المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ: وَالْيَمِينُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ باللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرُ - التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب - جـ ٣

[خليل بن إسحاق الجندي]

الفصل: ‌ ‌الأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ: وَالْيَمِينُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ باللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرُ

‌الأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ:

وَالْيَمِينُ الْمُوجِبَةُ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ باللهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ غَيْرُ لَغْوٍ وَلا غَمُوسٍ، مِثْلُ: وَاللهِ وَالرَّزَّاقِ، وَعِلْمِهِ، وَقُدْرَتِه، وَاِرَادَاتِهِ، وَسَمْعِهِ، وَبَصَرِهِ، وَكَلامِهِ، وَوَحْدَانِيِّتِهِ، وَقِدَمِهِ، وَوُجُودِهِ، وَعِزَّتِهِ، وَجَلاللَتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَعَهْدِهِ، وَمِيثَاقِهِ، وَذِمَّتِهِ، وَكَفَالَتِهِ، بخِلافِ مَا تَحَقَّقَ لِلْفِعْلِ كَالْخَلْقِ، وَالرِّزْقِ، وَكُرِهَ الْيَمِينُ بـ (لعَمْرُ اللهِ)، وَأَمَانَةِ اللهِ؛ إِذْ لَمْ يَرِدْ إِطْلاقُهُمَا، وَفِيهِ الْكَفَّارَةُ إِنْ قَصَدَ الصِّفَةَ

وسمي الحلف يميناً؛ لأنهم كانوا إذا حلفوا وضع أحدهم يمينه في يمين صاحبه وقيل: اليمين: القوة. وسمي العضو يميناً لوفور قوته على اليسار. ومنه قوله تعالى: (لأخَذَنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ([الحاقة: 45] أي: بالقوة، قال في الذخيرة: فعلى هذا يكون التزام الطلاق والعتاق وغيرهما في تقدير المخالفة يميناً بخلاف التفسير الأول. والحلف بكسر اللام وسكونها.

والنذور: جمع نذر، وقد يجمع على نذر، وهو في اللغة عبارة عن الالتزام، وقيل: هو التزام بشرط. ابن بشير: والأول أشهر.

وهل الحلف من حيث هو مباح، وإليه ذهب الأكثر، أو أرجع الترك؟ قولان للشيوخ. ابن عبد السلام: والصحيح نقلاً ونظراً الإباحة. وقلنا: من حيث هو؛ لأنه قد يعرض له الوجوب والندب والتحريم.

ولا خلاف في جواز الحلف بأسماء الله تعالى سواء دلت على الذات فقط أو مع صفة، كقوله: والله والرحمن والعزيز والقدير، وأما صفاته فالمعروف [236/ب] من المذهب جواز الحلف بها، وخرج للخمي من قوله في الموازية فيمن حلف فقال: لعمر الله، فقال: لا يعجبني أن يحلف به أحد. ومن كراهة مالك أيضاً الحلف بأمانة الله، ومن رواية علي في مسألة الحلف بالقرآن وألفاظ وقعت لهم في هذا الباب تقتضي الخلاف في الأيمان بالصفات.

ص: 284

واعلم أن الكفارة إنما تجب في عزة الله وأمانة الله إن قصد بذلك صفته تعالى، وأما إن أراد ما جعله الله تعالى في عباده من العزة والأمانة كقوله تعالى: (سُبّحَنَ رَبِكَ رَبِ الْعِزَّةِ عَمّا يَصِفُونَ ([الصافات: 180] فإنه لا كفارة عليه، نص عليه أشهب، ولا يجوز حينئذٍ الحلف بهما وقاله ابن سحنون في العزة فقط. وقاله محمد في العهد.

قال في الذخيرة: أمانة الله: تكليفه؛ لقوله تعالى: (إِنَّا عَرَضّنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوتِ وَالأَرْضِ

([الأحزاب: 72] وتكليفه: كلامه القديم، وعمر الله تعالى: بقاؤه، وهو استمرار وجوده، وعهد الله: إلزامه؛ لقوله تعالى: (وَأوْفُوا بِعَهّدِيّ ([البقرة: 40] أي: بتكاليفي، فذمته: التزامه فيرجع إلى خبره، وخبره: كلامه، وكذلك كفالته وميثاقه راجعان إلى الكلام.

عياض: لعَمْرُ بالفتح والضم: الحياة والبقاء، إلا أنه إذا استعمل في القسم لم يكن فيه غير الفتح ولم يحك المصنف في عهد الله خلافاً. ابن حارث: واتفقوا على وجوب الكفارة إذا قال: عليَّ عهد الله، واختلفوا إذا قال: وعهد الله. قال في المدونة: تجب. وقال الدمياطي: لاتجب.

اللخمي: والعهد على أربعة أوجه تجب الكفارة في وجه، وتسقط في اثنين، واختلف في الرابع فإن قال: علي عهد الله، فعليه الكفارة، وإن قال: لك عهد الله، أو أعطيك عهداً، فلا كفارة عليه. واختلف إذا قال: أعاهد الله، فقال ابن حبيب: عليه كفارة يمين. وقال ابن شعبان: لا كفارة عليه؛ لأنه لم يحلف بالعهد إذ قولُه: أعاهد الله، عهدٌ منه وليس بصفة الله.

ابن حبيب: وإذا قال: أبايع الله، فعليه كفارة يمين. اللخمي: وعلى قول ابن شعبان لا شيء عليه. ابن حبيب: "أيْمُ اللهِ" يمين. وفي الموازنة لمالك: إذا قال:"لعَمْرُ اللهِ" أو "ايْمُ اللهِ"، أخاف أن يكون يميناً. اللخمي: فتردد هل هي يمين أم لا؟

ابن عبد الحكم: وإن قال "لاها الله" فهي يمين كقوله "تالله"، وإن قال:"الله علي راعٍ" أو "كفيل"، فليس في ذلك كفارة. قال في الموازية: قال بعض أصحابنا في

ص: 285

"معاذ الله": ليست يميناً إلا أن يريد بها اليمين. وقيل في "معاذ الله" و"حاشا لله": إنهما ليستا بيمين بحال. انتهى. وفي اللخمي قول: إنهما يمين، التونسي: والأشبه في "معاذ الله" و"حاشا لله" أنهما ليستا بيمين. وقال ابن حبيب: وقول الرجل للرجل علي عهد الله أو لك علي عهد الله إن فعلت كذا فلا كفارة عليه في هذا ولا رخصة في تركه. انتهى. وهو يخالف الاتفاق الذي حكاه ابن حارث.

وقوله: (وَكُرِهَ الْيَمِينُ بـ (لعَمْرُ اللهِ)) أي: كره مالك في الموازية الحلف بعمر الله، وظاهر المدونة جواز الحلف به ففيها: الحلف بجميع أسماء الله تعالى وصفاته لازم كقوله: والعزيز والسميع والعليم، ثم قال: أو قال: وعزة الله، وكبريائه، وقدرته، وأمانته، أو قال: لعمر الله، هي كلها أيمان تكفر ولعل المراد بالكراهية- على ما في الموازية-المنع؛ لأن الصحيح أن أسماء الله تعالى توقيفية، بل أشار ابن عبد السلام إلى أن هذا ليس هو محل للخلاف؛ لأن لعمر حقيقة في حق الحادث، وكذلك الأمانة فهما مجملان، وإنما محل الخلاف ما كان صريحاً وظاهراً في معناه، وكان معناه صحيحاً، وهذا البحث إنما هو على ما علل به المصنف. ابن بشير: ويحتمل أن تكون الكراهة للتردد الذي قدمناه عن أشهب في الأمانة؛ أي: من إرادة صفة الله تعالى، أو الأمانة التي جعلها الله تعالى في عباده.

تنبيه:

لا فرق بين أن يقول: والله، أو وحق الله، فإن ذلك كله يمين، نص عليه في العتبية، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يلزمه حكم اليمين إذا قال: وحق الله.

وَالْمَشْهُورُ: الْكَفَّارَةُ فِي الْقُرْآنِ، وَالْمُصْحَفِ، وَأُنْكِرَتْ رِوَايَةُ ابْنِ زِيَادٍ، وَقِيلَ: الْحَقُّ إِنْ أُرِيدَ الْحَادِثُ لَمْ تَجِبُ

مقابل المشهور رواية ابن زياد، ونقلها في النوادر في المصحف، واللخمي في القرآن والمصحف، والمنكر لها ابن أبي زيد؛ لأنها توهم القول بخلق القرآن. قال: وإن صحت

ص: 286

حملت على أنه أراد جرم المصحف، قال غيره: ومراده فعل العباد في القرآن؛ كما قال: يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً.

وقوله: (وَقِيلَ: الْحَقُّ) هو كلام ذكره بعضهم جمعاً بين القولين، وهو صحيح في نفسه، ولكنه خارج عن محل الخلاف، فإنه إن قصد القديم لزمته الكفارة باتفاق، وإن قصد الحادث لم تلزمه باتفاق. ابن بشير وغيره: وإنما محل الخلاف حيث لا نية، أو كانت ونسيها، ولا فرق على المشهور بين أن يحلف بالمصحف أو بالقرآن أو بالكتاب، أو بما أنزل الله، رواه ابن المواز.

ولا فرق بني أني حلف بالقرآن، أو بسورة منه أو آية، رواه ابن حبيب، وفي العتبية عن ابن حبيب لزوم الكفارة في الحالف بالتوراة والإنجيل، وهو جارٍ على المشهور.

وَالنَّذْرُ لا مَخْرَجَ لَهُ مِثْلُ: عَلَيَّ نَذْرٌ فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ

لما في مسلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة النذر كفارة يمين"، ولا يمكن حمله على نذر معين؛ لأنه لو نذر طاعة معينة لزمه الإتيان بها، لما في الصحيح:"من نذر أن يطيع الله [237/أ] فليطعه" فتعين حمله على ما لا مخرج له.

وَالْيَمِينُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وقِيلَ: حَرَامٌ

أي: اليمين بغير الله وصفاته كالحالف بالكعبة والنبي صلى الله عليه وسلم، والأظهر من القولين التحريم؛ لما في الموطأ والصحيحين عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم". ولمالك ومسلم: "ومن كان حالفاً، فليحلف بالله أو ليصمت".

وأيضاً يدخل في كلام المصنف اليمين بالطلاق والعتاق، وقد نصوا على تأديب الحالف بهما ولا يكون الأدب في المكروه إلا أن يقال: إطلاق الأيمان عليهما مجاز ألا ترى أن حروف القسم لا تدخل عليهما.

ص: 287

فرع:

ابن حبيب: كره مالك أن يقول الرجل: رَغِمَ أنفي لله، أو يقول الصائم: والذي خاتمه على فمي.

وَأمَّا الْيَمِينُ بِنَحْوِ اللاتِ وَالْعُزَّى وَالأَنْصَابِ وَالأَزْلامِ فَإِنِ قَصَدَ تَعْظِيمَهَا فَكُفْرٌ، وَإِلا فَحَرَامٌ

تصوره ظاهر. وفي مساواة الأنصاب والأزلام واللات والعزى في تكفير الحالف إذا قصد التعظيم نظر. ومقتضى كلام المصنف أنه إذا لم يقصد باللات والعزى التعظيم أنه ليس بكفر. وكذلك نص ابن بشير وأشار ابن دقيق العيد في شرح العمدة إلى نفي ما ذكره المصنف من عدم قصد التعظيم، قال: لأن الحلف بالشيء تعظيم له.

وَلا كَفَّارَةَ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ باللهِ، وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ فَيَتَبَيَّنُ خِلافُهُ مَاضِياً أَوْ مُسْتَقْبَلاً، وَقِيلَ: مَا يَسْبِقُ إِلَيْهِ اللِّسَانُ بغَيْرِ قَصْدٍ، وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها الْقَوْلانِ

الأصل في هذا قوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بَمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ ([المائدة: 89]، والمشهور أن اللاغية هي أن يحلف على الشيء يستيقن أنه كذلك، ثم يوجد على غير ذلك، هكذا قال مالك في الموطأ وقال القاضي إسماعيل والأبهري: هي ما يسبق إليه اللسان من: والله، ولا والله. رواه مالك في الموطأ عن عائشة. وجوز الباجي فيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن اللغو لا يكون إلا في اليمين.

والثاني: أن اللغو قول الرجل: لا والله، وبلى ولله، فيما يعتقده ثم يتبين خلافه.

والثالث: أن يريد ما يجري على اللسان من غير قصد فقول المصنف: (وَعَنْ عَائِشَةَ

الْقَوْلانِ) يقتضي أن ذلك مروي عن عائشة مفسر وصرح ابن بشير بذلك.

ص: 288

خليل: ورأيت ابن بطال حكى في باب الأيمان عن عائشة رضي الله عنها مثل ما حكاه المصنف، ولفظه: وروي عن ابن عباس أن لغو اليمين: أن يحلف الرجل على الشيء يعتقد أنه كما حلف عليه، ثم يوجد على غير ذلك، وروي هذا القول عن عائشة رضي الله عنها ذكره ابن وهب عن عمر بن قيس عن عطاء عن عائشة رضي الله عنها.

ابن عبد السلام: ولم يوجد لها كقول مالك بعد البحث عنه. ابن راشد: وإن كان ذلك مروياً عنها فيحمل لفظه على ظاهره، وإلا حمل أن فيه إضماراً؛ أي: وعن الأشياخ في تفسير قول عائشة رضي الله عنها القولان.

وقوله: (مَاضَياً أَوْ مُسْتَقْبَلاً) مثال الماضي: والله ما جاء زيد، وهو يعتقد ذلك. ومثال المستقبل: والله ما يأتي زيد غداً، وهو يعتقده. وعبر المصنف بالاعتقاد ومالك في الموطأ وابن القاسم باليقين، والظاهر أن المراد بهما واحد. وقال بعض البغداديين: اللغو: أن يحلف على الشيء يظنه. ابن يونس: يريد بالظن هنا اليقين، وهو يرجع إلى قول مالك.

ولَا فِي الْغَمُوسِ؛ وَهِيَ الْيَمِينُ عَلَى مَا يَعْلَمُ خِلافَهُ

أي: ولا كفارة في الغموس، وسواء تعلقت بالماضي أو بالمستقبل، فالماضي واضح، والمستقبل كما لو كانت يمينه على ما لا يصح وجوده، أو قد علم أنه لا يوجد كقوله: والله لأقتلن فلاناً غداً، ولان قد علم أنه ميت، أو لأطلقن النساء اليوم، أو لا تطلع الشمس. ولم يجزم التونسي بحصولها في المستقبل بل قال: الأشبه أنها غموس. ومثل بما ذكرناه ابن عبد السلام: وأكثر كلام الشيوخ يقتضي انحصار اللاغية في الماضي والحال وأنها لا تتناول المستقبل، وذكر أيضاً عن بعض الشيوخ حصر اليمين الغموس في الماضي. وقيل لها: غموس؛ لأنها تغمس صاحبها في النار، وقيل: في الإثم، وهو الأظهر لأنه سبب حاصل.

مالك: وهي أعظم من أن تُكفَّر. ابن حبيب: وهي من الكبائر.

ص: 289

وَفِيهَا: وَمَنْ حَلَفَ عَلَى مَا شَكَّ فِيهِ فَتَبَيَّنَ خِلافُهُ فَغَمُوسٌ، وَإِلا فَقَدْ سَلِمَ

نص التهذيب: ومن قال: والله ما لقيت فلاناً أمس، وهو لا يدري ألقيه أم لا؟ ثم علم بعد يمينه أنه كما حلف بر، فقد خاطر وسلم، وإن كان على خلاف ذلك أثم، وكان كمتعمد الكذب وهو مخالف لقوله:(وَإِلا فَقَدْ سَلِمَ)؛ لأن قوله: (وَإِلا) يدخل فيه صورتان:

الأولى: أن يعلم صدق ما حلف عليه.

والثانية: أن يبقى على شكه، وهذه الثانية غموس على كلامه في المدونة.

التونسي: وقال في الذي حلف لقد لقيني فلان أمس، وهو شاك حين يمينه، ثم تحقق أنه لقيه قد بر، وإن لم يتحقق ذلك أنه لم يلقه، فقد أثم. وفي هذا نظر؛ لأن يمينه على الشك وهي معصية، فإذا كشف الغيب أن الأمر كما حلف عليه لم يسلم من إثم الجرأة على اليمين ي أمر لا يتحققه. اللخمي: وأرجو أن يكون إثم الشاك أخف من إثم متعمد الكذب. ابن عبد السلام: وحمل غير واحد لفظ المدونة على أنه وافق البر في الظهر؛ لأن إثم جرأته بالإقدام على الحلف شاكاً سقط [237/ب] عنه. لأن ذلك لا يزيله إلا التوبة وهو ظاهر في الفقه إلا أنه بعيد من لفظ المدونة.

قُلْتُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الظَّنَّ كَذَلِكَ

أي: يلحق بمسألة المدونة، ويفعل فيه كما فعل في مسألة المدونة إذا حلف مع ظن صدق ما حلف عليه، والجامع أنه في كلا المسألتين أقدم على الحلف غير جازم. ونسبة المصنف هذا الكلام لنفسه تقتضي أنه لم يره لغيره. وقد نقله في النوادر عن ابن المواز قال: وكذلك الحالف على شك أو ظن فإن صادف ذلك كما حلف عليه فلا شيء عليه، وقد خاطر، فعطفه الظن على الشك دليل على أنه أراد حقيقته العرفية، وهو مقتضى كلام ابن يونس فإنه قال: وأما قولهم في الغموس وهو أن يحلف على أمر يظنه يريد: وهو لا يوقنه،

ص: 290

وقاله محمد، وما قاله المصنف هنا إنما يأتي على القول الثاني الذي ذكره في كتاب الشهادة؛ لقوله: وما يحلف فيه بتاً يكتفي فيه بظن قوي كخطه، أو خط أبيه، أو قرينة من خصمه وشبهه. وقيل: المعتبر اليقين. وانظره مع قول سليمان صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: "والله لأطوِّفنَّ الليلة على سبعين امرأة تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له: قل إن شاء الله، فلم يقل فطاف بهن، فلم تلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان". فإنه حلف صلى الله عليه وسلم على ما يظنه، ولا يجوز أن يكون معتمده في يمينه الوحي، وإلا ما تخلف ما حلف عليه، وهذا كله إذا أطلق اليمين، وأما إن قيدها- فقال: في ظني أو ما أشبه ذلك- فلا شيء عليه.

وَلا لَغْوَ فِي طَلاقٍ وَلا غَيْرِهِ، وَقَضَى بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رضي الله عنه فِي حَالِفٍ عَلَى نَاقَةٍ أَنَّهَا فُلانَةُ فَظَهَرَ خِلافُهَا ....

لأن الله تعالى لما قال: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ([البقرة: 225] وكانت الحقيقة الشرعية في اليمين إنما هي الحلف بالله تعالى؛ ولذلك تدخل عليه حروف القسم – كانت الآية الكريمة خاصة باليمين بالله تعالى.

وأما الطلاق والعتاق والصدقة فليست يميناً شرعياً، وإنما هي التزامات، ولذلك لا تدخل على ذلك حروف القسم، ولأن الحلف بذلك ممنوع فشدد عليه، وحكى في ذلك الاتفاق. واستشهد المصنف بقضاء عمر بن عبد العزيز وتصوره واضح.

وقوله: (فتبين خلافه) يريد ناقة أخرى، وبذلك فسره أبو الحسن.

ابن عبد السلام: ووقع لابن الماجشون ما ظاهره أن اللغو يجري في غير اليمين بالله. ففي المبسوط: في أخوين كانا شريكين، اشترى رجل من أحدهما ثوباً، فدفع الثمن إلى أخي البائع وهو يظنه البائع، ثم لقيه البائع فسأله عن الثمن، فقال: قد دفعته إليك، فقال: والله

ص: 291

ما أخذت منك شيئاً، فقال: امرأتي طالق ن لم أدفع إليك الثمن. فقال: وحيك لعل أخي. فسئل أخوه، فقال: نعم دفع إلي، فقال: ما كنت ظننت إلا أني دفعت إليك، فقال مالك: هو حانث. وقال ابن الماجشون: لا شيء عليه، إنما أصل يمينه أنه دفع إليك الثمن فيما رأى، وأنه لم يحبسه عنك، فكيف يحنث ههنا؟!

خليل: ويمكن أن يقال: ليس في هذا ثبوت اللغو في غير اليمين بالله؛ لأنه لما كان الأَخَوان في هذه المسألة شريكين، ومن دفع إلى أحد الشريكين فقد برئ من الآخر؛ إذ كل من الشريكين وكيل عن الآخر وهو إنما حلف على البراءة، فلا يلزم من الحكم في هذه المسألة بعدم الحنث أن يكون كذلك في غير هذه المسألة، وهذا ظاهر من تعليل ابن الماجشون، والله أعلم.

وَمَنْ قَالَ لِشَيْءٍ: هُوَ عَلَيَّ حَرَامٌ مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ غَيْرِهِ إِلا الزَّوْجَةَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ ....

تصوره ظاهر، ولا أعلم فيه خلافاً عندنا. قال في المدونة: قال زيد بن أسلم: إنما كَفَّر النبي صلى الله عليه وسلم في تحريمه أم ولده؛ لأنه حلف بالله لا يقربها.

وَكَذَلِكَ هُوَ يَهُودِيٌّ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ، أَوْ سَارِقٌ، أَوْ زَانٍ، أَوْ يَاكُلْ الْمَيْتَةَ، أَوْ عَلَيْهِ غَضَبُ اللهِ، أَوْ دَعَا عَلى نَفْسِهِ إِنْ فَعَلَ، وَلْيَسْتَغْفِرِ اللهَ

لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف بملة سوى الإسلام كاذباً فهو كما قال". قال في الاستذكار: وهو حديث صحيح النقل وليس على ظاهره، وكأنه صلى الله عليهوسلم أراد النهي عن موافقة هذا اللفظ. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف منكم باللات والعزى، فليقل لا إله إلا الله، ومن قال: تعال قامرك فليتصدق"، وهو حديث صحيح ثابت. انتهى. وقال الباجي: معنى الحديث: "من حلف بملة غير الإسلام فهو

ص: 292

كما قال"؛ يعني: معتقداً لذلك، ولذلك أمر من حلف باللات والعزى بالتهليل، لنفي الكفر. انتهى. وعلى هذا فيطالب بالشهادة والاستغفار.

وَلَوْ قَالَ: أَحْلِفُ أَوْ أُقْسِمُ وَلَمْ يَنْوِ باللهِ وَلا بِغَيْرِهِ فَلا كَفَّارَةَ عَلَى الْمَشْهُورِ

حاصله: إن قصد بالله؛ يريد: أو تلفظ بالله لزمته الكفارة، نص عليه التونسي وصاحب الجواهر. وحكى الباجي الاتفاق عليه مع التلفظ وفيه نظر؛ لأن سحنون حكى في السليمانية أنه اختلف فيمن قال: أشهد بالله أو أقسم بالله، هل هي يمين أم لا؟ وخرج اليمين فيما إذا نوى بالله ولم يلفظ بها خلافاً مما إذا عقد اليمين بقلبه. واستشكل بأن هنا لفظًّا فكان أقوى، وإن قصد بغيره لم يلزمه، وإن لم يقصد [238/أ] شيئاً فالمشهور أنه لا يلزمه؛ لأن الأصل براءة الذمة، وقيل: يلزمه لأن أصل اليمين إنما هو بالله، ولم أقف عليه بعد البحث عنه، وإنما هو معزو لأبي حنيفة، وقاله ابن عبد السلام. والمشهور مذهب المدونة وألحق فيها بهما "أشهد"، واقتصر في الأمهات على الثلاث وزاد البرادعي "أعزم".

أبو الحسن: وليس بجيد لأن "أعزم" ليست يميناً حتى يقول بالله. انتهى.

ونص ابن يونس على ما قاله أبو الحسن، لكن نص التونسي على مثل ما في التهذيب وزاد فيها: وإن قال الرجل: أعزم عليك بالله ألا فعلت كذا، فيأبى، فهو كقوله: أسألك بالله لتفعلن كذا، فامتنع فلا شيء على واحد منهما. وفي الجلاب والكافي: ومن قال لرجل: أقسم عليك لتفعلن كذا وكذا، فإن أراد مسألته فلا شيء عليه، وإن أراد عقد اليمين على نفسه حنث بترك المقسَم عليه ما علقه به. فإنه قلت: ما الفرق على ما في التهذيب بين أعزم بالله، وأعزم عليك بالله؟ قيل: لأن الأولى حلف فيها على نفسه فكانت منعقدة، والثانية: إنما سأل فيها غيره.

ص: 293

ابن حبيب: ومن قال لرجل: أعزم عليك بالله، فهو كقوله: أسألك بالله، فينبغي له أن يجيبه ما لم يكن معصية، وكذلك إن سئل بالرحم؛ لقوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللهَ الْذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ([النساء: 1]. التونسي: وأما قوله: أقسمت عليك بالله لتفعلن، ففي كتاب ابن حبيب: إن لم يفعل فهو حانث، وفي كتاب محمد: إن قال: أعزم عليك ألا تفعل، فلا شيء عليهما. التونسي: فما الفرق بين أقسمت عليك بالله لتفعلن، وبين عزمت عليك بالله لتفعلن؟

وَلَوْ قَالَ: أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ فَفِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَوْ جَميعِ الأَيْمَانِ: قَوْلانِ

القول بكفارة اليمين لابن وهب، والقول بلزوم الأيمان لابن القاسم، قال: إن لم تكن له نية لزمه طلاق نسائه، وعتق رقيقه، والصدقة بثلث ماله، ويمشي إلى الكعبة في رواية عيسى إلا أن يكون قد عزل الطلاق والعتاق، فليكفر ثلاث كفارات.

الباجي: يريد- والله أعلم- الصدقة والمشي وكفارة الأيمان، وحمل بعضهم الكفارات على ظاهرها. ومنشأ الخلاف: النظر إلى المحلوف به، أو إلى ما يترتب على الحالف. وقول ابن القاسم أٌرب؛ لأن صورتها لى ما في العتبية وغيرها: على أشد ما أخذ أحد على أحد، وذلك التزام، وليست اليمين بالله ولا غيرها مما يلتزم وإنما يلتزم ما يترتب على الأيمان، والمرتب على الأيمان بالله تعالى ليس أشد، فوجب العدول إلى مايترتب على أِشد الأيمان، لكن في كلامه نظر؛ لأن الظاهر أن مراده بجميع الأيمان: الأيمان اللازمة، في قوله:(الأيمان تلزمه). ابن عبد السلام: ولا نعلم أحداً من المتقدمين والمتأخرين بعد البحث عن أقوالهم أوجب في أشد ما أخذ أحد على أحد كفارة ظهار ولا صوم سنة.

خليل: وفي المفيد عن بعضهم إلزام كفارة الظهار.

ص: 294

وَلَوْ قَالَ: الأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ –وَلا نِيَّةَ تَخصصٍ – فَالْجَمِيعُ اتِّفَاقاً، وَفِي لُزُومِ طَلْقَةٍ أَوْ ثَلاثٍ قَوْلانِ، وَيَلْزَمُهُ عِتْقُ مَنْ يَمْلِكُ حِينَ الْحِنْثِ، وَالْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللهِ، وَصَدَقَةُ ثُلُثِ الْمَالِ، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَفَّرَةُ ظِهَارٍ، وَصَوْمُ سَنَةٍ إِنْ كَانَ مُعْتَادَ الْيَمِينِ بِهَا

الطرطوشي: ليس لمالك ولا لأصحابه في هذه المسألة قول يؤثر، وإنما تكلم فيها المتأخرون وفيها أربعة أقوال في المذهب:

نقل عن الأبهري أنه لا يلزمه إلا الاستغفار، وعن الطرطوشي وابن العربي والسهيلي أن عليه ثلاث كفارات. الطرطوشي: ولا يدخل في يمينه طلاق ولا عتق إلا أن ينوي ذلك أو يكون العرف جارياً به، قال: ولا فرق بين أن يقول: اليمان تلزمني، أو لازمة لي، أو جميع الأيمان أو الأيمان كلها تلزمني. وعن ابن عبد البر أن عليه كفارة يمين. وعلى هذا فالاتفاق الذي ذكره المصنف تبعاً لابن بشير ليس بجيد.

وقوله: (وَلا نِيَّةَ تَخصصٍ) يقتضي تصديقه لو ادعى تخصيصاً ونص على ذلك أبو عمران، وقال الباجي: لا خلاف في تصديقه فيام لا يحكم عليه به من صوم ومشي وعتق غير معين.

وأما الطلاق والعتق المعين فيجري الخلاف فيه على الخلاف في مسألة الحلال عليَّ حرام. انتهى. وستأتي هذه المسألة المخرج عليها قوله: (وَفِي لُزُومِ طَلْقَةٍ أَوْ ثَلاثٍ قَوْلانِ) الباجي: اختلفوا في الطلاق الواجب بذلك فقال أبو عمران: وأكثر من بلغنا قوله من أهل إفريقية: تلزمه طلقة. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن ومعظم أهل بلدنا: تلزمه ثلاث، وهو الأظهر على أصل مالك. قال أبو بكر: لأنه يلزمه من كل نوع من الأيمان أوعبها ولذلك أوجبنا عليه الحج ماشياً دون العمرة لما كان ذلك أوعب، وإذا قلنا بطلقة فهل هي بائنة أو رجعية؟ حكى بعضهم في ذلك قولين، والذي كان يفتي به الشيخ أبو محمد: لزوم الثلاث وهو الصحيح عند التونسي واللخمي وعبد الحميد والمازري وغيرهم، حتى إن

ص: 295

السيوري أفتى بنقض حكم حاكم أفتى بالواحدة، وحكى ابن بشير قولاً بالفرق بين أن يكون قصد بقوله:"الأيمان تلزمني" العموم فتلزمه الثلاث، وإن لم يكن له مقصد في ذلك لزمته واحدة. وقوله:(وَيَلْزَمُهُ [238/ب] عِتْقُ مَنْ يَمْلِكُ) يريد: وكذلك الطلاق.

الباجي: وإن لم يكن عنده امرأة أو مملوك لم يلزمه فيمن يتزوج في المستقبل ولا من يشتري في المستقبل، وعليه عتق رقبة لا أكثر. ابن زرقون: وقولُهُ: "إذا لم يكن عنده مملوك لا يلزمه عتق رقبة" غيرُ معروف من أقوال من تكلم على هذه المسألة، وفيه نظر؛ فقد نقل صاحب الجواهر عن الأستاذ أن المتأخرين أجمعوا على أنه إن لم يكن عنده رقيق أن عليه عتق رقبة.

وقوله: (وَالْمَشْيُ إِلَى بَيْتِ اللهِ) يعني: في حج. كما تقدم عن أبي بكر بن عبد الرحمن. ونقل في البيان عمن أدرك من الشيوخ: في المشي في حج أو عمرة. وفي قوله: (يتق من يملك حين الحنث) نظر. وأهل المذهب أنه إنما يلزمه من كان مملوكاً يوم اليمين؛ إذ المعروف من المذهب فيمن حلف إن فعل كذا فعليه التصدق بثلث ماله، أنه إنما يلزمه الثلث حين اليمين، ولم أرَ أحداً وافق المصنف على قوله وقد اعترض عليه ابن هارون في ذلك.

قوله: (وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَكَفَّارَةٌ ظِهَارٍ) ابن هارون: يوهم أن عليه عتق رقبة أخرى غير ما ذكر من العتق أولاً، وليس كذلك بل لم يوجبوا عليه إلا صوم شهرين متتابعين. وكان الشيخ أبو محمد لا يوجب في ذلك كفارة ظهار، وتبعه في ذلك جماعة. وحكى ابن عتاب عبن بعضهم إيجاباً واستشكل ابن زرقون وغيره إيجابها؛ لأن يمين الظهار غير معهودة ولا متعارفة. وكذلك قال ابن راشد: وفي كفارة الظهار نظر؛ لأنها إنما لزمت في الظهار لكونه أتى بلفظ الظهار وهو نكر من القول وزور، وهذا اللفظ بعينه لم ينطق به. وقال: وإن كان مرادهم أن هذا اللفظ استعمل مكان كل لفظ من ألفاظ الأيمان فيلزمه أن يعتزل زوجته حتى يكفر، ولاتلزمه الكفارة حتى عزم على العودة.

ص: 296

قوله: (إِنْ كَانَ مُعْتَادَ الْيَمِينِ بهَا) أي: الحلف، قاله ابن بشير. وينبغي في غير الصوم أيضاً أنه لا يلزم إلا بالعادة ولهذا قال ابن عبد السلام: ينبغي للمفتي أن ينظر إلى عرف زمانه وبلده.

ابن راشد: وهذا إشكال أوجب توفيقي عن الفتوى في هذه المسألة، ولا سيما إذا سألني من لا يفهم ما يراد بها، وسمعت عن بعض المفتين أنه إذا جاءه من لم يعرف مدلول هذا اليمين فيقول له: لا يلزمك شيء، وكان غيره يقول: إذا سمعت غيرك يحلف بها ما الذي يسبق لذهنك فيها؟ فيقول لهم إنه يلزمه الطلاق الثلاث، فيقول له: طلق امرأتك بالثلاث، وهذه الطريق عندي أنسب وهذا ظاهر. وقد ذكر القرافي فيه قاعدة وهي: أن الحكم المرتب على العرف والعادة يتغير بتغير العرف والعادة، عندنا بمصر الحلف بالطلاق واليمين بالله والعتق دون سواهما، وأكثرهم لا يعرف الظهار.

المتيطي: قال ابن عتاب: ويلزم الحالف بهذه اليمين الأدب. قال أبو الأصبع: وهو صحيح وقد ذكر ابن حبيب أن هشام بن عبد الملك كتب أن يضرب من حلف بطلاق أو عتاق عشرة أسواط، واستحسن ذلك مالك، وكذلك الحالف بالمشي إلى بيت الله من تكرر حلفه بذلك وعرف به كان جرحة في شهادته ولو بر.

وَإِذَا كَرَّرَ الأَيْمَانَ بغَيْرِ الطَّلاقِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتَعَدَّدْ، وَلَوْ قَصَدَ التَّكْرَارَ عَلَى الْمَشْهُورِ مَا لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ أَوْ يَقُلْ: عَلَىَّ عَشْرُ كَفْارَاتٍ أَوْ عُهُودٍ أَوْ نُذُورٍ وَنَحْوِهِ فَعَدَّدَ مَا ذَكَرَ، وقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى فَتَأكِيدٌ مِثْلُ: وَاللهِ، وَالسَّمِيعِ، وَالْعَلِيمِ، وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَى تَكَرَّرَ اللُّزُومُ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ بَشِيرٍ مِثْلُ: وَالْعِلْمِ، وَالْقُدْرَةِ، وَالإِرَادَة ....

حاصله: إن نوى التأكيد لم يلزمه إلا كفارة واحدة بالاتفاق، وإن نوى كفارات متعددة لزمه ذلك اتفاقاً، وإن قصد الإنشاء ولم يقصد كفارات فالمشهور أنها لا تتعدد ولو كان في مجلسين، رواه ابن القاسم عن مالك، وكذلك قال ابن المواز.

ص: 297

وظاهر قوله: (وإذا كرر اليمين على شيء واحد لم تتكرر)، وإن قصد التكرار على المشهور أنه لا فرق أن يكون المحلوف به اسماً من أسماء الله تعالى أو صفة من صفاته، وهو صحيح، وإن كان أكثر الشيوخ لم يحفظ قولاً بتكرير الكفارة في الأسماء ففي الاستذكار عن مالك فيمن قال: والله والرحمن، عليه كفارتان. وإن قال: والسميع والعليم والحكيم عليه ثلاث كفارات. قال: وقد تقدم قوله: من حلف بالله مراراً ثم حنث عليه كفارة واحدة، ففرق بني تكرار اسم واحد وبين الأسماء المختلفة. انتهى.

وفي الموازية: لو قال: والله ثم والله فكفارة واحدة، وكذلك لو قال: والله والله. وقال ابن عبد الحكم: تتعدد في الواو مع واو القسم أعني: إذاقال: والله ووالله ووالله، وإن قال: والله والله والله، فعليه كفارة واحدة هذا معنى كلامه. وحكى جماعة في تعدد الكفارة بالصفات ثلاثة أقوال: المشهور كما ذكر المصنف عدم التكرار. والتكرار حكاه ابن يونس عن بعض المتأخرين وتأوله بعضهم على المدونة، والصحيح عندهم تأويلها الأول، والثالث الفرق فإن كانت الصفة الثانية هي الأولى في المعنى لم تتعدد كمن حلف بالعزة والجلال والعظمة؛ لأن ذلك يرجع إلى صفة واحدة وهي القدرة، وكمن حلف بغضب الله ورضاه وسخطه ورحمته؛ لأن ذلك يرجع إلى الإرادة. وإن كانت الصفة الثانية غير الأولى تعددت كالعلم والقدرة. وسب هذا القول صاحب التنبيهات لجماعة المتأخرين، ونسبه صاحب البيان للتونسي [239/أ] قال: ويلزم عليه إذا قال: والعالم والقادر والمريد، أن يكون عليه ثلاث كفارات لتضمُّن كل اسم منه صفة تخالف ما يفيده الآخر، ورأى بعضهم هذا الخلاف إنما هو في هذا الوجه، لا فيما إن كانت الصفات راجعة إلى منى واحد، فقوله:(وَإِنْ قَصَدَ التَّكْرَارَ عَلَى الْمَشْهُورِ) ظاهر مما ذكرناه، ورأى مقابل المشهور أنه لا فرق بين أن يقصد تعدد الكفارة أو ما هو مستلزم لتعددها، ابن عبد السلام: وهو الأقرب.

ص: 298

وقوله: (لَمْ يَنْوِ كَفَّارَاتٍ أَوْ يَقُلْ: عَلَيٌّ عَشْرُ كَفَّارَاتٍ) ظاهر متفق عليه، وقوله:(وقِيلَ: إِنِ اتَّحَدَ الْمَعْنَى فَتَاكِيدْ) مثل: والله والسميع والعليم، وهو قول المتأخرين والتونسي كما تقدم، وما نسبه المصنف لاختيار ابن بشير هو اختيار أبي عمران وابن يونس فإن قلت: فما الفرق بين المشهور من أن اليمين بالله لا تكرر فيها الكفارة، وبين المشهور في الطلاق؟ فإن المشهور فيه الحمل على التأسيس إلا أن ينوي التأكيد، قيل: لأن المحلوف به هنا شيء واحد يستحيل التعدد عليه بخلاف الالتزامات، ولذلك قيل بعدم التكرار في الظهار؛ لأن مدلول الظهار الثاني تحريم المرأة، وقد حصل بالظهار الأول.

فرعان:

الأول: إذا كرر اليمين لا على ما حلف عليه أولاً، ولكن على ما هو مستلزم له. ففي العتبية عن مالك فيمن حلف لأفعلن كذا فقيل له: إنك ستحنث، فقال: لا والله لا احنث، إن حنث عليه كفارتان، وقال ابن القاسم في المبسوط: ليس عليه إلا كفارة واحدة.

عياض: وقول مالك أولى؛ لأن مقصود اليمين الأولى على فعل شيء والثانية على فعل شيء غيره، وهو الحنث فتأمله.

الثاني: إذا قال: علي أربعة أيمان، ففي العتبية عليه أربع كفارات. أبو محمد: وأعرف أن ابن المواز قال: عليه كفارة واحدة إلا أن تكون له نية.

وَالاسْتِثْنَاءُ بمَشِيئَةِ اللهِ لا يَنْفَعُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِاللهِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ

المراد بالمشيئة: أن يقول: لا أفعل كذا إن شاء الله، فإن فعل فلا كفارة عليه، وحكى في الاستذكار الإجماع على إسقاط الكفارة به إذا كان متصلاً، واختص الاستثناء بالمشيئة بالمستقبل؛ لأن الماضي إما لغو وإما غموس، ولاتعلق للكفارة بواحد منهما ولا خلاف عندنا أن الاستثناء بالمشيئة في غير اليمين بالله تعالى لا يفيد. نعم في حكم اليمين بالله تعالى النذر المبهم.

ص: 299

فرع:

ابن راشد: وهل يقوم مقام الاستثناء "إلا أن يشاء الله" في إسقاط الكفارة ما إذا قال: إلا أن يقضي الله أو يريد الله؟ قال ابن القاسم في العتبية: من حلف على أمر ليفعلنه إلا أن يقضي الله أو يريد الله ليس بثنيا، وقال عيسى: هو نثيا. قال في البيان: وهو القياس والنظر الصحيح؛ لأن قضاء الله ومشيئته وقدرته هي إرادته فلا فرق بين الجميع. ووجه قول ابن القاسم أن الحالف بالله ألا يفعل فعلاً أو ليفعلنه قد علم أنه لا يفعله، ولا يترك فعله إلا بقضاء الله وقدرته، وعلى هذا انعقدت يمينه وهي نيته وإرادته إن كان من أهل السنة، فكان الأصل ألا ينفعه الاستثناء؛ إذ لا زيادة فيه على ما نواه. خرج من ذلك الاستثناء بالمشيئة بالسنة والإجماع فبقي ما عداه على الأصل. ورأى أصبغ أن قوله:"إلا أن يقضي الله" ثنيا، بخلاف "إلا أن يريد الله" أو يرى غير ذلك. قال: ولا وجه له.

القرافي: وينبغي أن يبني الخلاف هنا على الخلاف في الأسباب الشرعية، هل يقاس عليها إذا عقل معناها أم لا؟ كما قيل في قياس النبش على السرقة واللواط على الزنى.

وَأَمَّا الاسْتِثْنَاءُ بإِلَاّ وَنَحْوِهَا فَمُعْتَبَرٌ بِشَرْطِهِ فِي الْجَمِيعِ، وَشَرْطُهُ في الْجَمِيعِ الاتِّصَالُ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ اخْتِيَاراً، وَإِنْ طَرَأَ قَصْدُهُ بَعْدَ تَمَامِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فَصْلٌ عَلَى الْمَنْصُوصِ، وَلا تُفِيدُ نِيَّةُ الاسْتِثْنَاءِ إِلا بِتَلَفُّظِهِ، وَلَوْ كَانَ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ وَلا بِتَلَفُّظِهِ سَهْواً، أَوْ تَبَرُّكاً حَتَّى يَنْوِيَهُ

أي: وأما الاستثناء بإلا وسائر أدوات الاستثناء المذكورة في علم العربية فتنفع في الجميع بشرطه، ثم فسر شرطه فقال: (وَشَرْطُهُ في الْجَمِيعِ

إلخ).

ابن عبد السلام: ومراده بالجميع: جميع أدوات الاستثناء.

خليل: ويحتمل جميع الأيمان، وحاصل ما ذكره ثلاثة شروط أو شرط مركب من ثلاثة أجزاء:

ص: 300

الأول: أن يكون متصلاً من غير قطع اختياراً، واحترز بالاختيار ما لو انقطع بسعال ونحوه، فنه لا يضر. قوله:(ولو طَرَأَ) يعني: أنه لا يشترط فيه أن ينوي قبل الفراغ من اليمين، بل لو طرأ قصده بعد تمام اليمين واتصل نفعه على المنصوص. ومقابله لابن المواز اشترط أن يكون منوياً قبل تمام الحلف ولو بحرف. والمشهور أظهر. فإن الاستثناء إما حل لليمين كما ذهب إليه ابن المجشون، وإما رفع للكفارة كما ذهب إليه ابن القاسم، وقيل: لاحل ولا رفع. وزاد في البيان ثالثاً: أن الاستثناء من العدد لابد أن يعقد عليه يمينه بالنية، ولا يجوز أن يستدركه، وإن وصله بيمينه أو قبل آخر حرف من كلامه.

الشرط الثاني: أن يكون الاستثناء ملفوظاً به، فلا تكفي فيه النية وحدها، ولا يشترط في النطق الجهر ولذلك قال:(وَلَوْ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ) واعلم أن الاستثناء على ضربين:

أحدهما: إخراج بعض [239/ب] ما اقتضاه اللفظ وهو الاستثناء بإلا وأخواتها. قال في البيان: والمشهور فيه أنه لابد من حركة اللسان، وروى أشهب أن النية تجزئ، وخصص صاحب الجواهر هذا الخلاف بما إذا كانت اليمين لا يقضي فيها بالحنث أو كانت مما يقضي فيها ولم تقم عليه بينة، وأما إن كانت مما يقضي فيها بالحنث وقامت عليه بينة فالحكم بما قالته البينة.

وثانيهما: استثناء يخرج به جميع الجملة في بعض الأحوال؛ كقولك: والله لأعطين القرشيين ثلاثة دراهم إن كان كذا، أو إلا أن يكون. قال في البيان: فهذا لا بد فيه من تحريك اللسان قولاً واحداً، وكذلك حكى ابن المواز الاتفاق على اشتراط اللفظ إذا كان الاستثناء بإن أو إلا أن.

وقوله: (وَلَوْ سِرّاً بحَرَكَةِ لِسَانِهِ) لا إشكال فيه إن كانت اليمين متبرعاً بها، وأما إن كانت في حق واجب، فقال ابن القاسم في العتبية: إذا حرك لسانه بالثنيا فله ثنياه، وإن لم يعلم بذلك مستحلفه. قال: وليس عليه أن يعلم مستحلفه. وأنكر ذلك سحنون،

ص: 301

وقال: لا ثنيا له وإن حرك لسانه؛ لأن اليمين على نية المستحلف، ونحوه عن أصبغ وغيره، وهذه المسألة مبنية على أن اليمين على نية الحالف والمستحلف، وسيأتي ذلك.

الشرط الثالث: أن يكون منوياً، فلو تلفظ به سهواً لم يفد، وقوله:(حَتَّى يَنْوِيَهُ) أي: حتى ينوي الاستثناء بما تلفظ به، فلذلك لو نوى التبرك لم يفد شيئاً.

وَجَاءَ فِي الْحَلالِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى إِخْرَاجَ الزَّوْجَةِ ثَالِثُهَا: إِنْ قَصَدَ الْخُصُوصَ أَفَادَ وَإِلَاّ فَلا

اعلم أن ههنا حقيقتين:

الأولى: الاستثناء بالنية: وهو أن يقصد بلفظه أولاً العموم، ثم يخرج منه شيئاً بإلا أو إحدى أخواتها، وقد تقدم ذكره. وذكرنا ما فيه من الخلاف: هل يكتفي فيه بالنية، أو لابد من اللفظ؟

الثانية: المحاشاة: وهي أن يعزل في أصل عقد بيمينه شيئاً قاله في الجواهر.

وحكى اللخمي وصاحب الذخيرة أنه لم يختلف أن المحاشاة تكفي فيها النية، ونقل ابن العربي في أحكامه عن أشهب أنه لا تكون المحاشاة إلا بقلبه ولفظه، كمادخلت في لفظه، قال: والصحيح الأول. وكان شيخنا رحمة الله يزيد هنا حقيقة ثالثة، وهي التخصيص بالنية ويذكر في إفادتها للخلاف قولين، وهي كالاستثناء في كونه قصد أولاً بلفظه العموم، غير أن الاستثناء أخرج فيه البعض بأحد أدوات الاستثناء، وفي التخصيص بإخراج البعض بغيرها. إذا تقرر هذا فاختلف في القائل: الحلال على حرام، ونوى إخراج الزوجة، ولذلك صورتان:

إحداهما: أن يقصد أولاً بلفظه العموم ثم يخرج الزوجة.

الثانية: أن يقصد ابتداء الخصوص. وحكى المصنف في الصورتين ثلاثة أقوال:

ص: 302

الأول: يفيده وهو المشهور، وقول ابن القاسم ومقابله نقله أِهب ولم يعزه. الثاني: إن قصد أولاً الخصوص أفاد وإن قصد العموم لم يفد. ونسب ابن عبد السلام الثاني لابن مسلمة، والثالث لأشهب. وحاصل هذا القول التفرقة؛ فيفيد في المحاشاة، ولا يفيد في الاستثناء. وقد عملت أن المشهور في المحاشاة والاستثناء متعاكس؛ لأنه قد تقدم أن المشهور في الاستثناء أنه لا يفيد بمجرد النية، والمشهور هنا على ما ذكره الباجي أنه يفيد.

واعلم أن هذه المسألة إنما أتى بها الأشياخ على أنها من باب المحاشاة، ألا ترى إلى قول الباجي المشهور أنه يفيد، ولو كان من باب الاستثناء لم يكن المشهور الإفادة. وزاد ابن يونس ثالثاً في المحاشاة: يحنث المستحلف دون المتبرع. وإذا تقرر لك أن كلام المصنف شامل لصورتي المحاشاة والاستثناء، وان المشهور فيهما متعاكس، عملت أن قول ابن عبد السلام:"المشهور أنه يفيد" ليس بظاهر؛ لأنه يقتضي أن المشهور الإفادة في الصورتين.

اللخمي: واختلف أيضاً إذا قال: كل الحلال على حرام، فقال مالك: يدخل فيه زوجته إلا أن يحاشيها بقلبه. وقال أشهب: لا تنفعه المحاشاة بالنية، إلا أن يحاشيها بلسانه. ونقل الباجي وغيره عن أشهب صحة المحاشاة بالنية إذا لم يأت بلفظة كل.

الباجي: ولا فرق بين زيادة لفظة "كل" وترك زيادتها؛ لأن قوله: الحلال على حرام عموم ومن قال: ليس للعموم لفظ موضوع ينبغي أن تكون لفظة "كل" تقتضي العموم، فإما أن يكون أشهب ينفي العموم في الألف واللام التي للجنس، ويثبته في "كل"، وإما أن يثبت العموم فيهما، ويجعل للقاصد قرينة تمنع الاستثناء بالنية دون اللفظ. وعلى هذا يصح أن يجري قوله في الأيمان اللازمة، إذا ثبتت فيها لفظة "كل"، أو عريت عنها. انتهى. وعلى هذا فالخلاف جارٍ سواء أتى بلفظه "كل" أم لا. ونقل ابن عبد السلام عن بعض الموثقين أنه لايرى أن الخلاف حاصل مع الإتيان بلفظة "كل".

ص: 303

فرع:

وإذا قبلنا قوله في المحاشاة، فيقبل وإن قامت عليه بينة. قال الشيخ أبو بكر: يحلف، وقيل: لا يمين عليه، وأما إن استحلف فقال مالك في الموازية: لا تنفعه نيته سواء استحلفه الطالب، أو ضيق عليه حتى يحلف، أو خاف ألا يتخلص إلا باليمين. وقال مطرف عن مالك: يصدق في المحاشاة وإن استحلف لاختلاف [240/أ] الناس في الحرام، وإن كانت اليمين بغير الحرام لم تنفعه النية، واليمين على نية المستحلف. واستشكل ابن راشد القول بلزوم الطلاق مع دعواه المحاشاة قال: كيف يلزم بطلاق زوجته وهو لم يُرِدْها، قال: والذي عندي وسمعته من شيخي القرافي أن الخلاف إنما هو في نية لفظ المحاشاة. انتهى. أي: في نية لفظ حاشا. هكذا أشار إليه في آخر كلامه، وفيه نظر.

وَمَنْ حَلَفَ لا حَدَّثَ إِلا فُلاناً، وَنَوَى وَفُلاناً مِثْلُهَا

ظاهره أنه تأتي فيه الثلاثة الأقوال، والقول الثالث يمكن إثباته هنا بأن يفرق بين أن يكون العطف منوياً من أول الكلام أم لا. وقول ابن عبد السلام: الثالث لا يأتي هنا؛ لأن الفرض أن الحالف لم يرد الخصوص في ابتداء يمينه وإنما عول بالإخراج بإلا في نيته – ليس بظاهر؛ لأن المخرج بإلا ليس فيه كلام إنما الكلام في المعطوف عليه، وكذلك قال ابن هارون: إن الثلاثة يمكن إتيانها هنا، وظاهر كلامه أن الثلاثة المتقدمة منصوصة هنا، والمنصوص هنا لابن المواز أن نيته تنفعه في الطلاق والعتاق، إلا أن تكون على يمينه بينة.

وَفِي الْكَفَّارَةِ قَبْلَ الْحِنْثِ ثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ عَلَى حِنْثٍ جَازَ

المشهور أنها تجوز قبل الحنث، لكن استحب مالك في المدونة كونها بعده، والقول بعدم الإجزاء لمالكن وتأوله بعضهم على الاستحباب، ولا يؤخذ من كلام المصنف أن هذا القائل يرى عدم الإجزاء؛ لأن كلامه إنما هو في الجواز. والثالث حكاه ابن بشير ولم يعزه، ونسبه ابن عبد السلام لابن القاسم في الموازية وفيه نظر. والذي نقله ابن يونس عن

ص: 304

ابن القاسم في الموازية إنما يرجع إلى الإجزاء مطلقاً. وحكى في الكافي رابعاً: لا يجزئ تقديم الصوم؛ لأن عمل البدن لا يقدم ويجزئه في غيره. وقد تجاذب المجيز والمانع قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف يميناً فرأى غيرها خيراً منها فيكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير". هكذا رواه مالك. وروي بـ "ثم" مع تقديمه "فليكفر" ومع تأخيره. قال في الاستذكار: وأكثر الأحاديث حديث عائشة رضي الله عنها وأبي الدرداء وعدي بن حاتم وابن عمر وأنس وأبي موسى وعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنهم قالوا فيه: "فليأت الذي هو خير ثم يكفر عن يمينه" بتبدية الحنث. انتهى. وقال أبو داود: الأحاديث كلها: "وليكفر عن يمينه" وإلا ما لا يعبأ به، وتجاذبوا قوله تعالى: (وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّرَتُهُ ([المائدة: 89] أي: فحنثتم، فإذاً لابد في سبب الكفارة من اجتماع الحلف والحنث.

ابن بشير: بعد ذكر الثلاثة التي ذكرها المصنف: والرابع: أنه إن كانت الثانية يمينه بالله تعالى وما في معناه فله ذلك، وإن كانت بغيره فليس له ذلك. قال: وإن حلف على فعل – يعني له ولم يؤجله- فلا يتبين حنثه إذا كان على حنث إلا بموته، وأما إن حلف على فعل غيره، أو ما يرجع إلى فعل غيره، ففيه قولان: أحدهما أنه كالأول. والثاني: أن له أن يحنث نفسه وتفيده الكفارة؛ لأن هذا معرض للحنث بموت المعلق به اليمين فإن ضرب أجلاً فإن مر الأجل فقد وجب الحنث، وإن لم يمر فهل له تقديم الكفارة؟ ثلاثة أقوال:

أحدها: أن له ذلك أخذاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "فليكفر عن يمينه"، ويقيس سائر الأيمان على اليمين بالله تعالى، والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه في الأجل على بر.

والثالث: الفرق بين اليمين بالله تعالى فيقدمن وبين غيرها فلا يقدم. انتهى.

والظاهر أن المصنف إنما تكلم على اليمين بالله تعالى فقط.

ص: 305

وَالْبِرُّ: لا فَعَلْتُ، وَإِنْ فَعَلْتُ، وَالْحِنْثُ: لأَفْعَلَنَّ، وَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ

لما ذكر البر والحنث في القول الثالث، وكان كثير من أحكام الأيمان يتوقف على معرفتهما، أشار إلى صيغهما، فذكر أن للبر صيغتين: لا فعلت، وللحنث صيغتين: لأفعلن، وإن لم أفعل. وذكر المصنف صيغهما ولم يذكر حقيقتهما؛ لأن ذكر الصيغة تؤخذ منه الحقيقة. فإنه إذا كان صيغة البر: لا فعلت، وإن فعلت، علم أن البر هو أن يكون الحالف بإثر حلفه موافقاً لما كان عليه من البراءة الأصلية وكذلك يعلم من صيغة الحنث أن الحنث أن يكون الحالف بحلفه مخالفاً لما كان عليه من البراءة الأصلية ولا إشكال أن في صيغة الحنث حرف شرط كقوله:"والله إن لم أتزوج لا أقيم في هذه البلدة"، وأما "إن" في صيغة البر فنص ابن عبد السلام على أنها حرف نفي كقوله:"والله إن كلمت فلاناً" معناه: والله لا أكلم فلاناً؛ لأن "كلم" هنا وإن كان ماضياً فمعناه: الاستقبال؛ إذ الكفارة لا تتعلق إلا بالمستقبل. فإن قلت: فما صرف الماضي هنا إلى الاستقبال؟ قيل: الإنشاء إذ الحلف إنشاء، وقد ذكره النحويون من صوارف الماضي إلى الاستقبال. وقول ابن عبد السلام: أن "إن" في صيغة البر هنا للنفي إن أراد به: إذا لم يكن هناك جزاء فمسلم، وإلا فهي مع الجزاء شرط؛ كقولك: والله إن كلمت فلاناً لأعطينك مائة، أو والله إن دخلت الدار فلا أكلمك أو نحو ذلك.

وَمَنْ ضَرَبَ أَجَلاً فَعَلَى بِرٍّ إِلَيْهِ

يعني: في [240/ب] صيغة البر والحنث كقولك: والله لأضربن فلاناً بعد شهر؛ لأنه لما كان له ترك الفعل إلى ذلك الأجل كان كالحالف على النفي.

ص: 306

وَفِيهَا: وَلَوْ كَفَّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَجْزَأَ، كَمَنْ حَلَفَ بعِتْقِ رَقَبَةِ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَلا يَطَأُ فَأَعْتَقَ لإِسْقَاطِ الإِيلاءِ، فَقَالَ مَالِكٌ: يُجْزِئُهُ، وَأَحَبُّ إِلَيَّ بَعْدَ الْحِنْثِ، قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَالَ أَيْضاً: لا يُجْزِئُهُ إِلا فِي مُعَيَّنَةٍ

أتى بهذا بياناً للمشهور من الأقوال السابقة، وما نقله من التشبيه نحوه في ظاهر المدونة قال: وإن كفَّر قبل حنثه أجزأه كمن حلف بعتق رقبة ألا يطأ امرأته، فأخبر أن الإيلاء عليه، فأعتق إرادة لإسقاط الإيلاء، فقال مالك: أحب إلي أن يعتق بعد الحنث ولو أعتق قبله أجزأه ولا إيلاء عليه.

عياض وابن عبد السلام: والمشهور المعروف في كتاب الإيلاء أنه لا يجزئه في غير المعين، بخلاف اليمين بالله تعالى؛ لأن الإجزاء في اليمين بالله تعالى إما لظاهر الآية أو الحديث أو لجريان سبب الكفارة وهو عقد اليمين، وإما لالتزامات كقوله: إن وطئتك فعلي عتق رقبة أو صوم شهر أو صدقة دينار. فلم يأت فيها من الرخصة ما في اليمين بالله تعالى، ولا جرى سبب وجوبها، وإنما هي التزامات موقوفة على شروط فلا تجب إلا بعد حصول تلك الشروط. ونص ما في الإيلاء: ويكتب إلى الغائب، وإن كان ببلده مسيرة شهر أو شهرين، فيوقف أيضاً في موضعه، فإما عجل الكفارة، أو إيقاع ما ذكرنا من المعينات من عتق أو طلاق أو صدقة، وإلا طلق على كل واحد. انتهى. والقولان أيضاً لمالك في الموازية.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام الجمهور أن الخلاف المذكور في مسألة الإيلاء حاصل حقيقة. وقال الشيخ أبو محمد: إن الخلاف فيها إنما هو فيما بين المرأة وزوجها؛ لأنها تقول: لعل هذه الرقبة معتقة عن كفارة أخرى، وأما فيما بينه وبين الله فقد برئت ذمته، فعلى هذا لو صدقته المرأة أنها عن الإيلاء لما لزمه شيء إذا وطئها بعد ذلك. والجمهور على حصول الخلاف ظاهراً وباطناً كما قلنا. انتهى.

ص: 307

قوله: (وَقَالَ أَيْضاً: لا يُجْزِئُهُ إِلا فِي مُعَيَّنَةٍ) هذا أيضاً موافق لما في كتاب الإيلاء، ولا خلاف في الإجزاء في المعينة. وهذا كله إذا كانت يمينه على بر، وأما إن كانت على حنث كقوله: عليَّ عتق رقبة لأفعلن كذا.

ابن عبد السلام: المشهور في المذهب أن له تقديم العتق وأن له أن يحنث نفسه متى شاء، كانت الرقبة معينة أم لا.

وَلا تَجِبُ إِلا بالْحِنْثِ طَوْعاً

أما أنها لا تجب إلا بالحنث طوعاً فمتفق عليه وظاهر، وتقييده بالطوع يقتضي أنه لا يحنث بالإكراه مطلقاً، وهو قول في المذهب، والمشهور أن الحالف إن كانت يمينه على حنث، يحنث بالإكراه. ففي البيان: من حلف ألا يفعل فعلاً فأكره على فعله، فلا يحنث بلا اختلاف، وإنما اختلف إذا حلف ليفعلن فعلاً فمنع من فعله وحيل بينه وبينه المشهور أنه حانث، إلا أن يكون نوى إلا أن يغلب. وقال ابن كنانة. لا حنث عليه. انتهى.

واستشكل المشهور غير واحد من الشيوخ. قال في المدونة: ومن حلف ليأكلن هذا الطعام أو ليلبسن هذه الثياب، أو يركب هذه الدابة، أو يضرب عبده غداً، فماتت الدابة أو العبد، وسرقت الثياب والطعام قبل غد، فلا حنث عليه بالموت؛ لأنه كان على بر بالتأجيل، ويحنث بالسرقة إلا أن يكون نوى أن تسرق. وقوله: لأنه كان على بر. هذه العلة يشترك فيها جميع المسائل التي ذكرها، وإنما يريد: لأنه كان على بر ولم ينسب إليه تفريط بخلاف السرقة فإنه ينسب إليه تفريط، كما قال صاحب تهذيب الطالب وغيره: لأن الفعل في السرقة والغصب ممكن، وإنما منعه السارق والغاصب. وقال أشهب: لا يحنث في السرقة ونحوها.

ص: 308

وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ: إِطْعَامُ عَشََرَةِ مَسَاكِينَ أَحْرَارٍ مُسْلِمِينَ مُدّاً مُدّاً، وَقَالَ أَشْهَبُ: وَثُلُثاً، وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: وَنِصْفاً، أَوْ كِسْوَتُهُمْ، أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبةٍ، ثُمَّ صِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ مُرَتَّبَةٍ بَعْدَهَا، وَتَتَابُعُهَا مُسْتَحَبّ، وَالطَّعَامُ كَالْفِطْرِ ....

ما ذكره من التخيير في الثلاثة الأول وترتيب الرابع هو نص الآية الكريمة، واحترز بالأحرار من العبيد ومن فيه علقة رق، وقال في المدونة: وإن أعطى غنياً ولم يعلم به لم يجزه وفي الأسدية: من أعطى من زكاة أو كفارة لغني ولم يعلم به أجزأه.

واحترز بالمسلمين من الكفار فإنه لا خلاف أنهم لا يعطون. ولا خلاف أن المدينة يعطي فيها المد. مالك في المدونة: وأما سائر البلاد فإن لهم عيشاً غير عيشنا، فليخرجوا وسطاً من عيشهم، كما قال الله تعالى.

قال ابن القاسم: حيثما أخرج مدّاً بمده صلى الله عليه وسلم أجزأه، وظاهر قول مالك أنه لابد من الزيادة على المد في غير المدينة كقول ابن وهب وأشهب، إلا أن مالكاً لم يحد الزيادة، وحمل أبو الحسن قول ابن القاسم على أنه خلاف لمالك ولذلك قال اللخمي: إن قول مالك أبين منه. وفي الرسالة أن المد يجزئ مطلقاً وكلام المصنف لا يؤخذ منه أن خلاف أشهب وابن وهب خاص بغير المدينة، بل نقل ابن عبد السلام عنهما أنهما يقولان بالزيادة في مصر وما قاربها في سَعة [241/أ] القوت.

الباجي: وإنما يشترط المد إذا رفع إليهم الطعام، وأما إذا أطعموا بإدام فالمشهور شبعهم لو نقص عن المد.

وقوله: (ثُمَّ صِيَامُ) هو نص الآية. قال في المدونة: ولا يجزئه الصوم وله مال غائب، وليتسلَّف، وإن كان له مال وعليه دين مثله أجزأه الصوم، ولا يجزئه الصوم إن كان يملك داراً أو خادماً وإن قل ثمنها كالظهار. أشهب: وقيل: إن كان مجيء الدين قريباً انتظر، وإن وجد من يسلفه تسلف، ولو كفَّر بالصيام ولم ينتظر دينه أجزأه.

ص: 309

التونسي: ولم يبين في المدونة هل ماله قريب الغيبة أو بعيدها؟ فأما القريب فصواب، وأما البعيد فهو ابن السبيل يجوز له أخذ الزكاة، فما الذي يمنع أن يكفر بالصوم؟ لا سيما إن أمكن أن يذهب ماله، وعند أشهب في البعيد الغيبة أنه يكفر بالصوم. انتهى.

وكذلك حمل اللخمي المدونة على الإطلاق، وأخذ من قوله في المدونة:"ويتسلف" أن الكفارة على الفور. اللخمي: وأصل ابن القاسم أنه ينتظر وإن بعد؛ لأنه قال في المظاهر: لا يجزئه إلا الصوم، وإن طال مرضه. وقال أشهب: يجزئه الإطعام إن طال مرضه. فناقض اللخمي ما له هنا بما في الظهار.

أبو الحسن: وتأول بعض الشيوخ معنى قوله هنا: "فليتسلف إن أراد" فيقوم منه أن الكفارة على التراخي ويطابق ما في كتاب الظهار. ابن المواز: قال مالك: لا يصوم الحانث حتى لا يجد قوته، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيها. وقال ابن مزين عن ابن القاسم: إن كان له فضل عن قوت يوم ما يطعم أطعم، إلا أن يخاف الجوع وهو في بلد لا يعطف عليه فيها فليصم، واستحب التتابع في الصيام لكونه أقرب لبراءة الذمة.

وقوله: (وَالطَّعَامُ كَالْفِطْرِ) أي: وجنس الطعام كجنس زكاة الفطر، وهكذا قال الباجي، ولم أر أصحابنا يفرقون بين البابين، وظاهر مسائلهم المساواة، ابن عبد السلام: وتحقيق النقل أن هذا الباب وباب زكاة الفطر متقاربان لا متساويان.

فَإنْ أَعْطَى خُبْزاً غَدَاءً أَجْزَأَهُ مِنْ غَيْرِ إِدَامٍ عَلَى الأَصَحِّ

إجزاء الغداء والعشاء عليه جمهور العلماء. وقال الشافعي: لا يجزئ، وهو ظاهر قول يحيى بن يحيى: لا أعرف في هذا غداءً ولا عشاءً. قال في المدونة: ولا يجزئ غداءً دون عشاء ولا عشاء دون غداء ويطعم الخبز مأدوماً بزيت ونحوه. وظاهره اشتراط الإدام وكذلك قال ابن عبد السلام: مذهب المدونة اشتراطه، ويحتمل أن يكون على الأولى فلا يكون

ص: 310

مخالفاً لما صححه المصنف، وعلى عدم المخالفة حمله ابن هارون. وقال بعضهم: ومقدار الخبز رطلان بالبغدادي. وباشتراط الإدام قال ابن حبيب، قال: ولا يجزئه الخبز قفاراً.

اللخمي: وفي كتاب ابن مزين: يجزئه. والأول أحسن لقوله تعالى: (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)[المائدة: 89]. عياض: والقفار بتقديم القاف وفتحها وتخفيف الفاء: الذي لا إدام معه.

ابن حبيب: والإدام: زيت أو لبن أو لحم أو قطنية أو بقل، وقال: ابن عباس: أعلاه اللحم وأوسطه اللبن وأدناه الزيت. والإطعام إما بتمكين كلٍّ بمفرده أو بتمكينهم فيأكلونه. التونسي: وتكون العشرة يقرب أكل بعضهم من بعض خوفاً أن يكون فيهم من يأكل كثيراً وآخر يسيراً، ولأنه لا يعطي المريض أو الصبي أو الرضيع إلا قدر ما يأكله الكبير.

وَيَجُوزُ لِلصَّغِيرِ الأَكْلُ وَلا يُنْقَصُ، وَفِيمَنْ لَمْ يَسْتَغْنِ بالطَّعَامِ قَوْلانِ

حاصله: أن الصغير على قسمين: إن استغنى بالطعام أعطي، وإن لم يستغنِ به فقولان: مذهب المدونة أنه يعطي، ففي كتاب الظهار منها: ويطعم الرضيع من الكفارة إذا كان قد أكل الطعام، ويعطي ما يعطي الكبير، والقول بأنه لا يعطي حكاه ابن بشير ولم يعزه وللتونسي نحوه فإنه قال: وأما الرضيع فلا يطعم لأنه ليس في حد من الطعام له غذاء. انتهى. وحكى بعض المتأخرين قولاً بأن الصغير يعطي ما يكفيه خاصة، وإن لم يأكل الطعام، ومفهوم كلام المصنف أنه لا يعطي، وهو مفهوم ما نقلناه عن المدونة.

وأجاز في العتبية إطعام الصغير وأطلق لكن قيده ابن رشد فقال: معناه إذا كانوا قد بلغوا أن يأكلوا الطعام. قاله ابن القاسم عن مالك في ظاهر المدونة. وكلام الباجي يدل على إعطائه؛ وذلك لأنه لما ذكر قول أصبغ: وله أن يعطي الصغير من الطعام المصنوع ما يأكل الكبير. وذكر تفسير ابن المواز بأنه إذا كان فطيماً قال: يريد لأنه إذا كان يرضع لم يتغذَّ بالطعام المصنوع، ولا يتأتى بيعه في الأغلب فكان حكمه أن يدفع إليه حنطة يتأتى له بيعها وانتفاعه بها في غير القوت.

ص: 311

وَالْكِسْوَةُ ثَوْبٌ وَاحِدٌ سَاتِرٌ لِلرَّجُلِ، وَثَوْبٌ وَخِمَارٌ لِلْمَرْأَةِ

قال في المدونة: وإن كسا في الكفارة لم يجزه إلا ما تحل الصلاة فيه؛ ثوب للرجل، ولا تجزئ عمامة وحدها، وللمرأة درع وخمار، وفي معنى الثوب الإزار الذي يمكن الاشتمال به، قاله ابن حبيب، فإن لم يمكنه الاتِّزار به، فقال الباجي: لم أرَ لأصحابنا نصّاً والأظهر أنه لا يجزئه. وقال غيره: يتخرج من إجازة مالك الصلاة بسراويل الإجزاء.

وَفِي جَعْلِ الصَّغيرِ كَالْكَبيرِ فِيمَا يُعْطَاهُ قَوْلانِ

القول بأنه كالكبير لمالك في العتبية، وهو قول ابن القاسم ومحمد، والقول بأنه يعتبر الصغير في نفسه نقله ابن المواز عن أشهب [241/ب] قال: ويعطي كل من الصغير والصغيرة ثوباُ قدره. وحكاه صاحب البيان عن ابن حبيب وأشار إلى أن معنى ذلك إذا لم يقصد إلى أصغرهم لتخف عنه الكفارة وإنما تحرى الصواب وقصد الحاجة. وظاهر ما حكاه اللخمي عن ابن الماجشون في الواضحة أن الصبية التي تؤمر بالصلاة تعطى ثوب رجل من غير خمار، وهكذا نقل الباجي عن ابن حبيب صريحاً. اللخمي: وروى ابن المواز عن ابن القاسم أنه لا يعجبه كسوة الرضيع بحال. وكان يقول: من أُمر بالصلاة منهم فله أن يكسوه قميصاً مما يجزئه. قال محمد: تفسيره: كسوة رجل. اللخمي: ومفهوم قول ابن القاسم غير هذا أنه يكسوه في نفسه. وهكذا قال الباجي: أن ابن القاسم يريد: إن كان دون كسوة رجل.

تنبيه:

إذا تقرر ما ذكرناه علمت أن النقل اختلف عن ابن حبيب؛ لأن صاحب البيان نقل عنه غير ما نقله الباجي كما تقدم.

وَلا يُشْتَرَطُ وَسَطُ كِسْوَةِ الأَهْلِ عَلَى الأَصَحِّ

لأن الله تعالى إنما شرطه في الإطعام، ولأن الكسوة تتفاوت كثيراً بخلاف الإطعام.

ص: 312

ابن راشد: والقول بمراعاة ذلك لم أقف عليه، لعله قاسه على الإطعام وفيه بعد. انتهى. وحكاه ابن بشير عن اللخمي فقال: ورأى اللخمي لزوم الوسط كالإطعام، ولم أرَ ذلك في التبصرة، بل نص فيها على خلاف ذلك.

اللخمي: واختلف ي المراد بالأهل في قوله تعالى: (فَكَفَّرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرةِ مَسَكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ([المائدة: 89] هل المراد بالأهل أهل المكفر، أو أهل البلد الذي هو فيه؟ وفي المدونة: يخرج من عيش أهل البلد. وفي كتاب محمد: من عيش المكفر وهو أحسن؛ لأن إطلاق الأهل على أهله حقيقة وعلى أهل البلد مجاز فإن كان يأكل القمح لم يجزه الشعير ولو كان ذلك عش أهل البلد، وإن كان يأكل الشعير أجزاه وإن كان عيش أهل البلد القمح.

ابن حبيب: إلا أن يكون فعل ذلك مع سعة، ومثله يأكل القمح فلا يجزئه الشعير. انتهى. وحكى غيره قول ابن حبيب عن أصبغ وجعله خلافاً لقول محمد. وإذا أخرج شعراً فليخرج منه مبلغ شبع القمح.

وَالْعِتْقُ كَالظِّهَارِ

سيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وَلَوْ أَطْعَمَ وَكَسَا وَأَعْتَقَ عَنْ ثَلاثٍ فَإِنْ نَوَى كُلَّ وَاحِدَةٍ عَنْ يَمينٍ أَجْزَأَ اتِّفَاقاً، وَإِنْ شَرَّكَ لَمْ يُجْزِئْهُ مِنَ الْعِتْقِ شَيْءٌ؛ لأَنَّهُ لا يَتَبَعَّضُ، وَفِي غَيْرِه قَوْلانِ، وَعَلَى التَّبْعِيضِ يَبْنِي عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ، وَعَلَى نَفْيهِ قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: يَبْنِي عَلَى سِتَّةٍ، وَقَالَ اللَّخْمِي: يَبْنِي عَلَى تِسْعَةٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ

يعني: إذا كفر عن ثلاث كفارات بعتق وكسوة وإطعام، فلا خلاف في الإجزاء، سواء عين كل كفارة ليمين أو لا. (وَإِنْ شَرَّكَ) أي: جعل العتق عن الثلاث، وكذلك الإطعام والكسوة، فالعتق لا يجزئه اتفاقاً لكونه لا يتبعض.

ص: 313

واختلف في الإطعام والكسوة وهو مبني على أنه هل يجزئه في الكفارة الواحدة أني كون بعضها كسوة وبعضها إطعاماً؟ والمشهور: لا يجزئه، وأجازه ابن القاسم في الموازية. ومنشأ الخلاف: هل التخيير في الجمل يقتضي التخيير في الأبعاض أم لا؟ ثم فرع المصنف على كل من القولين: فذكر أنه على القول بالتبعيض يبني على ثمانية عشر؛ لأنه قد ناب كل كفارة ثلاثة وثلث من الإطعام ومثلها من الكسوة والثلاثة لا تجزئ فتبطل. وكذلك لو قصد التشريك في كل مسكين لم يصح له شيء اتفاقاً، إلا أن يعلم أعيان المساكين فيزيد كل واحد ثلثي مد، وإنما بنى على ثمانية عشر؛ لأنه يصح لكل كفارة ستة.

وعلى نفي التبعيض، فقال ابن المواز: يبني على ستة: ثلاثة من الإطعام وثلاثة من الكسوة. وكذا في النوادر زاد فيها: ثم يكسو سبعة ويطعم سبعة ويكفر عن اليمين الثالثة بما شاء، قوال اللخمي: يبني علىتسعة؛: لأنه قد تبين أنه قد صح له من كل من الإطعام والكسوة تسعة، وما ذكره عن اللخمي هو قول جميع الشيوخ، وقد نص عليه فضل بن سلمة والتونسي.

خليل: وكان شيخنا رحمة الله يوجه قول ابن المواز بما معناه: إن قاعدة ابن المواز: لايبتدئ كفارة من نوع الأولى قبل أن تكمل الأولى فيلزم أن يبني على ثلاثة من الإطعام وثلاثة من الكسوة، وهذا كما قال ابن القاسم: لو صام أربعة أشهر عن ظهارين، ثم ذكر أنه أفطر يومين لا يدري اجتماعهما أو افتراقهما، فإنه قال: يصوم يومين ثم يقضي أربعة أشهر، وعلل صوم اليومين لاحتمال أن يكون اليومان من الكفارة الأخيرة فلا ينتقل عنها ويشرع في غيرها حتى يكملها، وكذلك من ذكر سجدة في آخر صلاته لا يدري من أي ركعة هي فإنه قال: يسجد الآن لاحتمال أن تكون من الأخيرة، والله أعلم.

ص: 314

وَالْعَدَدُ مُعْتَبَرٌ فَلا يُجْزِئُ مَا تَكَرَّرَ لِوَاحِدٍ إِلا فِي كَفَّارَةٍ ثَانِيَةٍ وَجَبَتْ بَعْدَ إِخْرَاجِهَا، فَلَوْ وَجَبَتْ قَبْلَهُ فَقَوْلانِ ....

يعني: أنه يجب في الإطعام والكسوة استيعاب عشرة مساكين، ولذلك لا يجزئه ما تكرر لواحد. ابن بشير: وهل يكرر الإعطاء لواحد من كفارات؟ أما إن وجبت الكفارة الثانية بعد إعطاء الأولى فلا خلاف في جوازه، وأما إن وجبت قبله ففيه قولان: الإجزاء قياساً على الأولى، وعدم الإجزاء كالكفارة الواحدة. فحكى الخلاف في [242/أ] عدم الإجزاء وهو ظاهر كلام المصنف. ولم أرَ القول بعدم الإجزاء في غيره وهو بعيد.

ابن عبد السلام: وظاهر كلام المدونة وغيرها أن المنع من ذلك على سبيل الكراهة وهو أشد ما يمكن، ولهذا قال ابن أبي زيد: إنما كره مالك ذلك؛ لئلا تختلط النية في الكفارتين، وأما إن حصلت النية في كل كفارة فجائز وصوبه أبو عمران.

فَلَوْ أَطْعَمَ عِشْرِينَ نِصْفاً كَمَّلَ الْعَشْرَةَ مِنْهُمْ وَإِلا اسْتَانَفَ، وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ وَنَحْوُهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفِيهَا: لا يُعْجِبُنِي وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْكَفَّارَتَانِ كَيَمِينٍ وَظِهَارٍ

قوله: (وَإِلا) أي: لم يكمل استأنف. واختلف شراح المدونة هل من شرط التكميل إبقاء ما دفعه إليهم بأيديهم إلى حين التكميل؟

قوله: (وَكَذَلِكَ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ) أي: فيشترط فيها العدد وإن أعطى لمائة وعشرين كمل الستين منهم. وقوله: (وَفِيهَا

إلخ) أي: لم يعجبه في المدونة أن يدفع لمسدين مُدَّيْن من كفارتين وإن اختلف موجبها، وبهذا يضعف تأويل ابن أبي زيد المتقدم؛ إذ كفارة الظهار متميزة عن كفارة اليمين بالله تعالى فلا اختلاط.

ص: 315

وَالنَّذْرُ، والطَّلاقُ، وَالْعِتْقُ- عَلَى صِفَةٍ فِيهِنَّ – تُسَمَّى يَميِناً، وَهيَ فِي التَّحْقِيقِ: تَعْلِيقٌ

كقوله: إن فعلت كذا فعلي نذر كذا، أو فامرأته طالق أو فعبده حر، وقوله:(عَلَى صِفَةٍ) أي: على حصول شرط. وقوله: (تُسَمَّى) أي: في اصطلاح الفقهاء. وقوله: (وَهِيَ فِي التَّحْقِيقِ: تَعْلِيقَّ) أي: التزام شيء على حصول شرط.

وَالْيَمِينُ باللهِ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ، وَهِي وَغَيْرُهَا عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلْفِ فِيمَا كَانَ عَلَى وَثِيقَةِ حَقَّ عَلَى الأَظْهَرِ مِنْ شَرْطٍ فِي نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ وَنَحْوِهِ أَوْ تَاخِيرِ أَجَلٍ بدَيْنٍ، وَفِيمَا سِوَاهَا ثَالِثُهَا: إِنْ سُئِلَ فِيهَا فَعَلى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ، وَإِلا فَعَلى نِيَّتِهِ ..

حاصله أن من حلف فإما أن يكون على وثيقة حق أو لا.

فالأول: المعتبر فيه نية المحلوف له، وهو مراده بالمستحلِف.

وقول المصنف: (عَلَى الأَظْهَرِ) يقتضي أن في المسألة قولين، سواء كانت يمينه بالله أو بالطلاق أو بالعتق وهو صحيح، وقد حكاهما التونسي وصاحب الكافي. والقول بأنه على نية المستحلف تحصيل مذهب مالك. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: يصح تخصيص ما حلَّفه عليه ولكنه ظالم للمحلوف له، وقال بعضهم: لا يصح حتى يحرك لسانه، وفي التونسي: إذا كان إنما حلف في حق أو وثيقة وادعى النية وكانت يمينه طلاقاً أو عتقاً لم يصدق؛ لأن يمينه في الحق والوثيقة على نية المحلوف له، وقيل: يصدق. وأما إن كانت يمينه بالمشي إلى بيت الله وقال: أردت المسجد، فقيل: لا يصدق أيضاً؛ لأن يمينه في الحق والوثيقة على نية المستحلِف، وقيل: ينوي لأن هذا مما لا يقضي عليه به. انتهى.

خليل: وتقدم لابن القاسم أنه إذا حرك لسانه بالثُّنيا فله ثنياه، وإن لم يعلم بذلك مستحلِفه، وهو مما يصح أن يكون مقابل الأظهر وهذا خلاف طريق صاحب المقدمات وابن زرقون فإنهما حكيا الإجماع على أن النية لا تنفع إذا قطع بها حقّاً لغيره للحديث الصحيح:

ص: 316

"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار"، قالوا: وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال: "وإن كان قضيباً من أراك"، قالها ثلاثاً.

والثاني: وهو الذي لا يكون على وثيقة حق، إما أن يكون بالله تعالى أو لا؛ فإن كانت بالله تعالى فعلى نية الحالف، وإلا فثلاثة أقوال:

الأول: أن اليمين على نية المحلوف له رواه ابن القاسم عن مالك، وبه قال ابن وهب وسحنون وأصبغ وعيسى.

والثاني: أنه على نية الحالف وهو قول ابن القاسم.

والثالث: التفصيل لابن الماجشون وسحنون: إن كان مستحلفاً فعلى نية المحلوف له، وإن كان متطوعاً فعلى نية الحالف، وخصص المؤلف هذا الخلاف بما عدا اليمين بالله تعالى، وهو خلاف طريقة صاحب المقدمات وابن زرقون؛ فإنهما عمما الخلاف وزادا قولين آخرين أولهما عكس الثالث: إن حلف متطوعاً فالمعتبر نية الغير لأنه إنما حلف لأجله، وإن استحلفه فله نيته لأنه كالمكره، وثانيهما: إنما يفرق بين أن يكون مستحلفاً أو متطوعاً فيما يقضي به عليه وأما غير ذلك فعلى نية الحالف، رواه أصبغ عن ابن القاسم. وما تقدم عن مالك أن للحالف نيته في "الحلال عليه حرام"؛ لاختلاف العلماء فيها بخلاف غيرها- قول سادس.

والضمير في قوله: (سِوَاهَا) عائد على قسمي اليمين بالله؛ أي: وسواء كانت على وثيقة حق أو لا، وعلى اليمين بالطلاق والعتق والنذر فيما كان على وثيقة حق، ويحتمل أن يكون الضمير في (سِوَاهَا) عائد على اليمين بالطلاق والعتاق إذا لم يكن على وثيقة حق، وأما اليمين بالله فقد أخذنا حكمها مطلقاً فلا حاجة إلى إعادتها. وفي بعض النسخ (سواهما) بضمير التثنية فيجعل اليمين بالله مطلقاً قسماً واحداً، ويجعل ما كان على وثيقة حق مطلقاً قسماً واحداً، ويجعل ما كان على وثيقة حق مطلقاً قسماً واحداً، مثال اليمين التي على وثيقة حق، كما لو استُحلِف من عنده وديعة

ص: 317

فأنكرها وحلف ما له عنده وديعة، ونوى حاضرة معه، وكما مثل المصنف بقوله:(مِنْ شَرْطٍ فِي نِكَاحٍ) كما إذا عقد النكاح على أنه إن تسري عليها فعليه التصدق بثلث ماله، ثم تسري عليه حبشية، وقال: نويت من غير الحبش، فلا تفيده تلك النية. ونحو البيع الأكرية وسائر العقود.

وقوله: (وَتَاخِيرِ أَجَلٍ بدَيْنٍ)[242/ب] أي: من كان له دين على غريم فطالبه، فطلب الغريم التأخير وحلف ليقضينه إلى أجل، فاليمين على نية الطالب لا الغريم.

ثُمَّ الَّتِي عَلَى نِيَّتِهِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ مُطْلَقاً وَهُوَ الطَّلاقُ وَالْعِتْقُ دُونَ مَا سِوَاهُمَا، فَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ النِّيَّةَ وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ أَوْ بَيِّنَةٌ أَوْ إِقْرَارٌ لَمْ تُقْبَلْ نِيَّتُهُ، فَإِنْ تَسَاوَيَا قُبِلَتْ بِيَمِينٍ

يعني: أن اليمين التي على نية الحالف، على ما تقدم على ضربين:

الأول: أن تكون فيما يقضي فيه بالحنث، وهو الطلاق والعتق خاصة، والكلام الآن فيه.

والثاني: ما لا يقضي فيه بالحنث كاليمين بصلاة أو صيام، وسيأتي الكلام عليه.

وقوله: (مِمَّا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ مُطْلَقاً) يحتمل أن يعود على الطلاق، ويحتمل أن يعود عليه وعلى العتق، ومعناه الإطلاق في الطلاق؛ أي: سواء كان منجزاً أو معلقاً والزوجة في الملك أو قبله واحدة أو أكثر، وفي العتق سواء كان منجزاً أو معلقاً كاملاً أو مبعضاً أو آيلاً إليه كالتدبير ونحوه، إلا أنه يشترط في ذلك أن يكون في رقبة معينة، وغير المعينة لا يقضي بها كما إذا قال: إن فعلت كذا فعليَّ عتق رقبة، فإنه إذا حنث لا يقضي عليه بها.

وقوله: (دُونَ مَا سِوَاهُمَا) أي: من سائر القرب والعطايا كالصلاة والصوم والهبات والصدقات.

ص: 318

وقوله: (فَإِنْ خَالَفَ) يقتضي أن اللفظ ليس نصّاً في مدلوله؛ إذ لو كان كذلك ما افترق الحكم. وإذا ثبت أن اللفظ لابد أن يكون محتملاً، فإن كانت النية موافقة لظاهر اللفظ قبلت في القضاء والفتيا، وهذا مأخوذ من كلامه بالمفهوم.

ابن المواز: وأم ما تقبل فيه النية في القضاء والفتيا فمثاله أن يحلف لزوجته بطلاق من يتزوج في حياتها، أو يكون ذلك شرطاً في أصل نكاحها، فتَبِين منه، ثم يتزوج ويقول: نويت ما كانت تحتي فيصدق، ومثل الذي يعاتب زوجته في دخول بعض قرابتها إليها، فتحلف بحرية عبدها لا دخل علي أحد من أهلي، فلما مات قالت: نويت ما كان حيّاً، فذلك لها في القضاء وإن قامت عليها بينة، وإن كانت نيته مخالفة لظاهر اللفظ كما إذا قال لامرأته- بعد أن طلقها طلاقاً رجعياً-: إن راجعتك فأنت طالق، وقال: إنما أردت رجعتها في العدة؛ لأن ظاهر لفظه أنه لا يرتجعها أبداً، فلا يقبل منه ما ادعاه من نية إذا رفع الأمر إلى الحاكم، وهو مراده بقوله:(وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ) وقامت عليه بينة أو أقر بذلك. وحاصله أن الرفع لابد منه في عدم القبول بشرط أن يكون مع ذلك أحد شيئين: إما البينة أو الإقرار لما يجب على الحكام من إجراء الأمور على ظواهرها، وسيأتي إذا لم تكن مرافعة.

خليل: والمثال الذي ذكره ابن راشد كذلك ذكره ابن المواز، وفيه نظر؛ لأن العرف ند الناس في المراجعة إنما هو في العدة فكان ينبغي أن تقبل نيته مطلقاً؛ وكأنهم أخذوا المراجعة بالمعنى اللغوي.

وقوله: (فَإِنْ تَسَاوَيَا) أي: أمكن أن يكون قصد باللفظ الصادر عنه ما ادعى أنه نواه، وأمكن ألا يقصد على حد سواء قبلت نيته في القضاء وأحرى في الفتيا، وهذا يتصور في تقييد المطلق أو تبيين أحد محامل المشترك. ابن راشد: ومثال الأول أن يقول: أحد عبيدي حر، ويقول: أردت فلاناً، ومثال الثاني: أن يقول: عائشة طالق، وله زوجتان اسم كل واحدة منهما عائشة. ووقع في بعض النسخ بإثر (قبلت بيمين)

ص: 319

(وهو مما تردد فيه الشيوخ)، وهو من أيمان التهم. ابن عبد السلام: والأقرب هنا توجيهه احتياطاً لحق الله تعالى.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً قُبِلَتْ مِثلُ: لا أَفْعَلُ كَذَا وَيُرِيدُ شَهْراً، أَوْ لا آكُلُ سَمْناً وَيُرِيدُ سَمْنَ ضَأَنٍ، أَوْ لَا وَطِئْتُهَا وَيُرِيدُ بقَدَمِي

هذا قسيم قوله: (وَثَمَّ مُرَافَعَةٌ

إلخ) لأن الإشارة بذلك إلى المرافعة مع البينة أو الإقرار؛ أي: وإن لم تكن مرافعة قبلت نيته؛ إذ لا يحتاج إلى اليمين في صحة ذلك؛ لأن النظر في توجيه الأيمان مما يختص بالحكام. قال في البيان في باب طلاق السنة: ولا خلاف في عدم اليمين هنا، والأمثلة الثلاثة التي ذكرها المصنف أعني قوله:(لا أَفْعَلُ كَذَا وَيُرِيدُ شَهْراً، أَوْ لا آكُلُ سَمْناً وَيُرِيدُ سَمْنَ ضَانٍ، أَوْ لَا وَطِئْتُهَا وَيُرِيدُ بقَدَمِي).

كذلك ذكرها ابن المواز وزاد: إذا قال لامرأته: أنت طالق أو أنت طالق ألبتة إن راجعتك، فأراد أن يتزوجها بنكاح جديد وقد خرجت من العدة، وقال: إنما نويت ما دامت في عدتها، فإن كانت على يمينه بينة لم أُدَيِّنه، وإن لم تنك عليه بينة دَيَّنته، وقيل: إنما معنى هذا إذا جاء مستفتياً بلا مخاصمة ولا مرافعة، أما إذا جاء بالمرافعة فسواء كانت على أصل يمينه بينة أو لم تكن، والإقرار كالبينة. وكذلك من قال: حليمة طالق وكانت له جارية وزوجة تسميان بذلك، وقال: نويت جاريتي، فله نيته في الفتوى. وإما في القضاء فإن قامت عليه بينة، أو حلف به على وثيقة حق فلا تنفعه نيته. وأكثر هذا في المدونة. انتهى.

وعلى هذا فقوله: (فإَنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً .... إلخ) أحد شي المسألة المتقدمة؛ أعني قوله: (وَإِنْ خَالَفَ فِيهِمَا ظَاهِرُ اللَّفْظِ النِّيَّة) لأن الجميع قد خالف [243/أ] فيهما ظاهر اللفظ النية، وهناك روفع إن قامت عليه بينة أو إقرار، وهنا لم يرافع وكان الأولى أن يؤخر قوله:(وَإنِْ تَسَاوَيَا قُبِلَتْ) لأن هذه المسألة على ثلاثة أقسام: منها ما يقبل في الفتيا دون القضاء، وهو ما خالفت النية فيه ظاهر اللفظ، ومنها ما

ص: 320

يقبل في الفتيا والقضاء، وهو ما إذا تساويا كما تقدم، ومنها ما لا يقبل في الفتوى ولا في القضاء وهو ما إذا قال: امرأتي طالق وأمتي حرة ويريد الميتة. وسيأتي هذا القسم الثالث من كلام المصنف.

ثم في تعبير المصنف بقوله: (وَكَانَ احْتِمَالاً قَرِيباً) نظر لإيهامه أنه غير الوجه الأول، فإن قلت: هل ما ذكر المصنف في قول الحالف: لا وطئتها، وقال: أردت بقدمي مخالف لما قاله في المدونة في باب الإيلاء ونصه: وإن قال: والله لا أطؤك فلما مضت أربعة أشهر وقف وقال: أردت لا أطؤها بقدمي، قيل له: إن وطئت بان صدقك وأنت في الكفارة، اعلم إن شئت فكفره وإن شئت فدع. قيل: لا مخالفة بينهما؛ لأن المصنف إنما قبل منه النية حيث لا مرافعة، وكلامه في المدونة مع المرافعة، وإنما ذكرت هذا؛ لأن ابن عبد السلام زعم أن ما ذكره المصنف في هذا المثال بعيد لرجحان لفظ الوطء عرفاً في الجماع، ثم استشهد على بعده بحكمه على ذلك في المدونة بحكم المولي، ثم في قوله:"لرجحان لفظ الوطء عرفاً في الجماع" نظر؛ لأن هذه المسائل كلها مما خالف فيها ظاهر اللفظ النية.

فرع:

قال في المدونة فيمن حلف لا يبيع عبده فأمر غيره ببيعه: أنه يحنث ولا ينوي. وقال محمد: ينوي، وفيها فيمن حلف ليضربن عبده فأمر من ضربه: بر، وإن حلف لا يضربه فأمر من ضربه حنث، إلا أن ينوي ضربه بنفسه.

اللخمي: فنواه في الضرب إذا أمر من ضربه؛ لأن من السادات من يطمَّع عبده بمثل ذلك لئلا يهرب، أو غير ذلك من العذر، وإلى هذا أشار التونسي وتأول مسألة البيع على أن يمينه كانت مما يقضي عليه فيه بالحنث، فإنه قال: فإن حلف ليضربن عبده فأمر غيره بضربه بر؛ لأن الناس إنما يقصدون بهذا إيلام العبد لا أنه يضربه بيده. وإن حلف لا ضربته فأمر غيره فضربه حنث لأن القصد عدم الإيلام وقد وجد. وإن حلف لا باع ولا

ص: 321

اشترى، فأمر غيره ففعل، قال: يحنث، ولعله يريد إذا كانت يمينه بالطلاق وعليه بينة، وإن كان ظاهر كلامه في المدونة خلافه. انتهى. وحكى في التنبيهات عن بعضهم أنه جعل ما قاله في البيع مخالفاً لما قاله في الضرب، والأول أظهر، والله أعلم.

بخِلافِ امْرَأَتِي طَالِقٌ، وَجَارِيَتِي حُرَّةٌ وَيُرِيدُ الْمَيْتَةَ، وَمِثْلُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، وَقَالَ: أَرَدْتُ الْكَذِبَ

أي: فلا تقبل نيته في الحكم ولا الفتوى نص على ذلك في المدونة؛ لأنه إن أراد الإنشاء فواضح إذ الإنشاء يستدعي وجود محل الطلاق والحرية، والميتة لا تصلح لذلك، وإن أراد الخبر فهو إخبار بما لا فائدة فيه.

ابن عبد السلام: إلا أن تعرض هنالك قرينة حالية أو مقالية توجب صدقه فيصدق، كما في غير مسألة. انتهى. وأما "أنت حرام" فمحمول على الإنشاء، ولا يحتمل الإخبار إلا ببعد، وإذا كان محمولاً على الإنشاء فلا يقبل منه دعوى الكذب؛ فإنه من عوارض الخبر فقط. ونص في المدونة على مسألة "أنت حرام" في كتاب التخيير.

فِي مِثْلِ الْحَلالُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَيُرِيدُ غَيْرَ الزَّوْجَةِ-قَوْلانِ

قد تقدمت، وكأنه إنما كررها لمناسبتها المحلين، وأما المحل المتقدم فلأنها كالاستثناء بالنية. وأما هنا فلمخالفة ظاهر اللفظ النية، وقد يفعل المصنف مثل ذلك في كتابه كما في السبي بهدم النكاح، فإنه ذكره في الجهاد والنكاح وغير ذلك من الأمثلة.

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَبِسَاطُ الْيَمِينِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَعْرُوفِ

يعني: فإن عدمت النية، ولم يضبطها الحالف، وكانت اليمين مما ينوي فيها، فإنه ينتقل إلى البساط، وهو السبب الحامل على اليمين، وليس بانتقال عن النية في الحقيقة، وإنما هو لما كان مظنة النية عدل إليه تحريماً على النية. ومقابل المعروف تقديم مقتضى اللفظ

ص: 322

على البساط حكاه اللخمي واعترضه ابن بشير وقال: لا ينبغي أن يختلف في تقديم البساط قال: ولا يحلف حالف معتقداً لليمين إلا وله نية وإنما يمكن أن ينساها فيكون البساط دليلاً على ما قصد وفيه نظر.

وفي المقدمات: اختلفوا إذا لم تكن له نية، وكانت ليمينه بساط، وعرف من مقاصد الناس في أيمانهم خلاف ظاهر لفظه، هل تحمل يمينه على البساط، أو ما عرف من مقاصد الناس في أيمانهم، أو على ظاهر لفظه؟ ثلاثة أقوال معلومة في المذهب والأشهر منها مراعاة البساط، ثم القصد العرفي، ثم ظاهر لفظه في اللغة؛ فإن كان محتملاً في اللغة لوجهين فأكثر فعلى أظهر محتملاته، وإن لم يكن أحدهما أظهر جرى ذلك على الاختلاف في المجتهد تتعارض عنده الأدلة، فقيل: يأخذ بما شاء، وقيل: بالأثقل، وقيل: بالأخف، ولأجل تقديم البساط قلنا فيمن حلف لا يشرب ماءاً لمن امتنَّ عليه بما يأخذ منه: أنه يحنث ولو بخيط [243/ب] يخيط به.

فَإِنْ فُقِدَا حُمِلَ عَلَى الْقَصْدِ الْعُرْفِيِّ، وَقِيلَ: عَلَى اللُّغَوِيِّ، وَقِيلَ: عَلَى الشَّرْعِيِّ

أي: النية والبساط والمشهور تقديم العرفي ثم اللغوي، وهذه الأقوال حكاها ابن بشير، ثم أشار إلى أنه لا ينبغي أن تحمل هذه الأقوال على الخلاف، وإنما ينبغي أن يراعى في كل حالف ما يغلب عليه، والمشهور أظهر إن جاءت الأقوال على الخلاف؛ لأن العرف غالب قصد الحالف، قال في المقدمات بعد ذكر الخلاف في تقديم البساط والفظ: وهذا في المظنون وأما المعلوم كقوله: والله لأقودنَّ فلاناً كانقياد البعير، أو لأرينه النجوم في النهار، فهذا يعلم أن القصد به خلاف اللفظ، فيحمل على ما يعلم من قصده بلا خلاف.

فائدة:

قال القرافي وغيره: العرف المعتبر هو العرف القولي وأما العرف الفعلي فلا اعتبار به، مثال القولي: والله لا ركبت دابة والعادة أنه تطلق الدابة على الحمار. ومثال الفعلي: أن

ص: 323

يحلف لا آكل خبزاً، وعادت أكل خبز البر، فإنه يحنث بخبز الشعير والذرة، وإن لم يأكله قطُّ. وقال ابن عبد السلام: ظاهر مسائل الفقهاء اعتبار العرف وإن كان فعلياً.

فَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لا يُقْضَى فِيهِ بالْحِنْثِ فَنِيَّتُهُ إِنْ كَانَ قَرِيباً ثُمَّ عَلَى مَا تَقَدَّمَ

هذا هو الضرب الثاني؛ يعني: وإن كانت اليمين بغير العتق والطلاق، فإن كانت بالله تعالى أو صيام أو صدقة قبلت منه نية الاحتمال القريب المخالف لظاهر اللفظ والمساوي، ومفهوم كلامه أنه لا يفهم منه إرادة الاحتمال البعيد، والذي ذكره التونسي قبول نيته في هذا القسم مطلقاً، فقال: إن لم يكن بساط حملت يمينه على ظاهر ألفاظ الحالف، إلا أن يدعي نية فيصدق فيما نوى فيه فيما بينه وبين الله تعالى. انتهى.

وهذا هو الظاهر لأنه إنما حمل على الظاهر فيما يقضي فيه بالحنث؛ لما يجب على الحكام من إجراء الأمور على ظواهرها، ولا نظر للقاضي هنا. وقوله:(ثُمَّ َعَلَى مَا تَقَدَّمَ) أي: فإن عدمت نظر إلى البساط ثم للقصد العرفي، ثم الشرعي.

وَإِذَا كَانَ اللََّفْظُ شَامِلاً لِلْمُتَعَدِّدِ مُحْتَمِلاً لأَقَلَّ وَلأَكْثَرَ حَنِثَ بالأَقَلِّ، وَبِالبَعْضِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يَبَرَّ إِلا بالْجَمِيعِ اتِّفَاقاً، مِثْلَ: لا أَكَلْتُ رَغِيفاً، وَلا كَلَّمْتُهُ، وَلَا جَامَعْتُكُنَّ وَلأُجَامِعُكُنَّ

مراده أن اللفظ إذا دل على جمع فإنه يدل على أقل الجمع ويحتمل أكثر، وليس مراده العدد؛ لأنه نص لا احتمال فيه، ومثل بمثالين ليعود الأول منهما على الأول، والثاني على الثاني.

ابن راشد: وهذه العبارة منتقدة؛ لأن لفظ الرغيف إنما يتناول المجموع وإطلاقه على البعض مجاز، بل من باب التعبير بالجزء عن الكل، وما دل حقيقة لا يقال فيه إنه محتمل لأقل أو أكثر والذي ينبغي أن يقال إذا كان اللفظ ظاهراً في الأكثر محتملاً في الأقل.

ابن عبد السلام: وقد يقال إنما يرد هذا إذا كان الاحتمال إنما يقع مع التساوي، وليس بظاهر، بل الاحتمال تارة يكون راجحاً وتارة يكون مرجوحاً، وتارة يكون مساوياً وكلام

ص: 324

المصنف المتقدم يوضحه. والمشهور- كما قال- أنه يحنث بالبعض، ومقابل المشهور حكاه في الكافي عن ابن لبابة أنه لا يحنث إلا بالجميع وخرجه ابن الجلاب على قوله: أنه لا يبر إلا بالكل وهو قول الشافعي، وأما في البر فذكر المصنف الاتفاق على أنه لايبر إلا بالجميع وخرج فيه ابن الجلاب قولاً ببراءته بالبعض من الحنث بالبعض، ووُجِّه المشهور بوجوه:

أولها: أن القصد العام في الحالف على عدم لأكل التجنب، ومن فعل البعض لم يتجنب.

ثانيها: أن الحالف على عدم الأكل يجري مجرى التحريم، والتحريم يقع بأدنى سبب ألا ترى أن الأم تحرم بالعقد، وتحرم المرأة به على آباء الزوج وأبنائه، والحالف على الأكل يجري مجرى الإباحة وهي لا تحصل إلا بالنهاية إذ لا تحل المبتوتة بالعقد، وإنما تحل بالوطء. وهذا الدليل للشيخ أبي محمد، ورُدَّ بعدم اطراده فإن البنت لا تحرم بالعقد على أمها، وأجيب بأن الغالب التحريم بالأقل، فوجب الحمل عليه.

ثالثها: أنَّا اجتمعنا نحن والشافعي على أنه إذا قال: والله لا كلمت زيداً ولا عمراً ولا خالداً أنه يحنث بكلام واحد، ولا فرق بين هذا وقوله: والله لا كلمت زيداً وعمراً وخالداً، ولا تكرار حرف النفي وهو مضمر مع الواو فلا فرق بين إظهاره وإضماره، وهذا الدليل للمصنف ذكره القرافي ورد بأنا لا نسلم أن إعادة حرف النفي من باب التأكيد، بل من باب التأسيس فإنه مع حذفه يحتمل الحلف على كلامهم مجتمعاً ومفترقاً، ومع ثبوته يتناول اليمين كل واحد من الأمرين، فوجب الحنث بفعل كل واحد منهما، وهو الذي ذكره في معنى حرف النفي نص عليه السهيلي، فمن الجائز أن يذهب الشافعي ومن وافقه في عدم التحنيث بالبعض إلى هذا المذهب، قال في المقدمات فيمن حلف لا يأكل هذا الرغيف: حنث بأكل بعضه إلا إذا كانت له نية أو بساط يدل على إرادة استيعاب جميعه. ومن حلف ليأكلن هذا الرغيف لم يبر إلا بأكل جميعه إلا أن تكون له نية أو بساط يدل على إرادة البعض. انتهى.

ص: 325

واختلف الشيوخ هل يرتفع الخلاف إذا أتى بلفظة كل، وهي طريقة ابن بشير، أو هو باقٍ؟ وإليه ذهب الأكثر وهي الصحيحة. فإن مالكاً نص في الموازية على الحنث بالبعض فيمن حلف قال: والله لآكل [244/أي هذا القرص كله، وللتحنيث بالبعض قال ابن القاسم بالحنث فيمن قال امرأته طالق إن صلى ركعتين أنه إن صلى ركعة واحدة أو أحرم ثم قطع، وكذلك يمينه: لا أصوم غداً فبيت الصيام حتى طلع الفجر، فقد حنث وإن أفطر. وكذلك قال أصبغ في الحالف لا يلبس لامرأته ثوباً فلما أدخل طوقه في عنقه عرفه نزعه، أو حلف لا ركب دابة فلان، فأدخل رجله في الركاب واستقل عن الأرض وهمَّ أن يقعد على السرج ثم ذكر فنزع، فروى ابن وهب أنه حانث، قال: ولو ذكر حين استقل من الأرض ولم يستو عليها فلا شيء عليه لأنه لا يبر إلا بالجميع. قال في الموازية في الحالف ليقرأن القرآن اليوم أو سورة كذا فقرأ ذلك ثم ذكر أنه أٍقط حرفاً: فإن علم أنه يسقط مثل ذلك فلا حنث عليه وله ما نوى، وإن جاء بما لا يعرف من الخطأ الكثير أو ترك سورة فهو حانث، وقال مالك فيمن حلف ليتزوجَنَّ على امرأته امرأة يمسكها سنة، فتزوج امرأة أمسكها أحد عشر شهراً ثم ماتت، فقال: يتزوج غيرها ويبتدئ السنة. وقال سحنون: يجزئه أن يحسبها بقية السنة.

وَالتَّمَادِي عَلَى الْفِعْلِ كَابْتِدَائِهِ فِي الْبرِّ وَالْحِنْثِ بِحَسَبِ الْعُرْفِ، فَيَنْزِعُ الثَّوْبَ، وَيَنْزِلُ عَنِ الدَّابَّةِ، وَلا يَحْنَثُ فِي دَوَامِهَ فِي لا أَدْخُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَلِكَ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ وَهِيَ عَلَيْهِ

قوله: (بحَسَبِ الْعُرْفِ) أي: ينظر إلى العرف؛ فإن كان دوام الفعل كابتدائه في العرف، كاللبس في الثوب والركوب في الدابة، حنث لأن الدوام كالإنشاء في العرف، ومثاله في البر لو قال: لألبسنَّ هذا الثوب أو لأركبن الدابة، فإنه يبرأ بالدوام، ولا يشترط في ذلك الدوام في كل الأوقات بل بحسب العرف فلذلك لا يحنث بالنزول ليلاً، ولا في

ص: 326

أوقات الضرورات ولا بنزع الثوب ليلاً، وإنما لم يحنث إذا حلف ألا يدخل هذه الدار وهو فيها بدوامه فيها؛ لأن المكث فيها لا يسمى دخولاً عرفاً، ومقابل المشهور لأشهب.

وقوله: (وَكَذَلِكَ: إِذَا حِضْتِ أَوْ طَهُرْتِ) مثاله لو قال: إذا حاضت فعلي صدقة دينار أو والله إذا حاضت لأدخلن الدار، فلا يلزمه ذلك بحيض هي عليه، وإنما يلزمه بحيض مستأنف، وأما لو علق الطلاق على الحيض بأن يقول إذا حضت فأنت طالق، فإنه ينجز على المشهور كما سيأتي.

وَالنِّسْيَانُ فِي الطَّلاقِ كَالْعَمْدِ عَلَى الْمَعْرُوفِ، وَخُرِّجَ الْفَرْقُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنْ حَلَفَ بالطَّلاقِ لَيَصُومَنَّ يَوْمَ كَذَا فَأَفْطَرَ نَاسِياً فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ

اليمين إن قيدت كما لو قال: والله لا أدخل الدار عمداً، أو لا أدخل الدار إلا أن أنسى، فالاتفاق على أنه لا يحنث بالنسيان، وإن أطلقت فالمعروف من المذهب الحنث بالنسيان. وذهب السيوري وابن العربي في جمع من المتأخرين إلى عدم الحنث، وخرج أيضاً من قول مالك في العتبية في الحالف بالطلاق ليصومن يوماً معيناً، فأصبح فيه صائماً، ثم أفطر فيه ناسياً أنه لا شيء عليه، فظاهره أنه لا حنث عليه، وكذلك فهمه جماعة من المتأخرين وإليه أشار بقوله:(وَخُرِّجَ الْفَرْقُ) أي: بين العمد والنسيان في أنه يحنث في العمد دون النسيان، ورد لعله يريد: لا قضاء عليه، وهو أحد الأقوال في النذر المعين كما تقدم.

وَلا يَتَكَرَّرُ الْحِنْثُ بِتَكَرُّرِ الْفِعْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِثْلُ: كُلَّمَا، وَمَهْمَا، وَفي مَتَى مَا اضْطِرَابٌ، أَوْ قَصَدَ إِلَيْهِ، أَوْ كَانَ الْقَصْدُ الْعُرْفِيُّ كَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ الْوِتْرَ فَإِنَّهُ يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ التَّرْكِ، وَكَمَنْ قَالَ: إِنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ فَأَمْرُكِ بِيَدِكِ

أي: إذا وقع الحنث بأول الفعل ثم فعل ذلك مرة ثانية لم يتكرر عليه الحنث، وهذا كقوله في المدونة: ومن حلف أن لا يكلم فلاناً عشرة أيام وكلمه فيها حنث، ثم كلمه فيها مراراً قبل أن يكفر لم يلزمه إلا كفارة واحدة. انتهى.

ص: 327

وقوله: (مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظِّ) يعني: أنه إذا كان لفظٌ يدل على التكرار حنث بالتكرار كـ"كلما" و"مهما"، ومذهب المدونة في "متى ما" و"إذا ما" و"أبداً" أنها لاتقتضي التكرار إلا أن ينوي بها معنى "كلما". وجعل ابن بشير "متى ما" مثل "كلما" وإليه أشار بقوله:(وَفِي مَتَى مَا اضْطِرَابٌ).

وقوله: (أَوْ قَصَدَ إِلَيْهِ) معطوف على قوله: (مَا لَمْ يَكُنْ لَفْظٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ) أي: لا يحكم فيه بالتكرار ما لم يكن لفظ يدل عليه أو قصد إليه، أو يكون مقصوده العرفي كمن عوتب في تركه الوتر فحلف إن تركه فعليه التصدق بدينار، فإنه يلزمه التصدق كلما تركه؛ لأن العرف يقتضي بهذه اليمين أن يكون الوتر له عادة.

وقوله: (وكمن قال لزوجته) معطوف على قوله: (كَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ الْوِتْرَ) والمأخذ فيهما واحد؛ لأن قصد المرأة لايتم إلا بذلك، وحكى في البيان في مسألة الوتر وشبهها قولين وبناهما على اختلاف الأصولين في الأمر المقيد بصفة: هل يقتضي تكراره بتكرار الصفة أم لا؟ ابن عبد السلام: ولو قصد التكرار بما لا يقتضيه، كما لو قصده بان، فهو شبيه بما لو قصد طلاقاً باسقني الماء.

هَذَا فِي أَصْلِ الْمَذْهَبِ فِي الأَيْمَانِ وَلْنَذْكُرِ الْفُرُوعَ تَانِيساً عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ وَالْبسَاطِ

يعني أن ما قدمه هو أصل المذهب وهو كافٍ لمن اقتصر عليه، ولكن قصد المصنف أن يذكر فروعاً يتأنس بها، وتستعمل تلك الأصول فيها ليظهر لك بالفعل ما كان حاصلاً بالقوم، ثم إن هذه الفروع [244/ب] إنما احتيج إليها إذا فقدت النية والبساط، وأما إن وجدا فالعمل عليهما، وعن سحنون: إذا لم يكن لليمين بساط فاهرب عنها.

فَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ غَداً فَقَضَاهُ الآنَ بَرَّ بِخِلافِ طَعَامٍ يَاكُلُهُ غَداً وَنَحْوِهِ

هكذا قال في المدونة، زاد فيها: إذ الطعام قد يخص به اليوم، والغريم إنما القصد فيه القضاء.

ص: 328

اللخمي: وقد يتصور في الطعام ما يتصور في القضاء، كما لو طلب من مريض شرب دواء واستنجز منه ذلك، فوعد إلى غد فتوثق منه باليمين، ثم وجد في نفسه طلباً له، ويتصور في القضاء أيضاً ما يتصور في الطعام، وذلك إذا كان الّمطْل مقصوداً في العرف.

خليل: وينبغي على القول بتقديم مراعاة الفظ على البساط والمقصد العرفي أن يحنث هنا، والله أعلم.

وَمَنْ حَلَفَ لا يَاكُلُ فَشَرِبَ سَوِيقاً أَوْ لَبَناً حَنِثَ بخِلافِ الْمَاءِ.

هكذا قال ابن بشير وابن شاس وعللاه بأن القصد العرفي في التضييق على نفسه، حتى لا يدخل في بطنه طعام، واللبن والسويق من الطعام. قالا: ولو كان قصده الأكل دون الشرب لم يحنث. وفي العتبية عن ابن القاسم في الحالف لا يتعشى لا حنث عليه في السحور، وقول ابن عبد السلام في هذا الفرع والذي قبله: أن الجواب فيهما على اعتبار البساط ليس بظاهر؛ لأن الفرض كما قال المصنف عدمهما.

وَمَنْ دَفَنَ مَالاً فَبَحَثَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَجِدْهُ فَحَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنَّكِ أَخَذْتِهِ، ثُمَّ وَجَدَهُ حَيْثُ دَفَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الأَصَحِّ

عبر ابن عبد السلام عن الأصح بالمشهور، وعدم الحنث لمالك في الواضحة، وبه قال ابن دينار، وقال في العتبية بالحنث فيمن وضع دراهم في بيته فلم يجدها، فاتهم بها زوجته وحلف بالطلاق ما أخذها غيرك، ثم وجدها تحت مصلاه كان رفعها ونسي. وأشار اللخمي إلى أنه اختلاف.

خليل: ومنشأ الخلاف: هل يراعى المقصد العرفي فلا يحنث أو ظاهر اللفظ فيحنث؟ فإن قلت: فلم لا جعلت المنشأ: هل يراعي بساط اليمين فلا يحنث أو ظاهر اللفظ فيحنث كما فعل اللخمي وغيره؟ قلت: لأن كلام المصنف ينافيه؛ إذ فرض المسألة مع عدم النية

ص: 329

والبساط. وكلام ابن بشير يقتضي أن الخلاف إنما هو منصوص فيما إذا وجده تحت مصلاهن وقوله: ومن هذا القبيل أن يدفن مالاً ثم ينساه فيبحث عليه فلا يجده، ويحلف لزوجته أنكِ أخذتِهِ ثم يجده حيث دفنه، أنه لا حنث عليه. قالوا: لأن قصده أنه من يأخذه غيرها، ومقتضى اللفظ وجوب الحنث. وحكوا قولين فيمن رفع مالاً ثم نظره، فلم يجده فحلف لزوجته كالأول، ثم وجده عند مصلاه.

أحدهما: الحنث نظراً إلى مقتضى اللفظ، والفرق بين هذه والأولى: حصول التفريط في هذه.

والثاني: لا حنث عليه نظراً إلى المقاصد، وكلام المصنف يأتي على كلام اللخمي، والله أعلم.

وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدُ عَدَداً سَمَّاهُ، فَجَمَعَ أَسْوَاطاً وَضَرَبَهُ بِهَا لَمْ يَبَرَّ عَلَى الأَصَحِّ

لأن القصد من هذه اليمين الإيلام وذلك غير حاصل. ونص مالك فيمن حلف يضربن عبده مائة سوط، فضربه خمسين بسوط له رأسان على الحنث. اللخمي: والقياس أن يبر بمنزلة ما لو ضربه رجلان خمسين وكان ضربهما معاً. ولعل هذا مقابل الأصح، ولم أر غيره، وفي قياس اللخمي نظر؛ لأن الألم في ضرب الرجلين أكثر بخلاف السوط الذي له رأسان. واحتج له ابن بشير بقوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِهِ وَلَا تَحْنَثّ ([ص: 44] وهو يتوقف على أن شرع من قبلنا شرع لنا، ولو ثبت ذلك لجاز أن يكون ذلك خاصاً بتلك المرأة، وعلى المشهور يستأنف المائة في مسألة الجمع، ويجتزئ بخمسين في مسألة مالك في الرأسين، قاله التونسي.

ص: 330

وَمَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ غَرِيمَهُ إِلَى أَجَلٍ فَقَضَاهُ فَاسْتُحِقَّ بَعْدَهُ، أَوْ بَعْضُهُ، أَوْ وُجِدَ مَعِيباً أَوْ زُيُوفاً حَنِثَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ ....

ما ذكره المصنف هو كذلك في المدونة، ولا إشكال في الحنث إذا كان الدافع عالماً بذلك حين القضاء، وأما إن لم يعلم ففي المدونة: يحنث. قال المصنف: (وَهُوَ مُشْكِلٌ) لأن القصد أنه لا يماطل، وقد فعل.

اللخمي: والحنث على مراعاة الألفاظ ولا يحنث على القول الآخر؛ لأن قصده ألا يلدَّ، قيل: وإنما يحنث إذا استحق العين بعد الأجل، إذا قامت البينة على عين الدنانير والدراهم على القول بأنها تتعين، وأما على القول بأنها لا تتعين، أو لم تقم بينة فلا حنث عليه مطلقاً، أما إذا استحقت بعد الجل فلم يأخذها المستحق، فقال ابن كنانة: لا يحنث، وقال ابن القاسم: يحنث، وقال: وكل شيء لو قام صاحبه أخذه مكانه ووفاه ساعته أنفذ.

وصرح ابن بشير بالاتفاق على الحنث إذا لم يحز المستحق وفيه نظر، فقد ذكر في البيان ثالثاً: أنه لا يحنث وإن لم يحز المستحق؛ لأن الأجل ما مضى إلا وقد قضى الغريم حقه، ودخل في ضمانه. التونسي: وكذلك يجري القولان لو باعه بالدين بيعاً يجب نقضه لفساد، فينقض بعد الأجل، أو رد بعيب، قال: وقد اختلف فيمن حلف ليبيعن عبده إلى أجل فباعه وانقضى الأجل فرد بعيب، فقيل: قد بر لأن الأجل قد مضى، وقد كان قبل أن يرد معيباً، وقيل: يحنث لأنه لما نقض فكأنه لم يبعه وقد فات الجل فلا يقدر على بيعه إلا [245/أ] أن يرد عليه قبل مضي الأجل فيبيعه في بقية الأجل. وقيل: إن كان عالماً بالعيب حنث إن مضى الأجل، يريد لأنه لما دلس دخل على أن البيع لم يتقرر بخيار المشتري، وإن لم يدلس بر.

ص: 331

فرع:

قال ابن القاسم في المجموعة فيمن اشترى ثوباً على أن يدفع كل يوم قيراطاً وحلف على ذلك، ففسدت الفلوس وصارت فلسين بفلس، وكان الفلس فلساً – قال: يعطيه كما كانت؛ لأنه على ذلك حلف.

وَلَوْ قَضَاهُ عَنِ الْعَيْنِ عَرْضاً لَمْ يَحْنَثُ، وَكَرِهَهُ

الضمير في كرهه عائد على مالك، والكراهة رجع إليها مالك، ففي المدونة: ولو أعطاه قضاء من حقه عرضاً يساوي ما عليه لو بيع لبر، ثم استثقله مالك. ابن القاسم: وبأول قوليه أقول. واختلف في علة الكراهة، فقال اللخمي: لأن الظاهر في اللفظ يقتضي إعطاء العين. وقيل: خشية ألا تفي قيمة العرض به.

التونسي بعد ذكر القولين: ومثل ذلك لو أقاله وكانت سلعته التي رجعت إليه تساوي الآن ما بيعت به لأن ذلك كأخذ العرض.

تنبيه:

وهذا إذا حلف ليقضين فلاناً حقه، وأما إن حلف ليقضين فلاناً دنانيره، فهو أقوى في الكراهة نص عليه اللخمي وغيره، ونقله ابن بشير عن جماعة الأشياخ.

فَلَوْ وَهَبَهُ لَهُ حَنِثَ

لعدم حصول القضاء. اللخمي: وهذا على مراعاة الألفاظ، وأما على مراعاة القصد فلا يحنث؛ لأن القصد ألا يكون منه لدد، وعلى الحنث فهل يحنث بنفس قبول الهبة، وإن لم يحل الأجل، وإليه ذهب ابن حبيب وأصبغ، أو لا يحنث حتى يحل الأجل ولم يقضه الدين؟ ولو قضاه إياه بعد القبول وقبل حلول الأجل، لم يحنث، وهو ظاهر قول مالك وأشهب.

ص: 332

فرع:

قال ابن القاسم في العتبية في الحالف على قضاء الحق ثم شهد له عدلان بالقضاء: لا ينتفع بذلك في اليمين حتى يقضيه ثم يرد إليه، وكذلك إذا طلبه غريمه بمال عنده، وقد كان قضاه قبل اليمين فأنكر الطالب، فحلف المطلوب ليقضينه في غد، ثم ذكر الطالب أنه كان قضاه أو أبرأه قال: لا يبرأ حتى يقضيه، ثم يرد إليه. قال مالك في العتبية: ومن استلف من أخيه دراهم، وحلف ليقضينه إلى شهر، فمات المسلف والمستلف وارثه، فاستحسن أن يأتي الإمام فيقضيها له ثم يردها إليه، وعن ربيعة ومالك أن الوراثة كالقضاء، ذكره ابن عبدوس وكله محافظة على اللفظ وإلا فالبساط يقتضي عدم الحنث.

وَلَوْ بَاعَهُ بِهِ بَيْعاً فَاسِداً، فَإِنْ فَاتَتْ قَبْلَ الأَجَلِ وَفِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَإِلا حَنِثَ، وَإِنْ لَمْ تَفُتْ فَقَوْلانِ ....

أي: فاتت بما يفوت به البيع الفاسد، ولم يحنث مع الفوت إذا كانت قيمتها مساوية؛ لأن المبتاع ملكها حين الفوت ولزمته قيمتها، فتلك القيمة المساوية للدين قضاء عنه وإن لم تكن مساوية حنث؛ لكونه لم يقضه. وإليه أشار بقوله:(وإلا حنث) وإن لم تفت حتى مضى الأجل، فقال سحنون: يحنث، وقال أشهب وأصبغ: لايحنث، وبه قال اللخمي إذا كانت القيمة مساوية. نظراً إلى أنه قد حصل بيده عوض حقه، ورأى سحنون أن العوضية الشرعية لم تحصل.

وَلَوْ غَابَ بَرِّ بقَضَاءِ وَكِيلِهِ، وَإِلا فَالْحَاكِمُ، وَإِلا فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ

أي: فلو غاب المحلوف على قضائه بر الحالف بإعطائه الدين لوكيل صاحبه، سواء كان وكيلاً مفوضاً أو على التقاضي. وأما وكيل الضيعة ففي المدونة: وإن قضى وكيلاً له في ضيعة ولم يوكله رب الحق بتقاضي دينه أجزأه.

ص: 333

عياض: ظاهره سواء كان بالبلد سلطان أو لم يكن؛ وعلى هذا الظاهر اختصرها بعضهم، واختصرها آخرون بأنه لا يبر بدفعه إليه إلا عند عدم السلطان أو الوصول إليه. وقد حكى محمد القولين جميعاً. انتهى.

وألحق أبو عمران الصديق الملاطف بوكيل الضيعة. وأشار ابن عبد السلام إلى أن كلام المصنف إنما يحمل على الوكيل المفوض أو على التقاضي، ولا يصح حمله على كل وكيل ليدخل وكيل الضيعة؛ لأن كلامه يقتضي تقديم الوكيل على الحاكم، وهو لا يصح لفظاً ولا معنّى.

أما الأول: فلأن وكيل الضيعة مخصوص، والاتفاق على أن الوكيل المخصوص لا يتعدى نظره القدر الذي جعل له النظر فيه، وأن حكمه فيما عدا ذلك كحكم الأجنبي؛ فإذا أطلق لفظ الوكيل حمل على الوكيل الذي جعل له ذلك إما بخصوصية كالوكيل على التقاضي، وإما بما يتناوله مع غيره كالمفوض إليه.

وأما الثاني: فلو كان الأمر كما ذكره لما صح الدفع إلى الحاكم إلا عند عدم وكيل الضيعة كما في الوكيلين المذكورين، ولا نعلم خلافاً أن وكيل الضيعة متأخر عن وجود الحاكم العدل، إلا ما أشار إليه بعض الأندلسيين في فهم المدونة، وفيه نظر. انتهى.

وقوله: (وَإِلا فَالْحَاكِمُ) أي: وإن لم يكن أحد الوكيلين أو كان وغاب، فالحاكم يريد سواء كان عدلاً أو مجهول الحال فإنه يقضيه، ويبرأ من الدين ويبر في يمينه، نص عليه محمد.

وإن كان معلوم الجور يخشى منه أكل المال، وعلم ذلك الدافع، بر في يمينه لا من الدين.

محمد: وإن لم يعلم ذلك من الإمام فلا ضمان عليه.

اللخمي: وأرى أن يضمن ولا يبر؛ لأن الدين في ذمته. [245/ب] وقد أخطأ على نفسه فإن تعذر الوصول إلى الحاكم العدل، أو لم يكن عدل، أو ما كان حاكم بالكلية، فجماعة المسلمين.

ص: 334

ابن عبد السلام: وظاهر كلامه أنه يدفع الحق إليهم، والمنقول هنا عند عدم الحاكم يشهد الحالف جماعة المسلمين على إتيانه بالحق، ويعلمون اجتهاده في الطلب، فيكونون شهوداً ليتخلص من يمينه ولا يبرأ من الدين بهم؛ إنما هم كالحاكم في البر لا في البراءة. وكذلك قال مالك في الموازية وغيرها، فيما إذا لم يجدوا وكيلاً على الحق ولا سلطاناً مأموناً، ودفع لأهل الطالب أو لوكيل ضيعته أو أجنبي أنه يبرأ؛ ولكنه يضمنه حتى يصل إلى ربه. قال: وإن وجد وكيلاً بالحق أو سلطاناً مأموناً لم يبرأ بالدفع إلى غيرهما، وقاله أشهب. ولم يتكلم المصنف على الإبراء من الدين، وإنما تكلم على البر؛ لأنه أليق بكتاب الأيمان. وكلام المصنف يقتضي أنه لو أعطى لجماعة المسلمين مع وجود الحاكم لم يبر، وهو مذهب الموازية على ما تقدم. ابن المواز: وقد قيل: إنه لو دفعه إلى بعض الناس بغير عذر من السلطان وأشهد لم يحنث.

فروع:

الأول: إذا أشهد على الحق كما تقدم، ثم جاء الطلب بعد الأجل فمطله لم يحنث. نص عليه سحنون؛ لأن الزمان الذي تناولته اليمين قد انقضى ولم يحنث فيه.

الثاني: عكس هذا لو غاب الحالف أو مرض أو حبس، فقضى عنه بعض أهله، أو غيرهم من ماله أو من مال الغائب، فقال ابن الماجشون: يبر. وقال ابن القاسم: لا يبر.

اللخمي: وهو أبين إذا تأخر عن القدوم للقضاء عمداً. ابن القاسم في العتبية: وإن قضاه وكيل الحالف بغير أمره لم يبر.

ولو جن الحالف فقضى عنه الإمام في الأجل بر، وإن لم يقض عنه حتى مضى الأجل لم يحنث عند ابن حبيب خلافاً لأصبغ.

الثالث: قال في المدونة: وإن حلف لرجل لأقضينك حقك إلى أجل إلا أن تشاء أن تؤخرني فمات الطالب، فإنه يجزئه تأخير ورثته إن كانوا كباراً، أو وصيه إن كان ولده

ص: 335

أصاغر ولا دين عليه. وإن كان عليه دين لم يكن لوصي أو وارث تأخير مع الغرماء، ويجزئه تأخير الغرماء إن أحاط الدين بماله على أن تبرأ ذمة الميت.

وَمَنْ حَلَفَ لا فَارَقَ غَرِيمَهُ إِلا بحَقِّهِ فَفَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يُفَرِّطَ، وَلا فَارَقْتَنِي وَفَارَقَ حَنِثَ ....

أي: إن فرط حنث اتفاقاً، وإن لم يفرط فالمشهور وهو قول ابن القاسم في المدونة: الحنث. وقال ابن المواز: لا يحنث ويحلف بالله ما هذا الذي أراد إذا أكره.

اللخمي: وجواب محمد على مقتضى اللفظ، وجواب ابن القاسم على أنه قصد التضييق عليه حتى يأخذ حقه وقد فات ذلك. انتهى. وزاد في المدونة- بعد حكه عليه بالحنث-: إلا ن يكون قوله: لا أفارقك كالقائل: لا أتركه إلا أن يفر أو أغلب عليه، فلا شيء عليه.

ابن عبد السلام: واستحسن الشاذ لوجهين:

أولهما: أنه أجري على الأصل، إذ الغريم أكرهه على الفرار.

الثاني: أنه ذكر في المدونة أثر هذه المسألة إذا قال لامرأته: أنت طالق إذا قبلتك أو ضاجعتك، فقبلته أو ضاجعته من ورائه وهو نائم، لم يحنث إلا أن يكون منه استرخاء لها وفي كل منهما قد حلف على ترك الفعل وقد أكره على ذلك الفعل. وأجيب عن الأول بأن الكلام محمول على معناه، وكأنه حلف لأضيقن عليه تضييقاً يمنعك من الفرار حتى أقبض حقي، فيكون حلفه على ثبوت الفعل ما هو كذلك لا أثر للإكراه فيه على المشهور، وعلى الثاني لا نسلم أنه صدر من النائم تقبيل ألبتة. وذكر أبو عمر الإشبيلي أن الشيوخ كانوا يقيمون من مسألة الفرار من شرط لامرأته في العقد إذا غاب أكثر من ستة أشهر فأمرها بيدها، فغاب أكثر منها مكرهاً فإنها يقضي لها بالشرط، إلا أن يستثني الإكراه. وأقام أيضاً بعضهم من قوله: إلا أن يكون

إلخ. أن الاستثناء لا تجزئ فيه النية، اللهم إلا أن تحمل المدونة على المحاشاة.

ص: 336

قوله: (ولا فارقني وفارق) أي: يحنث باتفاق كحلفه على فعل البر.

فرع:

فلو أحاله على غريم له ففي المدونة يحنث.

ابن يونس: قال بعض فقهائنا: وإذا حلف ألا يفارقه وله عليه حق فأحاله بحقه، ثم افترقا فلا حنث عليه؛ لأنه فارقه ولا حق عليه للحوالة الواقعة بينهما، قال: وهو منصوص لأهل المذهب وليس كمن حلف ألا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه. ابن يونس: والظاهر أنهما سواء؛ لأنه إذا فارقه ولا حق عليه فقد استوفى حقه.

وَمَنْ حَلَفَ لا يَتْرُكُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئاً، فَأَقَالَ وَفِيهِ وَفَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ أَخَّرَ الثَّمَنَ فَقَوْلانِ

لأنه إذا أقاله وفيه وفاء لم يترك شيئاً، وهل يكره ذلك أم لا؟ فيه ما تقدم من الخلاف، والذي رجع إليه مالك الكراهة، واختار ابن القاسم نفيها. وإن لم يكن فيه وفاء يحنث بلا خلاف قاله في البيان ابن أبي حازم. في المدونة: إلا أن يكون حلف ألا يضع له، وهو ينوي الإقالة، فإن نوى أن يقيل ولا يضع فلا شيء عليه. وقال ابن القاسم: لا [246/أ] تنفعه النية إلا أن يكون تكلم بها حين حلف. قال في البيان: وقول ابن القاسم صحيح لأن الاستثناء لابد فيه من التلفظ باتفاق. وهذه المسألة من ذلك، وكأنه قال: لا أضع عنك من ثمنها شيئاً إلا أن أقيلك منها.

ابن عبد السلام: وهذا إذا كانت الإقالة بعد حلول الأجل، وأما إن كانت قبل حلوله، فقال ابن القاسم وأشهب: إن كان رأس المال مثل ثمن الطعام الذي في الذمة لم يحنث. وفسره ابن أبي زيد بأن يكون مثل قيمته يوم الإقالة.

قوله: (فَإِنْ أَخَّرَ الثَّمَنَ فَقَوْلانِ) اختار اللخمي نفي الحنث إذا أنظره بالثمن؛ أي: لأنه يعد حسن معاملة، لا إسقاطاً من الحق، ولأن العرف في هذه اليمين إنما يراد بها ترك

ص: 337

شيء من نفس الثمن. واختار ابن عبد السلام الحنث؛ لأن حقه في الدين وتعجيله، ألا ترى أن الأجل له حصة من الثمن، وهذا القول رواه ابن وهب عن مالك. قال في البيان: ولو حلف ألا ينظره فوضع عنه لم يحنث. ولا أعلم في ذلك خلافاً.

وَمَنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ فَمَاتَ، أَوْ لَيَذْبَحَنَّ حَمَامَةً فَمَاتَتْ لَمْ يَحْنَثْ إِلا أَنْ يُفَرِّطَ، فَلَوْ سُرِقَتْ أَوْ غُصِبَتْ أَوِ اسْتُحِقَّتْ فَقَوْلانِ، وَلَوْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّهَا فَوَجَدَهَا حَائِضاً فَقَوْلانِ، وَلَوْ وَطِئَهَا فَقَوْلانِ

اعلم أن من حلف ليفعلن شيئاً فتعذر فعله، فإما أن يكون الفعل مؤقتاً أو لا. ابن بشير: فإن كان غير مؤقت بأجل؛ فإن فرط حتى تعذر الفعل فلا خلاف أنه حانث، وإن بادر فلم يمكنه الفعل فكما لو كان مؤقتاً. انتهى.

والمؤقت ينقسم تعذره إلى ثلاثة أقسام: إما أن يكون عقلاً أو عادة أو شرعاً. العقلي كتعذر ذبح الحمام المحلوف بذبحها؛ إذ الذبح في الميت يتعذر، فلا خلاف منصوص أنه لا يحنث، وخرج اللخمي قولاً بالحنث من المتعذر شرعاً. وأما العادي فكما لو حلف ليذبحن الحمامة غداً فسرقت أو غصبت أو استحقت، فذكر المصنف أيضاً قولين. ومذهب المدونة الحنث. وأما الشرعي فكما لو حلف ليطأنه الليلة فوجدها حائضاً أو ليبيعن الأمة فوجدها حاملاً، وذكر المصنف أيضاً قولين، ومذهب المدونة: الحنث. ونص سحنون في مسألة البيع على عدم الحنث.

ووقع لابن القاسم وابن دينار فيمن حلف ليطأن امرأته الليلة فقام فوجدها حائضاً، إن فرط قدر ما يمكنه الوطء قبل أن تحيض حنث، وإن لم يفرط فلا شيء عليه اختاره ابن حبيب.

ابن يونس: قال بعض أصحابنا: وإنما فرق ابن القاسم بين الموت والسرقة والبيع؛ لأن الفعل في الميت لا يمكن ألبتة، بخلاف السرقة والبيع؛ لأن الفعل يمكن ومنع الشرع منه، والعادة لا تمنع بعض الحالفين من قصده فلا يعذر بفعل السارق ونحوه لأن من أصل ابن القاسم لا يعذر بالإكراه والغلبة إلا أن ينوي ذلك.

ص: 338

ابن بشير: وهذا الخلاف إنما هو إذا أطلق اليمين، وأما لو نص فقال: سواء قدرت على الفعل أم لا فلا يختلف في حنثه. ولو قال: إنما أحنث إذا أمكنني فلم أفعل، فلا يختلف في نفي حنثه.

قوله: (وَلَوْ وَطِئَهَا فَقَوْلانِ) أي هل يبر أم لا؟ بناءً على حمل اللفظ على المفهوم اللغوي وقد وجد، أو الشرعي وهو لم يوجد، وأيضاً فهل المنوع شرعاً كالمعدوم حساً أم لا؟ أما لو حلف ألا يطأها فوطأها حائضاً فنص ابن دينار على أنه يحنث، ولا ينبغي أن يختلف فيه. وحكى اللخمي وغيره في بر الحالف ليأكلن هذا الطعام فتركه حتى فسد ثم أكله قولين: الحنث لمالك من رواية ابن نافع قال: لأنه خرج عن الطعام وعدمه لابن القاسم. ابن القاسم: وإن حلف لزوجته لتأكلِنَّ هذه البضعة فخطفتها هرة، فشقت جوفها فأكلتها، أنه لا يحنث إلا أن لا يكون بين أخذ الهرة إياها وبين يمينه قدر ما يتأتى أخذها.

وقال أشهب وابن دينار- في الحالف ليشترين لزوجته بهذا الدينار ثوباً، فخرج به لذلك فسقط منه-: فإن كان أراد الدينار بعينه فقد حنث، وإن أراد الشراء به أو بغيره فليشتر بغيره ولا يحنث.

وَلَوْ حَلَفَ لا أُعِيرُهُ فَوَهَبَهُ، أَوْ لا أَهَبُهُ فَأَعَارَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ حَنِثَ

قال في المدونة: ومن حلف لا يهب فلاناً هبة فتصدق عليه حنث، وكل هبة بغير ثواب فهي كالصدقة، وكذلك كل ما نفع به من عارِيَّة أو غيرها إلا أن تكون له نية في العارِيَّة؛ لأن أصل يمينه على المنفعة. وفي العتبية في امرأة حلفت في عبد لها لتبيعنه ولا تهبه، فأرادت أن تتصدق به على ولدها، فقال: لا يعجبني ذلك، وأرى هذا على نحو الهبة. قال في البيان: هذا كما قال وهو بين؛ لأن الهبة تعتصر والصدقة لا تعتصر، فإذا حنث بالهبة فالصدقة أحرى أن تحنث بها، ولا تنوي في ذلك إن ادعت نية، وكانت يمينها مما يحكم به عليها. ولو حلفت ألا تتصدق به فوهبته لابنها- وهو ممن لها أن تعتصر منه – فادعت أنها إنما حلفت على الصدقة من أجل أنها لا تعتصر، لوجب أن تنوي في ذلك. انتهى.

ص: 339

أما إن لم يكن اعتصار فلا تنوي فيما بين الصدقة والهبة مطلقاً، وتنوي إن حلفت عليها في العارِيَّة. ابن الماجشون: وإن حلف ألا يصل رجلاً حنث [246/ب] بالسلف والعارِيَّة وكل منفعة. ابن حبيب: وإن حلف لا أسلفه لم يحنث إن أعاره أو وصله، فقد يكره السلف للمطل إلا أن ينوي قطع منافعه عنه. وفي الموازية: الحنث فيمن حلف لا نفعه بمنافعه ثم أوصى له ورجع عنها وصح فقد حنث، ولو وجده مع رجل يشتمه فنهاه عنه فلا يحنث، فلو وجده متشبثاً به فمنعه منه حنث، ولو أثنى عليه عند من أراد مناكحته أو مبايعته لأجل ذلك حنث، وكذلك إن أثنى عليه سوءاً عند من أراد قبول حمالته فتركه إن أراد بذلك صرف الحمالة عنه ونفعه بذلك حنث، وإلا فلا حنث عليه بذلك.

وَلَوْ حَلَفَ لَا آكُلُ لَحْماً أَوْ بَيْضاً أَوْ رُؤُوساً فَفِي حِنْثِهِ بلَحْمِ الْحِيتَانِ وَبَيْضِهَا وَرُْوسِهَا قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ

ما ذكره عن ابن القاسم هو في المدونة، قال: إلا أن تكون له نية، وقال أشهب في المجموعة: لا يحنث في اللحم والرؤوس إلا بلحم الأنعام والأربع ورؤوسها إلا أن ينوي اللحوم كلها. وفي نقل المصنف عنه في البيض قصور، فإنه قال: يحنث في كل بيض استحساناً. والقياس قصر يمينه على بيض الدجاج، واختار الحذاق قول أشهب لجريانه على العرف، واعتبر ابن القاسم عموم اللفظ، وناقضه التونسي بقوله: إذا حلف ألا يدخل عليه بيتاً لا يحنث بالمسجد.

ابن يونس: وأرى أن النية تنفعه على القول الأول، وإن كانت يمينه بطلاق وعليه بينة. وعورض قول ابن القاسم وأشهب هنا بقولهما فيمن وكل رجلاً يشتري له ثوباً فاشترى ما لا يليق بالآمر فإن ابن القاسم قال: إنه غير لازم للآمر، ورأى أشهب لزومه له، فراعى ابن القاسم العرف في الوكالة دون الأيمان، وعكس أشهب. وأجيب بأنه لا يلزم من اطِّراد العرف في وجه أو في مسألة اطَّراده في مثل ذلك لجواز جريان العرف في أحدهما دون الآخر. والقياس لا يجزئ في المسائل العرفية.

ص: 340

ابن الماجشون: ومن حلف لا آكل اللحم فإنه يحنث بما يأكل من الشاة من كرش أو أمعاء أودماغ أو غيره. ابن حبيب: وإن حلف لا آكل خبزاً حنث بأكل الكعك، وإن حلف لا آكل كعكاً لم يحنث بأكل الخبز؛ لأن هذا أخص والأول أعم. وفي كتاب ابن المواز: وإن حلف لا يأكل غنماً حنث بالضأن والمعز؛ لأن الاسم يجمعهما، فإن حلف على أحدهما لم يحنث بالآخر للاسم الأخص به، وكذلك من حلف ألا يأكل دجاجاً فأكل دجاجة أو ديكاً حنث للاسم الجامع، وإن خص أحدهما فحلف على ديك لم يحنث بالدجاجة، وكذلك على العكس. وحاصله أن من حلف على الأعم يحنث بالأخص دون العكس.

وَكَذَلِكَ لا آكُلُ خُبْزاً فَأَكَلَ نَحْوَ الإِطْرِيَةِ وَالْهَرِيسَةِ وَالْكَعْكَ

نحوه لابن شاش، وظاهره أنه يحنث بذلك عند ابن القاسم، لا عند أشهب.

ابن عبد السلام: ولم أقف لأشهب في ذلك على شيء. ونص ابن حبيب على الحنث بالخشكنان في الحالف لا آكل خبزاً.

لَا يَاكُلُ عَسَلاً فَأَكَلَ عَسَلَ الرُّطَبِ

قال في الجواهر: ولو حلف لا آكل عسلاً فأكل عسل الرطب، فالمنصوص لابن القاسم يحنث إلا أن تكون له نية، أجرى الشيخ أبو محمد على مذهب أشهب نفي الحنث. ويقع في بعض النسخ عوض (الرطب)(القصب)، وهو إنما يأتي في غير بلاد مصر التي فيها عسل القصب قليل كبلاد المغرب. وأما المصري فينبغي أن يحنث بعسل القصب اتفاقاً لأنه المعروف عندهم.

وَمِنْهُ لَوْ حَلَفَ لا أُكَلِّمُهُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلاةِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: لا خِلافَ فِيمَا يُخْرَجُ بِهِ مِنَ الصَّلاةِ

أي: ومن الأصل المختلف فيه فيحنث عند ابن القاسم ولا يحنث عند أشهب، والمنقول هنا عن ابن القاسم في المدونة عدم الحنث. قال فيها: لأن السلام لا يعد كلاماً.

ص: 341

اللخمي: ومن حلف لا أكلم فلاناً فسلم عليه حنث، وإن كانا في صلاة لم يحنث الحالف بالتسليمة الأولى كان الحالف إماماً أو مأموماً، واختلف في التسليمة الثانية، فقال مالك في المدونة: لا حنث على الحالف إذا كان مأموماً فرد على الإمام. وقال في كتاب محمد: يحنث، وقال أيضاً: إن كان الإمام الحالف فسلم تسليمتين حنث.

وقال ابن ميسر: لا يحنث. وهذا الخلاف إذا كان المأموم عن يسار الإمام وأسمعه؛ لأن ثانية الإمام يشير بها إلى اليسار، فلم يحنث بالأولى؛ لأن القصد بها الخروج من الصلاة وهو الذي يعرفه الناس في المراد بها، وحنث بالثانية على القول بمراعاة الألفاظ، ولأن السلام كلام، ولم يحنث على القول بمراعاة المقاصد. انتهى. فتحصل لنا من كلامه الاتفاق على عدم الحنث في الأولى، كما نقل المصنف عنه. وكذلك صرح في البيان بالاتفاق على دم الحنث بالتسليمة الأولى، وأن الخلاف في الإمام والمأموم إذا سلم على يساره، والمحلوف عليه على اليسار وأسمعه.

فروع:

الأول: قال ابن المواز: وإذا تعابي الحالف فلقنه المحلوف عليه لم يحنث، وأما إذا تعابى المحلوف عليه فلقنه الحالف فقد حنث. قال في البيان: ولا خلاف في ذلك. ابن عبد السلام: وقال بعض الشيوخ: واختلف في تحنيثه.

محمد بن عبد الحكم: وإن حلف لا [247/أ] تكلمت فقرأ القرآن لم يحنث.

الثاني: قال في المدونة: ولو سلم الحالف على جماعة وفيهم المحلوف عليه في ليل أو نهار حنث، علم به أو لم يعلم إلا أن يحاشيه.

ابن المواز: ولو مر على المحلوف عليه وحده في ليل وهو ينوي إن كان غيره فقد حنث، ولا ينفعه ما نوى إلا أن يكونوا جماعة فيحاشيه، قال: ولو رأى بعض القوم فسلم على من رأى منهم، أو سلم عليهم فلم ير معهم المحلوف عليه، لم يحنث؛ لأنه إنما سلم على من عرف، وأما إن لم يعرفهم أو لم يعرف إلا بعضهم فسلم على الجميع ولم يحاشه فقد حنث.

ص: 342

الثالث: لو حلف لا أكلمه فأشار إليه، ففي العتبية: لا يحنث، وقال ابن الماجشون: يحنث.

الرابع: لو حلف لا أكلمه ثم أتبع كلامه بشيء يدل على تأكيد اليمين، فهل يحنث به أم لا؟ قال ابن القاسم بالحنث فيمن قال لزوجته: إن كلمتك حتى تفعلي كذا فأنت طالق اذهبي الآن، وقال ابن كنانة وأصبغ: لا يحنث.

وقال ابن القاسم: وقضى لي فيها مالك على ابن كنانة. وناقض أصبغ قول ابن القاسم في هذه المسألة بما قاله في أخوين حلف كل منهما لا كلم الآخر حتى يبدأه الآخر، أنه ليست يمين الثاني تبدية بالكلام، وقاله ابن كنانة، وذهب سحنون وابن نافع إلى أن يمين الثاني تبدية بالكلام، وقد انحلت اليمين عن الأول، ثم يبدأ الأول فيكلم الثاني ثم يكلمه الثاني إن شاء ولا شيء عليه. وأجيب بأن قوله: فاذهبي الآن بعد قوله: لا كلمتك إنما يظهر أثره في التحنيث وهو يكون بالأقل، وأما مسألة الأخوين فإنما تظهر ثمرة كلام أحدهما للآخر في البر. ومقصود كل منهما إنما هو إظهار الاستغناء عنه مقابلاً لذلك الترفه، وهو ضد الانكسار.

وفي العتبية عن ابن القاسم فيمن حلف لآخر بالطلاق لا كلمتك حتى تبدأني فقال له الآخر: إذاً والله لا أبالي، فليس ذلك تبدية، وهو مثل قوله في مسألة الأخوين، وله أيضاً في العتبية والمجموعة: إن كلمتني حتى تقولي لي إني أحبُّكَ فأنت طالق، فقالت: عفا الله عنك نعم أنا أحبك، فقد حنث، وهذا مثل قوله في الأولى: فاذهبي الآن.

وَفِيهَا: وَلَوْ حَلَفَ لا كَسَا امْرّأَتَهُ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ وَنِيَّتُهُ أَنْ لا يَكْسُوَهَا إِيَّاهُمَا جَمِيعاً حَنِثَ بوَاحِدٍ، وَهُوَ مُشْكِلٌ حَتَّى تَأَوَّلَ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ ....

تصور المسألة واضح، ووجه الإشكال بين؛ لأن حنثه مع أنه نوى خلاف ذلك والقاعدة أن النية مقدمة، ولقوة الإشكال عند المصنف قال:(حَتَّى تَأَوَّلَ عَلَى الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ) أي: لا يكسوها إياهما مجتمعين أو مفترقين، وهذا التأويل للشيخ أبي محمد

ص: 343

التونسي وغيرهما، وفيه نظر؛ لأنه خلاف ما يدعيه الحالف، وأشار ابن عبد السلام إلى أنه يمكن توجيه المسألة بما تقررأنه يحنث بالبعض؛ لأن غاية نية الجمع أن تجري مجرى التنصيص على ذلك، وغاية التنصيص عليه أن يجري مجرى التأكيد فيما إذا قال: والله لا أكلت هذا الرغيف كله، ولو قال ذلك لحنث بالبعض كما تقدم.

خليل: وفيه نظر؛ لأن ذلك إنما هو مع عدم النية، والله أعلم. والأظهر أن يحمل قول مالك على ذلك إذا كانت على يمينه بينة وروفع، وأما إذا جاء مستفتياً فينبغي أن يتفق على قبول ما ادعاه.

فرع:

الحالف لا يأكل خبزاً ولا إداماً، لا يحنث بأحدهما عند أشهب لأن العادة الجمع، بخلاف ما في المدونة.

ابن حبيب: الحالف لا يأكل فاكهة يحنث برطبها ويابسها من العنب والتمر والرمان والقثاء والبطيخ والجزر والفول والحمص والجلبان، إلا أن تكون له نية خص بها نوعاً، أو بساطاً يدل على ما ذكر، وذكر ابن المواز نحو قول ابن حبيب وقال: وإذا حلف لى رطبها ويابسها.

ابن يونس: وهو أجود إنما يحنث في اليابس إذا ذكره أبو محمد، وإن حلف ألا يأكل إداماً فما ثبت في معرفة الناس أنه إدام فلا يأكله، قال: ولا أرى ان الملح من الإدام، وإن ان بعض العلماء قاله وأحنثه به.

وَإِنْ حَلَفَ لَيَنْتَقِلَنَّ أُمِرَّ وَلَمْ يَحْنَثْ بِالْبَقَاءِ

يعني: ولم يقيد يمينه بمدة، وأما لو قيدها بزمان ومضى لحنث. نعم هو على بر إليه، وما ذكره المصنف هو كذلك في الواضحة، وفي الموازية فيمن سكن في منزل امرأته فمنت عليه فحلف بالطلاق لينتقلنَّ ولم يؤجل أجلاً فقال: إن أقام ثلاثة أيام يطلب منزلاً فلم

ص: 344

يجد أرجو ألا شيء عليه. قيل: فإن أقام شهراً، قال: إن توانى في الطلب حنث وليس بخلاف لما في هذا من بساط المنة.

ابن حبيب: وإذا انتقل وأقام قدر الشهر فله أن يرجع.

ابن الماجشون: ولا أحب له أن ينتقل على نية شهر، لكن على غير توقيت، ثم إن بدا له بعد شهر رجع. ومثل قول ابن الماجشون لمالك في العتبية والموازية، ولابن القاسم: إن رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إلي.

ابن الماجشون: وكذلك إن حلف ليخرجن فلاناً من داره فأخرجه، فله رده بعد شهر، وهذا كله إذا قصد ترهيب جاره ونحو ذلك، وأما إن كره مجاورته فلا يساكنه أبداً، وكذلك ينبغي في مسألة المنة انه إن رجع إليه حنث [247/ب].

تنبيه:

وقع في بعض النسخ: (ومن حلف لينتقلنَّ إلى أمد أُمِرَّ ولم يحنث بالبقاء) وهو الواقع في نسخة ابن راشد، قال: وذكره الأمد في مسألة (لَيَنْتَقِلَنَّ) لا يستقيم مع قوله بخلاف (لا سَكَنْتُ)، وإنما ذكر غيره المسألة بغير أمد.

خليل: وفيه نظر، والظاهر أنه لا فرق بنيهما، ووقع في نسخة ابن عبد السلام الأمد أيضاً، وفسرها على وجه آخر فقال: معناه أن الحالف على أن ينتقل من منزله أو داره إلى أمد، فله أن يمكث في ذلك المكان المحلوف عليه إلى أقرب انقضاء ذلك الأجل، وإنما يحنث بانقضائه.

بخِلافِ لا سَكَنْتُ مَا لَمْ يُبَادِرْ، وَفِي بَقَائِهِ دُونَ يَوْمِ وَلَيْلَةٍ قَوْلانِ

أي: فإنه يحنث ما لم يبادر؛ لأن دوام السكنى بحسب العرف سكنى. قال في المدونة: يخرج ولو في جوف الليل إلا أن ينوي إلى الصباح، وإن تغالوا عليه في الكراء ووجد منزلاً لا يوافقه فلينتقل إليه حتى يجد سواه، فإن لم يفعل حنث، وقال أشهب: لا يحنث بإقامة دون اليوم والليلة، وأصبغ لا يحنثه حتى يزيد على اليوم والليلة.

ص: 345

اللخمي: وما قاله في المدونة مبني على مراعاة اللفظ، ومن راعى العادة كان له أن يمهل إلى الصباح، واستحسن الفاسي قول أشهب وأفتى به لما في المدونة من الحرج.

التونسي: وانظر إذا حلف لا يساكنه فابتدأ في النقلة، فأقام يومين أو ثلاثة ينقل قشه لكثرته، ولأنه لا يتأتى نقله في يوم واحد، فينبغي ألا شيء عليه لأنه المقصود في اليمين. وانظر لو كان له في الدار مطامير وقد أكرى الدار، هل ينقل ما في المطامير؟ وينبغي- إن كانت المطامير لا تدخل في الكراء إلا باشتراط، وأن الناس يكرون المطامير وحدها لخزن الطعام – أن لا تدخل في اليمين، وأن له تركها إذا كان قد أكرى المطامير على الانفراد، ثم سكن أو سكن ثم أكرى، إلا ألا يثق بالمطامير أن تبقى إلا بمكان سكناه، فينبغي أن ينقلها مع قشه. انتهى.

وَلَوْ أَبْقَى رَحْلَهُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ إِلا فِيمَا لا بَالَ لَهُ

المشهور في المدونة، قال فيها: ويرتحل بأهله وولده وجميع متاعه فن أبقى متاعه حنثن والشاذ رواه أشهب. اللخمي: أراه تأول في ذلك قوله تعالى: (لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَعٌ لَّكُمْ ([النور: 29].

وقوله: (إِلا فِيمَا لا بَالَ لَهُ) أي: فلا يحنث على المشهور، كالمسامير والأوتاد، وكذلك نص عليه ابن القاسم في الموازية، زاد ابن وهب في العتبية إذا كان لا يريد الرجوع إليه، وتنازع الشيوخ: هل ابن القاسم موافق له على ذلك أم لا؟ أما لو ترك هذا اليسير ناسياً فقال ابن القاسم: لا يحنث، وحنثه ابن وهب. وفي الموازية: لابن القاسم: لو تصدق بمتاعه على صاحب المنزل أو غيره، فتركه المتصدق عليه في المنزل لم يحنث، وهو ظاهر إذا لم يطمع المتصدق بمكافأة المتصدق عليه، وأما إن طمع ففي ذلك نظر.

ص: 346

وَلَوْ حَلَفَ لا سَكَنَ فَخَزَنَ لَمْ يَحْنَثْ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ مِثَلَهَا

لفظ اللخمي: وكذلك إن حلف لا يسكنها فاختزن فيها حنث عند ابن القاسم ولم يحنث عند أشهب. وظاهره أن الخلاف منصوص، وحمله ابن بشير على أنه أجزاء منه، وقال: ولعل هذا لا يختلف فيه أنه لا يحنث؛ لأن الخزين إذا انفرد لا يعد سكنى. وإنما يعد ابن القاسم بقاء المتاع سكنى إذا كان تابعا ًلسكنى الأهل، وإذا انفرد لم يعده سكنى. انتهى. وكأن المصنف مال إلى كلام ابن بشير والأقرب فيها عدم الحنث؛ لأنه لا يقال في العرف في المختزن بموضع أنه ساكن فيه.

فرع:

قيل: وإن حلف ليسكننها لم يبر إلا أن يسكنها بنفسه ومتاعه وعياله.

اللخمي: وأرى أن يبر وإن لم يسكن بمتاعه.

وَلَوْ حَلَف لا آكُلُ مِنْ هَذَا الْقَمْحِ، أَوْ مِنْ هَذَا الطَّلْعِ، أَوْ مِنْ هَذَا اللَّحْمِ فَأَكَلَ خُبْزَهَ، أَوْ بُسْرَهُ، أَوْ مَرَقَتَهُ حَنِثَ

عبر بعضهم عن هذا الفصل بالحلف على ترك الأصول، هل يحنث بالفضول؟ وبعضهم بالحلف على ترك الأمهات هل يحنث بالبنات؟ وكأنهم رأوا أنه لَّما عرَّف وأتى باسم الإشارة ومن، فإنه قصد الا يأكل شيئاً من الأبعاض التي اشتملت عليها الماهية. وألحق في المدونة بالخبز السويق، واستحسن أشهب عدم الحنث بالبسر إذا حلف ألا يأكل من هذا الطلع لبعد البسر من الطلع في الاسم والمنفعة والطعم.

قال فيها: وإن حلف ألا يأكل من هذا اللبن فأكل من زبده أو جبنه إلا أن تكون له نية.

ولو حلف ألا يأكل من هذه الحنطة أو من هذا الطعام فلا يأكل ما اشترى بثمنها من طعام ولا ما أنبتت الحنطة إن نوى وجه المن، وإن كان لشيء في الحنطة من رداءة أو سوء

ص: 347

صنعة في الطعام لم يحنث بأكل ما ذكرناه. انتهى. وفهم التونسي من قوله: "إن نوى وجه المن" عدم الحنث مع عدم النية. وذكر ابن المواز في الحالف لا أكلت من هذا القمح، فزرعه وأكل ما أنبت قولين: أحدهما: لا يحنث كما لو اشترى بثمنه قمحاً فأكله، قال: إلا أن يريد التضييق على نفسه، والثاني: أنه إن كره رداءة الحب لم يحنث، وإن كره المن حنث، ونسب ابن عبدوس الأول [248/أ] لأشهب، والثاني لابن القاسم.

ابن ميسر: واختلف إذا حلف لا أكل من هذه الشاة فأكل من نسلها، وفي الموازية فيمن حلف لا آكل من هذه الغنم فلا بأس أن يأكل من جبنها أو سمنها، وكان القصد عند لا آكل من لحمها، ولا فرق بني قوله:(مِنْ هَذَا الطَّلْعِ) وبين قوله: من طلع هذه النخلة في التحنيث بالفرع، نعم بينهما فرق من وجه آخر، وهو أنه إذا حلف لا آكل من لبن هذه الشاة دخل فيه ما استخرج منها قبل يمينه أو بعده، قاله ابن القاسم، وله كذلك في المسألة الأخرى.

وَلَوْ قَالَ: قَمْحَاً أَوْ طَلْعاَ أَوْ لَحْماً، أَوِ الْقَمْحَ أَوِ الْقَمْحَ أَوِ الطَّلْعَ أَوِ اللَّحْمَ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمِشْهُورِ، إِلا أَنْ يَقْرَبَ جِدّاً كَالسَّمْنِ مِنَ الزُّبْدِ فَقَوْلانِ

إنما لم يحنث لعدم "من" التي هي دالة على التبعيض، وسواء نكَّر المحلوف عليه أو أتى بـ "هذا" أو عرفه بـ "ال"، ويكون مراده تعريف الماهية أو العموم، وأما إن أراد معهوداً فينبغي أن يقبل ذلك منه إذا كانت يمينه مما لا يقضي فيها بالحنث. وجعل المصنف المسألة على وجهين: إن لم يقرب جدّاً فلا حنث على المشهور، وإن قرب جدّاً فقولان وكأنهما متساويان عنده في الشهرة، وإلا لجعلهما مسألة واحدة، وذكر ثلاثة أقوال كعادته، وتبع في حكايته الخلاف في القسم الأول اللخمي، ورأى ابن بشير تعريته من الخلاف، وأن الخلاف إنما هو الثاني.

ابن المواز: ولم يرَ ابن القاسم الحنث بالمتولد إلا في خمسة أشياء: الشحم من اللحم والنبيذ من الزبيب، والعصير من العنب، والمرق من اللحم، والخبز من القمح قال: وما سوى

ص: 348

ذلك لا يحنث به إلا أن يقول منه أو تكون له نية أو سبب، وسواء عَرَّفَ أو نَكَّرَ أو أتى بلفظ الإشارة، فقال: هذا اللحم. قال في الذخيرة: وقد جمعهما الشاعر فقال:

أمراق لحم، وخبز قمح نبيذ تمر مع الزبيب

وشحم لحم وعصر كرم يكون حنثاً على المصيب

وقد علمت أن مذهب ابن القاسم أنه ينوي في الخمسة، وقاله ابن حبيب.

وقال ابن المواز: لا ينوي المرقة إذا حلف لا آكل لحماً.

ابن رشد: يريد مع قيام البينة فيما حكم به عليه. وحكى أبو الحسن عن ابن وهب أنه يحنث بالمتولد سواء نكر أو قال هذا أو عرف، وعن ابن القاسم انه لا يحنث بالمتولد فيهما، وعن ابن حبيب أنه إن عرَّف حنث بالمتولد لا إن نكَّر، وكذلك حكى اللخمي الأقوال الثلاثة، وعلى هذا فيتحصل في المسألة بقول ابن القاسم أربعة أقوال. وفي النكت: قال ابن حبيب: إذا حلف لا أكلت رطب هذه النخلة أو هذا الرطب، فإنه يحنث بأكل ثمره، وسواء عنده قال: من رطب هذه النخلة أو قال: رطبها، وسواء قال: من هذا الرطب أو الرطب.

عبد الحق: وهذا أقيس مما ذكره ابن المواز عن ابن القاسم فتدبره.

فَلَوْ قَالَ: هَذَا الْقَمْحَ، وَهَذَا الطَّلْعَ، وَهَذَا اللَّحْمَ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ

يعني: فإن عرَّف وأتى باسم الإشارة، فالمشهور الحنث بالمتولد للإشارة، والشاذ لابن المواز لتغيير الذات. ومنشأ الخلاف على هذا: هل تعتبر الإشارة أو العبارة؟ وما شهره المصنف لم أر من شهره غير ابن بشير، ذكر أنه المذهب، وفيه نظر؛ لأنه إنما هو معزو لابن حبيب. فإن قيل: فقد نص في المدونة على الحنث بالخبز فيما إذا قال: لا آكل هذا الدقيق أو هذه الحنطة وهو يدل لما قاله المصنف، قيل: هي إحدى الخمسة التي استثناها ابن القاسم، والأصل أن يكون ما قاله في المدونة والموازية متفقاً، وهو مقتضى كلام أبي الحسن فاعلمه.

ص: 349

وَأَمَّا الشَّحْمُ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى اللَّحْمِ بخِلافِ الْعَكْسِ

يعني: أن من حلف لا آكل لحماً يحنث بالشحم؛ لأن الشحم متولد عن اللحم، ومن حلف لا آكل شحماً لا يحنث باللحم؛ لأن اللحم ليس بمتولد عن الشحم، ولأن الله تعالى حرم لحم الخنزير فدخل الشحم وحرم على اليهود الشحم فلم يدخل اللحم. وتبرأ المصنف من هذا بقوله:(فَالْمَذْهَبُ) لأنهما في العرف مختلفان، والله أعلم.

وَأُحْنِثَ فِي النَّبيذِ إِذَا حَلَفَ عَلَى الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ لأنَّ فِيهِ جُزْءاً مِنْهُ

يريد: سواء حلف على العنب والتمر والزبيب بلفظ التنكير أو التعريف، نص عليه ابن المواز زاد ولا يحنث بأكل الخل، واستشكل التونسي التحنيث بالنبيذ؛ لأنه قال فيمن حلف لا يأكل لبناً فأكل زبداً أو حلف ألا يأكل زبداً فأكل سمناً أو حلف ألا يأكل رطباً فأكل تمراً أو حلف ألا يأكل بسراً فأكل رطباً أنه لا شيء عليه، وفي الموازية فيمن حلف ألا يأكل قصباً فلا بأس أن يأكل عسل القصب، قال: فما الفرق بين هذا وبين من حلف ألا يأكل تمراً فشرب نبيذه؟

وَلَوْ حَلَفَ عَلَى نَوْعٍ فَأُضِيفَ إِلَى غَيْرِهِ حَتَّى اسْتُهْلِكَ كَالْخَلِّ يُطْبَخُ لَمْ يَحْنَثْ عَلَى الْمَشْهُورِ ....

يعني: إذا حلف على نوع ما ولم تكن له نية في كونه خالصاً أو مخلوطاً، فخلط ثم أكله، فالمشهور مذهب المدونة قال فيها: لا يحنث إلا أن يريد طعاماً بخل. ومقابله لأصبغ وسحنون وابن المواز، وهو أقرب؛ أي: لأن الخل يؤكل هكذا وقل ما يؤكل خالصاً. سحنون: ولو حلف لا آكل زعفراناً فأكل طعاماً فيه زعفران حنث؛ لأنه الوجه في أكله.

ص: 350

فَلَوْ لَتَّ السَّوِيقَ بالسَّمْنِ ولَمْ يَجِدْ طَعْمَهُ حَنِثَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ وَجَدَهُ حَنِثَ اتِّفَاقاً ....

مقابل [248/ب] المشهور لابن ميسر. ابن عبد السلام: وأشار بعضهم إلى أنه مقيد للمشهور لا خلاف. وفي الموازية قول ثالث: وإن كان سبب يمينه مضرة السمن حنث لأنه يتقي منه ما يتقي من الخالص، وإن كان قيل له: إنك تشتهي السمن ولا تصبر عنه، فحلف عند ذلك، فلا شيء عليه إن أكل سوياً لُتَّ به.

فإن قلت: هذه المسألة تعارض مسألة الخل، قيل: الفرق أن الخل بعد طبخه لا يتحصل منه خل ألبتة، بخلاف السمن لو سكب عليه ماء لتحلل من السويق.

وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ الأَيَّامَ حَنِثَ أَبَداً، وَكَذَلِكَ الشُّهُورَ عَلَى الأَصَحِّ، وَقِيلَ: سَنَةٌ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً}

إذا حلف لا أكلم فلاناًً حنث متى ما كلمه طالت المدة أو قصرت، وهو مراده بقوله:(أبداً) وإن حلف لا أكلمه الشهور فكذلك؛ لأنه جمع محلي بـ "ال" فيفيد العموم، ومقابل الأصح ذكره اللخمي واحتج له بالآية التي ذكرها المصنف ولاحجة فيها؛ لأن المقصود من الآية: أن عدة شهور السنة عند الله اثنا عشر شهراً، ولا أزيد كما يفعله أهل الجاهلية في النسيء، والأيمان يجب الرجوع فيها إلى العرف.

اللخمي: وإن حلف لا يكلمه الأيام لم يكلمه الأبد؛ لقول الله سبحانه: (بِمَا أسْلَفْتُمْ في الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ) وعلى القول في الحالف على المشهور تجزئه شهور السنة، تجزئ الحالف هنا أيام الجمعة السبعة. انتهى. وقيل: لا يكلمه ثلاثة أيام.

وَلَوْ حَلَفَ لَيَهْجُرَنَّهُ فَكَذَلِكَ، وَقِيلَ: ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، وَقِيلَ: شَهْراً

قوله: (فَكَذَلِكَ) أي: فيحنث أبداً. ابن عبد السلام: ولم أقف على هذا القول بعد البحث عنه، والقول بالشهر في الموازية، والقول بالثلاثة في العتبية والواضحة؛ حملاً ليمينه

ص: 351

على الهجران الشرعي، وأشار اللخمي إلى أنه ينظر إلى عادتهما، فإن كانت عادتهما كثرة التَّكالُم اكتفى بالثلاثة؛ لأنها تعد مقاطعة، وإن كانت عادتهما قلة التَّكالُم لم يبرَّ بذلك، ولا بد من مدة يريان ذلك تقاطعاً.

ابن الماجشون وغيره: ولو كلمه بإثر يمينه لم يحنث، وليس عليه أن يهجره عقب يمينه، ومتى هجره بعد ذلك بر، بخلاف ما لو حلف لا كلمه فإنه إن كلمه إثر يمينه حنث.

واختلف إذا حلف ليطيلن هجرانه، فقال محمد: يهجره سنة. وقيل: شهر يجزئه.

اللخمي: وقول محمد احتياط ليس أنه لا يجزئه دون ذلك، فإن كان بينهما مصادقة فالشهر طول، وإلا فالشهر قليل.

وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ أَوْ لَيَهْجُرَنَّهُ أَيَّاماً، أَوْ شُهُوراً، أَوْ سِنِينَ، فَالْمَنْصُوصُ: أَقَلُّ الْجَمْعِ، وَخَرَجَ الدَّهْرُ لأَنَّهُ الأَكُثَرُ

قوله: (أَقَلُّ الْجَمْعِ) أي: فيكلمه بعد ثلاثة أيام وثلاثة شهور وثلاثة سنين ولا حنث عليه، وعبر ابن عبد السلام عما عبر عنه المصنف بالمنصوص بالمشهور، قيل: وعلى قول من قال: إن أقل الجمع اثنان، يكفيه هنا اثنان، وأنكره في البيان وقال: لا ينبغي أن نعوِّل على هذا وإن كان هو مذهب مالك في أن الاثنين من الإخوة يحجبان الأم من الثلث إلى السدس؛ لقوله تعالى: (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِهِ السُّدُسُ)[النساء: 11]؛ لأن الأيمان يجب حملها على العرف.

وقوله: (وَخَرَجَ الدُّهْرُ) أي: البد من قول من قال: إن اليمين إذا احتملت أقل وأكثر أنه لا يبر إلا بالأكثر، وهذا التخريج لابن بشير ورده ابن هارون بأن أيام جمع منكر فلا يمكن حمله على العموم بوجه. وسلم ابن راشد التخريج في شهور لأنه جمع كثرة، وخالف في أيام وسنين لأنهما جمع قلة، وهو العشرة فما دون، فلا يصح أن تعمر الذمة

ص: 352

بالأبد، واعترضه ابن عبد السلام بأن هذا إنما هو إذا كان اللفظ جمع قلة وكثرة، وأما إن لم يكن إلا واحداً منهما فالنقل أنه يقع للقليل والكثير، ثم جعله جمع قلة للعشرة مخالف للنحويين فنهم لا يجاوزون به التسعة.

وَلَوْ قَالَ حِيناً فَالْمَنْصُوصُ سَنَةٌ، وَكَذَلِكَ دَهْراً أَوْ زَمَاناً أَوْ عَصْراً، فَإِنْ عَرَّفَ فَفِي صَيْرُورَتِهِ لِلأَبَدِ قَوْلانِ ....

المنصوص مذهب المدونة، قال فيها: ومن حلف ألا يفعل شيئاً إلى حين أو زمان أو دهر، فذلك كله سنة. وقال عنه ابن وهب: أنه شك في الدهر أن يكون سنة. وعن ابن عباس فيمن حلف ألا يكلم فلاناً حيناً أنه سنة، وتلا قوله تعالى: (تُؤتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ ([إبراهيم: 25] قاله ربيعة: وقال ابن المسيب: الحين ستة أشهر من حين طلوع النخل إلى حين ترطبه، ومقابل المنصوص للَّخمي أنه يبر في الحين بأقل من السنة، وتكفيه مدة فيها طول. قال: والحين يقع على الوقت قل أو أكثر. قال الله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ([الروم: 17] فهذا وقت الصلاة، وقال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ([الإنسان: 1] وقال تعالى: (وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ([يونس: 98]، قيل: يوم القيامة، وقد يقال: إن الآية الأولى: الحين فيها مقترن بالمساء والصباح والكلام إنما هو في الحين المطلق.

قوله: (وَكَذَلِكَ دَهْراً أَوْ زَمَاناً أَوْ عَصْراً) أي: فتكفيه السنة، ولم أرَ في هذه الأقوال الثلاثة تخريجاً، وقوله:(فَإِنْ عَرَّفَ) ينبغي أن يحمل على هذه الألفاظ الثلاثة، ولا يراد الحين؛ لأن القول بالأبد ليس إلا في الثلاثة، وهو قول الداودي، وفي الواضحة في الدهر انه أكثر من سنة. مطرف: وسنتان قليل ولا وَقَّتَ فيه وقتاً.

ص: 353

وَلَوْ حَلَفَ لا كَلَّمَهُ فَكَتبَ [249/أ] إِلَيْهِ، أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولاً فَثَالِثُهَا: يَحْنَثُ بِالْكِتَابِ لا بِالرَّسُولِ ....

تصور المسألة والأقوال ظاهر، والحنث بهما لمالك وابن القاسم في المدونة؛ لأن القصد العرفي بهذه اليمين المجانبة وهي غير حاصلة، وعدم الحنث فيهما لأشهب وابن عبد الحكم اعتباراً بظاهر اللفظ؛ إذ لا يطلق عليهما كلام إلا مجازاً.

والثالث لابن الماجشون، وذكر اللخمي أن ابن القاسم وأِهب روياه عن مالك ووجهه أن الكتاب لفظه بخلاف الرسول؛ لأنه يزيد وينقص. وعلى مذهب المدونة فهل ينوي في إرادة المشافهة إن كانت بطلاق أو عتاق؟ قال: فيهما حنث إلا أن ينوي مشافهة، ثم رجع فقال: لا ينوي ف الكتاب إلا أن يرجع الكتاب قبل وصوله إليه فلا يحنث، ولمالك في المازية: لا ينوي في الكتاب والرسول، أو على أنه ينوي فإنه يحلف على ذلك، قاله ابن يونس، وقد تبين لك من المدونة أنه إذا رجع قبل وصوله أنه لا يحنث.

محمد: وهذا آخر قوليه. التونسي: وقوله "وهذا آخر قوليه" فيه إشكال؛ لأنه لاينبغي أن يكون في رجع الكتاب خلاف لأنه لم يسمعه ولا رأي الكتاب.

فروع:

الأول: فإن وصل الكتاب للمحلوف عليه فقرأه بقلبه دون لسانه، فقال أشهب: لا يحنث، واحتج بأن من حلف لا يقرأ فقرأ بقلبه لم يحنث.

الثاني: قال ابن حبيب: يحنث بقراءة عنوان الكتاب وإن لم يكن له عنوان وقطعه ولم يقرأه لم يحنث، وكذلك لا يحنث إذا لم يقرأه ولو أقام عنده سنين. اللخمي: ولا وجه لهذا؛ لأنه إنما حنث بالمكاتبة، لأنها ضرب من المواصلة وذلك يقع بنفس وصول الكتاب، وإذا كان الظاهر عند اللخمي الحنث بأخذ الكتاب وأن يقرأه فلأن يكون الحنث في مسألة أشهب فيما إذا قرأه بقلبه أولى.

ص: 354

الثالث: لو أشار إليه فقال مالك وابن القاسم وابن حبيب وغيرهم: يحنث.

ابن حبيب: سواء كان المحلوف عليه سميعاً أو أصم، وقال ابن القاسم: لا يحنث، والأول أظهر.

الرابع: نص ابن الماجشون على أنه إذا حلف ليكلمنه لا يبر بالكتاب أو الرسول، أما لو حلف ليعلمنه أو ليخبرنه بر بالكتاب والرسول.

الخامس: لو حلف ليعلمنه أمراً فعلمه من غيره، ففي المدونة: وإن لم يعلمه حنث. وحملها على إطلاقها أبو عمران وغيره. وقال اللخمي: إنما يحنث إذا لم يعلم الحالف بعلم المحلوف عليه، وأما إن علم وبنينا على اعتبار المقاصد فلا يحنث.

السادس: لو أسرَّ إلى رجل حديثاً فحلف على كتمه، ثم أسرَّ إلى غيره فتحدَّث الحالف مع من أسرَّ إليه ثانياً، فأخبره بالسرِّ؛ فقال الحالف: ذكر لي ذلك وما ظننته ذكره لغيري، ففي المدونة يحنث.

السابع: لو كان الحالف أمر من يكتب عنه للمحلوف عليه فكتب ولم يقرأه على الحالف، ولا قرأه الحالف، ففي الواضحة: لايحنث، قال: ولو قرأه الحالف أو قرئ عليه حنث إذا قرأه لمحلوف عليه.

وَلَوْ كَلَّمَهُ فَلَمْ يَسْمَعْهُ فَقَوْلانِ، كَمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ لا تَخْرُجُ إِلا بإِذْنِهِ فَأَذِن لَهَا وَلَمْ تَسْمَعْ

معناه: لو كلمه بحيث يمكن سماعه عادة لولا المانع الذي لأجله لم يسمعه كالنوم والصمم، وأما لو كان بينهما مكان بعيد لا يتأتى السماع منه فلا يحنث اتفاقاً، والحنث لابن القاسم في العتبية والموازية، وعدم الحنث لأصبغ، واختلف قول ابن القاسم في تكليمه الأصم هل يحنث بسببه؟

قوله: (كَمَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ) المنصوص في هذه المسألة في المدونة الحنث ولا ينبغي أن يختلف فيها؛ لأن قصد الزوج ألا تعصيه في خروجها بغير إذنه، وهي إذا خرجت

ص: 355

ولم تسمع فقد خرجت بغير إذن، ولم أر فيها قولاً بعدم الحنث إلا في أبي الحسن؛ فإنه حكى عن مالك قولاً بعدم الحنث، قال: ويحمل قوله على هذا "إلا بإذني"؛ أي: بعد إذني.

ابن هارون: وظاهر كلام اللخمي حصول الاتفاق على الحنث: ولفظه ومن حلف على زوجته لا خرجت إلا بإذنه، فأذن لها فلم تسمع، ثم خرجت حنث، وإن قال: لا خرجت إلا أن آذن، لم يحنث قياساً على من حلف ليقضين فلاناً حقه لأجل سماه إلا أن يؤخر، فأخره ولم يعلم وانقضى الأجل، فقال مالك: عسى أن يجزئه. وقال ابن وهب: لا يحنث. فراعى اللفظ، وأرى أن يحنث؛ لأن القصد ألا يكون منه الرد وقد حصل.

وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ المَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَقْرَأهُ لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ قَرَأَهُ فَقَوْلانِ

لا خفاء في عدم الحنث إذا لم يقرأه، والقول بالحنث إذا قرأه لابن القاسم في الموازية؛ لأن القصد مجانبته، والقول بعدم الحنث لابن القاسم أيضاً في العتبية والمجموعة وهو لأشهب، وصوبه ابن المواز لأنه لم يكلمه، واستحسنه اللخمي. وعلى الحنث فقال ابن القاسم: وكذلك يحنث إن أمر غره فقرأه عليه إلا أن يقرأه عليه أحد بغير أمره، قال في العتبية: وما ذلك بالبين، قال: وإذا كان الكتاب من المحلوف عليه إلى غير الحالف، فأتى فقرأه الحالف بعد أن أخبره به فلا شيء عليه.

وَلَوْ حَلَفَ لا سَاكَنَهُ وَهُمَا فِي دَارٍ فَجَعَلا بَيْنَهُمَا حَائِطاً فَشَكَّ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِم: لا يَحْنَثْ .....

المنقول عن مالك في المدونة [249/ب] وغيرها إنما هو: فكرهه مالك وقال: لا يعجبني: ففرق بين الشك والكراهة، وما نقله المصنف عن ابن القاسم هو في المدونة، وشرط أن يكون لكلِّ نصيب مدخل على حدة، وقال فيها قبل ذلك: ومن حلف ألا يساكن فلاناً فسكن كل واحد منهما في مقصورة في دار، فإن كانا حين حلف هذا في دار

ص: 356

واحدة وكل واحد في منزل منها حنث، وإن كانا في بيت فلما حلف انتقل عنه إلى منزل في الدار يكون مدخله ومخرجه ومرفقه في حوائجه على حدة لم يحنث، ولابن القاسم في غيرها عدم الاكتفاء، وإذا فرعنا على الاكتفاء، فهل يكفي أن يكون الجدار من جريد أو لابد أن يكون مبنياً بالحجر؟ ظاهر كلامه الاكتفاء، وكرهه ابن الماجشون، وهذا إنما هو عند الإطلاق، وأما إن كان للحالف نية أو بساط في التباعد فلا خلاف أنه لا يكفيه إلا التباعد.

وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين أن يحلف لا ساكنه في دار بعينها، وبين أن لا يعين وهو مذهب المدونة، وقيل: إن قال: لا ساكنته في هذه الدار، لم يبر ببناء الجدار، بخلاف ما إذا لم يعين. وعارض ابن الكاتب قول ابن القاسم في هذه بالاكتفاء بضرب الجدار، بما قاله فيمن حلف لا يسكن فإنه قال: ينتقل عنها في الحال، وأجاب بأن هذه محمولة على أنه خرج عنها في الحال ولم ينتقل إليها إلا بعد بناء الجدار، وأجاب ابن محرز: بأنه شرع في البناء بإثر اليمين وأن ذلك يقوم مقام الشروع في الخروج، وقد يكون بناء الجدار أسرع من الانتقال.

وفروع الحلف على ترك المساكنة كثيرة، وكلها مبنية على أنه لا يبقى على الحالة التي كان عليها، وتركناها تبعاً للمصنف.

فرع:

قال في المدونة: وإن حلف لا يساكنه فزاره فليست الزيارة سكنى، وينظر في ذلك إلى ما كانت عليه يمينه؛ فإن كان لما يدخل بين العيال والصبيان فهو أخف، وإن أراد التنحي عنه فذلك أشد.

التونسي: قوله: "أخف" يريد: ولا يحنث؛ لأن ذلك السبب ليس بموجود في الزيارة، ولو أقام عنده على هذا أياماً، وقوله:"أشد" يريد: ويحنث؛ لأنه أراد قطع مواصلته والبعد عنه، والزيارة مواصلة وقرب.

ص: 357

قال في البيان: واختلف إذا طال التزاور على قولين؛ قال أشهب وأصبغ: لا يحنث، وقال مالك وابن القاسم: يحنث.

واختلف في حد الطول فقيل: ما زاد على ثلاثة أيام، وقيل: هو أن يكثر الزيارة بالنهار ويبيت في غير مرض إلا أن يأتي من بلد آخر، فلا بأس أن يقيم اليوم واليومين والثلاثة على غير مرض، وهو قول ابن القاسم، ورواه عن مالك، ومثله لابن حبيب في الواضحة عن مالك وأصحابه.

وَلَوْ حَلَفَ لَيَنْتَقِلَنَّ مِنْ بَلَدٍ فَفِي الاقْتِصَارِ عَلَى نَفْيِ الْجُمُعَةِ أَوْ لابُدَّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ قَوْلانِ ....

القول بأنه لابد من مسافة القصر لمالك، والآخر استحسان لابن المواز.

وَلَوْ حَلَفَ لَيُسَافِرَنَّ فَمَسَافَةُ الْقَصْرِ، وَفِي مِقْدَارِ بَقَائِهِ فِي انْتِهَائِهِ: شَهْرٌ، وَنِصْفُهُ، وَأَقَلُّ زَمَانٍ ....

المشهور كما ذكر أنه لابد من مسافة القصر. ابن بشير: وهو مقتضى اللفظ شرعاً، ولو بنى على اللغة لأجزأ أقل ما يسمى سفراً، أو على العرف لاعتبر ما يسميه أهل العرف سفراً، أو على العرف لاعتبر ما يسميه أهل العرف سفراً، ثم حكى الثلاثة الأقوال التي حكاها المصنف في مقدار مقامه، ولم أر القول بالشهر في غير ابن بشير، ويمكن أن يؤخذ من قول ابن الماجشون:"إذا حلف لينتقلن" أن له أن يرجع بعد شهر، والقول بنصف شهر لابن القاسم، قال: لو رجع بعد خمسة عشر يوماً لم يحنث، والشهر أحب إليَّ، إلا أن ينوي الدوام. وقال ابن المواز: القياس أدنى زمان.

وَلَوْ حَلَفَ لا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتاً حَنِثَ بِالْحَمَّامِ لا بالْمَسْجِدِ

فرق ابن المواز بين الحمَّام والمسجد، فإن الحَّمام لا يلزمه دخوله، بخلاف المسجد فإنه لما كان يطلب الدخول فيه شرعاً فكأنه غير مراد، واختار اللخمي فيهما عدم الحنث وهو الظاهر.

ص: 358

فرع:

وأما اجتماعهما في الحبس فالمذهب إذا دخل الحالف طائعاً فكيفما دخل المحلوف عليه طوعا ًأو كرهاً حنث لتسبب الحالف في اجتماعهما اختياراً، وإن دخل الحالف كرهاً فقال ابن الماجشون: لا يحنث واختلف في ذلك قول أصبغ، ورأى غير واحد أن هذا الخلاف إنما هو إذا أكره على حق، وأما إن كان مظلوماً فلا يحنث. وألحق ابن القاسم بهذا إذا اجتمعا تحت ظل جدار أو شجرة إن كانت يمينه بقضاء فيه، أو لسوء عشرته، ابن حبيب: كانت نيته ذلك أو لم تكن له نية، فإنه يحنث بوقوفه معه في الصحراء.

فَلَوْ دَخَلَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فَقَالَ مَالِكٌ: لا يُعْجِبُبنِي

هذا من تتمة الفرع السابق؛ أي: إذا حلف لا أدخل عليه قال في التهذيب: وإن دخل المحلوف عليه على الحالف، فخاف عليه مالك الحنث، وقال ابن القاسم: لا يحنث إلا أن ينوي ألا يجتمع معه في بيت فيحنث.

ابن المواز: وقيل لا شيء عليه إلا أن يقيم معه بعد دخوله عليه. ابن يونس: قال بعض أصحابنا: وكذلك ينبغي على قول ابن القاسم أن لا يجلس بعد دخول المحلوف عليه، فإن جلس وتراخى حنث، ويصير كابتداء دخوله هو عليه.

قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ: لا يُعْجِبُنِي) يريد والله أعلم: لا يعجبني للحالف أن يقيم بعد دخول [250/أ] المحلوف عليه.

وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ مَيْتاً فَقَوْلانِ

القول بالحنث رواه أشهب عن مالك اعتباراً بظاهر لفظه، والقول بعدم الحنث لسحنون نظراً إلى المقاصد.

ص: 359

وَلَوْ قَالَ: لا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتاً يَمْلِكُهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ مَيْتاً فَالرِّوَايَاتُ: حَنِثَ، وَهُوَ مُشْكِلٌ

تصوره ظاهر، ووجه الإشكال أنه بموته قد انتقل إلى ورثته، وراعى في الروايات كونه له حق يجري مجرى الملك، وهو أنه لا يخرج من حتى يتم غسله وتكفينه، وإليه أشار في الموازية بقوله: فدخل عليه وهو يجهز. ونقل ابن يونس هذا الفرع على صيغة تقوي إشكاله، ولفظه: قال أصبغ: وإن حلف لا أدخل بيت فلان ما عاش، أو قال: حتى يموت، فدخل بيته وهو ميت قبل أن يدفن حنث. ابن يونس: ويجب أن يكون على قول سحنون؛ أي: في الفرع الذي قبل هذا لا يحنث وهو في هذا أقوى من الأول؛ لأنه اشترط: ما عاش أو حتى يموت، فقد دخل بعد حلول الشرط، فكان يجب ألا يحنث باتفاق، وقول من حنثه بذلك ضعيف.

ابن الماجشون: ولو حلف لا ينفع فلاناً ما عاش، فمات فكفنه حنث؛ لأن الكفن من أمور الحياة، وهو قريب من الفرع الذي ذكره المصنف.

فرع:

إذا حلف ألا يأكل من طعام رجل فمات، فأكل الحالف قبل القسمة، فحنثه ابن القاسم في العتبية إذا كان عليه دين أو أوصى بوصية.

قال في المجموعة: وإن لم يكن الدين محيطاً قال أشهب: لا يحنث، واختاره ابن رشد.

وقال ابن سحنون: يحنث إن كان عليه دين ولا يحنث إن أوصى بوصايا. ابن الكاتب: وقولهم: يحنث إذا أوصى بوصايا. معناه عندي: إذا أوصى بمال معلوم يحتاج فيه إلى بيع مال الميت ليعطي منه الموصى له؛ لأن ذلك المال لو ضاع قبل أن يعطاه لرجع الموصى له في الثلث؛ لأنه لا يتعين كما قال فيمن أوصى أن يُشترَى عبد فلان فيعتق عنه، فيموت بعد الشراء وقبل عتقه أن عليهم أن يشتروا غيره من بقية الثلث، بخلاف عبد بعينه.

ص: 360

وأما إن كانت الوصية تجزأ من ماله كالثلث والربع فهنا يكون الموصى له شريكاً للورثة، وكأحدهم ساعة يموت، فلا حنث على الحالف في هذا، وهذا كله مع عدم النية، وأما إن كانت له نية فيقبل منه، أما إن لم يكن عليه دين ولا أوصى بوصايا فلا يحنث بالاتفاق.

وَلَوْ حَلَفَ لَيَتَزَوَّجَنَّ أَوْ لَيَبِيعَنَّ الأَمَةُ فَتَزَوَّجَ تَزْوِيجاً فَاسِداً، أَوْ بَاعَ فَأُلْفِيَتْ حَامِلاً فَالْمَنْصُوصُ: حَنِثَ ....

قوله: (لَيَتَزَوَّجَنَّ) هذه المسألة مقيدة بما إذا ضرب لذلك أجلاً، وإلا فلو لم يقيد كان له أن يتزوج أخرى ولا حنث عليه. ثم إن هذا النكاح الفاسد إن كان يمضي بالدخول ودخل فإنه يبر وإن لم يحصل البناء، أو كان مما يفسخ أبداً فالمنصوص الحنث مراعاة للشرعي.

وخرج اللخمي البر من القول بمراعاة اللفظ من أحد القولين فيمن حلف ليطأن زوجته الليلة فوجدها حائضاً ووطئها أنه يبر، وفرق بينهما بأن الحالف في مسألة الحيض على امرأة معينة، وقد علم الحالف أن لها حالين: حالاً يجوز وطؤها فيه وحالاً لا يجوز، فلما أجل يمينه دل على إرادة وطئها مطلقاً، وأما هذه المسألة فحلفه لم يكن على امرأة معينة، فيحمل نكاحه على النكاح العرفي.

فرع:

فإن تزوج عليها دنِيَّة ليست من نسائه أو كتابية، فقال مالك: لا يبر.

ابن المواز: وسهل في ذلك ابن القاسم، ورجح بعضهم قول ابن القاسم بأن عادة الناس في مثل هذا جارية بتزويج الدنِيَّة، وبأن المقصود نكاية المرأة الأولى، وهو حاصل، وأما إن تزوج غير دنية ولم يدخل بها فقال ابن القاسم: لا يبر، وكذلك لو وطئها حائضاً، وقال أشهب: بل يبر وكأنه. رأى لفظ النكاح حقيقة في العقد، ولا يبعد أن يجري في مسألة الحائض خلاف مما تقدم.

ص: 361

قوله: (أَوْ لَيَبِيعَنَّ الأَمَةُ

فَأُلْفِيَتْ حَامِلاً) تصوره واضح، ومعنى أُلفيت: وجدت.

وَنَذْرُ الطَّاعَةِ وَإِنْ كُرِهَ لازِمٌ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللِّجَاجِ وَالْغَصَبِ دُونَ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ

ظاهر كلامه هنا كراهة النذر مطلقاً وهو الذي يؤخذ من قوله في الصيام: (وكره مالك نذر الصيام وغيره بشرط أو بغير)، وكذلك قال ابن راشد: ونص مالك رحمه الله تعالى على كراهة النذر ابتداءً بشرط وبغيره. وفي كلامه على هذا الوجه نظر لمخالفته للمنقول، ونقل ابن راشد بعد نقل الباجي أن النذر المجرد لا خلاف في جوازه، ونص ابن شاش وغيره على أنه مستحب، وفي البيان: النذر على مذهب مالك ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

مستحب: وهو النذر المطلق الذي يوجبه الرجل على نفسه شكراً لله تعالى على ما كان ومضى.

وجائز: وهو النذر المقيد بشرط يأتي.

ومكروه: وهو المؤقت الذي يتكرر مع مديد الأيام فهذا كرهه في المدونة مخافة التفريط في الوفاء به.

وعلى هذا فالأظهر أن يحمل كلامه على أن نذر الطاعة قسمان: مكروه، غير مكروه، والمكروه يلزم كغيره وتكون (أن) بمعنى (لو)؛ أي: يلزم الوفاء به ولو كان مكروهاً. وهذا وإن كان ممكناً هنا إلا أنه لا يمكن في كلامه في الصوم، ثم في كلام صاحب البيان مخالفة لكلام غيره؛ وذلك لأنه جعل المعلق على شرط آت من قبيل الجائز.

والذي ذكره الباجي وابن شاس وغيرهما أنه مكروه، وعلى هذا فالمكروه من النذر نوعان:

الأول: ما كان مكرراً كما إذا نذر صوم كل خميس ونحوه، فإنه قد يأتي به لتكراره على حال كسل فيكون إلى عدم الطاعة [250/ب] أقرب.

ص: 362

والثاني: ما كان معلقاً على حصول نعمة، أو دفع نقمة، كقوله: إن شفى الله مريضي فعلي كذا، أو أنجاني من البحر. وعلى كلام ابن رشد إنما يكره الأول من هذين النوعين فقط، وعلى هذا فكلام المصنف في الصيام ليس بظاهر، نعم يصح على تأويل اللخمي؛ وذلك لأنه وقع في المدونة في باب الصيام: كره مالك صوم يوم يوقته فظاهره كراهة نذر صوم اليوم مطلقاً. وعلى هذا الظاهر حمله اللخمين لكانحمله ابن رشد على أنه يوم مكرر والله أعلم، واستدل على كراهة النذر المعلق بشرط بوجهين:

الأول: كونه أتى به على سبيل المعاوضة، لا على سبيل القربة المحضة.

الثاني: أنه قد يتوهم منه الجاهل أنه يمنع من حصول المقدور، ويؤيده ما في مسلم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن النذر وقال:"إنه لا يأتي بخير، وإنما يُستخرَج به من البخيل"، وفي مسلم أيضاً وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن النذر لا يقرب من ابن آدم شيئاً لم يكن قدَّره الله له، ولكنَّ النذرَ يوافق القدرَ فيُخرِج بذلك من البخيل يريد أن يخرج".

قوله: (وَإِنْ كَانَ عَلَى وَجْهِ اللَّجَاجِ وَالْغَضَبِ) هو المعروف، وحكي عن ابن القاسم قول أنه يكفي فيه كفارة يمين. ابن بشير: وما كان من لقيناه من الشيوخ يميل إليه ويعدونه من نذر المعصية، فلا يلزم الوفاء به.

ابن عبد السلام: يحتمل أن يريد ابن بشير بهذا القول ابن عبد البر: إن العدول الثقات رووا عن ابن القاسم أنه أفتى ابنه عبد الصمد لما حلف بالمشي إلى مكة أن عليه كفارة يمين، وأفتاه بذلك حين حلف بصدقة ماله، وقال له: أفتيك بمذهب الليث، وإن عدت أفتيتك بمذهب مالك.

وقوله: (دُونَ الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ) من المكروه والمحرم، وحاصله أنه لا يلزم بالنذر من الأحكام الخمسة إلا المندوب، وقسم اللخمي نذر المعصية كصوم يوم الفطر أو النحر، أو

ص: 363

أن يصلي عند طلوع الشمس على ثلاثة أقسام، وإن كان الناذر عالماً بتحريم ذلك استحب له أن يأتي بطاعة من جنس ذلك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله". وإن كان جاهلاً بالتحريم وظن أن في صومه فضلاً عن غيره لمنعه نفسه لذتها ذلك اليوم فهذا لا يجب عليه القضاء ولا يستحب، وإن كان يظن أنه في جواز الصوم كغيره كان في القضاء قولان: قيل: لا شيء عليه والغلبة كالغلبة بالمرض، وقال عبد الملك: يقضيه لأنه لم يرد خصوصية ذلك اليوم وإنما أراد صوماً.

وَمَا لا مَخْرَجَ لَهُ مِثْلُ عَلَيَّ نَذْرٌ فَكَالْيَمِينِ باللهِ تَعَالَى فِيمَا ذَكَرَ مِنِ اسْتِثْنَاءٍ وَكَفَّارَةٍ وَلَغْوٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ: "عَلَيَّ نَذْرٌ إِنْ لَمْ أُعْتِقْ رَقَبَةٌ خُيِّرَ فِيهِمَا

قد تقدم أن النذر الذي لا مخرج له فيه كفارة يمين، ولا فرق بين نذر بالتنكير والنذر بالتعريف، وبين أن يضم إليه لفظ آخر يقتضي تأكيده إلا أنه لم يفسر مخرجه كما لابن القاسم في العتبية في القائل: علي نذر، لا كفارة له إلا الوفاء به، وبين أن يخرج بعض القرب كما في الموازية في القائل: علي نذر لا يكفره صيام ولا صدقة.

وقوله: (مِنِ اسْتِثْنَاءٍ) أي: بمشيئة الله، وتصوره واضح. وقوله: (وَلِذَلِكَ

إلخ) أي: ليس سبب التخيير ما أشار إليه المصنف من أن النذر المبهم كاليمين بالله؛ بل سببه كون الشيء الذي علق عليه النذر مأذوناً فيه، ولذلك يدور التخيير مع الإذن وجوداً وعدماً، فلو قال: علي نذر إن لم أدخل الدار، خير، وإن قال: علي نذر إن لم أقتل زيداً أو أشرب الخمر، منع من القتل والشرب، ولم يحصل التخيير نعم لو تجرأ وفعل تلك المعصية سقطت الكفارة عنه، وهكذا قال ابن عبد السلام.

تنبيه:

لكنه قال: إن تجرأ وفعل تلك المعصية فقال أهل المذهب: تلزمه كفارة يمين.

ص: 364

خليل: ولا أراه إلا وهماً. ففي الجلاب: ولو ألزم نفسه طاعة بعد معصية لزمته الطاعة ولم يجز له فعل المعصية، فإن فعل المعصية سقط عنه ما علقه بها من الطاعة، مثال ذلك: إن لله علي صدقة دينار إن لم أشرب الخمر، فيلزمه التصدق بالدينار والكف عن الخمر، فإن شرب الخمر سقطت عنه الصدقة ولزمه الحد، وفي الرسالة نحوه.

وذكر المصنف في الطلاق نحوه فقال: (وإن كان محرماً مثل: إن لم أقتل زيداً نُجِّز، إلا أن يتحقق قبل التنجيز على المشهور) فإن قلت: هل يصح كلام ابن عبد السلام على الشاذ؟ قيل: قد أنكر هو وجوده، نعم قد يخرج ما قاله على أحد القولين في أن المعدوم شرعاً هل هو كالمعدوم حسّاً كما قيل فيمن حلف ليطأنها فوطئها حائضاً.

وَمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إِلَى مَكَّةَ أَوْ بَيْتِ اللهِ أَوِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَوِ الْكَعْبَةِ أَوِ الْحَجَرِ أَوِ الرُّكْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بحَجِّ أَوْ عُمْرَةٍ ....

قال في المدونة: ومن قال: علي المشي إلى مكة أو بيت الله الحرام أو المسجد الحرام أو الكعبة أو الحجر أو الركن لزمه. وأما غير ذلك كعرفة ونحوها فلا.

عياض: مذهبه في المسألة إلزامه اليمين إن قال: بيت الله أو الكعبة أو المسجد الحرام أو مكة، أو ذكر شيئاً من أجزاء البيت فقط دون ما عدا ذلك، إلا أن ينوي حجّاً أو عمرة، ولا يلزمه فيما هو داخل المسجد الحرام، ولا داخل مكة ولا خارجها، وهو تأويل أبي محمد وجمهور الشيوخ، وهو مقتضى ما في كتاب [251/أ] ابن حبيب عنه أنه لا يلزمه في زمزم والحطيم والحجر وقد سلم له أبو محمد قوله في زمزم، ولم يسلم له ذلك في الحجر والحطيم لاتصالهما بالبيت، ويحتج لهذا بما في المدونة: ومن قال: أنا أضرب بمالي أو بشيء منه في حطيم الكعبة أو الركن، فعليه حجة أو عمرة ولا شيء عليه في ماله، فقد سوى بين الركن والحطيم؛ لكن قد يتناول ما قاله ابن حبيب على وفق الكتاب في أن من الحجر والحطيم ما ليس من البيت، فكأنه جعل غاية مشية إلى أوله كقوله: إلى الحرم.

ص: 365

وذهب ابن لبابة إلى أن مذهبه في الكتاب اللزوم متى ذكر شيئاً مما في المسجد الحرام، بخلاف ما كان خارج المسجد واحتج بمسألة الحطيم. وحكى ابن لبابة عن بعضهم تأويلاً ثالثاً على المدونة، وأن الحجر والركن كالصفا والمروة لا يلزمه فيه شيء قال: والتبس عليه لفظ الكتاب.

عياض: وكذلك أقول أنه قد التبس على ابن لبابة أيضاً، والصواب القول الأولى. انتهى. اللخمي: وقال أصبغ: يلزمه بكل ما سمي مما هو داخل مكة كالصفا والمروة وأبي قبيس وقعيقعان، وقال ابن حبيب: يلزمه إذا سمي الحرم وما هو فيه ولا يلزمه ما هو خارج عنه ما عدا عرفات.

وقوله: (بحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) نحوه في المدونة، ورأى اللخمي أن التخيير إنما هو في حق المدني ونحوه ممن جرت عادته أن يأتي إلى مكة للحج والعمرة، وأما من بعد كأهل المغرب فإنما يمشي في حج لأن أكثرهم لا يعرف العمرة ومن يعرفها لا يقصدها بسفر، وأشار غيره إلى أن التخيير إنما هو في حق غير الضرورة، وأما الضرورة فيجعل مشيه في عمرة ثم يحج ليجمع بين حجة الإسلام ونذره، وهذا يأتي على أن الحج على الفور، وفي الجواهر: إذا كان الحالف من أهل الأقطار البعيدة، فهل يتعين عليه الحج، أو يتخير بينه وبين العمرة؟ قولان للمتأخرين.

فرع:

فإن نذر المشي وهو بمكة فإن كان في المسجد فليخرج إلى الحل ويحرم بعمرة حتى يطوف ويسعى بين الصفا والمروة؛ إذ لابد أن يكون ليمينه معنّى، وإن كان خارجاً عن المسجد فقال ابن القاسم: يخرج كالأول، وقال مالك: يمشي من موضعه إلى البيت في غير حج ولا عمرة.

ص: 366

وَلا يَلْزَمُهُ نَذْرُ الْحَفَاءِ

لأن الحفاء لا طاعة فيه. ابن الجلاب: وينتعل ويستحب له أن يهدي، ونحوه في المدونة ونصه: في القائل: أنا أحمل فلاناً إلى بيت الله، إن أراد تعب نفسه وحمله على عنقه يحج ماشياً ويهدي، واختلف الشيوخ هل الهدي على الاستحباب كما في الحفاء، وإليه ذهب ابن يونس، أو على الوجوب؟ ويخرج فيها الاستحباب من الحفاء، وكذلك العكس وهو قول غيره.

وَفِيهَا: وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ، وَاسْتَدْرَكَهُ بَعْضُ الأَئِمَّةِ بِسُقُوطِهِ عَنِ الْقَادِرَةِ فِي الْفَرِيضَةِ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ مَنْ مَشْيُهَا عَوْرَةٌ وَغَيْرِهَا

قوله: (سَوَاءٌ) أي: في لزوم المشي في حق الناذر. وأصل الاستدراك لابن الكاتب وتبعه عليه جماعة، وإليه أشار بقوله:(واستدركه الأئمة) أي: أئمة المذهب، ثم بيَّن الوجه الذي استدرك بقوله:(بسُقُوطِهِ) أي: أن ابن الكاتب عارض قوله في هذه المسألة بقوله: إن الحجل لا يجب على القادرة على المشي إذا لم تكن لها راحلة، وإذا لم يجب المشي في حج الفريضة التي هي إحدى دعائم الإسلام مع تأكيدها لما يحصل حينئذٍ من الفتنة، فلأن تمنع من المشي في النذر من باب أولى.

قوله: (وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ) هو ابن محرز، ولا ينبغي أن يعد خلافاً؛ بل هو تقييد للمدونة، ولابن المواز قريب منه، قال: إذا كانت المرأة شابة وكان مشي مثلها عورة وكشفاً رأيت أن تمشي الأميال محتجزة عن الناس، ثم تركب وتهدي. قال: ولو لم تكن كذلك وقدرت على مشي جميع الطريق ثم عجزت، وكانت إن عادت وفت بجميع المشي عادت، وقد تقدم في أول باب الحج ما يجاب به عن هذا الإشكال.

فرع:

وللزوج منع زوجته إذا نذرت المشي كما يمنعها في التطوع؛ لأنها متعدية عليه.

ص: 367

فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَسِيرُ أَوِ الرُّكُوبُ أَوِ الذِّهَابُ أَوِ الْمُضِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَفِي لَغْوِهِ قَوْلانِ لابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَعِنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الرُّكُوبُ خَاصَّةً كَالْمَشْيِ

زاد في المدونة أو الإتيان أو الانطلاق، وقوله:(وَعَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ: الرُّكُوبُ خَاصَّةً كَالْمَشْي) هو أيضاً في المدونة، وكذلك قول أشهب فيها وما ذكره من أن قول ابن القاسم اختلف في الركوب خاصة موافق لما في البرادعي.

عياض: واختصرها حمديس على أنه اختلف قوله في جميع الألفاظ وعليه تأولها ابن لبابة، وقد حكى القولين عنه ابن حارث. وقد روى سحنون ومحمد بن رشد عنه مثل قول أشهب، والإلزام في جميعها، وبيان ذلك في المدونة أيضاً من مسألة: أنا أضرب بمالي رتاج الكعبة وإلزامه الحج والعمرة، ولم يشترط في ذلك نية، فإنه لا فرق بينها وبين قوله: أسير إليها وأذهب إليها، وحمل المسألة سائر المختصرين على أن الخلاف في الركوب وحده وتردد أبو عمران [251/ب] في تأويلها، وذكر بعضهم أن أشهب اختلف قوله كابن القاسم، وهذا الخلاف إنما هو عند عدم النية، وأما إذا نوى بهذه الألفاظ حجّاً أو عمرة فإنه يلزمه ما نواه باتفاقهما، وفرق على قول ابن القاسم الأول بين المشي وغيره؛ لأن العرف إنما جرى بلفظ المشي، ولأنه قد جاءت فيه السنة. وأخذ ابن المواز وسحنون واللخمي بقول أشهب، ورأى ابن يونس أن ما قاله ابن القاسم من عدم إلزامه المشي في المسير والذهاب إنما هو إذا قال: إلى مكة، وأما لو قال: علي أن أسير، أو أذهب إلى الكعبة، لا ينبغي أن يلزمه إتيانها إن شاء ماشياً أو راكباً، دليله من قال: أنا أضرب بمالي حطيم الكعبة أنه يلزمه عند ابن القاسم أن يحج أو يعتمر، كقوله: علي أن آتي المسجد الحرام أن ذلك يلزمه؛ لأنه قد قصد الإتيان إلى البيت.

فرع:

وإذا ألزمناه الركوب، فحكى ابن المواز عن أشهب أنه لا يجوز له المشي؛ لأنه يخفف عن نفسه مؤونة، وقال اللخمي: لا يجزئه الركوب إذا كان قصده نفقة ماله، وإن كان

ص: 368

قصده الوصول إلى مكة فقط أجزأه. ابن عبد السلام: وهو صحيح لا يخالف فيه أِهب، ورأى جماعة من الشيوخ أن معنى قول أشهب: لا يجوز؛ أي: لا يفعل ذلك ابتداءً، وإن وقع ذلك لم يفده، ثم اختلفوا إن وقع، فقيل: يخرج نفقة ركوبه في هدايا، وقيل: يدفع ذلك لمن ينفقه في الحج بحسب ما كان ينفقه هو.

وَيَلْزَمُهُ مِنْ حَيْثُ نَوَى، وَإِلا فَمِنْ حَيْثُ حَلَفَ، وَقِيلَ: إِنْ كَانَ حَالِفاً وَهُوَ عَلَى بَرٍّ مَشَى مِنْ حَيْثُ حَنِثَ ....

النذر إما معلق أو لا، وعلى كلٍّ فإما أن يكون له نية أو لا، فإن كانت عمل عليها في القسمين باتفاق وأحرى إذا سمي، وإن لم تكن فإن لم يكن معلقاً فمن حيث نذر باتفاق، وإطلاق المصنف قوله:(مِنْ حَيْثُ حَلَفَ) يشمل هذه الصورة ويكون ما ذكره بعد ذلك خاصّاً بالمعلق، وحاصل ما ذكر فيه ثلاثة أقوال: المشهور يلزمه من حيث حلف، والتفرقة منسوبة للتونسي، والثالث ذكره ابن بشير، ولو قال المصنف: ثالثها، لكان أجرى على قاعدته، والمشهور أظهر؛ لأن الإنسان إنما يلتزم ما هو معلوم عنده.

فرع:

فلو كان على المشهور حن الحنث بمكان غير الذي حلف منه، ففي اللخمي: إن كان مثله في المسافة مشى منه: لأن القصد التقرب بمثل تلك الخطى، ولا مزيَّة في ذلك للأراضي، وإن كان أقرب بالمشي اليسير فقيل: لا يجزئه، وقال أبو الفرج: يهدي هدياً ويجزئه، وإن بعد ما بين الموضعين لم يجزئه، إلا أن يكون ممن لا يستطيع المشي في جميع الطريق، فيمشي من موضعه ويهدي، وقاله أصبغ. انتهى بمعناه. وعلى القول بعدم الإجزاء يحتاج أن يرجع إلى موضع الحلف وهو الأصل. وقال أصبغ: إنما يرجع إلى موضع الخلف إن كان قريباً ليس فيه مشقة، وإلا مشى من موضع الحنث وأهدى، فقال: وهذا إن كان يقدر على جميع المنذور؛ يعني: وإن كان لا يقدر فلا معنى لرجوعه، ويذهب إلى مكة

ص: 369

من الموضع الذي هو فيه، ونقل ابن يونس عن ابن المواز أنه قال: إن حنث بغير البلد الذي حلف فيه، وكان لا يقدر على المشي منه فليرجع إليه فيمشي ما قدر، ثم يركب ويهدي.

وَفِي جَوَازِ رُكُوبِ الْبَحْرِ الْمُعْتَادِ أَوْ تَخْصِيصِهِ بِمَوْضِعِ الاضْطِرَارِ قَوْلانِ

كمن حلف وهو بصقلية، فهل له أن يركب البحر إلى الإسكندرية ثم يمشي لأن تلك عاداتهم، وإليه ذهب أبو بكر بن عبد الرحمن، أو لا يركب من البحر إلا ما يوصله إلى سوسة أو ما قاربها من إفريقية ثم يمشي إلى مكة، وإليه ذهب أبو عمران؟

ابن يونس: وهو الأقرب. ابن بشير: والخلاف إنما هو مع فقد النية، وأما مع وجودها فيرجع إلى نيته وهما على الخلاف في حمل مقتضى الألفاظ على الفوائد، أو على مقتضى اللغة.

خليل: ومثل هذا المثال: من حلف وهو بقوص ونحوها، فالمعتاد الركوب في البحر، والاضطرار أن يدور من مصر.

فرع:

قال مالك في الموازية: وله أن يأخذ طريقاً أقصر. الباجي: ومعناه: إذا كانت كلها معتادة، يريد: وليس له أن يمشي فغير المعتاد.

ابن بشير: لو نذر أن يمشي من المدينة إلى مكة على الشام أو العراق لم يلزمه ذلك، ولم ينبغِ له، ولو أراد أن يحلف في طريقه إلى المسجد لتكثر خطاه لما جاء في ذلك من الثواب لكان مخطئاً. انتهى.

وَلا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعٌ مَخْصُوصٌ بِالْبَلَدِ إِلا بِقَصْدٍ أَوْ عَادَةٍ

أي: إذا نذر المشي من بلد فلا يتعين عليه أن يمشي من موضع خاص منه إلا أن ينويه، أو تكون عادة الناس جارية بالمشي منه، وكذلك قال عبد الملك.

ص: 370

وَمُنْتَهَاهُ فِي الْعُمْرَةِ السَّعْيُ لا الْحَلْقُ، وَفِي الْحَجِّ طَوَافُ الإِفَاضَةِ لا رُجُوعُهُ، وَقِيلَ: مُنْتَهَاهُ الْجِمَارُ، وَصَوَّبَ اللَّخْمِيُّ وُصُولَ مَكَّةَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَزِمَ لأَنَّ الْعَادَةَ الْتِزَامُ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ، أَوْ لأَنَّهَا لا تُدْخَلُ إِلا بهِ ....

لما تكلم على مبتدأ المشي تكلم على منتهاه، وجعل منتهاه [252/أ] في العمرة السعي، وفي الحج طواف الإفاضة، ولم يراعِ الحلق في العمرة لأنه ليس بركن، وحكى ابن بشير الاتفاق عليه. خليل: وانظر هل يلزمه المشي حتى يحلق على من رأى أن الحلق فيها ركن. وما ذكره المصنف من أن منتهاه في الحج طواف الإفاضة هو مذهب المدونة قال فيها: وله أن يركب في رجوعه من مكة إلى منى وفي رمي الجمار بمنى، وإن أخر طواف الإفاضة فلا يركب في رمي الجمار.

فرع:

نص في المدونة على أن له أن يركب في المناهل وفي الطريق لحاجة نسيها. ولمالك قول آخر: أنه لا يركب في ذلك، وأنه إن ركب فيستحب له أن يهدي، وأخذ ابن القاسم بالأول، ولم يحمل أبو عمران هذا على الخلاف وحمله على الاستحباب، واستضعفه صاحب التنبيهات، وزاد في الأم بعد قوله: أنه إن لم يقض فلا يركب في رمي الجمار، وعن ابن القاسم أنه قال: ولا أرى به بأساً.

عياض: واختلف الشيوخ في تأويل قول ابن القاسم: ولا أرى به بأساً، هل يرجع إلى المسألة الأولى، وهو قول مالك: لا يركب في رمي الجمار، ويكون خلافاً، وإليه أشار اللخمي، أو يعود على الركوب في حوائجه، وهو تأويل أبي محمد، ويكون وفاقاً لقول مالك؟

قوله: (وَقِيلَ: مُنْتَهَاهُ الْجِمَارُ) أي: ولو طاف طواف الإفاضة، وهذا القول حكاه ابن حبيب عن أصحاب مالك. وحكى اللخمي عن بعض أهل اللم خارج المذهب أنه يركب في جميع المناسك، قال: هو الأصل لأن الناذر إنما قال: علي المشي إلى مكة، فجعل

ص: 371

مكة غاية مشيه، فلا يلزمه أكثر من ذلك. انتهى. وهذا يظهر أن في قول المصنف:(وَصَوِّبَ) تبعاً لابن بشير نظر؛ لأن التصويب إنما يقال حيث يقطع المصوب بالحكم، واللخمي إنما أومأ إلى الترجيح.

وقوله: (بِنَاءً

إلخ) إن قلنا: إن ناذر المشي قد التزم أحد النسكين عرفاً فكأنه نوى المشي في أحد النسكين، وإن قلنا: إن ناذره لم يلتزم أحد النسكين، وإنما لزمه أحدهما؛ لأجل أن مكة لا تدخل إلا به لم يلزمه المشي فيهما لكونهما ليسا منذورين. فقوله:(الْتِزَامُ أَحَدِ الأَمْرَيْنِ) تعليل للأولين، وإنما يبقى النظر هل يلزمه إلى تمام الأركان، أو إلى تمام العبادة كلها؟

وقوله: (أَوْ لأَنَّهَا لا تُدْخَلُ إِلا بهِ) تعليل لما صوبه اللخمي.

وَلَوْ ذَكَرَ مَوْضِعاً مِنَ الْحَرَمِ فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِنَ الْمَشَاعِرِ كَعَرَفَةَ لَزِمَهُ بِنَاءً عَلَيْهِمَا ....

تقدم أن المشهور عدم اللزوم، والقول باللزوم على ما ذكره المصنف. ابن عبد السلام: لا أعرفه، وكأنه تبع فيه ابن بشير، وأظنه قصد إلى قول أصبغ فغير فيه لفظة القرية بلفظة الحرم؛ لأنه قال: يلزمه كل ما هو ادخل القرية والصفا والمروة والحطيم والأبطح والحجون وأبي قبيس وقعيقعان وأجياد، ولا يلزمه ما هو خارج عن قرية مكة.

خليل: والظاهر أن مراد المصنف وابن بشير بهذا القول قول ابن حبيب وهو أنه يلزمه إذا سمي الحرم أو ما هو فيه، ولا يلزمه ما هو خارج منه ما عدا عرفات، والقول الثالث لأشهب.

وقوله: (بِنَاءً عَلَيْهِمَا) أي: فابن القاسم رأى أن العادة لم تقض بالتزام أحد النسكين إلا إذا ذكر البيت أو ما يشتمل عليه. ورأى ابن حبيب وأصبغ كون العادة أن الحرم أو

ص: 372

مكة لا يدخل إلا بأحد الأمرين ونيته تقتضي المشي إلى مكة، أو إلى شعيرة من شعائرها فيلزمه المشي، والقول الثالث خارج عن فرض المسألة؛ لأن عرفة ليست من الحرم، ووجهه غير خفي.

وَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ وَلَمْ يَقْصِدْ شَيْئاً فَفِيهَا: لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، وَأَلْزَمَهُ أَشْهَبُ مَكَّةَ

إنما لم يلزمه في المدونة شيء لكون المشي بمفرده ليس بقرية، ولأن هروبه من التعيين دليل على عدم الالتزام، ورأى أشهب أن هذا إذا صدر فُهِم منه عرفاً التزام المشي إلى مكة، ولعله إنما نسب المسألة للمدونة لإشكالها؛ لكونه لم يحمل لفظه على العرف.

وَإِذَا لَمْ يَمْشِ عَلَى الْمُعْتَادِ بِطُولِ الْمُقَامِ فِي أَثْنَائِهِ فَإِنْ كَانَ لِضَرُورَةٍ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَاراً فَفِي إِجْزَاءِ ذَلِكَ الْمَشْيِ قَوْلانِ

حاصله أنه إن مشى على العادة أجزأه، ولا تضره الإقامة المعتادة كالركب المغربي يقيم بمصر شهراً أو نحوه ليأتي إبان الخروج، وكالإقامة بالعقبة ونحوها، وهذا يفهم من قوله:(وَإِذَا لَمْ يَمْشِ عَلَى الْمُعْتَادِ) يعني: وأما لو مشى على المعتاد أجزأه، ثم فصل في الذي لم يمش على المعتاد فقال: إن كان لضرورة أو عدم رفقة أجزأه المشي اتفاقاً، وإن لم يكن لضرورة فقولان، وهما روايتان بالإجزاء في الموازية، وعدمه في الواضحة.

ابن حبيب: وهو بمنزلة من عليه صوم شهرين متتابعين. ورأى اللخمي أن الإجزاء هو الجاري على قول مالك وابن القاسم في المدونة فيمن نذر صوم سنة أن له أن يأتي بها غير متتابعة. وصوبه ابن راشد؛ لأن يمينه إنما تضمنت المشي، والتتابع أمر زائد فلا يصار إليه إلا بدليل. وقال ابن عبد السلام: والظاهر عدم الإجزاء لأن عرف الناس في السير التوالي، وأشار إلى أن تخريج اللخمي ظاهر، لولا ما ذكرناه من العادة.

ص: 373

فَإِنْ كَانَ مُعَيَّناً فَفَاتَهُ أَثِمَ، [252/ب] وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ عَلَى الْمَعْرُوفِ

أي: فإن كان العام الذي نذر فيه الحج معيناً فلم يخرج أو خرج وأقام في الطريق مختاراً حتى فاته الحج، ويبين أن مراد المصنف: أقام اختياراً قوله: (أَثِمَ).

ابن بشير وابن شاش: وأصل المذهب وجوب القضاء، وكلاهما يقتضي أنه لا نص فيهما، وكلام المصنف يقتضي وجود النص، وان فهيا قولاً آخر بعدم القضاء، وكأنهما أشارا بأصل المذهب إلى مسألة من نذر صوم يوم بعينه وأفطر فيه متعمداً مختاراً فإنه يقضي.

خليل: وقد تقدم في الصوم إذا نذر صوم يوم معين ثم أفطر فيه لعذر أربعة أقوال، المشهور: نفي القضاء، وثالثها: يقضي في النسيان دون المرض والحيض، ورابعها: يقضي إن لم يكن لليوم فضيلة، فانظر هل تأتي هنا؟ ويأتي الرابع هنا بأن تكون الوقفة جمعةن أوي فرق بشدة الحج وخفة الصوم، أو لحصول العذر في مسألة الصوم دون هذه، والله أعلم.

وَإِذَا رَكِبَ لِعَجْزِ فَإِنْ كَانَ يَسِيراً اغْتُفِر وَعَلَيْهِ دَمٌ، ثُمَّ إِنْ قَدَرَ مَشَى، وإِلا اسْتَمَرَّ إِلا أَنْ يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَشْهَدَ الْمَنَاسِكَ وَالإِفَاضَةَ رَاكِباً، فَإِنَّهُ كَالْكَثِير ....

الناذر للمشي يلزمه مشي الجميع، فإن عجز ركب، فإن كان ما ركبه يسيراً لم يؤمر بالرجوع للحرج ويسارة المتروك، ولزمه هدي؛ لنقصه ذلك المشي.

قوله: (ثُمَّ إِنْ قَدَرَ) يعني: إذا زال عذره بعد الركوب اليسير عاد إلى المشي، وإن لم يزل استمر، ثم ينظر فيما ركبه، هل هو يسير أو كثير؟ ثم استثنى من اغتفار اليسير أن يكون ركوبه من حين خروجه إلى عرفة حتى يفرغ من طواف الإفاضة، فإنه وإن كان يسيراً فهو ملحق بالكثير، ونحوه في المدونة؛ لأن هذه الأفعال هي المقصودة، فصارت لذلك كالكثير. ووقع في رواية الأندلسيين للمدونة بإثر الحكم على أن المشي في المناسك كالكثير، وأنه يرجع لمالك: أفترى عليه أن يهدي؟ قال: أحب ذلك من غير أن أوجبه عليه. ولم يذكر هذه لرواية مختصر والقرويين كحمديس وابن أبي زيد.

ص: 374

عياض: والرواية صحيحة معناها في العتبية وكتاب محمد: فإن قلت: إذا كان كالكثير فلم لا أوجب الهدي لتفرقة المشي كما في سائر صور الكثير؟ فالجواب: إنما جعله هنا مستحبّاً لاختلاف العلماء؛ لأن منهم من لا يرى المشي إلا إلى مكة فقط، والله أعلم.

وَقَالُوا: مَا دُونَ الْيَوْمِ يَسِيرٌ، وَما فَوْقَ الْيَوْمَيْنِ كَثِيرٌ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا قَوْلانِ، وَالْحَقُّ: أَنَّهُ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الْمَسَافَةِ

تصوره واضح، وحكى بعضهم أنه يرجع في ركوبه أقٌل من اليوم، وقال بعضهم: اليوم والليلة قليل، على ما في المدونة والعتبية قرب المكان أو بعد، وعليه الهدي. وروى ابن وهب: ولا هدي عليه.

وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَسِيراً رَجَعَ فَيَمْشِي مَا رَكِبَ، وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعِيداً جِدّاً فَلا يَرْجِعُ فَإِنْ عَجَزَ ثَانِياً لَمْ يَرْجِعُ ....

أي: فإن كان ركوبه كثيراً رجع؛ لأن المشي في ذمته فلا يخرج عن عهدته إلا بالإتيان به، وظاهره أنه يرجع ويمشي أماكن ركوبه، سواء كان ركوبه في أول مراتب الكثرة أم لا.

الباجي: ورواه ابن المواز عن مالك في الذي يركب عقبة ويمشي أخرى أنه يرجع فيبتدئ المشي كله. وفي الواضحة عن مالك: يرجع فيمشي ما ركب من غير تفصيل. انتهى. وهذا هو ظاهر المدونة لقوله: وعرف أماكن ركوبه من الأرض ثم يعود ثانية فيمشي أماكن ركوبه، ولا يجزئه أن يمشي عدد أيام ركوبه؛ إذ قد يركب موضعاً ركب فيه أولاً.

خليل: وقد يقال ما في الموازية ليس بخلاف وإنما أمره مالك بمشي الطريق كله؛ لأنه لا يتحقق بطريق العادة ضبط مواضع مشيه من ركوبه، لا سيما إذا كان الموضع بعيداً جدّاً. وحمل اللخمي ما في الموازية على أنه كان قادراً على الصبر على الركوب في موضع ركوبه، قال: وأما إذا كانت تلك قدرته فلا يكلف مشي غير ما ركب. وعن ابن الماجشون في الذي ركب جل الطريق أن يرجع فيمشي الطريق كله.

ص: 375

قوله: (وَقِيلَ: إِلا أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ بَعِيداً جِدّاً فَلا يَرْجِعُ) حاصله أن من ركب كثيراً إن كان موضعه قريباً كالمدينة ونحوها رجع ثانياً باتفاق، وإن كان بعيداً فالمشهور الرجوع، وقيل: لا يرجع. وظاهر كلامه أن الخلاف موجود في البعد مطلقاً. وفي اللخمي والبيان: واختلف إذا كان بعيداً مثل مصر ونحوها. وظاهر المذهب الرجوع.

ابن عبد السلام: والقول بعدم الرجوع لمالك في كتاب ابن مزين، وأما إن كان بعيداً كإفريقية والأندلس فلا يختلف في عدم رجوعه. ابن رشد: لأن روعه ثانية من إفريقية أشق من رجوعه ثالثة من المدينة؛ أي: والرجوع ثالثة ساقط باتفاق كما أشار إليه المصنف بقوله: (فَإِنْ عَجَزَ ثَانِياً لَمْ يَرْجِعْ). واستحسن اللخمي وغيره ما في كتاب ابن مزين، وهو الذي تميل إليه النفس؛ إذ المشي في نفسه ليس بعبادة، وإنما وسيلة، والمقصد الحج أو العمرة وقد أتى به، والقاعدة أن الوسيلة تبع [253/أ] فإذا أتى بالمقصد فلا اعتبار بالتبع، وعلى هذا كيف يؤمر بالرجوع؟ وأيضاً فإنا إنما ألزمنا الناذر المشي إما لأن نذره اقتضى التزام أحدهما، وإما لأن نذره اقتضى دخول مكة، وهو لا يدخلها إلا بأحد النسكين، وعلى كل تقدير فقد أتى بما التزمه.

تنبيهات:

الأول:

إنما يؤمر بالرجوع من كان حين اليمين يظن أنه يمشي جميع الطريق وعجز، وأما لو علم من نفسه أنه لا يطيق ذلك، إما لكبر أو لضعف جسم، أو نوى أنه لا يمشي إلا ما يطيقه ولو كان شابّاً فلا شيء عليه ولا هدي ولا رجوع، وفي المدونة: ولو علم حين أول خروجه أنه لا يقدر أن يمشي كل الطريق في ترداده إلى مكة مرتين، أو كان شيخاً زَمِناً، أو امرأة ضعيفة، أو مريضاً آيساً من البرء، فلابد أن يخرج أول مرة ولو كان راكباً، ويمشي ولو نصف ميل، ثم يركب بعد ذلك ويهدي.

ص: 376

والثاني: حيث قلنا يرجع فالمراد إنما يرجع في حج أو عمرة وليس المراد أن يمشي في حال رجوعه من سفره باتفاق.

الثالث: إنما يرجع إذا ظن أنه يقدر في الثانية على تمام المشي، وأما لو علم أنه لا يقدر ثانياً على تمام المشي فإنه يقعد ويهدي قاله في المدونة. ابن المواز: ويجزئه هدي واحد.

فَإِنْ رَكِبَ مُخْتَاراً فَفِي كَوْنِهِ كَالْعَاجِزِ قَوْلانِ

القول بأنه كالعاجز لابن المواز. ومعنى كالعاجز أنه يفرق بين أن يكون يسيراً فلا يرجع، وبين أن يكون كثيراً فيرجع، الآخر لابن حبيب حكاه عن بعض أصحاب مالك، وعليه فيرجع في اليسير والكثير، وأشار إلى أنه كمن فرق بين صيام التتابع مختاراً، بخلاف ما إذا كان ركوبه لعجز. ورد بأنه لو كان ركوبه كالصيام لزم أن يتعين العام الثاني للقضاء في حق العاجز، كما يتعين في زمان الصحة في حق من قطع صيام التتابع لمرض، ولا نعلم من يقوله.

ابن يونس: وقول ابن حبيب خلاف ظاهر المدونة، فلا فرق على مذهب المدونة بين من ركب لعذر أو لغيره.

وَلَهُ جَعْلُ مَشْيِهِ الثَّانِي فِي غَيْرِ مَا كَانَ الأَوَّلُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إِذَا كَانَ نَذْرُهُ مُبْهَماً

يعني: إذا نذر مشياً مبهماً، ولم يقل في حج ولا عمرة، فله أن يجعله في حج أو مرة، فإذا عجز وأمر بالرجوع فله أن يجعل مشيه الثاني في غير مكان الأول من حج أو عمرة وهذا مذهب المدونة، ولم يجز له سحنون أن يجعل مشيه الثاني في عمرة إذا كان الأول في حج. وعلى المشهور فقال ابن الماجشون: إنما يكون له ذلك حيث يكون ركوبه في الحج في غير المناسك، وأما إن عجز في خروجه لعرفة وطواف الإفاضة لم يكن له أن يجعل الثاني في عمرة؛ يريد: لأن المشي فيهما واجب، ولا يكون إلا في حج، وتأول ابن أبي زيد وصاحب النكت المدونة عليه، وتأولها بعضهم على أن له أن يجعل مشيه الثاني في غير ما

ص: 377

كان الأول وإن كان قد مشى في مناسك حجه أولاً. وقال اللخمي: قول عبد الملك يصح على مذهب ابن القاسم في مسألة الفوات يعني التي ذكرها المصنف بعد، وليس ذلك على مذهب مالك فيها.

أَمَّا لَوْفَاتَهُ الْحَجُّ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ وَقَضَى رَاكِباً وَيُهْدِي لِفَوَاتِهِ، وَقِيلَ: يَمْشِي الْمَنَاسِكَ

أي: فإن أحرم بالحج في النذر المبهم ففاته فإنه يتحلل بعمرة ويمشي فيها إلى تمام السعي وينقضي نذره، ثم يحتاج إلى أن يقضي الحج على حكم الفوات، وله الركوب فيه إلى أن يصل إلى مكة، ثم هل له أن يخرج للمناسك راكباً وهو مذهب المدونة؛ لأن النذر قد انقضى وهذا إنما هو للفوات، أو لا يجوز له الركوب ويلزمه المشي في المناسك؛ لأنه لما أحرم أولاً بالحج فكأنه التزم المشي في المناسك؟ ونسبه ابن يونس لابن القاسم وسحنون، قال: وهو أصح.

وَأَمَّا لَوْ أَفْسَدَهُ بالْوَطْءِ أَتَمَّهُ، وَقَضَى مَاشِياً مِنَ الْمِيقَاتِ، وَعَلَيْهِ هَدْيُ الْفَسَادِ وَهَدْيُ تَبْعِيضِ الْمَشْيِ .....

يعني: فلو كان الإفساد عوض الفوات لزمه إتمام كما في سائر صور الفساد، ولم يصرح هل يتمادى ماشياً أو راكباً؟ ابن هارون: والأقرب أنه لا يلزمه المشي؛ لأن إتمامه ليس من النذر في شيء، وإنما هو لإتمام الحج، ثم إذا قضى الحجة لم يلزمه المشي فيما قبل الميقات؛ لأنه قد مشاه أولاً والفساد لم يتسلط إلا على ما بعد الإحرام، وينبغي على هذا لو أحرم أولاً قبل الميقات أن يخرج منه ثانياً ويمشي منه ليصح له المشي الذي فسد في الأول، ولا إشكال أن عليه هَدْيَينِ؛ أحدهما للفساد، والثاني لتفريق المشي.

وَلَوْ مَشَى الرَّاجِعُ الْجَمِيعَ لَمْ يَسْقُطِ الْهَدْيُ عَلَى الأَصَحِّ

مقابل الأصح قول ابن المواز، والأصح للمتأخرين وقالوا: كيف يسقط الهدي المقدر في ذمته بمشي غير واجب.

ص: 378

ابن بشير: ومثلوه بمن صلى صلاة سها فيها، فوجب عليه سجود السهو فأعادها ثانياً، أن السجود يتقرر في ذمته. وفرق بعضهم بأن المصلي أخطأ في الإعادة وإنما تقررت في ذمته سجدتا السهو، فإذا أعادها أتى بما لم يؤمر به فلم تسقط الإعادة ما تقرر في ذمته، وفي الحج هو مأمور بالعودة فإذا أعاد واستكمل المشي فقد استوفى [253/ب] ما في ذمته من المشي في عودة مأمور بها، ففارق مسألة الصلاة.

ومن نظرائها إذا أحرم بالحج بعد أن سعى للعمرة وقبل أن يحلق لها، وحكمنا بالتزام الدم بسبب تأخير الحلاق، ولو تعدى فحلق فهل يسقط عنه دم تأخير الحلاق أم لا؟ ونظير ذلك: إذا قام من اثنتين واستقل قائماً ثم رجع إلى الجلوس، هل يسقط عنه السجود القبلي لأنه زاد أو نقص أم لا؟ وإذا تعدى الميقات ثم أحرم ورجع هل يسقط عنه دم التجاوز؟ المنصوص فيها عدم السقوط وخرَّج بعضهم السقوط من مسألة الصلاة التعدي بالحلق.

وَلَوْ نَوَى الْحَجَّ لَمْ تُجْزِهِ الْعُمْرَةُ، وَكَذَلِكَ الْعَكْسُ عَلَى الْمَشْهُورِ

هذا قسيم قوله: (وله جعل مشيه الثاني في غير ما كان الأول من حج أو عمرة، إذا كان نذره مبهماً) أي: وإن كان نذره معيناً، إما باللفظ وإما بالنية، فإن عين أولاً الحج لم يجزه أن يرجع ثانياً في عمرة باتفاق؛ لعدم استلزام الحج للعمرة، واختلف إذا عين أولاً المرة هل له أن يجعل مشية الثاني في حج؟ مذهب المدونة لا؛ لتغايرهما، ومقابل المشهور لابن حبيب؛ لأن الحج مشتمل على العمرة وزيادة.

واعلم أن لهذه المسألة صورتين:

الأولى: إذا عجز ثم رجع، كما ذكرنا، وقد ذكر في المدونة المسألة على هذا الوجه، وكذلك ذكرها ابن يونس، وحكى قول ابن حبيب.

ص: 379

والثانية: هل له ذلك ابتداءً أو لا؟ وكذلك ذكرها ابن بشير وذكر أن المشهور: لا ينتقل عما نواه، وأن الشاذ: له أن ينتقل عن العمرة إلى الحج. وذكر اللخمي قول ابن حبيب بالإجزاء في الوجهين في الابتداء وفي العجز، والأظهر حمل كلامه على العجز؛ لأنه قسيم كلامه الأول ليوافق فرض المدونة، وقد يقال: بل الأظهر أن يحمل كلام المصنف على مجموع الصورتين ليكون أعم فائدة.

وَلِمَنْ جَعَلَهُ لِعُمْرَةٍ أَنْ يُنْشِئَ الْحَجَّ إِذَا أَكْمَلَهَا، وَيَكُونَ مُتَمَتِّعاً بِشُرُوطِهِ

ولمن جعل مشيه في عمرة إما لأنه عين ذلك ابتداءً أو اختار ذلك في النذر المبهم أن ينشئ الحج إذا فرغ من عمرته ويكون متمتعاً، يجب عليه دم التمتع بالشروط المتقدمة في كتاب الحج، وهذا في غير الضرورة، وأما الضرورة فيبقى الأمر فيه على الخلاف في الحج هل هو على الفور أم لا؟ فإن قلنا على الفور وجب عليه الإحرام بالحج، وإلا فلا.

أَمَّا لَوْ حَجَّ نَاوِياً نَذْرَهُ وَفَرِيضَتَهُ مُفْرِداً أَوْ قَارِناً فَأَرْبَعَةٌ: لا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، والْمَشْهُورُ: يُجْزِئُهُ عَنِ النَّذْرِ، وَيُجْزِئُهُ عَنِ الْفَرْضِ، وَيُجْزِئُهُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَكُنِ النَّذْرُ بالْحَجِّ مُعَيَّناً ....

هذه المسألة لها صورتان كما سبق وجمعهما لاتفاق حكمهما:

الأولى: أن يحج مفرداً ينوي بتلك الحجة فرضه ونذره.

والثانية: أن يحج قارناً ينوي العمرة للنذر والحج للفرض، وذكر اللخمي فيهما أربعة أقوال:

الأول: لا يجزئ عن واحد منهام فيهما، ونسبه اللخمي لمالك.

الثاني: وهو المشهور، وهو مذهب المدونة: أنه يجزئ عن النذر في الصورتين، قال في المدونة: وعليه قضاء الفريضة قابلاً.

ص: 380

الثالث: عكسه للمغيرة: يجزئ عن الفريضة فقط. عبد الملك: وبه أقول.

والرابع: لابن المواز فسر به كلام ابن القاسم في المدونة: إن كان نذره مبهماً بأن قال: علي المشين ولم يقل في حج أو عمرة أجزأه عن حجه ونذره وعليهما يعود الضمير من قوله: (عَنْهُمَا)، وإن كان نذره بالحج معيناً، ولم يجزه عن واحد منهما ووقع في بعض النسخ:(ويجزئ عنهما) وليست صحيحة لعدم مطابقتها للنقل.

اللخمي: وأرى إذا قرن أن يجزئ عن حجة الإسلام وعن نذره، قياساً على من أتى بحجة الإسلام قارناً، فإنه يجزئه عن حجة الإسلام ويكون قارناً، وفرق بأن العمرة هنا واجبة، والأصل أن الفعل الواحد لا يجزئ عن واجبين بخلاف العمرة في المسألة الأخرى. وقول ابن المواز منصوص في الصورتين، فقد ذكره ابن يونس في الصورة الثانية؛ أعني: إذا قرن. وذكره الباجي في الصورة الأولى وعلله بأنه إذا قيده بالحج فقد نذر حجة تامة، فلما قرنها بغيرها كانت ناقصة، وإذا أطلق لم يلتزم حجة كاملة فلم يضره ما أشرك معها.

ابن يونس: ولم يختلف في قضاء الفريضة قول مالك وأصحابه، إلا عبد الملك فإنه روى عن مالك أنه يعيدهما جميعاً استحباباً، وقاله أصبغ، وقال بعضهم: وقول ابن المواز بعدم الإجزاء للحج والنذر في التعيين خلاف قول ابن القاسم في كتاب الحج الأول من المدونة في مسألة العبد يحرم بالحج فيحلله سيده ثم يعتقه فينوي القضاء والفريضة أن يجزئه للقضاء لا للفريضة. ابن يونس: وليس الأمر كما قال؛ لأن العبد لم ينذر حجه الأول ماشياً كما نذره الحر وإنما أحرم بحجه تطوعاً، فهو كمن نذر مشياً، فيمشي في حجة ينوي بذلك فرضه ونذره، فهذه تجزئه عن نذره لا فريضته، ولو نذر العبد أن يمشي فمشى في حج فحلله سيده ثم عتق فمشى في حج ينوي به القضاء والفريضة، لوجب ألا يجزئه عن واحد منهما على قول ابن القاسم، والحر والعبد في هذا سواء.

ص: 381

فرع:

قال [254/أ] ابن المواز: إذا مشى لنذره حتى بلغ ميقاته فأحرم بحجة نوى بها فرضه فإنها تجزئه لفرضه، ثم يحرم بالعمرة بعد ذلك من ميقاته، ليمشي ما بقي له من نذره.

وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنِ النَّاذِرُ بِلَفْظِ الإِحْرَامِ وَقْتاً لَهُ فَفِي كَوْنِهِ عَلَى الْفَوْرِ قَوْلانِ، وَفِيهَا يُحْرِمُ بالْعُمْرَةِ عَلَى الْفَوْرِ إِلا إِذَا عَدِمَ الصَّحَابَةَ، وَلا يَلْزَمُهُ إِحْرَامُ الْحَجِّ إِلا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَقُيِّدَ إِنْ كَانَ يَصِلُ، وَإِلا فَفِي تَاخِيرِ الإِحْرَامِ قَوْلانِ ....

مثاله: إن كلمتُ فلاناً فأنا محرم بحجة أو عمرة، فإن نوى تقديماً أو تأخيراً أو صرح بذلك لم يلزمه إلا ما نوى أو صرح به، وإن لم يعين شيئاً لا بلفظه ولا بنيته، لا كما يفهم من ظاهر كلام المصنف من قصر ذلك على اللفظ، وقد صرح في المدونة بأن النية مساوية للفظ في التعجيل والتأخير، والقول بفورية الإحرام لعبد الوهاب وعلله بأن النذور المطلقة محملها على الفور، أو عقب السبب الذي علق عليه.

ابن عبد السلام: والقول الآخر ظاهر الروايات. وتأول الباجي قول عبد الوهاب على الاستحباب.

ابن عبد السلام: وهو الصحيح؛ لأن المستلزم بالنذر أحد النسكين وهو أعم من الفور والتراخي، وذكر المصنف مذهب المدونة لتضمنه التفصيل، وفرق الشيخ أبو محمد بين الحج والعمرة بأن العمرة لا وقت لها معين فوقتها حنثه، والحج له أشهر معلومات يكره تقديمه عليها، وفي انعقاده في المذهب وخارجه خلاف، فلا يحرم حتى تدخل، وتبعه في هذا الفرق اللخمي وغيره، وقوله في المدونة في العمرة:"إلا إذا عدم الصحابة" خالف فيه سحنون ورأى أنه يحرم بالعمرة وقت حنثه، وإن لم يجد صحابة، وقيد الشيخ أبو محمد قوله في المدونة في الحج:"أن يؤخر إحرامه إلى أشهر الحج" بمن كان يصل من بلده في أشهر الحج، وأما إن كان لا يصل فهذا يلزمه الخروج والإحرام قبل أشهر الحج من وقت حنثه.

ص: 382

ابن يونس: يريد الإحرام من وقت يصل فيه إلى مكة ويدرك الحج، وحكى لنا عن أبي الحسن القابسي أنه قال: بل يخرج من بلده غير محرم، فأينما أدركته أشهر الحج أحرم.

ابن يونس: وقول أبي محمد أولى لأن منى قوله: أنا محرم بحجة؛ أي: إذا جاء وقت خروج الناس خرجت أنا محرماً، على ذلك يحمل قوله ويدل لفظه، وفي كتاب ابن المواز ما يؤيده قال فيه: في موضع يحرم في أشهر الحج، وقال في موضع آخر: يحرم في أول الحج، فهذا يدل على صحة تأويل أبي محمد وهو معنى قول المصنف:(وَقُيِّدَ إِنْ كَانَ يَصِلُ، وَإِلا فَفِي تَاخِيرِ الإِحْرَامِ قَوْلانِ).

وَخُرِّجَ عَلَيْهِ الْمَشْيُ فِي الْفَوْرِيَّةِ لا فِي الإِحْرَامِ، وَالْمَشْهُورُ فِيهِ التَّرَاخِي

أي: وخرج فيها إذا قال "لله علي المشي" قول بفورية المشي من القول بفورية الإحرام بجامع القرية. وما حكاه من أن المشهور التراخي ثبت كذلك في نسخة ولم أقف عليه، ولا يلزم على ما ذكره المصنف أن يكون المشهور كذلك في الإحرام؛ لأن الإحرام ركن والمشي وسيلة والوسائل أخفض رتبة من المقاصد.

وَفِيهَا: أَنَا مُحْرِمٌ، أَوْ أُحْرِمُ يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا يَكُونُ مُحْرِماً يَوْمَ يَفْعَلُهُ، وَفَرَّقَ سُحْنُونٌ وَقَالَ: يَكُونُ بِقَوْلِهِ "مُحْرِمٌ" مُحْرِماً. فَقِيلَ: أَرَادَ الْفَوْرَ فَيُنْشِئُ، وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِنَفْسِ حِنْثِهِ

ابن راشد: وإذا قال: إن كلمت فلاناً فأنا أحرم بحجة أو عمرة فكلمه، فلا خلاف في أنه لا يكون محرماً حتى ينشئ الإحرام، وإن قال: أنا محرم، فقال مالك: لا يكون محرماً حتى ينشأ الإحرام، وقال سحنون: يكون محرماً. واختلف الشيوخ في معناه على ما ذكره المصنف، واستشكل اللخمي كونه محرماً بنفس الحنث، وهو حقيق بالإشكال؛ لأن الإحرام عبادة تفتقر إلى نية، ومن شرط العبادات كالصلاة والصيام أن تكون النية مقارنة

ص: 383

للفعل أو مقاربة له، وقد تمضي ليمينه السنون ثم يحنث، فإن قلت: ما الفرق بين هذه المسألة فإنه ألزمه في المدونة الإحرام على الفور، وبين المسألة المتقدمة وهي قوله: إن كلمت فلاناً فأنا محرم، وقد تقدم أنه في المدونة لم يلزمه الإحرام بالحج إلا في أشهر الحج؟ قيل: لأن ذكره اليوم قرنية في إرادة الفور لحصره الزمان بخلاف المسألة الأخرى.

وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يُصَلِّيَ أَوْ يَعْتَكِفَ فِي مَسْجِدٍ مِنَ الْمَسَاجِدِ النَّائِيَةِ عَنْ مَحَلِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ وَصَلّى مَكَانَهُ، إِلا فِي أَحَدِ الثَّلاثَةِ الْمَسَاجِدِ

لما في مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". ورأى العلماء أن هذا مخصِّص لقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وإنما اختص اللزوم بهذه الثلاثة لزيادة الفضل فيها، ولا يلحق بها مسجد قباء على المشهور، خلافاً لابن مسلمة.

فَلَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي الثَّلاثَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ

المشهور مذهب المدونة، وقال ابن وهب: يلزمه المشي، واستحسنه اللخمي والمازري وغيرهما؛ لأنه طاعة، فيجب الوفاء بها وتبع المصنف هنا ابن بشير، فإنه ذكر أن المشهور عدم لزوم المشي في الثلاثة المساجد، لكن إنما فرض المسألة في المدونة وغيرها في مسجد المدينة وبيت المقدس وسكت عن مسجد مكة. ونص إسماعيل على المساواة وأنه إذا نذر المشي [254/ب] إلى المسجد الحرام للصلاة لا للحج لم يكن عليه أن يمشي ويركب إن شاء، ولا يدخل إلا محرماً، وكلام صاحب الإكمال يقتضي أن قول إسماعيل مخالف للمذهب ولفظه: فمن قال: لله علي صلاة في أحدها – أي: المساجد الثلاثة – وهو في بلد غير بلادها فعليه إتيانها، وإن قال: ماشياً، فلا يلزمه المشي إلا في حرم مكة خاصة، وأما المسجدان الآخران فالمشهور عنه أنه لا يلزمه المشي إليهما ويأتيهما راكباً، وقال ابن وهب:

ص: 384

بل يأتيهما ماشياً، وهو أقيس لاتفاقهم على أن من قال: علي المشي إلى مكة أن عليه أن يمشي إليها، ثم ذكر قول القاضي إسماعيل.

فَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ قَرِيباً جِدّاً فَقَوْلانِ، ثُمَّ فِي الْمَشْىٍ قَوْلانِ

أي: فلو كان المسجد الذي نذر الإتيان إليه قريباً لا يحتاج إلى شد الرحال فقولان: ظاهر المدونة أنه لا شيء عليه؛ لقوله: ولو نذر الصلاة في غيرها من مساجد الأمصار صلى بموضعه ولم يأته، ونحوه في الرسالة؛ لقوله: وأما غير هذه الثلاثة المساجد فلا يأتيها ماشياً ولا راكباً لصلاة نذرها وليصل بموضعه.

ابن المواز: قيل: إلا أن يكون المسجد الذي نذر أن يأتيه قريباً مثل الأميال اليسيرة، فليأته ماشياً ليصلي فيه كما جعل على نفسه والمشي في ذلك ضعيف، وقال ابن حبيب: إن كان المسجد الذي نذر أن يأتيه ماشياً معه في موضعه، ومثل مسجد جمعته أو مسجده الذي يصلي فيه الصلوات الخمس فيلزمه أن يمشي إليه ويصلي فيه ما نذر، وقاله مالك، واستحسن اللخمي وغيره هذا القول عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم:"من نذر أن يطيع الله فليطعه"، وحديث:"لا تشد الرحال" لا يعارضه، وما ذكرناه من ظاهر المدونة هو مقتضى فهم اللخمي وابن يونس وغيرهما، كذكرهم هذين القولين بعد لفظ المدونة، وانظر هذا الفهم مع ما قاله في المدونة في باب الاعتكاف: من نذر جوار مسجد مثل جوار مكة لزمه ذلك في أي البلدان كان، إذا كان ساكناً بالبلد، ولم أر من قال: يلزمه الذهاب ولا يلزمه المشي كما قال المصنف، والله أعلم.

وَلَوْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا وَالْتَزَمَ الآخَرَ لَزِمَهُ عَلَى الأصَحِّ، وَالْمَشْهُورُ إِلا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي مَفْضُولاً

يعني: لو كان في أحد المساجد الثلاثة ونذر أن يأتي الآخر فالمشهور: إن كان في مفضول والتزم الأفضل لزمه، وإن كان بالعكس لم يلزمه، وهذا القول حكاه اللخمي ولم

ص: 385

يذكر سواه؛ لأنه قال: إن كان بمكة أو المدينة فنذر الصلاة بمسجد بيت المقدس صلى بموضعه وأجزأه، وإن كان مقدسياً ونذر الصلاة بمكة أو المدينة أتاهما، وإن نذر مكي الصلاة بمسجد المدينة أو العكس أتاه، وذلك أحوط ليخرج من الخلاف، وقياس قول مالك يأتي المكي المدينة بخلاف العكس. انتهى.

المازري: وقال بعض شيوخنا وذكر اللفظ المتقدم: وعلى هذا يكون المصنف شهر قول اللخمي، لكن قال ابن عبد السلام: إن غير واحد يرى أنه المذهب.

ابن بشير: والظاهر من المذهب أنه يلزمه الإتيان إلى أحد هذهالمساجد، وإن كان الموضع الذي هو فيه أفضل من الموضع الذي التزم المشي إليه، وهذا هوا لأصح الذي ذكر المصنف وكأن المصنف – والله أعلم- صححه لأن نذر ذلك طاعة ومن نذر أن يطيع الله فليطهع، وقد ألزم في المدونة المكي والمدني إذا التزما رباطاً بموضع أن يأتياه وإن كانت مكة والمدينة أفضل منه.

ابن عبد السلام: ولا أذكر هذا الأصح لغير ابن بشير، فإن قلت: ظاهر كلام المصنف أن في المسألة ثلاثة أقوال: الأصح اللزوم مطلقاً، ومقابله، والمشهور التفصيل فالجواب: نعم هو كذلك لكن لم أرَ القول بعدم اللزوم مطلقاً، وعلى هذا فالمشهور هو مقابل الأصح، والله أعلم.

وَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ ثُمَّ مَكَّةُ ثُمَّ بَيْتُ الْمَقْدِسِ

لا خلاف في أفضلية مكة والمدينة على بيت المقدس، وإنما اختلف العلماء في مكة والمدينة، ما عدا موضع قبره صلى الله عليه وسلم فالإجماع على أنه أفضل بقاع الأرض كلها، نقله في الإكمال، والمشهور من المذهب أن المدينة أفضل، وهو قول أكثر أهل المدينة، قوال ابن وهب وابن حبيب: مكة أفضل. قال في الإكمال: وهو قول أهل مكة والكوفة والشافعي.

ص: 386

فَلَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إِلَى الْمَدِينَةِ أَوْ الْمَقْدِسِ، وَلَمْ يَنْوِ الصَّلاةَ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلافِ أَنْ يُسَمِّيَ مَسْجِدَيْهِمَا

يعني أنه قال: علي المشي إلى المدينة أو المقدس، فإن نوى الصلاة أو ذكر مسجديهما وإن لم ينو الصلاة لزمه الذهاب، وإن لم يحصل أحدهما لم يلزمه؛ لأن المشي لا يلزم إلا أن يكون ربة؛ إذ قد يراد به التجارة وغير ذلك، وإذا احتمل ذلك فالأصل براءة الذمة فلا تعمر بالشك. واستشكل شيخنا رحمة الله وابن عبد السلام عدم إلزامه؛ لأن المتبادر إلى الذهن والعرف إنما يقصد هذان المكانان للصلاة في مسجديهما، فكان ذكر البلدين كذكر المسجدين لدلالة الملزوم على لازمه. قال شيخنا رحمة الله: وكيف يطيب على نفس مسلم أن يأتي المدينة ولا يصلي في مسجد نبيه، ولا يسلم على وسيلته ووسيلة أبيه آدم عليه الصلاة والسلام [255/أ].

وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُطْلَقاً، فَالْبَدَنَةُ أَوْلَى، وَالْبَقَرةُ وَالشَّاةُ تُجْزِئُ

قوله: (وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُطْلَقاً) يحتمل أن يريد به من غير تعيين، ويحتمل أن يريد به سواء كان معلقاً أو لا، وما ذكره المصنف من أن البدنة أولى والبقرة الشاة تجزئ نص عليه في المدونة في الحج الثاني، ووقع في كتاب النذور أن من قال: إن فعلت كذا فعلي هدي، فإن نوى شيئاً فهو ما نوى وإلا فعليه بدنة، فإن لم يجد فبقرة، فإن لم يجد وقصرت النفقة رجوت أن تجزئه شاة، ورجعها مالك وقال: البقر أقرب شيء بالإبل، واختلف الشيوخ في الموضعين فذهب اللخمي إلى أن ذلك اختلاف قول، ويخرج من كل واحدة قول في الأخرى، وأشار إلى أنه يمكن أن يجري فيها الخلاف ايضاً من الخلاف فيمن قال: علي صوم شهر وصام بغير الهلال هل يلزمه ثلاثون يوماً أو تسعة وعشرون؟ وهذب جماعة إلى أنه وفاق واختلف هؤلاء على مذهبين، حمل التونسي ما في النذور على الاستحباب، وفرق بعضهم بينهما بأن هذه يمين والتي في كتاب الحج بغير يمين، فلذلك كانت أخف.

ص: 387

ابن يونس: وقيل: بل ذلك اختلاف قول، ولا فرق بين ما عقد بيمين أو كان نذراً، وقد نقل أبو محمد هذه؛ أي: ما في النذور.

وإن قال: علي هدي، ثم ذكر الجواب فدل على أنهما عنده سواء، وكذلك في كتاب محمد وهو الصواب فاختار أنهما اختلاف كاللخمي، ووقع في بعض النسخ:(وإذا نذر هدياً مطلقاً فقولان) وهي ظاهرة مما ذكرناه.

فَإِنْ نَذَرَ بَدَنَةً فَقَصَّرَ عَنْهَا فَالْمَشْهُورُ: بَقَرَةٌ، فَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا فَالْمَشْهُورُ: سَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ قَصَّرَ فَالْمَشْهُورُ: أَنَّ صِيَامَ سَبْعِينَ يَوْماً لا يُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ عِتْقاً فَعَجَزَ، وَعَلَى الصِّيَامِ فَفِي تَخْييرِهِ فِيهِ وَفِي إِطْعَامِ سَبْعِينَ مِسْكِيناً قَوْلانِ

أي: وسواء كان نذره معلقاً أم لا فإنه يلزمه أن يهدي بدنة، فإن لم يجد بدنة ففي المدونة تجزئ بقرة لما قاله الخليل: البقر من البدن. وقال ابن نافع: لا يجزئه.

اللخمي: وهو أحسن لأن الناس لا يعرفون البدن إلا من الإبل، فإن لم يجد البقرة ففي المدونة تجزئ سبع من الغنم أي سبع شياه؛ لأن البقرة لما كانت تجزئ عن سبع على قول بعض العلماء عادلت سبعاً من الغنم. وفي الموازية: إن لم يجد بقرة فعشر من الغنم، قال في المدونة: فإن لم يجد الغنم لضيق وجده فلا أعرف في هذا صوماً إلا أن يحب فليصم عشرة أيام فإن أيسر يوماً كان عليه ما نذره. وقد قال مالك فيمن نذر عتق رقبة فلم يستطعها: إن الصوم لا يجزئه إلا أن يشاء أن يصوم، فإن أيسر يوماً أعتق. فهذا مثله وهذا معنى قوله:(فَالْمَشْهُورُ: أَنَّ صِيَامَ سَبْعِينَ لا يُجْزِئُهُ كَمَنْ نَذَرَ عِتْقاً فَعَجَزَ). ولمالك في الواضحة: إن لم يجد الغنم صام سبعين يوماً. زاد أشهب في الموازية: أو أطعم سبعين مسكيناً كل مسكين مدّاً، وإن وجد شاة أهداها وصام ستين يوماً وإليه أشار بقوله:(وَعَلَى الصِّيَامِ فَفِي تَخْييرِهِ فِيهِ وَفي إِطْعَامِ سَبْعِينَ مِسْكِيناً قَوْلانِ). ولم يذكر المصنف فيمن نذر عتقاً وعجز غير مذهب المدونة أنه لا يصوم، وفيها قولان آخران:

ص: 388

أولهما: لابن المواز: إن شاء الصوم صام عشرة أيام.

وثانيهما: أن يصوم شهرين لأنهما عوض عنها في الظهار وقتل النفس وكفارة اليمين، وأن الصيام فيها ثلاثة أيام؛ لكنه لما كانت الكفارة في اليمين على التخيير لم تتحقق العوضية فيه بين الصيام والرقبة.

وَإِذَا نَذَرَ هَدْياً مُعَيَّناً وَهُوَ مِمَّا يُهْدَى وَيَصِلُ وَجَبَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ بَاعَهُ وَعُوِّضَ مِنْ جِنْسِهِ إِنْ بَلَغَ أَوْ أَفْضَلَ عَلَى الأَصَحِّ

إذا نذر هدياً معيناً، وهو مما يهدي كالإبل والبقر والغم وكان يصل، وجب بعينه، يريد: وهو له لما سيأتي، قال في المدونة: والبقر لا تصل من إفريقية ولا من مصر، فإذا خاف على هذه الهدايا لا تبلغ لبعد سفره أو لغير ذلك باعها وابتاع بثمنها هدياً بثمن الغنم غنماً وبثمن البقر بقراً، وجاز أن يبتاع بثمن البقر إبلاً؛ لأنها لما بيعت صارت كالعين ولا أحب شراء الغنم بثمنها حتى تقصر عن ثمن بعير أو بقرة ويشتري ذلك في مكة أو موضع يصل، فإن ابتاعها من مكة فليخرجها إلى الحل ثم يدخلها إلى الحرم، وإلى هذا أشار بقوله:(وَعُوِّضَ مِنْ جِنْسِهِ إِنْ بَلَغَ أَوْ أَفْضَلَ).

ابن عبد السلام: وظاهر المدونة: أن شراء الإبل بثمن الغنم آكد من شراء الإبل بثمن البقر؛ لقوله في بدل الإبل بالغنم: لا أحب، وفي بدل البقر بالإبل: جائز. واستحسن اللخمي أنه لا يعوض بثمن الغنم بدنة إلا إذا كان الغنم أقل من سبعة، إلا ألا يجد الغنم فجائز أن يعوض الثماني والتسع بالبدنة.

وقوله: (عَلَى الأَصَحِّ) أشار بمقابله إلى ما حكاه ابن بشير أن عليه أن يشتري من نوع الأول، ولا يخالف إلى الأفضل.

ص: 389

بِخِلافِ فَرِسٍ يَنْذُرُهُ فِي السَّبِيلِ فَيَتَعَذَّرُ إِيصَالُهُ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَيُجْعَلُ فِي مِثْلِهِ هُنَاكَ لاخْتِلافِ الْمَنَافِعِ

أي: فلا يجوز أن يشتري بثمنه إذا لم يصل غير جنسه من سلاح أو كراع، ولو كان الاحتياج إلى الغير أكثر. وفرق في المدونة بمثل ما فرق به المصنف وهو أن المقصود من الهدي شيء واحد وهو اللحم للتوسعة [255/ب] على الفقراء، ولحم الإبل أكثر، بخلاف منفعة الفرس والسلاح فإنهما متباينان. التونسي: وقيل: يجعل الثمن فيما كان أنكى للعدو.

وَالسَّبِيلُ: الْجِهَادُ، وَالرِّبَاطُ فِي السَّوَاحِلِ وَالثُّغُورِ بخِلافِ جُدَّةَ، فَإِنْ قَصَّرَ عَوْضَ الأَدْنَى ....

أي: من جعل شيئاً في سبيل الله فلا يعدل به عن جهاد العدو وحراسة المسلمين بالسواحل كطرابلس وعسقلان بخلاف جدة فليست بثغر. قال في المدونة: لأن العدو لم ينزل بها إلا مرة واحدة، وهو مقيد بما إذا كان حالها اليوم كحالها في الزمان المتقدم، وذلك لأن الثغر في الاصطلاح هو موضوع للمكان المخوف عليه العدو، فكم من رباط في الزمان المتقدم زال عنه هذا الوصف في زماننا وبالعكس.

وقوله: (فَإِنْ قَصَّرَ عَوَّضَ الأَدْنَى) أي: الثمن في مسألة الهدي أو الجهاد عن شراء المثل، فإنه يعوض الأدنى ولا خلاف في ذلك.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِمَّا يُهْدَى بَاعَهُ وَعَوِّضَ بثَمَنِهِ، وَقِيلَ: أَوْ قَوَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ

كالثوب والفرس.

وقوله: (بَاعَهُ وَعَوَّضَ بثَمَنِهِ) هو مذهب المدونة؛ لقوله فيها: فليبعه. والقول بأنه يقومه على نفسه مذهب العتبية وهو ظاهر المدونة في كتاب الحج وموضع آخر من

ص: 390

النذور؛ لقوله: أخرج ثمن ذلك. واختلف الأشياخ في فهم الموضعين، فذهب أكثرهم إلى أنه اختلاف قول، وذهب جماعة إلى أنه وفاق، ثم اختلفوا. ففي البيان: ما في العتبية مفسر لما في المدونة، وأشار هو وغيره إلى أنه ليس من باب شراء المرء صدقته؛ لأن القصد في الهدي الثمن؛ لأنه مما لا يهدي عينه بخلاف الصدقة فإنه قد يتصدق بذلك الشيء بعينه.

وحمل بعض القرويين ما وقع من جواز إخراج القيمة على أنه كان بيمين وما وقع من بيعه على أنه بغير يمين؛ لأن الحالف غير قاصد للقربة بخلاف غيره، ورده ابن يونس بأن الحالف إذا قال: إن فعلت كذا فعلي كذا، يقصد أيضاً بما نذره القربة إن فعل فلم يكن بينهما فرق، ورده أيضاً عياض بأنه قد ذكر في الموازية عن مالك روايتين من غير يمين، فدل على أنه لا فرق بين المعلق بيمين وغيره.

فرع:

قال في المدونة: فإن لم يبعه وبعثه فلا يعجبني ويباع هناك ويشترى به هدي، فلعل الكراهة لأن فيها إيهام تغيير سنة الهدايا، أو لأن ذلك في سلع تساوي في بلدها أكثر من مكة.

وَفِي الْمَعِيبِ قَوْلانِ: بعَيْنِهِ، وَكَالثَّانِي

أي: إذا قال: لله علي أن أهدي هذه البدنة العوراء أو ما لا يجوز في الهدايا، فقال أشهب: يخرجه بعينه؛ لأن السلامة إنما تطلب في الواجب المطلق، وقال ابن المواز: بل يبيعه ويشترى بثمنه هدياً سالماً وهو مراده بقوله: (كَالثَّانِي) أي: كالقسم الثاني وهو مما لا يهدي، وعلى هذا فيختلف هل له أن يمسكه ويخرج قيمته، أو يتعين بيعه كما تقدم؟ ويحتمل أن يريد: الثاني في القسم الأول، وهو الذي لا يصل والمعنى واحد، وهذا الخلاف مقيد بما إذا نذر معيناً، وأما إذا كان غير معين، فوافق أِهب ابن المواز على أن عليه هدياص سالماً.

ص: 391

التونسي: والأشبه في غير المعين أنه لا يلزمه نذر هدي ما لا يصلح أن يكون هدياً كمن نذر صلاة في وقت لا يجوز أن يصلي فيه، وكالصحيح فيمن نذر صوم أيام الذبح أو سنة بعينها أنه لا يقضي أيام الذبح. وقال اللخمي: أرى المعين وغيره سواء، فإن نذر وهو يظن أن ذلك يجوز لم يكن عليه غير ما ألزم نفسه، فيبيع المعين ويخرج قيمة ما في الذمة على أنه معيب فيشتري بذلك سليماً إن يبلغ أو يشارك به، وإن كان عالماً أن ذلك لا يجوز كان نذراً في معصية معيناً كان أو مضموناً، ويستحب له أن يأتي بسليمة ليكون كفارة كما في نذره نحر ولده.

فَإنْ قَصَّرَ عَنِ التَّعْوِيضِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَصَدَّقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَ، وَفِيهَا أَيْضاً: يَبْعَثُهُ إِلى خَزَنَةِ الْكَعْبَةِ يُنْفَقُ عَلَيْهَا، وَأَعْظَمَ مَالِكٌ أَنْ يَشْتَرِكَ مَعَهُمْ أَحَدٌ؛ لأَنَّهُ وَلايَةٌ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم إِذْ دَفَعَ الْمَفَاتِيحَ لِعُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ، وَقِيلَ: يَخْتَصُّ أَهْلُ الْحَرَمِ بالثَّمَنِ، وَقِيلَ: يُشَارِكُ بِهِ فِي هَدْيٍ ....

يعني: فإن قصر ثمن ما لا يُهدَى كالعبد، أو فضل من ثمنه ما لا يبلغ ثمن هدي. ونص التهذيب: فإن لم يبلغ ذلك ثمن هدي وأدناه شاة قال مالك: يبعثه إلى خَزَنَة الكعبة ينفق عليها، وقال ابن القاسم: أحب إلي أن يتصدق به حيث شاء. ومنه تعلم أن قوله: (قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَتَصَدَّقُ بهِ) ليس بجيد؛ لإيهامه وجوب الصدقة، وأشعر قول المصنف أيضاً بأن قول ابن القاسم في المدونة أيضاً وفي قول مالك إشكال، ولعل ذلك هو الموجب لنسبة ذلك إلى المدونة؛ إذ الكعبة لا تنقض فتبنى، ولا يكسوها إلا الملوك، ويأتيها من الطيب ما فيه كفاية، وهي إن كانت تكنس فمكانسها من خوص قبل الكنس تساوي فلساً وبعد الكنس تساوي الدراهم، فلم يبق إلا أن تأكله الخزنة، وليس هو من قصد الناذر [256/أ] في شيء، لكن في الموازية ما يدفع هذا الإشكال فإنه قال بعد قوله (يُنْفَقُ عَلَيْهَا): فإن لم تحتج إليه الكعبة تصدق به. وساقه ابن يونس على أنه تقييد، وهو كذلك إن شاء الله تعالى.

ص: 392

قوله: (وَأَعْظَمَ مَالِكٌ

إلخ) استطراد لا تعلق له بالنذر، وهو كذلك في المدونة. ومعنى أن يشترك فيها؛ أي: في خدمتها والقيام عليها؛ لأنه روي أنه صلى الله عيه وسلم عام الفتح انتزع المفاتيح من يد عثمان بن طلحة، فنزل قوله تعالى: (إِنْ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلى أَهْلِهَا ([النساء: 58]، فاستدعاه ودفع إليه المفاتيح، وقال:"هي لكم يا بني عبد الدار خالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم". والتشريك نوع من الانتزاع فلذلك منعه مالك.

قوله: (وَقِيلَ: يَخْتَصُّ بهِ أَهْلُ الْحَرَمِ) هو لأصبغ ونصه عند ابن يونس. وقال أصبغ: أحب إلي أن يتصدق به على أهل مكة خاصة، به قال اللخمي قال: لأن الهدي لو بلغ تصدق عليهم بلحمه، والقول الرابع الذي حكاه المصنف لم أره، لكن اللخمي قال: لو قيل به لكان وجهاً.

فَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ فَالْمَنْصُوصُ: لا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ، إِلا أَنْ يُرِيدَ: إِنْ مَلَكَهُ فَيَلْزَمُهُ إِنْ مَلَكَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ

أي: فإن كان الذي التزمه لغيره سواء كان مما يهدي كبعير فلان أو لا كعبده، وهكذا ذكر المسألة في المدونة، ولأنه لو لم يحمل كلام المصنف على العموم لزم أن يكون في كلامه قصور؛ لأنه لم يتعرض للكلام على إهداء ما للغير إلا هنا، والمنصوص مذهب المدونة وغيرها؛ لما في مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم:"لا نذر في معصية، ولا فيما لا يملك ابن آدم".

وقوله: (على المنصوص) لم أتحقق ما أشار إليه من مقابله، ولعله مخرج من الحر بجامع عدم الملك، وإن أراد هذا فقد فرق التونسي بينهما بأن عبد الغير لما كان يصح بيعه ويهدي ثمنه، فكأنه أراد أن يهدي ثمنه وهو غير مالك له، بخلاف الحر فإنه لما لم يصح تملكه فكأنه قصد فيه الهدي. وفرق ابن يونس بأن الحر قد جاءت فيه سنة قياساً على ما جاء في إبراهيم مع ولده عليهما الصلاة والسلام، أما إن نوى: إن ملكته فهو هدي فإنه يجزئ على الخلاف في تعليق الطلاق بالزوجية، والعتق بالملك، والمشهور اللزوم.

ص: 393

وَإِنْ كَانَ مِمَّا لا يُمْلَكُ كَالْحُرِّ فَالْمَشْهُورُ عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ نَذْراً لِمَعْصِيَةٍ وَكَأَنَّهُ رَآهُ عُرْفاً

أي: إذا قال: لله علي أن أهدي فلاناً، أو علق ذلك على شرط، فالمشهور عليه هدي.

التونسي: وقيل: لا شيء عليه لأنه نذر معصية، ولم يذكره ابن بشير على أنه خلاف وإنما قيد به المشهور فقال بعد المشهور: وهذا إذا كان قصده الالتزام فظاهر، وإن كان قصده بنذره المعصية فينبغي ألا يلزمه، وإن لم يكن له قصد فيجري على الخلاف المتقدم في عمارة الذمة بالأقل، أو بالأكثر. انتهى. ونص اللخمي على أن من قال: أنا أنحر ولدي، بمعنى أقتله أنه لا شيء عليه.

خليل: وعلى هذا فالمسألة على ثلاثة أوجه: إن قصد الهدي والقربة لزمه ذلك بالاتفاق، وإن قصد المعصية لم يلزمه ذلك باتفاق، واختلف الشيوخ حيث لا نية، والمشهور: عليه الهدي، ونحو هذا لأبي الحسن، وعزي الشاذ لابن عبد الحكم.

وقوله: (وَكَأَنَّهُ رَآهُ عُرْفاً) توجيه للمشهور؛ أي: إنما لزمه في المشهور وإن كان ظاهر لفظه المعصية؛ لأن رأى أن قوله: لله علي أن أهدي فلاناً حقيقة عرفية في التزام الهدي.

وَإِنْ لَمْ يَذْكُرِ الْهَدْيَ وَالْتَزَمَ نَحْرَ حُرٍّ فَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيّاً فَالْمَشْهُورُ: لا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَرِيباً وَذَكَرَ مَقَامَ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أَوْ مَكَّةَ أَوْ مِنىً ونَحْوَهَا لَزِمَهُ هَدْيٌ وَإِلا فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وقِيلَ: كَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَرَجَعَ عَنْهُ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: فِيمَنِ الْتَزَمَ نَحْرَ قَرِيبٍ مُطْلَقاً قَوْلانِ ....

أي: إذا لم يذكر لفظ الهدي بل قال: لله علي أن أنحر فلاناً، فإن كان المنذور نحره أجنبياً لم يلزمه شيء على المشهور، والفرق للمشهور بين هذه والتي قبلها أن ذكر الهدي في الأولى قرينة في إرادة القربة، بخلاف هذه فإن لفظه ظاهر في المعصية. وإن كنا قريباً ففيه تفصيل إن ذكر مقام إبراهيم أو مكة أو منّى.

ص: 394

ابن بشير: أو يذكر موضعاً من مواضع مكة أو منّى لزمه هدي لقرينة ذكره هذه المواضع، فإنها تدل على القرية عرفاً، وإن لم يذكر هذه المواضع فلا شيء عليه كما قال المصنف.

وقوله: (وقيلَ: تلزمه كَفَّارَةُ يَمِينٍ) أي: سواء ذكر هذه المواضع أم لا. وهذا القول أيضاً في المدونة، ففيها: ومن قال: إن فعلت كذا فأنا أنحر ولدي. فحنث فعليه كفارة يمين، وقاله ابن عباس، ثم رجع مالك فقال: لا كفارة عليه ولا غيرها إلا أن ينوي به وجه الهدي فعليه هدي. ابن القاسم: وهذا أحب إلي من الذي سمعت منه، والذي سمعت منه: إذا لم يقل عند مقام إبراهيم فعليه كفارة يمين، وإن قال: عند مقام إبراهيم فليهدِ، فذكر فيها ثلاثة أقوال.

واختلف الشيوخ في محل الخلاف، فقال صاحب تهذيب الطالب: لم يختلف قول مالك متى نوى وجه الهدي أنه لزمه الهدي، واختلف قوله إذا لم تكن له نية، فقال مرة: عليه كفارة يمين، وقال مرة: لا شيء عليه، وعلى هذا فيقيد قوله الأول:"عليه كفارة [256/ب] يمين" بما إذا لم يرد وجه الهدي. وقال أبو عمران في تعاليقه: أعرف أنه إنما اختلف قول مالك في الذي ينذر نحر ولده فيمن لم تكن له نية، قال مرة: عليه الهدي، وقال مرة: لا هدي عليه، وأما إن نوى الهدي فعلي الهدي بالاتفاق، وهكذا كلام عبد الحق، غير أن أحد القولين في كلام عبد الحق: وعليه الكفارة. وأَلْحَقَ عبدُ الحق ذِكْرَ المقامِ بِنيَّةٍ.

وكلام اللخمي يقتضي وجود الخلاف مطلقاً سواء نوى الهدي أم لا ذكر المقام أم لا؛ لأنه قال: إن أراد نحر ولده فلا شيء عليه، وإن أراد أن يجعله هدياً وقال ما يدل على ذلك، فقال: عند مقام إبراهيم أو عند الصفا أو المروة، كان عليه عند مالك هدي وقال مرة: كفارة يمين، فإن قلت: إنما فرض المسألة في المدونة في التعليق وكلام المصنف أعم وقد نص بعض القرويين على أنه إنما يلزم الهدي في التعليق.

ص: 395

وأما إن قال: علي نحر ولدي أو لله علي نحر ولدي، فلا شيء عليه لأنه نذر في معصية، إلا أن يقصد به وجه القربة فيلزمه هدي، وكذلك في كتاب الأبهري قيل: مختار ابن يونس خلافه وأنه لا فرق بين المعلق وغيره، قال: والصواب ألا شيء عليه إلا أن ينوي به وجه الهدي؛ لأن من قال: إن فعلت كذا فعلي شرب الخمر، أو قال: لله علي شرب الخمر ألا شيء عليه في ذلك. وقد علمت بكلام اللخمي معنى قول المصنف. وقال اللخمي: فيمن التزم نحر قريب مطلقاً قولان. ولولا كلامه المتقدم لأمكن أن يحمل الإطلاق على أنه لا فرق في ذلك بين المعلق وغيره. وعلى هذا فيتحصل في المسألة خمسة أقوال:

أولها: أن عليه كفارة يمين إلا أن ينوي الهدي، وهو الأول في المدونة على ما ذكره عبد الحق.

الثاني: أن عليه كفارة يمين لو نوى الهدي على ما حكاه اللخمي.

ثالثها: إن ذكر المقام فعليه هدي، وإلا فلا شيء عليه، وهو القول الذي استحسنه ابن القاسم.

رابعها: إن لم يذكر المقام فعليه كفارة يمين، وهو القول الذي سمعه ابن القاسم.

خامساً: الفرق بين المعلق وغيره، وما ذكره من التفرقة بين القريب وغيره نحوه لابن بشير وغيره. وقال الباجي: إذا قال لابنه أو أجنبي في يمين: لله علي أن أنحرك، فحنث فإن علق ذلك بمكان النحر كأن يقول: أنحرك عند مقام إبراهيم، أو عند البيت أو المسجد، أو بمنى أو بمكة، فروى ابن حبيب عن مالك عليه الهدي، وإن لم يسمِّ شيئاً ونوى الهدي لزمه، وإن لم ينو فروايتان: إحداهما: لا شيء عليه، والأخرى: كفارة يمين، وبها قال أصبغ. وقال عبد الوهاب: من نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة فعليه الهدي.

ص: 396

وإن نذر نذراً مجرداً يقصد به القربة فلا شيء عليه، ففرق بين اليمين والنذر وليس بالبين. انتهى. فلم يفرق بين الأجنبي والقريب، وانظر قوله: فإن علق ذلك بمكان الذبح وعده المقام، فإنه مخالف لما قاله ابن هارون: أن المراد بمقام إبراهيم قصته في التزامه ذبح ولده وفدائه بالهدي، لا مقام مصلاه.

ابن عبد السلام: وحيث أمرناه بالهدي في هذه المسألة، فقيل: إنه من الإبل، فإن لم يجد فمن البقر، فإن لم يجد فمن الغنم، وقيل: يكتفي بكبش، واختاره ابن شعبان.

فرع:

قال في الموازية: ولو قال لعدة من ولده: "أنا أنحركم" كان عليه أن يهدي عن كل واحد هدياً، وقيل: هدي واحد لجميعهم. أصبغ وغيره: والأول أحب إلينا.

وَإِذَا الْتَزَمَ هَدْياً لِغَيْرِ مَكَّةَ لَمْ يَفْعَلْهُ لأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ

قال في المدونة: وسوق البدن إلى غير مكة من الضلال.

وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ هَدْياً ذَبَحَهُ مَكَانَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: يَجْوزُ نَقْلُهُ إِلَيْهِمْ

المشهور مذهب المدونة؛ لأن في نقله إليهم شبهاً بسوق الهدايا، والشاذ لمالك في الموازية وبه قال أشهب؛ لأن إطعام مساكين أي بلد طاعة ومن نذر أن يطيع الله فليطعه، وأشار بعضهم إلى أنه يجوز ألا ينحر شيئاً ويطعم المساكين لحماً يكون قدره قدر لحم الجزور، وهو ظاهر لأنه لا قربة في النحر.

وَمَنْ نَذَرَ هَدْيَ بَدَنَةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَجْزَأَهُ شِرَاؤُهَا، وَلَوْ مِنْ مَكَّةَ

وهو ظاهر إذا اشتراها من مكة، فلابد أن يخرجها إلى الحِل.

ص: 397

وَمَنِ الْتَزَمَ صَدَقَةَ جَمِيعِ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ اتِّفَاقاً، فَلَوْ أَخْرَجَهُ فَفِي مُضِيِّهِ قَوْلانِ، وَيَلْزَمُهُ الثُّلُثُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يُجْحِفْ بهِ

تبع المصنف في حكايته الاتفاق. ابن بشير: وليس كما قالاه وإنما هو المشهور سواء حلف بذلك ابتداء أو علق ذلك. وفي البيان عن ابن وهب: لزوم الجميع، والقول بأنه لا يلزمه أن يُخرج إلا ما لا يضر به إخراجه لسحنون.

وقال ابن حبيب: إن كان كثير اليسار أخرج ثلث المال وإن كان قليل المال فربع العشر، وإن كان عديماً فكفارة يمين، وقاله أيضاً ابن وهب. وربما استظهر القول بلزوم الجميع لأن الصدقة بالجميع طاعة؛ لإقراره صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك. وهذا إنام هو إذا التزم جميع المال للفقراء، أما لو قال: مالي صدقةٌ على فلان بعينه، ففي النوادر: يلزمه. ونقله صاحب النكت عن بعض القرويين في باب الهبات. أصبغ: وإذا قال مالي لله فيخرج [257/أ] ثلثه للصدقة فقط. وإن قال في عبده فمخرجه العتق، وإن قال في سبيل الله أو لسبيل الله فمخرجه الغزو والجهاد خاصة. وتخرج ثلث العين والطعام والرقيق إلا أن ينوي العين خاصة.

وقوله: (فَلَوْ أَخْرَجَهُ فَفِي مُضِيِّهِ قَوْلانِ). ابن عبد السلام: يعني: فلو أراد إخراج الجميع من غير نذر ولا التزام بل عزم على إخراجه فمنهم من أقره على الصدقة بالجميع كما أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على ذلك، ومنهم من قال يكفيه الثلث كقضية كعب بن مالك. وقال ابن راشد: يعني: وإذا فرعنا على المذهب فأخرجه عن نذر ففي مضيه قولان حكاهما المصنف بناء على تعلق حق الغير به لصيرورته بيده، أو يبطل لأنه فعل ممنوع. وقال شيخنا رحمه الله: معناه إعطاؤه لمن ينبو عنه في تفرقته ولم يفرقه بعد فقولان منشأهما: هل يد نائبه كيده فلا ينفذ أو لا؟ وكأنه حصل في يد الفقراء، وكلام ابن راشد هو الذي يؤخذ من كلام ابن بشير، والله أعلم.

ص: 398

وَلَوْ عَيَّنَ شَيْئاً أَوْ جُزْءاً أَوْ كَثِيرَاً لَزِمَهُ وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَ: عَبْدِي هَدْيٌ وَلا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ، وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَالِي، وَبَيْنَ: ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِي، وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَا لِي

أي: إذا عين شيئاً لزمه أني خرجه ولو أتى على جميع ماله على المشهور، ومقابل المشهور رواية عن مالك: لا يلزمه إلا الثلث. وهو مذهب ابن نافع وأصبغ. وحكى اللخمي عن سحنون أن قال في هذه المسألة أيضاً: لا يلزمه إلا ما لا يجحف به. وقوله: (بين: عبدي) أي: فيلزمه، (وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَالِي) فلا يلزمه غير الثلث، (وَبَيْنَ: ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ مَالِي) فيلزمه، (وَبَيْنَ: جَمِيعُ مَا لِي) فلا يلزمه إلا الثلث. قال في النكت: والفرق بين أن يسمي شيئاً بعينه من ماله صدقة أو هدياً أن يخرج جميعه وإن كان ذلك ماله كله، وبين أن يقول مالي ولا يعين شيئاً أنه يجزئه الثلث- أن الذي عين قد أبقى لنفسه شيئاً ولو ثيابَ ظاهرِه أو ما لا يعلمه كميراث لم يعلم به، وأما الذي قال مالي فلم يبق لنفسه شيئاً وأدخل ثياب ظهره وما جهله أو علمه من ماله، فكان هذا من الحرج المرفوع، فوجب قصره على الثلث. انتهى. والشاذ هنا هو الظاهر، والله أعلم.

وَمَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ تَفْرِقَةُ الثُّلُثِ مِنْ نَفْلٍ أَوْ هَدْيٍ فَفِي كَوْنِهِ مِنَ الثُّلُثِ قَوْلانِ

يريد: إذا قال: مالي هدي، أو حلف بصدقة ماله فحنث، وقلنا يلزمه الثلث فاحتاج إلى أن يبعث به، فقال ابن القاسم في العتبية: ينفق عليه من ماله. قاله مالك. ذلك وقيل من الثلث. ابن راشد: ولم يختلف إذا قال ثلث مالي أن النفقة عليه منه، والفرق بينهما إذا قال مالي، فالأصل أن يخرج الجميع فلما أرخص له في الثلث وجب أن يخرج جميع الثلث، بخلاف قول ثلث مالي فلا يلزمه غيره. انتهى.

والذي في ابن يونس وغيره بعد أن حكى القولين في الوجه الأول: ولو قال ثلث مالي هدي فلا خلاف أنه ينفق عليه من ماله حتى يبلغه. قال: والصواب ألا فرق بين

ص: 399

ذلك. وعلى هذا فإطلاق المصنف ليس كما ينبغي. وقوله: (أَوْ هَدْيٍ) فيه حذف مضاف؛ أي: من سوق هدي أو نحو ذلك.

وَلَوْ قَالَ: مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ رِتَاجِهَا أَوْ حَطِيمِهَا فَلا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لأَنَّ الْكَعْبَةَ لا تُنْقَضُ فَتُبْنَى، بخِلافِ مَالِي فِي كِسْوَتِهَا أَوْ طِيبهَا فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الثُّلُثَ إِلَى الْحَجَبَةِ فَيَصْرِفُونَهُ ....

هذا كله في المدونة، قال فيها: والرتاج الباب، والحطيم ما بين .... المقام. وفسر ابن حبيب الحطيم بما بين الركن الأسود والباب إلى المقام؛ لأنه يحطم الناس.

أبو محمد: فعلى تفسير ابن حبيب ذلك كله حطيم الجدار من الكعبة والفضاء الذي بين البيت والمقام اليوم. عياض: وقوله فيمن جعل ماله في طيب الكعبة يدفع إلى حجبتها يدل على جواز تطيبها وتطييب المساجد وتجميرها؛ إذ لو لم يكن طاعة لما لزمه أن يفي بنذره، وقد فُعل هذا في الصدر الأول واستمر على ذلك عمل المسلمين وعلى الخلوق فيها، والأصل في ذلك تطييبه صلى الله عليه وسلم موضع النخامة في مسجده. وقول مالك:"الصدقة أحب إلي مما يجمر به المساجد" ليس على تضعيفه وكراهته لكن لترتيب فضل أعمال البر بعضها على بعض في الجر.

وما ذكره المصنف من قوله: (فلا شيء عليه) هو المشهور. وروي عن مالك أن عليه كفارة يمين. ونقل في الاستذكار عن القاضي إسماعيل بن أبي أويس أنه روي عن مالك أنه يلزمه إخراج ثلث ماله. وقال ابن حبيب: أرى أن يسأل، فإن نوى أن يكون ماله للكعبة فيدفع ثلثه للخزنة يصرفونه في مصالحها، فإن استغنت عنه بما أقامه السلطان من ذلك تصدق به، وإن قال: لم أنوِ شيئاً ولا أعرف لهذه الكلمة تأويلاً، فكفارة يمين أحب إلي، وسواء كان ذلك في ندر أو يمين.

ص: 400

وقوله: (بِخِلافِ مَالِي فِي كِسْوَتِهَا أَوْ طِيبِهَا) ظاهر التصور. والظاهر أن في زماننا يتصدق بذلك؛ لأن الملوك تكفلت بالكعبة ولا يتركون أحداً يكسوها، والحجبة لا يؤمنون في الغالب، وكذلك قال ابن راشد، وهو يؤخذ مما قدمناه على الموازية، والله أعلم. وَإِذَا تَكَرَّرَ مَا يُوجِبُ [257/ ب] الثُّلُثَ فَإِنْ كَانَ بُعَيْدَ إِخْرَاجِهِ أَخْرَجَ ثَانِياً وَثَالِثاً ابن زرقون: ولا خلاف في هذا في المذهب.

وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ فَفِي إِجْزَاءٍ ثُلُثٍ وَاحدٍ قَوْلانِ

الضمير في (قَبْلَهُ) عائد على الإجزاء. والقول بأنه ليس عليه إلا ثلث واحد رواه ابن حبيب عن مالك وأصحابه، وهو في الموازية. وقال ابن القاسم: يخرج عن اليمين الأولى ثلث ماله ثم ثلث ما بقي عن اليمين الثانية. وبه قال أشهب ومحمد بن المواز. ثم قال ابن القاسم: يخرج ثلثاً واحداً ويجزئه. وقاله ابن كنانة.

الباجي: وإذا قلنا يكفيه ثلث واحد، فقال يحيى عن ابن القاسم: سواء كانت أيمانه في أوقات مختلفة أو أيمان مختلفة فحنث فيها في وقت واحد أو حنث حنثاً بعد حنث فليس عليه إلا ثلث واحد. ابن عبد السلام: واختلف الشيوخ لو كانت اليمين الثانية قبل الحنث في الأولى هل يدخل في ذلك القولان، أو يتفق على وجوب ثلث واحد.

وَإِذَا زَادَ مَالُهُ بَعْدَ الْحِنْثِ وَاليَمِينِ فَثُلُثُ الأَوَّلِ، فَإِنْ نَقَصَ فَثُلُثُ الآخَرِ. وَقِيلَ: مَا لَمْ يَكُنْ عَلَى حِنْثٍ

كما إذا حلف ومالُه ألفُ حنث وماله ألفان فلا يلزمه إلا ثلث الألف، وهذا بين إن كانت الألف الثانية من فائدة. قال في البيان: واختلف إذا حنث وقد زاد بولادة أو تجارة ففي العتبية ليس عليه أن يخرج ثلث النماء، ومثله في الواضحة وغيرها لابن القاسم وهو صحيح لأنه على بر، وقال ابن القاسم: لا يدخل الولد في اليمين إذا كانت يمينه على بر،

ص: 401

وإن كان قد قال مالك أنهم يدخلون. وفي المبسوط لابن دينار أن ربح المال يدخل في الصدقة ولا يدخل الولد في اليمين بالعتق. قال في البيان: ولو عكس ذلك لكان أشبه من أجل الاختلاف في اليمين بصدقة المال. انتهى.

وأما إن نقص فإن كانت يمينه على بر فلا يلزمه إلا ثلث ما بقي اتفاقاً، وكذلك إن كانت على حنث على المشهور فقال ابن المواز: يلزمه إخراج الثلث مما نقص إن كان النقصان بسببه. ابن حبيب: وأما إن نقص من أمر من الله دون تفريط فلا خلاف أنه لا يلزمه إلا ثلث ما بقي. وحكى في الجواهر فيما إذا أنفقه بعد الحنث عن أشهب أنه لا شيء عليه ولا يتبع به ديناً، قال: وقال ابن القاسم يضمن إذا أنفقه أو ذهب منه كزكاة فرط فيها حتى ذهب المال. وقال سحنون: إذا فرط في إخراج الثلث حتى هلك المال ضمن. وفي الواضحة: من حلف بصدقة ماله فحنث ثم ذهب ماله باستنفاق فذلك دين عليه، وإن ذهب بغير سببه فلا يضمن ولا يضره التفريط متى أصابه ذلك.

وَفِي رَدِّ الزَّوجِ الثُّلُثَ فِي يَمِينِ الْجَمِيعِ قَوْلانِ

يعني: إن حلفت الزوجة بثلث مالها فليس لزوجها عليها كلام. واختلف إذا حلفت بجميع مالها، فالمشهور له رد الجميع. وقيل: ليس له إلا رد ما زاد على الثلث. وستأتي هذه المسألة في باب الحجر إن شاء الله.

* * *

ص: 402

الْجِهَادُ وَاجِبٌ عَلَى الْكِفَايَةِ بِإِجْمَاعٍ

الجهاد لغة: التعب، ومنه الجهد وهو المشقة. وشرعاً: هو تعب خاص، وهو مقاتلة العدو. وكان على الكفاية لأن المصلحة تحصل بالبعض. قال في الكافي: وفرض على الإمام إغزاء طائفة إلى العدو في كل سنة مرة يخرج معهم بنفسه أو يخرج من يثق به ليدعوهم إلى الإسلام ويرغبهم، ويكف أذاهم ويظهر دين الله عليهم، ويقاتلهم حتى يدخلوا في الإسلام أو يعطوا الجزية.

ابن عبد السلام: والصواب لو قال على الجمهور موضع الإجماع، فقد حكي عن ابن المسيب، وابن شبرمة وغيرهما أنه فرض عين. وحكي عن سحنون أنه سنة وليس بفرض. انتهى.

وما حكاه عن ابن المسيب كذلك حكاه المازري. والذي حكى اللخمي عن ابن شبرمة ليس بفرض. والذي لسحنون في كتابه ابنه: كان الجهاد فرضاً في أول الإسلام وليس اليوم بفرض، إلا أن يرى الإمام أن يغزو طائفة فيجب أن يطيعوه، ويكون جهازهم من بيت المال. وإذا تأملته تجده لا يدخل على السنية؛ لأن قوله: وليس اليوم بفرض. يحتمل أن يريد بفرض عين وهو الظاهر؛ لأنه كان في أول الإسلام فرضاً على الأعيان.

المازري- بعد أن نقل عن سحنون كما ذكرنا-: وحكي عن سحنون أيضاً أنه قال: كان في أول الإسلام فرضاً على جميع المسلمين وهو الآن مرغب فيه. وأشار إلى أنه يمكن أن يؤول على من بعدت داره عن موضع الجهاد وقام به في بعض المواضع من يكفي. وقد ذكر في المقدمات أنه قال: الآن فرض كفاية بإجماع كما قال المصنف. والله أعلم.

ص: 403

وَقَدْ جَاهَدَ رَسُولُ اللِه صلى الله عليه وسلم فِي الثَََّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ غَزْوَةَ بَدْرٍ، ثُمَّ أُحُدٍ، ثُمَّ ذَاتِ الرِّقَاعِ، ثُمَّ الْخَنْدَقِ، ثُمَّ بَنِي النَّضِيرِ، وَمُرَيْسِيعٍ وَفِيهَا اعْتَمَرَ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَّةِ الَّتِي صُدَّ عَنْهَا، ثُمَّ خَيْبَرَ وَاعْتَمَرَ فِيهَا عُمْرَةَ الْقَضِيَّةِ، ثُمَّ فَتْحِ مَكََّةَ وَفيهَا نَزَلَ عَلَى حُنَيْنٍ وَالطَّائِفِ، ثُمَّ تَبُوكَ وَهِيَ الأَخِيرَةُ، وَفِيهَا تَخَلََّفَ الثََّلاثَةُ وَجَمَاعَةٌ، وَفِيهَا أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ [258/ أ]- رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- أَنْ يَحُجَّ بِالنَّاسِ، وَحَجَّ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَاشِرِ وَتُوُفِّيَ بَعْدَ حَجِّهِ

تبع في هذا ابن بشير، ومقصدهما بذلك بيان مرتبة الجهاد في الدين؛ لمواظبته صلى الله عليه وسلم عليه. واعلم أن المصنف- رحمه الله تعالى- إذا عطف بثم فالمراد سنة ثانية، وإن عطف بالواو فهو مع ما قبله في سنة واحدة. وقوله:(فِي الثَََّانِيَةِ) أي: في السنة الثانية.

وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ نَزَلَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ وَفِيهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزُوا تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ حَتَّى يَكْتَفُوا وَيَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ عَيَّنَهُ الإِمَامُ مُطْلَقاً

يعني: أن الجهاد وإن كان فرضاً على الكفاية فهو يتعين في حالين: الأولى: أن ينزل العدو بقوم وفيهم قوة عليهم. ابن راشد: ولا خلاف أعلمه فيما ذكره المصنف. قال في الكافي: ولو قارب العدو دار الإسلام ولم يدخلها لزمهم الخروج. قوله: (فَإِنْ عَجَزُوا تَعَيَّنَ عَلَى مَنْ قَرُبَ مِنْهُمْ) يريد: ما لم يخف من يليهم معرة العدو، فإن خافوا ذلك بأمارة ظاهرة فيلزموا مكانهم، قاله سحنون. والحال الثانية: أن يعين الإمام طائفة فيتعين عليها. قوله: (مُطْلَقاً) يحتمل تعينوا أم لا. ويحتمل جاوره العدو أم لا. ويحتمل كان من أهل الجهاد أم لا. كالعبد والمرأة فإنهما حينئذ يلزمهما الخروج، نص عليه ابن شاس. ويحتمل كان له مانع من أحد أبويه أو رب الدين أم لا. ويحتمل أن يريد جميع ذلك.

فرع:

ويسقط وجوب الجهاد بالعجز الحسي وبالموانع الشرعية.

ص: 404

أما العجز الحسي: فكالصبا، والجنون، والأنوثة، والعمى، والعرج، والمرض، والفقر- أعني العجز عن السلاح، والركوب عند الحاجة إليه، ونفقة الذهاب والإياب- ولا يسقط بالخوف من المتلصصين؛ لأن قتالهم أهم. أبو إسحاق: وقطعة الطريق أحق بالجهاد من الروم.

وأما الموانع الشرعية: فكالرق، ومنع صاحب الدين، ومنع الوالدين. أما الرقيق فليس له جهاد دون أم سيده. وليس لرب الدين المنع بالدين المؤجل ععن الجهاد ولا عن سائر الأسفار، فإن كان يحل في غيبته وكل من يقضيه، وإن كان حالاً ولا يقدر على قضائه فله السفر بغير إذن رب المال. وللوالدين المنع ولا يبلغ الجد والجدة أن يلحقا بهما، وسفر العلم الذي هو فرض عين ليس لهما منعه منه، فإن كان فرض كفاية فليتركه في طاعتهما. ولهما المنع من ركوب البحار والبراري الخطرة للتجارة، وحيث لا خطر لا يجوز لهما المنع. والأب الكافر كالمسلم فيما عدا الجهاد من ذلك. وقال سحنون: وكذلك لهما المنع من الجهاد، إلا أن يعلم أن منعهما ليوهنا الإسلام.

وَالْقُوَّةُ أَنْ يَكُونَ الْعَدُوُّ ضِعْفَهُمْ فَمَا دُونَهُمْ عَدَداً. وَقِيلَ: قُوَّةً وَجَلَداً

لما ذكر أن القوة شرط في تعيين الجهاد أخذ يفسرها، فذكر فيها قولين. والقول باعتبار العدد لابن القاسم وجمهور الأصحاب. ابن عبد السلام: وهو المعروف. والقول باعتبار الجلد لابن الماجشون، ورواه عن مالك، واختاره ابن حبيب. والأول أقرب إلى ظاهر قوله تعالى: (فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ ([الأنفال: 66] الآية. ولم تفرق الآية بين كافر وكافر. وأيضاً فإن الإنسان قد يقاتل من لم يعاينه إلا حين القتال، فكيف يعلم منزلة من لم يخالط في الشجاعة. اللخمي: ولا أراهم يختلفون أنه متى جهل منزلة بعضهم من بعض في القوة أنهم مخاطبون بالعدد. يريد أن هذا الاتفاق مما يقوي القول الأول؛ لأنه إذا حمل اللفظ في هذه الصورة على الحقيقة وجب حمله في سائر الصور على ذلك. ولا يقال

ص: 405

أن المصنف فسر القوة بالقوة في القول الثاني، لأنه لما قرن القوة الثانية بلفظ الجلد صار كأنه فسر القوة في الآية بالشدة والجلد. والله أعلم.

تنبيه:

يستثنى على المشهور من اعتبار العدد ما إذا لم يؤمن أن يكثر الكفار. الباجي: وأما إذا كان الكفار في بلادهم وحيث يخاف تكاثرهم فإن للعدد اليسير أن يولوا عن مثلهم؛ لأن فرارهم ليس من العدد اليسير.

فَيَحْرُمُ الْفِرَارُ إِلا مُتَحَرِّفاً أَوْ مُتَحَيِّزاً

الفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إن حصلت القوة فيحرم الفرار. وهو من الكبائر عند مالك وأصحابه. ابن القاسم: ولا تجوز شهادة من فر من الزحف. ولا يجوز الفرار وإن فر إمامهم؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ([الأنفال: 16].

ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عدد المسلمين اثني عشر ألفاً، فإن بلغ اثني عشر ألفاً لم يحل الفرار وإن زاد عدد المشركين على الضعف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قلة". فإن أكثر أهل العلم خصصوا بهذا الحديث عموم الآية. وروي عن مالك ما يدل على ذلك من مذهبه، وهو قوله للعمري العابد إذ سأله: هل لي سعة في ترك مجاهدة من غيَّر الأحكام وتركها؟ إن كان معك اثنا عشر ألفاً مثلك فلا سعة لك في ذلك. انتهى.

والمتحرف: هو أن يرى من نفسه الانهزام وليس هو مقصده حتى يتبعه العدو [258/ ب] فيرجع عليه، وهو من أحد مكائد الحرب.

والتحيز: هو الرجوع إلى الأمير أو جماعة بشرط القرب. مالك: وأما إن بعد الأمير والجيش منه فلا يجوز ذلك. قال صاحب النوادر: وفي الموازية لا يجوز لأحد الانحياز إلا عن خوف بين، وعن جيش مستطيع، أو ضعف من السلطان. وأما عن أمن متناصف

ص: 406

وفي الغلبة مطمع فلا، ولا يكون لأمير الجيش ما يكون للسرايا من الانحراف والتولي عنهم، ولهم سعة في أن يثبتوا لقتال أكثر من الضعفين والثلاثة بأضعاف كثيرة وهم يجدون مصرفاً عنهم، فإن علموا أنهم مقتولون إن ثبتوا فأحب إلي أن ينصرفوا إن وجدوا إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يجدوا فلهم أن يقاتلوا حتى يقتلوا، فمن احتسب نفسه على ذلك فهو الشهيد، ومن ثبت حتى قتل ولم يجد مصرفاً فإنه يرجى له فضل الشهادة كما قال عمر. وروي عن مالك الكراهة لذلك. انتهى. واختلف قول مالك في إقدام الرجل على العدد الكثير والجيش الذي يوقن أنه يقتل بشرط أن يؤثر فيهم بالجواز والكراهة. قال في البيان: والصحيح الجواز.

ابن عبد السلام: والظاهر من قوله أن ذلك إنما يسوغ بشرط أن يعلم ذلك الواحد من نفسه من الشجاعة ما يكون عنها نكاية العدو وإن قتل، ويشترط أن يخلص النية لله تعالى لا لإظهار شجاعة، وإن كان كذلك حصل منه إرهاب العدو، وهما إحدى فوائد الجهاد، ولم يكن من إتلاف النفس بغير فائدة.

وَيَجِبُ مَعَ وُلاةِ الْجَوْرِ أَيْضاً عَلَى الأَشْهَرِ.

القولان في المدونة، والأشهر هو الذي رجع إليه مالك ارتكاباً لأخف المفسدتين، لأن الغزو معهم إعانة على جورهم، وترك الغزو معهم خذلان للإسلام.

ابن حبيب: سمعت أهل العلم يقولون لا بأس به وإن لم يوفوا بعهد ولا يضعوا الخمس موضعه.

ابن المواز: ولا يجوز خروج جيش إلا بإذن الإمام. وسهل مالك لمن يجد فرصة من عدو قريب أن ينهضوا إليهم بغير إذن الإمام، ولم يجز ذلك السرية ويحرمهم ما غنموا. سحنون: إلا أن تكون جماعة لا يخاف عليها فلا يحرمهم. يريد: وقد أخطؤوا. قيل: والخلاف في الجهاد مع ولاة الجور إنما هو إذا كان معهم من يقاتل، وإلا فيجب عليهم بالاتفاق.

ص: 407

فرع:

روى عيسى عن ابن القاسم قال: سئل مالك عن الوالي إذا قام عليه قائم يطلب إزالة ما بيده، هل يجب علينا أن ندفع عنه غيره؟ قال: أما مثل عمر بن عبد العزيز فنعم وأما غيره فلا، فدعه وما يريد منه، ينتقم الله من ظالم بظالم ثم ينتقم من كليهما.

وَفِي وُجُوبِ الدَّعْوَةِ ثَلاثُ طُرُقٍ: الأُولَى: تَجِبُ فِيمَنْ بَعْدَهُ. وَالثَّانِيَةُ: ثَالِثُهَا الأُولَى. وَالثَّالِثَةُ: رَابِعُهَا تَجِبُ فِي الْجَيْشِ الْكَثِيرِ الآمِنِ

تصور كلامه لا يخفى عليك. وذكر ابن بشير الأقوال الأربعة، قال: واختلف الشيوخ في ضبط المذهب. فذكر الطرق الثلاثة التي ذكرها المصنف.

ابن عبد السلام: إلا أن جعل هذا الخلاف في الوجوب لا تساعده الروايات إذا تأملت ألفاظها، وإنما يقولون: يدعى العدو إن بعدت داره أو على حالة ما، وهو محتمل للاستحباب، وربما صرحوا بذلك، والذي لم نشك فيه أنا إذا لم نعلم حال العدو وهل بلغته الدعوة أم لا كانت الدعوة مستحبة؛ لأن الغالب بلوغها إليه، وإن انضاف إلى ذلك رجاء الإجابة وجبت.

اللخمي: واتفق على وجوبها في حق من لم تبلغه. وهي في حق من بلغته على أربعة أوجه: واجبة، ومستحبة، ومباحة، وممنوعة.

والواجبة: إذا غلب على ظننا أنهم إذا دعوا أجابوا، وكان جيش الكفار لا طاقة لهم بالمسلمين. والمستحبة: إذا شك هل يجيبوا أم لا. والمباحة: إذا علم أنهم لا يجيبون. والممنوعة: إذا كان بالمسلمين قلة ويخشى بالدعوة على المسلمين، ولا يشك في سقوطها إذا عاجلونا. المازري: وفي المدونة: الأمر بدعاء السلامة غير قتالهم، وهو يحسن على القول بأن الدعوة يؤمر بها وإن كان عالماً؛ لأن السلابة مسلمون وهو عالمون بأنهم ظالمون.

ص: 408

تنبيه:

هذا الخلاف في الروم، وأما القبط، ففي المدونة: لا يقاتلون ولا يبيتون حتى يدعوا ولم ير أن دعوة الإسلام قد بلغتهم. ابن يونس: يريد أنهم قوم لا يفقهون، فكأنه رأى أنهم لم يفقهوا ما يدعون إليه فرأى أن يدعوا وتبين لهم الدعوة؛ لا كما قيل: إنما ذلك لأن مارية القبطية أم ولده صلى الله عليه وسلم، وأنكر ذلك بعض الناس وقال: القبط من أحذق الناس، وإنما العلة فيهم أنه كان لهم عهد فركبوا بالظلم وتداول الملوك ذلك من أهل الجور فنقضوا ما كانوا عليه من العهد، فلذلك لم يقاتلوا حتى يدعوا ويخبرون أنهم يردون إلى ما كانوا عليه، ويسار فيهم بالعدل وطريق الحق، وأما الروم فما كان لهم عهد قط.

فرع:

فإن قوتل من لم تبلغه الدعوة قبلها فقتلوهم وغنموا أموالهم وأولادهم، فمذهبنا أنه لا شيء على المسلمين من دية ولا كفارة. المازري: وهو مذهب [259/ أ] أبي حنيفة.

وقال الشافعي: فيه الدية، وحجتنا أن النهي عن قتالهم قبل الدعوة لا توجب مخالفته الدية؛ كقتل النساء والصبيان.

وحكى المازري عن بعض أصحابنا البغداديين: أنه لو ثبت لنا أن هذا المقتول متمسك بكتابه وآمن بنبيه حسبما اقتضاه كتابه، ولكنه لم يعلم ببعثته صلى الله عليه وسلم فقتل قبل الدعوة فإن فيه الدية.

وَهِيَ أَنْ يَدْعُوَا إِلَى الإِسْلامِ أَوْ الْجِزْيَةِ

ليس هو مخير كما هو ظاهر كلامه، بل يدعون أولاً إلى الإسلام فإن أبوا فإلى الجزية. التونسي: وفي الواضحة: إذا وجبت الدعوة فإنما يدعون إلى الإسلام جملة من غير ذكر الشرائع إلا أن يسألوا عنها فتبين لهم، وكذلك الجزية جملة بلا توقيت ولا تحديد إلا أن يسألوا فتبين لهم. وذكر اللخمي وغيره: أن صفة الدعوة تختلف وكلها راجعة إلى أن

ص: 409

يدعى إلى الرجوع عن الوجه الذي به كفر. ونص اللخمي على أن الكافر إذا أقر بالألوهية والرسالة، ثم أنكر الإقرار بالصلاة، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج كان على حكم المرتد، فإن رجع وإلا قتل.

وذكر المتيطيعن مالك وابن القاسم وغيرهما: أن إسلام الكافر لا يصح إلا بعد إقراره بفروع الشريعة، وأنه إذا أقر بالوحدانية والرسالة ثم رجع أنه يؤدب ويشدد عليه، وإن أبى لم يكن عليه شيء، قال: وبه أخذ ابن عبد الحكم، وبه القضاء والعمل. وحكى ما ذكره اللخمي عن أصبغ قال: وإن اغتسل لإسلامه ولم يصل إلا أنه أحسن إسلامه ثم رجع عن إسلامه، فإنه يؤخذ بالصلاة فإن صلى وإلا قتل.

قال ابن القاسم: ولا يقتل حتى يصلي ولو ركعة واحدة.

ولا يُسْتَعَانُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي الْقِتَالِ إِلا أَنْ يَكُونُوا نَوَاتِيَةً أَوْ خَدَماً

لقوله جل ثناؤه: (وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً ([النساء: 89] ولما في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم لليهودي الذي اتبعه: "ارجع فلن أستعين بمشرك" واختلف إذا خرج الكفار من تلقاء أنفسهم، فظاهر ما في سماع يحيى أنهم لا يمنعون. وقال أصبغ: يمنعون أشد المنع.

وقوله: (إِلا أَنْ يَكُونُوا نَوَاتِيَةً أَوْ خَدَماً) نحوه في المدونة. وينبغي أن تقيد النواتية بما إذا كانوا تبعاً لغيرهم.

ابن حبيب: ويستعملون في رمي المجانيق وهدم الحصون. قال: ولا بأس أن يقدم من سالمه من بحذاء عسكره وقربه ما لم يكونوا في داخل عسكره، وكره بعض أهل المدينة رميهم بالمجانيق قال في الجواهر: وتجوز الاستعانة بالعبيد إذا أذن السادة، وبالمراهقين إن كانت فيهم قوة.

ص: 410

وَلا بَاسَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَاعِدُ لِلْخَارِجِ جُعْلاً وهُمَا من دِيوَانٍ وَاحِدٍ، مَضَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ ..

يعني: إذا عين بعثاً فأراد بعض من أمر بالخروج أن يجعل جعلاً، جاز بشرط أن يكونا من ديوان واحد. مالك في المدونة: لأن عليهم سد الثغور، وربما خرج لهم العطاء، وربما لم يخرج. قال فيها: ولا يعجبني أن يجعل لمن ليس معهم في ديوان ليغزو عنه، وقد كره مالك لمن في السبيل إجارة فرسه لمن يرابط عليه أو يغزو عليه، كمن بعسقلان وشبهها، فهو إذا أجر نفسه أشد كراهة. وكان مالك- رحمه الله أشار إلى أن الأصل منع هذه الإجارة؛ لكونها إجارة مجهولة، وإنما أجاز ذلك إذا كانا من ديوان واحد؛ لأن على كل واحد منهما ما على الآخر فليست إجارة حقيقة، وما ذكرناه من عدم الجواز إذا لم يكونا من ديوان واحد كذلك صرح به التونسي، قال هو وابن يونس وغيرهما: ولا يخرج أحد عن أحد إلا بإذن الإمام ولو كان الثاني أشجع؛ لأن الإمام قد يرى من سماه أولى.

التونسي: أما إذا قال: يخرج من البعث الفلاني مائة فأعطى بعضهم لبعض على أن يخرج عنه، فقال الإمام: إذا أخرج جاز ذلك؛ لأن الإمام لم يسم أحداً، ولو قال: يخرج جملة بعث أهل الصيف، فأراد بعضهم أن يجعل لمن يخرج في الربيع لم يجز إلا بإذن الإمام؛ لأنه قد عين من يخرج فلا يخرج غيره إلا بإذنه، وينبغي إذا أتاه من يقوم مقامه ألا يكلفه الخروج؛ إذ لا ضرر عليه في ذلك، وهذا جائز إلا لمن وقف نفسه لهذا يلتمس الزيادة فمتى وجدها خرج، فمكروه.

ولا يُسَافَرُ بِالنِّسَاءِ إِلَيهِمْ إِلا فِي جَيْشٍ كبيرٍ آمِنٍ، ولا يُسَافَرُ بِالْمُصْحَفِ إِلْيَهَا بِحَالٍ ..

إنما لم يسافر بالنساء إليهم خشية أن ينال المرأة العدو، إلا في جيش كبير آمن؛ لأن الغالب حينئذ السلامة، وقد ثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان يسافر في الغزو ببعض

ص: 411

نسائه؛ وقالت الربيع بنت معوذ: كنا نغزو مع الرسول صلى الله عليه وسلم فنسقي القوم ونخدمهم

الحديث. والأمن مع النبي صلى الله عليه وسلم موجود ومفهوم.

وقوله: (إِلَيهِمْ) جواز السفر بهن في أرضنا كالثغور وليس على إطلاقه؛ بل قيد ذلك سحنون بالمواضع المأمونة الكبيرة [259/ ب] كالإسكندرية وتونس، وشك في صفاقس وسوسة ومثله لمالك. مالك: ورب ثغر فيه ألف رجل ليس بمأمون ولم يسافر بالمصحف إليهم بحال خوفاً من أن يناله العدو، والفرق بين المصحف والنساء، أن المصحف قد يسقط ولا يشعر به بخلاف المرأة فإنها تذكر نفسها؛ ولأن النهي في المصحف عام. ففي الموطأ: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو، وذلك مخافة أن يناله العدو. وقال في الاستذكار: هكذا قال يحيى وأكثر الرواة. وقال ابن وهب عن مالك في آخره: خشية أن يناله العدو. ولم يجعله من قول مالك؛ وهو بلفظ مرفوع صحيح، وكذلك رواه جماعة.

ابن الماجشون: ولو أن الطاغية كتب إلى الملك أن يبعث إليه مصحفاً ليتبدره، فلا ينبغي لأنه نجس؛ هكذا نقل صاحب النوادر وابن يونس. ونقل الباجي عنه عدم الجواز وهو مقتضى التعليل. ابن الماجشون: ولا بأس أن يقرأ الرجل القرآن على الكفار ويحتج عليهم به. وقال في الاستذكار: واختلفوا في تعليم الكفار القرآن، فأجازه أبو حنيفة. وكذلك الفقه رجاء أن يرغبوا في الإسلام. وقال مالك: لا يعلم القرآن ولا الكتاب، وكره رقية أهل الكتاب، واختلف فيها قول الشافعي. وكره مالك وغيره أن يعطي الكافر درهماً فيه آية من القرآن؛ ولا خلاف فيه إذا كانت آية تامة، وإنما اختلفوا فيها إذا كان فيه اسم من أسماء الله تعالى، ولم تكن الدراهم عليها اسم الله تعالى، وإنما ضربت دراهم الإسلام في أيام عبد الملك بن مروان. انتهى.

ص: 412

ابن عبد السلام- بعد أن ذكر قول مالك وأبي حنيفة-: وأجاز الجميع أن يقرأ عليهم القرآن، وأن يبعث إليهم بالكتاب فيه آيات من القرآن، والأحاديث بذلك كثيرة.

وَإِذَا تَسَاوَتِ الأَحْوَالُ عِنْدَ الْمَغْلُوبِ فِي الْعَطَبِ، فَالْمَشْهُورُ: جَوَازُ الانْتِقَالِ وَلَوْ رَجَا أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ..

قال في المدونة: وإذا حرق العدو سفينة للمسلمين فلا بأس أن يطرحوا أنفسهم في البحر؛ لأنهم فروا من موت إلى موت، وهو أحد قولي ربيعة. قال: وإن صبروا فهو أكرم. ومقابل المشهور لابن القاسم في الموازية: أنه لا ينتقل واختاره ابن المواز؛ لأن في انتقاله سبباً لقتل نفسه، وبه قال ربيعة في أحد قوليه.

وقوله: (وَلَوْ رَجَا أَحَدُهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ) أي: فلو رجا النجاة في أحد تلك الأحوال وجب وهو ظاهر، وكذلك عبر ابن بشير بالوجوب. وعبارة المتقدمين في هذه المسألة: فله ذلك.

وسئل ربيعة عن مدينة حاصرها العدو فضعفوا عن قتالهم وليس عندهم ما يكفيهم أيخرجون للقتال، أم يصبرون حتى يموتوا جوعاً؟ قال: بل يخرجون إلى القتال أحب إلي.

ابن سحنون: فلو بلغ بهم الجوع حتى لا يقدروا على القتال، فإن طمعوا في الأسر مفاداة أو نجاة وقد عرف ذلك من العدو، فليخرجوا إليهم، وإن كانوا يقتلونهم فليصبروا للموت جوعاً وعطشاً. التونسي: ولم يبح لهم الخروج، ولعل ذلك أروح لهم.

وقد اختلف في المركب من المسلمين يلقي الروم عليها النار، هل يثقل الرجل نفسه ليغرق؟ وكأنه اعترض عدم جواز الخروج؛ لأن القتل صبراً أهون من الصبر للجوع، وقد يجاب عن هذا بما قاله ابن عبد السلام.

الشافعي: إنه إذا كانت إحدى الطائفين في الحالتين يطول بقاؤه معها أكثر، تعين الانتقال إليها وهو ظاهر؛ لأن حفظ الحياة واجب ما أمكن. وروى أبو الفرج عن مالك: لا حرج على من أظله العدو في البحر أن يلقي نفسه فيه.

ص: 413

اللخمي: وليس بالبين، ولا أرى يلقي بنفسه مع رجاء الأسر؛ لأنه قدم الموت على الحياة مع الأسر، واستشكار اللخمي ظاهر، وهذه الرواية مخالفة لما تقدم، إلا أن يأول أن العدو إذا أسروه لا يبقوه.

وَإِذَا اؤْتُمِن الأَسِيرُ طَائِعاً لَمْ تَجُزِ الْخِيَانَةُ، وإِلا جَازَت ويَمْلِكُهُ، وكَذَلِكَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ وَيَاتِي بِمَالِ غَيْرِهِ، ولا يُخَمَّسُ

يدخل في قوله: (وإِلا جَازَت) صورتان: إذا لم يؤتمن، أو اؤتمن مكرهاً، وكذلك قال ابن بشير.

وفي اللخمي: لا يهرب ولو كان مكرهاً؛ لأن ذلك يؤدي إلى الضرر بالمسلمين والتضييق على من بأيديهم من الأسارى ويرون أن المسلمين لا يوفون بالعهد. وتكلم الأصحاب هنا على ما إذا اؤتمن على نفسه أو مال، والظاهر أن المصنف إنما تكلم على المال؛ لأن ذلك المتبادر من لفظ الأمانة؛ ولقوله:(ويَمْلِكُهُ) فإن الملك لا يكون إلا في المال. واختلف في النفس والمال. فقال سحنون: عليه أن يؤدي أمانته في نفسه وماله. وفي البيان عن المخزومي وابن الماجشون: له أن يهرب ويأخذ من أموالهم ويقتلهم وإن ائتمنوه، فإن أحلفوه فلا حنث عليه؛ لأن أصل يمينه الإكراه.

ونقل ابن عبد السلام وغيره عن مالك: أنه يهرب بنفسه لا بماله، وكذلك نقهل في الكافي عن مالك، وقال: عليه أن يخرج ويكفر عن يمينه إن لم يكره عليها، وإن أكره فلا كفارة عليه، قال: وهو الصحيح. وفرق ابن المواز، فقال: إن كان ذلك بعهد ووعهد فذلك يلزمه، وأما بالطلاق والصدقة فلا يلزمه ولا حنث عليه فيه لأن مكره. وقاله ابن القاسم وزاد: وللأسير أن يسرق من مال العدو [260/ أ] ولا يعاملهم بالربا. وقال أشهب: إن دفعوا إليه ثوباً يخيطه فلا يحل له أن يسرق منه؛ لأنه اؤتمن عليه.

ص: 414

ابن المواز: وما أقر به بعد تخلصه إلى بلد الإسلام أنه كان فعله من سرقة، أو زنىً، أو خيانة، أو ربا. فلا شيء عليه في السرقة، وأحب إلي أن يتصدق بقدر ما أربى به، أو خان، إذ لا يقدر على رد ذلك إلى أهله، واختلف في زناه، فقال ابن القاسم: يقام عليه الحد إن شهد عليه أو أقر وأقام على إقراره ولم يرجع، وقاله أصبغ، وسواء زنى بحرة أو مملوكة. وقال عبد الملك: لا حد عليه في زناه ولا في سرقته.

قوله: (ولا يُخَمَّسُ) راجع إلى المسألتين؛ لأن الحكم فيهما عدم التخميس، إذ لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهذا هو المشهور. وحكى في البيان عن ابن المواز: أن عليه الخمس إن كان أسر ببلد الحرب؛ لأنه لم يصل إلا بالإيجاف، بخلاف ما إذا أسر من بلاد المسلمين. قال: وقوله بعيد على أنه إنما ساقه في كتابه على أنه تفسير للمذهب.

وَيجِبُ فِدَاءُ الْمُسْلِمِينَ

وهذا كقول مالك في العتيبة: يجب على المسلمين فداء أسراهم بما قدروا عليه، كما يجب عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم، وإن لم يقدروا على فدائهم إلا بكل ما يملكون فذلك عليهم. الباجي: والوجوب قول جمهور الأصحاب.

وسئل أشهب عن المفاداة بالخمر، فقال: لا يدخل في نافلة بمعصية، فسماه نافلة. المازري: ولعل أشهب ما قصد ما يدل عليه حقيقة، وإنما عبر بالنافلة لأنه لما كان الفداء لا يمكن أن يكون إلا بالخمر سقط وجوبه وصار من جهة السقوط كالنافلة التي لا تجب.

صاحب البيان: ويبدأ بالفداء من بيت المال، فإن عجز عنه بيت المال، فهو على جميع المسلمين على قدر أموالهم والأسير كأحدهم، فإن تعذر هذا وجب عليه أن يفدي نفسه من ماله. وفي الاستذكار: تقديم الأسير على جماعة المسلمين في فداء نفسه، ومقتضاه أنه قول مالك. وقال اللخمي: أرى أن يبدأ بمال الأسير ثم بيت المال، فإن لم يكن أو لم يتوصل إليه

ص: 415

فمن الزكاة على المستحسن من القول، فإن لم يكن فعلى جميع المسلمين على قدر الأموال إذا كان لا يستغرق أموالهم، وإن كان يستغرقها افتدي بجميعها.

وَفِي الْمُفَادَاةِ بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ وآلَةِ الْحَرْبِ، ثَالِثُهَا: يُفَادَى بِآلَةِ الْحَرْبِ، ورَابِعُهَا: بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ دُونَهَا ....

المنع مطلقاً لابن القاسم، والجواز مطلقاً لسحنون، قال: ويبتاع لهم الخمر للفداء، هكذا نقل الباجي عنه. ونقل اللخمي، وصاحب البيان، وابن يونس عنه أنه قال: ويأمر الإمام أهل الذمة بدفع ذلك إليهم ليحاسبهم بذلك في الجزية. والقول بجواز المفاداة بالخيل والسلاح دون الخمر والخنزير وما أشبههما لابن الماجشون وأشهب؛ لئلا يتذرع إلى ملك الخمر وإشاعتها في أسواق المسلمين، والرابع عكس الثالث. ونسبه اللخمي وابن راشد لابن القاسم في الموازية؛ لأنهم يتقوون على المسلمين بآلة الحرب. وسبب الخلاف تعارض مفسدتين؛ إحداهما: إعانة الكفار بآلة الحرب والخمر. والثانية: بقاء المسلمين بأيديهم. وينبغي على هذا أن تتبع المصلحة الراجحة.

وفِي الْمُفَادَاةِ بِأَسَارَى الْعَدُوِّ الْمُقَاتِلَةِ قَوْلانِ

القول بالجواز لأصبغ؛ لما في مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين مسلمين بمشرك. وقيده اللخمي بما إذا لم يخش بتسليمهم الظهور على المسلمين.

ابن عبد السلام: ولا شك أن منع المفاداة بآلات الحرب أنه يمنع المفاداة في هذا الفرع. انتهى. أما من لم يقاتل، فقال سحنون: لا بأس أن يفدوا بصغار أطفال المشركين إذا لم يسلموا، أو بالذمي إذا رضي الذمي وكانوا لا يسترقونه.

ص: 416

ولا يَرْجِعُ عَلَى الأَسِيرِ مُسْلِماً أَوْ ذِمِّيّاً وإِنْ كَانَ غَنِيّاً، إِلا مَنْ يَقْصِدُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَقيلَ: إِلَاّ فِيمَا يُمْكِنُ بِدُونِهِ وفِيمَنْ يُرْجَى خَلاصُهُ

الباجي: الذي عليه جمهور أصحابنا أنه يرجع على الأجنبي مطلقاً إلا أن يريد الصدقة، وعلى الأقارب الذين ليسوا من ذوي المحارم، ولا يرجع على أقاربه الذين يعتقون عليه.

ابن راشد: فجعل الرجوع على الأجنبي والقريب غير ذوي المحرم أصلاً، والمصنف جعل عدم الرجوع أصلاً إلا أن يقصد الرجوع، ويحتمل أن يكون ما قاله المصنف موافقاً للباجي بأن يريد إلا أن يقصد بضم الياء على البناء لما لم يسم فاعله؛ أي: لا يرجع إلا على من يقصد الرجوع عليه في العادة وهو الأجنبي، ومن ليس بذي محرم من الأقارب، وحمله على هذا أولى؛ لمطابقة كلام الباجي. انتهى.

وانظر قول الباجي الذي عليه جمهور أصحابنا، فإنه لم يذكر مقابل الجمهور. وعلى الرجوع، فقال الباجي: يرجع بمثل ما اشتراه به إن كان مثلياً، أو بقيمته إن كان مقوماً.

ابن عبد السلام: وفي الرجوع بالقيمة هنا نظر؛ لأن الفادي كالمسلف للأسير، والسلف يقضي فيه بالمثل إن كان السلف مثلياً.

قوله: (وَقيلَ: إِلَاّ فِيمَا يُمْكِنُ

) إلخ. هذا القول للخمي، استثنى صورتين:

الأولى: إذا أمكن الفداء بأقل مما فدى به فلا يلزمه إلا ذلك الأقل.

الثانية: أن يمكن الأسير التخلص من غير شيء فلا يلزمه شيء. ويشترط في الصورتين [260/ ب] جميعاً عنده أن تكون قدرة الأسير على ما زعمه معلومة.

خليل: وينبغي أن يكون تقييداً، كما قالوا في الرجل يأتي بالبقر يحرث بها أرضه، فيغلط فيحرث أرض جاره ثم يطلب أجرة الحرث من جاره، فإن كان جاره يحرثها بنفسه وعبيده فلا شيء عليه، وإن كان إنما يحرثها بالأجرة فإنه يرجع عليه بها.

ص: 417

ولْيَتْبَعْ ذِمَّتَهُ إِنْ كَانَ فَقِيراً

يعني: إذا قلنا بالرجوع فلا يسقطع فقره بل تتبع ذمته. ابن راشد: وكذلك إن علم أنه فقير وفداه فإنه يرجع عليه، وهو قول ابن القاسم. وقال في المنفق على الصبي الفقير: لا يرجع عليه بما أنفق ورآه محتسباً. والفرق أن الكبير قادر على التكسب بخلاف الصبي. وقال بعض الأندلسيين: لا يرجع على الفقير.

وفِي رُجُوعِ الْمُسْلِمِ عَلَيْهِ بِالْخَمْرِ ونَحْوِهِ إِنْ كَانَ اشْتَرَى الْخَمْرَ لِذَلِكَ قَوْلانِ، بِخِلافِ الذِّمِّيِّ ....

لا إشكال أن الذمي يرجع بقيمة الخمر والخنزير ونحو ذلك، وأما المسلم فقال سحنون: لا يرجع بقيمة ذلك. الباجي: ويحتمل على قوله بإجازة الفداء بالخمر والخنزير أن يرجع على الأسير بثمن ذلك. ابن عبد السلام: ولا يوجد القول بالرجوع إلا ما قاله الباجي وجعله محتملاً.

فرع:

سحنون: ومن فدى خمسين أسيراً ببلد الحرب وفيهم المليء والمعدم؛ فإن كان العدو قد عرف ذلك منهم قسم عليهم الفداء على تفاوت أقدارهم، وإن جهل العدو ذلك منهم قسم عليهم بالسواء؛ وإن كان فيهم عبيد فهم سواء وساداتتهم بالخيار بين أن يفدوهم أو يسلموهم.

فَإِنْ كَانَ قَرِيباً لا يَرْجِعُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْهِبَةِ، فَثَالِثُهَا: إِنْ كَانَ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ فَلا رُجُوعَ إِلا أَنْ يَامُرَهُ مُلْتَزِماً عَلَى الأَصَحِّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً بِهِ رَجَعَ عَلَى الأَصَحِّ

قوله: (لا يَرْجِعُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْهِبَةِ) أي: هبة الثواب. وسيأتي ذلك في بابه إن شاء الله تعالى. ثم قسم المسألة على قسمين: تارة يكون عارفاً به، وتارة لا يكون عارفاً به. وذكر في العارف ثلاثة أقوال- وتصورها من كلامه ظاهر-: الأول: عدم الرجوع مطلقاً. والثاني: مقابله. والثالث: التصنيف.

ص: 418

ومراد المصنف بالقريب: من كان ذا محرم، وأما ذو الرحم وليس بمحرم فلا خلاف أنه كالأجنبي ويتبعه مطلقاً، قاله في المقدمات، وليس من الأقوال الثلاثة ما هو منصوص إلا القول الأول بعدم الرجوع، وهو قول ابن حبيب وسحنون.

والقول بالرجوع مطلقاً خرجه بعضهم من قول المغيرة في المكاتب يؤدي عمن معه في الكتابة أنه يرجع عليه، كان ممن يعتق عليه أم لا، وهكذا قال ابن راشد: إنه لم يقف إلا على القول بعدم الرجوع، وزعم ابن عبد السلام أن الثالث هو المنصوص، وفيه نظر؛ فإني لم أره في شيء من الأمهات، ثم كلامه يقتضي أن القول بنفي الرجوع مطلقاً ليس بمنصوص، وقد نقله ابن يونس والباجي وغيرهما.

وفي الكافي عن مالك، وابن القاسم أن من فدى قريباً لا يعتق عليه كالخالات لا يرجع عليه، إلا أن يكون لم يعلم به حين الفداء، وأن من فدى من يعتق عليه فلا رجوع له عليه مطلقاً علم أو لم يعلم، ولا يقال هذا الثالث في كلام المصنف؛ لأن هذا القول فيه تفصيل بين العلم وعدمه، وكلام المصنف إنما هو مع العلم؛ لقوله بعد ذلك:(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً) وفي المقدمات إن كان قريباً يعتق عليه، فقال ابن حبيب: لا يتبعه. وقيل: لا يتبعه إذا علم. وهو الذي يأتي على ما في المدونة واختلف إذا كان لا يعتق عليه، فقيل، إنه كالزوجة لا يتبعه إذا علم إلا إذا فداه بأمره. وقيل: كالأجنبي يتبعهي في كل حال. وقوله: (إِلا أَنْ يَامُرَهُ) ابن عبد السلام: هو استثناء من تمام القول الثالث ويتعدى بالمعنى إلى القول الأول؛ يعني: أنه يقول بإسقاط رجوع الفادي إذا لم يأمره الأسير، فإن أمره الأسير بذلك ملتزماً للأداء رجع عليه على الأصح، وسواء كان ممن يعتق عليه أو لا، وهذا الأصح، نقله الباجي وغيره عن سحنون، والقول بعدم الرجوع مطلقاً لم أقف عليه، وهكذا قال، وكأنه رأى الحكم لما اقتضى عنده عدم الرجوع وصار التزامه لذلك كالتزام المكره، فلا يلزم وفيه بعد. وقوله:(فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَارِفاً بِهِ رَجَعَ عَلَى الأَصَحِّ) هذا هو القسم الثاني،

ص: 419

وهو إذا فدى قريبه غير عالم بأنه قريب له بل فداه على أنه أجنبي فإنه يرجع عليه على الأصح، سواء كان ممن يعتق عليه أم لا، وهو الذي يأتي على ما في المدونة على ما في المقدمات. وفرق ابن حبيب بين من يعتق عليه فلا يرجع عليه، وبين ما لا يعتق عليه فيرجع عليه، واقتصر عليه الباجي، وابن يونس.

فداء القريب لقريبه على ثلاثة أوجه: إن فداه وهو يعرفه لم يرجع عليه مطلقاً؛ كان ممن يعتق عليه أو لا، وإن فداه بأمره يرجع عليه مطلقاً، وإن فداه وهو لا يعرفه فلا يرجع على من يعتق عليه ويرجع على من سواه من الأقارب الذين لا يعتقون عليه وعلى الزوجين.

والزَّوْجَانِ كَالْقَرِيبَيْنِ فَلا رُجُوعَ عَلَى الْمَشْهُورِ

هذا يقتضي أن المشهور في الفرع السابق من الأقوال الثلاثة عدم الرجوع؛ لأنه إذا كان شبه القرابة مانعاً من الرجوع فالقرابة من باب الأولى، وهذا أحسن إذا ساعده النقل، والمنصوص [261/ أ] في الزوجين إذا اشترى أحدهما صاحبه وكان عارفاً به عدم الرجوع، فإن لم يكن عارفاً به اتبعه بذلك في ملائه وعدمه، قاله ابن القاسم وابن حبيب، ورواه مطرف وابن الماجشون عن مالك؛ لكن أشار سحنون وغيره إلى تخريج قول بالرجوع من إحدى الروايتين بالقضاء بينهما بالعوض في الهبة، وعبد الحميد وغيره يقدحون في هذا التخريج بأن المسائل المبنية على العوائد لا تخرج عليها مسائل أخرى، إذ من الممكن أن تكون العادة جرت في أمر بصورة ولم تجر في نظيرها، ومن الممكن أن تسمح النفوس بالهدية دون الفداء، ولاسيما مع نزارة الهدية وكثرة الفداء.

وإِذَا جَعَلَ الأَسِيرُ لِفَادِيهِ جُعْلاً، فَالْمَنْصُوصُ: يَسْقُطُ، وقِيلَ: إِلا أَنْ يَتَكَلََّفَ مَا لا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ واخْتِيرَ ..

قال ابن بشير: ولو جعل الأسير لمن فداه جعلاً على فدائه، فنص الروايات أنه يسقط، وذلك ظاهر إذا لم يتكلف في ذلك مؤنة أو تكلفها وقد تعينت؛ فإن تكلف ما لا

ص: 420

يتعين عليه فينبغي أن يكون له من الأجر بحسب كلفته. انتهى. ونقل ابن عبد السلام مقابل المنصوص عن المتأخرين وكلام المصنف لا يؤخذ منه هذا، وإنما ظاهره على أن القول إذا تكلف يجب مجموع الجعل، وهو ظاهر ما علل به ابن راشد؛ لأنه قال: قاسه في القول الثاني على جواز الإجازة على الإمامة إذا انضم إليها خدمة المسجد، بجامع أن تكليف هذا ما لم يتعين عليه كتكليف الآخر خدمة المسجد، واختاره الأشياخ. انتهى.

وفِي كَوْنِ الْفَادِي أَحَقَّ مِنَ الْغُرَمَاءِ قَوْلانِ، بِخِلافِ مَا يَكُونُ مَعَهُ

يعني: إن فدي الأسير بمال وكان عليه دين، فهل يكون الفداء مقدماً أم لا؟ أما بالنسبة إلى ما قدم به من بلاد العدو فالفادي مقدم؛ لأن ما دفعه في مقابلة رقبته وما في يده، وأما بالنسبة إلى ماله الذي ببلاد الإسلام، فقال سحنون وعبد الملك: هو أيضاً أولى به؛ لأن الفداء آكد بدليل أنه يفادي بغير إذنه وبأضعاف قيمته، وقال ابن المواز: هو أسوة الغرماء وهو أقيس؛ لأن الفداء تعلق بذمته كالدين، وناقض ابن يونس، وابن زرقون قول محمد في هذه المسالة بما له أيضاً في أم الولد، وذلك أن عبد الملك قال في أم الولد: أن يشتريها من العدو أولى بما في يد سيدها من الغرماء قال محمد: صواب جيد.

وَإِذَا اخْتَلَفَ الأَسِيرُ والْفَادِي، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الأَسِيرِ عَلَى الأَصَحِّ

أي: اختلف في أصل الفداء وقدره، وظاهر كلام المصنف وفي جنسه؛ لكن لم أر المسألة في كتب الأصحاب إلا في أصل الفداء وفي قدره. والأصح رواه ابن حبيب عن ابن القاسم، وابن الماجشون، ومطرف، وأصبغ: أن القول قول الأسير في إنكاره الفداء جملة وفي إنكاره بعضه إن أتى بما يشبه، سواء أخرجه من دار الحرب أم لا.

ابن حبيب: وقيل: إذا أقر الأسير أنه فداه واختلفا في قدر الفداء، صدق الفادي ويصير كالرهن في يديه، وهذا خلاف قول مالك. وكذلك قال سحنون: القول قول الفادي إذا

ص: 421

كان الأسير بيده، هكذا نقل الباجي. ابن عبد السلام: فالذي يظهر من هذا النقل أنه إن لم يكن في يديه فالقول قول الأسير، وإن كان في يديه فقولان. انتهى.

وظاهر كلام المصنف: (فَالْقَوْلُ قَوْلُ الأَسِيرِ) أن القول قوله ولو ادعى غير الأشبه، وهو قول ابن القاسم في العتبية. ابن يونس: يريد مع يمينه، واحتج ابن القاسم على ذلك بما قاله مالك: أنه لو أنكر الفداء أصلاً وقد خرجا من بلاد الحرب كان القول قول الأسير؛ لكن قال في البيان: إن القول قول الأسير، وإن ادعى ما لا يشبه ليس على أصولهم مراعاة دعوى الأشبه في التداعي؛ لاتفاقهما أنه فداه بذلك، بخلاف إذا ادعى أحدهما على صاحبه أنه فداه فأنكر، والذي يأتي على أصولهم إذا اختلفا في مبلغ الفدية أن يكون القول قول الأسير إن أتى بما يشبه، وإن أتى بما لا يشبه كان القول قول الفادي إن أتى بما يشبه، فإن أتى بما لا يشبه حلفا جميعاً وكان للفادي ما يفدي به مثله من ذلك المكان، وكذلك إن نكلا جميعاً، وإن نكل أحدهما وحلف الآخر كان له ما حلف عليه وإن لم يشبه؛ لأن صاحبه قد مكنه من ذلك بنكوله. انتهى.

واستشكل صاحب البيان قول من قال عن كون الأسير بيده: يرجح قول الفادي قال: لأنه لما كان لا يباع لم يكن كالرهن، وليس كونه بيده دليلاً على قلة الفدية أو كثرتها، وإنما كان ينتفع الفادي بكون الأسير في يده إذا اختلفا في أصل الفداء؛ لأن كونه في يده دليل على أنه فداه.

الْمُقَاتَلُ بِهِ، وَيُقَاتَلُ الْعَدُوُّ بِكُلِّ نَوْعٍ، وبِالنَّارِ إِنْ لَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهَاوخِيفَ مِنْهُمْ

المقَاتَل: هو من يجوز قتاله من الكفار، وإنما صدر كلامه بالآلة؛ لأن قتل المقاتل إنما يكون بها، وأيضاً ليبين ما يجوز به القتال وما لا يجوز؛ يعني: أن العدو يجوز قتاله بسائر أنواع الحرب من رمي المجانيق، وإرسال الماء عليهم، وقطع الماء عنهم، وبالنار إذا لم يمكن غيرها، ولا خلاف أنه إذا خيف منهم ولم يكن غير النار أنهم يقتلون بها.

ص: 422

ابن راشد: والخلاف الذي حكاه إنما هو إذا لم يخف منهم وقدرنا عليهم بالنار وغيرها، فقال ابن القاسم وسحنون: لا يقاتلون [261/ ب] بها. وقيل: يقاتلون بها، ونسبه ابن عبد السلام لمالك. ومنشأ الخلاف ما في البخاري من حديث أبي هريرة قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث، فقال:"إن وجدتم فلاناً وفلاناً فأوقدهما بالنار". ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أردنا الخروج: "إني أمرتكم أن تحرقوا فلاناً وفلاناً بالنار وإن النار لا يعذب بها إلا الله عز وجل". وحمل الحديث في القول الآخر على ما إذا صاروا في حكمهم وأما إذا امتنعوا، فيجوز عملاً بعموم الآية.

قال صاحب البيان وابن زرقون: الخلاف إنما هو إذا كانوا في حصن، أما إن كان العدو في سفينة ونحن كذلك، فلا خلاف في جواز رميهم وإن كان معهم النساء والصبيان؛ لأنهم إن لم يرموا بالنار رمونا بها.

وإِنْ خِيفَ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ النَّارِ تُرِكُوا مَا لَمْ يُخَفْ مِنْهُمْ، ومِنَ الآلاتِ لَمْ يُتْرَكُوا، وفِيهَا: رَمَى أَهْلَ الطَّائِفِ بِالْمَجَانِيقِ ..

يعني: إذا خفنا على ذريتهم من النار لم يرموا بها إلا أن يخاف منهم، وأما إن خيف عليهم من الآلات فإنهم لا يتركون، واستدل على ذلك في المدونة برميه عليه الصلاة والسلام أهل الطائف بالمجانيق. قوله:(ومِنَ الآلاتِ) عطف على النار، وحكى صاحب البيان وابن زرقون: إذا كانوا في الحصن ومعهم النساء والصبيان أربعة أقوال: أجاز أصبغ تحريقهم وتغريقهم ورميهم بالمجانيق. وحكى فضل عن ابن القاسم أنه لا يفعل بهم شيء من ذلك. وقال ابن حبيب: يغرقون ويرمون ولا يحرقون. وفي المدونة: يرمون ولا يحرقون ولا يغرقون. قال: وإن كان في الحصن مع المقاتلة أسرى مسلمون فلا يرموا بالنار ولا يغرقوا. واختلف في قطع الماء عنهم ورميهم بالمجانيق، فقيل: إن ذلك جائز، وهو قول ابن القاسم وأشهب. وقيل: لا يجوز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة، وحكاه عن مالك

ص: 423

وأصحابه المدنيين والمصريين. انتهى. وفي ابن يونس: لا خلاف إذا كان مسلم في حصن العدو أنه لا يحرق ولا يغرق. واختلف إذا كان فيهم ذرية مشركون، فقيل: إنهم كالمسلمين. وقيل: بل يغرقون ونقطع عنهم المياه. ولم يختلف في رمي حصونهم بالمجانيق، وإن كان فيهم المسلمون أو ذرية مشركون، واختلف في رمي مراكبهم بالنار وفيهم مسلمون أو ذرية، فقيل: لا يرمون. وقيل: يرمون. وقيل: إن كان فيهم مسلمون لم يرموا وإن كان فيهم ذرية رموا. وكره مالك أن يقاتل العدو بالنبل المسموم، وقال: ما كان فيما مضى؛ ولأن ذلك قد يعاد إلينا.

ورَأَى اللََّخْمِيُّ أَنَّهُ لو خَافَتْ جَمَاعَةُ كَثِيرَةُ مِنْهُمْ جَازَ قَتْلُ مَنْ مَعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَوْ بِالنَّارِ، وَهُوَ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، كَمَا انْفَرَدَ بِالْطََّرْحِ بِالْقُرْعَةِ مِنَ السُّفُنِ، وفِيهَا: الاسْتِدْلالُ بِقوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ....

اللخمي: إذا كان العدو طالبين للمسلمين ولم يقدروا على حربهم إلا بالنار جاز قولاً واحداً، وسواء كان معهم نساؤهم وذراريهم أو لا، وأرجو إذا كان معهم النفر اليسير من المسلمين أن يكون خفيفاً؛ لأن هذه ضرورة، ويختلف إذا كان المسلمون الطالبين لهم فدفعوا عن أنفسهم بالنار هل يرمون بها. انتهى. فأباح قتل المسلمين بالنار معهم إذا كان العدو طالبين وخاف المسلمون منهم، وإلى هذا أشار بقوله:(لو خَافَتْ جَمَاعَةُ) أي: من المسلمين منهم؛ أي: من الكفار. قال: وهو مما انفرد به تبعاً لابن بشير وليس بظاهر، فقد تقدم من كلام ابن يونس الخلاف، وكذلك حكى ابن رشد وابن زرقون في السفينة فيها العدو ومعهم أسرى مسلمون عن ابن القاسم أنهم لا يرمون بالنار، قال: وأجازه أشهب. فقول أشهب موافق لما قاله اللخمي، فإن قلت: يغتفر في السفينة ما لا يغتفر في غيرها. قيل: لما فرض اللخمي المسألة فيما إذا كان العدو هم الطالبين لم يتأت هذا، وأما مسألة الطرح من السفن بالقرعة، فالظاهر أن اللخمي انفرد بها، وإنما لم يوافق عليها لأنه لا يلزم مما قاله ارتكاب مفسدة مخففة لأمر مظنون.

ص: 424

قوله: (وفِيهَا: الاسْتِدْلالُ) لأن لفظ المدونة: وإن كان مسلم في حصن العدو أو مركبه لم أر أن يحرق أو يغرق؛ لقول الله عز وجل: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ([الفتح: 25]. وقوله تعالى: (لَوْ تَزَيَّلُوا (أي: تميز المسلمون من الكفار.

أَمَّا لَوْ خِيفَ عَلَى اسْتِئْصَالِ الإِسْلامِ احْتَمَلَ الْقَوْلَيْنِ كَالشَّافِعِيِّ

الظاهر: أنه يريد بالقولين مذهب المدونة ومذهب اللخمي؛ لأنه لما استدل فيها بقوله تعالى: (لَوْ تَزَيَّلُوا (علم أن مذهبه المنع. وقوله: (كَالشَّافِعِيِّ) أي: كما أن في مذهب الشافعي القولين. ابن بشير: وذكر الشافعي قولين إذا اتقى أهل الحرب بالمسلمين وكنا نخاف إن تركناهم من استئصال جمهور المسلمين. انتهى.

ابن هارون: وإنما قال المصنف: (كَالشَّافِعِيِّ) إما لأنه لما ذكر انفراد اللخمي بالمسألة السابقة ذكر أن محل النظر ما صوره الشافعية، واعترض عليه ابن راشد في قوله:(كَالشَّافِعِيِّ) قال: لأن الشافعي إنما يبيح الرمي مع القطع باستئصال المسلمين لا مع الخوف، وفيه نظر. وقد سألت جماعة من قضاة الشافعية، فقال كل واحد: في مذهب الشافعي قولان؛ أحدهما- وهو الصحيح-: أنه إذا خيف على استئصال المسلمين جاز قتل الترس. والثاني: أنه لا يجوز القتل إلا بأن [262/ أ] يقطع باستئصال الإسلام. قالوا: وإنما صححنا الأول؛ لأن القطع غير ممكن. ولم يذكر ابن شاس إذا خيف على استئصال قاعدة الإسلام أو جمهور المسلمين خلافاً، بل قال: يسقط اعتبار الترس.

وإِذَا أَسَرُوا عُجْماً أَوْ عُرْباً فَالإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي خَمْسَةٍ: الْقَتْلِ، أَوْ الاسْتِرْقَاقِ، أَوْ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ، أَوِ الْمُفَادَاةِ، أَوِ الْمَنِّ بِالنَّظَرِ

حاصله: أنه بالخيار بين القتل والإبقاء، فإن قتل فلا تفصيل، وإن أبقى خير في أربعة أوجه: الاسترقاق، وضرب الجزية، والمفاداة، والمن.

ص: 425

وقوله: (بِالنَّظَرِ) راجع إلى الخمسة؛ يعني: أن التخيير إنما هو بحسب المصلحة ومتى وجد فيها أحسن تعين. ونص الباجي على أنه يجب على الإمام أن ينظر في ذلك بحسب الاجتهاد. قال في الجواهر: ولا يمنع من الاسترقاق كون المرآة حاملاً من مسلم، لكن لا يرق الولد إلا أن تكون حملت به في حال كفره ثم سبيت بعد إسلامه؛ فالحمل سبي. وأما المفاداة: فقد تقدم الكلام على جوازها بالأسرى، وأما بالمال فالمشهور جوازه خلافاً لسحنون. وقال ابن حارث: الخلاف إنما هو في مفاداة الرجال بالمال ولا خلاف في مفاداة النساء به.

ابن يونس: وفي المختصر الصغير ومن استحياه الإمام من الأسارى فلا يقتل، قال في المستخرجة: إلا أن يبقيهم الإمام فيرى فيهم رأيه فله قتل من رأى منهم. انتهى.

فإن أمسكه ليختبر ثمنه فله قتله، وإن أمسكه للبيع ثم بدا له، فقال ابن المواز: له قتله. وقال أصبغ: ليس له وهو الظاهر. اللخمي: وإن من عليه لم يجز أن يحبسه عن الذهاب إلى بلده، إلا أن يكون قد اشترط عليه أن يبقى ليضرب عليه الجزية، فإن أبقاه للجزية لم يجز له أن يسترقه، ويجوز أن يفادي به برضاه. وإن أبقاه على وجه الاسترقاق جاز أن ينتقل معه إلى الجزية والمن والفداء. وإن أبقاه للفداء لم ينتقل إلى الجزية ولا للرق إلا برضاه.

فَلا يُقْتَلُ الضَّعِيفُ، ويُقْتَلُ مَنْ لا يُؤْمِنُ، ولا يمنُ عَلَى ذِي النِّكَايَةِ

لما قال: أولاً بالنظر ذكر هنا بياناً للنظر ومفهوم قوله: (فَلا يُقْتَلُ الضَّعِيفُ) أنه يقتل الشجيع وهو كذلك. قال في البيان: واختلف قول مالك إذا جهلت حالته في قوة النجدة هل يحمل عليها وهو ظاهر قول مالك في المدونة، ويقتل من الأسارى من لا يؤمن؟ الا ترى ما كان من أبي لؤلؤة؛ يعني: قاتل عمر بن الخطاب- رضي الله عنه وقال مرة: لا يقتل إلا أن تتبين منه الفروسية، ووقع هنا نسختين؛ إحداهما: ويُمَنٌّ كما ذكرنا. والثانية: ولا يُمَنُّ، وهما على معنيين؛ فإن فسرنا صاحب النكاية بكونه ينكي المسلمين بقتاله فيأتي لا يمن، وإن فسرنا صاحب النكاية بأنه إذا قتله المسلمون حصلت لأجله نكاية، بأن يكون كبيراً في قومه وليس فيه كبير نجدة فيأتي ويمن. والله أعلم.

ص: 426

والْمُرَاهِقُ الْمُقَاتِلُ كَالْبَالِغِ

ظاهره أنه مخير فيه بالخمسة المتقدمة. وقال اللخمي: يخير الإمام في النساء والصبيان في المن، والفداء، والاسترقاق دون القتل والجزية، وإن رأى استبقاء من قارب البلوغ ليضرب عليه الجزية لم يمنع. انتهى. فلم يذكر فيه القتل، لكن في النوادر عن ابن القاسم من رواية يحيى بن يحيى أنه قال في المرأة والصبي لم يحتلم يقاتلان ثم يؤسران: إن قتلهما جائز بعد الأسر كما جاز قبل ذلك، وعن ابن حبيب كذلك إن قاتل بالسيف والرمح لا بالحجارة إلا أن يقتل فيقتل وإن أسر، إلا أن يرى الإمام استحياءه، وكذلك المرأة. وعن ابن سحنون أنه قال لأبيه: بلغني أنك قلت: إن أسر الصبي أن الإمام فيه مخير في قتله وتكره، فأنكره وقال: لا يقتل إلا أن ينبت. وذكروا خلافا فيمن أنبت ولم يحتلم، فقال ابن القاسم: لا يقتل. وقال الأكثر: بل يقتل. وهذا مبني على أن الإنبات هل هو علامة للبلوغ أو لا؟ وسيأتي هذا المعنى إن شاء الله تعالى.

ولا يُقْتَلُ النِّسَاءُ ولا الصِّبْيَانُ، وفِي النِّسَاءِ الْمُقَاتِلاتِ، ثَالِثُهَا: إِنْ قَاتَلَتْ جَازَ. ورَابِعُهَا: عِنْدَ قِتَالِهَا. وفِيمَنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ قَوْلانِ

لما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر: أن امرأة وجدت في بعض مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان. وقال في الاستذكار: وأجمع العلماء على القول بذلك، والحكمة في ذلك- والله أعلم- أن الأصل عدم إتلاف النفوس، وإنما أبيح منه ما يقتضي دفع المفسدة، ومن لا يقاتل ولا هو أهل القتال في العادة ليس في إحداث الضرر كالمقاتلين، فيرجع إلى الأصل فيهم وهو المنع، هذا مع ما في نفوس النساء والصبيان من الميل وعدم التشبث الشديد بما يكون عليه غالباً، فدفع عنهم القتل لعدم المقاتلة في الحال الحاضر ورجاءهدايتهم عند بقاءهم.

ص: 427

والقول بقتلها إذا قاتلت لابن القاسم في الموازية.

والقول بأنها لا تقتل في كتاب ابن سحنون لعموم النهي.

والثالث لابن حبيب قال: إذا قاتلت إلا أن يرى الإمام استحياءها.

والرابع: على ما ذكره المصنف يقتضي أن الخلاف [262/ ب] مطلق، والذي حكاه التونسي، واللخمي، والباجي، وابن بشير أنه لا يختلف في جواز القتل في حالة المقاتلة؛ لأنا لو لم نفعل ذلك لأدى إلى قتلنا مع قدرتنا على المدافعة، وإنما الخلاف إذا أسرن وقد تقدم منهن قتال.

وقوله: (وفِيمَنِ اقْتَصَرَتْ عَلَى الرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ قَوْلانِ) قال ابن حبيب: لا يبيح ذلك قتلها، إلا أن تكون قتلت بما رمت به، ومثله روى ابن نافع عن مالك. قال صاحب النوادر، والباجي، وقال سحنون: يرميهن المسلمون بالحجارة وإن قتلن في ذلك، وظاهره أنهن لا يقتلن بغير ذلك، وعلى هذا ففي كلام المصنف إجمال؛ لأن ظاهره على القول بأنها تقتل أنها تقتل بكل شيء، نعم ذكر ابن بشير القول على نحو ما ذكره المصنف وأما صياحها وحراستها واستعانتها فلا يوجب شيء من ذلك قتلها.

سحنون: ومن قتل من نهي عن صبي أو امرأة أو شيخ هرم، فإن قتله في دار الحرب قبل أن يصير في المغنم فليستغفر الله، وإن قتله بعد أن صار مغنماً فعليه قيمته، يجعل الإمام ذلك في المغنم.

ويَلْحَقُ بِهِنَّ الزَّمْنَي والشَّيْخُ الْفَانِي ونَحْوُهُمْ مِمَّنْ لا رَاىَ لَهُ ولا مَعُونَةَ

يعني: ويلحق بالنساء من ذكر بشرط عدم الرأي ومراده بـ (نَحْوُهُمْ) الفلاحون والأجراء وأهل الصناعات، ولا شك في جواز قتلهم إن قاتلوا، وإن لم يقاتلوا فقال سحنون: يقتلون، قال: ولم يثبت حديث العسيف وهو الأجير، وكذلك قال في الأعمى.

ص: 428

والمقعد والمريض. وقال ابن الماجشون، وابن وهب، وابن حبيب: لا يقتلون. وذكره اللخمي عن مالك قال: وهو أحسن في أهل دينهم كالمستضعفين.

وفي الموطأ: أن أبا بكر- رضي الله عنه قال ليزيد بن أبي سفيان حين بعثه أميراً إلى الشام: إنك ستجد قوماً زعموا أنهم قد حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما زعموا أنهم حسبوا أنفسهم له، وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤوسهم من الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكلة، ولا تحرقن نخلاً ولا تغرقنه، ولا تغلل، ولا تجبن. وقوله: فحصوا عن أوساط رؤوسهم. ابن حبيب: يعني الشمامسة. وقال بعضهم: هم رهبان الكنائس.

وكذلِكَ الرَّاهِبِ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ غَيْرِ الْمُخَالِطِ بِرَايٍ عَلَى الْمَشْهُورِ

حاصله: إن اجتمع في الراهب الانقطاع عن أهل ملته حساً بأن كان في الصوامع أو في الأديار. أو حكماً بأن لا يخالطهم برأي، فالمشهور أنه لا يقتل؛ لما رواه ابن أبي شيبة من حديث ابن عباس عنه صلى الله عليه وسلم: أنه كان إذا بعث جيوشه قال: "لا تقتلوا أهل الصوامع". ولوصية أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وروي عن مالك القتل ذكره في البيان، فإن لم ينقطع عن أهل ملته حساً بل كان في الكنائس قتل، قاله ابن حبيب وغيره. قال في كتاب ابن سحنون: إذا وجد راهب قد نزل من صومعته وهو منهزم مع العدو فأخذ، فقال: إنما نزلت وهربت خوفاً منكم أنه لا يعرض له، وكذلك لا خفاء في قتله إذا أشار عليهم. وفي كتاب ابن سحنون: إذا مروا براهب فلا يستخبرونه عن شيء من أمر عدوهم. سحنون: ومن ترهب ببلد في دار الإسلام ولحق بدار الحرب سبيله سبيل الراهب، قيل: فكيف يعرفون أنه راهب؟ قال: لهم سيما يعرفون بها. قال: وكذلك إذا وجد الراهب في دار أو غار فهو كأهل الصوامع.

ص: 429

ابن حبيب: ولم ينه عن قتل الرهبان لفضل ترهبهم، بل هو أبعد من الله من غيرهم؛ لشدة كفرهم، ولكن لتركهم أهل دينهم فكانوا كالنساء. وقيل لمالك: ربما أسرى المسلمون سرية فيعلم بهم الراهب فيخافون أن يدل عليهم فنزلونه ليكون معهم، فإذا آمنوا أرسلوه. قال: ما سمعت أنه ينزل من صومعته.

وعَلَى تَرْكِهِ يَكُونُ حُرّاً ويُتْرَكُ لَهُ مَا يَقُومُ بِهِ لا الْمَالِ الْكَثِيرِ عَلَى الأَشْهَرِ

الأشهر ومقابله لمالك، والأشهر مذهب المدونة، ففيها: يترك لهم من أموالهم ما يعيشون به ولا تؤخذ كلها فيموتون جوعاً. فقوله: ولا تؤخذ كلها فيه دليل على أنه يؤخذ منهم ما زاد على الكفاية. وكذلك قال في العتبية: يترك لهم قدر ما يصلحهم. وكذلك قال في الجلاب: ولا تؤخذ أموالهم إلا أن يكون فيها فضل عن كفايتهم فتؤخذ فضولها. وفي التلقين: تترك لهم أموالهم، إلا أن تكون كثيرة فتؤخذ ويترك لهم اليسير.

وقال سحنون: يترك للراهب من ماله ما يعيش به الأشهر، والشيخ الكبير بمنزلة الراهب فيما يترك له من العيش والكسوة. ونقل في البيان عنه: أنه لا يترك للراهب والشيخ إلا ما يستر عورته ويعيش بها الأيام. وقال اللخمي: قال مالك: ويترك له مثل البقرتين والغنيمات وما مثله يكفيه، والمبقلة والنخيلات، ويؤخ ذ ما بقي أو يحرق، ولكن تأول في البيان ما وقع لمالك في العتبية: أنه إنما يترك لهم ما يصلحهم، على ما إذا وجدنا عندهم أموالاً وادعو أنها لهم ولم نصدقهم. قال: وأما لو صدقناهم لتركناها لهم وإن كثرت. وأبقى غيره الرواية على ظاهرها: إنه يترك لهم ما كثر [263/ أ] ولو علم أن ذلك لهم. وقول ابن عبد السلام: إن أكثر الروايات أنه يترك لهم الجميع، والتفصيل بين الكثير والقليل هو مذهب سحنون، ليس بظاهر لما ذكرناه.

ص: 430

وفِي الرَّاهِبَاتِ مِثْلُهُمْ قَوْلانِ

ألحقهن مالك في العتبية بالرجال، وقال: إنهن أحق بذلك. وقال سحنون باسترقاقهن، لأن الترهب لما منع قتل الرجال تبعه منع الاسترقاق، ودم المرأة لم يمنع منه الترهب، وإنما هو ممنوع بالشرع فلم يكن هناك أصل يتبعه الاسترقاق.

ومَنْ وُجِدَ فِي أَرْضِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَيْنَ الأَرْضَيْنِ وشُكَّ فِي أَنَّهُمْ حَرْبُ أَوْ سِلْمُ، فَقَالَ مَالِكٌ: هَذَا أَمْرُ مُشْكِلٌ

قال: (وشُكَّ) لأنه إن قامت أمارة على أنه جاء للحرب أو السلم عمل عليها؛ وأما إن لم تعلم أمارة أو قامت ولكنها تعارضت، فقال مالك في المدونة: في العلج يلقاه المسلمون ببلد العدو وهو مقبل إلينا، فيقول: جئت أطلب الأمان، هذا أمر مشكل ويرد إلى مأمنه. وقال في العتبية: لا يقبل منه. ابن القاسم في العتبية: وإن أخذ ببلدنا فقال: جئت أطلب الفداء، قبل قوله إن أخذ بفور وصوله ولا يكون فيئاً، وإن لم يظهر عليه إلا بعد طول إقامة بين أظهرنا لم يقبل منه قوله ويسترق، وليس هو لمن وجده، ولا يقتل إلا أن يعلم أنه جاسوس فيقتل. وقال ابن حبيب وعزاه لمالك: إن كانوا من بلد اعتادوا الاختلاف منه فيما ادعوه من الفداء، أو التجارة، أو الاستئمان قبل قولهم وردوا إلى مأمنهم، وإلا فهم فيء، وبه قال سحنون وعيسى؛ وهو قول ربيعة في المدونة. وعن سحنون: أنه فيء إذا أخذ ببلدنا، سواء أخذ بقرب دخوله أو بعد طول. وفي كلام المصنف نظر من أوجه:

أولها: كونه أسقط من قول مالك: ورد إلى مأمنه. وهو في نص المدونة كما ذكرنا، وقد ذكره اللخمي وابن يونس على أنه من كلام مالك.

ثانيها: أن قوله: (فَقَالَ مَالِكٌ) هذا مشكل يقتضي أن مالكاً قال ذلك فيما إذا وجد في أرض المسلمين أو بين الأرضي، وإنما نص مالك على من أخذ ببلد العدو، وألحق ابن

ص: 431

القاسم به الذي ينزل بساحتنا تاجراً قبل أن يعطى الأمان، صرح بذلك ابن يونس وغيره. وقال ابن محرز: سمعت من يقول معنى قول مالك أنهم لقوه وقد انفصل من بلده ولم يدخل بلدنا، وأما لو وجوده في بلدهم أو بلدنا لم يقبل قوله، ولم يكن في ذلك إشكال، وعلى هذا فيكون قول ابن القاسم مخالفاً.

ثالثها: إن مفهوم كلام المصنف أن الذمي إذا أخذ ببلد العدو أنه لا يكون من محل الإشكال وليس كذلك كما ذكرنا. ابن يونس: وتحصيلها أنه إن أخذ ببلد الحرب وهو مقبل إلينا وقال: جئت لأطلب الأمان، قيل: يقبل منه ويرد إلى مأمنه، وقيل: لا يقبل منه. وإن أخذ ببلد الإسلام، فقال: جئت للإسلام، فقيل: إن أخذ بقرب دخوله قبل منه ورد إلى مأمنه، وإن أخذ لبعد لم يقبل منه، وليس لمن وجده ويرى فيه الإمام رأيه. وقيل: ذلك سواءُ وهو فيء ويرى الإمام رأيه، ولا خلاف فيمن أتى تاجراً، فيقول: ظننت أنكم لا تعرضوا لمن أتى تاجراً أنه يقبل منه ويرد إلى مأمنه، ولا خلاف أيضاً أنه إذا لم يكن معهم تجارة وتبين كذبهم، أو تكسرت مراكبهم ومعهم السلاح، أو نزلوا للعطش بلا أمان أنهم فيء.

وعَلَى أَنَّهُمْ حَرْبٌ فَلا يَجُوزُ الْقَتْلُ عَلَى الأَشْهَرِ

في هذا الكلام نظر؛ لأنه كيف يحكم على أحد المحتملين المتساويين من غير ترجيح، وكأن المصنف- والله أعلم- قصد اختصار كلام ابن بشير؛ لأنه قال: إن علم أنهم أهل حرب حكم فيهم بحكم أهل الحرب، وإن علم أنهم مستأمنون حكم فيهم بحكم المستأمنين، وإن شك فالمذهب على قولين:

أحدهما: أن الأصل إراقة دمهم فمع الشك يرجع إلى الأصل.

والثاني: لا يستبيحهم إلا مع تيقن الإباحة، وإذا شككنا فإراقة الدم لا يقدم عليها مع الشك، قال: وكل ما في المذهب من الروايات فإلى هذا التقسيم يرجع، لكن إذا قلنا: إنهم فيء فهل يقتصر فيهم على الأسر وما ذكر معه دون القتل، أو يجوز قتلهم؟ قولان:

ص: 432

أحدهما: الاقتصار على الأسر لعظم أمر الدم.

والثاني: جوازه نظراً إلى الأصل في إراقة دمهم. انتهى.

وهذان القولان الأخيران في كلام ابن بشير هما القولان في كلام المصنف، لكن ابن بشير إنما ذكر الخلاف بعد أن ذكر أولاً قولين، والمصنف لم يذكر في المسألة خلافاً ابتداء؛ فلذلك صار كلامه مشكلاً.

أَمَّا إِذَا حَصَلَ الظَّنُّ بأَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَيْهِ عَلَى الأَصَحِّ

كلامه يقتضي حصول الخلاف مع ظن الصدق وظن الكذب ولم أر ذلك، بل صرح اللخمي فيه بنفي الخلاف؛ لأنه قال: إن قام دليل على صدقه كان آمناً ولم يسترق، وإن قام دليل على كذبه لم يقبل قوله وكان رقيقاً. وإن لم يقم دليل على أحدهما فهو موضع الخلاف، فإن قال: جئت رسولاً ومعه مكاتبة، أو جئت لفداء ومعه من يفديه، أو لقريب لي وله قرابة بذلك البلد كان دليلاً على صدقه. وإن قال: جئت أطلب الأمان وقد خرج إليهم عسكر المسلمين فوجد على طريق جيش بلا سلاح كان أمره مشكلاً، وإن لم يكن مقبلاً إلينا ولا على طريقهم لم يصدق. ونحوه لابن يونس، قال: لا خلاف فيمن أتى تاجراً، فيقول: ظننت أنكم لا تتعرضون [263/ ب] لمن أتاكم تاجراً أنه يقبل قوله أو يرد إلى مأمنه، ولا خلاف إن لم تكن معهم تجارة وتبين كذبهم أو انكسرت مراكبهم ومعهم السلاح، أو ينزلون للعطش بغير أمان أنهم فيء ويرى الإمام فيهم رأيه من بيع، أو قتل، أو فداء وليسوا لمن وجدهم ولا يخمسون. انتهى.

وكذلك قال ابن راشد وابن عبد السلام: أنهما لم يقفا على مقابل الأصح، زاد ابن عبد السلام: وما وجدت أحداً ممن تكلم على هذه المسألة ممن يعتبر قوله ذكر قولاً بالقتل في محل الإشكال وإذا انتفى القتل في محل الإشكال كان انتفاؤه مع أمارة صدق الرومي أولى، وكلام المصنف يدل على وجود الخلاف في ذلك. انتهى وقد قدمنا من كلام ابن

ص: 433

بشير قولاً بالقتل في محل الإشكال، وكذلك ذكر المازري فيه قولين، ثم قال: وهذا الخلاف إذا ادعى أنه طالب للأمان، وأما إن لم يعتذر بعذر فظاهر المذهب أنه يستباح، وكذلك ظاهر المذهب تطرق التهمة إلى من حصل في بلادنا مغلوباً كمن ردته الريح إلينا بخلاف من لقيناه يمشي طائعاً إلينا.

التونسي: وإذا وجد في أسواق المسلمين ومدائنهم لم يقبل قوله؛ لأنه لو كان صادقاً لأخبر بذلك أول دخوله، ولو قال: فلان أعطاني الأمان فأنكر فلان لم يقبل قوله على فلان ورأى فيه الإمام رأيه. وقال أصبغ: إذا أنكر فلان، فالإمام مخير إن شاء أمنه أو رده إلى مأمنه، ولم يعجب محمداً ما قال أصبغ، وقال: إن شاء رأى الإمام فيه رأيه.

وأَمَّا مَنْ نَزَلَ بَأَمَانٍ فَبَاعَ وَرَجَعَ فَرَدَّتْهُ الرِّيحُ قَبْلَ وُصُولِهِ، فَهُوَ عَلَى أَمَانِهِ

يعني: وأما لو نزل حربي بتجارة بأمان فباع واشترى ثم ذهب فردته الريح فهو على أمانه، وظاهر المدونة: أنهم على أمانهم سواء خرجوا من بلاد الإسلام أم لا، رمتهم الريح إلى بلد السلطان الذي أعطاهم الأمان أم لا. ففيها: وإذا نزل تجار بأمان فباعوا وانصرفا فأبينما رمتهم الريح من بلد الإسلام فالأمان لهم ما داموا في تجرهم حتى يردوا بلادهم. ولأصبغ: لهم الأمان إلا أن يفارقوا بلاد الإسلام. وقال ابن المواز: لهم حتى ينالوا مأمنهم من بلدهم. وقال ابن الماجشون: الأمان مقصور على بلد السلطان الذي أمنهم، واختلف الشيوخ في هذا الخلاف، فرأى المازري أن هذا الخلاف كله راجع إلى شيء واحد، وهو ما قصده المؤمن بالتأمين هل قصده العموم أو لا؟ وعلى هذا فمتى تحقق قصد المؤمن العموم فالاتفاق على ذلك، ولعل المصنف ممن سلك هذه الطريقة لعدم تعرضه للخلاف مع شهرته، وحمل ابن يونس ذلك على الخلاف، فإنهقال: تحصيل الخلاف في هذه المسألة؛ قيل: لهم الأمان حتى يصلوا إلى بلادهم، وقيل: حتى يقاربوا مأمنهم. فإن رجعوا بعد بلوغهم إلى مأمنهم بريح غالبة أو مختارين، فقيل: الإمام مخير إن شاء أنزلهم وإن شاء

ص: 434

ردهم، وقيل: بل هم حل. وقيل: إن رجعوا مغلوبين فالإمام مخير إن شاء أنزلهم وإن شاء ردهم، وإن كانوا مختارين فهم حل. وإن هو وقع، إذا رجع لغير السلطان الذي أمنه، فقيل: هو مثل الذي أمنه سواء، وقيل: بل هو حل له ولا أمان له، رجع إليه أو لقيه في البحر بقرب أو بعد من موضع خرج منه. وأما إن لم يبلغ مأمنه فرجع إلى موضع كان آمناً فيه كان عليه إنزاله ولم يمنعه. انتهى. ابن رشد: وإذا غنم العدو في بلد المسلمين شيئاً من أموال المسلمين، ثم غنمه المسلمون منهم قبل أن يصلوا به إلى بلادهم، فهل يقسم إذا لم يعرف صاحبه أم لا؟ وهل يأخذه صاحبه إن قسم بثمن أم لا؟ وأنه كان يختلف عندهم في ذلك، وهذه المسألة أصل لذلك.

ويَجُوزُ قَتْلُ الْعَيْنِ وإِنْ كَانَ مُسْتَامَناً

العين: هو الجاسوس، فيقتل ولو قدم بأمان، وهو مراده بقوله:(مُسْتَامَناً) سحنون: إلا أن يسلم فلا يقتل ويكون كأسير أسلم.

فرع: وكذلك الذمي يكون عندناً فيتبين أنه عين فلا عهد له. سحنون: ويقتل.

اللخمي: يريد إلا أن يرى الإمام استرقاقه.

واختلف في المسلم يظهر أنه عين على خمسة أقوال: قال مالك في العتبية: ما سمعت فيه شيئاً ويتخير فيه الإمام. وقال ابن وهب: يقتل إلا أن يتوب. وقال ابن القاسم: لا يعرف لهذا توبة، وقاله سحنون. وقال عبد الملك: إن كان معتاداً لذلك قتل، وإن ظن به الجهل وعرف بالغفلة وأن مثله لا عورة عنده، وكان منه المرة وليس من أهل الطعن على الإسلام فلينكل.

سحنون: وقال بعض أصحابنا يجلد جلداً منكلاً ويطال حبسه وينفي من موضع يقرب فيه من المشركين.

ص: 435

وإِذَا دَخَلَ بِلادَ الْحَرْبِ ولَمْ تُرْجَ قُطِعَ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ وحُرِّقَ وخُرِّبَ

يعني: إذا دخل المسلمون بلاد الحرب ولم ترج أن تصير للمسلمين، جاز قطع أشجارهم وتحريقها وتخريب بنائهم؛ لأن ذلك من التضييق عليهم وفيه إضعاف لأمرهم، وليس ذلك أكثر من إباحة قتلهم. سحنون: وأصل نهي الصديق- رضي الله عنه عن قطع الشجر وخراب العامر؛ إنما يكون ذلك فيما يرجى مصيره للمسلمين.

وفِي النَّحْلِ خَاصَّةً قَوْلانِ

النحل بالحاء المهملة، وهذا كالاستثناء من قوله:(حرق وخرب) يعني: أن هذا إنما هو في غير النحل. واختلف في إتلاف النحل على قولين: [264/ أ] حكى الباجي روايتين فقال: روى ابن حبيب عنه: جواز ذلك فيه. وروى غيره: أنه كرهه. قال: وهذا إذا لم تدع إليه حاجة، وأما إن احتيج إلى ذلك ولم يمكن إلا بتحريقها أو تغريقها فعل من ذلك ما يتوصل به إلى ما في أجباحها، وكذلك قال التونسي. وقاس من قال بالجواز ذلك على سائر أموالهم، ومن منع تمسك بنهي النبي صلى الله عليه وسلم والصديق عن ذلك كما تقدم. وأشار المازري إلى أن محل الخلاف إنما هو إذا كانت كثيرة بحيث يكون لهم في ذلك نكاية، وأما إن كانت يسيرة بحيث لا نكاية للعدو في إتلافها فإنها تترك.

فَإِنْ رُجِيَتْ جَازَ إِنْ كَانَ إِنْكَاءً

هذا قسيم قوله أولاً: (ولم ترج) وحاصله: أنه لا يجوز مع الرجاء إلا بشرط حصول النكاية لهم بذلك.

وما عُجِزَ عَنْ حَمْلِهِ أُتْلِفَ مِمَّا لَهُمْ أَوْ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانُوا مِنْ آكِلِي الْمَيْتَةِ حُرِّقَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ قَتْلِهِ ....

يعني: أن للمسلمين إذا قدروا على مال الكفار وعجزوا عن حمله أو عن حمل بعض متاعهم فإنهم يتلفونه؛ لئلا ينتفع العدو به، وسواء الحيوان وغيره على المشهور المعروف.

ص: 436

وروى ابن وهب أنه لا يتلف الحيوان لغير مأكلة؛ لعموم نهي الصديق وهذا في غير مراكبهم، وأما مراكبهم فلا خلاف في جواز قتلها وإتلافها بكل ما يجوز به قتل راكبيها. قال المازري: وعلى المشهور فبماذا يتلف الحيوان؟ قال المصريون من أصحاب مالك: تعرقب وتذبح ويجهز عليها. وقال المدنيون: يجهز عليها، وكرهوا أن تعرقب وتذبح. قال ابن حبيب: لأن الذبح مثله، والتعرقب تعذيب.

المازري: واختار بعض أصحابنا الذبح؛ لأنه أروح للحيوان. واستشكل الباجي وغيره قول ابن حبيب: الذبح مثله؛ لأنه مباح فيما نهي عن التمثيل به، وإنما كره- والله أعلم- لأنه قد يكون فيها مثل الخيل ونحوها فيكون وسيلة إلى أكلها وتشكيكاً للعوام في إباحة الأكل، ونزل ابن بشير قول المصريين والمدنيين على أنه خلاف في حال، فإن أمكن أن يحتاج إليه المسلمون لم يتلف عليهم بالإجهاز، وإن لم يحتاجوا إليه أتلف.

قوله: (فَإِنْ كَانُوا مِنْ آكِلِي الْمَيْتَةِ حُرِّقَ الْحَيَوَانُ بَعْدَ قَتْلِهِ) كذا قال جماعة. الباجي، وابن بشير وغيرهما وهو ظاهر، وإن كان ابن القاسم قال: ما سمعت في الدواب أنها تحرق بعد عرقبتها.

فرع: وإذا عجزنا عن حمل النساء والصبيان والشيوخ، فإن كنا تركناهم في بلاد الحرب ثم جاء غيرنا فأخذهم فإنهم لمن أخذهم؛ لأنه لم يملكهم ملكاً تاماً، وأما إن تركناهم في حوز الإسلام فذلك كالإعتاق ولا سبيل لأحد عليهم، نقله ابن حبيب عمن يرضاه، واعترض ابن يونس قوله في الوجه الأول وأشار إلى أنه ينبغي أن يكونوا أحراراً كما في الوجه الثاني، وقال: كيف لم يملكهم ملكاً تاماً وهو له أن يطأ ويبيع ولو أعتق لم يكن له فيه رجوع، وقد قال محمد عن أشهب: فيمن اشترى شيئاً من السبي فعجز عن بعضه فتركه، فدخلت خيل أخرى فأخذته فهو لصاحبه الأول. وقول محمد صواب ما لم يكن رقيقاً أعتقهم فتركهم على العتق.

ص: 437

ويَجُوزُ لأَمِيرِ الْجَيْشِ إِعْطَاءُ الأَمَانِ مُطْلَقاً ومُقَيَّداً قَبْلَ الْفَتْحِ وبَعْدَهُ، ويَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمَصْلَحَةِ .....

لأن الأمير قد يرى المصلحة للمسلمين في تأمين العدو أو بعضهم إما مطلقاً، أو مقيداً بزمان أو مكان أو صفة. ابن بشير: ولا خلاف بين الأمة في ذلك، وإذا جاز هذا لأمير الجيش فلأن يجوز لأمير المسلمين أولى ووجب عليه اعتبار المصلحة؛ لأنه وكيل على المسلمين والوكيل إنما يتصرف على هذا الوجه ولا يجوز له اتباع هواه، فإن قلت: ينبغي أن يحمل قوله: (مُطْلَقاً) على ما عدا هذه الأمكنة؛ لأن المذهب اختلف في المستأمن بأمان سلطان إذا خرج إلى سلطان آخر هل يستبيحه هذا السلطان أم لا؟ قيل: إن بنينا على ما قاله المازري وغيره: من أنه لا خلاف في المسألة، كان ما ذكره المصنف من الإطلاق متفقاً عليه. وإن بنينا على ما قاله ابن يونس: أن المشهور تعميم الأمان، خلافاً لابن الماجشون في قصره ذلك على بلد السلطان، يكون كلام المصنف جارياً على المشهور. والله أعلم.

فرع: ليس لأحد الناس أن يعقد الأمان لأهل إقليم، وإن وقع فالإمام مخير في إمضائه، وإنما ذلك للسلطان، هكذا قال غير واحد.

وكَذَلِكَ كُلُّ ذَكَرٍ حُرٍّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ، أَوْ مُجَازٍ أَجَازَهُ الإِمَامُ قَبْلَ الْفَتْحِ. وقِيلَ: إِنْ كَانَ صَوَاباً

تقدم أن الإقليم لا يعطي أهله الأمان إلا الأمير، فكلام المصنف ليس على إطلاقه، وكلامه مشتمل على خمسة شروط؛ لأن قوله:(حُرٍّ) يفهم منه الذكورية.

وقوله: (وكَذَلِكَ) أي: يجوز تأمينه وليس للإمام رده، وهو قول مالك وابن القاسم. وقال ابن الماجشون: الإمام مخير بين أن يمضيه أو يرده، وإلى حمل قول ابن الماجشون على الخلاف ذهب عبد الوهاب والباجي وغيرهما، وهو ظاهر كلام المصنف.

ص: 438

الباجي: ودليل قول مالك قوله صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمة المسلمين أدناهم". وقال ابن يونس: [264/ ب] وأصحابنا يحملون قوله على أنه ليس بخلاف، خلاف ما تأوله عبد الوهاب. انتهى. وبعض من حمل كلام ابن الماجشون على الخلاف رأى أن ابن القاسم، وابن الماجشون لم يختلفا في أن الإمام مخير، وإنما اختلف في صفة التخيير، فابن القاسم يقول: هو مخير بين أن يجيز أو يرده إلى مأمنه، وغيره يقول: هو مخير بين أن يجيز أو يرده فيئاً.

تنبيه: نص ابن حبيب على أنه لا ينبغي التأمين لغير الإمام ابتداءً، وهو خلاف ظاهر كلام المصنف؛ لأن قوله:(وكذلك) يقتضي جواز ذلك ابتداءً، إذ لا خلاف في جوازه للإمام ابتداءً. وظاهر المدونة ككلام المصنف، ففيها: ويجوز أمان المرأة والعبد والصبي إن عقل الأمان. ويحتمل: يجوز إن وقع، وكذلك اختلف في كلام ابن حبيب هل هو موافق للمدونة أو مخالف.

وقوله: (قَبْلَ الْفَتْحِ) يريد ما لم يتعلق للمسلمين حق؛ فقد نص سحنون على أنه إذا أشرف المسلمون على أخذ الحصن وتيقن أخذه، فأمنهم رجل من المسلمين أن للإمام رد تأمينه.

وفِي أَمْنِهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ قَوْلانِ

ظاهر كلام المصنف أن الخلاف عام في حق من أمنه وفي حق غيره، وأنه عام في القتل والاسترقاق وليس كذلك، بل يجوز لمن أمنه قتله اتفاقاً، والخلاف إنما هو في القتل لا في الاسترقاق؛ لأنه صار مملوكاً. والقول بسقوط القتل لابن القاسم، وابن المواز؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"يسعى بذمتهم أدناهم". قال سحنون: لا يحل لمن أمنه قتله، وأما الإمام فإن شاء قتله فعل، وإن شاء أمضى أمانه وكان فيئاً. وقوله:(وفِي أَمْنِهِمْ) يحتمل أن يكون من إضافة المصدر إلى الفاعل؛ أي: وفي أمن المسلمين للعدو. ويحتمل أن يكون مضافاً للمفعول؛ أي: وفي أمن الكفار. والمعنى سواء، والظاهر أن تقديره: وفي

ص: 439

إمضاء أمنهم؛ لأن ابن القاسم وغيره إنما تكلموا على ذلك بعد الوقوع، وكذلك نقل ابن بشير، ولفظه: وأما إذا وقع الفتح، فإن أمنه الأمير صح تأمينه، وإن أمنه غيره فهل يصح تأمينه فيكون مانعاً من القتل؟ قولان.

وفِي ثُبُوتِهِ مِنْهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ قَوْلانِ

قال بعضهم: هذا الخلاف مبني على قول سحنون القائل بعدم إجازة التأمين بعد الفتح، فإذا ادعى أنه أمنه قبل الفتح فهل يقبل- لأن الأصل الصدق، وهذا قول ابن القاسم، وأصبغ- أم لا؟ ولابد في ذلك من شاهدين، وهو قول سحنون. وهذا ظاهر؛ لأن من يجيز التأمين بعد الفتح لا يحسن بناء هذا الخلاف عليه، إذ لا يتهم حينئذ؛ لأنه إن صدقه الإمام في ذلك مضى، وإن لم يصدقه استأنف له الإمام حينئذٍ. وقال ابن عبد السلام: عندي أن هذين القولين يأتيان على قول ابن القاسم أيضاً. قال ابن القاسم في ذلك: وهذا الخلاف فيما عدا الإمام، وأما الإمام فيقبل منه بغير تفصيل.

وأَمَانُ الْمَرْأَةِ والْعَبْدِ والصَّبِيِّ إِنْ عَقَلَ الأَمَانُ مُعْتَبَرٌ عَلَى الأَشْهَرِ

الأشهر مذهب المدونة، وروى أبو الفرج عن مالك: لا أمان للثلاثة؛ وقال سحنون وابن حبيب: إما أن يوفى له بذلك أو يرد إلى مأمنه، وأما القتل فلا.

ابن عبد السلام: وانظر فيما حكاه أبو الفرج هل له أن يقتل من أمنوه إذا لم يجزه؟ وعن سحنون في العبد إذا أذن له سيده في القتل صح أمانه، وإلا فلا. وقيل: إن قاتل العبد صح أمانه وإلا فلا. الباجي: ولا خلاف في اعتبار العقل في لزوم الأمان وصحته. ومعنى قوله: (عَقَلَ الأَمَانُ) أي: علم ثمرته وأنه يؤجر على الوفاء به وأن نقضه مذموم. وتجاذب المشهور، ومقابله قوله صىلى الله عليه وسلم:"قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". بناءً على أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه جائز؛ وإنما جاز بإجازة النبي صلى الله عليه وسلم

ص: 440

له. وقد يقال: عدم إمضاء أمانها أظهر، فإنه لو كان صحيحاً لما جهل ذلك علي – رضي الله تعالى عنه- فإنه أراد قتل من أجارته أم هانئ. وتمسكوا للمشهور في العبد بقوله صلى الله عليه وسلم:"يسعى بذمتهم أدناهم". وقال: من لم يعتبر تأمينه إن أول الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "تتكافأ دماؤهم" يخرجه.

بِخِلافِ الذِّمِّيِّ عَلَى الأَشْهَرِ

أي: فلا يعتبر أمانه على الأشهر، ومقابل الأشهر ذكره جماعة. ففي المازري، والتبيهات: مشهور المذهب لا يجوز أمان المشرك. وقال الباجي: الظاهر من المذهب اعتبار الإسلام. والشاذ لا يرى أمانه لازماً مطلقاً، بل يجعل الإمام فيه مخيراً، قاله المازري، وابن عبد السلام وغيرهما. اللخمي: واختلف بعد القول أن الأمان لهم إن قالوا: ظننا أن الذي أعطانا الأمان مسلم، فقال ابن القاسم مرة: لا يقبل عذرهم. وقال مرة: ذلك لهم ويردون إلى مأمنهم. وأرى إذا كان عالماً أنه نصراني وقال: ظننت أن جواره جائز أن يرد إلى مأمنه؛ لأن ذلك مشكل ولم يأت بما لا يشبه فلا يستباح بالشك. وإن قال: علمت أن جوار النصراني غير لازم ولم أعلم أنه نصراني لم يصدق؛ لأنهم أهل دين واحد.

ولَوْ ظَنَّ الْحَرْبِيُّ الأَمَانَ فَجَاءَ، أَوْ نَهَى الإِمَامُ النَّاسَ فَعَصوا أَوْ نَسُوا أَوْ جَهِلُوا أُمْضِيَ أَوْ رُدَّ إِلَى مَامَنِهِ .....

يعني: أن الحربي إذا توهم الأمان، أو نهى الإمام الناس عن التأمين، فأمنوا نسياناً أو عصياناً أو جهلاً، فأتى إلينا الحربي معتمداً [265/ أ] على ذلك فلا يجوز قتله ولا استرقاقه، بل يخير الإمام في إمضائه أو يرد.

ابن راشد: وقوله: (إلى مأمنه) صوابه أن يقول: رد إلى حيث كان قبل التأمين؛ إذ قد يكون بموضع هو فيه خائف فلا يصح أن يرد إلى حيث يأمن، بل إلى حيث كان قبل التأمين، وهذا هو المنقول.

ص: 441