحة وإن يئس منها، فكذلك على الصحيح قاله مالك. وفي مختصر الوقار: لا تصح ذكاتها. والأول أحسن لما في الصحيحين والموطأ أن أمة لكعب بن مالك كانت ترعى غنماً بسَلع فأصيبت شاة منها فأدركتها، فذكتها بحجر، فسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:"كلوها".

وفيه خمس فوائد: ذكاة النساء والإماء بالحجر، وما أشرف على الموت، وذكاة غير المالك بغير وكالة. وحكى صاحب الاستذكار في ذلك الإجماع قال: أجمعوا أن المريضة التي لا ترجى حياتها، أن ذبحها ذكاة إن كانت فيها الحياة حين ذبحها، وعلم ذلك بما ذكر من الحركات. وأجمعوا على أنها إذا صارت في حال النزع ولم تحرك يداً ولا رجلاً أنه لا ذكاة فيها. انتهى. وعلى القول بأن الذكاة تعمل فيها فإن تحركت وسال دمها أكلت، وإن

ص: 240

كان السيلان فقط لم تؤكل؛ لأنه يسيل منها بعد الموت وقبل أن تبرد فلا يكون دليلاً على حياتها، بخلاف الصحيحة لحصول موجب الشك في المريضة دون الصحيحة. وإن تحركت ولم يسل دمها فالمنصوص أنها تؤكل.

وخرج عدم الأكل من المنخنقة وأخواتها. والمعتبر من الحركة في هذا الباب ما عدا حركة الاختلاج. هكذا حكى ابن شاس وابن بشير، وحكاه ابن يونس عن ابن حبيب. وفي اللخمي: وأما الاختلاج الخفيف وحركة العين فترك أكلها أحسن؛ أن الاختلاج والتحرك الخفيف يوجد من اللحم بعد خروج النفس ولا يحتاج إلى حصول جميع أنواع الحركة، بل يكفي واحد منها، ولا فرق بين حركة الأعالي والأسافل كما ذكر المصنف. وأشار [229/أ] اللخمي إلى أن حركة الرجل والذنب أقوى من حركة العين؛ لأن الحياة أول ما تنعدم من الأسافل.

الباجي: وقول مالك: ونفسها يجري. يعني: تتردد على حسب النفس، وأما خروج الريح من الجسد عند الموت فليس من جريان النفس. وظاهر جواب مالك: أن عدم الحركة بعد تمام الذكاة لا يمنع صحتها إذا صادفت نفساً يجري وعيناً تطرف حين الذكاة. وحكى في المقدمات في وقت مراعاة الحركة ثلاثة أقول:

أحدها: أنها لا تراعي إلا أن توجد بعد تمام الذبح، والثاني: أنها تراعي وإن وجدت مع الذبح، والثالث: تراعي وإن وجدت قبل الذبح.

وَالْمَوْقُوذَةُ وَمَا مَعَهَا وَغَيْرُهَا مِمَّا أُنْفِذَتْ مَقَاتِلُهُ، وَذَلِكَ مِمَّا يُنَافِي الْحَيَاةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، لا تَنْفَعُ ذَكَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ

قوله: (وَمَا مَعَهَا) أي: في الآية الكريمة. والمنخنقة: هي ما اختنقت بحبل ونحوه. الجوهري: وشاة موقوذة قتلت بالخشب. والمتردية: التي سقطت في مهواة أو من شاهق، والنطيحة معلومة، وما أكل السبع؛ أي: بعضها، وهذه المسألة على ثلاثة أوجه:

ص: 241

أحدها: أن تكون حياتها مرجوة فلا خلاف في إعمال الذكاة فيها.

والثاني: أن تكون قد أنفذت مقاتلها فلا تفيد الذكاة فيها باتفاق، على رأي بعض الشيوخ.

والثالث: إن يئس منها، لكن لم تنفذ المقاتل، فحكى الباجي وغيره قولين.

وفي البيان يتحصل في المنخنقة وأخواتها إذا سلمت مقاتلها ثلاثة أقوال:

أحدها: أنها تذكي وتؤكل على أنها لا تعيش من ذلك، أو أشكل أمرها كالمريضة سواء، وهو مذهب ابن القاسم وروايته عن مالك، على القول بأن الاستثناء في الآية متصل.

والثاني: أنها لا تذكي ولا تؤكل، عُلم أنها لا تعيش أو أشكل أمرها، بخلاف المريضة، وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل.

والثالث: الفرق بين أن يعلم أنها تعيش أو يشكل أمرها، وهو الذي يقوم مما في العتبية وهو على القول بأن الاستثناء في الآية منفصل، وحمل التونسي التي أشكل أمرها محمل التي رجيت حياتها. وحكى اللخمي قولين مع إنفاذ المقاتل إذا لم يكن ذلك المقتل في موضع الذكاة.

ابن عبد السلام: وللشيوخ فيما أنفذت مقاتله طريقان، منهم من يزعم أنه لا خلاف منصوص في المذهب في عدم تأثير الذكاة فيها، وإنما يتخرج الخلاف فيها من أحد قولي ابن القاسم فيمن أنفذ مقاتل رجل، ثم أجهز الآخر عليه، هل يقتل الأول أو الثاني؟ فمن يرى قتل الثاني دون الأول يلزمه أن يقول هنا بصحة الذكاة. وقدح في ذلك بعضهم بأنه يجوز أن يكون القتل الثاني لحقن الدماء؛ لئلا يتجرأ عليها، بخلاف الحيوان البهيمي. ومنهم من يذكر الخلاف في ذلك وينسبه لابن القاسم، ولعله أخذه مما ذكرناه، وبعضهم ينسبه لابن وهب وغيره. انتهى. وفي التنبيهات روى ابن القاسم الأكل بالذكاة وإن انتثرت الحشوة، وبه كان يفتي بعض الفقهاء الأندلسيين من متقدمي أصحابنا، وهو إبراهيم بن حسين بن خالد، وحاج في ذلك سحنون، وأعجب ذلك ابن لبابة من قوله.

ص: 242

وَفِيهَا: وَإِذَا تَرَدَّتِ الشَّاةُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا أَوْ أَصَابَهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا لا تَعِيشُ مِنْ ذَلِكَ فَلا بَأسَ بأَكْلِهَا ظَنّاً مِنْهُ أَنَّ دَقَّ الْعُنُقِ لا يُنَافِي الْحَيَاةَ الْمُسْتَمِرَّةَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَخَعَهَا

لعله أتى بهذه المسألة استشهاداً للشاذ، وتنبيهاً على الجواب عنه لكونه مخالفاً لما شهره. وتأويل المصنف بقوله: (ظَنّاً مِنْهُ

إلخ) بعيد؛ لقوله فيها: (أَوْ أَصَابَهَا مَا يُعْلَمُ أَنَّهَا لا تَعِيشُ) معه، فصرح فيها بضد التأويل. وأما استدلاله بقوله:(مَا لَمْ يَكُنْ قَدْ نَخَعَهَا) فليس فيه دليل على ما أراد بل الذي يؤخذ منه التفرقة بين دق العنق، وما أنفذت مقاتله بانقطاع نخاعه.

فائدة:

الباجي: والمقاتل المتفق عليها خمسة: انقطاع النخاع، وانتثار الدماغ، وفري الأوداج، وانفتاق المصران، وانتثار الحشوة. واختلف في اندقاق العنق من غير انقطاع نخاعه، فروى مطرف وابن الماجشون عن مالك أنه من المقاتل، وروى ابن القاسم عن مالك أنه ليس بمقتل حتىي قترن به انقطاع النخاع. انتهى.

واختلف أيضاً في انشقاق الأوداج من غير قطع، والخلاف مبني على خلاف في شهادة، والقول بأن ذلك ليس مقتلاً لابن الحكم. وأما كسر عظام الظهر فليس مقتلاً، قال صاحب البيان وغيره: وخرق المصران لا يكون مقتلاً إلا إذا كان في مجرى الطعام قبل أن يتغير، وأما إن كان في مجراه بعد التغير فليس بمقتل. والفرق أن الأول لا يحصل معه الانقطاع بالغذاء والثاني يحصل معه ذلك فلم يكن مقتلاً.

عياض: وعد شيوخنا قطع المصران وانتثار الحشوة وجهين من المقاتل. وقال: وهو عندي راجع إلى معنى واحد، وهو أنه إذا قُطع المصران أو شق انتثرت الحشوة من الثفل، وهو بين في المدونة في كتاب الديات، وفي هذه المسألة قال: يشق أمعاءه فينثرها، وإن كان من

ص: 243

قال ذلك من شيوخنا ذهبوا إلى أن انتثار الحشوة خروجها من الجوف عند [229/ب] شق الجوف، فمجرد شق الجوف ليس بمقتل عند جميعهم، والحشوة إذا انتثرت منه ولم تنقطع عولجت ورُدَّت وخِيطَ الجوف عليها، وهذا مشاهد معلوم فليس نفس انتثارها بمقتل. فكيف وقد ذهب بعض التمأخرين من شيوخنا إلى أن شق الأمعاء إنما يكون مقتلاً إذا كان في أعلاه وحيث يكون ما فيه طعاماً، وذلك المعدة وما قاربها؛ لأنه إذا انشق هناك وانقطع خرج منه الغذاء ولم ينفذ إلى الأعضاء، ولا يتغذى الجسم فيهلك. وأما ما كان أسفل وحيث يكون فيه الثفل فليس بمقتل. وما قاله صحيح مشاهد، وإليه يرجع عندي ما روي عن ابن القاسم وغيره، ولا يكون جميع ما جاء من ذلك خلافاً إذا نزل هذا التنزيل وإن كان ظاهره الخلاف. وأما قرض المصران أو إبانة بعضه من بعض فمقتل لا شك فيه، بخلاف شقه فإنه لا يلتئم بعد انقطاعه بالكلية ويتعذر وصول الغذاء إلى ما بان منه، وتتعطل تلك الأعضاء تحته، ولا يجد الثفل مخرجاً من داخل الجوف فيهلك صاحبه. انتهى.

ابن رشد: وقد كان الشيوخ يختلفون في البهيمة تذبح وهي حية صحيحة في ظاهرها، ثم يوجد كرشها مثقوباً، قال: ولقد أخبرني من أثق به أنها نزلت برجل من الجزارين في ثور فرفع الأمر إلى صاحب الأحكام ابن مكي فشاور في ذلك الفقهاء، فأفتى الفقيه ابن رزق أن أكلها جائز وأن للجزار بيعها إذا بيَّن ذلك، وأفتى ابن حمدين أن أكلها لا يجوزو وأمر أن تطرح في الوادي، فأخذها الأعوان ليذهبوا بها إلى الودي، فسمعت العامة والضعفاء أن الفقيه ابن رزق أجاز أكلها فتغلبوا على الأعوان وأخذوها من أيديهم وتوزعوها فيما بينهم، وذهبوا بها لمكانة الفقيه ابن رزق رحمه الله في نفوسهم من العلم والمعرفة. قال ابن رشد: والذي أفتى به هوا لصواب عندي.

ابن عبد السلام: وقد أخبرني غير واحد مما أثق به أن كثيراً ما يعتري عندهم البقر بعض الأدواء، فيعالج بأني شق ما يقابل الكرش ثم يشق الكرش، فيخرج منه حينئذٍ ريح فيكون ذلك سبب برء الثور أو البقرة من ذلك الداء، فينبغي أن ينظر في ذلك.

ص: 244

وَلَوْ تَرَامَتْ يَدُهُ فَأَبَانَ الرَّاسَ وَلَوْ عَمْداَ أُكِلَتْ لأَنَّهُ نَخَعَهَا بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ. وَكَذَلِكَ يُؤْكَلُ مَا قُطِعَ بَعْدَ تَمَامِ الذَّبْحِ، وَكُرِهَ تَعَمُّدُهُ قَبْلَ مَوْتِهَا، وَكَذَلِكَ سَلْخُهَا وَنَخْعُهَا ....

أي: إذا تمت الذكاة فلا عبرة بما يفعله بعد ذلك، لكن كره مالك ذلك؛ لما فيه من تعذيبها. وحكى ابن نافع أنه كره أكلها إذا نخعها، ولو لم يتعمد، وأما إذا قصد ابتداء إبانة الرأس، فقال ابن القاسم وأصبغ: تؤكل ولو تعمد ذلك أولاً. وقال ابن الماجشون ومطرف: لا تؤكل. وتأول على المدونة القولين، ونصها: ومن ذبح فترامت يده إلى أن أبان الرأس أكلت إن لم يتعمد ذلك. والبحث فيه قريب ممن أمر بمسح رأسه فغسله.

وَذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ إِنْ كَانَ كَامِلاً بشَعْرٍ، وَإِنْ خَرَجَ حَيّاً فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ إِلا أَنْ يُبَادَرَ فَيَفُوتَ فَقَوْلانِ

يعني: أن الجنين لا يفتقر إلى ذكاة مستقلة، والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم:"ذكاة الجنين ذكاة أمه" رواه أبو داود. وخالفنا أبو حنيفة فرأى أن الجنين يفتقر إلى ذكاة مستقلة. واحتج أصحابنا عليه بهذا الحديث، فإن إخباره صلى الله عليه وسلم عن ذكاة الجنين بذكاة أمه يؤخذ منه ما ذكرناه. فإن قيل: لا نسلم أن قوله صلى الله عليه وسلم: "ذكاة أمه" خبر بل الخبر محذوف والتقدير: مثل ذكاة أمه، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قيل: الحذف خلاف الأصلن فإن قيل: يعضده رواية من روى "ذكاةَ أمِّهِ" بالنصب؛ إذ التقدير: أن يذكي ذكاةٌ مثلَ ذكاة أمه، ثم حذف "مثل" وما قبله، وأقيم مقامه المضاف إليه. قيل: هذا مردود.

أما أولاً: فلأن بعضهم أنكر رواية النصب، وجعل الروايات متفقة على الرفع.

وأما ثانياً: فلا نسلم هذا التقدير الذي قدرتموه؛ لأن فيه حذف الموصول وبعض صلته، وهو "أن" والفعل بعدها وذلك لا يجوز، وإنما النصب على إسقاط حرف الجر

ص: 245

وهو "في" كما رواه مالك عن ابن المسيب أنه كان يقول: ذكاة ما في بطن الذبيحة ذكاة أمه إذا كان قد تم خلقه ونبت شعره. أو الباء ويكون التقدير: ذكاة الجنين حاصلة بذكاة أمه. ولا شك أن هذا أولى من تقدير الخصم لقلة الإضمار. وكان هذا هو السبب المقتضي لعدل المصنف عن لفظ الحديث، وكأنه أشار إلى تقديره، والله أعلم.

وقوله: (إِنْ كَانَ كَامِلاً بشَعْرٍ) قال أهل المذهب: لابد من اجتماع تمام الخلق ونبات الشعر، ولا يكفي أحدهما. وفسر الباجي تمام الخلق بكمال خلقه، أما لو خلق ناقص يد أو رجل وتم خلقه على ذلك لم يمنع ما نقص منه من ذكاته. قال في الاستذكار: وروي قول مالك عن جماعة منهم علي، وابن عمر، وابن المسيب، وابن شهاب، ومجاهد، وطاوس، والحسن، وقتادة: أنه إذا تم خلقه ونبت شعره أكل، وإن لم يتم خلقه لم يؤكل. وقال [230/أ] عبد الله بن كعب بن مالك: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: إذا نبت شعر الجنين فذكاته ذكاة أمه.

وقوله: (فإن خَرَجَ حَيّاً فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ) ظاهره لأنه قد استقل بحكم نفسه، وأما إذا بودر ففات فالقول بمنع أكله نقله ابن بشير وابن شاس، ونقله ابن عبد الغفور عن ابن كنانة إذا كان مثله لا يعيش لو ترك. قال: ونحوه عن ابن القاسم. ونقله الباجي عن يحيى ابن سعيد، والمنقول عن مالك: أن ذكاة مثل هذا مستحبة، وهو قريب من الإباحة. حكى ابن المواز عن مالك: إن سبقه كره أكله. ونحوه في المبسوط.

فرع:

وأما إن ألقته الشاة أو نحوها حيّاً فنص مالك وابن كنانة وأصبغ وابن حبيب على أنه إن كان مثله يحيا أكل بالذكاة، وإن كان مثله لا يعيش أو شك في حياته لم يؤكل وإن ذكى؛ لأن موته يحتمل أن يكون من الإزلاق.

ص: 246

وَأَمَّا مَا لا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالْجَرَادِ فَالْمَشْهُورُ: يَفْتَقِرُ وَيَكْفِي قَطْعُ رُؤُوسِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْهَا وَكَذَلِكَ الْحَرْقُ وَالسَّلْقُ عَلَى الْمِشْهُورِ، وَِقيلَ غَيْرُ الْجَرَادِ يَفْتَقِرُ باتِّفَاقٍ

حاصله أن في غير الجراد طريقين، وقد تقدم الكلام على ذكاة الجراد. وما حكاه من الخلاف في السلق نحوه لابن بشير، وهو خلاف ما تقدم من كلام صاحب البيان أنه متفق عليه.

* * *

ص: 247

الأُضْحِيَّةِ فِي وُجُوبِهَا قَوْلانِ

عياض: الأضحية بضم الهمزة وتشديد الياء وأضحية أيضاً بكسر الهمزة، وجمعها أضاحي بتشديد الياء. ويقال الضحية بفتح الضاد المشددة وجمعها ضحايا. ويقال: أضحاة وجمعه أضاحٍ وأضحى سميت بذلك؛ لأنها تذبح يوم الأضحى ووقت الضحى، وسمي يوم الأضحى من أجل الصلاة في ذلك الوقت. كما سمي يوم التشريق على أحد التأويلين، أو لبزور الناس فيه عند شروق الشمس للصلاة. يقال: أضحى الرجل إذا برز للشمس، والشمس تسمى الضحى والضحاء ممدود، أو من الكل منها ذلك اليوم. يقال: تضحَّى القوم إذا تغذوا. وقد تسمى الأضحية من هذا المعنى، وسمي يوم الأضحى لذبح الأضاحي فيه. والمشهور أنها سنة، وللشيوخ في نقل حكمها ثلاث طرق:

أولها: أن المذهب كله أنها سنة. وما ذكر في الروايات مما يوهم خلاف ذلك فراجع إليه. ثانيها: أن المذهب على قولين: السنة والوجوب. ثالثها: يزاد إلى هذين القولين ثالث بالاستحباب.

فرع: والمشهور أن الضحية أفضل من التصدق. قال في المدونة: ولا يدع أحد الضحية ليتصدق بثمنها. ابن حبيب: وهي أفضل من العتق؛ لأن إحياء السنة أفضل من التطوع. وعن مالك: التصدق أفضل.

لأَنَّ فِيهَا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ قَدَرَ أَنْ يُضَحِّيَ، وَفِيهَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَمَنْ كَانَتْ لَهُ أُضْحِيَّةٌ فَأَخَّرَهَا حَتَّى انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ أَثِمَ، وَحُمِلَ عَلَى أَنْهُ كَانَ أَوْجَبَهَا

لما ذكر في الأضحية قولين ذكر كلامه في المدونة لكونه يتضمن القولين؛ لأن قوله: (يُسْتَحَبُّ) نص في عدم الوجوب. وقوله: (أَثِمَ) ظاهر في الوجوب؛ إذ الإثم من خصائصه. وأجيب بثلاثة أوجه:

ص: 248

أولها: أن التأثيم أو الاستغفار في كلامهم ليس خالصاً بالوجوب، بل يطلقون التأثيم كثيراً على ترك السنن، وربما أبطلوا الصلاة ببعض السنن، ويقولون: تارك بعضها يستغفر الله، كما قال مالك في المدونة في تارك الإقامة.

ثانيها: وهو الذي ذكره المصنف أنه محمول على أنه كان أوجبها، وسيأتي بماذا تجب.

ثالثها: أن التأثيم من قول ابن القاسم واجتهاده، وما ذكره من الاستحباب من قول مالك فلا تناقض فيه لاختلاف القائل. واعلم أن هذا الكلام ليس له هنا كبير جدوى؛ لأن القولين منصوصان خارج المدونة، وكلامه يوهم أنه للقولين أصل من كلامه في المدونة وليس كذلك.

وَتَجِبُ بِالْتِزَامِ اللِّسَانِ أَوْ بِالنِّيَّةِ عِنْدَ الشِّرَاءِ عَلَى الْمَعْرُوفِ فِيهِمَا كَالتَّقْلِيدِ وَالإِشْعَارِ فِي الْهَدْيِ، وَبِالذَّبْحِ

لما ذكر أن مسألة المدونة حملت على الوجوب أخذ يبين بماذا تجب، وذكر أنها تجب بثلاثة أمور: اثنان مختلف فيهما، والثالث متفق عليه.

فالأولان: الأول منهما: التزام اللسان؛ أي: مع النية وإلا فاللفظ وحده يكفي. والثاني: النية مع الشراء، ولا يريد خصوصية الشراء بل فعل مع النية أي فعل كان، وذكر أن هذا هو المعروف. وفي الجواهر: إذا قال جعلت هذه الشاة أضحية تعينت. وحكى القاضي أبو الوليد في المذهب قولاً بأنها لا تجب إلا بالذبح. انتهى.

وفي قوله: "حكى الباجي" قولاً. نظرٌ؛ لأنه المذهب عند الباجي، ففي الباجي: ولا تتعين الأضحية بشرائها لذلك على سبيل الوجوب، وإنما تتعين على سبيل الوجوب بالذبح. وقال إسماعيل: وقبل فري الأوداج؛ لأنه قد وجد منه النية والفعل. وقد قال إسماعيل وجماعة من شيوخنا: تتعين بالنية والقول باللسان، وتجب بذلك كما تجب

ص: 249

بالذبح، ويكون ذلك فيها كالإشعار والتقليد في الهدي. انتهى. وفي البيان: لا تجب عند مالك بالتسمية. وقد قال إسماعيل القاضي: إذا قال: "أوجبتها أضحية" تعينت. [230/ب] وهو بعيد. ولا تتعين عند مالك إلا بالذبح، قال: وقال إسماعيل: لا يلزمه بدلها إذا تعينت. وفي المقدمات: لاتجب إلا بالذبح بخلاف الهدي الذي يجب بالتقليد والإشعار.

وقد روى ابن القاسم عن مالك في العتبية ما يدل على أنها تجب بالتسمية قبل الذبح فقال: لا تُجَزُّ الضحية بعد أن تسمى، فإن فعل انتفع بصوفها ولم يبعه. وقال سحنون: أشهب: لا بأس ببيعه إذا جزه قبل الذبح، وخفف ذلك.

أصبغ: وهو الذي يأتي على أنها لا تجب إلا بالذبح، وهو المشهور في المذهب. انتهى. فصرح بأن المشهور عدم تعيينها بالتسمية، وحمل في البيان رواية ابن القاسم على الاستحباب. وفي التنبيهات: وقولُه في المدونة- في الذي إذا ذبح أضحيته، فاضطربت فانكسرت رجلها أو أصابت السكين عينها-أنها لا تجزئه ظاهرٌ بين أنها لا تتعين بالنية والقصد والتسمية إلا بذكاتها؛ إذ ليس في التعيين أوضح من إضجاعها للذبح، خلاف ما ذهب إليه البغداديون من أنه إذا عينها أضحية تعينت كالهدايا، ولم يجز له بدلها، ولم يضره ما حدث بها من عيب. انتهى.

وقال ابن يونس بعد قول إسماعيل: وهذا القول أحسن غير أن ظاهر قول مالك خلافه. وقد قال في الموازية فيمن اشترى أضحيته سليمة وأوجبها، فلم يذبحها حتى نزل بها عيب لا تجوز به في الضحايا: أنها لا تجزئه بخلاف الهدي بعد التقليد والإشعار، وذلك أن الضحايا لا تجب إلا بالذبح. انتهى. وفي الذخيرة: المشهور أنها لا تتعين إلا بالذبح أو بالنذر. وعلى هذا قول المصنف المعروف ليس بجيد؛ لأن المعروف خلافه. وقوله: (وَبِالذَّبْحِ) معطوف على قوله: (بالْتِزَامِ اللِّسَانِ) أي: وتجب بالذبح، وهذا هو الثالث ولا خلاف فيه.

ص: 250

وَإِذَا لَمْ يُوجِبْهَا جَازَ بَدَلُهَا بِخَيْرٍ مِنْهَا لا بِدُون وَلعَلَّهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَإِلا فَمُقْتَضَاهُ جَوَازُ التَّرْكِ

قوله: (بخَيْرٍ مِنْهَا) يريد: أو مثلها، ولفظ التهذيب: وله أن يبدل أضحيته بمثلها أو بخير منها. قلت: فإن باعها واشترى دونها، ما يصنع بها وبفضلة الثمن؟ قال: قال مالك: لا يجوز أن يستفضل من ثمنها شيئاً، وأنكر الحديث الذي جاء في مثل هذا. وتعقب على البرادعي بأنه لم يقل في الأم: يبدلها بمثلها، وإنما قال: لا يبدلها إلا بخير منها، وإن كان إبدالها بمثلها جائزاً لكن لا ينبغي للمختصر أن يزيد شيئاً، ولعل المصنف إنما اقتصر على قوله:(بِخَيْرٍ مِنْهَا) لهذا، وينبغي أني كون إبدالها بخير منها مستحبّاً. وقول المصنف:(وَلَعَلَّهُ) أي: ولعل منعه إبدالها بدون على الكراهة.

قوله: (وَإِلا فَمُقْتَضَاهُ) يحتمل أمرين: أولهما: وإلا فبمقتضى مشهور المذهب جواز تركها رأساً. والثاني: وإلا فبمقتضى عدم إيجابها جواز الترك، ووقع في بعض النسخ:(البدل) عوض (التَّرْكِ).

وأشار ابن عبد السلام إلى أنه لم يصرح في المدونة بما أراده المصنف من أنه كره لمن باع أضحيته أن يستفضل بعض ثمنها؛ لاحتمال أن يكون تكلم على من عين ثمناً ليشتري به أضحية ثم اشترى بدون ذلك الثمن واستفضل بقيته، بل هذا أولى من الأول، وفيه جاء حديث حكيم بن حزام الذي أشار إليه في المدونة والعتبية، ولأجل الاحتمال المذكور، واختصر البرادْعي المسألة على الجواب والسؤال، وهكذا الغالب من حاله في مثل هذا.

وقد يقال: إن الكراهة فيما ذكره المصنف على الاحتمالين؛ لأنه إذا كره أن يستفضل من الثمن الذي أخرج ثمناً للأضحية، فلأن يكره بيع الأضحية ليستفضل من ثمنها من باب الأولى. انتهى. وحديث حكيم المشار إليه هو ما خرجه الترمذي: أنه صلى الله عليه

ص: 251

وسلم بعثه ليشتري له أضحية بدينار، فاشترى أضحية فاربح فيها ديناراً، فاشترى أخرى مكانها، فجاء بالأضحية والدينار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"ضحِّ بالشاة وتصدق بالدينار". ابن القاسم: وأنكر مالك هذا الحديث.

وَلَوْ مَاتَ اسْتُحِبَّ لِوَرَثَتِهِ، بِخِلافِ مَا أَوْجَبَ فَإِنَّهَا تُذْبَحُ

استحب للورثة الذبح؛ لأن فيه تنفيذ قصد الميت كما في سائر القرب التي مات ولم ينفذها. ابن عبد السلام: قال بعضهم: ولا خلاف في ذلك. انتهى. وفي الجواهر: استحب ابن القاسم أن يذبح عنه، ولم يره أشهب. انتهى. وانظر هل قول أشهب ينقض الاتفاق، أو الاتفاق راجع إلى الاستحباب من حيث الجملة. وخلاف أشهب إنما هو راجع إلى الاستحباب عن الميت.

وقوله: (بِخِلافِ مَا أَوْجَبَ) أي: فيجب عليهم ذبحه بناء على ما قدمه من أنها تجب، لا على المشهور.

ثُمَّ فِي جَوَازِ قِسْمَتِهَا أَوِ الانْتِفَاعِ بشَرِكَةٍ قَوْلانِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ تَمْييزُ حَقٍّ أَوْ بَيْعٍ ....

الباجي: وتورث الأضحية بعد الذبح، ولورثته أكلها. ولاخلاف بين أصحابنا أنهم يمنعون من بيعها؛ لأنها إنما تنقل إليهم على حسب ما كان للمضحي فيها، وأما قسمتها فروى مطرف وابن الماجشون عن مالك وعيسى عن ابن القاسم إجازة ذلك، ومنع منه في كتاب محمد، قال: لأنه يصير بيعاً بناء على اختلاف قول مالك وأصحابه في قسمة القرعة هل هي بيع أو تمييز حق؟ وأما قسمة التراضي فبيع، وهكذا فرض التونسي المسألة بعد [231/أ] الذبح، ونسب لابن القاسم أنها تؤكل، ولاتقسم على المواريث، ولأشهب القسم، قال: وقول ابن القاسم أِبه؛ لأنه قد وجبت قربة بالذبح، واتفق على

ص: 252

أنها لا تباع في الدين، فأشبهت الحبس، فينتفع بها الورثة، غير أنهم جعلوا لجميع الورثة من زوجة وغيرها في ذلك حقّاً؛ لأن الميت هكذا قصد، ولا يصح أن يزيد بعض الورثة في فرضه على الانتفاع بها، ويكون على هذا حظ الأنثى مثل حظ الذكر إذا تساويا في الأكل. وأشهب يقسمها على المواريث، ولا يقضي منها دينه، وكيف يصح ميراث قبل قضاء الدين؟ انتهى.

وإذا كان الخلاف إنما نقله الأشياخ إذا مات بعد الذبح علمت أن كلام المصنف ليس كما ينبغي؛ لأن كلامه إنما هو فيما قبل الذبح، وقد أجراه ابن عبد السلام على ظاهره، فقال: يعني إذا مات بعدما أوجبها أضحية، وضحى بها الورثة عنه واستحب لهم ذبحها، أو مات بعد ذبحها فاختلف. وذكر القولين، ولم أر القولين إلا فيما ذكرته، وكذلك ذكر اللخمي وابن يونس وابن شاس وغيرهم.

وَتُبَاعُ مُطْلَقاً فِي الدَّيْنِ كَمَا يُرَدُّ الْعِتْقُ وَالْهَدْيُ

مراده بالإطلاق سواء أوجبها أم لا، وهذا ما لم تذبح، فإن ذبحت لم تبع، نص عليه مالك في المختصر والواضحة وابن القاسم في العتبية. التونسي: وإذا كان للغرماء بيعها قبل ذبحها فلم لا يبيعون اللحم؟ لأنه يصير متعدياً بالذبح وقد أحاط الدين بماله فأشبه ما لو أعتق وقد أحاط الدين بماله، فللغرماء رد عتقه، وإن كانوا عاملوه على أن يضحي، فليس لهم بيعها قبل الذبح. فانظره.

وما ذكره المصنف في الهدي- أي: بعد تقليده- نقله الباجي عن ابن القاسم، وقيده ابن زرقون بالدين القديم قبل التقليد. الباجي: والفرق بين تقليد الهدي وذبح الأضحية أن التقليد لا يضمن به الهدي، والذبح تضمن به الأضحية فكان ذلك فوتاً فيها.

ص: 253

وَما أَخَذَهُ عَنْ عَيْبٍ لا تُجْزِئُ بِهِ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ

أي: إذا اشترى أضحيته ووجد بها عيباً لا تجزئ معه أضحيته، فأخذ شيئاً عن ذلك العيب فإنه يصنع به ما شاء. قال في العتبية: ويبدل مكانها إن كان في أيام النحر، وإن فاتت فهو كمن لم يضحِّ. فالضمير في (بِهِ) عائد على (مَا)، وفي بعض النسخ:(صنع بها) فيعود الضمير على الأضحية، والنسخة الأولى أحسن؛ لأن فرض المسألة فيما أخذه عن عيب لا في الأضحية، إلا أن يقال: ذكر الأضحية يستلزم الحكم في العيب؛ لأنه إذا صنع بالأضحية ما شاء فأحرى المأخوذ عن عيب وفيه نظر. ويلزم عليه أيضاً مخالفة المذهب؛ لأن المنقول عن مالك عدم جواز بيعها لكونها خرجت مخرج القرب، وإنما هو قول أصبغ، ووجهه أنه إنما التزامها أضحية، والفرض أنها لا تجزئ كما لو ضلت ووجدها بعد أيام النحر.

ولو ذبحت قبل ذبح الإمام فقال ابن القابسي: لا يجوز بيعها ولو كانت لاتجزئ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة في العناق: "هي خير نسيكتك"، فسمي ما أجزاه وما لم يجزه نسكاً. ومن الشيوخ من قال بجواز البيع، وإنما أطلق على ما لم يجزه نسكاً باعتبار قصد الذابح. ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"ومن ذبح قبل الإمام فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء". ونص ابن القاسم على منع بيع ما ذبح من الأضاحي يوم التروية، وأنكر ابن رشد بعد تسليمه مذهب ابن القاسم. ونص ابن حبيب على منع بيع شاة أضجعت للذبح فانكسرت رجلها أو أصابتها السكين في عينها. ونص التونسي على منع البيع في قح من جهل فضحى بذات عيب، أو وجد بها عيباً بعد أن ضحى بها، واضطرب الأندلسيون فيمن اشترى أضحيته فذبحها فوجدها عجفاء لا تنقي، هل له في ذلك مقال ويردها مذبوحة إن شاء، أو ليس له ردا ويأخذ قيمة العيب خاصة؟ ووقع في بعض النسخ:(صنع بهما ما شاء) فيكون الضمير عائداً على الأرش والأضحية، وهو ظاهر مما تقدم.

ص: 254

وَعَنْ عَيْبٍ تُجْزِئُ بِهِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فَكَلَحْمِهَا، وَفِي أَمْرِهِ بذَلِكَ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَةِ قَوْلانِ

هذا كقول ابن بشير: وإن كانت تجزئ به. فأما هي تبقى أضحية، وأما المأخوذ؛ فإن أوجبها على ما قلناه تصدق به، أو أكله كما يصنع بلحمها بعد الذبح، وإن لمي وجبها فهل يؤمر بالصدقة، أو يفعل به ما شاء؟ في المذهب قولان:

أحدهما: أنه كالجزء فيؤمر بالصدقة أو الأكل، والثاني: أنها لا تجب، فيصنع به ما شاء.

ابن راشد: وكذلك إذا أتلفها الأجنبي فأخذ منه قيمتها، فيختلف: هل عليه أن يشتري به غيرها، أو يفعل به ما شاء؟ انتهى. والذي نص عليه ابن القاسم في الواضحة من رواية أصبغ، وهو قول أصبغ: أنه إذا وجد عيباً تجزئ بمثله بعد الذبح، أنه يتصدق بالثمن. ابن القاسم: وذلك بخلاف ما يرجع به من قيمة عيب بعبد قد أعتقه، هذا يصنع به ما شاء، وإن كان عيباً لا تجزئ بمثله؛ أي: في الرقاب الواجبة. ابن يونس: يريد إذا كان تطوعاً لأنه يجوز عتق المعيب دون الضحية به، وظاهر قول ابن القاسم أنه يتصدق به خاصة، [231/ب] ولا ينتفع به كلحمها.

ابن عبد السلام: وهذا خلاف ما قال المؤلف، إلا أن يتأول كلامه على حذف مضاف؛ أي: فكثمن لحمها إذا بيع كما سيأتي.

خليل: والظاهر أنه لا يريد هذا المحذوف؛ لأنه يغلب على الظن أنه تبع هنا.

ابن بشير: ولأنه حذف ما لا دليل عليه. فإن قيل: ما الفرق بين الأضحية والعبد على قول ابن القاسم؟ فجوابه من وجهين:

أولهما: أن المقصود في الضحية إنما هو القربة فإذا أخرج فيها ثمناً لم يرجع فيه، بخلاف العبد فإنه قد يراد لمعنى فيه فالمقصود فيه إنما هو فكاك رقبته وقد حصل.

وثانيهما: ما أشار إليه بعضهم من أن ذلك خلاف سؤال؛ لأنه في الأضحية أخرج الثمن لقصد القربة، وفي مسألة العبد إنما اشتراه ليملكه وبعد الشراء أعتقه، ولو اشتراه

ص: 255

بنية العتق لكان كالضحية فيتصدق بالأرش، كما أنه لو اشترى الشاة ليملكها ثم ضحى بها لم يؤمر بالصدقة بقيمة العيب. قال في الوجيز: وإن ابتاع أضحية فلما ذبحها ظهر على عيب دلس به البائع، فقال أبو عمران: يرجع عليه بقيمة العيب. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن: يردها عليه ويرجع بالثمن كله ويشتري به أضحية، فإن فضل منه شيء فعند ابن المواز يتصدق به، وعند أشهب يأكله. انتهى.

وَحُكْمُ لَبَنِهَا وَصُوفِهَا وَوَلَدِهَا كَذَلَِكَ

أي: فيفرق بين ما أوجبه وما لم يوجبه. وتبع المصنف ابن بشير في هذا والنقل لا يساعدهما. ففي المدونة: لم أسمع من مالك في لبنها شيئاً، إلا ما أخبرتك أنه كره لبن الهدي، وقد روي في الحديث:"لا بأس بالشرب منه بعد ري فصيلها"، فإن لم يكن للأضحية ولد فأرى ألا يشربه، إلا أن يضر بها فليحلبها وليتصدق به، ولو أكله لم أرَ عليه شيئاً، وإنما أنهاه عنه، كما أنهاه عن جز صوفها قبل ذبحها.

ابن عبد السلام: وظاهرها الكراهة إذا لم يكن لها ولد، وهي أحرى إذا كان لها ولد. وعن مالك له شربه بخلاف لبن الهدي؛ لأن الأضحية لم تجب بعدُ بخلافه.

اللخمي: وقال أِهب في مدونته: يصنع باللبن ما شاء، وله أن يحرمه ولدها. ولمالك في المبسوط: التفرقة؛ فيكره شربه إذا كان لها ولد، ويجوز إذا لم يكن. هذا تحصيل القول في اللبن.

وأما الصوف ففي المدونة: لا يجوز جز صوفها قبل الذبح، ولا يبيع من أضحيته لحماً ولا جلداً ولا شعراً ولا غيره. ابن المواز: إلا في الوقت الذي ينبت مثله قبل الذبح. اللخمي: وحكم الصوف بعد الذبح كحكم الأضحية، وأما قبله فاتفق ابن القاسم وأشهب على أنه ليس له أن يجزه؛ لأن فيه جمالاً لها، واختلفا إذا فعل فقال ابن القاسم: ينتفع به ولا يبيعه. وقال أشهب وسحنون: يبيعه. والأول أحسن؛ لأنه قد نواه مع الشاة

ص: 256

لله عز وجل. واستحب أني بيع تلك الشاة إذا جز صوفها، ويشتري غيرها كاملة الصوف؛ لأن ذلك الذي فعل نقص من جمالها. قال صاحب البيان وابن زرقون: وقول ابن القاسم: استحباب؛ لأنها لا تجب عنده إلا بالذبح. وقد صرح التونسي بذلك فقال: استحب ابن القاسم ألا يبيعه. وعلى هذا فقوله: لا يجوز ليس معناه أنه حرام، بل معناه: لا يباح. نقل الباجي وابن يونس عن أشهب جواز الجز قبل الذبح، ونحوه لابن نافع.

ابن عبد السلام: ومذهب ابن نافع كراهة شرب لبنها، وهو اختلاف قول. وقال عبد الحميد: إن اشترى شاة ونيته أن يجز صوفها للبيع وغيره، جاز ذلك سواء جزه قبل الذبح أو بعده، وهو تقييد لقول من منع من ذلك إن شاء الله تعالى. وهذا تحصيل القول في الصوف.

وأما الولد فإن خرج بعد الذبح فسيأتي، واختلف إن خرج قبله؛ فالمشهور استحباب ذبحه كما سيأتي، وقال ابن وهب: يجب ذبحه. وقال ابن حبيب: إن شاء ذبحه وإن شاء تركه. وقال أشهب: لا يذبحه ولا يجوز. هكذا نقله التونسي والباجي واللخمي.

الباجي: يريد لأن سن الأضحية معتبر وهو معدوم في السَّخْلَة، وهكذا قال ابن شاس وغيره. وقول ابن عبد السلام: ورأيت لفظة "لا يجوز" مضروباً عليها في نسخة صحيحة من النوادر؛ إن أراد بذلك مجرد الإخبار دون أن يقصد تضعيف نقل هذا القول فظاهر، وإن أراد تضعيف نقله فليس بجيد؛ لأن أئمة المذهب قد نقلوا ذلك، فيجب الرجوع إليهم. ونقل ابن يونس عن ابن المواز أن قال: واستحب أشهب ألا يذبح معها.

وَفِيهَا: وَلا يَجِبُ ذَبْحُهُ إِنْ خَرَجَ قَبْلَ ذَبْحِهَا؛ لأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهَا لَوْ هَلَكَتْ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ تُمْحَى، وَالأَوَّلُ الْمَشْهُورُ

ظاهر كلامه أنه اختلف قول مالك، فكان أولاً يقول بعدم الوجوب، ثم أمر بمحوه ورجع إلى وجوب الذبح، وليس كذلك، بل الذي أمر بمحوه وإبقائه شيء واحد. قال في

ص: 257

التهذيب: إذا ولدت الأضحية فحسن أن يذبح ولدها معها، وإن تركه لم يكن ذلك عليه واجباً؛ لأن عليه بدل أمه لو هلكت. ابن القاسم: ثم عرضتها عليه فقال: امح واترك، إن ذبحه معها فحسن. ابن القاسم: ولا أرى ذلك عليه واجباً. واستشكل الشيوخ هذا الموضع؛ لأن الذي أمر بمحوه هو قوله: "لا أرى ذلك عليه واجباً"، والذي أبقاه هو قوله:"إن ذبحه معها فحسن" سواءٌ في [232/أ] الدلالة على عدم الوجوب، وأشار التونسي إلى أن اقتران عدم الوجوب دليل على ضعف ذلك الاستحسان، بخلاف ما إذا أبقى قوله:"فحسن أن يذبح معها ولدها" مجرداً عن عدم وجوب الذبح، فإنه قد يفهم منه تأكيد ذلك الاستحسان، وهذا التأكيد هو الذي رجع إليه مالك، والمعنى الآخر هو الذي رجع عنه، وهو الذي اختاره ابن القاسم. فلذلك أثبت اللفظ الدال عليه، فقال: لا أرى ذلك عليه واجباً.

فائدة:

ممحوات المدونة أربع: هذه، ونكاح المريض إذا صح قبل الفسخ، كان مالك أولاً يقول: يفسخ، ثم أمر بمحو الفسخ، والثالثة: إذا حلف ألا يكسو امرأته، فافتكَّ لها ثياباً من رهن، فقال مالك أولاً: يحنث، ثم أمر بمحوه، وقال: لا يحنث. قال ابن القاسم: وأرى إن لمتكن له نية أن يحنث. الرابعة: من سرق ولا يمين له أو له يمين شَلَاّء، فقال مالك: تقطع رجله اليمنى، ثم أمر بمحوه وأمر أن تقطع يده اليسرى.

أَمَّا لَوْ ذُبِحَتْ فَكَلَحْمِهَا

أي: إذا خرج الولد بعد الذبح فحكمه حينئذٍ كلحمها.

ابن هارون: وهذا متفق عليه؛ لأنه كالجزء منها.

ص: 258

وَلَوْ أَصَابَهَا عِنْدَهُ عَوَرٌ وَنَحْوُهُ لَمْ تُجْزِهِ، بِخِلافِ الْهَدْيِ بَعْدَ التَّقْلِيدِ

لا إشكال في هذا على القول بعدم الإيجاب، وأما على قول القاضي إسماعيل: إذا أوجبها فلا، كما تقدم. ابن رشد: وهو بعيد؛ لأنه يلزم عليه إن ماتت قبل أن يذبحها أن تجزيه، ولا يكون عليه أن يعيد ضحية أخرى. انتهى.

ولولا النقل لأمكن أن يقال هنا بوجوب البدل ولو قلنا بالتعيين، والفرق بين الإيجاب ي الضحية والتقليد أن التعيين في الهدي ليس من جهة المكلف، وإنما هو شيء أمر به المكلف فصار بذلك كأنه وجب معيناً، والأصل في المعين عدم البدل، وأما التعيين في الأضحية، فإنما جاء من قبل نفسه فلا يسقط ما طلبه الشارع من طلب شاة سليمة من العيوب، ويوضح لك هذا أنه لو اشترى بعيراً وتلفظ بأن يجعله هدياً، ثم أصابه عيب قبل تقليده، فإنه لا يجزيه؛ لأن ذلك ليس مما طلبه الشارع منه، ولقائل أن يلتزم ذلك على قول القاضي. قد قال ابن شاس: وإن قال ابتداء: جعلت هذه الشاة ضحية وهي معينة، فهل تصرف إلى مصارف الضحية، أو يعوض بها سليمة؟ فيها الخلاف المتقدم في الهدي، وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أضحي عرجاء، فهل تلزمه سليمة أولا تلزمه إلا العرجاء؟ فيه الخلاف المتقدم.

وَكَذَلِكَ لَوْ ضَلَّتْ إِلَى أَنِ انْقَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَوَجَدَهَا صَنَعَ بهَا مَا شَاءَ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَبَسَهَا إِلا أَنَّ هَذَا إِثْمٌ ....

يعني: ولكونها لا تتعين يكون الحكم كذلك، فالإشارة بذلك إلى عدم التعيين اللازم من وجوب بدلها إذا طرأ بها عيب. قال في المدونة: وإن وجدها في أيام النحر فليذبحها، إلا أن يكون قد ضحى ببدلها فيصنع بها ما شاء. قيل: وينبغي على قول القاضي إسماعيل الذي يرى أنها تجب بالنية. والقول: أن يذبحها إذا وجدها في أيام النحر ولو كان ضحى

ص: 259

بغيرها، قال هذا القائل: وكذلك إذا مضت أيام النحر، وتقدم الكلام على قوله:(إثم) وفي بعض النسخ (ولذلك) باللام.

وَلَوِ اخْتَلَطَتْ بَعْدَ الذَّبْحِ أَوْ جُزْؤُهَا فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ قَوْلانِ

ظاهر قوله: (فَفِي جَوَازِ أَخْذِ الْعِوَضِ) أنه لا فرق في العوض بين أن يكون من الجنس أو من غيره. وظاهره أن القولين فيها بالجواز والمنع، ولم أرَ في الجنس قولاً بالجواز، بل القولان فيه بالكراهة والتحريم. ففي اللخمي: قال يحيى بن عمر في رجلين أمرا رجلاً أن يذبح لهما فاختلطا بعد الذبح: أنهما يجزيان من الضحية ويتصدقان بهما، ولا يأكلان منهما شيئاً. وقال محمد بن المواز في رؤوس الأضاحي تختلط عند الشواء: أكره لك أن تأكل متاع غيرك، ولعل غيرك لا يأكل متاعك.

محمد: ولو اختلطت برؤوس الشواء لكان خفيفاً؛ لأنه ضامن كمن ضمن لحم الأضاحي، وقد قيل: ليس له طلب القيمة.

اللخمي: فعلى قول محمد يجوز إذا اختلطت الشاتان أن يأكلاهما؛ لأنه إنما كره أكل الرأس لإمكان أن يكون الآخر تصدق به ولم يأكله، فلا تأكل أنت متاعه، وهذا استحسان. واعترض عبد الحق قول يحيى وقال: ما أرى المنع من أكلها، وهي شركة ضرورية تشبه شركة الورثة في أضحية مات صاحبها. وأما القولان في أخذ العوض من غير الجنس، فلم أر فيه قولاً بالمنع نعم هو يلزم على قول يحيى؛ لأنه إذا منع أخذ العوض من الجنس فالمنع في غيره أولى.

وعن ابن القاسم: استحب لمن سرقت رؤوس أضاحيه ألا يغرمه شيئاً. وكأنه رآه بيعاً. وقال ابن الماجشون وأصبغ: له أخذ القيمة ويصنع بها ما شاء، ألا ترى أن من حلف ألا يبيع ثوبه فيغصبه غاصب، أن له أن يأخذ قيمته. وما احتج به من قوله:"ألا ترى أن من حلف .... إلى آخره" ليس متفقاً عليه، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى. وقال عيسى بن دينار: أحب إلي أن يأخذ الثمن من السارق، ويتصدق به، ونحوه لابن القاسم فيمن

ص: 260

أعطى جلداً للدبَّاغ، فادعى السرقة، إن كان يثق به فلا يأخذ منه شيئاً، وإن كان يتهمه أخذ منه قيمته وتصدق بها. ومنشأ الخلاف: هل القيمة بيع أم لا؟ [232/ب] واستشكل في البيان قول من قال باستحباب التصدق بأن أخذ القيمة إن لم يكن بيعاً فلا وجه لاستحباب التصدق بها، وإلا فلا يجوز ذلك، وإن تصدق بها لأنه لا يجوز أني بيع الإنسان شيئاً من أضحيته ليتصدق بثمنه.

وَأَمَّا قَبْلَهُ فَالْمَنْصُوصُ إِذَا قُسِمَتْ فَأَخَذَ الأَقَلَّ بَدَّلَهُ بِمُسَاوِي الأَفْضَلِ، وَقُيِّدَ بِالاسْتِحْبَابِ

أي: وأما إن اختلطت قبل الذبح إن تساويا فواضح، وإن لم يتساويا فمن أخذ الأفضل ذبحه، ومن أخذ المفضول استحب له أن يبدله بما يساوي الأفضل. وإليه أشار بقوله:(بِمُسَاوِي الأَفْضَلِ). ومعنى (الْمَنْصُوصُ) المنقول، وليس مراده بذكر المنصوص التنبيه على خلاف، ولأجل أن مراده بالمنصوص المنقول قال:(وَقُيِّدَ) وهو ظاهر.

ابن بشير: والإبدال بالمساوي ظاهر إذا عينها، وأما إذا لم يعين فإنما ذلك على طريق الاستحباب. انتهى. ونقل ابن يونس عن ابن عبد الحكم أن الضحايا إذا اختلطت فال بأس أن يصطلحا فيها؛ يأخذ كل واحد كبشاً ويجزيه. فقد يقال: هذا مخالف لكلام المصنف؛ لأن ظاهره سواء كانا متساويين أو لا، وعلى هذا فهمه بعضهم، ويحتمل أن يكون أراد المتساويين فلا يكون مخالفاً، والله أعلم.

فَلَوْ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ غَالِطاً لَمْ تُجْزِئْ مَالِكَهَا، وَالْمَشْهُورُ: وَلَا الذَّابِحَ، وَثَالِثُهَا: إِنْ فَاتَتْ قَبْلَ تَخْييرِ مَالِكَهَا أَجْزَأَتْ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِنِ اخْتَارَ مَالِكُهَا الْقِيمَةَ أَجْزَأَتْ كَعَبْدٍ أُعتِقَ عَنْ ظِهَارٍ فَاسْتُحِقَّ

إنما لم تجز مالكها لعدم نيته ونية موكله.

خليل: ولم أرَ في ذلك خلافاً. وأما الذابح ففي إجزائها عنه أقوال:

ص: 261

المشهور: لا تجزئ لوقوع القربة في غير محل، وهو أحد قولي أشهب. والثاني: أنها تجزيه، وهو أحد قولي أشهب؛ لأن أخذ القيمة يحقق له الملك بناء على أن المرتقبات إذا وقعت، هل يقدر حصولها الآن أو من الأول؟

والثالث لابن حبيب: إن كانت على وجه لا يكون لمالكها إلا أخذ قيمتها أجزأت؛ لأنه حينئذٍ يصير كأنه ضحى بملكه، وإن بقي لربها فيها خيار لم تجزئ؛ لأن ذابحها كأنه إنما ملكها بعد الذبح. وأما قول ابن المواز أنها تجزئ إذا أخذ ربها قيمتها، فهو تفسير لقول أشهب، وهو كذلك في المدونة؛ إذ لا يمكن أن يقول أشهب بالإجزاء إذا اختار ربها أخذ لحمها. ولذلك لم يعده المصنف رابعاً.

وكذلك أيضاً أشار ابن المواز إلى أن قول ابن القاسم بعدم الإجزاء إنما هو إذا أخذ لحمها، وأما إذا أخذ قيمتها فإنها تجزيه.

ابن المواز: وإن أسلمها وأخذ قيمتها، فابن القاسم يقول: لا تجزئ الذابح، ولا له بيع لحمها، ويأكله أو يتصدق به، وقاله أصبغ. وهذه من كتب المجالس لم تتدبر، وأحب إليَّ أن تجزئ عنه، كعبد اشتراه وأعتقه عن ظهار، ثم استحق بعد أن شهد شهادات، ونكح وطلق فأجاز ربه العتق، فإنه يجزئ معتقه وتنفذ شهادته وجميع أحكامه، وإن نقض عتقه بطلت أحكامه. وقد يفرق للمشهور بأن مشتري العبد كالمالك حقيقة عند الفقهاء، ويعطونه جميع أحكامه، وقد ضمنه بدفعه الثمن بخلاف الغالط، ولهذا قال عبد الحق: ولو اشترى الأضحية وذبحها ثم استحقت، فأجاز ربها البيع، لأجزأته وصارت كالعتق سواء لفعله ذلك بشيء ضمنه بالعوض الذي وداه. واختلف لو غصب شاة وذبحها وأخذ ربها القيمة منه، هل تجزئه لأنه ضمنها بالغصب أم لا؟ لأن هذا ضمان عداء وذلك ضمان ملك. عبد الحق: والأول أبين على طرد العلة.

ص: 262

ابن عبد السلام: وحيث أخذها مالكها مذبوحة تصرف فيها كيف شاء. انتهى. ولا يقال إن قول ابن المواز موافق لقول ابن الحبيب؛ لأنه يظهر الفرق بينهما إذا لم تفت، واختار مالكها القيمة، فعلى قول ابن حبيب لا تجزئ، بخلاف قول محمد.

وَشَرْطُهُا: أَنْ تَكُونَ مِنَ النِّعَمِ، وَفِيمَا تَوَلَّدَ مِنَ الأُنْثَى مِنْهَا قَوْلانِ

احترز بالنعم من الطير والوحش. والنعم: الإبل والبقر والغنم.

ابن شعبان: ولا يختلف المذهب أن الإناث إذا كانت من غير النعم لا تجزئ، وإن كانت منها فقولان. قال: والذي أقول به الجواز؛ لأن أكثر الأحكام على أن الولد تابع لأمه. وانظر هل يتخرج قول بجواز الضحية إن كانت الأم وحشية من القول بوجوب الزكاة في ذلك كما تقدم في الزكاة.

وَالأَفْضَلُ الضَّانُ ثُمَّ الْمَعْزُ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ الإِبِلِ عَلَى الْبَقَرِ أَوْ الْعَكْسِ قَوْلانِ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ ذُكُورِهَا أَوِ التَّسَاوِي قَوْلانِ، وَكَذَلِكَ الْفَحْلُ وَالْخَصِيُّ وَالاقَرَنُ وَالأَبْيَضُ أَفْضَلُ

الغنم في الضحايا أفضل؛ لفعله صلى الله عليه وسلم، وبها فدي الذبيح ولد إبراهيم عليه السلام، وهو أصل مشروعية الأضحية. ونقل الحفيد عن أشهب وابن شعبان أن الإبل أفضل من الغنم كمذهب الشافعي. والخلاف فيما بين البقر والإبل خلاف في حال، هل هذا أطيب أم هذا؟ والظاهر طيب البقر، وهو قول الجلاب وعبد الوهاب في المعونة، واستقرأه صاحب البيان من العتبية. والقائل بأن الإبل أفضل هو ابن شعبان.

وظاهر المذهب تفضيل الذكور. وفي المبسوط الذكر والأنثى في الضحية والهدي سواء. وكذلك الفحل على الخصي، وهو مذهب الرسالة، وحكى ابن بزيزة قولاً بأن الخصي أفضل من الفحل لطيب لحمه. وإناث الجنس الفاضل أفضل من ذكور الجنس

ص: 263

الذي يليه، وإناث المعز أفضل من ذكور [233/أ] البقر. وعلى هذا فالمراتب اثنتا عشرة مرتبة ولا تخفى عليك.

وخرج مسلم وأبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد، فأتي به ليضحي فقال:"يا عائشة هلمي المدية"، ثم قال عليه الصلاة والسلام:"اشحذيها بحجر"، ففعلت، ثم أخذها وأخذ الكبش وأضجعه ثم قال:"بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد"، ثم ضحى به. زاد النسائي: ويأكل في سواد. ولهذا قال ابن وهب: استحب جماعة من الصحابة والتابعين الضحية بكبش عظيم سمين أقرن أملح، ينظر في سواد ويسمع في سواد ويشرب في سواد، والجمهور على اختيار التسمين، وفي البخاري عن أبي أُمامة: كنا نسمِّن الأضحية بالمدينة. وكره ذلك ابن شعبان لئلا يتشبه باليهود. وروى البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أٌرنين أملحين. والأقرن أن يكون ذا قرون.

ابن عبد البر: وأجمع الجمهور أنه لا بأس أن يضحي بالخصي إذا كان سميناً، قالوا: والأقرن الفحل أفضل من الخصي الأجم، إلا أن يكون الخصي الأجم أسمن فهو أفضل. وكذلك قال ابن حبيب: الخصي السمين أفضل من الفحل المهزول. والأملح قيل: هو كلون الملح فيه طاقات سود. وقيل: هو الأسود تعلوه حمرة. وقيل: هو المتغير الشعر بالسواد والبياض كالشهبة. وقال ابن الأعرابي: هو النقي البياض. وهو يوافق ما ذكره المصنف من تفضيل الأبيض. ويحتمل أن يكون مراد المصنف بالأبيض ما تقدم أن الصحابة استحبوه، ويكون أطلق عليه أبيض باعتبار غالبه.

وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْجَذَعُ مِنَ الضَّانِ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِه

لما خرجه مسلم وأبو داود والنسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن".

ص: 264

وَأَكْمَلُهُ الْجَوْدَةُ وَالسَّلامَةُ مُطْلَقاً، وَلا تُجْزِئُ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، والْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضَلَعُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الْتِي لا تُنْقِي؛ أي: لا مُخٌّ فِيهَا، وَقِيلَ: لا شَحْمَ ....

لا إشكال في أفضلية الكامل، وكره مالك تغالي الناس في الضحايا، وكره لرجل يجد بعشرة دراهم أن يشتري بمائة درهم. وفي الموطأ وغيره عن البراء بن عازب: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا ينقى في الضحايا؟ فأشار بيده وقال: "أربع"، وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم "العرجاء البيِّن ضلعها، والعوراء البيِّن عورها، والمريضة البيِّن مرضها، والعجفاء التي لا تُنْقِي".

ابن عبد البر: وهذه العيوب مجمع عليها. عياض: وضلعها بفتح الضاد واللام.

أبو الحسن: وروي بالظاء المشالة؛ أي عرجها، وهي التي لا تلحق الغنم. ابن حبيب عن مالك: وأما العرج الخفيف إذا لم يمنع أن تسير بسير الغنم فلا يمنع الإجزاء.

والبين عورها هي التي ذهب بصر أحد عينيها، وإن كان بعينيها بياض على الناظر يسير لا يمنعها أن تبصر، أو كان على غير الناظر لم يمنع الإجزاء. قال محمد عن مالك: وإن كان على الناظر فهي العوراء.

الباجي: وكذلك عندي لو ذهب أكثر بصر عينيها.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام أشهب انه إن نقص نظرها شيئا ًلم يَجز أن يضحي بها.

وأما البين مرضها فهو وصف ظاهر، وهو الذي عمم به الفقهاء أكثر الأحكام. وإن وقع خلاف في بعضها فلتحقيقه هل هو كثير أو لا؟ ولا خلاف في إلحاق ما هو أشد من هذه العيوب بها كالعمى وقطع اليد والرجل. كما لا خفاء في عدم إلحاق ما ليس بمساوٍ لها.

ص: 265

مالك: ولا يجوز الدبر من الإبل. ابن القاسم: يريد بذلك الدبرة الكبيرة، وأن المجروح بتلك المنزلة إن كان جرحاً كبيراً، يريد: فيلحق بالمرض.

محمد: ولا تجزئ يابسة الضرع كله، وإن أرضعت ببعضه فلا بأس. وفي المبسوط: لا تجزئ البكماء. والنتَّن في الفم مما يُنَّقى، قال في الذخيرة: لنقصان الجمال واستلزامه تغر اللحم أو بعضه. والأكثر على أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقي"؛ أي: لا مخ في عظامها، وهو المنقول عن أهل اللغة. وقال ابن حبيب: هي التي لا شحم فيها، وفسرها ابن الجلاب وغيره بالوجهين.

وَكَذَلِكَ قَطْعُ الأُذُنِ وَالذَّنَبِ وَنَحْوِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ بِنَاءً عَلَى التَّعْدِيةِ أَوِ الْقَصْرِ

الشاذ لابن القصار وعبد الوهاب، ورأيا أن إشارته صلى الله عليه وسلم بيده وتلفظه بالعدد الخاص كالحصر. والأحسن لو قال: ونحوهما، ولعله يريد بذلك الثدي.

وَيُغتَفَرُ الْيَسِيرُ، وَهُوَ مَا دُونَ الثُّلُثِ، وَفِي الثُّلُثِ قَوْلانِ، وَفِيهَا: وَمَا سَمِعْتُ مَالِكاً يُوَقِّتُ نِصْفاً مِنْ ثُلُثٍ

هذا تفريع منه على الأشهر، وحاصله أنه يغتفر ما دون الثلث، ولا يغتفر ما زاد عليه، (وَفِي الثُّلُثِ قَوْلانِ) وظاهر كلامه أن هذا في الأذن والذنب، ولابن بشير نحوه وهو صحيح، أما الأذن فقد نص ابن حبيب فيه على أن الثلث كثير. وقال ابن المواز: النصف عندي كثير من غير أن أجد يه حداً. فأخذ منه غير واحد أن الثلث يسير. وأما الذنب فنص ابن المواز وابن حبيب على كثرة الثلث فيه. وحكى التونسي قولاً بيسارته. وفي البيان بعد أن ذكر أن ما دون الثلث من الأذن يسير باتفاق، وأن النصف كثير باتفاق: وإنما اختلف في الثلث والذنب والأذن فيما يستحق سواء. وقال الباجي: الصحيح [233/ب] أن ذهاب ثلث الأذن يسير، وذهاب ثلث الذنب كثير؛ لأن الذنب لحم وعصب، والأذن

ص: 266

طرف جلد لا يكاد يستضر به، لكن ينقص الجمال كثرته. وما ذكره المصنف عن المدونة ظاهر أنه في الأذن والذنب وليس هو كذلك فيهما بل هو خاص بالأذن.

وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَرْقَاءِ وَالشَّرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ بَيَاناً لِلأكْمَلِ عَلَى الأَشْهَرِ

النهي المشار إليه خرجه ابن أبي شيبة وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن، ولا يضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. فالمقابلة هي التي قطع من جهة أذنها من قبل وجهها وترك معلقاً، وإن كان قطع من جهة قفاها فهي المدابرة، والشرقاء هي المشقوقة الأذن، والخرقاء: المثقوبة الأذن. هكذا فسر أهل اللغة وأصحابنا.

الباجي: وأما القطع ي الأذن أو الأذنين كالمقابلة والمدابرة والخرقاء والشرقاء، فقال ابن القصار: لا يمنع الإجزاء إلا الاستحباب، وهذا قول مطلق. والمذهب على أن الكثير يمنع الإجزاء. ابن بشير: وحمل ابن القصار النهي المذكور على منع الكلام، وهو على قوله المتقدم يقصر منع الإجزاء على العيوب المذكورة. وفي الرسالة: ولا المشقوقة الأذن إلا أن يكون يسيراً وكذلك القطع. وفي المدونة: ولا بأس في الأذن بمثل الميسم أو شق يسير أو قطع يسير. وأما جدع الأذن أو شقها فلا يجوز، وما سمعت مالكاً يوقت في الأذن نصفاً ولا ثلثاً. وعلى هذا ففي قول المصنف:(بيان الأكمل) على الأشهر نظر، ولا يقال: لعل كلام المصنف محمول على اليسير؛ لأنا نقول: لم يحكوا في اليسير خلافاً.

وَيُغْتَفَرُ كَسْرُ الْقَرْنِ مَا لَمْ يَكُنْ مُمْرِضاً كَالدَّامِي

هكذا قال في المدونة والرسالة. قال في الرسالة: وإن لم يَدْمَ فذلك جائز. وقال أشهب: لا يضحي بكسير القرن إن كان يَدْمَى، فإن فعل أجزأه. وينبغي أن يكون هذا الخلاف راجعاً إلى تحقيق العلة؛ لأن المعتبر إنما هو المرض المبين.

ص: 267

التونسي: وإذا استؤصل قرناها وقد برئت أجزأت. وفي كتاب ابن حبيب: لا تجزئ. والصواب الأول؛ لأن ذلك ليس نقصاً في الخلقة ولا في اللحم؛ لأن النعاج لا قرن لها. وعلى الإجزاء أكثر الشيوخ، وفهم أبو عمران وغيره المدونة عليه.

وَلَوْ كَانَتْ بغَيْرِ أُذُنٍ أَوْ ذَنَبٍ خِلْقَةً وَهِيَ السَّكَّاءُ وَالْبَتْرَاءُ فَكَقَطْعِهِمَا

أي: فلا يجزيان، وقوله:(السَّكَّاءُ) راجع إلى المخلوقة بغير أذن، و (الْبَتْرَاءُ) راجع إلى المخلوقة بغير ذنب.

وَالصَّمْعَاءُ جِدّاً كَالسَّكَّاءِ بخِلافِ الْجَمَّاءِ، وَالْبَشَمُ وَالْجَرَبُ كَالْمَرَضِ

الصمعاء والسكاء ممدودان، والصمعاء الصغيرة الأذنين. أي: فإن كانت صغيرة الأذنين جداً فلا تجزئ كما لو كانت بغير أذنين، وهكذا قال الباجي؛ لأن الأذن إذا كانت من الصغر بحيث تقبح به الخلقة تمنع الإجزاء. فإن قلت: ما ذكره المصنف مخالف للمدونة لقوله فيها: ولا بأس بالجلحاء وهي الجماء، والسكاء وهي صغيرة الأذنين.

ابن القاسم: ونحن نسميها الصمعاء. قيل: ليس هو خلاف؛ لأن المصنف إنما تكلم على الصمعاء جداً لا على مطلق الصمعاء. والجماء: التي لا قرن لها.

ابن بشير: ولا خلاف فيها. وحكى بعضهم فيها الإجماع. والبشم: التخمة، ومعنى كون البشم والجرب كالمرض أنه إن كان بيِّناً لم تجزئ وإلا أجزأت.

وَفي السِّنَّ الْوَاحِدَةِ وَالاثْنَتَيْنِ قَوْلانِ، بخِلافٍ الْكُلِّ وَالْجُلِّ عَلَى الأَشْهَرِ

معناه: إن ذهب جميع الأسنان أو جلها ففيه قولان، أشهرهما أنه لا يجزئ، والقول بالإجزاء مبني على قول من قصر العيوب على الأربعة الواردة في الحديث، وعليه فلا إشكال في الإجزاء في السن والسنين، وأما على الأشهر فاختلف في الإجزاء في السن

ص: 268

والاثنتين كما ذكر المصنف، لكن في كلامه إجمال؛ لأن محل الخلاف إنما هو إذا كان من كبر، ويتبين بكلام اللخمي، قال: فلا تجزئ إذا كانت ذاهبة الأسنان بكسر أو شبهه، وتجزئ إذا كان من إثغار. واختلف إذا كان لكبر. فقال مالك في كتاب محمد: تجزئ. وقال ابن حبيب: لا تجزئ. والأول أبين.

واختلف في السن الواحدة ففي كتاب محمد: لا بأس بها. وفي المبسوط: لا يضحي بها. ومجمل قوله على الاستحباب؛ لأنه من العيوب الخفيفة. انتهى.

وقد صرح في البيان بالاتفاق على الإجزاء في التي سقطت أسنانها لإثغار، وبالاتفاق على عدم الإجزاء في التي كسرت أسنانها.

وَفِي الْهَرَمِ كثِيراً قَوْلانِ، قَالَ الْبَاجِيُّ: وَلا نَصَّ فِي الْمَجْنُونَةِ، وَأُرَاهُ كَالْمَرَضِ

الخلاف في الهرم خلاف في حال هل هو من المرض المانع أو لا؟ وقال سحنون: في التي أقعدها الشحم أنها تجزئ. وفي جعل الباجي الجنون كالمرض إشارة إلى تفريق اللخمي بين الدائم فيمنع، وبين غيره فلا يمنع. وحكى ابن بزيزة في المجنونة خلافاً بين المتأخرين.

الْمَامُورُ: مُسْتَطِيعٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ غَيْرُ حَاجِّ بمِنّى، بخِلافِ الرَّقِيقِ وَمَنْ فِي الْبَطْنِ، وَالْمُسْتَطِيعُ مَنْ لا تُجْحِفُ بِمَالِهَ

يعني: أن المأمور بالأضحية من اجتمعت فيه شروط أربعة. وقوله: (بِخلافِ الرَّقِيقِ) راجع إلى قوله: (حُرٌّ)، والمراد بالرقيق: الْقِن ومن فيه شائبة حرية كأم الولد والمدبر والمكاتب، واستحسن مالك الضحية لهم إذا أذن لهم [234/أ] السيد. ومن في البطن كالعدم. مالك في الموازية: ولا يعجبني أن يضحي عن أبوين الميتين. قوله: (وَالْمُسْتَطِيعُ مَنْ لا تُجْحِفُ بِمَالِهِ) تصوره ظاهر.

ص: 269

ابن بشير: وتحرز بالاستطاعة من الفقير، فإنها لا تلزمه، ولا يؤمر بها من تجحف بماله، وإن كان قادراً على شرائها، ولا يتحصل في المذهب حد المال المقتضي للأمر بها، لكن النظر إلى الإجحاف وعدمه. انتهى. وسئل مالك: أيضحي عن الصغير له ثلاثون ديناراً بنصف دينار؟ فقال: نعم.

ابن حبيب: يلزم من ماله في يده من وصي أو غيره أن يضحي عنه منهن ويقبل قوله في ذلك كما يقبل في النفقة سواء. واحترز بـ (غير الحاج بمنى) من الحاج بمنى، فإن سنته الهدي فقط، ولا تشرع له الأضحية على المشهور، وظاهر ما في المبسوط لابن القاسم وما لأشهب في غيره أن المشروعية باقية. وقولنا: الحاج بمنى يخرج من لم يحج من أهل منى. قال في البيان: وفي المبسوط لابن كنانة: إنه لا يضحي أحد بمنى. ظاهره: وإن لم يكن من الحاج وهو شذوذ.

وَيُضَحِّي عَنِ الصَّغِيرِ، وَلا يَشْتَرِكُ فِيهَا لَكِنْ لِلْمُضَحِّي أَنْ يُشْرِكَ فِي الأَجْرِ مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ بخِلافِ غَيْرِهِمْ

يضحي عن الصغير؛ لاجتماع الأوصاف المتقدمة فيه، وهذا إن كان له مال، وإن لم ينك فقال ابن حبيب: يلزم الإنسان أن يضحي عمن تلزمه نفقته من ولد ووالد. وفي العتبية ذلك غير لازم. ونص في المدونة على أنه لا يلزمه أن يضحي عن الزوجة.

محمد عن مالك: وله أن يدخلها.

ابن حبيب: وإن لم يفعل فذلك عليها بخلاف الفطرة. والفرق بين زكاة الفطر والأضحية أن زكاة الفطر من توابع النفقة، بخلاف الضحية فإنها قربة. والإنسان لا يلزمه أن يتقرب عن الغير. وقال ابن دينار: يلزمه أن يضحي عن زوجته إن لم يدخلها. قوله: (وَلا يَشْتَرِكُ فِيهَا) قال في البيان: وروى ابن وهب عن مالك الاشتراك في هدي التطوع، ويلزم ذلك

ص: 270

في الأضاحي على القول بعدم وجوبها. وقوله: (لَكِنْ

إلخ) أي أن هذه الشركة جائزة، وهو الاشتراك في الأجر دون الشركة في ثمنها. ولا فرق في ذلك بين أن يكونوا سبعة أو أكثر. وقوله:(مَنْ فِي نَفَقَتِهِ مِنْ أَقَارِبهِ) يريد الساكنين معه أشار إلى ذلك في المدونة.

ابن حبيب: وله أن يدخل في أضحيته من بلغ من ولده، وإن كان غنياً، وأخاه وابن أخيه وأقاربه إذا كانوا في نفقته وبيته.

الباجي: فأباح ذلك بثلاثة أسباب: القرابة، والمساكنة، والإنفاق.

محمد: إن شاء أدخل في أضحيته أم ولده، ومن له فيه بقية رق، ولا يدخل يتيمه في أضحيته ولا يشرك بين يتيمين في أضحية وإن كانا أخوين، والجد والجدة كالأجانب.

الباجي: يريد أن الجد والجدة ليسا في نفقته، ولو كانا على ذلك لجاز عندي على ما تقدم في الأقارب. وعندي أنه لا يصح التشريك لأهل بيته وإن لم يعلمهم بذلك. ولذلك يدخل فيها صغار ولده، وهم لا يصح منهم قصد القرابة. انتهى.

ابن عبد السلام: وفيه نظر لأن شرط حصول الثواب على القربة النية، وأما الصغار فإنها تسقط عنهم لعدم القصد مع أنها عبادة مالية، والوالي هو المخاطب بها كالزكاة. انتهى.

وقال محمد- بعد قوله: أنه لا يدخل الجد والجدة وهما كالأجنبيين-: لا يضحي إلا عن كل واحد بشاة، إلا أن تكون زوج الجد يدخلها في شاة، كما لو بعثها إلى الجد فذبحها الجد عنه وعن زوجته. ابن ميسر: وذلك بإذن الجد.

وَالأَوْلَى ذَبْحُهُ بِنَفْسِهِ، فَإِنِ اسْتَنَابَ مَنْ تَصِحُّ مِنْهُ الْقُرْبَةُ جَازَ

لأنها قربة. ابن يونس وابن راشد: والمرأة في هذا كالرجل. وقد كان أبو موسى الأشعري يأمر بناته أن يذبحن نسكهن. محمد: إلا من ضرورة أو ضعف.

ص: 271

ابن حبيب: أو كبر أو رعشة. وظاهر كلام مالك أنه إن استناب لا يطلب بالإعادة؛ لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم استناب عليّاً رضي الله عنه في نحر بقية بدنه في الهدايا.

محمد: قال مالك: إن أمر مسلم غيره من غير عذر، فبئس ما صنع وتجزيه، وقال ابن حبيب: أحب إليَّ أن يعيد إن وجد سعة. وفي مختصر ابن عبد الحكم قولُ أنه لا تجزيه إذا استناب مسلماً غيرُ مميز.

فَلَوْ قَصَدَ الذَّبْحَ عَنْ نَفْسِهِ فَفِي إِجْزَائِهَا قَوْلانِ

أي: فلو قصد المستناب الذبح عن نفسه، فقال مالك: تجزئ ربها، وقال أصبغ: لا تجزئ مالكها، وتجزئ عن الذابح ويضمن قيمتها، كمن تعدى على أضحية رجل فذبحها عن نفسه. وقال الفضل بن سلمة: لا يجزئ عن واحد منهما. ورد في البيان قول الفضل بأن الذابح لم يتعد في ذبحه، فوجب أن تكون النية نية ربها الحاضر، كمن أمر رجلاً أن يوضيه. وفرق بأن الذابح مذكَّ للشاة بلا شك، بدليل أنه لا يصح أن يكون مجوسيّاً، وكل مذكَّ لابد له من النية بحضور ربها، وصف طردي بخلاف مسألة الوضوء.

وَلا تَصِحُّ اسْتِنَابَةُ الْكَافِرِ وَلَوْ كَانَ كِتَابيّاً عَلَى الْمَشْهُورِ

أي: إن كان غير كتابي فلا تصح اتفاقاً وفي الكتابي قولان؛ مذهب المدونة: لا تجزئ؛ لأنها قربة فلا تصح منه، والقول بالإجزاء لأشهب اعتباراً بنية المالك، فإن أمر رجل رجلاً يظن أنه مسلم فذبح، ثم تبين أنه نصراني، فعن مالك أنه يعيد، فإن نحر اليهودي أو النصراني من نفسه، فإن تَزَيَّا بزِيِّ المسلمين الذين [234/ب] يذبحون ضمن ذلك وعاقبه السلطان.

وَفِي تَارِكِ الصَّلاةِ قَوْلانِ

بناء على فسقه فتصحن أو كفره فلا تصح.

ص: 272

وَالاسْتِنَابَةُ بالْعَادَةِ فِي غَيْرِ الْقَرِيبِ تَصِحُّ عَلَى الأَصَحِّ كَالْقَرِيبِ

الاستنابة تكون بالتصريح، وقد تقدمت، وبالعادة كمن ذبح أضحية ولده أو والده، وجرت عادته القيام بأموره، ثم كلام المصنف يحتمل معنيين: أحدهما: الخلاف في القريب وغيره، وعليه مشاه ابن راشد، وهكذا حكى اللخمي الخلاف في القريب وغيره. ويحتمل أن يكون القريب لا خلاف فيه. وفي غير القريب قولان، وهذا مقتضى كلام ابن بشير؛ لكونه جعل استنابة القريب بالعادة كالاستنابة باللفظ.

ابن عبد السلام: وهذا ظاهر كلام المصنف. ونقل ابن عبد السلام هذه الطريقة، ولكن لم يعزها لابن بشير، ونقل طريقة ثالثة: أن الخلاف إنما هو في القريب. وكلام الباجي يقتضي أنه لا خلاف في المسألة لا في القريب ولا في غيره، وذلك لأنه وقع في المدونة بالإجزاء في القريب، ونقل عن أشهب عدم الإجزاء، فتأول الإجزاء بما إذا كان القريب مفوضاً إليه، وقول أشهب فيما إذا لم يكن مفوضاً إليه، ووقع لابن القاسم في الموازية في غير القريب قولان، قال: لو أن جاراً لي انصرف من المصلى فذبح أضحيتي إكراماً لي، فرضيت بذلك لم يجز، وقال أيضاً: إذا كان لصداقة بينهما ووثق به أنه ذبحها عنه أجزأته، فتأول ما وقع من الإجزاء على أنه كان فوض إليه. قال: وأما إن ذبحها عنه بمجرد الصداقة، فالظاهر من المذهب أنه لا تجزئه لأنه متعدَّ، ولو شاء أن يضمنه لضمنه، إلا أن تكون هذه رواية بالإجزاء في التعدي، أنه إذا لم يرد صاحبها تضمينه فله وجه، وعلى هذا فمناط الحكم في القريب وغيره القيام بجميع الأمور، وأن من كان قائماً بجميع الأمور أجزأ ذبحه قريباً كان أو لا، ومن لم يكن قائماً بالجميع لم يجز ذبحه مطلقاً. وهذه الطريقة رابعة، وتصحيح المصنف الصحة في غير القريب ليس بحسن لكونه مخالفاً للمدونة. قال فيها: ومن ذبح أَحيتك بغير أمرك، فإما ولدك أو بعض عيالك ممن فعله ليكفيك مؤنتها، فذلك مجزئ عنك، وأما على غير ذلك فلا يجزئ، ونظير هذه المسألة ما لو زوج ابن أو أخ أخته البكر بغير إذن الأب، فقال في المدونة: يجوز إن كان قد فوض إليه القيام بجميع أموره.

ص: 273

وَيَاكُلُ الْمُضَحِّي وَيُطْعِمُ نِيئاً وَمَطْبُوخاً وَيَدَّخِرُ وَيَتَصَدَّقُ، وَلَوْ فَعَلَ أَحَدَهَا جَازَ وَإِنْ تَرَكَ الأَفْضَلُ

المذهب كما قال أنه لو أكلها كلها أو تصدق بها كلها كان تاركاً للأفضل، وكذلك إن اقتصر على اثنين منها. وقال ابن المواز: التصدق بجميعها أفضل. وحكى عبد الوهاب رواية شاذة بوجوب الأكل.

ابن حبيب: ويستحب أن يكون أول ما يأكل يوم النحر من أضحيته. وقال عثمان وابن المسيب وابن شهاب: يأكل من كبدها قبل أن يتصدق.

يُكْرَهُ لِلْكَافِرِ عَلَى الأَشْهَرِ، وَفِي تَحْدِيدِ الصَّدَقَةِ اسْتِحْبَاباً ثَلاثَةٌ: الثُّلُثُ، وَالنِّصْفُ، وَالْمَشْهُورُ: نَفْيُ التِّحْدِيدِ

القولان لمالك في العتبية في النصرانية تكون ظئر الرجل. والأشهر هو اختيار ابن القاسم، ووجهه أنها قربة فلا يعان بها الكافر. وعن مالك التخفيف في الذمي دون غيره كالمجوسي، وأشار ابن حبيب إلى أن من أباح ذلك إنما هو في الذي يكون في عيال الرجل. وأما البعث إليهم فلا يجوز وكذلك فسره مطرف وابن القاسم وابن الماجشون، وقاله أصبغ. وعكس ابن رشد فجعل محل الخلاف في الكراهة والإباحة إنما هو في البعث. وأما من كان في عياله وأقاربه أو ضيفه، فلا خلاف في إباحة طعامهم. فيتحصل من الطريقتين ثلاثة أقوال، والله أعلم.

قوله: (وَفِي تَحْدِيدِ الصَّدَقَةِ

إلخ) تصوره واضح.

وَيُرَدُّ الْبَيْعُ، وَإِجَارَةُ الْجِلْدِ كَالْبَيْعِ خِلافاً لِسُحْنُونٍ، وَإِذَا فَاتَ فَثَلاثَةٌ: يَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَلَحْمِهَا، وَكَمَالِهِ

قوله: (يُرَدُّ الْبَيْعُ) يدل بالالتزام على المنع منه ابتداء وهو مذهب مالك وجمهور الفقهاء؛ لما في البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي وابن ماجه عن علي رضي الله عنه

ص: 274

قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بُدْنه، وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها، وألا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال نحن نعطيه من عندنا. وكذلك لا يجوز أني دبغ بعض الجلود ببعض نص عليه ابن المواز. ومنع مالك من أن يدهن أحد شراك النعل التي يصنعها بدهن الأضحية؛ لأنها بالدهن تحسن ويكون لذلك حصة من الثمن. واختلف فيمن تصدق عليه أو وهب له لحم، فمنعه مالك من البيع؛ لأن قصاراه أني تنزل منزلة الأصل بالقياس على الوارث. وقال أصبغ: يجوز له البيع كالصدقة على الفقير، والزكاة. ابن غلاّب: وهو المشهور.

قوله: (وَإِجَارَةُ الْجِلْدِ كَالْبَيْعِ

إلخ) قال التونسي: وأجاز سحنون أن يؤاجر جلد أضحيته، وكذلك جلد الميتة، وفيه نظر؛ لأن بيع جلدها لا يجوز، واستئجارها انتهاك لأعيانها، فيؤدي ذلك إلى بيعأعيانها شيئاً فشيئاً. انتهى. وقيد ابن أبي زيد قول سحنون في جلد الميتة بأن مراده بعد الدبغ. وقوله:(فإن فات) أي: فات المبيع من لحم أو غيره فثلاثة أقوال:

الأول لابن القاسم وابن حبيب: أنه يتصدق به.

والثاني لسحنون: [235/أ] أنه يصرف الثمن فيما يصرف فيه المثمون، ويجعل ثمن الجلد في ماعون، وثمن اللحم في طعام.

الثالث لابن عبد الحكم: انه مال من أمواله يصنع به ما شاء.

والتصدق بالثمن على قول ابن القاسم إنما هو إذا تولى المضحي البيع بنفسه أو أمر بذلك غيره، وأما لو تولاه غيره بغير أمره، كما لو باعه أهله وفرقوا ثمنه، فنص ابن القاسم في العتبية على أن ذلك لا يلزمه. قال في البيان: ومعناه إذا صرفوا الثمن يما له غنى عنه، وأما إن صرفوه فيما لا غناء له عنه، فعليه أن يتصدق به.

ابن عبد السلام: وما قاله صحيح، ومعناه يتصدق بالأقل من الثمن، أو مما صرفوه، كما قالوا ذلك في المحجور يبيع شيئاً، ويصرفه في مصالحه، ثم ينقض البيع. وينبغي إذا سقط عن المضحي التصدق بالثمن ألا يسقط عن الأهل الذين تولوا البيع.

ص: 275

الْوَقْتُ: وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلاثَةٌ، وَمَبْدَؤْهَا يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ صَلاةِ الإِمَامِ وَذَبْحِهِ فِي الْمُصَلَّى، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَهُ أَعَادَ

لا خلاف عندنا أن أيام النحر ثلاثة؛ يوم النحر ويومان بعده، وهو مذهب علي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر، ذكره في الموطأ. ومذهبنا مراعاة ذبح الإمام؛ لما في مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بهم يوم النحر بالمدينة، فسبقه رجال فنحروا، وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نحر، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان نحر قبله أن يعيد.

وقوله: (وَذَبْحِهِ فِي الْمُصَلَّى) أي: السنة أن يخرج الإمام أضحيته إلى المصلى؛ ليعلم الناس ذبحه، وأما إن لم يذبح الإمام فالمعتبر صلاته.

فَإِنْ لَمْ يُبْرِزْهَا فَفِي الذَّبْحِ قَبْلَهُ قَوْلانِ، وَلَوْ تَوَانَى

الباجي: إن أظهر إمام المصلى ذبح أضحيته بإثر الصلاة فمن ذبح قبله فالمشهور عن مالك أنه لا يجزيه، وإن لم يظهر فحكى المصنف في إجزاء الذبح قبله قولين تبعاً لابن بشير، فقال: إن لم يبرزها وثواني فالمشهور عدم الإجزاء؛ لما ثبت من وجوب الاقتداء به. والثاني: الإجزاء لأنه إنما يقتدي به، إذا اقتدى بفعله صلى الله عليه وسلم في إبراز الضحية. انتهى. وعدم الإجزاء مذهب الموازية، ففيها: ون ذبح أحد قبله في وقت لو ذبح الإمام بالمصلى لكان هذا قد ذبح قبله لم يجزه. وقيد ابن يونس بأن لا يتوانى، وأما إن توانى بعد وصوله إلى داره فمن ذبح في وقت لو لم يتوانَ الإمام وذبح في داره لكان هذا ذابحاً بعده أجزأه. ونحوه لصاحب البيان قال: إلا أن يتوانى بعذر من اشتغال بقتال عدو أو غيره، فينتظرونه ما لم يخرج وقت الصلاة بزوال الشمس. وقال ابن راشد: وقوله: (وَلَوْ ثَوَانَي) يقتضي أن الخلاف في الإجزاء وعدمه إذا ذبح قبل الإمام سواء توانى الإمام في

ص: 276

الذبح أم لا. ولم أقف على ذلك، فإن القائل بعدم الإجزاء قال: إن توانى الإمام في الذبح، فإن الذابح قبله يجزئه.

ابن رشد: وقال أبو مصعب: إن لم يخرج الإمام أضحيته إلى المصلى، فليس على الناس أن ينتظروه حتى يرجع إلى منزله. ومن ذبح بعد القدر الذي كان يذبح فيه في المصلى فضحيته جائزة.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَبَحَ فَذَبْحُ أَقْرَبِ الأَئِمَّةِ إِلَيْهِ عَلَى التَّحَرِّي، فَإِنْ تَحَرَّى فَأَخْطَأَ أَجْزَأَ عَلَى الْمَشْهُورِ ....

أي: فإن لم يكن لهم إمام فإنهم يتحرون أقرب الأئمة إليهم، والفرق على المشهور بين هذا الفرع والذي قبله أن الإمام إذا لم يكن عندهم يعسر الاطلاع على ذبحه، والشاذ رواه أشهب عن مالك.

وَالإمَِامُ الْيَوْمَ الْعَبَّاسِيُّ أَوْ مَنْ يُقِيمُهُ

نحوه للخمي، وأشار إلى أن المتغلبين يكونون كمن لا إمام لهم. وقال التونسي: الإمام المعتبر ذبحه الذي يقيم الحدود والجمعة والأعياد. وقال ابن رشد: المراعي في ذلك الإمام الذي يصلي صلاة العيد بالناس، إذا كان مستخلفاً على ذلك.

وَلا يُرَاعَى قَدْرُ الصَّلاةِ فِي الْيَوْمَيْنِ بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ

المشهور رواه ابن حبيب عن مالك وقاله الباجي؛ وهو قول ابن المواز قال: وتذبح إذا ارتفعت الشمس وحلت النافلة، ولو فعل ذلك بعد الفجر أجزأه. وقال أصبغ: إذا طلع الفجر جاز الذبح في هذين اليومين. فإذا تقرر هذا علمت أن من لا يراعي وقت الصلاة لا يراعي طلوع الشمس إلا استحباباً، ولا يؤخذ هذا من كلام المصنف. وتشهير المصنف هو الصحيح وإن كان ابن بشير جعل الشاذ هو المشهور.

ص: 277

وَيُرَاعَى النَّهَارُ عَلَى الْمَشْهُورِ

قد تقدم هذا.

وَالأَوَّلُ أَفْضَلُ، وَفِي أَفْضَلِيَّةِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ عَلَى أَوَّلِ مَا بَعْدَهُ قَوْلانِ

أما أفضلية النصف الأول من الأولى فمجمع عليه لفعله صلى الله عليه وسلم، واختلف هل النصف الثاني منه أضل من أول اليوم الثاني وإليه ذهب ابن المواز، أو أول الثاني أفضل؟ وهو قول مالك في الواضحة، بل صرح بكراهة ما بعد الزوال، قال: وكذلك الثاني يذبح فيه من ضحى إلى زوال الشمس، فإن فاته أمر بالصبر إلى ضحى اليوم الثالث.

ابن يونس: وحكى لنا بعض فقهائنا القرويين قال: سمعت أبا الحسن ينكر قول ابن حبيب هذا، وقال: بل اليوم الأول كله أفضل من اليوم الثاني والثاني أفضل من الثالث. ورواية ابن المواز واختياره أحسن من هذا، والذي [235/ب] عند ابن المواز هو المعروف. ولو قال المصنف: وفي أفضلية ما بعد الزوال على أول ما بعده أو العكس لكان أحسن؛ لأن كلامه ليس بنص في أن القول الآخر يقتضي أفضلية أول الثاني لاحتمال فهم التساوي. ورأى القابسي واللخمي أن هذا الخلاف جارٍ أيضاً فيما بين آخر الثاني وأول الثالث. وقال ابن رشد: لا يختلف في رجحان أول اليوم الثالث على آخر الثاني.

فائدة:

نقل الباجي أن الأبهري وابن القصار رويا أنه يستحب لمن أراد أن يضحي إذا رأى هلال ذي الحجة ألا يقص شعراً، ولا يقلم ظفراً حتى يضحي، قالا: ولا يحرم ذلك عليه. قال: وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: ليس في ذلك استحباب. وقال احمد وإسحاق: يحرم عليه الحلق. ودليلنا على الاستحباب حديث أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأى هلال ذي الحجة فأراد أنا يضحي فلا يأخذ من شعره، ولا من

ص: 278