المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌السَّبْيُ يَهْدِمُ النِّكَاحَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٣

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌السَّبْيُ يَهْدِمُ النِّكَاحَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ

‌السَّبْيُ

يَهْدِمُ النِّكَاحَ إِلا إِذَا سُبِيَتْ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وهُوَ حَرْبِيٌّ أَوْ مُسْتَامَنٌ فَأَسْلَمَتْ، فَإِنْ لَمْ تُسْلِمْ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لأَنَّهَا أَمَةٌ كِتَابِيَّةٌ، وهِيَ ووَلَدُهَا ومَالُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِيْءٌ، وقِيلَ: وَلَدُهُ الصِّغَارُ تَبَعٌ وكَذَلِكَ مَالُهُ إِلا أَنْ يُقْسَمَ فَيَسْتَحِقَّهُ بِالثَّمَنِ ......

أما ما يتعلق بهدم النكاح فسيأتي في النكاح إن شاء الله تعالى فإن المصنف كرر هذا الفصل بعينه هناك، وأما هي فلا خلاف أنها فيء، قاله ابن بشير، وأما ولده وماله فالمشهور أنهما فيء، وهو مذهب المدونة.

سحنون: وقال بعض الرواة: إن كان ولده صغاراً فهم تبع لأبيهم، وكذلك ماله إن أدركه قبل القسم أخذه، وإن قسم فهو أحق به بالثمن، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره المصنف، وذكر ابن حارث قولاً ثالثاً في المال إن ضموه إلى أموالهم لأجل إسلامه كان فيئاً، وإن تركوه فهو له، وإن قسم أخذه بالثمن. وحكى ابن بشير في الأولاد قولاً بأنهم تبع صغاراً كانوا أو كباراً، واختلف شراح المدونة في فهمها لقوله فيها: وإذا أسلم ثم غزا المسلمون بلاده، فغنم المسلمون ماله وولده قال: هم فيء.

قال التونسي: معناها أنه خرج، وأما إن لم يخرج فينبغي أن يتبعه ولده وماله؛ لأن غيره لم يحزه، وقد بقيت يده على ماله وولده. وقال اللخمي: ظاهر قوله أنهم فيء وإن لم يخرج إلينا وعلى الأول اختصره البرادعي. وأشار بعضهم إلى أن الخلاف في أولاده مقصور على ما تزايد منه قبل إسلامه، وأما ما حدث من وطء بعد إسلامه فلا يسترق اتفاقاً.

وإِذَا سُبِيَتِ الْمُسْلِمَةُ فَوَلَدَتْ أَوْلاداً ثُمَّ غُنِمَتْ بِهِمْ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: الصِّغَارُ أَحْرَارٌ والْكِبَارُ فَيْءٌ

يعني: إذا أسر العدو حرة مسلمة، ثم غنمت بعد أن حصل لها في دار الحرب أولاد، فلا إشكال في حريتها؛ واختلف في أولادها، فلمالك في الواضحة أنهم تبع وإن كانوا

ص: 499

كباراً ويجبرون على الإسلام فمن أبي أجبر، فإن تمادى قتل كالمرتد؛ لأن الولد يتبع أمه في الحرية. وقال أشهب: الجميع فيء لأنهم نشئوا عن وطء فاسد، وحكى سحنون عنه مثل القول الأول. والثالث: التفرقة وهو مذهب المدونة والمشهور؛ لكن شرط في المدونة في ولدها الكبار، وفي ولد الذمية الكبار إن قاتلوا فحملها ابن أبي زيد على ظاهرها، وأن الكبار إذا لم يقاتلوا كالصغار. ورأى ابن شبلون أن هذا الشرط لا مفهوم له، وأن المقصود أن يكونوا على حال يمكن منهم القتال.

وأَمَّا الذِّمِّيَّةُ فَفِي صِغَارِ أَوْلادِهَا قَوْلانِ، بِخِلافِ كِبَارِهِمْ

ظاهره نفي الخلاف عن الكبار، وبذلك صرح ابن بشير. ابن عبد السلام: وحكى بعضهم في الكبار قولاً بالتبعية، والمشهور في الصغار [275/ ب] أنهم تبع.

وأَمَّا الأَمَةُ فَالْمَشْهُورُ: أَوْلادُهَا لِمَالِكِهَا. وثَالِثُهَا: مَا وَلَدَتْهُ مِنْ زَوْجٍ لِمَالِكِهَا، وما وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِهِ فَيْءُ ..

وجه المشهور أن الولد تابع لأمه في الرق والحرية، والقول بأنهم فيء مطلقاً لابن الماجشون تغليباً للدار، والتفرقة لسحنون؛ لأنه إنما تتحقق تبعية الولد للأم إذا كان من تزويج، وأما إذا كان من غير تزويج فكأن الأب وطيء بحكم الملك، ومن وطيء بحكم الملك كان ولده تبعاً له دون أمه.

وَعَبْدُ الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ ويَفِرُّ إِلَيْنَا حُرٌّ

لأنه غنم نفسه، ولا خلاف فيه. قال في المدونة: وإن قدم معه بمال فهو له ولا يخمس.

وَكَذَلِكَ لَوْ بَقِيَ حَتَّى غُنِمَ عَلَى الْمَشْهُورِ

يعني: بعد إسلامه ببلده حتى دخل المسلمون بلادهم فغنموه، فكذلك يكون حراً على المشهور كما لو خرج إلينا. وقال ابن حبيب: وهو رقيق للجيش. ابن يونس: وهو أقيس.

ص: 500

ولا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الإِسْلامِ حُرّاً خِلافاً لأَشْهَبَ وسَحْنُونٍ

خليل: تظهر فائدة هذا الخلاف لو أسلم العبد فأعتقه سيده، هل يكون ولاؤه له إن أسلم أو لا؟ وكذلك تظهر ثمرة الخلاف لو باعه بإثر إسلامه لمسلم، والمشهور مذهب المدونة، ففيها: ومن أسلم من عبيد الحربيين لم يزل ملك سيده عنه إلا أن يخرج العبد إلينا، أو ندخل نحن إلى بلادهم فنغنمه وسيده مشرك فيكون حراً، ولا يرد إلى سيده إن أسلم سيده بعد ذلك.

وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم عبيد أهل الطائف لخروجهم مسلمين، وابتاع أبو بكر بلالاً فأعتقه، والدار دار شرك، فلو انتقل ملك ربه عنه كان ذلك فداء، ولم يكن ولاؤه لأبي بكر رضي الله تعالى عنه. وقال أشهب: إسلام العبد بدار الحرب يزيل ملك سيده، خرج إلينا أو أقام ولم يخرج، وإن اشتري كان كالحر المسلم يفدي. انتهى.

قوله: (وقد أعتق النبي صلى الله عليه وسلم عبيد أهل الطائف) فهموه على أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بحريتهم لا أنه أنشأ فيهم العتق.

وَلَوْ خَرَجَ مُسْلِماً وتَرَكَ سَيِّدَهُ مُسْلِماً فَهُوَ رِقٌّ لَهُ

هكذا قال في المدونة، وهو ظاهر إن أسلم هو وسيده معاً، أو سبق إسلام سيده، وأما إن أسلم قبل سيده فالجاري على أصل أشهب وسحنون أنه لا يكون رقاً له.

وَإِنْ خَرَجَ الذِّمِّيُّ نَاقِضاً لِلْعَهْدِ فَحَرْبِيٌّ

يعني: خرج طالباً للسكنى ببلد الحرب- أي: تاركاً للعهد- فحربي، ويقتل، ولا خلاف في ذلك.

وَإِنْ أُسِرَ فَفِي اسْتِرْقَاقِهِ قَوْلانِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الذِّمَّةَ تَقْتَضِي الْحُرِّيَّةَ بِدَوَامِ الْعَهْدِ أَوْ أَبَداً ....

أي: فإن أسر هذا الذمي الناقض للعهد، فقال مالك وابن القاسم: يسترق. وهو المشهور.

ص: 501

قال في البيان: واتفق على ذلك أصحاب مالك إلا أشهب فإنه قال: لا يسترق. ومنشأ الخلاف ما ذكره المصنف، وتصوره بين.

اللخمي: وقول أشهب ليس بحسن، وقد حاربت قريظة بعد أن عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل الرجال وسبى الذرية والنساء. قال في البيان: ولا حجة في ذلك عندي؛ لأن الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريظة وغيرهم من اليهود إنما كان مهادنة ومعاهدة، ولم يكونوا أهل ذمة، ورجح قول ابن القاسم بأن الذمي إذا أكره مسلمة على الزنى يقتل ولو كانت الذمة تقتضي التأبيد لم يقتل. واختلف على المشهور في الزمني والشيوخ، ففي العتبية: لا يستباحون. وقال ابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب: يستباحون. قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا جهل رضاهم بذلك.

فَإِنْ نَقَضُوا لِظُلْمٍ لَحِقَهُمْ لَمْ يُسْتَرَقُّوا عَلَى الْمَشْهُورِ

المشهور مذهب المدونة والشاذ للدوادي، ووجهه بأنهم ناقضون؛ لأنا لم نعاهدهم على أنهم يظلمون المسلمين إذا ظلموهم، وفيه ضعف؛ لأن من فر بسبب ظلم لا يكون ظالماً حقيقة ولا مجازاً، وعلى هذا فإطلاق المصنف النقض على خروجهم إنما هو مجاز، والعلاقة المشابهة.

وَلا يُسْتَرَقُّونَ بِالْحِرَابَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ

قال في المدونة: وإن خرج قوم من أهل الذمة محاربين متلصصين، فأخافوا السبيل وقتلوا، حكم فيهم بحكم الإسلام إذا حاربوا. والقول بالاسترقاق لابن مسلمة، ووجه التونسي بإكراه المسلمة على الزنى فإنه نقض، والحرابة وقتل النفس أشد.

ص: 502

وَلَوْ أَسْلَمَ جَمَاعَةٌ ثُمَّ ارْتَدُّوا وحَارَبُوا كَأَهْلِ الرِّدَّةِ مِنَ الْعَرَبِ فَفِي كَوْنِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ أَوِ كَالْمُحَارِبِينَ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وأَصْبَغَ. وخَالَفَ عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَرَدَّ النِّسَاءَ والصِّغَارَ مِنَ الرِّقِّ إِلَى عَشَائِرِهِمْ، وعَلَيْهِ الأَكْثَرُونَ .....

يعني: إذا أسلم جماعة أو أهل حصن ثم ارتدوا وحاربوا، وظفرنا بهم، فقال ابن القاسم في الواضحة: حكمهم كالمرتدين في المال والدم، يستتاب كبارهم، ويجبر صغارهم على الإسلام إذا بلوغ من غير استتابة. وقال أصبغ: "ليسوا كالمرتدين وهم كالحربيين؛ لأنهم جماعة فهم كأهل النكث؛ لأن المرتد إنما كالواحد وشبهه.

ابن يونس: وقول أصبغ ليس بحسن؛ لأن أهل النكث إنما هم أهل الذمة، ونحن نسترقهم إذا ظفرنا بهم، ولعمري إنه لأمر خالف فيه عمر أبا بكر رضي الله تعالى عنهما في أهل الردة من العرب فجعلهم أبو بكر كالناقضين، فقتل الكبار وسبي ذراريهم، وجعلهم [276] عمر كالمرتدين فرد النساء والصغار من الرق إلى عشائرهم، وعلى هذا جماعة العلماء وأئمة السلف إلا القليل منهم. انتهى مختصراً.

وهذا الكلام ككلام المصنف سواء. والظاهر أن عمر لم يخالف في حياة أبي بكر ولا بعد مماته، أما الحياة فلأنه كان وزيره ومستشاره، وأما الممات فلأنه إنما فعل ذلك تطييباً لنفوس المسلمين؛ لأن الواحد منهم يرى ابنته وزوجته مملوكة لغيره مع مساواته له في النسب أو الشرف، وفي ذلك من المشقة وتغيير النفوس ما هو معلوم. وقيل: إنما فعل ذلك عمر رضي الله تعالى عنه بعوض، ولا بد من التأويل بهذا أو ما يشبهه، وإلا كان نقضاً لحكم أبي بكر رضي الله عنه وهو باطل بلا إشكال.

* * *

ص: 503

[277/ أ] بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً

النكاح: حقيقته التداخل: يقال تناكحت الأشجار إذا دخل بعضها في بعض، ونكح البذر الأرض، ويطلق في الشرع على العقد والوطء، وأكثر استعماله في العقد، قال الله تعالى:(لا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ([النساء: 22]. (لا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ ([البقرة: 221]. (وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا ([البقرة: 221]. (فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ ([النساء:3] (فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ ([النساء: 25] وقد ورد أيضاً بمعنى الوطء في قوله تعالى: (حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)[البقرة: 230]. وقوله تعالى: (الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَاّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً ([النور: 3] الآية. على خلاف في تأويلها بين العلماء، قيل: وورد بمعنى الصداق في قوله تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفْ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً ([النور: 33].

عياض: والصحيح أن المراد هنا العقد؛ أي: لا يقدرون على الزواج لعسرهم.

وأما في اللغة فقال ابن راشد: لا خلاف أنه حقيقة في الوطء. واختلف في إطلاقه على العقد، فقيل: بطرق الحقيقة، وقيل بطريق المجاز، وهو أصح لأن المجاز خير من الاشتراك. واختلف في هذا المجاز فقال التلمساني في شرح المعالم الفقهية: هو مساو للحقيقة. وقيل: مجاز راجح، وهو الصحيح. وحكى ابن عبد السلام خلافاً بين أهل الشرع واللغة، هل هو حقيقة في كل واحد منهما؟ أو في أحدهما؟ وما هو على الحقيقة؟ قال: والأقرب أنه حقيقة لغة في الوطء مجاز في العقد وفي الشرع على العكس.

خليل: ويمكن أن يحمل قول من قال أنه حقيقة في العقد على أنه مجاز راجح كما هو المختار في الحقيقة الشرعية كما تقرر في محله فيتفق ونقل ابن راشد والله أعلم.

ص: 504

وحكم النكاح الندب من حيث الجملة، وقد يجب على من لا ينكف عن الزنا إلا به، ويكره في حق من لا يشتهيه وينقطع به عن عبادته، وفي المقنع لابن بطال: يكره لمن لا يجد طولاً ولا حرفة له ولا صناعة.

ابن بشير: ويحرم على من لا يخشى العنت، وكان يضر بالمرأة في عدم قدرته على الوطء، أو على النفقة، أو يتكسب بموضع لا يحل.

اللخمي: ويباح لمن لا ينسل ولا أرب له في النساء، وأشار إلى أن المرأة مساوية للرجل في هذه الأقسام.

وفي النكاح فوائد أربع: الأولى: دفع غوائل الشهوة عنه. والثانية: التنبيه باللذة الفانية على اللذة الدائمة؛ لأنه إذا ذاق هذه اللذة وعلم أنه إذا عمل الخير نال ما هو أعظم سارع في فعل الخيرات لما هو من جنس تلك اللذة، ولما هو أعظم وأتى وأبقى وهو اللذة بالنظر إلى وجه الله تعالى. والثالثة: المسارعة في تنفيذ إرادة الله تعالى ورسوله، أما إرادة الله عز وجل فإنه أراد بقاء الخلق إلى يوم القيامة ولا يحصل ذلك إلا بالنكاح، وأما إرادة رسوله صلى الله عليه وسلم فلقوله صلى الله عليه وسلم:"تناكحوا تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة". والرابعة: بقاء الذكر ورفع الدرجات بسبب دعاء الولد الصالح. والله أعلم.

أَرْكَانُهُ الصِّيغَةُ، وَالْوَلِيُّ، وَالزَّوْجُ، وَالزَّوْجَةُ، وَالصَّدَاقُ، الصِّيغَةُ لَفْظُ يَدُلُّ عَلَى التَّابِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْتُ وَمَلَّكْتُ وَبِعْتُ وَكَذَلِكَ وَهَبْتُ بِتَسْمِيَةِ الصَدَاقِ ....

يعني أن أركان النكاح خمسة، ثم أخذ يتكلم على الأول منها. وما ذكره المصنف في الصيغة نحوه لابن شاس، ومقتضاه أنه لا ينعقد بالإشارة والكتابة ونحو ذلك، وهو مقتضى كلامه في الإشراف. وكذلك قال في الاستذكار: النكاح يفتقر إلى التصريح ليقع الإشهاد عليه ولا خلاف في انعقاده بأنكحت وزوجت. قال المغيرة: ولا ينعقد بغيرهما. واختلفت طرق الشيوخ في نقل المذاهب فيما عداهما، فذهب ابن القصار وعبد الوهاب

ص: 505

في الإشراف، والباجي، وابن العربي في أحكامه إلى أنه ينعقد بكل لفظ يقتضي التأبيد دون التوقيت، فينعقد بملكت وبعت كما ذكر المصنف. وأشار الباجي في توجيهه لذلك إلى أنه قول مالك. واستدل جماعة لذلك بما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم:"ملكتكها بما معك من القرآن"، وفي رواية:"أنكحناكها". وذهب صاحب المقدمات إلى أنه لا ينعقد بما عدا أنكحت وزوجت إلا لفظ الهبة، فاختلف فيه قول مالك، فروي عنه أنه لا ينعقد بها، وروي عنه أنه ينعقد ويلزم فيه صداق المثل كنكاح التفويض، وقد روى ابن حبيب نحوه عن مالك. انتهى بمعناه.

ومقتضى ما نقله من رواية ابن حبيب أنه يصح، وإن لم يسم صداقاً ونقل في الإكمال عن مالك أنه لا ينعقد بلفظ الهبة.

ابن المواز: وسواء سمي الصداق أم لا. ومذهب المدونة أنه لا ينعقد بلفظ الهبة إلا بتسمية الصداق كما ذكر المصنف. ويلحق بها في اشتراط التسمية الصدقة من باب أولى؛ لأن هبة الثواب أحد قسمي الهبة، والصدقة لا عوض لها أصلاً.

ابن القصار: وسواء عندي ذكر المهر في لفظ الهبة والبيع أو لم يذكر إذا علم أنهم قصدوا النكاح.

فانظر هل ما قاله مخالف لما قاله المصنف في لفظ الهبة أم لا؟ لأن قوله: إذا علم أنهم قصدوا [277/ ب] به النكاح يقتضي ثبوت الصداق فكان ذلك بمنزلة ذكره، وكذلك قال ابن راشد: لا ينبغيأن يعد قول ابن القصار خلافاً.

ابن القصار: قال بعض أصحابنا: ويجوز بلفظ التحليل. وقال الطرطوشي في لفظ الإباحة: قال بعض أصحابنا: إن قصد به النكاح صح.

وقوله: (عَلَى التَّابِيدِ مُدَّةَ الْحَيَاةِ) احترز بذلك من العارية والرهن والوصية، فإنه لا ينعقد بذلك، نص عليه ابن القصار وعبد الوهاب لاقتضاء الأولين التمليك والتوقيت والثالث التوثق دون التمليك وعدم لزوم الرابع.

ص: 506

تنبيهان:

الأول: قد يقال: إن حد المصنف للصيغة غير مانع لشموله مثل (وقفت وحبست على فلان أو أعمرته) لدلالة ذلك على التأبيد مدة الحياة.

الثاني: ما ذكره المصنف من أن الصيغة لفظ يدل على التأبيد مدة الحياة صحيح كما بيناه، واعترضه ابن عبد السلام بما حاصله أنه لا يشترط دلالة الصيغة على التأبيد بل ألا تدل على التوقيت، وذكر أن ذلك هو الذي يؤخذ من كلام أهل المذهب. وذلك أعم من كونها دلالة على التأبيد، وفيه نظر لأن عبد الوهاب صرح في الإشراف بما ذكرالمصنف وكذلك غيره، والله أعلم.

وَمِنَ الزَّوْجِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ

قوله: (مَا يَدُلُّ عَلَى الْقَبُولِ) أي: دون صيغة معينة.

ابن عبد السلام: وكذلك الإشارة. خليل: ولا أعلم نصاً في الإشارة، والظاهر أنها لا تكفي من جهة الزوج، أما أولاً: فلأن النكاح لابد فيه من الشهادة، ولا يمكن إلا مع التصريح من الولي والزوج ليقع الإشهاد عليهما. وأما ثانياً: فلأن قول المصنف (وَمِنَ الزَّوْجِ) معطوف على مقدر تقديره: الصيغة من جانب الولي كذا، ومن جهة الزوج كذا.

فكان قوله: (وَمِنَ الزَّوْجِ) خبر عن (الصِّيغَةُ) فلا يصدق على الإشارة. وعلى هذا فالظاهر أن مراده بقوله: (مَا يَدُلُّ) كل لفظ، ولا يشترط فيه تعيين كما في صيغة الإيجاب، فإن قيل: المصنف قد يجعل الإشارة من الصيغة كقوله في باب الوصايا: الصيغة كل لفظ أو إشارة يفهم منها قصد الوصية، قيل: هذا مجاز، والأصل عدمه.

ابن شاس: ويكفي أن يقول الزوج قبلت، إذا تقدم من الولي الإيجاب، ولا يشترط أن يقول قبل نكاحها.

ص: 507

فَلَوْ قَالَ: زَوِّجْنِي؛ فَقَالَ: فَعَلْتُ لَزِمَ، وَلَوْ قَالَ: لا أرْضَى؛ لَمْ يَنْفَعْهُ بِخِلافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ .....

يعني: أنه ينعقد بالاستيجاب كما ينعقد بالإيجاب، وهكذا قال صاحب الجواهر؛ لأن قوله:(زَوِّجْنِي) طلب للتزويج، وهو يقتضي رضاه بالتزويج، وقول الولي:(فَعَلْتُ) يقوم مقام الإيجاب، وهو قوله: زوجتك. ويؤخذ من كلام ابن عبد السلام أنه فهم من قوله (لا أرْضَى) أن الزوج إن شاء ما يقتضي الرضا بعد قول الولي (فَعَلْتُ) وليس بظاهر؛ لأنا قد بينا أن قول الزوج: (زَوِّجْنِي) يقوم مقام الرضا، وستأتي مسألة البيع التي أشار إليها المصنف في بابها إن شاء الله تعالى.

والفرق بين النكاح والبيع من وجهين: أحدهما: أن هزل النكاح جد على المشهور. والثاني: أن العادة جارية بمساومة السلع وإيقافها للبيع في الأسواق، فناسب ألا يلزمه ذلك في البيع إذا حلف لاحتمال أن يكون قصد معرفة الأثمان، ولا كذلك النكاح، والله أعلم.

وَالْخطْبَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، وَمَا قَلََّ أَفْضَلُ

ابن راشد: الخطبة بضم الخاء واحدة الخطب، وأما بكسرها فهي عبارة عن استدعاء النكاح وما يجري من المحاورة وهي مشروعة في العقد. وما قل منها أفضل. قال بعض الأكابر: أقلها أن يقول الولي: الحمد لله والصلاة على رسوله والسلام، زوجتك على كذا. ويقول الزوج: الحمد لله والصلاة على رسوله والسلام، قبلت نكاحها. وفي الذخيرة: قال صاحب المنتقى: تستحب الخطبة بالضم عند الخطبة بالكسر وصفتها أن يحمد الله تعالى ويثنى عليه ويصلي على نبيه عليه الصلاة والسلام ثم يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَاّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ([آل عمران: 102] (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ([النساء: 1]، (اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً ([الأحزاب: 70].

ص: 508

ثم يقول: أما بعد، فإن فلانا قد رغب فيكم وانطوى إليكم، وفرض لكم من الصداق كذا، وفي الجواهر: تستحب عند العقد. انتهى.

أو إنما استحب ذلك لما رواه الترمذي وغيره من قوله عليه الصلاة والسلام: "كل أمر ذي بال لا يبتدأ فيه بحمد الله فهو أجذم". أي: ناقص. وتقليلها أفضل لأن كثرتها من التشدق المنهي عنه لاسيما إن صحب ذلك فخر ومدح للمتزوجين وآبائهما بما ليس فيهم.

الْوَلِيُّ الْمَالِكُ، ثُمَّ الابْنُ وإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ الأَبُ، ورُوِيَ: الأَبُ، ثُمَّ الابْنُ، ثُمَّ الأَخُ، ثَمَّ ابْنُهُ، ثُمَّ الْجَدُّ. قَالَ الْمُغِيرَةُ: الْجَدُّ أَوْلَى مِنَ الأَخِ وابْنِهِ. ثُمَّ الْعَمُّ، ثُمَّ ابْنُهُ عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الإِرْثِ .....

هذا هو الركن الثاني، وخالفنا في ذلك أبو حنيفة، فلم ير الولي ركناً، ودليلنا ما رواه الدارقطني وصححه من حيث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال:"لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها".

وقدم المصنف (الْمَالِكُ) لأنه أقوى الأولياء، إذ هو يجبر الكبيرة والصغيرة والذكر. (ثُمَّ الابْنُ) لأنه أقوى العصبة، ورأى في الرواية الأخرى أن في الأب زيادة [278/ أ] وشفقة. وابن الابن كالابن في عدمه، فالخلاف في الأخ مبني على هذا الخلاف. فعلى المشهور يقدم الأخ وابنه على الجد لإدلائهما بالبنوة، وعلى الرواية الأخرى يقدم الجد على الأخ. وروي عن مالك أن للأخ أن يزوج المرأة الثيب مع وجود الأب.

اللخمي: وهو قول مرغوب عنه. والمعروف من قول مالك أنه إذا عقد الأخ مضى لا أن له ذلك ابتداء.

قوله: (عَلَى تَرْتِيبِهِمْ فِي الإِرْثِ) الضمير عائد على الجد والعم وابنه لا على كل من تقدم؛ فإن الجد في باب الميراث أولى من ابن الأخ؛ قاله ابن عبد السلام.

ص: 509

وَفِي تَقْدِيمِ الشَّقِيقِ مِنَ الأَخِ والْعَمِّ وابْنِهِ عَلَى الآخَرِ رِوَايَتَانِ لابْنِ الْقَاسِمِ والْمُدَوَنَّةِ

الروايتان إنما هما منصوصان في الأخ. ففي اللخمي: اختلف في الأخوين أحدهما شقيق والآخر لأب، ففي الكتاب من رواية علي: هما سواء.

قال مالك وابن القاسم وغيرهما في الواضحة: الشقيق أولى. ويجري الجواب في أبنائهما وفي العمين أحدهما شقيق والآخر لأب وفي أبنائهما على نحو ذلك، وتقديم الشقيق أحسن. انتهى.

وكذلك اختار ابن القاسم وسحنون وغيرهما من أصحاب مالك المصريين والمدنيين هذه الرواية قياساً على الإرث والولاء والصلاة عليها، بل جزم سحنون بعدم صحة مقابلها. والأحسن لو قال: وابنيهما، لكن حذف في الأول ما أثبته في الثاني كأحد الوجهين في قوله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ ([التوبة: 62].

فإن قيل: ليس ما نسبه إلى المدونة صريحاً فيها لاحتمال أن يكون مراده فيها بعد الوقوع، ونصها: قال علي عن مالك في الأخ يزوج أخته لأبيه، وثم أخوها لأبيها وأمها: إن النكاح جائز إلا أن يكون الأب أوصى بها إلى الشقيق، ولا تنكح حينئذ إلا برضاه فقوله في الأخ يزوج أخته يحتمل بعد الوقوع والنزول، ويرجحه قوله بعد ذلك أن النكاح جائز، وأيضاً فإن ما قبل هذا الكلام وبعده في المدونة إنما هو في الأبعد يزوج مع وجود الأقرب، فجوابه أن غاية ما ذكرته أن اللفظ محتمل، لكن قوله: إلا أن يكون الأب أوصى بها إلى الشقيق فلا تنكح حينئذ إلا برضاه. ظاهر أو صريح في أن كلامه في امرأة لم تنكح، ويكفي في رد هذا أن فهم سحنون واللخمي وغيرهما من الأشياخ خلافه.

ثُمَّ الْمَوْلَى الأَعْلَى لا الأَسْفَلُ عَلَى الأَصَحِّ

أي: بعد عصبة النسب تنتقل الولاية إلى المولى الأعلى وهو من له العتاقة.

ص: 510

ابن عبد السلام: وادعاء المصنف أن المولى الأسفل لا ولاية له ليس بصحيح؛ لأن جميع شراح المدونة فسروا جميع ما وقع لمالك في النكاح الأول منها بأن المولى الأسفل أحد الأولياء، ولم يذهب أحد منهم إلى نفي الولاية عنه.

خليل: وقد يقال ليس في المدونة نص على ولايته، وقد قال ابن الجلاب: ولا ولاية للأسفل على الأعلى. والقاعدة عند الشيوخ أن كل ما أطلق في الجلاب ولم يعزه لنفسه ولا لغيره فهو لمالك، وكلام مالك أولى من كلام غيره.

وفي الكافي: ولا ولية للأسفل على الأعلى. وقد قيل: إن للمولى الأسفل مدخلاً في الولاية، وليس بشيء. ونقله ابن شاس، ونقل ذلك ابن زرقون عن الموازية أنه لا ولاية للأسفل على الأعلى وأيضاً فعدم ولاية الأسفل على الأعلى هو القياس؛ لأن الولاية هنا إنما تستحق بالتعصيب.

ثُمَّ عَصَبَتُهُ ثُمَّ مُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَةُ مُعْتَقِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ

أي: فإن فقد المولى الأعلى انتقلت الولاية إلى عصبته ثم إلى معتق المعتق، ثم إلى عصبته على ما تقدم في ترتيب العصبات وهو ظاهر. وليس للأخ للأم ولا الجد للأم ولا لذوي الأرحام ولاية عندنا إلا من باب ولاية الإسلام.

ابن وهب: وقاله مالك، وقال علي بن زياد عن مالك: إذا زوج الأخ للأم مضى النكاح، وحكى ابن عبد الغفور في وثائقه.

فَالْمَالِكُ يُجْبِرُ الأَمَةَ والْعَبْدَ، ولا يُجْبَرُ هُوَ لَهُمَا

لما ذكر الأولياء ومراتبهم تكلم على من له الجبر، ولا خلاف عندنا أن السيد يجبر الأمة والعبد بشرط عدم الضرر، ففي العتبية والموازية لمالك: ليس له أن يزوج الجارية الرفيعة من عبد له وغد، وقد قال مالك: وليس ينظر إلى الوغد في المنظر، فرب وغد في المنظر تكون له الخبرة والحال.

ص: 511

قوله: (لا يُجْبَرُ هُوَ لَهُمَا) أي إذا طلبا الزواج وأبى هو ذلك فلا يجبر لأنه يتضرر بالتزويج، قال مالك في الموازية: وإن تبين أن العبد والمكاتب محتاجان إلى النكاح وأن السيد ضار بهما فلا يقضي على السيد بنكاحهما.

عبد الحميد: واختلف في هذه المسألة، فكان بعض الشيوخ يقول: الصواب عندي أن القول قول العبد لاشتداد الضرر به؛ إذ ذاك ضرر في الدين. وكان بعض المذاكرين يقول: انظر إلى ما قاله ابن خويزمنداد إذا كانت له القدرة له على التسري، وله حاجة إلى النكاح يخاف معها العنت أنه يجب عليه، وإذا كان واجباً عليه فالعبد يشاركه فيها، ولأن بعض أصحابنا أوجبه للأب على ابنه. انتهى.

والظاهر أنه يؤمر بالتزويج أو البيع لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار".

وَتُوكِلُ الْمَالِكَةُ فِي أَمَتِهَا وَلِيَّهَا أَوْ غَيْرَهُ

وهذا كقوله في الكافي: وإذا أرادت المرأة إنكاح أمتها استخلفت رجلاً يزوجها بإذنها

وَيُوَكِّلُ الْمُكَاتِبُ فِي أَمَتِهِ [278/ ب] وإِنْ كَرِهَ سَيِّدُهُ بِشَرْطِ ابْتِغَاءِ الْفَضْلِ

هذا كقوله في المدونة: وللمكاتب إنكاح إمائه على ابتغاء الفضل وإن كره سيده، ولكن يلي العقد غيره بأمره ولا يجوز على غير ابتغاء الفضل إذا رده السيد، وإنما جاز ذلك للمكاتب لأنه أحرز نفسه وماله.

وَالْوَصِيُّ يُزَوِّجُ رَقِيقَ الْمُوصَى عَلَيْهِ بِالْمَصْلَحَةِ

هذا ظاهر التصور، وقال هنا:(بِالْمَصْلَحَةِ) لأن المطلوب مصلحة المحجور عليه، وقد تكون بغير المال.

ص: 512

وَمَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ لا يُجْبَرُ ولَكِنَّهُ كَمَالِكِ الْجَمِيعِ فِي الْوِلايَةِ والرَّدِّ

لأن بعض الحر لا تصرف له فيه. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك.

(ولَكِنَّهُ كَمَالِكِ الْجَمِيعِ) أي: ولكن مالك البعض كمالك الجميع في الولاية على الأمة، وفي رد نكاح العبد أو الأمة إن تزوجا بغير إذن السيد.

وَمَنْ فِيهِ عَقْدُ حُرِّيَّةٍ: ثَالِثُهَا: يُجْبَرُ الذُّكُورُ. ورَابعُها: يُجْبَرُ مِنْ لَهُ انْتِزَاعُ مَالِهِ

سبب الخلاف النظر إلى تغليب شائبة الحرية: فيمتنع الجبر، أو حكم الرق؛ فيصح والقولان بالجبر وعدمه لمالك. وفرق في الثالث لأن الذكر قادر على الحل عن نفسه بالطلاق، وهذا القول حكاه ابن بشير. وعلى الرابع: لا يجبر المكاتب والمكاتبة، وأم الولد والمدبر إذا مرض السيد، والمعتق إلى أجل إذا قرب الأجل.

وذكر ابن بشير عن بعض أشياخه أنه أنكر على اللخمي وجود الرابع، قال: وإنما الذي أرى في هذه الرواية أنه لا يجبر المكاتب لأنه لا يقدر على انتزاع ماله. فأخذ اللخمي إطلاقاً كلياً، وهو غير صحيح لأنه قد يعلل في الرواية بعلة، فإذا وقف على صورة ليست تلك العلة فيها فقد يجيب فيها معتمداً على مراعاة أخرى، فاعتقد أن انتفاء العلة المعينة توجب انتفاء المعلول مطلقاً، وذلك غير لازم في العلل الشرعية؛ لأنها قد تجتمع على المعلول الواحد علل، فإذا انتفت واحدة منها بقي الحكم مستنداً إلى غيرها. انتهى. وفيه نظر؛ لأن حاصله الشهادة على نفي كيف، وقد نقله ابن يونس ولفظ محمد: من له انتزاع ماله فله أن يكرهها ما لم يكن يطلب بذلك ضررها، وهكذا نقله في تهذيب الطالب.

وَالأَبُ يَجْبُرُ الصَّغِيرَةَ

ظاهره ثيباً كانت أو بكراً، ولا خلاف في البكر، وأما الثيب الصغيرة ففيها ثلاثة أقوال: قال سحنون: يجبرها؛ لأن الثيوبة في حال الصغر كالعدم. قال أبو تمام: لا يجبرها؛

ص: 513

لأن علة الجبر البكارة وقد زالت. وقال ابن القاسم وأشهب: يجبرها إن كان زوجها قبل البلوغ ولا يجبرها بعده؛ لأنها صارت ثيباً بالغاً.

اللخمي: وهو أحسن. واستصوبه غيره، وإنما قلنا ظاهر كلامه وإن كانت ثيباً لقوله بعد ذلك:(وفي الثيب تبلغ بعد الطلاق قولان) فمفهومه أنها إذا لم تبلغ تجبر، ولأنه لو لم يحمل كلامه هنا على العموم لزم أن يكون أسقط الكلام على الصغيرة الثيب.

وَالْبِكْرَ الْبَالِغَ بِغَيْرِ إِذْنِهَا. وقِيلَ: يُسْتَحَبُّ اسْتِئْذَانُهَا

أي: ويجبر البكر البالغ.

اللخمي: واختلف في البكر البالغ غير المعنسة، ففي الكتاب: له أن يجبرها، وفي الموازية: وإن شاورها فحسن. وهو أحوط ليخرج من الخلاف، فإن أبا حنيفة رحمه الله تعالى لا يجبرها، ولما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:"والبكر يستأذنها أبوها" أخرجه مسلم.

وقال ابن بشير: حكى اللخمي في استحباب استئذانها قولين، والظاهر أن المذهب على قول واحد في الاستحباب للخروج من الخلاف.

خليل: وفيه نظر؛ لأن حاصله شهادة على نفي. وقد نقل الباجي عن ابن القاسم أنه أنكر أن يستأمرها الأب، لكن في كلام اللخمي نظر من وجه آخر لأنه نسب القول بعدم الاستحباب للمدونة، وهي لا يؤخذ منها ذلك لأن الذي فيها: ليست المشورة بلازمة، وذلك لا ينافي الاستحباب، والاستحباب أولى، وهو الذي اقتصر عليه ابن الجلاب للخروج من الخلاف، ولتطييب قلبها، ولأنها قد يكون بها عيب فتظهر حينئذ.

ابن عبد السلام: ووقع في بعض الفتاوي المنسوبة للسيوري أن الأب لا يجبرها، واستدل القائل بعدم الجبر بما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام:"الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر وإذنها صماتها".

ص: 514

وجوابه أن المراد بالبكر اليتيمة، لما خرج أبو داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"اليتيمة تستأمر في نفسها، فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز لها". قال في الاستذكار في تعليل الجبر: ولأنه لا يتهم عليها، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تنكح اليتيمة إلا بإذنها". فدل على أن ذات الأب تنكح بغير إذنها. انتهى.

فإن قيل: فقد روي في بعض الطرق: "والبكر يستأذنها أبوها" قيل: قال أبو داود لما ذكر الحديث: "أبوها" ليس بمحفوظ. وقال الباجي فيه: صوابه كما رواه مالك وتابعه عليه سفيان: "والبكر تستأذن في نفسها" وقد روي "والبكر تستأمر" وروايته أثبت ممن روى "يستأذنها أبوها"، ويجوز أن يحمل استئذان الأب إن صحت الرواية على الاستئذان المندوب وفي الموطأ أن القاسم وسالماً كانا ينكحان بناتهما الأبكار ولا يستأمرانهن. مالك: وعلى ذلك الأمر عننا. وهذا دليل على عدم استحباب [279/ أ] المشاورة.

تنبيه: الجبر مقيد بما إذا لم يكن ضرر، فإن كان ضرر فلا يلزمها وله أن يزوجها من الضرير، والقبيح، ومن هو أدنى منها حالاً وأقل مالاً، وإن زوجها من مجبوب أو خصي، أو عنين، فقال ابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ: ذلك يلزمها إن كان على وجه النظر علمت به أو لم تعلم.

الباجي: ورأيت لسحنون أنه لا يلزمها في الخصي، والأظهر عندي في العنين والخصي والمجبوب وما كان للمرأة أن تفسخ النكاح به من العيوب فليس للأب إلزامها ذلك. وكذلك اختاره اللخمي، أما إن زوجها الأب من مجنون يخاف عليها منه، أو أبرص متسلخ أو مجذوم متقطع، قد منع من الكلام وتغيرت رائحته فلا يلزمها اتفاقاً.

سحنون: وإن كانت مجنونة وأراد الأب أن يزوجها مجنوناً أو مجذوماً، وقال: أغتفر عيبها لعيبه لم يكن له ذلك لأنها قد تفيق، وللأب تزويجها بربع دينار ولو كان صداق مثلها ألفاً، ولا كلام لها ولا لغيرها، رواه ابن حبيب عن مالك، قال في المدونة: ولا يجوز للسلطان

ص: 515

ولا للوصي ولا لأحد من الأولياء أن يزوجها بأقل من صداق مثلها، وينبغي للولي أن يختار لوليته زوجاً سالماً، وإلى ذلك أشار اللخمي، وقد كره عمر رضي الله تعالى عنه أن يزوج وليته من الرجل القبيح.

وَالْمَجْنُونَةُ والثَّيِّبُ بِعَاِرِضٍ كَالْبِكْرِ

يجوز في (الْمَجْنُونَةُ) النصب بالعطف على (الصَّغِيرَةَ) أي: ويجبر المجنونة وإن كانت كبيرة، ويجوز فيها الرفع على الابتداء. وينبغي أن يلحق بالأب القاضي، وهذا إن كانت لا تفيق، وأما إن كانت تفيق أحياناً فتنتظر إفاقتها.

وقوله: (بِعَاِرِضٍ) أي زالت بكارتها بغير جماع كوثبة أو عود، فلا خلاف فيما ذكره المصنف.

وَفِي الثَّيِّبِ بِحَرَامٍ قَوْلانِ

إنما عدل عن عبارة أكثر المؤلفين وهي الثيب بالزنا؛ ليدخل في كلامه المغتصبة فإنها مساوية للزانية في هذا الحكم، صرح بذلك صاحب المقدمات واللخمي وغيرهما. والقول بالجبر مذهب المدونة، والقول بعدمه في الجلاب.

واختلف في تعليل جبرها مع زوال البكارة، فقيل: لأن ذلك لا يزيدها إلا حياءً؛ ولهذا قال عبد الوهاب: ألزمت في مجلس النظر بحضرة ولي العهد أنه إذا كانت العلة في المزني بها الحياء، فإذا تكرر منها الزنا ارتفع حياؤها، فيرتفع الجبر، فالتزمت ذلك، وقيل: لأنها لما قصدت بالزنا زوال الإجبار عوقبت بنقيض مقصودها. ورد هذا ابن محرز باتفاق المذهب على ارتفاع الجبر في حق من زوجت نفسها قاصدة لذلك. وهل قول القاضي تفسير للمدونة، وهو الأظهر، أو خلاف؟ في ذلك للشيوخ مذهبان: قال في المقدمات: واختلف إذا زنت أو غصبت، فقيل: حكمها حكم البكر في جميع أحوالها. وقيل: حكم

ص: 516

الثيب في جميع أحوالها. وقيل: حكمها حكم الثيب في أنه لا تزوج إلا برضاها، وحكم البكر في أن إذنها صماتها.

وَالثَّيِّبُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ مِثلُهَا بِالصَّحِيحِ

أي: فلا تجبر لأنها لا حياء يلحقها في ذلك كالزانية، ولأن لواحق النكاح الصحيح ثبتت في هذا من لحوق الولد، ودرء الحد، والاعتداد في بيتها فوجب أن تساويها في عدم الجبر.

وَفِي الْعَانِسِ قَوْلانِ، وَهِيَ الْمُبَاشِرَةُ الْعَارِفَةُ بِالْمَصَالِحِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وسِنُّهَا أَرْبَعُونَ. وقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: ثَلاثُونَ ....

القولان لمالك، وروى عنه محمد: يجبرها. قال في المتيطية: وبها القضاء وعليها العمل. وروى ابن وهب عنه أنه لا يجبرها.

قوله: (وَهِيَ) تفسير للمعنسة، وهو واضح، ومنشأ الخلاف هل العلة في الجبر البكارة وهي موجودة؟ أو الجهل بالمصالح وهذه عالمة بها؟

قال في المقدمات: وعلى الجبر؛ فللأب أن يرضى بأقل من صداق المثل، وعلى عدمه فالرضى بقليل الصداق وكثيره إليها دونه كالمرشدة.

ابن راشد: وفي معنى المعنسة البكر المرشدة. المتيطي وغيره: والمشهور أن المرشدة لا تجبر. وصوب أبو عمر بن عبد البر القول بجبرها نظراً للبكارة، وعلى المشهور فهل يكون إذنها صماتها أو نطقاً؟ فالمشهور من القول، وهو قول ابن الهندي، وابن العطار، والباجي: لا بد من اللفظ. وقال ابن لبابة: الصمات فيها يجزئ. وفرق جماعة من الشيوخ، فقالوا: إن كان صداقها أو بعضه عرضاً كلفت الكلام، وإن كان عيناً اكتفي بالصمت.

ص: 517

بعض الموثقين: هذه المسألة اجتمع فيها وجهان: من نظر إلى البكارة اكتفى بالصمت، ومن نظر إلى أن الرضا بالصداق لها، قال: لابد من الكلام. ورأى في الثالث أن الصداق إذا كان عرضاً أنه لابد من نطقها لأنها بائعة مشترية، والشراء لا يلزم بالصمت.

ابن سهل: ولا وجه لهذه التفرقة.

واختلف في حد التعنيس على سبعة أقوال:

القولان اللذان ذكرهما المصنف. وقيل: ثلاثة وثلاثون. وقيل: خمسة وثلاثون وقيل: خمسة وأربعون. وقيل: خمسون. وقيل: من الخمسين إلى الستين. هذا إذا كانت العانس ذات أب، ولا حاجة إلى [279/ ب] ذكر حد التعنيس بالنسبة إلى المهملة هنا، فإن الكلام هنا في الجبر وهو خاص بالآباء، وأنت تعلم أن وجود دليل شرعي على مثل هذا التحديد متعذر.

وَفِي مَنْ طَالَتْ إِقَامَتُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَطُلِّقَتْ قَبْلَ الْمَسِيسِ قَوْلانِ، وَفِي تَحْدِيدِهِ بِسَنَةٍ أَوْ بِالْعُرْفِ قَوْلانِ ....

القول بعدم الجبر مذهب المدونة، ففيها: ومن زوج ابنته فدخل بها الزوج ثم فارقها قبل أن يمسها لم يكن لأبيها أن يزوجها كما يزوج البكر إن طالت إقامته معه وشهدت مشاهدة النساء، وأرى السنة طولاً؛ فأسقط المصنف قوله مشاهد النساء، ولا بد منه، وإلى ذلك أشار صاحب التنبيهات. وقيل: معنى قوله مشاهد النساء؛ أي: بالحيض والحمل. خليل: وفيه نظر؛ لأنها إذا حملت تخرج عن فرض المسألة. والظاهر أنه أراد الجلوس معهن والتحدث والاجتماع في نحو الولائم. والقول بالجبر لابن عبد الحكم نظراً إلى البكارة، ورأى في المشهور أنها عرفت مصالح نفسها.

والمشهور تحديد المدة بالسنة؛ لأن المرأة لا تعرف الأحوال إلا بجميعها لاختلاف المآكل والملابس وأحوال القوم في السنة. والقول بالرجوع في ذلك إلى العرف رواية ذكرها

ص: 518

عبد الوهاب، وهي الأصل، فإن لم يطل مكثها معه كشهر أو شهرين فالمشهور من المذهب أن للأب إجبارها. وحكى الأبهري قولاً آخر بعدم الجبر.

وأما إن قامت معه ستة أشهر ثم طلقت وقالت: ما جامعني؛ فاستحب في العتبية مؤامرتها؛ فإن لم يفعل وزوجها مضى النكاح.

فرع مرتب:

إذا قلنا بالإجبار مطلقاً أو مع عدم الطول فلابد من إقرارها بذلك قبل العقد، ولا يصدق الأب لئلا يؤدي إلى إنكاح الأب الثيب بغير أمرها، ولا يسمع في ذلك قول الزوج أنه وطئ.

ابن سعدون: ولو أكذبها الأب وهي فقيرة، والأب موسر لكان القول قولها لأنه لا يعلم إلا من جهتها. انتهى.

وكذلك نقل صاحب المتيطية عن بعض الموثقين. وقال في البيان بعد قوله: إن زوجها بعد أن قامت ستة أشهر بغير استثمار مضى النكاح: هذا إذا أقرت بذلك على نفسها قبل أن يزوجها أو بقرب تزويجها، وأما إن زوجها وهي غائبة غيبة بعيدة أو حاضرة ولم تعلم حتى طال الأمر فإنها تتهم على إمضاء النكاح بإقرارها على نفسها أن زوجها الذي دخل بها لم يصبها. فجعل الإقرار بقرب العقد بمنزلة الإقرار قبله، وهو خلاف الكلام الأول. وفي اللخمي: إذا طلقت بالقرب وادعت البكارة وخالفها الأب كان القول قوله ولا تلزمه نفقتها.

وَفِي الثَّيِّبِ تَبْلُغُ بَعْدَ الطَّلاق قَوْلانِ

تقدم الكلام على هذا الفرع.

فرع: ولا يجبر الأب الثيب السفيهة على المعروف، وحكى المتيطي قولاً بأنه يجبرها.

ص: 519

وَوَصِىِّ الأَبِ وَوَصِيِّهِ بِالإِنْكَاحِ كَالأَبِ وقيل: إلا فِي الإِجْبَارِ، وقَيلَ: إِلا أَنْ يُفْهَمَ الإِجْبَارُ، وَقِيلَ: إِلا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ. وَقِيلَ: هُوَ وَالْوَلِيُّ سَوَاءُ، وَقِيلَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى، وَقِيلَ: كَالأَجْنَبِيِّ ....

أي: ووصى الأب. ووصي الوصي؛ يريد: وإن بعد بالنكاح كالأب، فحذف بالنكاح من الأول لدلالة الثاني عليه. قوله:(كَالأَبِ) أي: فيجبر. وهذا القول ذكر اللخمي أنه المعروف، فقال: الإجباريختص بالآباء وبمن أقامه الأب في حياته أو بعد وفاته إذا عين الأب الزوج. واختلف إذا لم يعينه الأب، وجعل ذلك إلى اجتهاد من أقامه؛ فقيل: للمقام إجبارها وينكحها ممن يراه أحسن لها قبل البلوغ وبعده. وهذا هو المعروف من قول مالك.

قوله: (وقيل: إلا فِي الإِجْبَارِ) هذا القول هو الذي يؤخذ من المدونة، ففيها: وللوصي أن يزوج البكر البالغ برضاها وإن كره الولي، ولو رضيت هي ووليها برجل وعقدوا له لم يجز إلا برضا الوصي، وإن اختلفوا نظر السلطان. وقال يحيى بن سعيد: الوصي أولى من الولي، ويشاور الولي.

قوله: (وقَيلَ: إِلا أَنْ يُفْهَمَ الإِجْبَارُ) أي: فيكون له الإجبار، ومقتضاه أن الأول يقول بالجبر وإن لم يفهم الإجبار.

واعترضه ابن عبد السلام وقال: كل من يرى له الجبر لا يقوله إلا إذا نص على الجبر أو على ما يستلزم الجبر. وعلى هذا فينتفي الأول. ومقتضى الرسالة أنه لا يزوجها إلا أن ينص له الأب على ذلك؛ لقوله: وللوصي أن يزوج الطفل في ولايته، ولا يزوج الصغيرة إلا أن يأمره الأب بإنكاحها، وقال قبل ذلك: وأما غير الأب في البكر وصي أو غيره فلا يزوجها حتى تبلغ وتأذن، وإذنها صماتها.

قوله: (وَقِيلَ: إِلا فِي الْبِكْرِ الْبَالِغِ) ابن راشد: هو المشهور. وفهم المدونة عليه، وما قلناه من حمل المدونة على القول الثاني في كلام المصنف أولى؛ لأنا لو حملناها على هذا لزم أنه إذا

ص: 520

زوج الولي معه أن يمضي؛ لأن الذي يفهم من الأولوية أن يكونا كوليين أحدهما أقرب والآخر أبعد، فكان يمضي نكاح الولي مع الوصي، وليس كذلك.

عياض: وظاهر قوله في المدونة: ولو رضيت هي ووليها برجل وعقدوا له لم يجز [280/ أ] إلا برضا الوصي؛ أن للوصي رده، وكذلك نص في الموازية.

وهل هذا حق للوصي وأنه لا ولاية للولي معه فيها كما ليس له ذلك مع الأب الذي أنزله منزلته فينقضه على كل حال، أو حماية للأوصياء لئلا يفتات عليهم ويتسع الأمر فيؤدي إلى إسقاط ما بأيديهم؟ وقال الشيخ أبو إسحاق: ظاهره أنه إن أجازه الوصي جاز. ونحا بعض الشيوخ إلى أنه إن كان نظراً منع الوصي من فسخه.

وجعل ابن عبد السلام ظاهر المدونة وما نص عليه في الموازية مفرعاً على القول الذي قدمه المصنف، وقال: الأول هو المشهور وعليه فرعوا. وفيه نظر.

قوله: (وَقِيلَ: هُوَ وَالْوَلِيُّ سَوَاءُ) ابن راشد: لم أقف على هذا القول. قوله: (وَقِيلَ: الْوَلِيُّ أَوْلَى) هذا القول حكاه سحنون في السليمانية عن غير ابن القاسم من الأصحاب.

قوله: (وَقِيلَ: كَالأَجْنَبِيِّ) أي: فلا ولاية له. وهو قول ابن الماجشون وابن عبد الحكم. وحكى ابن مغيث في وثائقه عن العتبي أنه ليس للوصي من الإنكاح شيء إذا كان لها ولي. وكان القاضي ابن السليم يلزم الوصي بأن يأمر الولي بالتزويج ليخرج من الخلاف؛ فإن قلت: يرد على المصنف سؤالان:

الأول: ليس في كلام المصنف تعرض للوصي المطلق لكونه قيده بالنكاح. وقد نص في المدونة على أن له أن يزوج.

الثاني: مقتضى كلامه أنه إذا أوصاه على ضيعته أو تفرقة ثلثه أنه لا يجوز له أن يزوج. وقال في المدونة في الوصي على الضيعة وتفرقة الثلث: إذا زوج رجوت أن يمضي.

ص: 521

فالجواب عن الأول: لا نسلم أنه إذا أوصى له وصية مطلقة أنه لم يوص له بالنكاح؛ لأن الإيصاء بالنكاح داخل في الإطلاق، فكلام المصنف شامل لهذه الصورة.

وعن الثاني: أنه في المدونة إنما تكلم بعد الوقوف لا في الجواز ابتداء.

لكن نص أشهب في ديوانه وحكاه عنه فضل أنه إذا أوصاه على ماله أنه يزوج بذلك بناته ما لم يقل: وليس إليه من بناتي شيء. وقال في البيان: والقياس ما قاله ابن حبيب؛ لأنه قال: إذا قال: فلان وصي على مالي؛ فليس بوصي على الولد في تزويجهم، وإنما يكون وصياً في التزويج إذا قال: فلان وصيي، ولم يزد. أو قال: على بضع بناتي.

تنبيهان: الأول: مقتضى كلام اللخمي أنه إذا عين الميت الزوج كان له أن يزوجها من غير خلاف، وقد صرح الركراكي بذلك.

اللخمي: وفي كتب ابن أشرس عن مالك أنه إذا عين الأب للوصي ولم يجعل التزويج بقرب موته أنه لا يجبر. وقال: إذا قال الأب: إذا بلغت ابنتي فزوجها من فلا،، لم يجز ذلك إذا بلغت فكرهت.

الثاني: قال في المدونة بإثر الكلام المتقدم: ويزوج الولي الثيب برضاها وإن كره الوصي، وإن زوجها الوصي أيضاً برضاها جاز وإن كره الولي. وليس كالأجنبي فيها، وليس لأحد أن يزوج الطفلة قبل بلوغها من قاض أو وصي إلا الأب وحده.

عياض: وذهب بعض المشايخ إلى أن هذه الثيب التي يجوز عليها عقد الولي دون الوصي إنما هي الرشيدة وأما المحجورة فكالبكر إلا أن رضاها بالقول دون الصمت.

وقد وقع هذا أيضاً نصاً لأصبغ في كتاب فضل، وابن مزين، ويحيى بن إسحاق قال: الأولياء في الثيب غير المولى عليها أولى بالبضع من الوصي، غير أنه إذا زوجها الوصي برضاها جاز ذلك على الأولياء- وإن كرهوا- وليس الوصي في ذلك كالأجنبي، وهو

ص: 522

ظاهر ما في النكاح الثاني والوصايا، ويعضده تشبيهه إياها بمسألة: إذا أنكح الأخ أخته الثيب بحضرة الأب وأجاز ذلك.

وقوله: ما للأب ولها واحتجاجه بها على هذه المسألة. وجعل فضل هذا خلافاً لما في الواضحة من أن الوصي يقوم مقام الأب، وأنه أولى بعقد إنكاحها من الإخوة والأعمام والعصبة والسلطان، وأنه أولى بإنكاح مولاة الموصي من ولد وغيره، وكذلك كل من كانت ولاية تزويجه إلىلموصي من البنات والأخوات والقرابات أبكاراً كن أو ثيبات فإنه يتنزل الوصي منزلته، وكلامه هذا بين في أنه أولى بإنكاح الجائزات الأمر لذكره الموالي والأخوات والقرابات وكل من كان للموصي إنكاحه. وذكر أنه قول مالك وأصحابه والأخوات والقرابات وكل من كان للموصي إنكاحه. وذكر أنه قول مالك وأصحابه المدنيين والمصريين. وقال سحنون: ليس الوصي بولي للثيب الرشيدة. قال شيخنا أبو الوليد: هذا إذا قال الموصي فلان وصيي ولم يزد؛ يعني ولو قال: على إنكاح بناتي لكان أولى على كل حال. انتهى.

وهل يزوج الوصي كل من كان الموصي يزوجه؟ قال في البيان: إذا قال: فلان وصيي ولم يزد ففي تزويجه من لا ولاية له عليهن من قرابة الموصي ومولياته، ثلاثة أقوال:

أحدها: أن له أن يزوجهن وهو أولى بذلك من الأولياء، وهو مذهب ابن القاسم وابن حبيب.

والثاني: مثله إلا أن الأولياء أحق بذلك منه، وهو قول أصبغ.

الثالث: أنه ليس له أن يزوج التي لا ولاية له عليها، وهو قول سحنون. وأما وصي المولى عليه باسمه من رجل أو امرأة فلا تتعدى ولا يته إلى غيره ممن إلى نظره، ولا يزوج أحداً من قرابة الموصي كان محجوره حياً أو ميتاً إذ لا ولاية له على واحدة منهن، ولا اختلاف في هذا [280/ب] غير أن ابن الهندي قال: إن زوج واحدة منهن مضى وهو بعيد، وأما لو قال: فلان وصيي على بضع بناتي لكان ولياً لجميع بناته في النكاح وإن كن

ص: 523

مالكات أمور أنفسهن، وإن رشدت محجورته فإنه يزوجها كما كان أبوها يزوجها وهي مالكة أمر نفسها. انتهى.

فرع: قال في المتيطية: اختلف في وصي القاضي؛ فقال ابن حبيب: ولي النسب مقدم عليه؛ لأن ولي النسب مقدم على القاضي، فيكون مقدماً على مقدمه من باب أولى. وقال ابن حارث وإسحاق بن إبراهيم وابن السليم: وصي القاضي مقدم على ولي النسب؛ لأن القاضي لما قدم وصياً صار كالحكم والنظر فيما أغفله الأب من التقديم عليها فينزل منزلة وصي الأب.

وَقَالَ أَصْبَغُ: إِذَا قَالَ فِي مَرَضِهِ إِذَا مِتُّ فَقَدْ زَوَّجْتُ ابْنَتِي مِنْ فُلانٍ فَمُجْمَعُ عَلَى إِجَازَتِهِ وهُوَ مِنْ وصَايَا الْمُسْلِمينَ ....

قيد سحنون هذه المسألة بأن يقبل الزوج النكاح بقرب الموت. وقال يحيى بن عمر: سواء طال الأمر أو لم يطل. قال صاحب البيان: وهو ظاهر ما في العتبية. ونص ابن بشير على أن مذهب المدونة الصحة ولو حصل القبول بعد الطول، وأن قول سحنون خلاف.

وأشار في البيان إلى تخريج هذه المسألة على ما إذا زوجها بغير إذنها، ثم بلغها فرضيت فإنه يتخرج في هذه الثلاثة الأقوال المذكورة في النكاح الموقوف.

اللخمي وغيره: أما إذا مت فزوجوا ابنتي من فلان فهاهنا يجوز سواء رضيه فلان بالقرب أو لا؛ لأن النكاح في الأولى من الميت. ولولا الإجماع الذي نقله أصبغ، وإلا فالقياس المنع لأن المرض قد يطول فيتأخر القبول عن الإيجاب بالسنة ونحوها، وكأنهم لاحظوا أن المريض مضطر إلى ذلك، وكذلك اختلف في الصحيح. وإلى ذلك أشار بقوله:

وَفِي الصِّحَّةِ قَوْلانِ

المنع لابن القاسم، وأصبغ، وابن المواز، والإجازة لأشهب بناء على أنه نكاح مؤقت ولا ضرورة، أو هو جار مجرى الوصية؟

ص: 524

أصبغ: وإن في المرض لمغمز ولكن أهل العلم أجمعوا على إجازته.

صاحب البيان: وقول ابن القاسم أصوب لأنه إذا كان في الصحة فكأنه إلى أجل، ولعل ذلك يطول كالذي يقول إذا مضت سنة فقد زوجت ابنتي من فلان. وقول أشهب عندي أحسن لأنه إذا حمله على الوصية فلا فرق بين الصحة والمرض في ذلك. انتهى.

فرع: واختلف فيمن قال إن فعلت كذا فقد زوجتك ابنتي؛ فلمالك في العتبية في القائل: إن أتيتني بخمسين ديناراً فقد زوجتك ابنتي: لا يعجبني هذا النكاح ولا تزويج له. ولأشهب في الموازية في الذي يقول للخاطب: إن فارقتك امرأتك فقد زوجت ابنتي، أن النكاح يجوز؛ فجعله ينعقد بنفس الفراق. قال: ولو قال: إن فارقت امرأتك زوجتك، كانت عدة ولم يلزمه تزويجه، وأحب إلي أن يفي.

التونسي: والقياس أن يجبر على التزويج لأنه وعد أدخله بسببه في فراق زوجته كما لو قال: بع فرسك والثمن عليَّ، أو اهدم دارك وأنا أعطيك كذا، فإنه يلزمه ذلك.

قال في البيان: وهذا الخلاف عندي إذا أراد إن فعلت ذلك بالقرب، ولو قال: متى فارقت امرأتك لم يجز باتفاق.

وَبَقِيَّةُ الأَوْلِيَاءِ يُزَوِّجُونَ الْبَالِغَ خَاصَّةً، عَلَى الأَصَحِّ بِإِذْنَهَا وَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً

أي: ما عدا السيد والأب والوصي إنما يزوجون البكر البالغ خاصة لا غير البالغ، ومقابل الأصح سيأتي إن شاء الله تعالى في اليتيمة، ولهذا كان الأولى أن يسقط هنا قوله:(عَلَى الأَصَحِّ) لأن ما يأتي يغني عنه قوله: (وَإِنْ كَانَتْ سَفِيهَةً) يعني أن السفيهة لا يسقط وجوب استئذانها لأنه إنما يمنع من النظر في المال، ولهذا لا يكون لوصي المرأة قيام فيما يتعلق بالضرر من زوجها إلا بتوكيل منها على ذلك.

فرع: هل لا يعقد الولي العقد إلا بتفويض من المرأة؟

ص: 525

قال فضل بن سلمة: لا بد أن يذكر في الصداق تفويض المرأة إلى الولي عند نكاحها إذا كان الزوج أخاً أو ولياً أو وكيل السلطان- ما عدا الأب وهو قول ابن القاسم- بكراً كانت أو ثيباً. وأنكر ابن حبيب ذلك فيهما جميعاً، وقال: هو حق له قد استخلفه الله تعالى عليه، والولي أحق به منها.

المتيطي: وإذا قلنا بقول ابن القاسم فظاهر مذهب الموثقين أنه يكفي في تفويضها صماتها. وفي المنتقى في بعض توجيهاته أنها إذا أمرت وليها أن يزوجها لم يكن بد من نطقها. قال: وانظر إذا كانت غائبة عن موضع الولي والزوج وأرادت التفويض إليه فالظاهر أنه لا بد من نطقها ولا ينبغي أن يختلف في ذلك. انتهى.

وَيُسْتَحَبُّ إِعْلامُ الْبِكْرِ أَنَّ صَمْتَهَا إِذْنُ مَرَّةً، وَقِيلَ: ثَلاثاً، فَإِنْ مُنِعَتْ لَمْ تُزَوَّجْ

إنما خصت البكر بالصمات لما يلحقها من الحياء بالنطق لئلا تنسب إذا نطقت بالميل إلى الرجال.

ابن رشد: وجه استئمار البكر في النكاح أن يقول لها الولي بحضرة الشهود: إني أزوجك من فلان فتسكت. قال صاحب الوثائق المجموعة وغيره: أو يقول لها ذلك الشهود، وصفة ذلك أن يقول لها ذلك الشهود، وصفة ذلك أن يقول لها الشهود أو أحدهم مرة- وقال ابن شعبان: ثلاثاً- إن فلاناً خطبك على صداق مبلغه كذا وكذا، المعجل منه كذا، والمؤجل [281/ أ] كذا؛ فإن كنت رضيت فاصمتي، وبصماتك يلزمك ذلك وبه يستدل على رضاك، وإن كنت كارهة فانطقي.

ابن الماجشون: ويطيلون المقام عندها قليلاً. قال في العتبية: ولا يسألها الشهود ولا الولي إذا سكتت هل رضيت أم لا؟

قوله: (يُسْتَحَبُّ) أي: لو ترك لم يضر. ابن عبد السلام: وظاهر قول غير ابن القاسم في المدونة، وهو نص قول مالك ابن مسلمة أن ذلك واجب. انتهى. والذي في

ص: 526

البيان: روى محمد بن مسلمة عن مالك أنه ينبغي لهم أن يعلموها، إذ ليس كل بكر تعلم أن إذنها صماتها، وعلى هذه الرواية يأتي قول ابن القاسم في المدونة. وفي الباجي: بعد أن ذكر أن ظاهر قول غير ابن القاسم كما قال ابن عبد السلام غير أن أصحابنا حملوه على الاستحباب. عياض: وتردد أبو عمران في قول الغير هل هو وفاق أو خلاف؟ ونقل عن ابن سحنون أن حمله على الخلاف، وإليه ذهب ابن بشير.

قوله: (فَإِنْ مُنِعَتْ لَمْ تُزَوَّجْ) هذا صحيح وإلا لم تكن فائدة في استئذانها، ويعلم منعها بالنطق وغيره.

ابن الجلاب: وإن نفرت أو بكت أو قامت أو ظهر منها ما يدل على إنكارها لم يلزمها.

وفي الموازية أن بكاءها رضاً لاحتمال أن تكون بكت على فقد أبيها، وتقول في نفسها: لو كان أبي حياً لما احتجت إلى ذلك.

بعض الموثقين: وقعت هذه المسألة فحكم فيها بإمضاء النكاح، وأما إن ضحكت فذلك رضاً منها.

وَلَوْ قَالَتْ: مَا عَلِمْتُ أَنََّ الصَّمْتَ إِذْنٌ لمْ يُقْبَلُ عَلَى الأَصَحِّ

لأنه مشتهر، ولعل مقابل الأصح مبني على وجوب إعلامها، وإلا فلو كان استئذانها مستحباً بلا خلاف لما صح أن تعذر بالجهل. واختار عبد الحميد أن ينظر إلى هذه الصبية، فإن علم منها البله، وقلة المعرفة قبل منها وإلا فلا.

فائدة: مسائل لا يعذر فيها الجهل؛ منها: هذه. ومنها: من أثبتت أن زوجها يضربها فتلوم له الحاكم ثم أحضره ليطلق عليه فادعى أنه وطئها سقط حقها ولو ادعت الجهل. ومنها: الأمة المعتقة إذا وطئها زوجها بعد عتقها وادعت الجهل بالحكم فإنه يسقط خيارها.

ومنها: إذا وطئ المرتهن الأمة المرتهنة؛ فإنه يحد ولا يعذر بجهالة. ومنها: من سرق ثوباً لا

ص: 527

يساوي ربع دينار وفيه ربع دينار. ومنها: من ملك زوجته فقضت بالبتة وادعى الجهل بحكم التمليك، فقيل له: يلزمك ما أوقعت. فقال: ما أردت إلا واحدة. ومنها: من وجب له على أبيه يمين أو حد فأخذه بذلك فلا تجوز شهادته ولا يعذر بالجهل. وقيل: لا تسقط بذلك شهادته.

ومنها: الذي يقطع الدنانير والدراهم، فلا تجوز شهادته ولو كان جاهلاً. ومنها: المرتهن يرد الرهن فتبطل حيازته ولا يعذر بالجهل.

ومنها: قول أصبغ في المظاهر يطأ قبل الكفارة أنه يعاقب ولا يعذر بجهل.

ومنها: من قذف عبداً فظهر أنه حر. ومنها: امرأة يغيب عنها زوجها فتنفق من ماله ثم يأتي نعيه فترد ما أنفقته من يوم الوفاة. ومنها: البيوع الفاسدة كلها حكم الجاهل فيها حكم العالم. ومنها: من ابتاع أحداً ممن يعتق عليه جهلاً فيعتق عليه ولا يعذر بجهل. ومنها: من دفع زكاته لكافر أو غني يظن الكافر مسلماً والغني فقيراً فلا يجزئه. ومنها: المظاهر يطأ بالبيع وهو حاضر. ومنها: المطلقة يراجعها زوجها فتمكث حتى يطأها ثم تدعي أن عدتها قد كانت انقضت وتدعي الجهل في سكوتها.

ومنها: المرأة تزوج وهي حاضرة فتسكت ولا تنكر حتى يدخل بها الزوج ثم تنكر النكاح وتقول لم أرض به وتدعي الجهل. ومنها: الرجل يباع عليه ماله ويقبضه المشتري وهو حاضر لا يغير ولا ينكر ثم يقوم ويدعي أنه لم يرض ويدعي الجهل. ومنها: من حاز مال رجل المدة التي تكون الحيازة عاملة فيها وادعى أنه ابتاعه منه فإنه يصدق مع يمينه ولا يعذر صاحب المال إن ادعى الجهل. ومنها: البدوي يقر بالزنا أو الشرب ويقول: فعلت ذلك جهلاً. ومنها: من رأى حمل امرأته فلم ينكره ثم أراد أن ينفيه بعد ذلك. ومنها: من وطئ في اعتكافه وادعى الجهل فلا يعذر. ومنها: العبد يزني أو يشرب قبل علمه بعتقه فإنه

ص: 528

يحد كالحر ولا يعذر بجهله. ومنها: كثير من مسائل الوضوء والصلاة والحج وكذلك أكل مال اليتيم، والمتصدي للفتوى بغير علم، والطبيب يقتل بمعاناته وهو جاهل بالطب.

ومنها: الشاهد يخطئ في شهادته في الأموال والحدود. ومنها: ما في الواضحة فيمن باع جارية وقال كان لها زوج فطلقها أو مات عنها، وقالت ذلك الجارية، لم يجز للمشتريأن يطأ ولا يزوج حتى تشهد البينة على الطلاق أو الوفاة، وإن أراد ردها وادعى أن قول البائع والجارية في ذلك مقبول لم يكن له ذلك وإن كان ممن يجهل معرفة ذلك. ومنها ما قاله أصبغ فيمن اشترى نصرانية فأعتقها في الكفارة أنها لا تجزئه ولا يعذر بالجهل. ومنها: الغريم يعتق بحضرة غرمائه فيسكتون ولا ينكرون ذلك ثم يريدون القيام ويدعون الجهل.

ومنها: الرجل يبيع [281/ ب] العبد على الخيار ويتركه بيد المبتاع حتى يطول الأمر بعد انقضاء أيام الخيار. ومنها: الشاهدان يريان الفرج يستحل والحر يستخدم فيسكتان ولا يقومان بشهادتهما، ثم يقومان ويدعيان الجهل فلا تقبل شهادتهما. ومنها: ما في سماع عيسى في كتاب التخيير في الذي يملك امرأته أمرها فتقول: قبلت؛ ثم تصالحه بعد ذلك قبل أن تسأل ما قبلت، ثم تقول: كنت أردت ثلاثاً لترجع فيما صالحت به أنها لا ترجع بشيء على الزوج، لأنها حين صالحت علمنا أنها لم تطلق ثلاثاً ولا تعذر بالجهل. ومنها: المخيرة تقضي بواحدة ثم تريد أن تختار بعد ذلك، وتقول: جهلت وظننت أن لي أن أختار واحدة. ومنها: التي يقول لها زوجها: إن غبت عنك أكثر من ستة أشهر فأمرك بيدك، فيغيب عنها أو تقيم بعد الستة المدة الطويلة من غير أن تشهد أنها على حقها ثم تريد أن تقضي وتقول جهلت وظننت أن الأمر بيدي متى شئت. ومنها: الرجل يجعل أمر امرأته بيد أجنبي فلا يقضي المملك حتى يطأها ثم تريد أن تقضي، ويقول: جهلت وظننت أن ذلك لا يقطع ما كان لي. ومنها: المملكة والمخيرة يملكها زوجها ويخيرها فلا تقضي حتى ينقضي المجلس على أول قول مالك ثم تريد أن تقضي بعد، والله أعلم.

ص: 529

وَالْبُلُوغُ بِالاحْتِلامِ أَوِ بِالإِنْبَاتِ أَوْ السِّنِّ وَهِيَ ثَمَانِ عَشْرَةَ، وَقِيلَ: خَمْسَ عَشْرَةَ، وَتَزِيدُ الأُنْثَى بِالْحَيْضِ والْحَمْلِ ....

حاصله أن للبلوغ خمس علامات، منها ثلاث يشترك فيها الذكور والإناث، ومنها اثنتان تختصان بالأنثى. وما ذكره من العلامات متفق عليه إلا الإنبات، ففي اللخمي: اختلف في البكر تشارف البلوغ، فقال ابن القاسم: لا بأس إذا جرت عليه المواسي أن تزوج برضاها، وقال مرة: لا تزوج حتى تبلغ. ونحوه لابن يونس. وعلى المنع فهل يفسخ مطلقاً؟ وهو قول ابن حبيب، أو لا يفسخ؟

ابن عبد السلام: اضطرب المذهب في اعتبار الإنبات كثيراً. وقال بعض متقدمي أصحابنا أنه يعتبر في الأحكام التي بين العباد كالقصاص وما ينظر فيه الحاكم من الحدود، ولا يعتبر فيما لا ينظر فيه القضاة كالصلاة والحج فيقتل من أنبت إن قتل، ولا يؤمر بحج ولا صيام. وقال بعض الشيوخ: إن هذا متفق عليه. أعني ما ذكروه في الأحكام التي بينه وبين الله تعالى. وإنما الخلاف في القسم الآخر، ويرى صاحب هذا القول أن ما جاء من الأمر بقتل من جرت عليه المواسي لا يتعدى إلى غيره من الأحكام التي بين العبد وربه تعالى، والمشهرو في السن ما قدمه. والقول بالخمس عشرة لابن وهب، ولا فرق في هذا الفصل بين الذكر والأنثى.

وَرَجَعَ مَالِكُ إِلَى أَنَّهُ لا تُزَوَّجُ الْيَتِيمَةُ قَبْلَ الْبُلُوغِ، وَعَنْهُ: إِنْ دَعَتْ حَاجَةُ- ومِثْلُهَا يُوطَأُ- جَازَ، وقِيلَ: تُزَوَّجُ ولَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ. وَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: اتَّفَقَ الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّهُ يَجُوزُ إِذَا خِيفَ عَلَيهَا الْفَسَادُ ....

(الْيَتِيمَةُ) من لا أب لها، والرواية المشهورة أنها لا تزوج إلا بعد البلوغ.

قال الأستاذ أبو بكر: وهو المذهب الصحيح. وقال القاضي أبو محمد: هو أظهر الأقوال وأصح الروايات، والذي يفتى به، وإليه رجع مالك.

ص: 530

اللخمي: وقال مالك في الموازية في صبية بنت عشر سنين ذات حاجة تتكفف الناس: لا بأس أن تزوج برضاها وإن كانت صغيرة لم تنبت. فأباح أن تزوج للحاجة، وهو أحسن، وإليه أشار بقوله:(وَعَنْهُ: إِنْ دَعَتْ حَاجَةُ ومِثْلُهَا يُوطَأُ جَازَ).

وفي المتيطية: وروى محمد بن عبد الحكم عن مالك: أنه رجع عما في الموازية إلى الرواية الأولى، وحكى ابن الجلاب فيه ثلاثة روايات: هاتين الروايتين، والثالثة: أن النكاح جائز ولها الخيار إذا بلغت في فسخه وإمضائه. وجعل ابن بشير هذا الخلاف يجري في غير المميزة إذا احتاجت.

قال في البيان: ولا يجوز تزويج اليتيمة المميزة لمصالحها كارهةً اتفاقاً.

وقوله: (وقِيلَ: تُزَوَّجُ ولَهَا الْخِيَارُ إِذَا بَلَغَتْ) ظاهره أنه يجوز الإقدام على ذلك، وبه صرح ابن بشير، وهو قريب من الرواية التي حكى ابن الجلاب، وفي هذا القول نظر؛ لأن الخيار عندنا مناف لصحة عقد النكاح، وما حكاه المصنف عن ابن بشير، قال ابن عبد السلام: العمل عندنا ببلدنا اليوم هو الذي عليه بشرط بلوغها عشر سنين ومشاورة القاضي. قال غيره: وتأذن بالقول ويكون لها ميل إلى الرجال.

قال في المتيطية: وبه جرى العمل عند الموثقين وانعقدت به الفتوى. وذكر عياض أن الحذاق على الإجبار متى خيف عليها الفساد وإن كانت ثيباً.

وَعَلَى الْمَشْهُورِ يُفْسَخُ وإِنْ دَخَلَ

هكذا وقع في بعض النسخ وفي بعضها: (ما لم يدخل) وهو كذلك ابن شاس لأنه قال: وإذا فرعنا على الرواية الصحيحة فزوجت فروي: يفسخ النكاح ولا يقران عليه وإن بلغت ما لم يدخل. وقيل: ينظر فيه الحاكم، فإن رآه صواباً أمضاه وإلا فسخه. وقيل: الخيار لها، فإن رضيت مضى، وإلا فسخ. وإنما يكون ذلك بعد بلوغها.

ص: 531

ابن عبد السلام: [282/ أ] الأولى هي الصحيحة، فإن ابن حبيب نقل عن مالك وأصحابه أنه يفسخ وإن ولدت أولاداً ورضيت بزوجها، وقيل: يفرق بينهما ما لم يطل بعد الدخول.

قال أصبغ متمماً لهذا القول: ما لم يطل وتلد أولاداً، ولم ير الولد الواحد والسنتين بعد ذلك طولاً. وفي المتيطية: المشهور إذا زوجت وكانت غنية أنه يفسخ قبل الدخول وبعده ما لم يطل بعد الدخول، ثم ذكر ما رواه ابن حبيب.

وعلى هذا فتكون نسخة (وإِنْ دَخَلَ) مقيدة بما إذا لم يطل، ويكون قوله في النسخة الثانية:(ما لم يدخل) يريد ويطول بعد الدخول. قال في البيان: وقال: ابن القاسم لا يفسخ لقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَاّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى ([النساء: 3] معناه: لا تعدلوا في تزويجهن، وهو دليل جواز العقد عليهن قبل البلوغ، إذ البالغ لا يقال له يتيم. قال: وقيل: تخير إذا بلغت ما لم يطل الأمر بعد الدخول لأنه حق لها. وقال مالك: يكره، فإن وقع لم يفسخ.

وَإِنْ تَقَدَّمَ الْعَقْدَ عَلَى الإِذْنِ فَثَالِثُهَا: الْمَشْهُورُ: إِنْ تَعَقَّبَهُ قَرِيباً صَحَّ

معناه: إذا عقد ولي على امرأة نكاحاً قبل أن تأذن ثم بلغها ذلك فرضيت ففي ذلك ثلاثة أقوال، وهي أيضاً فيمن زوج ابنه البالغ ثم بلغه ذلك فرضي، نص على ذلك اللخمي، أما إن لم ترض فلا إشكال في عدم اللزوم. والثلاثة الأقوال لمالك، إلا جازة مطلقاً في الموازية، والمنع مطلقاً حكاه الجلاب، والمشهور مذهب المدونة، والضمير في (تَعَقْبَهُ) عائد على العقد، والضمير المستتر عائد على الإذن.

واختلفت طرق الشيوخ في هذه المسألة، فحكى ابن زرقون الثلاثة كالمصنف، وذكر في التنبيهات عن بعضهم أن الخلاف إنما هو في البعد.

ص: 532

وقال في البيان: إنما اختلف في القرب وأما مع البعد فلا يجوز النكاح، وإن أجازه باتفاق إلا على تأويل التونسي؛ فإنه تأول أنه لا فرق على أحد قولي مالك بين القرب والبعد، وعلى هذا فيكون في المسألة ثلاثة أقوال. انتهى.

وجعل الباجي المسألة على وجهين: أحدهما: أن يكون موقوفاً من الطرفين. والثاني: أن يكون موقوفاً من طرف واحد. وحكى في الموقوف من طرفين قولين: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً. قال: وهو الصحيح عندي. وقد اختاره ابن القصار، قال: وأما الموقوف أحد طرفيه على الآخر، ففي كراهة ما قرب منه قولان، وما بعد قولان: الجواز والإبطال. وعلى المنع فعن ابن القاسم: يفسخ قبل، ويثبت بعد؛ لأن جل الناس على إجازته.

قال في البيان: واختاره محمد، وفي سماع عيسى عن ابن القاسم: يفسخ ما لم يطل بعد الدخول. وقال أصبغ: يفسخ أبداً وإن طال. وقال أصبغ أيضاً: يؤمرون بالفسخ من غير حكم لاختلاف العلماء فيه. وهذا ما لم يعترف الولي بالافتيات حال العقد، أو يدعي الوكالة؛ فإن اعترف بالافتيات عند العقد فسخ النكاح أبداً اتفاقاً، وإن ادعى الوكالة حال العقد ووافقته الزوجة صح النكاح اتفاقاً. واختلف إذا أنكرت، فقيل: تحلف، وإن نكلت لزمها النكاح. وقيل: تحلف، وإن نكلت لم يلزمها النكاح. واليمين على هذا إنما هي استظهار لعلها تعترف بالوكالة، وقيل: لا يمين عليها. وأما حد القرب، فقال في المدونة: وإن كانت بغير البلد أو فيه وتأخر إعلامها لم يجز وإن رضيت. وهذا قول مالك وأصحابه ونحوه لعيسى لأنه حد القرب بأن يعقد في السوق أو في المسجد ثم يسار إليها بالخبر من ساعته، ونحوه روي ابن حبيب عن مالك أنه اشترط ثلاثة شروط، فقال: إن كان الرضا بقرب تزويجه وكانت معه في البلد والموضع قريب جاز، وإن كانت بغير البلد أو كانت بعيدة وإن جمعهما البلد أو تباعد ما بين تزويجه ورضاها وإن كانا بموضع واحد فلا يجوز. وقال أصبغ وسحنون: اليوم واليومان قريب، والخمسة كثيرة. وجعل مالك اليوم في رواية

ص: 533

ابن حبيب من حيز الكثير، وعن سحنون: ما بين مصر والقلزم قريب، وما بين مصر والإسكندرية أو أسوان بعيد.

اللخمي: ولا أعلم له وجهاً إلا أن يقول أن الخيار إلى يوم أو يومين جائز.

واعلم أنه إنما يجوز على المشهور بالقرب إذا لم تصرح قبل ذلك بالرد، وأما إن قالت: ما وكلته ولا أرضى. ثم رضيت فلا يجوز، نص عليه في المدونة والموازية، زاد في الموازية عن مالك: وإن أقرت بعد ذلك بوكالته وأنها كانت راضية فلا يجوز ولا يثبت إلا بنكاح جديج.

وَالصُّمَاتُ هُنَا لَغْوٌ

يعني: إذا رضيت بالنكاح في هذه المسألة فلا يشهد عليها إلا من يسمع نطقها، ولا يكون سكوتها هنا رضا لأن الولي لما تعدى عليها افتقرت إلى التصريح برفع العداء، وهو مذهب المدونة، وقيل: يكتفي منها أيضاً ها هنا بالصمات.

فائدة: هذه إحدى سبع أبكار لا يكون رضاهن إلا بالنطق ذكرها الموثقون والثانية: المرشدة كان الأب أو ولي. الثالثة: المعنسة، هكذا أطلق ابن راشد القول في المعنسة. وقال الباجي والغرناطي وابن عبد السلام: اليتيمة المعنسة، وقد تقدم فيها خلاف. الرابعة:[282/ ب] اليتيمة تزوج لعبد أو من فيه عقد حرية أو لذي عيب إذ ذاك عيب تدخل عليه ويلزمها. الخامسة: التي عضلها وليها فرفعت أمرها إلى الحاكم. السادسة: اليتيمة الصغيرة المحتاجة، ذكرها الغرناطي. السابعة: اليتيمة إذا سيق لها مال نسبت معرفته إليها إذا لم يكن لها وصي.

المتيطي: وحكى ابن لبابة وابن العطار عن كثير من شيوخنا أنه إن كان صداقها عرضاً فلابد من نطقها لأنها بائعة مشترية، والشراء لا يلزم بالصمت فلابد من نطقها لأن الولي إنما له عوض البضع لا الشراء، ثم حصل فيها ثلاثة أقوال: فرق في الثالث بين العرض فلابد من نطقها، وبين العين فيكتفي بالصمت.

ص: 534

فَإِنْ أَقَرَّتْ بِالإِذْنِ، وقَالَتْ: لَمْ يزوجني صُدِّقَ الْوَكِيلُ إِنْ ادَّعَاهُ الزَّوْجُ كَوَكِيلِ الْبَيْعِ

تصوره ظاهر لأن كلا من الزوجة وصاحب السلعة مقر بالإذن، والوكيل قائم مقامهما، ولا يكلف إقامة البينة على إقامة النكاح والبيع. ابن بشير: ويختلف إذا عزلته، وقالت: لم يعقد إلا بعد العزل وادعى هو العقد قبله.

وقَالَ مَالِكُ: وَتَكْشِفُ مَنْ لا تُعْرَفُ لِمَنْ يَشْهَدُ عَلَى رُؤْيَتِهَا

يعني: أن المرأة إذا شهد عليها الشهود في النكاح- وفي معناه سائر الحقوق- فإن كان الشهود يعرفونها بالعين والاسم والنسب شهدوا عليها ولا يحتاجون إلى النظر إليها، وإلا فلابد من نظرها، ويحتاج في ذلك إلى أن يكتب من صفاتها في الوثيقة ما تعرف بها، ولا يقول في نص الوثيقة: من يعرفها باسمها، ولكن يقول من يعرفها بعينها. ولهذا قال في البيان: وينبغي إن وجد من العدول من يعرفها فلا يشهد عليها من لا يعرفها قال: ولا يصح لمن يشهد عليها أن يشهد غيره على شهادته أن فلانة بنت فلان أشهدتهم بالرضا بالنكاح لاحتمال ألا تكون هي التي أشهدتهم فيموتوا ويشهد على شهادتهم فيلزمه نكاح ولم ترض به ولا أشهدت به على نفسها؛ لأن إشهادهم على شهادته بذلك كشهادتهم به عليها عند الحاكم، قال: وأما عند الأداء فلا يحل للشاهد أن يشهد بالإجماع إلا على من يعرف أنه هو الذي أشهده دون شك. انتهى. قال بعضهم: وإذا حضر عقد النكاح من يعرف المشهدين، ومن لا يعرفهم كان لمن لا يعرف أن يشهد، ولا يلزمه أن يبين ما يلزمه لو انفرد، قال: وبه جرى العمل عندهم. وفيه نظر.

فرع: يجوز النظر للشابة الأجنبية الحرة في ثلاثة مواضع: للشاهد، وللطبيب ونحوه وللخاطب، وروي عن مالك عدم جوازه للخاطب، ولا يجوز لتعلم علم ولا غيره. قالوا: ولا يباح للخاطب أن ينظر إليها إلا إلى وجهها وكفيها.

ص: 535

ويحتاج في ذلك إلى إذنها في رواية ابن القاسم، وكره فيها أن يستغفلها، وروى محمد بن يحيى: لا بأس أن ينظر إليها وعليها ثيابها. قال في البيان: يحتمل أن ينظر إليها مستغفلة إذا علم أن عليها ثيابها، ويحتمل أن ينظر إليها بعد إعلامها.

ابن العربي: وينظر إلى المخطوبة قبل العقد لما في أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل".

فَإِنْ أَذِنَتْ ولَمْ تُعَيِّنْ الزَّوْجَ فَفِي وُقُوفِهِ عَلَى إِجَازَتِهَا قَوْلانِ، إِلا مِنْ نَفْسِهِ فَيَقْفُ عَلَيْهَا

القولان في المدونة، ففيها: قال مالك: وإن قالت امرأة لوليها زوجني ممن أحببت، فزوجها من نفسه أو من غيره لم يجز حتى يسمي لها من يزوجها منه، ولها أن تجيز أو ترد، وقد قال عبد الرحمن: إن زوجها من غيره جاز وإن لم يسمه، وإن زوجها من نفسه فبلغها ذلك فرضيت جاز.

اللخمي: وقول ابن القاسم أحسن لأنها وكالة على ما يجوز بيعه، فأشبهت الوكالة على غير ذلك من البياعات وقياساً على توكيل الزوج إذا لم يعين المرأة ولا أعلمهم يختلفون أن ذلك يلزمه. ويمكن أن يفرق بين الرجل والمرأة بأن الرجل قادر على الطلاق. واختلفت طرق الشيوخ إذا زوجها من نفسه؛ ففي البيان: لا يلزمها إلا أن تشاء باتفاق. وحكى اللخمي عن ابن القصار اللزوم. وبنى ابن بشير ذلك على الخلاف بين الأصوليين، هل يدخل المخاطب تحت الخاطب أم لا؟ قال: وكذلك اختلف في البيع هل له أن يبيع من نفسه أم لا؟ والمشهور ليس له ذلك. وقد يقال بعدم دخول المخاطب هنا، ولو قلنا أن المخاطب يدخل تحت الخطاب لأن القرينة العرفية هنا تخالفه. وإذا فرعنا على المنع فهل له أن يزوجها ممن هو في ولايته كابنه ويتيمه؟ أجراه اللخمي على الخلاف في الوكيل على البيع فبيع لولده، فرده ابن القاسم وإن لم تكن فيه محاباة، وأجازه سحنون.

ص: 536

وقوله: (لَمْ تُعَيَّنْ) أي: وأما إن عينت الزوج فإنه يجوز باتفاق إذا وقف على إجازتها، ففي البيان: لها الرضا قرب الأمد أو بعد. وقال ابن حبيب: إنما يجوز ذلك إذا كان بحدثان العقد، وأما إن لم يكن بحدثانه فليس لها الرضا إلا بنكاح جديد بعد فسخ الأول على قياس المشهور في الولي يزوج وليته الغائبة ثم ترضى، وليس بصحيح لأنهما [283/ أ] مسألتان.

وَيَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَزْوِيجُ الْبَالِغِ إِذَا دَعَتْ إِلَى كُفْءٍ مُعَيَّنٍ فَإِنْ عَضَلَهَا أَمْرٌ فَإِنْ امْتَنَعَ زَوْجَهَا الْحَاكِمُ ....

لأنه لو لم يجب عليه تزويجها مع كونها مضطرة إلى عقده إذ ليس لها أن تعقد كان ذلك من أعظم الضرر بها. قال صاحب العمدة: ويعقد السلطان لأنه كالحاكم عليه، وإن شاء رده إلى غير العاضل فصرح بأنها تنتقل إلى الحاكم لا إلى الأبعد، وكذلك هو ظاهر كلامهم.

والعضل: المنع من التزويج، يقال: عضل يعضل ويعضل عضلاً.

ابن راشد: ولو عين الولي كفئاً غير الكفء الذي عينته فالأمر في ذلك إليها.

ابن القاسم: ولو رفعت أمرها إلى القاضي فلا يزوجها حتى يسألها هل لها ولي؟ فإن ثبت عنده أنها لا ولي لها من جيرانها وغيرهم زوجها، وإن كان لها ولي فلا يزوجها حتى يسألها هل لها ولي؟ فإن ثبت عنده أنها لا ولي لها من جيرانها وغيرهم زوجها، وإن كان لها ولي فلا يزوجها حتى يدعوه، وإن امتنع من إنكاحها سأله عن وجه امتناعه، فإن رآه صواباً ردها إليه صاغرة ولم يجبره على إنكاحها ممن كره. وإن رآه ضرراً وكل من يزوجها بعد أن يثبت عنده من أمرها ما يجب.

ابن أبي زمنين وابن العطار: وبه جرى العمل واستمر الحكم.

وَعَضْلُ الأَبِ فِي الْبِكْرِ لا يَتَحَقَّقُ بِرَدِّ خَاطِبٍ أَوْ خَاطِبَيْنِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ضَرَرُهُ

نحوه في المدونة، زاد فيها: وإذا تبين ضرره قال له الإمام: إما أن تزوجها أو زوجناها عليك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ضرر ولا ضرار". وخص الوالد بهذا الحكم لما جبل عليه من الحنان والشفقة ولجهلها بمصالح نفسها، فربما علم منها ما لا يحسن به حالها مع هذا الخاطب أو علم من حال الخاطب ذلك.

ص: 537

وقال أبو الفرج: هو عاضل برد أول خاطب. وقال ابن حبيب: ليس للسلطان أن يتسور عليه في ابنته وإن طلبت ذلك الابنة، وقد منع مالك بناته من النكاح وقد رغب فيهن خيار الرجال، وفعل ذلك العلماء قبله وبعده. والظاهر أن قوله ليس بخلاف للمذهب؛ لأنه شرط في المذهب أن يتبين الضرر. وليس في كلام ابن حبيب ذلك، بل استشهاده بفعل مالك وغيره من العلماء ويبين ذلكل أنهم لا يقصدون الضرر فضلاً عن أن تبين ذلك منهم. لكن حمل اللخمي وصاحب البيان وغيرهما قول ابن حبيب على الخلاف. وقال اللخمي: إن كان الأب من أهل العلم والصلاح لم يعرض له وإن لم يكن سئل الجيران، فإن لم يكن عذر زوجت.

تنبيهان: الأول: المزوج مع عضل الأب الحاكم بلا إشكال، نص عليه المتيطي وغيره، وهو مما يبين أنه إذا امتنع الولي الأقرب ينتقل إلى الحاكم لا إلى الأبعد.

الثاني: قوله في المدونة حتى يتبين ضرره يقتضي أنه إذا جهل أمره لم تزوج عليه. وكذلك قال في أحكام ابن زياد: في الثيب إذا قالت: عضلني أبي لغير عذر. وقال الأب: لعذر. القول قوله، وعلى الثيب إثبات ما ادعت.

وَإِذَا كَانَ أَولياء فِي دَرَجَةٍ فَبَادَرَ أَحَدُهُمْ صَحَّ، وَإِنْ تَنَازَعُوا فَأَفْضَلُهُمْ ثُمَّ أَسَنُّهُمْ، فَإِنْ تَسَاوَوْا عَقَدُوا جَمِيعاً ....

لا إشكال في الصحة مع مبادرة أحدهم لكن لا يقدم على ذلك ابتداء، فقد روى ابن وهب عن مالك في امرأة لها وليان في درجة غاب أحدهما فزوجها الحاضر برضاها: لم يكن للغائب كلام، وإن كانا حاضرين ففوضت لأحدهما لم يزوجها إلا بإذن صاحبه؛ فإن اختلفا في ذلك نظر السلطان فأجاز رأي أحسنهما نظراً لها، ذكره صاحب الكافي والمتيطي وغيرهما، لكن مقتضى قوله في المدونة: وإنما الذي لا ينبغي لبعض الأولياء أن ينكح وثم

ص: 538

من هو أولى منه؛ لأن تقديم الأقرب على الأبعد إنما هو من باب الأولى، وأن لبعض الأولياء إذا كان في درجة أن يزوج ابتداء بغير إذن الباقين.

ونقل عياض عن بعض البغداديين أنهم أجازوا إنكاح الأبعد مع وجود الأقرب ابتداءً من غير كراهة.

قوله (فِي دَرَجَةٍ) أي: كإخوة وأعمام. وما ذكره المصنف من أنه يقدم بالفضل ثم بالسن وأنهم إن تساووا في الفضل والسن عقدوا جميعاً هو لمالك عند ابن حبيب، والذي رواه ابن القاسم وهو مذهب المدونة عند اللخمي والباجي وعبد الحميد وغيرهم أنه ينظر السلطان؛ لأن فيها: وإذا اختلف الأولياء وهم في القعدد سواء نظر السلطان في ذلك. ففهموا منها العموم.

ابن بشير: وقال سحنون: معناه في الأوصياء، وأما الأولياء فمن قدمته المرأة فهو أحق.

خليل: وفيه نظر؛ لأن سحنون إنما نص على أن ذلك في الأوصياء فقط ولم يتعرض للأولياء، وإنما قال أن المرأة تخير فيمن يتولى العقد عليها بعض القرويين على ما نقله الباجي وابن زرقون وغيرهما، ونقل عبد الحميد عن المغيرة أنه يقرع بين الأولياء إذا تساووا.

وفي الكافي: وإذا تساووا في الدرجة والفضل، وتشاحوا نظر الحاكم في ذلك فما رآه سداداً ونظراً أنفذه وعقده، أو رده إلى من يعقده منهم. وقد قيل: يأمر أحدهم بالعقد ولا يعقده هو مع ولي حاضر.

ابن راشد: والأول تحصيل المذهب لقوله صلى الله عليه وسلم في الأولياء: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي [283/ ب] من لا ولي له".

فَإِنِ اخْتَلَفُوا فَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ: يَنْظُرُ السُّلْطَانُ

أي: في تعيين الزوج. فقال بعضهم: لهذا. وقال الآخرون: بل لهذا. وأما الأولى

ص: 539

فالاختلاف فيها فيمن يلي العقد مع الاتفاق على الزوج. قال ابن عبد السلام: وهو فهم حسن من المؤلف للمدونة في المسالة التي قال فيها: وإذا اختلف الأولياء وهم في العقد سواء. انتهى.

وهو حسن إن ساعدته الأنقال، وقد قال ابن سعدون: إن قوله في المدونة: اختلفوا، يحتمل أن يكون فيمن يلي الإنكاح أو في الزوج.

وَفِيهَا: وَإِذَا أَذِنَتْ لِوَلِيَّيْنِ فَعَقَدَا عَلَى شَخْصَيْنِ فَدَخَلَ الثَّانِي وَلَمْ يَعْلَمْ فَهِيَ لَهُ. حَكَمَ بِذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ بحضرة الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَلَمْ يُنْكِرُوا، وَمُعَاوِيَةُ لِلْحَسَنِ عَلَى ابنِهِ يَزِيدَ وَلَمْ ينكروا وَقَالَ ابْنُ عبد الْحَكَمِ: السَّابِقُ بِالْعَقْدِ أَوْلَى ....

نسبها للمدونة لإشكالها حكماً وتصويراً، وللإرشاد إلى الاستعانة على فهمها بشروحات المدونة، أما إشكالها حكماً فلأنه حكم بها للثاني مع أنها زوجة لغيره، وعدم العلم لا يمنع من كونها متزوجة، فيدخل في عموم قوله تعالى: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاء ([النساء: 24] ولهذا ذكر عمر ومعاوية رضي الله تعالى عنهما إشارة إلى دليل المسألة، وإلا فليس عادة المصنف ذكر الأدلة، وبقول ابن عبد الحكم قال المغيرة وابن مسلمة، ورواه حمديس عن مالك، وهو اختيار ابن لبابة وهو أقيس، وهو قول الشافعي وأكثر العلماء، وحكى عبد الوهاب مثل المشهور عن علي رضي الله تعالى عنه والحسن.

قال في الجواهر: وبه قال ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة وعطاء ومكحول وغيرهم.

فإن قلت: لا يحتج بهذا على الشافعي لأنه لا يرى مذهب الصحابي حجة. قيل: هذا ليس هو مذهب الصحابي فقط بل هو إجماع سكوتي، وهو حجة على المختار، وهو أحد قولي الشافعي، وله قول آخر: أنه ليس إجماعاً ولا حجة. وبيان رجحان الأول في علم الأصول.

ص: 540

ودليلنا من جهة القياس أنه قد أجمع على أن من اشترى شقصاً من أرض أن للشريك نقض البيع والأخذ بالشفعة لأجل الضرر الداخل عليه.

وإذا كانت العلة في إبطال عقد المشتري إنما هو ما يلحق الشريك من الضرر لزم أن يكون كذلك في مسألتنا من باب أولى للتطلع على العورات، وفي تغريم الزوج الثاني الصداق وفراقه ممن ذاق عسيلتها ضرر بين. ثم إن المضرة في مسألتنا واقعة وهي في مسألة الشفعة متوقعة، وأجرى اللخمي الخلاف على الخلاف في الفسخ هل ذلك من الآن أو من البلوغ؟

فمن قال: من البلوغ. حكم بها للثاني، لأنه نكاح بوكالة، ومن قال بالأول قال: الأول أحق لأن عقد الأول نسخ لوكالة من لم يعقد، فإن قلت: كيف الجواب عما رواه أبو داود عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أيما امراة زوجها وليان فهي للأول" قيل: الجواب حمله على عدم دخول الثاني جمعاً بين الأدلة.

وأما إشكالها تصويراً فلأنها فوضت إلى وليها، وقد علمت أن أشهر القولين في ذلك أنه لا يعقد عليها النكاح حتى يعين لها الزوج، وإذا فعل ذلك تعين الأول. ويجاب عنه باحتمال أن تكون فوضت إليهما في رجلين معينين أو لما عين لها الثاني نسيت الأول لاسيما إذا بعد ما بين العقدين ولا إشكال إذا لم يدخل الثاني في فسخ نكاحه. محمد: بغير طلاق.

تنبيه:

ألحق مالك في الواضحة تلذذ الثاني بوطئه في الفوات، وأورد على المشهور أن من وكل رجلين فزوجه كل منهما امرأة وله ثلاث نسوة، فقد قالوا: إن نكاح الأولى هو الصحيح ويفسخ نكاح الثانية، ولو دخل بها وفرق بأن الحاجة داعية في المرأة إلى التوكيل لأنها لا تستقل بعقد النكاح فناسب ألا يفسخ نكاحها بخلاف الرجل فإنه قادر على أن يتولى الزواج بنفسه. ورده صاحب الاستلحاق؛ لأنه لو صح لاطرد، فيلزم ألا يعذر مالك السلعة إذا وكل على بيعها، ثم تولى هو بيعها مع أن المشهور إمضاء البيع.

ص: 541

الثاني: إن اتصل به القبض. ابن بشير: وفرق المغيرة بين البيع والنكاح، فقال: الثاني أحق في النكاح لا البيع. وأكثر الشيوخ لا يفرقون في هذه المسألة بين أن تفوض لوليين معاً أو لأحدهما بعد الآخر. وقال الباجي: إن فوضت لأحدهما بعد الآخر فالنكاح للأول ويفسخ نكاح الثاني ولو دخل.

أَمَّا لَوْ دَخَلَ بَعْدَ عِلْمِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ الدُّخُولُ وَكَانَتْ لِلأَوَّلِ مِنْهُمَا

يعني: أن من شرط كونها للثاني أن يدخل وهو غير عالم بالأول لتقوى شبهته، وأما لو دخل بعد علمه أنه ثان فلا، وهذا بين إن قامت بينة الآن على أنه كان عالماً، وإن لم يعلم إلا من قوله فقال ابن يونس وصاحب اللباب: يفسخ نكاحه بطلقة بائنة ولها الصداق كاملاً.

قال في المقدما: وهو الصحيح. وقال عبد الملك: يفسخ بغير طلاق. وانظر على قول عبد الملك هل ترد للأول؟ محمد: ولو أقر المزوج آخراً وهو الأب أو الوكيل أنه كان عالماً [284/ أ] بتزويج الأول لم يصدق على الزوج إلا أن تشهد بينة على إقراره بالعلم قبل العقد من الثاني فيفسخ بغير طلاق.

وَإِنْ كَانَ مُطَلِّقاً بَعْدَهُ أَوْ مَيِّتاً بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ ولَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ فَكَذَلِكَ

يعني: أن الثاني إذا دخل عالماً لا يفيده ولو كان الأول مطلقاً بعده، أي: بعد دخول الثاني، فإن تطليق الأول لا يصحح نكاح الثاني لعلمه بأنه ثان. وكذلك لو مات الأول بعد دخول الثاني أو قبل دخول الثاني بشرط عدم انقضاء عدة الأول؛ لأن الثاني حينئذ ناكح في عدة، وحينئذ تحرم عليه على التأبيد لما سيأتي.

وفي كلامه نظر؛ لأنه يقتضي أنه إن دخل الثاني بعد انقضاء العدة أنه لا يفسخ، وليس بظاهر لأن المقتضي للفسخ علمه بالأول. ولو كان دخوله بعد انقضاء العدة مصححاً لزم أن يكون كذلك إذا طلقها الأول قبل دخول الثاني، لأن الأول طلقها قبل البناء فلا عدة عليها.

ص: 542

وقد نص صاحب العمدة على أنه لا يفيده. وعلى هذا التقدير الذي ذكرناه، فإن (إِنْ) من قوله:(وَإِنْ كَانَ مُطَلِّقاً) بمعنى لو واسم كان عائد على الزوج الأول، والضمير في قوله:(بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ) عائد على دخول الثاني. ووقع في بعض النسخ بزيادة (فَكَذَلِكَ) بإثر الكلام المتقدم (فإن) على هذا هي شرطية وجوابها: قوله: (فَكَذَلِكَ) ويكون هذا الكلام ابتداء مسألة، ويكون المعنى أنه: ولو كان الزوج الأول مطلقاً بعد دخول الثاني أو ميتاً بعد دخوله أو قبل دخوله، ولم تنقض عدتها من الأول حتى دخل الثاني (فَكَذَلِكَ) أي: فتكون للثاني. وهذه النسخة أحسن لأن ابن المواز ذكرها كذلك، وتكلم الشيوخ عليها، فحمل كلام المصنف عليها أولى، ففي ابن يونس: قيل لابن المواز: فإن مات الأول منهما، أو طلق قبل أن يدخل الآخر، ثم دخل بها الآخر بعد موته أو بعد طلاقه؟ قال: فإ، لم يعلم بذلك حتى دخل ثبت نكاحه كما لو دخل بها والأول حي لم يمت، ولم يطلق، ولا ميراث لها من الأول، ولا عدة عليها منه.

وفي المقدمات: إن عثر على ذلك بعد دخول الثاني وقد كان الأول مات أو طلق، فلا يخلو إما أن يكون عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه، أو يكون عقد ودخل بعد موته أو طلاقه.

فأما إن كان عقد ودخل قبل موت الأول أو طلاقه فينفذ نكاحه بمنزلة الذي لم يمت ولا طلق على مذهب ابن القاسم.

وأما إذا عقد ودخل بعد موت الأول أو طلاقه فهو في الموت متزوج في عدة، فيفسخ نكاحه وترث زوجها الأول، وفي الطلاق نكاحه صحيح لأنه في غير عدة. وقال ابن الماجشون: إن كان الذي زوجها منه آخراً بعد طلاق الأول هو الأب؛ فلا يفسخ نكاحه مطلقاً وإن لم يدخل، فإن كان الوكيل هو الذي زوجه فسخ نكاحه إلا أن يدخل. ووجه قوله أن الأب مطلق على النكاح والوكيل على النكاح تنفسخ ولايته بتزويج الأب قبله،

ص: 543

وأما إن عقد قبل الموت أو الطلاق ودخل بعد ذلك، فحكى محمد بن المواز أن ذلك بمنزلة ما إذا عقد ودخل قبل الموت أو الطلاق فينفذ نكاحها ولا ميراث لها من الأول، ولا عدة عليها منه.

والصواب أنه في الفوات متزوج في عدة، بمنزلة امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل وانقضاء العدة، ويدخل بها زوجها فينكشف أنها تزوجت قبل وفاة المفقود، ودخلت بعد وفاته في العدة أنه يكون متزوجاً في العدة ولا فرق بين المسألتين، وبالله التوفيق.

فَإِنِ اتَّحَدَ زَمَانُ الْعَقْدَيْنِ أَوْ جُهِلَ قَبْلَ الدُّخُولِ فُسِخَ بِطَلاقٍ، وقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يُوقَفُ الطَّلاق، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِ طَلاقُ وإِنْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُمَا وَقَعَ عَلَيْهِمَا ....

اعلم أني لم أر في كتب أصحابنا الفسخ بطلاق إلا فيما إذا جهل زمان العقدين وهو الذي نص عليه في المدونة، وما ذكره المصنف من أنه يفسخ بطلاق مع الاتحاد لم أره، وهو مشكل لاستحالة الشركة في الزوجة شرعاً، فلم تدخل في عصمة أحدهما، وقال ابن عبد السلام في المسألة ثلاثة أقوال: المشهور أنه يفسخ النكاحان بطلاق، وهو ظاهر إذا جهل لأن أحد العقدين صحيح. الثاني لسحنون: يفسخ النكاحان بغيرطلاق، وهو ظاهر إذا اتحد زمن العقدين. والثالث قول ابن المواز: لا يعجل بالطلاق وتباح للأزواج؛ فإن أراد تزويجها وقع على كل واحد منهما طلقة لتحل للغير بيقين، وإن أراد أحدهما تزويجها لم يقع عليه شيء، ووقع على الآخر لأن المتزوج إن كان هو الأول في نفسالأمر فلم تزل في عصمته، وإن لم يكن هو الأول، فلم يتقدم له نكاح حتى يقع فيه طلاق، ولعله اعتمد في اتحاد العقدين على المصنف، فإن قلت فما الحكم لو لم يطلع في هذه المسألة إلا بعد دخول أحدهام قبل الفوات ولا إشكال فيه، ولوضوحه ترك المصنف التعرض

ص: 544

إليه لأنا إذا قلنا بالفوات بالدخول مع العلم بكونه ثانياً، فلأن يكون كذلك مع عدم العلم من باب أولى.

اللخمي: ويأتي على قول ابن عبد الحكم أن الداخل لا يكون أحق لأنه على شك.

فإن مَاتَتْ والأَحَقُّ مَجْهُولٌ فَفِي الإِرْثِ قَوْلانِ

الأحق من يقضي له بها لو علم به وهو الأول مطلقاً على قول ابن عبد الحكم وعلى المشهور [284/ ب] فهو إما الأول قبل الدخول، وإما الثاني بعد الدخول، فإن جهل بعينه وقد ماتت المرأة فقولان.

ابن بشير وابن شاس: للمتأخرين قولان وأكثرهم على السقوط؛ لأنه ميراث مع الشك. والآخر لابن محرز، قال: القياس أن يكون الميراث بينهما والصداق عليهما لأن الميراث ثابت للزوج منهما، وهما يتنازعانه، فيدعي كل واحد منهما أنه الأول، وليس أحدهما أولى من الآخر، فيقسم بينهما، وليس هو من باب الميراث بالشك وهو كمن مات عن أم وابنتها ولم تعلم الأولى منهما، وكمن طلق إحدى نسائه ثم مات، ولم تعلم المطلقة فإن الميراث بينهما نصفان، وإلى هذا أشار المصنف بقوله:

فَإِنْ ثَبَتَ الإِرْثُ ثَبتَ الصَّدَاقُ

مفهوم كلامه أنه إن لم يثبت الإرث ينتفي الصداق، وهو خلاف ما في الجواهر لأنه قال: ويثبت الصداق حيث يثبت الميراث، وأما حيث ينتفي فإنما يكون عليه ما زاد منه على قدر الميراث.

وفي اللباب: قال بعض المذاكرين: من كان صداقه قدر ميراثه فأقل فلا شيء عليه، ومن كان ميراثه أقل غرم ما زاد على ميراثه لإقراره بثبوت ذلك عليه. ولم يصرح المصنف هل يجب مجموع كل واحد من الصداقين، فلا يستحق أحد الزوجين شيئاً من الميراث إلا

ص: 545

بعد دفعه جميع الصداق، لأنه مقر بوجوب ذلك عليه، أو نصفه؟ لأنه لو دفع كل واحد من الزوجين صداقاً كاملاً لأخذ كل واحد من الورثة ضعف حقه من الصداق.

ابن عبد السلام: والاحتمال الأول أقرب. خليل: وقد يخرج هذان الاحتمالان على الخلاف فيما إذا ادعى المسيس وأنكرته الزوجة، هل لها أن تأخذ جميع الصداق لإقراره أو لا تأخذ إلا نصفه لإنكارها؟ فانظره.

وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجَانِ فَلا إِرْثَ ولا صَدَاقَ

لأن سببهما الزوجية، وهي لم تثبت. وحكى ابن بشير الاتفاق على ذلك، وهذا ما لم يدع كل واحد منهما أنه الأول، وأما لو ادعيا ذلك وصدقت المرأة أحدهما، ففي ابن بشير: لا يثبت لها الإرث ويثبت لها الصداق لأنه أقر لها بمال.

ونقل ابن عبد السلام عن بعضهم أن لها الصداق ويختلف في الميراث، يريد لأن الصداق من الديون وهي تثبت بالإقرار، وأما الميراث فاختلف المذهب هل يثبت بالإقرار أم لا؟ وفيه نظر لأن الخلاف إنما هو في إقرار من لم يعلم له وارث.

وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَتَانِ مُتَنَاقِضَتَانِ تَسَاقَطَتَا وَلا يُقْضَى بِالأَعْدَلِ بِخِلافِ الْبَيْعِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ: يُقْضَي بِالأَعْدَلِ كَالْبَيْعِ ....

صورتها أن تقول هذه البينة: نشهد أن عقد هذا وقع في اليوم الفلاني ووقع عقد هذا بعده، وتعكس البينة الأخرى. ومنشأ الخلاف هل زيادة العدالة تقوم مقام الشاهد الواحد، أو شاهدين؟ فالمشهور أنها تقوم مقام الشاهد الواحد، فلذلك يقضي بها في البيعدون النكاح. ورأى سحنون أنها قائمة مقام شاهدين، فيقضي بها فيهما. ويقول سحنون قال البرقي، واختاره عبد الحق. وفي المسألة قول ثالث: أنه لا يقضي بالأعدل في البيع والنكاح.

ص: 546

وَلا عِبْرَةَ بِتَصْدِيقِ الْمَرأَةِ

يعني: لا عبرة بتصديق المرأة لأحدهما أنه الأول. وعن أشهب: تصدق ما لم تدع الأرفع وأنكره أصبغ.

فائدة: وقع في المذهب مسائل كهذه يفيتها الدخول، ومسائل لا يفيتها الدخول. فالأولى تسع: الأولى: هذه. الثانية: امرأة المفقود تتزوج بعد ضرب الأجل ثم يأتي زوجها بعد دخول الثاني فتفوت على المشهور. الثالثة: الكافر يسلم على أكثر من أربع فيختار أربعاً ثم يجد الأربع أخوات أو محارم، فإنه يختار من البواقي ما لم يدخل على المشهور. الرابعة: من أسلمت وزوجها كافر فتتزوج فينكشف أنه أسلم قبلها. الخامسة: الرجعية يرتجعها زوجها في العدة وهي لا تعلم فتتزوج بعد انقضاء عدتها ثم يتبين أن زوجها كان ارتجعها قبل انقضاء العدة. السادسة: المعتقة تحت العبد تختار نفسها وتتزوج، ثم يقوم زوجها ويثبت أنه عتق قبلها. قال المصنف: فكزوجة المفقود. السابعة: الأمة المتزوجة يطأها سيدها بعد انقضاء عدتها، وقد كان زوجها أشهد برجعتها ولم يعلم السيد. الثامنة: امرأة الأسير يتنصر ويشك في تنصره هل طائعاً أو مكرهاً؟ فيفرق بينهما ثم تبين أنه كان مكرهاً. التاسعة: إذا قال لها: إن غبت شهراً فأمرك بيدك، فغاب ثم طلقت نفسها وتزوجت ثم أثبت أنه قدم قبل الشهر، ابن عبد السلام: والمشهور أنها تفوت بالدخول.

وأما المسائل التي لا يفيتها الدخول فخمس، الأولى: إذا وكل رجلين على أن يزوجه كل واحد زوجة وكان له ثلاث زوجات. الثانية: المنعي لها زوجها ثم تتزوج ويدخل بها زوجها الثاني، ثم يأتي الأول فإنها ترد إليه على المشهور. الثالثة: الذي له زوجتان اسم كل واحدة منهما عمرة؛ فقال: عمرة طالق. وادعى أنه لم يرد التي عنده وإنما يريد امرأة غائبة؛ ففرق [285/ أ] بينه وبين هذه ثم أثبت أن له امرأة أخرى تسمى عمرة. فقال محمد: ترد

ص: 547

إليه ولو دخل بها الثاني. الرابعة: التي تطلق لعدم النفقة ثم يكشف الغيب أنها أسقطتها عنه. وفي معنى هذه الصورة إذا طلق على الغائب بعسر النفقة ثم قدم وأثبت أنه كان يبعث إليها النفقة، نص عليه أبو الحسن. الخامسة: إذا تزوجت امرأة المفقود في أثناء العدة، أعني الأربعة أشهر وعشراً ففسخ ثم يتبين أن عدتها من المفقود قد انقضت قبل ذلك فإنها ترد إلى هذا الزوج وإن تزوجت ثالثاً فسخ نكاحه ولو بعد الدخول كالمنعي لها زوجها. قاله أبو عمران وغيره.

وَإِذَا غَابَ الأَقْرَبُ غَيْبَةً بَعِيدَةً زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: أَوِ الأَبْعَدُ

هذا الكلام يحتمل وجهين أحدهما أن يكون المصنف تكلم على غيبة الأقرب مطلقاً أباً كان أو غيره، ثم بين مقدار الغيبة في حق الأب، وهو الذي قاله ابن عبد السلام، ويحتمل أن يكون في غير الأب المجبر، وهو الذي قاله ابن راشد.

قوله: (غَيْبَةً بَعِيدَةً) مفهومه أنها لا تزوج في الغيبة القريبة وهو كذلك ويرسل إليه الحاكم، قاله مالك في الواضحة. وفي سماع أشهب: كتب إلى ابن غانم في امرأة تطلب التزويج فتسأل هل لها ولي؟ فتذكر أن لها عماً أو أخاً على مسيرة الثلاث والأربع، وأنه في شأنه وضيعته، وتسأل أن يزوجها كفئاً. إني أرى إذا كان أمرها على ما وصفته من حالها وغيبة وليها وكفاءة من تدعو إليه أن تزوجها ولا تضرها غيبة وليها.

قيل: ففي هذه الرواية حد الغيبة. وفي قوله: (إذا كان أمرها على ما وصفته من حالها وغيبة وليها) بيان أنها غير مصدقة فيما تذكر من ذلك حتى تثبته، وكذلك قال في المتيطية أنها تثبت ذلك.

قوله: (زَوَّجَ الْحَاكِمُ، وَقِيلَ: أَوِ الأَبْعَدُ) نحوه في ابن شاس، وفيه نظر، وصوابه أن يقول: وقيل الأبعد، بغير أو لأن القائل يرى أن الولاية للولي فقط، هكذا نقل اللخمي وصاحب البيان وغيرهما.

ص: 548

وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْبَةِ أَبِي الْبِكْرِ مِثْلُ إِفْرِيقِيَّةَ لْغَيْرِ تِجَارَةٍ. وَقِيلَ: مَا يُتَعَذََّرُ بِهِ الإِذْنُ. وَقِيلَ: إِنْ قَطَعَ عَنْهَا النَّفَقَةَ. وَقِيلَ: لا يَصِحُّ مَعَ حَيَاتِهِ أَمَّا إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ فَالْوَلِيُّ يُنْكِحُهَا. وَقِيلَ: بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ فُقِدَ ....

لغيبة أبي البكر ثلاثة أحوال: الأولى: أن يكون قريباً، قال في البيان: كعشرة أيام ونحوها. فلا خلاف أنها لا تزوج في مغيبه وإن زوجت انفسخ النكاح زوجها الولي أو السلطان. قاله في الواضحة، زاد في المتيطية عن ابن القاسم: يفسخ وإن ولدت أولاداً وإن أجازه الأب. الحالة الثانية: أن تكون غيبة بعيدة كما قال في المدونة: مثل إفريقية والأندلس وطنجة لغير تجارة- قال في البيان: من مصر- فاختلف في ذلك على أربعة أقوال: أحدها أن الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك وإن كانت نفقته جارية عليها وإن لم يخف عليها ولا استوطن أبوها ذلك الموضع الذي هو فيه وهو ظاهر ما في العتبية.

وقد تأول على ما في المدونة من قوله فيها: وأما من خرج تاجراً وليس يريد المقام بذلك البلد فلا يهجم السلطان على ابنته، فإنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد، وهو القول الثاني. والقول الثالث: أنها لا تزوج إلا أن يستوطن ذلك البلد، ويطول مقامه فيه العشرين سنة والثلاثين، وهو قول ابن حبيب. والرابع: أنها لا تزوج أبداً وإن طال مقامه فيه، وهو ظاهر قول مالك في الموازية وقول ابن وهب. انتهى. ففسر رحمه الله تعالى قول مالك: كإفريقية على أنها من مصر، واستبعده ابن عبد السلام، قال: لأن المسألة من كلام مالك في المدونة، ويحتمل أن يريد من المدينة.

واحترز بقوله: (لْغَيْرِ تِجَارَةٍ) مما لو خرج لتجارة فإنها لا تزوج؛ لأن الغالب فيها أن يرجع عاجلاً. قال فضل في قول ابن حبيب: ولا أعلم هذا التحديد لغيره. والقول بأنها لا تزوج مع حياته بحال لعبد الملك. وهو مشكل لا سيما إن كانت محتاجة وخيف عليها.

قال في البيان: وهو مبني على قول ابن حبيب بجواز العضل.

ص: 549

وقوله: (وَقِيلَ: مَا يُتَعَذََّرُ بِهِ الإِذْنُ) أي: يكون بموضع لا ينفذ فيه كتاب حاكم الموضع الذي البنت فيه، ففي هذا يزوجها السلطان. وهذا قول حكاه عبد الحق عن الإبياني. وقوله:(وَقِيلَ: إِنْ قَطَعَ عَنْهَا النَّفَقَةَ) ظاهره أنه قول في المسالة، وهو مقتضى كلام ابن يونس، لأنه قال: قال مالك: يزوجها الإمام إن رفعت إليه. وقال عبد الملك: لا يجوز إنكاحها على وجه في حياة الأب.

ابن وهب: إن قطع عنها النفقة جاز. ثم ذكر وجه كل قول. وقال صاحب البيان وابن سعدون: لا اختلاف إذا قطع الأب عنها النفقة وخشي عليها الضياع أنها تزوج وإن كان ذلك قبل البلوغ. وإنما اختلفوا فيمن يزوجها، فالمشهور أنه لا يزوجها إلا السلطان لأنه حكم على غائب. وقال ابن وهب ومثله في الموازية: أن الولي يزوجها برضاها، والوجه في ذلك أن ولايته سقطت لتضييعه ومغيبه، فكان كالميت. انتهى.

وانظر هذا الاتفاق الذي حكاه صاحب البيان فيما إذا قطع عنها النفقة مع قول عبد الملك: لا يجوز تزويجها مع حياة الأب وإن ضاعت واحتاجت وخيف عليها إلا أن يفسر الحاجة بالحاجة في غير النفقة. والحالة الثالثة: أن يكون أسيراً أو مفقوداً، [285/ ب] فالمشهور أن الولي يزوجها وإن كانت نفقته جارية عليها ولم يخف عليها الضياع.

قال في المتيطية: وبهذا القول القضاء. وقال عبد الملك: ليس لهم ذلك إلا بعد أربع سنين من يوم فقد. وقال أصبغ: لا تزوج بحال.

وقوله: (فَالْوَلِيُّ يُنْكِحُهَا) هذا ظاهر ما في المتيطية؛ لأنه قال: قال بعض الموثقين: وإذا فرعنا على المشهور فينبغي أن يثبت الولي عند الحاكم طول غيبة الأب وانقطاع خبره والجهل بمكانه، وحينئذ يصح للولي إنكاحها.

ابن راشد: وفي الطراز: الإمام يزوجها إذا دعت إلى ذلك. فجعل ذلك للحاكم دون الولي، وهو الصواب، وأي فرق بين هذه والتي قبلها.

ص: 550

وفي البيان أنه اتفق في الأسير أن الحاكم يزوجها وإن كانت في نفقته وأمنت الضيعة عليها. وأما إن كان الأب مسجوناً أو مجنوناً فليس هو كالغائب البعيد الغيبة وإن طال أمره؛ لأن خروجه وبرءه مرجو.

والمصنف رحمه الله تعالى يؤخذ من كلامه الثلاثة الأحوال، لأن قوله:(وَيُعْتَبَرُ فِي غَيْبَةِ أَبِي الْبِكْرِ) تصريح منه بالحالة الثانية، ويفهم منه أن أقل من ذلك لا يجوز تزويجها فيه، وهي الحالة الأولى.

قوله: (أَمَّا إِنِ انْقَطَعَ خَبَرُهُ) هي الحالة الثالثة والله أعلم.

وَإِذَا أَنْكَحَ الأَبْعَدُ مَعَ وُجُودِ الْمُجْيِرِ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ أَجَازَهُ كَالأَبِ، وَمِثْلُهُ السَّيِّدُ عَلَى الأَصَحِّ وَلَوْ كَانَ شَرِيكاً بِخِلافِ بَيْعِهَا نَفْسَهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ ....

اعلم أن للتعدي على الولي صورتين: إحداهما أن يتعدى الولي على أقرب منه. والثانية أن يتعدى أجنبي على ولي. ثم الولي المتعدي عليه إما مجبر أو لا. صارت أربعة أقسام، وقد تكلم المصنف رحمه الله تعالى عليها كلهأ، يعني: إذا تعدى ولي على أب لم يجز النكاح ولو أجازه الأب. ومثل الأب السيد في أنه لا يجوز نكاح غيره وإن أجازه السيد على الأصح. وقيل: يجوز في الأمة لخفة الأمر فيها. والأصح ومقابله روايتان. وخرج اللخمي قولاً في الأولى بالإجازة إذا أجازه الأب من الأمة. وليس بين لما قلناه من خفة الأمر في الأمة.

وقوله: (وَلَوْ كَانَ شَرِيكاً) يعني أن غير السيد إذا زوج الأمة يفسخ النكاح، ولا يفرق في ذلك بين أن يكون من زوجها له فيها ملك أم لا.

فرع:

إن بنينا على المشهور أنه لا بد من فسخه فإن فسخ قبل البناء سقط الصداق عن الزوج ورجع به إن استهلكته، أو بما نقص إن تجهزت به ولم يساوه الجهاز على الذي

ص: 551

زوجه إن غره ولم يعلمه أنه شريك، وإن فسخ بعده فإن أجازه الشريك فإنما له نصف المسمى وإن لم يجزه.

وفي معنى ذلك إن أجازه ولم يرض بالصداق، فالمشهور أن له الأكثر من نصف المسمى أو نصف صداق المثل، ويرجع الزوج بالزائد على الشريك الذي زوجها إن كان غره. والشاذ لأشهب: إنما له نصف المسمى.

ابن المواز: ولا شيء للعاقد من الصداق إن غره إن قال هي حرة أو هي لي وحدي. قال الشيخان أبو محمد وأبو الحسن رحمهما الله تعالى: وإذا رجع على الغارَّ بما دفع إليه ترك لها ربع دينار. وقيل: لا يترك لها منه شيء. وهذا إذا رضي الشريكان في الأمة بقسم المال وإن أبى أحدهما فعلى الزوج أن يكمل لها صداق المثل على المشهور ويكون بيدها، فإن اقتسماه رجع على الذي زوجه منهما بما استفضل في نصفه إن لم يكن غره، وبجميع الزيادة إن غره كما ذكرنا بخلاف بيعها فإنه يجوز إذا أجازه السيد لأنه بيع فضولي وهو يلزم عندنا بإجازة المالك كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والفرق بين النكاح والبيع أن الولاية مشترطة في النكاح لحق الله سبحانه وتعالى.

قوله: (نَفْسَهَا) يحتمل أن يقرأ بفتح السين وتكون هي البائعة، وبكسرها على البدل من الضمير المجرور وحينئذ يحتمل أن تكون هي البائعة أو غيرها.

وَفِيهَا: لَوْ زَوَّجَ ابْنُ أَوْ أَخٌ أَوْ جَدٌّ ابْنَتَهُ الْبِكْرَ أَوْ أَمَتَهُ فَأَجَازَه جَازَ إِنْ كَانَ قَدْ فَوَّضَ إِلَيْهِ الْقِيَامَ بِجَمْيعِ أُمُورِهِ ....

أتى بهذه المسألة لأنها كالمخالفة لما قبلها، إذ قد حصل فيها تزويج الأبعد مع وجود مجبر، وأمضاه في المدونة بإجازة الأب. وقوله:(ابْنَتَهُ) أي بنت المجبر، وذكر فيها ثلاثة أولياء وسكت عما عداهم، وألحق ابن حبيب بهم سائر الأولياء إذا قاموا هذا المقام.

ص: 552

الأبهري وابن محرز: وكذلك الأجنبي لأنه إذا كانت العلة تفويض الأب فلا فرق. وكلامه في المدونة يحتمل أن يكون مخالفاً لهما وأن يكون موافقاً لابن حبيب خاصة. وفسر سحنون ما وقع في المدونة من الإجازة إذا أجازه الأب بأن معناه: إذا كان الأب غائباً. حمديس: وإنما يجوز إذا أجازه الأب إذا كان قريباً ولم يطل. وقال أبو عمران: لا يراعى في ذلك قرب ولا بعد وقد أجاز عبد الرحمن ذلك بعد أن قدم من الشام.

وانظر هل يجري فيها قول بأنه لا يجوز مطلقأً من النكاح الموقوف، وأما إن لم يجزه فإنه يفسخ وإن طال، وإن ولدت الأولاد.

واعترض فضل هذه المسألة بأن تفويض الأب لمن ذكر إما أن يدخل تحته نكاح الأبكار أو لا؟

فعلى الأول لا يحتاج إلى إجازة الأب إذ لم يتعد. وعلى الثاني- وهو الصحيح- لا يجوز ولو أجازه كما في المسألة المتقدمة.

وإنما قلنا أن الثاني هو الصحيح لأن ابن أبي زيد رحمه الله تعالى نص على أن الوكيل المفوض لا ينكح البنت البكر ولا يطلق الزوجة ولا يبيع دار السكنى [286/ أ] ولا يبيع العبد لأن العرف اقتضى إخراج هذه الأربع. وأجيب بأن المراد بالتفويض هنا التفويض العرفي لأن التفويض قسمان: تفويض نص عليه وحكمه ما تقدم، وتفويض عرفي وهذا حكمه؛ لأن الابن لما صار يتصرف والأب ساكت كان ذلك بمنزلة إطلاقه له التصرف في جميع الأشياء، وعلى هذا لا يحتاج إلى إجازته. لكن لما كان العرف إخراج نكاح الأبكار تعارضا، فأجزناه إذا أجازه الأب لعلمنا أن الأب لم يخرج ذلك.

وفيه نظر؛ لأنه إذا كان المفوض بالنص ليس له أن يزوج فمن باب أولى أن يكون ذلك في المفوض له بالعرف إلا أن يقال أن المزوج هنا لقرابته لا يتهم ولأنه ولي في الجملة.

ص: 553

خليل: وينبغي أن تقيد إجازة الأب فيما إذا قال الأب: إنما أجزت النكاح لأني فوضت إليه جميع أموري، والنكاح من جملة ذلك.

وأما إن قال لم يخطر لي نكاح ابنتي ببالي في تفويضي إليه؛ فلا يجوز بإجازته، ونحوه للمتيطي. وإذا أجاز الأب النكاح فلا بد من تضمين عقد الإجازة معرفة الشهود لتفويض الأب لولده لئلا يكون ذلك داعية إلى إجازة إنكاح من لا يجوز له العقد.

قال: ولو ادعى الزوج أن الابن أو الأخ إنما عقد النكاح بإذن الأب فعلى الزوج إثبات ذلك ويضرب له أجل ويوسع عليه فإن عجز حلف الأب على نفي دعواه، فإن حلف فسخ النكاح، وإن نكل ثبت النكاح. واستدل المتيطي على وجوب اليمين بقول ابن القاسم في العتبية فيمن خطب امرأة فزوجها له وليها وأشهد له بذلك وأنكرت المرأة أن تكون علمت ورضيت أن الإشهاد إن كان بحيث يعلم أنها لا تعلم فلا يمين عليها وإن كان ظاهر. بحيث يرى أنها عالمة فإنها تحلف ما وكلته ولا فوضت إليه، ولا شيء عليها، وإن لم تحلف لزمها النكاح. وكذلك روى ابن القاسم في امرأة زوجها أخوها وأمها ثم ماتت الأم فطلب الزوج الدخول فقال الأخ: لا زوجة لك؛ لأن أختي لم تكن علمت. وأنكرت الزوجة، قال: إن قامت له بينة على رضاها وإلا حلفت هي وأخوها وفرق بينهما.

وَتَزْوِيجُ السُّلْطَانِ مَعَهُ كَالأَبْعَدِ مَعَ الأَقْرَبِ لا كَالْمُسَاوِي عَلَى الأَشْهَرِ

الضمير المخفوض بمع عائد على الأقرب. قوله: (كَالأَبْعَدِ) أي: فيأتي فيها من الخلاف ما يكره بعد هذا إذا زوج الأبعد مع وجود الأقرب، ومقتضى كلامه أن مقابل الأشهر يجعل السلطان كالمساوي للأب، ولم أر هذا النقل. وكذلك قال ابن راشد وابن عبد السلام.

ص: 554

وكثيراً ما سألت عنه فلم أجد علماً به عند من سألته. انتهى.

ويحتمل أن يريد بمقابل الأشهر أنه ليس كولي الأبعد، بل يفسخ مطلقاً قبل الدخول وبعده، ويكون قوله:(لا كَالْمُسَاوِي) متفقاً عليه، ويكون الأشهر أنه يمضي، ومقابله يفسخ على كل حال، وهذا الوجه وإن كان بعيداً من لفظه فهو أقرب من الأول.

على أني لم أر من قال: إن السلطان مع الأب كولي أبعد. وقد قدمنا عن ابن حبيب أن السلطان إذا زوجها في غيبة الأب الغيبة القريبة أن النكاح مفسوخ، وأن ابن القاسم قال: يفسخ وإن ولدت الأولاد. ورأيت في بعض التعاليق أنه اختلف في تقديم السلطان على أحد من ذوي النسب البعيد كابن العم تلتقي معه في جد بعيد، فذكر قولين. والله تعالى أعلم.

فإن لَمْ يَكُنْ مُجْبِرُ فَفِيهَا: لَمْ يَرُدَّ، وَفِيهَا: يَنْظُرُ السُّلْطَانُ، وَقِيلَ: لَهُ الرَّدُّ مَا لَمْ يَبْنِ بِهَا. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ بِالأَوْلادِ. وَقَالَ اللَّخْمِيّ: إِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً مَضَى بِاتِّفَاقٍ ....

المشهور هو الأول. عياض: ومشهور المذهب منعه ابتداءً، وتأول بعضهم المدونة على الجواز ابتداءً، وهو يحتمل أن يكون مبنياً على أن تقدمة الأقرب من باب الأولى، ويحتمل أن يكون مبنياً على أن تقدمة الأقرب من باب الأوجب، ولكن أمضاه بعد الوقوع مراعاةً للخلاف أو للتطلع على العورات.

والقول بنظر السلطان حكاه سحنون عن بعض الرواة، وأشار إلى أنه مبني على أن تقدمة الأقرب من باب الأولى، وقال: النظر على هذا القول إنما هو إذا ادعى الأقرب أنها وضعت نفسها في دناءة ولو اعترف بأنها إنما تزوجت كفؤاً لم يفتقر فيه لنظر السلطان. والقول بالفسخ ما لم يبن لابن الماجشون وابن حبيب، والقول بالفسخ ما لم يتطاول لمالك في الثمانية، واختصر فضل الواضحة عليه، وزاد في المتيطية قولاً خامساً بالفسخ مطلقاً للمغيرة.

وهذه الثلاثة الأقوال مبنية على أن تقديم الأقرب من باب الأوجب، فمن قوي عنده الوجوب ولم يلتفت إلى غيره قال بالفسخ مطلقاً، ورأى القائل بالفسخ ما لم يدخل

ص: 555

أنه بالدخول يحصل التطلع على العورات، ورأى القائل الآخر أنه إنما يقوى الضرر بالتفرقة إذا طال الأمر بينهما وولدت الأولاد.

ابن عبد السلام: وذكر بعضهم قولاً آخر إن كان الأبعد كالأخ للأب مع أخ شقيق مضى وإن كان كابن عم مع أخ رد؛ وأخذه من المدونة.

وعلى الإمضاء فإن أثبت الأقرب أن الزوج غير كفء فله في ذلك مقال؛ فإن أثبت الأبعد الكفاءة ففي احكام ابن زياد أن شهادة من شهد بعدم الكفاءة أتم، وليس على الحاكم أن [286/ ب] يسأل الشهود من أين علموا عدم الكفاءة. وقيل: يقضي بأعدل البينتين، فإن تكافأتا كان الجرح أولى. وقيل: يسقطان وينظر الحاكم في ذلك. وفي أحكام ابن حذير عن جماعة من الشيوخ: إن بين الشهود الحال التي كان بها غير كفء كانت شهادتهم أولى، وإن شهدوا مجملاً كانت شهادة الآخرين أولى.

بعض الموثقين: الذيجرى به الحكم أنه إن كانت إحدى البينتين أعدل حكم بها. وبه قال سعيد بن أحمد وابن زرب وغيرهما.

وقوله: (وَقَالَ اللَّخْمِيّ: إِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً مَضَى بِاتِّفَاقٍ) يعني أن الخلاف المتقدم إنما هو في ذات القدر؛ لأن النكاح قد انعقد بولي، وليس على القريب وصم في وليته الدنية؛ لأن كل واحد كوليها، والله أعلم.

وَفِيهَا: وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَته ثُمَّ أَنْكَحَهَا مِنْ نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ بِإِذْنِهَا جَازَ وَإِنْ كَرِهَ وَلِيُّهَا

أي: من النسب، فيشمل الابن وغيره. واقتصر في المدونة على الولد؛ لأنه إذا جاز مع الولد فمع غيره أولى. وقوله (جَازَ) يحتمل الإقدام ويحتمل مضي النكاح، وهو الأقرب لأن سائر أولياء النسب مقدمون على المعتق. وقد تقدم أن الأولياء إذا كانوا في درجة ليس لأحدهم أن يعقد ابتداءً إلا بموافقة من استوى معه، وإذا كان ذلك مع التساوي فمع القرب أولى.

ص: 556

وذكر المصنف هذه المسألة بإثر الأولى؛ لأنها من فروعها إذ هي من تزويج الأبعد مع وجود الأقرب. ولقائل أن يقول: هذه المسألة أخف من التي قبلها؛ لأن هذه المعتقة من الدنيات ولسيدها له عليها بقية سلطنة الملك، وهو أولى الأكفاء لها، وعلى هذا فلا يمكن إجراء الخلاف المتقدم فيها، والله أعلم.

وَإِذَا أَنْكَحَ الأَجْنَبِيَّ مَعَ وُجُودِ الْمُجْبِرِ فَكَذَلِكَ

لما تكلم على صورتي تعدي الولي على ولي أقرب منه تكلم على تعدي الأجنبي. وقوله (فَكَذَلِكَ) أي لا يجوز ولو أجازه الأب، والأليق بطريقة المصنف ألا يذكر هذا؛ لأنه إ ذا لم يجز نكاح الأبعد مع وجود المجبر فلأن لا يجوز نكاح الأجنبي مع وجود المجبر من باب أولى، لكن قصد رحمه الله تعالى الكلام على جميع الأقسام.

وَلا مُتَكَلِّمَ لأَحَدٍ الوليين عَلَى الآخَرِ فِي الْمُعْتَقَةِ

إيراده لهذه المسألة هنا غير مناسب، وهي من فروع قوله:(وإذا كان الأولياء في درجة فإذا بادر أحدهم صح). وما ذكره المصنف نص عليه في المدونة. وقال جماعة: الصواب أن مجموع المعتقين منهما هو الولي لا أحدهما كالشريكين بخلاف الأخوين؛ لأن كلا من المعتقين إنما له نصف الولاء ولا يرث إلا النصف، وهو ظاهر.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُجْبِراً وَهِيَ ذَاتُ قَدْرٍ فَقَالَ مَالِكُ: مَا فَسَخَهُ بِالْبَيْنِ، ولَكِنْ أَحَبُّ إِلَيَّ؛ وَتَوقَفَ إِذَا أَجَازَهُ الْوَلِيُّ بِالْقُرْبِ. وقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَهُ إِجَازَتُهُ ورَدُّهُ مَا لَمْ يَبْنِ بها. وقَالَ أَيْضاً: لَهُ إِجَازَتُهُ بِالْقُرْبِ وإِلا رَدَّ مَا لَمْ يطل بَعْدَ الْبِنَاءِ. وقِيلَ: يَرُدُّ. وقِيلَ: يَمْضِي. وفِيهَا: إِنْ دَخَلَ بِهَا عُوقِبَتِ الْمَرْأَةُ وَالزَّوْجُ وَالْمُنْكِحُ وَالشُّهُودُ إِنْ عَلِمُوا ..

يعني: أن الأجنبي إذا زوج مع ولي غير مجبر فإما أن تكون المرأة ذات قدر أو دنية، فذكر المصنف في ذات القدر خمسة أقوال: أحدها: أنه ماض مطلقاً، حكاه عبد الوهاب

ص: 557

عن مالك. والثاني لسحنون: يفسخ أبداً. اللخمي: يريد وإن تطاول بالأولاد. وهذان القولان هما اللذان ذكرهما المصنف آخراً. والثالث: الوقف إذا أجازه الولي بالقرب، وهو قول مالك. قال في المتيطية: قال ابن سعدون: يعني توقف مالك في فسخه وفي إجازته. وقال أبو عمران: إنما توقف في إجازته ولم يتوقف في فسخه، وإنه مفسوخ، ونحوه للباجي واللخمي. انتهى. والقول الرابع لابن القاسم أن الخيار للولي في فسخه وإمضائه ما لم يدخل. والقول الخامس له أيضاً، وإليه أشار بقوله:(وقَالَ أَيْضاً: لَهُ إِجَازَتُهُ بِالْقُرْبِ) ابن القاسم قاله في المدونة، وقاله مالك وزاد فيه قيداً آخر في المدونة وقال: ما لم تطل إقامته معها وتلد الأولاد. واختلف الشيوخ في فهم هذا القول، فقال ابن التبان: إن كان قبل البناء بالقرب فللولي إجازته وفسخه وإن طال قبل البناء فليس إلا الفسخ وإن كان بقرب البناء فللولي أيضاً فسخه وإجازته، وإن طال بعد البناء فليس للولي فسخه وعليه اقتصر ابن يونس.

قال عبد الحق: وقال غير ابن التبان أنه يخير قبل البناء وإن طال على مذهب ابن القاسم. واعلم أن المصنف لم ينقل كلام ابن القاسم على ما هو عليه في المدونة بل زاد فيه قوله: (وإِلا رَدَّ) هذه الزيادة إنما تأتي على فهم ابن التبان؛ لأن قوله يقتضي تحتم الفسخ مع الطول قبل البناء. ولنذكر كلامه في المدونة ليتبين لك ذلك، قال فيها: قال ابن القاسم: إذا أجازه الولي بالقرب جاز سواء دخل الزوج أم لا، وإن أراد فسخه بحدثان الدخول فذلك له، فأما إن طالت إقامتها معه وولدت الأولاد أمضيته إن كان صواباً. وقاله مالك. وذكر في المدونة سادساً، فقال: وقال عنه ابن وهب أنه يفرق بينهما بطلقة دخل بها الزوج أم لا، إلا أن يجيز ذلك الولي أو السلطان إن لم يكن لها ولي.

تنبيه: ما ذكره المصنف في القول الأول من قوله: (مَا فَسَخَهُ بِالْبَيْنِ، ولَكِنْ أَحَبُّ إِلَيِّ)[287/ أ] هو كذلك في المدونة، لكنه لم يذكر ذلك عند ذكره هذه الأقوال وإنما ذكره

ص: 558

لما تكلم على النكاح الذي يفسخ بطلاق والذي يفسخ بغير طلاق، وهو مشكل؛ لأن الفسخ لا يقال فيه أحب إلي، إلا أن يقال أنه توقف لتعارض الأدلة. واستحب الفسخ خروجاً من الخلاف، وليستأنف عقد بولي لا خلاف فيه.

اللخمي: وجميع الخلاف الذي في هذه المسألة راجع إلى ثلاثة أقوال: هل تقدمة ولاية النسب على ولاية الإسلام من باب الأولى؟ أو هي حق له أو لله؟ فأمضاه مرة بناء على أنه أولى ومرة رآه حقاً له فخيره في الفسخ والإمضاء، ورأى مرة أن الحق لله ففسخه مطلقاً ووقف مرة لتعارض الأدلة عنده هل ذلك حق له أو لله سبحانه؟

وقوله: (وفِيهَا: إِنْ دَخَلَ بِهَا

إلى آخره)، قال فيها: قيل لمالك: من زوج امرأة بغير إذن ولي بشهود أيضرب أحدهم؟ فقال: أدخل بها؟ قال: لا. وأنكر الشهود أن يكونوا حضروا، قال: لا عقوبة عليهم.

ابن القاسم: إلا أني رأيت فيها لو دخل بها لعوقبت المرأة والزوج والذي أنكح، ويؤدب الشهود أيضاً إن علموا. ومعنى قوله:(وأنكر الشهود أن يكونوا حضروا) أي: أنكروا أن يكونوا علموا أن هذا النكاح لا يجوز بدليل قوله: (وَيُؤَدَّبُ الشُّهُودُ إِنْ عَلِمُوا). هكذا قال أبو الحسن في معنى المدونة، وجعل بعضهم فاعل أنكر عائداً على مالك؛ أي: وأنكر مالك أن يكون الشهود حضروا مثل هذا. وقيد الباجي عدم عقوبتهم قبل البناء بما إذا كان النكاح مشهوراً.

وقوله: (عَلِمُوا) يضبط بالبناء للفاعل لا بالبناء لما لم يسم فاعله؛ لأنهم إذا علموا ولم يكن عندهم علم لا يعاقبون، وقد صرح في الجلاب بذلك.

اللخمي: وأرى ألا عقوبة على الزوجين إن كانا من أهل الاجتهاد، وذلك مذهبهما، أو كانا يريان تقليد من يرى ذلك أو كانا يجهلان أو يظنان أن ذلك جائز، وكذلك البينة ينظر إلى مذهبها أو من تقلد به.

ص: 559

وَالْمُعْتَبَرُ الأَقعَدُ خَاصَّةً

هذا كما قال في المدونة: وإذا استخلفت على نفسها رجلاً فزوجها ولها وليان أحدهما أقعد بها من الآخر، فلما علما أجازه الأقعد فلا قول هنا للأبعد بخلاف التي زوجها الأبعد وكره الأقعد لأن ذلك نكاح عقده ولي، وهذا نكاح عقده غير ولي، فلا يكون فسخه إلا بيد الأقعد.

فَإِنْ كَانَتْ دَنِيَّةً؛ فَقَالَ مَالِكٌ: هِيَ أَخَفُّ

هذا قسيم قوله أولاً (وهي ذات قدر) يعني: وإن كانت دنية فقال مالك: هي أخف. وظاهره فيما إذا زوج الأجنبي مع وجود الولي. ومعنى أخف أنه يمضي، وهذا هو المشهور.

ففي التنبيهات: أما الولاية العامة وهي ولاية الإسلام فلا خلاف عندنا أن الخاصة من النسب أو الحكم مقدمة عليها وأنها مع عدمها ولاية صحيحة. واختلف مع وجود الخاصة فهل تكون العامة ولاية يصح بها العقد أم لا؟ على ثلاثة أقوال: المشهور أنها غير ولاية في الشريفة دون الدنية، وهو مذهب ابن القاسم وروايته. الثاني: أنها غير ولاية فيهما، وهي رواية أشهب وقول ابن حبيب. والثالث: أنها ولاية فيهما، حكاه عبد الوهاب، وهو ظاهر رواية ابن وهب عن محمد. والمسألة في المدونة مفروضة إذا لم يكن لها ولي، ففيها: وإذا وكلت المرأة الدنية مثل المعتقة والمسالمة ولاسوداء والمسكينة أجنبياً فزوجها وهي ببلد لا سلطان فيه، أو فيه سلطان يعسر عليها تناوله ولا ولي لها جاز ذلك، وكذلك إن وكلت من أسلمت هي على يديه وذلك فيمن أخف منه في ذوات القدر، وأما إن أسلم على يديه أبوها وتقادم ذلك حتى يكون لها من القدر والغنى والإباء في الإسلام وتنافس الناس فيها فلا يزوجها وهو كأجنبي فيها.

ص: 560

وقوله (ولا ولي لها) ظاهره مثل رواية أشهب عن مالك أن الدنية وغيرها لا يزوجها إلا الولي أو السلطان.

الأبهري: وإليه رجع مالك. وما ذكرناه من نص المدونة هو الذي اختصره المختصرون وليس في الأمهات: يعسر عليها تناوله، وإنما هو في الموازية وعليه اختصر أبو محمد، وأنكر ابن الماجشون هذه الرواية وقال: لا يجوز للدنية ولا غيرها أن يزوجها إلا الولي إلا أن تكون مثل المرأة الأعجمية الوغدة قد ساندت الرجل ذا المال والنعمة حتى صار لها كنفاً يأخذ لها القسم ويجري عليها النفع فإن له تزويجها إذا لم يكن لها ولي، وأما ذات النعمة والحال والنسب فلا.

ابن عبد السلام: وأما ما حكاه بعض الشافعية عن مالك أن للدنية أن تزوج نفسها فغلط بين لا شك فيه.

وَقَالَ فِي الْمَكْفُولَةِ الْمُرَبَّاةُ: وَمَنْ أَنْظَرُ لَهَا مِنْهُ، وَقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً. وَقِيلَ: كَذَاتِ الْقَدْرِ .....

يعني: أن الدنية قد يكون الأجنبي فيها كالولي بل أولى منه، لأن معنى قوله:(وَمَنْ أَنْظَرُ لَهَا مِنْهُ) لا أحد أنظر لها منه.

عياض: يعني بعد بلوغها ورضاها. قال في الواضحة: وذلك إذا مات أبوها وغاب أهلها، وعلى هذا حمل الشيوخ المسألة أنها غير ذات أب، وأنه من باب إنكاح الكافل والمربي لليتيمة، ولا يرون أن المكفولة يزوجها الحاضن في حياة أبيها، وذهب ابن العطار وابن زرب إلى أن للحاضن أن يزوجها في حياة الأب إذا كان غائباً ولا يكون [278/ ب] إنكاحهن إلا برضاهن، خلاف ما وقع في كتب بعض الموثقين، وتأول على المدونة أنه يكون بغير رضاهن، وهو وهم منه أو من النقلة عنه. انتهى.

ص: 561

وظاهر المدونة أنه أحق من الأخ ونحوه، وبه قال ابن عيشون، فإنه قال: والكافل أحق من أخيها لأبيها وامها. وفي البيان: المشهور المعلوم من المذهب أن الولي أحق بالنكاح من الحاضن إلا أن يكون الحاضن وصياً.

ابن عبد السلام: هل الكافل أحق من سائر الأولياء كان لها أب أم لا؟ أو إنما يكون أحق بها فيما عدا الأب؟ قولان، قال: واختلف في المرأة الكافلة هل تكون كالوصية فتقدم من يزوج أو لا؟ واقتصر ابن راشد وغيره على أن المرأة ليس لها أن توكل.

ابن راشد: وهي في ذلك بخلاف الرجل. وذكر ابن راشد في موضع آخر أنه اختلف في الرجل الكافل هل له أن يوكل أم لا؟ وكذلك اختلف في الكافل إذا زوج المكفولة ثم يموت زوجها أو يطلقها هل تعود ولايته عليها؟ فقال ابن عتاب: تعود. وقال ابن القطان: لا تعود. وقال ابن الطلاع في وثائقه: إن كان خيراً فاضلاً عادت، وإلا لم تعد.

ابن عبد السلام: وقيل: إن عادت إلى كفالته عادت ولايته وإلا فلا.

فرعان:

الأول: ذكر بعض الموثقين أن حد الكفالة التي توجب للكافل عقد النكاح عشر سنين. أبو الحسن: وعندي أنه لا حد لذلك إلا ما يرى أنه يوجب من الحنان والشفقة مثل ما للولي أو يقرب. ونقل عن الشيخ أبي محمد صالح أن أقلها أربعة أعوام.

الثاني: اختلف في ولاية الكفالة هل هي عامة في الشريفة والدنية أو خاصة بالدنية؟ وهو ظاهر المدونة، لقوله: وأما كل امرأة لها بال وغنى وقدر فإن مالكا قال: لا يزوجها إلا وليها أو السلطان. وقياس قول مالك في إجازة نكاح الكافل أنه يجوز بيعه له، لكن نص مالك في كتاب القسم على أنه لا يجوز بيعه له ولا قسمته عليه، وأجاز في كتاب القسم قسم ملتقط اللقيط عليه ومنع ذلك أصبغ.

ص: 562

قوله: (وَقِيلَ: يَمْضِي مُطْلَقاً) ابن عبد السلام: يعني أنه لا يحتاج في تزويجا لأجنبي من لا قدر لها أن يكون كافلاً.

فَإِنْ كَانَ الْوَلِيُّ غَائِباً فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْحَاكِمُ كَالْوَلِيِّ، ويَبْعَثُ إِلَيْهِ فِيمَا قَرُبَ، وَعَنْ مَالِكٍ: ينظر الْوَلِيُّ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ بِالأَوْلادِ ....

يعني: فإن زوج الأجنبي وكان الولي غائباً وهذه المسألة ذكرها في المدونة فيما إذا كان لها وليان ففيها: وإن غاب الأقرب وأراد الأبعد فسخه نظر السلطان، فإن كانت غيبة الأقرب قريبة بعث إليه وانتظره ولم يعجل، وإن كانت غيبة بعيدة فنظر السلطان كنظر الغائب في الرد والإجازة وكان أولى من الولي الحاضر.

اللخمي: وإذا كتب الغائب في الغيبة القريبة وقف الزوج عن المرأة.

الباجي: وكتب مالك إلى ابن غانم أن السلطان لا ينظر فيه إلا أن يقوم الولي فيطلب الفسخ إلا فيما تطاول مع الأولاد، وهذا هو القول الثاني الذي ذكره المصنف.

اللخمي: ولمالك في الموازية أن السلطان لا ينظر- قربت غيبة الولي أو بعدت- حتى يقدم الولي، فإن قدم وخاصم وكانت المرأة ممن لها العشيرة وأهل البيوت لم يجز ذلك إلا في شيء قد فات وتزوجها كفء. وقال مالك أيضاً: للمرأة إذا كان الولي غائباً أن تأمر رجلاً يزوجها فيجوز ذلك إذا لم تضع نفسها في دناءة. قيل له: ولا ترفع إلى السلطان. قال: ليسكل امرأة تقدر أن ترفع إلى السلطان.

وَلا وِلايَةَ لِرَقِيقٍ عَلَى ابْنَتِهِ ولا غَيْرِهَا، وَيقْبَلُ لِنَفْسِهِ ولِمُوَكِّلِهِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وبِغَيْرِ إِذْنِهِ .....

للولي ثمانية شروط، ستة متفق عليها، واثنان مختلف فيهما، فالستة أن يكون حراً، بالغاً، عاقلاً، ذكراً، حلالاً، مسلماً، أعني: إذا كانت وليته مسلمة، لأن الكافر يجوز أن

ص: 563

يعقد نكاح وليته الكافرة لمسلم. والاثنان المختلف فيهما: أن يكون رشيداً، عدلاً. وتكلم المصنف عليها كلها. ومراده بالرقيق: القن، ومن فيه عقد حرية، وإنما قال:(ولا غَيْرِهَا) ولم يقتصر على البنت؛ لأن ولاية البنت إجبار، فقد يتوهم أنه إنما منع من الإجبار، فإن تولى العقد فقال مالك: يفسخ- ولو ولدت الأولاد- بطلقة، ولو أذن له الولي أو كانت دنية. ويتخرج فيها قول آخر أنه يفسخ بغير طلاق للغلبة على فسخه.

أصبغ: ولا ميراث في النكاح الذي تولى العبد عقده وإن فسخ بطلقة لضعف الاختلاف فيه. قال فيها: ولا يقدم المكاتب من يزوج إماءه.

وقوله: (وَيقْبَلُ لِنَفْسِهِ) يعني أن الشروط إنما تعتبر من جهة ولي الزوجة.

وقوله: (بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وبِغَيْرِ إِذْنِهِ) يعود على قوله: (لِمُوَكِّلِهِ) وإنما جاز ذلك لأنه أمر خفيف ولا مضرة على السيد فيه، ويحتمل أن يرجع إليه وإلى موكله؛ لأن عقده أيضاً على نفسه صحيح، وإنما يتوقف أيضاً على إجازة السيد.

وَلا صَبِيٍّ، ولا مَعْتُوهٍ

لاشتراط البلوغ والعقل.

وَتَنْتَقِلُ إِلَى الأَبْعَدِ

أي: إذا كان الأقرب صبياً أو رقيقاً أو مجنوناً.

وَلا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ولا امْرَأَةً غَيْرَهَا، بَلْ تلي عَلَى عَبْدِهَا وعَلَى الذَّكَرِ الْمُوصَاةِ هِيَ عَلَيْهِ .....

لاشتراط الذكورية. وما ذكره من أنها تعقد على عبدها أو (وعَلَى الذَّكَرِ الْمُوصَاةِ هِيَ عَلَيْه) أي: تقبل لهما، هو قول ابن القاسم في العتبية والواضحة، وهو المشهور المعروف، [288/ أ] وحكى عبد الوهاب قولاً بأنها لا تقبل للذكر وكذا العبد في القولين.

ص: 564

وَتُوَكِّلُ الْمَالِكَةُ وَالْمُعَتِقَةُ وَالْوَصِيَّةُ وَلِيَّهَا أَوْ غَيْرَهُ

لا إشكال في هذا في المالكة والوصية، وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها وصية على أيتام، فكانت تختار الأزواج وتقدر الصداق، ثم تقول: اعقدوا فإن النساء لا يعقدن. وما ذكره المصنف قرره ابن راشد ونص عليه ابن شاس وابن فتحون في وثائقه والمتيطي وابن بطال في أحكامه.

عياض: قوله- يعني في المدونة- في المرأة: إذا وكلت رجلاً يزوج وليتها جاز، فإن معناه عند أكثر أئمتنا: مولاة لها أو من تلي عليها بإيصاء. ونقله ابن عبد السلام عن بعض الأندلسيين من الموثقين وغيرهم.

ابن عبد السلام: والصواب أن الولاية لأولياء المعتقة دون من تقدمه هي في حياتها ودون ابنها بعد موتها، وذلك بين من الموطأ وكلام المتقدمين، وقد عرضته على من يوثق به من أشياخي فوافق عليه. انتهى.

وَيُوَكِّلُ الْعَبْدُ الْمُوصَى إِلَيْهِ

هكذا نقل الباجي عن مالك.

وَيُفْسَخُ النِّكَاحُ بِلا وَلِيَّ فِي الْجَمِيعِ ولَوْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ ولَوْ بَعْدَ الطُّولِ والْوِلادَةِ بِطَلاقٍ عَن ابْن الْقَاسِمِ، وبِغَيْرِ طَلاقٍ عَنِ ابْنِ نَافِعٍ

يعني: أن النكاح إذا انعقد بين الزوجين من غير ولي ولا أجنبي، فلا بد من فسخه أجازه الولي أم لا، طال أو لم يطل، وسيأتي مأخذ القولين في فسخه هل بطلاق أم لا؟

وَالإِحْرَامُ مِنْ أَحَدِ الثَّلاثَةِ مَانِعٌ

(الثلاثة) هي الزوج والولي والزوجة.

ص: 565

وَالْمَشْهُورُ أَنََّ كفر الْجِزْيَةِ يَسْلُبُ مِنَ الْوَلِيِّ الْوِلايَةَ عَنِ الْمُسْلِمَةِ كَغَيْرِهِ

مقتضى كلامه أن المسلمة إذا كان لها ولي كافر فإن لم يكن من أهل الجزية كالمرتد، والحربي فلا ولاية له باتفاق، وإن كان من أهلها فالمشهور كذلك. وقيل: له الولاية. والمقطوع به من المذهب أن الكافر لا ولاية له على المسلمة أصلاً، وقد حكى ابن بشير على ذلك الاتفاق.

وفي قول المصنف (كفر الْجِزْيَةِ) نظر؛ لأن المشهور عندنا أن كل كافر تؤخذ منه الجزية إلا المرتد، فليس لنا كفر لا تؤخذ فيه الجزية.

ابن راشد: وأخبرني الشيخ الفقيه القاضي أبو عبد الله ابن الشيخ أبي عبد الله الزواوي أنهم وجدوا في بجاية كتباً لبعض الأندلسيين وفيها أن الكافر من أهل الجزية تكون له الولية أو قال: له البنت المسلمة فإنها لا تزوج بغير أمره ورضاه. قال: ورأيت بعد ذلك المسألة في أحكام ابن بطال، ونص كلامه: قال ابن حبيب وغيره: لا يجوز للنصراني إذا كانت له بنت مسلمة أو أخت كذلك أن يزوجها ولا يستخلف من يزوجها ولا يطلب في ذلك رضاه، وليس هو ولي في حال نصرانيته، فإن جهل وزوج ابنته المسلمة أو استخلف مسلماً زوجها فسخ النكاح أبداً قبل البناء وبعده. وقال أصبغ: إنما لا يجوز للنصراني أن يزوج أخته المسلمة إذا كان من أهل الصلح، وأما من يصير ميراثه للمسلمين منهم إذا مات فهو يزوجها، وهذا مراد المصنف. انتهى.

الباجي عن ابن القاسم: ولا يعتبر رضا الكافر في تزويج ابنته المسلمة.

وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ عَلَى الْمَشْهُورِ

مراده بالعكس أن يكون الولي مسلماً والمرأة كافرة، فلا ولاية لمسلم عليها على المشهور. واختلفت طرق الشيوخ في نقل هذه المسألة، فمنهم من نقل مثل المصنف أن

ص: 566

المشهور سقوط الولاية، والشاذ ثبوتها. ومنهم من حكى ثلاثة أقوال: هذين القولين، والفرق، فيزوجها من مسلم ولا يزوجها من كافر، وهو قول ابن وهب. وقال ابن حبيب: يزوجها من نصراني إذا لم تكن من نساء أهل الجزية.

وحكى في البيان في المسألة ثلاثة أقوال:

الأول: إن كانت من أهل الصلح لم يكن له أن يزوجها، وإن لم تكن من أهل الصلح جاز، كان عليها جزية أو لا، وهو قول مالك في العتبية على ما فسره ابن القاسم.

الثاني: لا يجوز له أن يزوجها كانت من أهل الصلح أو لم تكن، كانت عليها جزية أو لم تكن، وهو قول ابن القاسم، لأنه قال لا يزوج المسلم النصرانية كانت بنته أو أخته أو مولاته.

والثالث: له أن يزوجها، كانت من أهل الصلح فيكونوا أولى بتزويجها منه إن شاحوه؛ لأنهم إنما صالحوا وبذلوا الجزية على أن يخلى بينهم وبين نسائهم، وهو قول ابن القاسم في سماع زونان. وذهب ابن لبابة إلى أنه لا اختلاف في هذه المسألة، وأن أقوالهم ترجع إلى أنها إن كانت ممن عليه الجزية فلا يزوجها المسلم كانت من أهل الصلح أو لم تكن، وإن لم تكن عليها جزية فيزوجها. ويحمل ما وقع في القول الثاني على المولاة التي أعتقها وهو نصراني، ويحمل ما في سماع زونان على أنها معتقة لمسلم.

إِلا الْمُسْلِمَ فِي أَمَتِهِ ومُعْتَقَتِهِ

قوله: (إِلا الْمُسْلِمَ فِي أَمَتِهِ ومُعْتَقَتِهِ) هو المشهور، وعن أبي مصعب لا يزوج أمته النصرانية، وخرجه اللخمي في المعتقة.

عياض: ولا يلزم إذ قد تكون علة أبي مصعب ألا يعقد نكاح أمته لنصراني بخلاف عقد نكاحه للمعتقة من مسلم.

ص: 567

اللخمي: والقياس في الأمة المنع. فإن قيل: إنما جاز في الأمة لأنها ماله. قيل: النكاح يفتقر إلى ولاية بدليل أنها لو كانت لعبد أو امرأة لم يجز لهما أن يعقدا. والمشهور هنا [288/ ب] شبيه بالمشهور في سقوط الجزية عن معتق المسلم كما تقدم.

وَعَلَى السَّلْبِ يُزَوِّجُ الْكَافِرَةَ ولِيُّ كَافِرُ ثُمَّ أَسَاقِفَتُهُمْ لِكَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٍ

أي: وعلى المشهور من سلب ولاية المسلم عن وليته الكافرة يتولى العقد عليها وليها الكافر. وما ذكره المصنف من أنه يعقد وليها الكافر لمسلم نص عليه في المدونة.

خليل: وانظر ما معنى العطف بقوله (ثُمَّ أَسَاقِفَتُهُمْ) وإن كان المصنف قد تبع ابن شاس ونحوه لأصبغ إذا أنا لا نتعرض لهم في أحكامهم إلا أن يكون عندهم أن الولي يقدم على الأساقفة، فعطف بـ (ثُمَّ) على ما هو الواقع عندهم. قالوا: ولا يتولى السلطان ذلك إذا لم يكن لها ولي، ويجبر أهل دينها على ذلك إن دعت إلى كافر لأنه من التظالم، ولم يجبرهم على إنكاحها من مسلم.

فَإِنْ عَقَدَ لَهَا وَلِيُّهَا الْمُسْلِمُ لِكَافِرٍ لَمْ يُعْرَضْ لَهُ

لأنا لم نتعرض لهم في الزنا إذا لم يعلنوه، فأحرى النكاح.

ابن القاسم: وقد ظلم المسلم نفسه لما أعان على ذلك.

فرع: وأما إن عقد لها على مسلم فإنه يفسخ. وقال أصبغ: لا يفسخ.

وَاخْتُلِفَ فِي السَّفِيهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَعْقِدُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ. وقَالَ أَشْهَب: يَعْقِدُ إِنْ كَانَ ذَا رَايٍ إِذَا لَمْ يُوَلََّ عَلَيْهِ. وقَالَ ابْنُ وَهْبِ: يَعْقِدُ وَلِيُّهُ، فَإِنْ عَقَدَ فَلَهُ إِجَازَتُهُ ورَدُّهُ ....

حاصله أن ابن وهب رأى أن الحجر عليه يمنع من عقد النكاح. واتفق ابن القاسم وأشهب على أن له الولاية، ثم اختلفا، فقال ابن القاسم في الموازية: لا يستقل بها ولكن

ص: 568

يعقد بإذن وليه. زاد الباجي في قوله: إلا السفيه الضعيف فهو كالميت. وقال أشهب في العتبية: يتولى العقد بشرطين: أن يكون ذا رأي، وأن يكون مهملاً لا وصي عليه ولا تحجير من جهة الحاكم.

ونقص المصنف من قول ابن القاسم ولا السفيه الضعيف، والمراد بالسفيه الضعيف هو الذي لا رأي له، ونقص أيضاً من قول ابن وهب أمرين: أحدهما أنه قال بإثر ما نقله المصنف عنه: ويستحب للولي أن يحضره ولا تضر غيبته. وثانيهما أنه قال: وإن لم يكن له ولي فإنكاحه ماضٍ إن كان صواباً.

محمد: وقوله صواب، إلا قوله: فإن لم يكن له ولي جائز، وذلك سواء كان له ولي أم لا، ينظر فيه بالاجتهاد فيرد أو يجيز، وذكر ابن مغيث في وثائقه عن أشهب أن إنكاح السفيه لوليته جائز، وإن كان مولى عليه.

الباجي: ففرق ابن وهب بين المحجور عليه وغيره، وسوى محمد بينهما وقال: لا يرد إلا بوجه بين.

ابن زرقون: وقال أبو مصعب في المحجور عليه أن النكاح فاسد، يفسخ قبل البناء وبعده، وهو راجع للاختلاف في النكاح الموقوف.

وَالْمَشْهُورُ أَنََّ الْفِسْقَ لا يَسْلُبُ إِلا الْكَمَالَ

الباجي: مذهب مالك وأبي حنيفة أن الفسق لا ينافي الولاية. وفي اللخمي: أجاز ابن القصار أن يكون فاسقاً. وكرهه عبد الوهاب مع وجود عدل وإن عقد جاز، والشاذ حكاه ابن شاس ولم أره إلا أن ابن بشير قال: هل يصح أن يكون الفاسق ولياً أم لا؟ وذكر اللخمي القولين، والذي في المذهب الخلاف في كونها شرطاً في الكمال لا في الإجزاء، ولعل هذا الخلاف في شهادة لأن من الناس من لا يرضى لوليته إلا بما يعود لصلاحها لا نفقته وحميته، ومنهم من لا يلتفت إلى ذلك، والذي رأيته في اللخمي هو ما قدمته.

ص: 569

ابن عبد السلام: وبقي في تصوير المشهور أن سلب الكمال إن أريد به تقديم الأبعد العدل على الأقرب الفاسق فبعيد، وإن أريد رجحان العدل المساوي في القرابة على مساويه الفاسق فيها فقريب.

وَيَصِحُّ تَوْكِيلُ الزَّوْجِ الْعَبْدَ، والصَّبِيِّ والْمَرْأَةَ والنَّصْرَانِيَّ عَلَى الأَصَحِّ، بِخِلافِ الْوَلِيِّ فَإِنَّهُ لا يُوَكِّلُ إِلا مَنْ يَصِحُّ عَقْدُهُ لَوْ كَانَ وَلِيّاً ....

يعني: يشترط في توكيل ولي الزوجة أن يصلح أن يكون ولياً، وأما الوكيل من جهة الزوج فلا يشترط فيه ذلك على الأصح. وقيل: يشترط في وكيله ما يشترط في وليها. وأنكر بعضهم وجوده في المذهب.

ابن شاس: ثم يقول الولي للوكيل بالقبول: زوجت من فلان. ولا يقل زوجتك. وليقل الوكيل: قبلت لفلان. ولو قال قبلت لكفى إذا نوى بذلك موكله.

وَلابْنِ الْعَمِّ والْمُعْتَقِ والْحَاكِمِ ووَكِيلِهِمْ أَنْ يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ بِالإِذْنِ لَهُ مُعَيَّناً عَلَى الْمَشْهُورِ ....

لم يثبت في كل النسخ قوله: (عَلَى الْمَشْهُورِ) وهي زيادة صحيحة، ثم هي يحتمل أن تعود إلى قوله (يَتَوَلَّى طَرَفَيْ عَقْدِ النِّكَاحِ) ويحتمل أن يعود إلى قوله (مُعَيَّناً).

وحكى اللخمي عن المغيرة منعه إلا أن يوكل غيره يزوجها منه. وعلى المشهور ففي الجلاب: فينبغي للولي أن يشهد على رضاها احتياطاً من منازعتها، فإن لم يشهد على ذلك والمرأة مقرة بالنكاح فهو جائز، ولفظ ذلك أن يقول لها: قد تزوجتك على صداق كذا وكذا وترضى به.

وقد تقدم أن المشهور: ليس له أن يزوجها من نفسه إلا أن تأذن له معيناً، وأن في المذهب قولاً آخر: أن له ذلك وإن لم تعين. والاحتمال الأول أقرب إلى هذه المسألة؛ لأن هذه المسألة تقدمت.

ص: 570

فإن قيل: إنما أعادها ليؤخذ منه القول الشاذ. قيل: لا شك أن الأول أكثر فائدة؛ لأنه يؤخذ منه حكم مسألة مستقلة. ويقع في بعض النسخ ما نصه: بالإذن على المشهور معيناً، وحينئذ يتعين حمله على الوجه الثاني؛ لأن قوله:[289/أ] معيناً؛ من صلة المصدر وهو الإذن، فلو حملناه على الأول لزم الفصل بين المصدر وصلته بأجنبي، وهو غير جائز.

فروع:

الأول: الوصي يلحق بمن ذكر، لكن كره مالك لوصي الأب أن يزوج محجورته من نفسه أو من ولده. قيل: ومقدم القاضي أشد في الكراهة، فإن فعل نظر السلطان فيه، فإن كان غبطة لها أمضاه.

محمد: ينظر فيه عند البناء، وروى ابن حبيب عن مالك أنه يكمل لها صداق المثل. وقال ابن حبيب: لا يجوز ذلك ابتداءً، فإن فعل نظر في ذلك السلطان، كما قاله مالك في اشترائه مال محجوره. وقال غير واحد: وإذا تزوج فلابد أن يضمن العقد معرفة السداد، ومعرفة الإيصاء والصداق؛ لأن الوصي يتهم في محاباة نفسه.

الثاني: إذا وكل الأب من يعقد نكاح ابنته البكر فهل على الوكيل أن يستأمرها أم لا؟ روايتان، والذي ذهب إليه عبد الملك والتونسي أنه لا يستأمرها ولا يسمع منها. وفي وثائق ابن عفيف: ليس للوكيل تزويجها إلا بسامعين برضاها إلا أن يقول الأب في توكيله أنه وكيله وكالة تامة مفوضة أقامه بها مقام نفسه، وأنزله منزلته، فلا يحتاج إلى السماح حينئذ.

وظاهر الخلاف أنه في حضور الأب وغيبته، لأن ابن عات قال: إذا غاب الأب بعد التوكيل كان ذلك يعني دخول الخلاف أحرى.

الثالث: إذا كان الولي في غير بلد وليته، فأراد أن يوكل على عقد نكاحها، وطلب من القاضي الخطاب، فعلى القاضي أن يكلفه إثبات ولايته ومنزلته من المرأة، فإذا ثبت ذلك عنده فحينئذ يخاطبه.

ص: 571

الرابع: إذا طال أمد الوكالة ستة أشهر ونحوها لم يعقد حتى يجددها إلا أن ينص الموكل أنها بيده على الدوام.

وَالإِشْهَادُ شَرْطُ فِي جَوَازِ الدُّخُولِ لا فِي صِحِّةِ الْعَقْدِ

لما في المدونة من رواية ابن وهب أن حمزة بن عبد الله خطب إلى سالم بن عبد الله ابنته فزوجه إياها وليس معهما غيرهما. قال فيها: وقد ذكر مثل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لرجل: "ألا أنكحك آمنة بنت ربيعة بن الحارث. فقال: بلى يا رسول الله. فقال: قد أنكحتك إياها. ولم يشهد".

قال ابن المواز: وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين زوج ابنته سودة من عروة. أخبرنا به غير واحد، وما ذكرناه من لفظ المدونة آمنة، كذلك رواه جماع’.

عياض: والمعروف (أميمة)، بميمين. وقد قيل في غير المدونة (أمامة)، وكذلك ذكره البغوي في هذا الخبر بعينه، والبخاري في تاريخه، وإذا لم يشترط الإشهاد في العقد فهو أفضل.

ابن عبد السلام: ويتخرج في المذهب قول آخر بعدم صحة النكاح الذي لم يشهد فيه من الخلاف في تفسير نكاح السر. انتهى.

وفي التنبيهات: مشهور مذهبنا أن الإشهاد ليس بشرط في صحة العقد. وفي كتاب القزويني عن مالك ما ظاهره أن الإشهاد شرط في العقد كقول المخالف.

اللخمي وابن يونس وابن رشد: ويستحب إعلان النكاح وإشهاره وإطعام الطعام عليه وروى الترمذي والنسائي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "أعلنوا النكاح واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدفوف". وروي أيضاً عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "فصل ما بين الحلال والحرام الدف والصوت".

ص: 572

فَإِنْ دَخَلَ قَبْلَهُ فُسِخَ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ. وقِيلَ: وَيُحَدَّانِ إِذَا ثَبَتَ الْوَطْءُ مَا لَمْ يَكُنْ فَاشِياً. وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: مَا لَمْ يَجْهَلا .....

ما ذكره من الفسخ بطلقة بائنة نص عليه مالك في الموازية، وهو واضح. أما كونه بطلاق؛ فلأن عقده صحيح عندنا، وأما كونها بائناً فلأنه من الطلاق الحكمي. وقاعدة المذهب أن كل طلاق يوقعه الحاكم فهو بائن إلا طلاقين: طلاق المولي وطلاق المعسر بالنفقة.

ودلت الواو في قوله (وقِيلَ: وَيُحَدَّانِ) على أن هذا القائل يضم إلى الفسخ بطلقة بائنة الحد إن ثبت الوطء بإقرار أو بينة، ما لم يكن فاشياً. وأن ابن القاسم لا يعتبر الفشو في إسقاط الحد، وإنما يعتبر جهلهما بحكم الشهادة خاصة. ومقتضى كلامه أن المذهب سقوط الحد عنه في كل صورة، وهذا شيء لا يقوله أحد، بل إن حصل الفشو والجهل فالاتفاق على سقوط الحد، وإن انتفيا فالاتفاق على ثبوته. قاله ابن بشير وابن عبد السلام.

واختلف إذا وجد أحد الوصفين، والقول باعتبار الفشو في إسقاط الحد لابن الماجشون وأصبغ وابن حبيب، والقول باعتبار الجهل لابن القاسم كما ذكر المصنف.

ابن الماجشون وأصبغ: والشاهد الواحد لهما بالنكاح أو باسم النكاح كالفشو في إسقاط الحد.

وَلا تُفِيدُ شَهَادَةُ الْوَلِيِّ لهما كَمَا لا تُفِيدُ عَلَى إِذْنِهِا

يعني أن الولي إذا شهد لهما بالتزويج لا تفيد شهادته شيئاً؛ لأنه يتهم على إرادة الستر على وليته، وكذلك أيضاً لا تعتبر شهادة الولي على أنها أذنت له؛ لأنه يتهم على تصحيح فعل نفسه.

وَنِكَاحُ السِّرِّ بَاطِلُ

لما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه نهى عن نكاح السر.

ص: 573

وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ الْمُتَوَاصَى بِكَتْمِهِ وإِنْ أَشْهَدَا فِيهِ، [289/ ب] فَيُفْسَخُ بَعْدَ الْبِنَاءِ وَإِنْ طَالَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وقِيلَ: هُوَ الَّذِي دَخَلَ ولَمْ يُشْهَدْ فِيهِ .....

المشهور مذهب المدونة أن نكاح السر هو المتواصى بكتمه ولو كانوا مائة شاهد.

وقال يحيى بن يحيى: لا يكون نكاح سر ما عقد بشاهدين، وإنما هو ما عقد بغير بينة، أو بشهادة امرأتين، أو رجل وامرأتين. يريد: ودخل فيه من غير شهادة، وإنما يفسد على المشهور إذا أوصى بالكتمان قبل العقد. ولو أمر الشهود بالكتمان بعد العقد فإنه صحيح ويؤمرون بإشهاره.

وأشهب: وهذا إذا لم تكن له نية، وإن نكح على نية الاستكتام بعد العقد فليفارق.

وقال أصبغ: لا أرى أن يفسخ إذا لم يكن إلا ضمير نفسه؛ لأنه لا بأس أن يتزوج ونيته أن يفارق. واختلف هل الأمر بذلك على قول أشهب استحباب وهو مذهب ابن رشد؟ أو وجوب وهو مذهب التونسي؟

ابن حبيب: وإن اتفق الأولياء والزوج على الكتمان، ولم يعلموا الشهود فهو نكاح سر.

مالك في الواضحة: ولا فرق بين أن يسالوا الشهود أن يكتموا ذلك من امرأة أخرى، أو يكتموا ذلك في المنزل الذي نكح فيه، ويظهروه في غيره، أو يكتموا ثلاثة أيام ونحوها، وذلك كله نكاح سر. وإذا فرعنا على المشهور فلو وقع، ففي البيان: المشهور: يفسخ بعد البناء، إلا أن يطول بعده فلا يفسخ. وكذلك نقل ابن حبيب عن مالك وأصحابه، قال: وقيل أن النكاح صحيح يثبت قبل البناء وبعده، ويؤمر الشهود بإعلان النكاح، وهو قول يحيى بن يحيى. انتهى.

وهذا لا يحسن أن يكون مقابل المشهور في كلام المصنف، لأن يحيى يخالف في تفسير نكاح السر ابتداءً، والخلاف الذي حكاه المصنف إنما هو مبني على المشهور، وإنما مقابل.

ص: 574

المشهور في كلام المصنف على رأي اللخمي أنه يمضي بالعقد. فإن قيل: هل يصح أن يكون الشاذ في كلام المصنف ما قاله ابن الجلاب أنه يعلن في ثاني حال ويصح؟ قيل لا، لقوله بعد ذلك: إذا لم يرد به نكاح السر.

وصاحب الكافي وإن لم يذكر هذه الزيادة فينبغي أن يقيد كلامه بها؛ لأنه كثيراً ما يأخذ من الجلاب. وفي الاستلحاق عن بعض من أكد به أنه رأى لأصحاب مالك أن نكاح السر جائز، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. انتهى.

وهذا يحتمل أن يكون إشارة إلى قول يحيى، ولم أر من قال بالفسخ بعد البناء والقول كما قال المصنف، غير أنه وقع في المدونة والمبسوط لمالك أنه يفسخ وإن دخلا.

وفي سماع أشهب: يفرق بينهما وإن دخل بطلقة، ولها صداقها إن كان أصابها. ولم يقل فيه (وَإِنْ طَالَ) كالمصنف.

ابن راشد: ولعل المصنف رأى هذه الرواية فحملها على الإطلاق.

خليل: ويؤخذ من كلام صاحب الاستلحاق أن ما وقع لمالك في سماع أشهب محمول على إطلاقه ونص أبو الحسن على أن ما حكاه ابن حبيب تفسير للمدونة، وكذلك أشار إليه المازري ونص على أن ما وقع في المبسوط يقيد أيضاً بعدم الطول بعد البناء. وقد ظهر لك أن قوله (عَلَى الْمَشْهُور) راجع إلى قوله:(بَعْدَ الْبِنَاءِ) وأن مقابله للخمي، ولا يرد إلى قوله:(وَإِنْ طَالَ) وإن كان ابن عبد السلام زعم أنه الأولى، قال: وقد ذكر الخلاف كذلك غير واحد. لأنه تبين لك أن المشهور لا يفسخ بعد البناء والطول، ولكن يبقى. الشاهدان إن جهلا ذلك، وإن أتيا بمعرفة أنه لا يصح عوقبا.

ص: 575

وَرَجَعَ مَالِكٌ إِلَى أَنَّهُ لا يُفْسَخُ نِكَاحُ الْخِيَارِ بَعْدَ الْبِنَاءِ لِلزَّوْجِ أَوْ لِلزَّوْجَةِ أَوْ لِلْوَلِيِّ أَوْ لَهُمْ بِخِلافِ النِّكَاحِ إِلَى أَجَلٍ .....

يعني: أن نكاح الخيار ممنوع؛ لأن الخلاف في الفسخ بعد البناء مستلزم للمنع قبله.

اللخمي: وعلى القول بإجازة الخيار في الصرف اليوم واليومين يجوز مثل ذلك هنا، والنكاح في هذا أوسع من الصرف؛ لأن النكاح غير منعقد حتى تمضي أيام الخيار. وقال: ويجوز على خيار المجلس وبعد الافتراق فيما قرب، وهو في هذا أوسع من الصرف. قال صاحب الاستلحاق: ومن شيوخنا من يقول: إن كان الخيار في المجلس، فلم يختلف أصحابنا في جوازه، وإن كان الخيار يفترقان عليه كالبيع، فلا يختلف أصحابنا في منعه. ولابن القاسم في الموازية: إن شرط لها مشورة فلان الشيء القليل وهو حاضر بالبلد ويأتي من فوره جاز. وأخذ ابن القاسم بالقول المرجوع إليه أنه إنما يفسخ قبل البناء، وكان أولاً يقول بالفسخ أيضاً بعده، وهو أظهر؛ لأن فساده في عقده. قال في المدونة: ولها المسمى دون صداق المثل. عياض: وفي الأسدية لها صداق المثل.

وقوله: (بِخِلافِ النِّكَاحِ إِلَى أَجَلٍ) يعني فإنه يفسخ بعد البناء باتفاق، وهو نكاح المتعة بغير طلاق. وقيل: بطلاق، ويعاقب الزوجان ولا يبلغ بهما الحد، والولد فيه لاحق، وهل لها المسمى بالدخول أو صداق المثل؟ قولان.

اللخمي: والأحسن المسمى لأن فساده في عقده.

فرعان:

الأول: قال مالك: [290/ أ] لا خير في نكاح النهارية؛ وهو أن يتزوج على أن لا تأتيه إلا نهاراً أو ليلاً.

ابن القاسم: ويفسخ ما لم يدخل، فإن دخل ثبت ولها صداق المثل ويسقط الشرط.

ص: 576

قال في البيان: وهو الذي يأتي على مذهب المدونة، وبه قال أصبغ، وحكاه عن مالك وأصحابه. وقال عيسى: يفسخ قبل الدخول وبعده.

واختلف: هل لها صداق مثلها أو المسمى؟ والقول بصداق المثل أظهر لما في الشرط من التأثير في الصداق، ومن أهل العلم من يجيز نكاح النهارية، وهو قول الحسن وعطاء، ومنهم من يكرهه، وهو قول الحكم وابن سيرين. انتهى.

والفرق بينه وبين نكاح المتعة على قول ابن القاسم أنه دخل هنا على أن يكون النكاح بيده إلى أن يموت.

الثاني: أن يتزوج المسافر المرأة ليستمتع بها، ويفارقها إذا سافر، فإن شرطا ذلك فهو متعة، وإن لم يشترطاه ولكن فهمت المرأة ذلك، ففي جوازه ومنعه قولان لمالك ذكرهما اللخمي وغيره.

مالك: وإن تزوج لغربة أو ليقضي إربه ثم يفارق فلا بأس، وإن كان من النساء من لو علمت بذلك لم ترض.

وَفِي إِنْ لَمْ يَاتِ بِالصَّدَاقِ إِلَى أَجَلِ كَذَا قَوْلانِ: مِثْلُهُ، وجَائِزٌ

(مِثْلُهُ، وجَائِزٌ) تفسير للقولين، والضمير المضاف إليه مثل عائد على نكاح الخيار، ويتبين لك ذلك بكلامه في المدونة، ونص التهذيب: ومن نكح على أن له الخيار أو للولي أو للزوجة أو لجميعهم يوماً أو يومين لم يجز، وفسخ قبل البناء لأنهما لو ماتا قبل الخيار لم يتوارثا، فإن بنى بها ثبت النكاح وكان لها المسمى.

وكذلك الجواب في من تزوج المرأة على أنه إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا، وإلا فلا نكاح بينهما. وقد كان مالك يقول فيها: إن النكاح يفسخ بعد البناء؛ لأن فساده في عقده. ثم رجع؛ فقال: أرى أن يثبت بعد البناء؛ فقول المصنف: (مِثْلُهُ) هو تشبيه

ص: 577

بالمشهور والذي رجع إليه مالك؛ لأنه قد تقدم أن المصنف إذا قدم مشهوراً ثم شبه فإنما يشبه في المشهور، ويبعد أن يريد بمثله جريان القولين، إذ لا يقال إن القول الأول في المسألة قولان، وإنما يحسن ذلك في الطريقة. ولمالك في الموازية في إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا فلا نكاح بيننا: أنه يفسخ قبل البناء، ويثبت بعده بصداق المثل. فجعل لها صداق المثل خلاف ما في المدونة. قال في البيان: والخلاف إنما هو إذا أتى الزوج بالصداق قبل الأجل المشروط، وإن لم يأت الزوج بالصداق حتى انقضى الأجل أو حتى انقضت أيام الخيار فلا نكاح بينهما قولاً واحداً.

وقول المصنف: (وجَائِزُ) لا يؤخذ منه هل يبطل الشرط أم لا؟ وقد حكى في البيان الأول عن أشهب، وذكر عنه أنه قال: عليه المسمى. وحكى الثاني- أي أنه يجوز ويلزمه الشرط- عن سحنون، وقال: ومثله روى أشهب عن مالك. وقد روي مثله عن ابن القاسم وأشهب وهو أظهر الأقوال. وفهم اللخمي والأكثر المدونة على أن النكاح منعقد. وحكى ابن عبد السلام عن بعضهم أنه فهمها على أن النكاح منحل، وإنما ينعقد عند إتيان الأجل، وليس بصحيح؛ لأنه لو لم ينعقد النكاح لم يقل مالك يفسخ؛ لأن فسخ غير المنعقد لا يصح؛ ولأنه لو كان كذلك لم يأت في المدونة بإثرها بمسألة تأجيل العقد؛ لأنها على هذا هي في المعنى. فإن قيل: قد نص مالك فيمن اشترى سلعة على أنه إن لم يأت بالثمن إلى أجل كذا فلا بيع بينهما على صحة البيع وبطلان الشرط، فلم لا يكون هنا كذلك؟ قيل: لأن الخيار ينافي عقد النكاح بخلاف البيع.

فرع:

إذا قال في عقد النكاح: إن لم يأت بالصداق إلى أجل كذا فأمرها بيدها؛ فروى ابن القاسم عن مالك في الموازية يفسخ قبل البناء ويثبت بعده. قال في البيان: وإذا ثبت بعده بطل الشرط وكان فيه المسمى.

ص: 578

وروى أشهب عن مالك أنه جائز والشرط لازم. وقاله ابن القاسم وسحنون وأصبغ، وهو قول المدنيين. قال في البيان: وهو أظهر. ومثله روى أشهب عن مالك، وروى أيضاً مثله عن ابن القاسم.

وَكَذَلِكَ تَاجِيلُ الْعَقْدِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِثْلَ أَنْ يَتَرَاضَى الثَّلاثَةُ عَلَى أَنَّهَا زُوِّجَتْ بَعْدَ شَهْرٍ ....

قوله (كَذَلِكَ) أي: مثل نكاح الخيار في المنع تأجيل العقد على المشهور. و (الـ) في (الثَّلاثَةُ) للعهد، والمراد بالثلاثة الزوج والزوجة والولي. وقلنا للعهد لتقدم ذكرهم في نكاح الخيار.

ابن عبد السلام: ويحتمل أن يكون المعهود هنا المعهود الذهني، وذلك لأنه علم أن النكاح لا يتم إلا بالثلاثة. والمشهور مذهب المدونة؛ ففيها: ومن قال لامرأة: إذا مضى شهر فأنا متزوجك. فرضيت هي ووليها، فهذا النكاح باطل لا يقام عليه. واختلف في فهمها، ففهم الأكثرون أن المنع إنما هو لتوقيت الإباحة بزمان دون زمان، فكان كالمتعة، وهو الذي يؤخذ من كلام المصنف، ونقله صاحب النكت عن غير واحد من القرويين. وفهمها صاحب البيان على أنه ليس هناك عقد منبرم، وإنما هو عقد فيه خيار، والبطلان فيه إنما هو من معنى [290/ ب] المسألتين اللتين قبله، ويقوي ذلك ما وقع في أصل المدونة: فأنا أتزوجك. والعقود إذا وقعت بصيغة المضارع لا يلزم بها حكم، وغايتها أن تكون وعداً، ولو كان العقد منبرماً لقال: قد تزوجتك. وللأول أن يقول: لا فرق هنا بين الماضي والمضارع؛ لأنهما واقعان في جواب الشرط، والشرط وجوابه لا يكونان إلا مستقبلين في المعنى. ابن راشد: ولم أقف على مقابل المشهور.

ص: 579

الزَّوْج

يشترط فيه شروط الصحة وشروط اللزوم، فشرط الصحة أن يكون مسلماً لامتناع استيلاء الكفار على المسلمين، وأن يكون خالياً من الموانع التي يأتي بيانها في باب الزوجة كالإحرام والمرض.

وأن يكون مميزاً، فلا ينعقد نكاح المجنون والصغير غير المميز. وفي انعقاد نكاح السكران خلاف. ثم هل الخلاف فيمن معه تمييز؟ وأما من لا تمييز معه فلا يلزمه بالاتفاق والخلاف فيمن لا ميز له، وأما من معه ميز فيلزمه طريقان، وألا يكون خنثي مشكلاً، فإن كان كذلك فالمنصوص أنه لا ينكح ولا ينكح.

ابن راشد: وقيل يطأ السراري.

ابن أخي هشام: فإن مات اشتريت له جارية تغسله. واستحسنه أبو عمران.

وأما شروط اللزوم: فالرشد والبلوغ والحرية، فإن تزوجوا بغير إذن وليهم فله الرد، وكذلك أيضاً يشترط الطوع.

محمد: وأجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة، ولا يجوز المقام عليه. وفي قياس بعض مذهب مالك أنه يجوز للمكره إمضاؤه آمناً مطمئناً، وفي قياس بعض مذاهبهم أنه يجوز بحدثان ذلك وإلا لم يجز، وكذلك أولياء المرأة، وإنما للمكره أن يجبر على هذا القول على المسمى، وإن كان أكثر من صداق المثل؛ لأن بذلك رضيت، فإن لم يكن وطئ- يعني بإذنها- وكذلك يكون لولي المرأة إجازة نكاحها على ما رضي به وإن كان أقل من صداق مثلها.

وَيُزَوِّجُ الأَبُ والْوَصِيُّ والْحَاكِمُ الْمَجْنُونَ والصَّغِيرَ إِنِ احْتَاجَ

يعني: لمن له النظر على الصغير أن يزوجه، سواء كان له النظر بالأصالة وهو الأب، أو بنيابة وهو الوصي والحاكم.

ص: 580

عياض: ولا خلاف في جواز إنكاح الأب ابنه الصغير والمجنون، وقيد ذلك في كتاب الخلع، وذلك بما إذا كان فيه غبطة ورغبة كنكاحه من المرأة الموسرة. وفي إجبار الوصي الصغير ثلاثة أقوال: ألحقه بالأب في المدونة، وكذلك وصي الوصي، وقال في الموازية: ليس في هذا نظر، ولا يعجبني. وفرق المغيرة فقال: إن كانت المرأة ذات شرف أو ابنة عم فله الإجبار وإلا فلا.

عياض: وإليه يرجع ما في المدونة والموازية بدليل كلامه في كتاب الخلع.

خليل: وأجرى بعضهم هذه الثلاثة في الأب.

ابن راشد: ولم أر في الحاكم خلافاً، وينبغي أن يجوز له ذلك بلاخ خلاف، لأن الحاكم لا يفعل ذلك إلا بعد أن يثبت عنده أن في ذلك مصلحة.

عياض: ولا يزوج الصغير غير الأب والوصي على المشهور من المذهب، إلا ما وقع في كتاب يحيى بن إسحاق. ولابن كنانة في أخٍ زوج أخاً له صغيراً يليه، وليس بوصي عليه أنه يمضي ويلزمه، وذكر عن مالك فسخه إلا أن يطول بعد الدخول.

وأما المجنون فلمالك في مختصر ما ليس في المختصر: أعجب إليَّ ألا يزوج المغلوب على عقله، وما رأينا أحداً زوجه. وقال اللخمي: إن خيف منه الفساد زوج لأن الحد وإن سقط عنه فلا يعان على الزنا. وإليه أشار بقوله: (إِنِ احْتَاجَ).

وَفِي جَبْرِهِمْ السَّفِيهَ قَوْلانِ

القول بالجبر لابن القاسم في العتبية وابن حبيب، وأخذ من قوله في المدونة في النكاح الأول آخر مسألة من يزوج ابنه البالغ أنه لا يلزمه إذا كان الابن قد ملك أمره. ونص الباجي على أنه المشهور، والقول بعدم الجبر هو منصوص عليه في كتاب إرخاء الستور، وهو قول عبد الملك وصححه صاحب النكت وغيره، وهو الصغير لأنه يلزمه الطلاق، فإذا أجبر على ما لا يجب طلق، ويلزمه نصف الصداق من غير منفعة حصلت له.

ص: 581

وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ فَقِيراً فَالصَّدَاقُ فِي مَالِ الأَبِ حَيّاً وَمَيِّتاً مُعَجَّلُهُ ومُؤَخَّرُهُ، ولا يَنْتَقِلُ إِنْ أَيْسَرَ. وقِيلَ: إِلا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَلَى الابْنِ .....

لما ذكر تزوج الصغير ذكر على من يكون الصداق، وذكر أن الابن إذا كان فقيراً أن الصداق على الأب سواء اشترط على الأب أو على الابن، أو لم يشترط على واحد منهما وقيل: إن بين أنه على الابن فهو عليه. واكتفى المصنف بذكر الخلاف مع الاشتراط على الابن لأنه إذا كان المشهرو أنه على الأب ولو اشترط على الابن فلأن يكون على الأب مع عدم الاشتراط، أو اشترط أن يكون عليه من باب أولى. وما ذكره أنه المشهور هو نص قول ابن القاسم في الموازية، وهو ظاهر المدونة؛ لأنه أطلق فيها كونه أنه على الأب، ووجهه بأنه لا مصلحة للابن في تعمير ذمته بالصداق مع فقره وعدم حاجته في الحال.

والشاذ لابن القاسم، وبه قال أصبغ وابن حبيب.

المتيطي: فهم جماعة المدونة عليه، وب جرى العمل عند الشيوخ، أما إن كانا معاً [291/ أ] عديمين فروى أصبغ: لا شيء منه على الأب.

الباجي: والذي يقتضيه المذهب أنه مع الإبهام على الأب لأنه يتولى العقد.

واحترم بقوله (فَقِيراً) من الغني، فإنه فيكون على الابن سواء اشترطه عليه أو لم يشترطه إلا أن يشترط أنه على الأب، فيكون عليه على المعروف. وحكى بعض الموثقين أن الابن إذا كان له مال وحمل الأب الصداق عنه أن المرأة تخير إن شاءت أخذت به الحامل أو المحمول عنه، وكان هذا نحى به منحى الحوالة إذا كانت على غير أصل دين، فإنها تنقلب حمالة على المعروف. وتخييره المرأة على هذا مبني على أحد قولي مالك أن لرب الدين أن يتبع الضامن أو المضمون عنه كما سيأتي.

وقوله: (الصَّغِيرَ) احترازاً من الكبير فإنه يكون على الابن، يريد: إذا كان رشيداً وأما السفيه فكالصغير نص عليه اللخمي وغيره، وما قلناه من أن الصداق على الرشيد

ص: 582

هو قول يحيى بن سعيد في المدونة على فهم أكثر الشيوخ؛ لأن فيها: قال يحيى بن سعيد: ومن زوج ابنه صغيراً أو كبيراً ليس له مال، فالصداق على الأب عاش أو مات. فتأوله أكثرهم على الكبير السفيه، وكذلك نص عليه في الواضحة. وقال ابن يونس: ذلك سواء في السفيه والرشيد؛ لأن الأب تولى العقد، كالوكيل يشتري سلعة فالثمن عليه إلا أن يقول: هو ينقدك دوني.

عياض وغيره: وهو ضعيف؛ لأن حكم الوكالة في النكاح مخالف لحكم الوكالة في البيع؛ لأن الوكيل إنما يلزمه دفع الثمن؛ لأنه يملك قبض العوض.

فرع:

ولو زوج الأب الرشيد فقال الابن: إنما ظننت أن يكون على الأب. وقال الأب: إنما أردت أن يكون على الابن، فقال مالك: يفسخ النكاح ولا شيء على واحد منهما.

محمد: بعد أن يحلفا، ومن نكل منهما كان الصداق عليه.

ابن بشير: وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً لقول مالك، ويحتمل أن يكون خلافاً، ويجري على حكم أيمان التهم؛ لأن الزوجة ووليها لا يحققان الصداق على أحد منهما.

وقال اللخمي: أرى إن نكلا أن يثبت النكاح ويغرم كل واحد منهما نصف الصداق، وإن لم ينظر في ذلك حتى دخل الابن حلف الأب وبرئ، ثم إن كان صداق مثلها مثل المسمى أو أكثر غرمه الزوج بغير يمين، وإن كان المسمى أكثر حلف الزوج وغرم صداق المثل.

فروع:

الأول: لو كان الصغير موسراً بالبعض دون البعض، فقال الباجي: لم أر فيه نصاً، وعندي أنه يكون في ماله من المهر قدر ما هو مليء به، ويكون في الزائد حكم من لا مال له.

ص: 583

الثاني: إذا زوج الصغير- ولا مال له- نكاح تفويض، ولم يفرض لها حتى بلغ فالصداق في مال الأب حياً وميتاً، قاله عيسى؛ يريد لأن الصداق كان ثابتاً حين العقد على الأب، وإنما تأخر تعيينه.

الثالث: إذا أذن لولده الفقير فعقده، وكتب الصداق ثم مات الزوج فطلبت الزوجة صداقها من الأب، فقالت: إذنك له في العقد كعقدك عليه.

قال ابن راشد: نزلت عندنا بقفصة، فأفتى الشيخ عبد الحميد بن أبي الدنيا بألا شيء على الأب، وهو الظاهر، وقد قالوا في السيد يأذن لعبده أنه لا يكون ضامناً بمجرد الإذن. انتهى.

الرابع: إذا زوج الصغير ولا مال له، وشرط الأب في عقد نكاحه أن يعطيه داراً أو مالاً، فقال بعض شيوخنا: الصداق على الابن لأنه صار موسراً بما أعطاه الأب. قال: وفي المسألة نظر؛ لأنه لم يتقدم يسره بهذا المال قبل النكاح.

ابن يونس: والصواب ما قاله الشيخ؛ لأنه معلوم أنه لم يتم العقد إلا بيسره فهو كما لو أيسر قبل العقد.

فَلَوْ بَلَغَ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ رَجَعَ إِلَى الأَبِ النِّصْفُ

يعني: حيث كان الصداق على الأب فبلغ الابن فطلق المرأة قبل البناء، فإن النصف يرجع إلى الأب؛ لأنه لم يلزمه إلا على حكم الصداق.

وقيل: وهذا إنما هو على القول بأن المرأة إنما تستحق بالعقد النصف، وأما على القول بأنها تملك الجميع فالقياس أن يرجع نصف الصداق للزوج، وقوى هذا القائل هذا التخريج، باختلاف ابن القاسم وابن الماجشون إذا خالع الابن قبل البناء على رد جميع الصداق، فقال ابن القاسم في الواضحة: جميعه للأب. وقال ابن الماجشون: للأب النصف وللزوج النصف.

ص: 584

اللخمي: والأول أصوب، لأن قصد الأب بحمل الصداق أن يراه ذا زوجة، فإن لم يتم ذلك عاد الصداق. قال في المتيطية: وبقول ابن القاسم الحكم.

ابن حبيب: ولو ألفي النكاح فاسداً لرجع الجميع للأب.

وَمِثْلُهُ مِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ وضَمِنَ الصَّدَاقَ، وذُو الْقَدْرِ يُزَوِّجُ رَجُلاً وَيَضْمَنُ الصَّدَاقَ

يعني: إذا طلق الزوج في هاتين المسألتين قبل الدخول، فإن النصف يرجع إلى الزوج.

وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ لأَنَّها حَمْلُ صِلَةٍ ولَيْسَ كَحَمَالَةِ الدَّيْنِ، ولا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ كَمَا لَوْ قَالَ: بِعْ فَرَسَكَ مِنْهُ والثَّمَنُ عَلَيَّ، أَوْ بِعْهُ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي وَهَبْتُهَا لَهُ وعَلَيَّ دَفْعُهَا إِلَيْكَ فَفَعَلَ فَلا شَيْءَ عَلَى الْمُبْتَاعِ، ولا رُجُوعَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ فِي مَوْتٍ وَلا فَلَسٍ .....

قوله: (مِنْهُمْ) أي: من [291/ ب] المزوج ابنه الصغير والمزوج ابنته. في ذي القدر؛ يعني: لا يرجع هؤلاء الثلاثة بما أدوا عن الزوج من نصف الصداق؛ لأنه حمل صلة وليس كحمالة الدين. والحمل: عطية لا رجوع فيها لمعطيها، ولا يطلب فيها إلا القربة. والحمالة هي الضمان. ولا يصح أن يحمل كلام المصنف:(وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ) على معنى لا رجوع لأحد عن حمله؛ لأن قوله: (ولَيْسَ كَحَمَالَةِ الدَّيْنِ) يرده قوله: (ولا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ) يحتمل أن يريد لا رجوع للخروج في المسائل الثلاثة على الزوج بما أدى. لكنه يبقى تكرار مع قوله أولاً: (وَلا يَرْجِعُ أَحَدُ مِنْهُمْ) ويحتمل أن يكون المعنى ولا شيء على الزوج؛ أي للزوجة. ويكون ذكره لدفع توهم أن يقال أن الزوجة ترجع على الزوج لكونه لم يدفع لها شيئاً من عنده. ثم شبه ذلك بقوله (كَمَا

إلخ) ثم إن وقع النص على الحمل أو الحمالة فلا إشكال.

ابن عبد السلام: وإلا فأكثر الشيوخ يقولون: إن ما كان في العقد محمول على الحمل، وما كان بعده مختلف فيه هل على الحمل أو على الحمالة؟

ص: 585

وذكر بعض الموثقين أنه مختلف فيه في العقد، فإن مذهب ابن القاسم أنه محمول على الحمل. وروى عيسى أنه على الحمالة، وزعم بعضهم أن هذا الخلاف إنما هو في لفظ الضمان. انتهى.

وهذا الأخير هو لصاحب البيان، قال: وإن كان بلفظ الضمان وإن كان في عقد النكاح أو البيع فمذهب المدونة وابن حبيب وابن القاسم في العتبية أنه محمول على الحمل حتى يتبين أنه أراد الحمالة، وروي عن ابن القاسم أنه على الحمالة حتى يتبين أنه أراد الحمل، ولو ضمن بها الصداق بعد عقد النكاح أو الثمن بعد عقد البيع لحمل على الحمالة حتى ينص أنه أراد الحمل اتفاقاً. انتهى.

وعلل ابن يونس المنسوب للمدونة بأن العرف في ضمان الصدقات أنه على الحمل حتى ينص على الحمالة، وذكر أنه لا فرق بين أن تنازع الزوجة الضامن أو ورثته، ثم إن كان بلفظ الحمل في عقد البيع أو النكاح لزم، ولم يفترق إلى حيازة إلا على ما ذكر ابن العطار من الخلاف في النكاح، وذكر مثله في أصل عقد البيع.

واختلف إذا لفظ بذلك بعد عقد البيع أو النكاح؛ فعن ابن القاسم ومثله في الواضحة أنه يلزمه في الحياة ويسقط عنه بعد الوفاة كالهبة إذا لم تقبض. وقال ابن الماجشون: ذلك لازم له في الحياة وبعد الوفاة كالحمالة. قال: لأنها ثمن لما ترك المحمول له من ذمة غريبمه من حقه.

اختلف كذلك في لفظ الضمان إذا لفظ به في عقد النكاح، وأما بعده أو في عقد البيع أو بعده فهو محمول على الحمالة. واختلف في الغريم المتحمل عنه على ما هو محمول، فقيل: على الملاء. وقيل: على العدم.

ص: 586

فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ وتَعَذَّرَ أَخْذُهُ فَلَهَا مَنْعُ نَفْسِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ

أي: فإن لم يدخل الزوج وتعذر أخذ الصداق من الحامل فللمرأة منع نفسها من الدخول حتى تقبض الصداق؛ لأنها دخلت على إتباع غير الزوج، لا على تسليم سلعتها بغير عوض، وهذا قول مالك وابن القاسم.

وهكذا الحكم في السلعة إذا بقيت بيد البائع حتى فلس الحامل، أو مات ولم يترك وفاءً، نص عليه أحمد بن خالد وخالفه أبو عمران، وقال: ليس للبائع أن يحبس السلعة لأن السلعة المبيعة بثمن إلى أجل لا تكون رهناً بالثمن المؤجل. هكذا قيل: والأقرب أنه ليس بخلاف بل كلام أبي عمران مخصوص بما إذا كان البيع إلى أجل، وكلام أحمد بن خالد بما إذا كان البيع نقداً، والله أعلم.

وقال اللخمي: إن كان الحمل برضاها لم يكن لها منع نفسها، لأنها تحولت بصداقها في ذمة الحامل، فإذا فرعنا على المذهب ومنعت الزوجة نفسها فدفع الزوج الصداق رجع به على الحامل.

بعض الموثقين: ولو أن المرأة أباحت نفسها حين أعدم الحامل ثم مات عن غير مال لم يكن لها قبل زوجها شيء، لأنها قد بذلت نفسها ورضيت بإسقاط الطلب عنه. وكما جعلوا للمرأة منع نفسها حتى تقبضه جعلوا للزوج الخيار بين دفع الصداق والدخول أو يفارق ولا شيء عليه، ولم يجبروه على دفعه وإن كان له مال.

فرع: فلو فارق الزوج ومات الحامل اتبعت المرأة تركته متى يطرأ له مال على قول مالك وابن القاسم. وعلى قول ابن نافع: لا شيء لها، ويعود ميراثاً. قاله ابن عبد السلام وغيره.

اللخمي: فلو كان صداقها مائة؛ النقد نصفها، والمؤخر نصفها، وخلف الحامل مالاً أخذت المرأة مائة لأن بالموت يحل المؤجل، فإن لم يخلف شيئاً فللزوج إذا أتى بالمعجل أن

ص: 587

يبني بها، وإن خلف خمسين أخذتها وكان للزوج أن يدخل بها إذا دفع خمسة وعشرين؛ لأن الخمسين المأخوذة نصفها للخمسين المؤخرة. قال: ويختلف إذا حاصصت المرأة الغرماء، ونابها من المائة خمسون، ثم فارقها الزوج هل ينتقص الحصاص الأول أم لا؟ فمن قال: إن الصداق وجب بالعقد لم ينتزع شيئاً، ومن قال: إنما يجب النصف، قال: عليها أن ترد نصف ما قبضته من المعجل، وهو خمسة وعشرون، ثم تضرب فيها هي والغرماء بما بقي لهم؛ لأنه قد تبين لهم أن دينها [292/ أ] خمسون فقط، وإن كان جميع الصداق مؤجلاً كان للزوج أن يبني بها، ولم يكن لها أن تمنع نفسها كالمشهور فيما إذا حل ما على الزوج، لأنها دخلت هنا على أن تسلم وتتبع ذمة أخرى.

فَإِنْ ضَمِنَ فِي مَرَضِهِ فَوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ، فَيَنْظُرُ وَصِيُّهُ فِي بَقَائِهِ وفَسْخِهِ، فَإِنْ صَحَّ لَزِمَهُ وَإِنْ ضَمِنَ لابْنَتِهِ فَوَصِيَّةُ لأَجْنَبِيِّ عَلَى الأَصَحِّ .....

إذا كان الحامل مريضاً فلا يخلو إما أن يكون أبا الزوج، أو أبا الزوجة، أو أجنبياً، فإن كان أبا الزوج فلا يجوز حمله باتفاق، قاله في البيان؛ لأنه وارث ولا وصية لوارث، فإن مات الأب من مرضه نظر الابن إن كان كبيراً، أو وليه إن كان صغيراً، فإن رأى المصلحة له في النكاح أعطى النقد من ماله، وإلا فارق ولم يلزمه شيء، وإن صح الأب ثبت الحمل عليه، ولو دخل بها الابن في مرض أبيه ردت ما أخذته من مال الأب إن أخذت شيئاً وتتبع به الزوج، قاله مالك.

محمد: فإن لم يبق بيدها من ذلك ربع دينار منع منها حتى يدفع ربع دينار.

الباجي: يريد لأنها لما سلمت نفسها فليس لها الامتناع إلا لحق الشرع.

ابن عبد السلام: وذكر بعضهم في هذا الأصل- أعني هل يحال بينهما أو لا- قولين، وهذا كله مبني على صحة النكاح. وفي المدونة في هذا النكاح قولان: الأول: أن النكاح جائز.

ص: 588

والثاني: قال: لا يعجبني هذا النكاح. وحمله الأشياخ على أنه يرى فساد النكاح إن وقع، وأنه من الخيار في النكاح، إلا أنه خيار أوجبه الحكم. واختار اللخمي وغيره الأول، وعليه فرع ابن القاسم في المدونة بقوله: فإن صح الأب لزمه.

وأما إن كان الحامل أبا الزوجة ففي الموازية: النكاح صحيح غير مختلف فيه.

واختلف في الصداق، فلمالك روايتان: الأولى: أنها وصية للأجنبي فيجوز من ثلثه رواها مطرف وابن الماجشون، وبها قال ابن الماجشون وابن وهب وابن القاسم في رواية أبي زيد.

ابن الماجشون: وهذا إذا كان الذي سمى لها وحمله عن زوجها صداق مثلها فأقل. قال في البيان: وأما إن كان أكثر فالزائد على المثل وصية لها، لا تجوز باتفاق إلا إذا أجازه الورثة، فإن لم يجيزوا ذلك كان الزوج مخيراً بين أن يخرجه من ماله، أو يترك النكاح ولا يلزمه شيئ. وهذه هي التي قال المصنف أنها الأصح. والرواية الثانية أن حمله ذلك لا يجوز، لأن ذلك راجع إلى ابنته- رواها ابن القاسم، وبها قال أشهب وأصبغ.

بعض الموثقين: وهو مذهب المدونة، وبه الحكم.

ومن هنا تعلم الحكم فيما إذا كان الزوج أجنبياً، أو قريباً لا يرث، أو كان زوج البنت وارثاً كابن أخيه، وهو: أن يصح في الأجنبي وغير الوارث، وتكون الوصية من الثلث، ويبطل إذا كان زوج البنت وارثاً لأنه كالابن في المسألة السابقة.

فرع مرتب: إذا قلنا بالرواية الأولى ففارق قبل البناء فقال مالك وابن الماجشون: لها النصف من ثلث أبيها ولا شيء للزوج من النصف الثاني.

ابن المواز: وهو الصواب. بعض الموثقين: وبه الحكم. وقال ابن دينار: لا شيء لها من تركة الأب لأنه إنما أعطى على أن تدخل بزوجها، فلما طلقها حكمنا في ذلك بحكم الوصية

ص: 589

للوارث. وناقض ابن المواز قول أشهب هنا بأنها وصية للبنت بقوله فيمن أقر في مرضه أنه قبض صداق بنته ولم يدخل بها زوجها، ثم مات الأب فإنه إن ترك مالاً أخذ من ماله.

محمد: فلو كانت الأولى عطية لكانت مسألة الإقرار مثلها؛ لأنه إنما يخرج من ماله في المسألتين معاً.

ابن عبد السلام: ويحتمل أن يفرق بينهما بأن مسألة الضمان بني الأمر فيها على المعروف، وظاهر الأمر فيها أن الأب لو لم يضمن لما تزوج الزوج ابنته؛ فالمنفعة عائدة فيها للبنت بخلاف الأخرى.

وَلَوْ تَزَوَّجَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ، فَفِيهَا: إِنْ أَجَازَهُ الْوَلِيُّ مَضَى كَبَيْعِهِ، وأَنْكَرَهُ سَحْنُونُ، وقَالَ: لَيْسَ كَالْبَيْعِ، فَإِنْ رَدَّهُ فَلا مَهْرَ ولا عِدَّةَ وإِنْ وَطِئَ ....

يعني: وإن عقد الصبي على نفسه بغير إذن وليه، وقوله:(وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ) كذا ذكره في المدونة في فرض المسألة، ثم أجاب بأنه يجوز إن أجازه الولي قياساً على بيعه وشرائه، وأن للولي إمضاؤه، ورأى سحنون أنه ليس كالبيع، وأنه لابد من فسخه؛ لأن الصبي لا منفعة له في النكاح في الحال بخلاف البيع. وفيه نظر؛ لأن ابن القاسم لا يسلم عدم المنفعة بالنكاح في الحال، ألا ترى أن للأب والوصي أن يجبراه على النكاح، وكان المصنف نسبها للمدونة؛ لأنه لما ذكر قوله:(وهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الْجِمَاعِ) في السؤال كان ظاهره اشتراط ذلك، ولا يظهر له كبير فائدة، والأظهر أنه ذكره تنبيهاً بالأشد؛ لأنه إذا لم يلزمه مهر مع كونه يقوى على الجماع فأحرى إذا لم يقو عليه.

قوله: (فَلا مَهْرَ) لأنه سلطته وأولياؤها.

(ولا عِدَّةَ) لأن وطئه كالعدم. ابن المواز: إذا لم يرد نكاح الصبي حتى كبر وخرج عن الولاية جاز النكاح.

ص: 590

ابن راشد: وينبغي أن ينتقل النظر في ذلك إليه فيمضي أو يرد. وهذه المسألة يدخلها الخيار الحكمي، فانظر هل يجري فيها ما تقدم.؟

وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ شُرُوطاً مِنْ [292/ب] طَلاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَحْوِهِ، فَبَلَغَ فَكَرِهَهَا فَفِي خِيَارِهِ فِي الْفَسْخِ أَوْ لُزُومِهِ قَوْلانِ، كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ

يعني: إذا تزوج الصغير لنفسه فشرط عليه ولي المرأة شروطاً من طلاق من يتزوجها، أو تق من يتسرى بها أو نحو ذلك، فأجاز ذلك وليه على تلك الشروط ثم بلغ، فإن أقر الشروط فواضح، وإن كرهها فهل يلزمه أو لا قولان. والقولان أيضاً فيما إذا زوجه أبوه أو وصيه بتلك الشروط، وهو معنى قوله:(كَمَا لَوْ زَوَّجَهُ وَلِيُّهُ) والقول باللزوم لابن وهب في العتبية، وبعدمه لابن القاسم في الموازية، وعلى عدم اللزوم فهل تسقط عنه مطلقاً؟ وهو قول ابن العطار، أو يخير في التزامها فيثبت النكاح – أو عدم التزامها فيفسخ النكاح؟ وهو قول ابن القاسم، وإذا انفسخ فهل بطلاق؟

الباجي: وهو ظاهر قول ابن القاسم. أو بغير طلاق؟ وهو ظاهر قول أصبغ. وعلى الطلاق فهل عليه نصف الصداق؟ وهو قول ابن القاسم في الكتاب، أو لا وهو قوله في المجالس؟

بعض الموثقين: وعلى الأول العمل، وقال بعضهم: العمل على الثاني.

ثم الفسخ بطلاق أو غيره إنما هو إذا تمسكت المرأة بشرطها، وأما إن رضيت بإسقاطه فلا كلام لأبيها ولو كانت محجوراً عليها. ورأى ابن العطار أن ذلك في الحجر للأب، واختار الأول ابن الفخار، واحتج بقول مالك في البكر يشترط لها زوجها ألا يخرجها إلا برضاها، فرضيت بترك شرطها أن ذلك جائز ولو كره الأب. ولو فارق قبل علمه بالشروط، فقال محمد: يلزمه نصف الصداق. يريد لأنه لم يفارق لأجل الشروط. وروي عن ابن القاسم: لا شيء عليه. وقد اختلف في هذا الأصل وهو: من طلق ثم علم بعيب هل يرجع بالصداق أم لا؟ وإذا اختلفا فقال الزوج للمرأة: عقدت بالشروط، وأنا

ص: 591

صغير. وقالت الزوجة أو الولي: عقد وأنت كبير. فقال ابن القاسم في العتيبة: على الزوج البينة، وإلا حلف الولي. وووجهه أن النكاح متفق على انعقاده، فمن ادعى ما يوجب حله فهو مدع. وهذا كله إذا لم يحصل الدخول، فإن دخل فإما أن يكون قبل البلوغ أو بعده، فإن دخل بعد بلوغه لزمته الشروط إن علم بها.

ابن القاسم: ولو ادعى أنه لم يعلم بها فالقول قوله مع يمينه. وقال ابن العطار: لا يقبل قوله في ذلك وتلزمه بدخوله.

وأما إن دخل قبل البلوغ، فذكر المتيطي وغيره أن الشروط تسقط عنه وإن علم بها؛ لأن المرأة مكنت من نفسها من لا تلزمه الشروط. وقال ابن بشير: لو دخل الصبي وقد بلغ وهو عالم بالشروط، فهل تلزمه أو لا؟ قولان: أحدهما: لا تلزمه، وهذا على القول بسقوط الشروط. والثاني: تلزمه، وهذا على القول بأنه مخير.

فإذا دخل مع العلم فهو التزام لما شرط عليه، وإن دخل قبل العلم فثلاثة أقوال: أحدها: تلزمه، وهذا بناء على أن الشرط لازم. والثاني: لا تلزمه، وهذا بناء على سقوط الشرط. والثالث: يخير الآن، وهذا بناء على التخيير.

وَلَوْ تَزَوَّجَ السَّفِيهُ فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ وَيَسْقُطُ الصَّدَاقُ، فَإِنْ أَصَابَهَا فَثَلاثَةُ: رُبُعُ دِينَارٍ، واعْتِبَارُ حَالِهَا، والسُّقُوطُ ..

يعني: بغير إذن وليه، فللولي فسخه وإمضاؤه. وفهم من كلام المصنف أن للولي إمضاؤه من قوله:(فَلِلْوَلِيِّ فَسْخُهُ) لأنه إذا كان له فسخه فله إمضاؤه؛ فإن قيل: فلم لم يقل (للولي إمضاؤه)؟ قيل: لأن ما ذكره من سقوط الصداق إنما ينبني على الفسخ، وهو معنى قوله:(فَيَسْقُطُ الصَّدَاقُ) أي: بالفسخ قبل البناء. واختلف إذا دخل بها وهو مراده بقوله: (فَإِنْ أَصَابَهَا) على ثلاثة أقوال. والقول بربع دينار لمالك وأكثر أصحابه، وبه أخذ ابن القاسم.

ص: 592

ابن يونس وغيره: وهو الجاري على مذهب المدونة، كالعبد يتزوج ويبني بغير إذن سيده. والقول بالسقوط لابن الماجشون.

ابن حبيب: وهو القياس. وقول مالك استحسان. والقول باعتبار حالها وقع في المذهب عبارات، ذهب ابن بشير والمؤلف إلى أنها راجعة إليه، وذهب الباجي واللخمي وابن يونس وغيرهم إلى حملها على الخلاف.

قال مالك: يترك لها مثل ما يستحل به مثلها. ولم يحده. وقال مالك أيضاً وابن القاسم في الدنية: يترك لها ربع دينار ولذات القدر أكثر من ذلك. وقال ابن القاسم في المدنية: يترك لها من المائة ثلاثة دنانير أو أربعة. وقال ابن نافع: عشرة. وقيل: تعاض بما هو دون صداقها، ولا يبلغ صداقها تاماً.

ابن المواز والقاضي إسماعيل: فإن لم يعلم الولي بنكاحه حتى خرج من الولاية فإنه يثبت النكاح. وقال بعض القرويين: ينتقل إليه ما كان بيد الوصي من النظر فيمضيه إن رآه صواباً.

وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ حَتَّى مَاتَتْ فَإِنْ أَجَازَهُ ثَبَتَ الْمِيرَاثُ وَالصَّدَاقُ وَإِلا فَلا وعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَتَوَارَثَانَ ويَثْبُتُ الصَّدَاقُ لِفَوَاتِ النَّظَرِ، وعنه خلافه

الضمير في (مَاتَتْ) عائد على الزوجة؛ أي: إذا لم يعلم الولي بنكاح السفيه حتى ماتت الزوجة فإن وليه ينظر في ذلك، فإن رأى الأصلح له إجازة النكاح، بإن كان ميراثه أكثر من الصداق أجازه ودفع الصداق وأخذ الميراث. [293/أ] وهذا لابن القاسم، ونصه في العتبية: أصبغ: سئل ابن القاسم عن السفيه ينكح بغير إذن وليه ثم ماتا أيتوارثان؟ فقال: إن مات هو: فلا ترثه، وإن ماتت هي فالنظر إلى وليه، إن رأى أن يثبت النكاح ويأخذ له الميراث أخذه، وإن رأى أن يرده رده. وقاله سحنون، وذكره الباجي عن ابن القاسم في الموازية، وعن ابن الماجشون ومطرف وابن حبيب، وابن يونس.

ص: 593

وذكر أصبغ عن ابن القاسم أنهما يتوارثان، ويمضي الصداق؛ لأن النظر للسفيه قد فات بالموت، وذكر ابن المواز عنه خلاف هذا. وهو معنى قوله (وعنه خلافه) يعني: كالقول الأول من كلام المصنف.

وبهذا تعلم بأن قول ابن عبد السلام: الضمير في (عنه) عائد على أصبغ؛ ليس بظاهر؛ لأن أصبغ لم يتقدم له ذكر.

قوله (يَتَوَارَثَانَ) أي: سواء ماتت الزوجة أو الزوج؛ لأن الموارثة إنما تتم من الجانبين. ويقع في بعض النسخ (مات) على التذكير، فيحتمل أن يعود على الزوج، ويحتمل أن يعود على أحد الزوجين، وعوده على الزوج ليس بجيد لأنه إذا مات كان النظر في حقه عدم إجازة نكاحه، لأن إجازته توجب في ماله الصداق والميراث من غير فائدة له ولا لورثته.

ابن عبد السلام: وأيضاً فالمشهور: لا شيء لها. وأشار بالمشهور إلى قول ابن القاسم في العتبية الذي قدمناه، ومقابل المشهور هو القول بتوارثهما. وعوده على أحدهما يلزم منه ما لزم في الأول، وعلى هذا يكون فيما إذا مات أو ماتت، قولان. أما إذا ماتت فكما قال ابن عبد السلام أن المشهور لا شيء لها. وأما إذا ماتت، فقيل: ينظر وليه. وقيل: يرثها. الباجي: وقيل: معنى قوله: (لِفَوَاتِ النَّظَرِ) أن النظر في ماله إنما هو لحقه، وذلك يختص بحال حياته، ولذلك جازت وصيته ولم تجز هبته. وروى ابن المواز عن أصبغ: ترثه، وينظر الولي فإن رآه مما كان صلاحاً يجيزه فلها الصداق وإلا فلها الميراث دون الصداق، وإن بنى بها فلها ربع دينار. فرأى أصبغ أن النظر إنما يتعلق بالصداق خاصة، وأما الميراث فحكم من أحكام النكاح، والنكاح قد تم بينهما بالموت، وفات النظر فيه. وحصل في البيان في هذه المسألة ثمانية أقوال: الأول: ما ذكره أولاً عن العتبية.

ص: 594

والثاني: أنهما يتوارثان ويمضي الصداق على القول بأن النكاح محمول على الإجازة حتى يرد، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت من مات منهما حكاه ابن حبيب عن ابن القاسم.

والثالث: أنهما لا يتوارثان ويبطل الصداق إلا أن يكون أصابها فيكون لها منه قدر ما يستحل به الفرج، على القول بأن النكاح محمول على الرد حتى يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما.

والرابع: الميراث بينهما ثابت مراعاة للخلاف، ويبطل الصداق إلا أن يكون قد دخل بها فيكون لها منه قدر ما يستحل به الفرج على القول بأن النكاح محمول على الرد حتى يجاز، وأن النظر فيه يرتفع بموت من مات منهما. وهو قول ابن القاسم.

والخامس: أن الميراث بينهما مراعاة للخلاف، وينظر في النكاح فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي يوم وقع أجازه كان لها الصداق، ثم إن كان غير ذلك بطل الصداق إلا أن يكون دخل بها فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج، وهو قول أصبغ في الخمسة.

والسادس: أن الميراث بينهما مراعاة للخلاف، ويبطل الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة، فإن كان غبطة كان لها الصداق، وإن لم يكن نكاح غبطة بطل الصداق إلا أن يكون الزوج قد دخل بها، فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج. وهذا القول يتخرج على القول بأن النكاح على الرد حتى يجاز، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج لا بموت الزوجة.

والسابع: أن الميراث بينهما ثابت مراعاة للخلاف ويثبت الصداق إن كان الزوج هو الميت، وينظر في النكاح إن كانت الزوجة هي الميتة على ما ذكرنا في القول الذي قبل هذا، وهذا يتخرج على القول بأنه على الجواز حتى يرد، وأن النظر في النكاح يرتفع بموت الزوج لا بموت الزوجة.

ص: 595

والثامن: أنه ينظر في النكاح، فإن كان نكاح غبطة مما لو نظر فيه الولي أجازه كان الميراث بينهما، ووجب لها الصداق، وإن كان على غير ذلك لم يكن بينهما ميراث ولا صداق إلا أن يكون دخل بها فيكون لها قدر ما يستحل به الفرج.

فَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ وشِبْهُهُمَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ فَلَهُ وَلِوَرَثَتِهِ فَسْخُهُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، وقِيلَ: وَبِالْبَتَاتِ طَلْقَتَيْنِ ..

فهم من قوله (فَلَهُ

فَسْخُهُ) أن له إمضاءه، وهو المشهور. وقال أبو الفرجك القياس الفسخ؛ لأنه نكاح فيه خيار. وهما على الخلاف في الخيار الحكمي هل هو كالشرطي أم لا؟ الباجي: وقول أبي الفرج عندي هو الصحيح. وانظر هل يتخرج هذا القول في السفيه؟ وعلى المشهور فالفسخ بطلاق لصحته، وعلى قول أبي الفجر بغير طلاق، قاله اللخمي. وشبه العبد والمكاتب والمدبر والمعتق بعضه، والمعتق إلى أجل.

اللخمي: وعلى الطلاق. فحمله عند [293/ ب] مالك إن لم ينو عدداً على واحدة. واختلف قوله: إذا طلقها طلقتين. فقال مرة: ذلك له. وقال مرة: لا يلزمه إلا واحدة؛ لأن الواحدة تبينها وتفرغ له عبده، وهو أحسن؛ لأن الواحدة تزيل ضرر السيد واستحسن أن تكون له الرجعة إن عتق في العدة. انتهى.

وذكر ابن يونس أن أكثر الرواة رووا لزوم واحدة فقط، قال غيره: وهو اختيار الجمهور. ولهذا قدمه المصنف. ودلت الواو من قوله: (وقِيلَ: وَبِالْبَتَاتِ) على أن هذا القائل لا يحصره في الاثنتين، وهو كذلك.

وَإِنْ أَجَازَهُ بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ ولَمْ يُرِدِ الْفَسْخَ جَازَ إِنْ كَانَ قَرِيباً

نحوه في المدونة، ففيها: وإن كلم السيد في إجازته فامتنع أن يجيب ثم أجاز فإن أراد بأول قوله فسخاً تم الفسخ، وإن أراد أنه لم يرض ثم أجاز فذلك جائز إن كان قريباً.

ص: 596

وهذا الكلام وإن ذكر في المدونة في العبد فالمكاتب ونحوه كذلك. وأسقط المصنف قوله: كلم في إجازته؛ لأنه وصف طردي. واشترط القرب لأن عدم الرضا واستدامة ذلك حتى يطول قرينة في الفسخ.

ابن القاسم: ويصدق بأنه لم يرد الطلاق في المجلس، ما لم يتهم. قال بعضهم: يريد ما لم يطل.

ابن المواز: وإن شك السيد على أي وجه خرج منه فهو فراق واقع. زاد ابن محرز بعد قوله فراق بالبتات: وهو احتياط كمن تيقن بالطلاق وشك في العدد.

ابن المواز: وإن قال: لا أجيزه اليوم أو لا أجيزه حتى أنظر فهو غير عازم على الطلاق. وأما إذا قال: لا أجيزه؛ فذكر مثل قول ابن القاسم، وزاد: إلا أن يفترقوا على قوله: لا أجيزه؛ فيكون فراقاً ما لم يبين فيقول: اليوم أو حتى أنظر؛ فيكون ذلك وإن افترقوا، إلا أن يستمتع العبد بزوجته بعد علم السيد بنكاحه، وكان السيد يقدر على منعه فلا يكون له الفسخ بعد ذلك؛ لأنه قد تمتع بإذن سيده أو ما يقوم مقام إذنه من التمكين. وخالف المغيرة ابن القاسم، فجعل امتناع السيد فسخاً، ورأى ابن القاسم أن الامتناع من الإجازة أعم من إرادة الفسخ إلا بعد الطول.

فَإِنْ بَنَى بِهَا تَرَكَ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ

أي: فإن دخل العبد والمكاتب ثم علم السيد ففسخه فلها ربع دينار، وهذا مذهب المدونة. وقال ابن الماجشون: لا يترك لها شيئاً. وقد تقدم نكاح السفيه بغير إذن وليه

ابن عبد السلام: والفقه فيهما قريب.

وَتَتَّبِعُهُ بِالْبَاقِي إِنْ أُعْتِقَ إِلا أَنْ يُسْقِطَهُ السَّيِّدُ أَوْ السُّلْطَانُ قَبْلَ عِتْقِهِ كَالدِّيْنِ بِغَيْر إِذْنِهِ ....

أي: وتتبع الزوجة العبد بما بقي لها من الصداق إذا عتق. قال في المدونة: وكذلك إذا أدى المكاتب، وهذا بخلاف السفيه فإنه لا يتبع بالباقي إذا فك الحجر عنه. قال في

ص: 597

الجلاب: لأن العبد إنما حجر عليه من أجل سيده، فإذا أعتقه سيده سقط حقه وزال حجره، والسفيه حجر عليه من أجل نفسه، فإذا فك حجره لم يتبع بشيء مما استدانه في حال حجره؛ لأنه لو ثبت ذلك عليه لم ينفع الحجر شيئاً. واختلف الشيوخ هنا هل يتبع العبد والمكاتب بعد التق سواء غرَّا أو لا؟ وقال أبو عمران: إنما يتبعان إذا غراها، وأما إن أخبرها كل واحد بحاله فقال لها العبد: أنا عبد. وقال لها المكاتب: أن مكاتب؛ فلا يتبعان. وعليه اقتصر المتيطي، وعليه اختصر المدونة ابن أبي زمنين وابن أبي زيد والبرادعي. وقال أبو بكر ابن عبد الرحمن، وصاحب النكت، وغيرهما: يتبع العبد مطلقاً سواء غر أو لم يغر، إلا أن يسقط ذلك السيد من ذمته، وأما المكاتب فإن لم يغرها اتبع إلا أن يسقط ذلك السيد من ذمته؛ وإن غرها فيوقف الأمر، فإن عجز كان كالعبد له أن يسقطه عنه، وإن أدى فهو عليه وليس للسيد أن يسقطه.

وقال ابن الكاتب: إن لم يغر يحتمل ألا يسقط عنه إلا بإسقاط السيد، وأما إن غر فلا يختلف أن ذلك عليه ولا يسقط.

وقوله: (إِلا أَنْ يُسْقِطَهُ السَّيِّدُ) إنما كان للسيد الإسقاط؛ لأن بقاء الدين في ذمة العبد عيب، فكان للسيد إسقاطه.

ابن عبد السلام: وذكر بعضهم أنه إذا غرها العبد، هل يصح إسقاط السيد أم لا؟

قوله: (أَوْ السُّلْطَانُ) نحوه في المدونة، ولعل معناه أن السيد طلب من السلطان أن يسقطه عن العبد. وفهم أبو الحسن المدونة على أن معناها: في الغائب؛ لأن السلطان يذب عن مال الغائب.

فَلَوْ عُتِقَ أَوْ بَاعَهُ قَبْلَ عِلْمِهِ مَضَى، فَإِنْ رُدَّهُ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ

يعني: فإن أعتق السيد عبده المتزوج بغير إذنه قبل علمه بالتزويج مضى النكاح، ولأن حق السيد قد زال.

ص: 598

وأما إذا باعه فقال المصنف (مَضَى) أي: لا فسخ له حينئذ؛ لأنه قد صار في ملك غيره، ويقال للمشتري: إن كنت علمت بالتزويج فهو عيب دخلت عليه، وإلا فلك الرد. فإن تمسك فواضح، وإن رد كان للبائع الفسخ، وهو معنى قوله:(فَإِنْ رُدَّهُ بِهِ فَلَهُ الْفَسْخُ) أي: فإن رد العبد بعيب التزويج فللبائع الفسخ، وفي بعض النسخ: فإن رده فله الفسخ؛ أي: فإن رد المشتري العبد بسبب عيب التزويج فللبائع فسخ النكاح، فالضمير في (فَلَهُ) عائد على البائع، والهاء في (رُدَّهُ) عائد على العبد، وضمير الفاعل [294/ أ] المستتر في (رُدَّهُ) عائد على المشتري. وفي بعض النسخ:(فسخه)؛ أي: فسخ النكاح. وفي كلام ابن عبد السلام نظر.

وخرج ابن محرز قولاً بعدم بطلان حق البائع من الفسخ إذا باعه قبل علمه بالنكاح على القول بأن من باع شقصاً وجبت له به الشفعة قبل علمه ببيع الشريك أن حقه في الشفعة باق. ورده ابن بشير بأن الشفعة حق مختلف في سببه، فهل هو رفع الضرر عن الشريك؟ أو هو محض تعبد؟ فلعل القائل لم يتحد لاحتمال أن يكون القائل ببقاء حق الشريك في الشفعة بعد بيعه يرى ذلك تعبداً. ومسألة العبد معللة بالضرر، فلا يمكن قياسها على التعبد. ورده ابن عبد السلام بأن القائلين بعدم سقوط الأخذ بالشفعة إذا باع نصيبه اختلفوا هل يشترط عدم علمه ببيع شريكه إلى حين بيعه هو نصيبه أو لا يشترط ذلك؟ قال: فمن يشترط عدم العلم فهو كالنص منه على تعليل الشفعة بالضرر، ويلزم منه صحة التخريج المذكور. وقوله:(قَبْلَ عِلْمِهِ) مفهومه أنه لو باعه بعد علمه لكان دليلاً على الرضا، فليس له الفسخ إذا رد عليه، وهكذا قال القرويون. وذكر بعض الأندلسيين قولاً أن ذلك لا يسقط حق البائع في النكاح، ولا إشكال أن المشتري لا حق له في فسخ النكاح. نص عليه ابن الجلاب وغيره.

ص: 599

وقال بعضهم: يدخل في ذلك الخلاف من الخلاف فيمن أحدث عليه في ملكه ضرر فباعه بعد علمه بالضرر، هل يكون للمشتري قياماً على محدثه؟ فقيل: ينتقل للمشتري ما كان للبائع. وقيل: لا ينتقل؛ لأن بيعه بعد علمه رضا. وقيل: إن كان بيعه بعد أن خاصم فإن للمشتري القيام؛ لأن خصومته تدل على عدم رضاه به، وإن لم يخاصم فلا قيام للمشتري، ولو رضي المشتري بعيب النكاح، ثم اطلع على عيب قديم فله أن يرد بما اطلع عليه، وهل يرد أرش عيب النكاح لأنه بإقراره يثبت فيصير كأنه فعله؟ أو ليس عليه ذلك؟ وليس الإقرار كالابتداء، حكى ابن بشير عن المتأخرين في ذلك قولين. وخرجها أبو بكر بن عبد الرحمن على الخلاف في الرد بالعيب هل هو فسخ له من أصله أم لا؟ وكذلك اختلف المتأخرون لو لم يعلم المشتري حتى أعتق هل له قيمة العيب على البائع كسائر العيوب إذا اطلع عليها بعد العتق؟ أو لا يرجع بشيء إذا فوت على السيد الأول رد النكاح؟

وَلِلْعَبْدِ الْمَاذُونِ وَالْمُكَاتِبِ التَّسَرِّي فِي مَالِهِمَا بِغَيْرِ إِذْنِ السَّيِّدِ

أي: المأذون له في التجارة. وقوله (فِي مَالِهِمَا) احتراز من مال السيد، فإنه لا يتسرى فيه لأنه حينئذ كالوكيل. قاله مالك في المختصر. وما حكاه المصنف أن للعبد المأذون التسري، وإن لم يأذن له سيده هو المشهور، وحكى أبو الحسن قولاً بأنه ليس له ذلك إلا بإذن السيد.

وَالْمَهْرُ والنَّفَقَةُ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَالِهِ مِمَّا لَيْسَ بِخَرَاجِهِ وَلا كَسْبِهِ، ولا يَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِناً لِلْمَهْرِ بِمُجَرَّدِ الإِذْنِ

يعني: ونفقة الزوجة ومهرها يحسبان على العبد مما يوهب له أو يوصي له به لا من خراجه ولا مما أباه سيده بيده. قاله علماؤنا. وهذا ما لم تجر عادة بخلافه، فإن جرت عادة

ص: 600

بالنفقة من الخراج أنفق عليها منه. فقوله: (عَلَى الْعَبْدِ) يتعلق بمحذوف كما قدرنا؛ لأنه خبر، والخبر يجب تعلقه بمحذوف، قال في المدونة: ونفقة زوجة العبد في ماله إن كان له مال ولا نفقة لها من كسبه وعمله، وذلك إلى سيده، فإن لم يجد غيره فرق بينهما، إلا أن يتطوع السيد بالنفقة، ولا يباع العبد في نفقة زوجته. ولا فرق بين عبد الخراج وغيره، ولو فضل بعد الخراج شيء؛ لأن الفاضل مال لسيده، إلا أن يأذن في ذلك السيد أو تكون العادة النفقة منه. وقال محمد: إن عجز عن النفقة، وعليه خراج لسيده فلا شيء لها حتى يبدأ بخراج سيده، فجعل الإنفاق من فاضل الخراج، فيحتمل أن يكون ذلك خلافاً ويحتمل أن يكون ذلك عادتهم. قاله اللخمي وغيره.

وقوله (ولا يَكُونُ السَّيِّدُ ضَامِناً

إلخ) أي: في التزويج؛ لأن العبد هو المتولي للشراء فيكون الثمن عليه.

اللخمي: والمدبر والمعتق إلى أجل كالعبد، والمكاتب كالحر؛ لأنه بان عن سيده بماله، فإن عجز طلق عليه، والمعتق بعضه في اليوم الذي يخصه كالحر، وفي اليوم الذي يخص سيده بمنزلة العبد.

وَمَنْ زَوَّجَ ابْنَهُ الْبَالِغَ أَوْ أَجْنَبِيّاً حَاضِراً أَوْ غَائِباً، فَقَالَ: مَا أَمَرْتُهُ. حَلَفَ، وسَقَطَ الصَّدَاقُ عَنْهُمَا. فَإِنْ نَكَلَ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ. وقِيلَ: لا يَلْزَمُهُ شَيْءُ. وقِيلَ: تُطَلََّقُ عَلَيْهِ ويَلْزَمُهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ ....

يعني: أن الأب إذا زوج ابنه المالك لأمره، أو أجنبياً سواءً كانا حاضرين أو غائبين، ثم أنكرا بعد علمهما، وقالا: ما أمرناه ولا نرضى الآن بالتزويج. فقال المصنف: (حَلَفَ) أي: الابن أو الأجنبي ما أمرناه. (وسَقَطَ الصَّدَاقُ عَنْهُمَا) أي: عن الأب والأجنبي، وكذلك نص في المدونة على اليمين في حق الحاضر. وحملها ابن يونس على إطلاقها، وأنه

ص: 601

إن نكل الحاضر يلزمه النكاح، فإن شاء طلق وأدى الصداق، وإن شاء ثبت عليه. واستدل على ذلك بما وقع لابن القاسم في العتبية: إذا زوج الولي وليته فأنكرت المرأة أن تكون رضيت، فقال: إن كان الإشهاد في المسجد حيث يرى أنها لم تعلم فلا يمين عليها، وإن كان الإشهاد ظاهراً أو إطعام الوليمة في دارها، وحيث يرى أنها عالمة [294/ ب] فأرى أن تحلف بالله ما وكلته ولا فوضت إليه ذلك، ولا ظننت أن ذلك اللعب وذلك الإطعام الذي صنع إلا لغيري، ثم لا شيء عليها، فإن نكلت عن اليمين لزمها النكاح.

ابن يونس: وكذلك مسألة الابن. وقيدها صاحب النكت واللخمي بما إذا سكت بعد عقد النكاح، قالا: ولو قال عند عقد النكاح: لم أرض. لم تكن عليه يمين، قالا: ولو طال سكوته بعد عقد النكاح. زاد اللخمي: وقبل التهنئة على جري العادة لزمه النكاح.

اللخمي: ويغرم نصف الصداق ولا يمكن منها لإقراره أنها غير زوجته.

صاحب النكت: وعرضته على بعض شيوخنا فصوبه.

خليل: وينبغي على هذا أن الغائب إن أنكر بمجرد حضوره أن تسقط عنه اليمين، وإن علم وطال لا يقبل منه الإنكار، والله أعلم؛ لأنه بعد حضوره كالحاضر. وأنكر سحنون تعلق اليمين بالزوج، ورآها ساقطة عنه. وقوله (فَإِنْ نَكَلَ فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ النِّكَاحُ) هو كما قال ابن يونس، وحكاه صاحب اللباب عن ابن القاسم. وقيل: لا يلزمه شيء. وهو قول أبي محمد، وعليه فاليمين إنما هي استظهار، لعله أن يقر. وصوبه أبو عمران؛ لأنه أقر أنه ليس بعقد. وقيل: تطلق عليه، ويلزمه الصداق.

ابن راشد: وجعل هذا القائل نكوله طلاقاً، وهذا القول حكاه ابن سعدون عن بعض شيوخه، وحكي في المتيطية عن ابن القاسم أنه إنما تلزمه اليمين إذا ادعى

ص: 602

أبو الصبية أن مخبراً أخبره أن الابن أمر أباه أن يزوجه، فإذا حلف برئ، وإذا نكل حلف الأب ولزمه النكاح.

ابن عبد السلام: وقيل: إن لم يكن إلا مجرد الدعوى لم تتوجه اليمين، فإن كان ثم سبب تقوى معه الدعوى توجهت.

تنبيه:

قولنا في فرض المسألة: (ابنه المالك لأمره) هكذا فرض في المدونة المسألة، وأقاموا منه أنه لو كان سفيهاً لزمه النكاح، فيؤخذ منه جبر السفيه على النكاح. واعلم أنه زاد في المدونة بعد قول الزوج: ما أمرته ولا أرضى، ثم قال: صدق مع يمينه. وظاهره أنه يحلف على نفي الأمر والرضا والحلف على نفي الأمر يمين تحقيق، وعلى نفي الرضا يمين تهمة، ولا شك أن الابن إذا رضي يدخله الخلاف الذي في النكاح الموقوف، وينبغي أن تقيد المسألة بما إذا لم يقل الأب أن الابن وكلني أن أعقد، والابن حاضر في المجلس، وإلا فإن قال ذلك، وأنكر الابن فإنكاره كالعزل عن الوكالة.

بعض الشيوخ: ويحتمل أن يقال: تلزمه اليمين على الوكالة، وأما إذا افترقا والحالة هذه لزمه النكاح، وهو ظاهر.

وَالْكَفَاءَةُ حَقٌّ لها ولِلأَوْلِيَاءِ فَإِذَا تَرَكُوهَا جَازَ إِلا الإِسْلامَ

يعني: أن الكفاءة مركبة من قيود كما سيأتي، منها ما هو حق لله فلا يجوز تركه، ومنها ما هو حق للمرأة ولأوليائها فإذا تركوها جاز.

فقوله: (إِلا الإِسْلامَ) مستثنى من قوله (حَقٌّ لها ولِلأَوْلِيَاءِ). ابن هارون: إلا الإسلام، فإنه ليس حقاً لهم بل لله عز وجل. ويمكن أن يكون قوله (إِلا الإِسْلامَ) مستثنى من قوله

ص: 603

(فَإِذَا تَرَكُوهَا جَازَ إِلا الإِسْلامَ) ويؤخذ من لازم كلامه أن الإسلام حق لله؛ لأنه لو كان حقاً لهم لجاز تركه مع الرضا، لأنه من له حق فله إسقاطه، والتقدير الأول أولى، ولو رضيت المرأة بغير كفءٍ وليس لها ولي، فقال ابن راشد: الذي عليه عمل القضاة أنهم لا يزوجونها حتى تثبت الكفاءة، وإن كانت ثيباً فلا يطلبها الحاكم بإثباتها. وقيل: لابد من الإثبات. وبه أخذ الباجي.

ابن أبي زمنين: وشاهدت بعض أشياخنا يذاكره بذلك ويحتج عليه بأنها مالكة لأمرها ناظرة في مصالحها، فقال: وإن كانت كذلك فلا يلزمني أن أعينها على ذلك.

* * *

انتهى المجلد الثالث من كتاب التوضيح

للشيخ خليل بن إسحاق الجندي

ويليه المجلد الرابع وأوله

وَالنَّظَرُ فِي الدِّينِ، والْحُريَّةِ، والنَّسَبِ، والْقَدْرِ

ص: 604