الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ: سِتُّ طُرُقٍ كُبْرَى لِلْقَطْعِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام]
فِي الطُّرُقِ الَّتِي تَبَيَّنَ بِهَا أَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ تُفِيدُ الْعِلْمَ.
وَهَذِهِ الْأَخْبَارُ مِنْهَا مَا هُوَ فِي الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ، كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ، وَحَنِينِ الْجِذْعِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْ ذَلِكَ تَوَاتَرَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ وَاسْتَفَاضَتْ، وَنَقَلَتْهُ الْأُمَّةُ جِيلًا بَعْدَ جِيلٍ، وَخَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، فَمَا مِنْ طَبَقَةٍ مِنْ طَبَقَاتِ الْأُمَّةِ إِلَّا وَهَذِهِ الْآيَاتُ مَنْقُولَةٌ مَشْهُورَةٌ مُسْتَفِيضَةٌ فِيهَا، يَنْقُلُهَا أَكْثَرُ مِمَّنْ يَنْقُلُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ نَقَلَهَا وَسَمِعَهَا مِنَ الْأُمَّةِ أَكْثَرُ مِمَّنْ سَمِعَ وَنَقَلَ كَثِيرًا مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَأَكْثَرُ مِمَّنْ سَمِعَ وَنَقَلَ أَنَّهُ كَانَ يَسْجُدُ فِي الصَّلَاةِ سَجْدَتَيِ السَّهْوِ، وَمِمَّنْ سَمِعَ وَنَقَلَ نُصُبَ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضَهَا، بَلْ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ وَأَعْدَادَهَا، إِنَّمَا شَاعَ نَقْلُهَا لِلْعَمَلِ الدَّائِمِ بِهَا
وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَاتُ فَنَقَلَهَا أَكْثَرُ مِمَّنْ نَقَلَ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ مِنْ جِهَةِ الْأَخْبَارِ الْمُعَيَّنَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ آيَاتِ الرَّسُولِ كَانَ كَثِيرًا مِنْهَا يَكُونُ بِمَشْهَدٍ مِنَ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ فَيُشَاهِدُونَ تِلْكَ الْآيَاتِ كَمَا شَاهَدَ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَهُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ، نَبْعَ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَظُهُورَ الْمَاءِ
الْكَثِيرِ مِنْ بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ لَمَّا نَزَحُوهَا، وَلَمْ يَتْرُكُوا فِيهَا قَطْرَةً فَكَثُرَ حَتَّى رَوَى الْعَسْكَرَ، وَكَمَا شَاهَدَ الْعَسْكَرُ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ الْمَاءَ الْيَسِيرَ لَمَّا صَبَّهُ جَابِرٌ فِي الْجَفْنَةِ وَامْتَلَأَتْ، وَمَلَأَ مِنْهَا جَمِيعُ الْعَسْكَرِ، وَكَمَا شَاهَدَ الْجَيْشُ فِي رُجُوعِهِمْ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ الْمَزَادَتَيْنِ مَعَ الْمَرْأَةِ، وَقَدْ مَلَأُوا كُلَّ وِعَاءٍ مَعَهُمْ وَشَرِبُوا، وَهِيَ مَلْأَى كَمَا هِيَ.
وَكَمَا شَاهَدَ أَهْلُ خَيْبَرَ، وَهُمْ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ كَرَبْضَةِ الشَّاةِ فَأَشْبَعَ الْجَيْشَ كُلَّهُمْ، وَكَمَا شَاهَدَ الْجَيْشُ الْعَظِيمُ، وَهُمْ نَحْوُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا فِي تَبُوكَ الْعَيْنَ لَمَّا كَانَتْ قَلِيلَةَ الْمَاءِ فَكَثُرَ مَاؤُهَا حَتَّى كَفَاهُمْ، وَشَاهَدُوا الطَّعَامَ الَّذِي جَمَعُوهُ عَلَى نِطْعٍ فَأَخَذُوا مِنْهُ حَتَّى كَفَاهُمْ، وَكَمَا شَاهَدَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ، وَهُمْ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفٍ كَثْرَةَ الطَّعَامِ فِي بَيْتِ جَابِرٍ بَعْدَ أَنْ كَانَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَعَنَاقًا، فَأَكَلُوا كُلُّهُمْ بَعْدَ الْجُوعِ حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضَلَتْ فَضْلَةٌ
وَكَمَا شَاهَدَ الثَمَانُونَ نَفْسًا كَثْرَةَ الطَّعَامِ لَمَّا أَكَلُوا فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ، وَكَمَا شَاهَدَ الثَّلَاثُمِائَةٍ كَثْرَةَ الْمَاءِ لَمَّا تَوَضَّأُوا مِنْ قَدَحٍ، وَالْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى كَفَاهُمْ لِلْوُضُوءِ، وَكَذَلِكَ وَلِيمَةُ زَيْنَبَ كَانُوا ثَلَاثَمِائَةٍ فَأَكَلُوا مِنْ طَعَامٍ فِي تَوْرٍ مِنْ حِجَارَةٍ، وَهُوَ
بَاقٍ فَظَنَّ أَنَسٌ أَنَّهُ أَزْيَدُ مِمَّا كَانَ، وَكَانُوا يَتَدَاوَلُونَ قَصْعَةً مِنْ غَدْوَةٍ إِلَى اللَّيْلِ، يَقُومُ عَشَرَةٌ وَيَقْعُدُ عَشَرَةٌ، كَمَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَأَهْلُ الصُّفَّةِ لَمَّا شَرِبُوا كُلُّهُمْ مِنَ اللَّبَنِ الْقَلِيلِ وَكَفَاهُمْ وَفَضَلَ، وَكَانُوا يَنْقُلُونَ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ مَشْهُورٌ يَنْقُلُهُ بَعْضُ مَنْ شَاهَدَهُ إِلَى مَنْ غَابَ عَنْهُ، فَكَانَ اسْتِفَاضَةُ آيَاتِهِ وَشُهْرَتُهَا وَتَوَاتُرِهَا فِي الْأُمَّةِ أَعْظَمَ مِنْ تَوَاتُرِ سُجُودِ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا كَانَ مَرَّاتٍ قَلِيلَةً، وَلَمْ يَحْضُرْهُ إِلَّا الْمُصَلُّونَ خَلْفَهُ لِتِلْكَ الصَّلَاةِ، وَكَذَلِكَ نَقْلُهُمْ لِنُصُبِ الزَّكَاةِ وَفَرَائِضِهَا، فَإِنَّ هَذَا إِنَّمَا سَمِعَهُ مِنْهُ طَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ، وَنَقَلُوهُ.
وَكَذَلِكَ حُكْمُهُ بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَا يُقْسَمُ، وَقَضَاؤُهُ بِأَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَضَاؤُهُ بِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، وَنَهْيُهُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ، وَتَحْرِيمُهُ لِطَلَاقِ الْحَائِضِ وَطَلَاقِ الْمَوْطُوءَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا، وَأَنَّ الْمُعْتَقَةَ تَحْتَ عَبْدٍ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ، وَتَوْرِيثُ
الْجَدَّةِ السُّدُسَ، وَنَهْيُهُ أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَقَوْلُهُ " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالدَّوَالِي وَالنَّوَاضِحِ نِصْفُ الْعُشْرِ " وَأَمْثَالُ ذَلِكَ إِنَّمَا سَمِعَهَا طَائِفَةٌ مِنَ الْأُمَّةِ هُمْ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِمَّنْ شَاهَدُوا آيَاتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْأُمَّةَ مُتَّفِقَةٌ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ، وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ مَعْلُومَةٌ بِالِاضْطِرَارِ مِنْ دِينِهِ.
فَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذِهِ الْأُمُورِ تَوَاتَرَ فِي الْأُمَّةِ، وَاتَّفَقَتْ عَلَى نَقْلِهِ، فَكَيْفَ بِمَا كَانَ أَشْهَرَ وَأَظْهَرَ عِنْدَ مَنْ عَايَنَهُ، وَكَانَ عِلْمُ الَّذِينَ رَأَوْهُ بِهِ أَظْهَرَ مِنْ عِلْمِهِمْ بِهَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَقَدْ نَقَلُوا ذَلِكَ إِلَى مَنْ غَابَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ قَطْعًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ تَوَاتُرُ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الْأُمَّةِ أَعْظَمَ وَأَظْهَرَ، وَلِهَذَا لَا يَكَادُ يُوجَدُ مُسْلِمٌ إِلَّا وَقَدْ عَرَفَ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ وَسَمِعَهَا وَنَقَلَهَا إِلَى غَيْرِهِ، بِخِلَافِ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُتَوَاتِرَةِ عَنْهُ الْمُتَّفَقِ عَلَى نَقْلِهَا عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُهَا، وَلَا سَمِعَهَا.
وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: هَذِهِ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، فَلَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَتَوَفَّرَتِ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَتَوَاتَرَتْ. قُلْنَا: وَكَذَلِكَ هُوَ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، تَوَفَّرَتِ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي
عَلَى نَقْلِهَا أَكْثَرَ مِمَّا تَوَفَّرَتِ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ أَكْثَرِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَأَكْثَرَ مِمَّا تَوَفَّرَتِ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْأَخْبَارِ الْعَجِيبَةِ مِنْ سِيَرِ الْمُلُوكِ وَالْخُلَفَاءِ، فَإِنَّ مَنْ تَدَبَّرَ نَقْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَجَدَ شُهْرَتَهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَظُهُورُ الْأَخْبَارِ بِهَا أَعْظَمُ مِنْ شُهْرَةِ مَا نُقِلَ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيَرِ الْمُلُوكِ وَالدُّوَلِ الَّتِي جَرَتِ الْعَادَةُ بِتَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهَا، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَجِبُ فِي كَوْنِهِ مُتَوَاتِرًا أَنْ يَتَوَاتَرَ عِنْدَ كُلِّ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ.
فَإِنْ أَكْثَرَ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ كُلِّ أُمَّةٍ مِنْ أَحْوَالِ مُتَقَدِّمِيهَا قَدْ لَا يَسْمَعُهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأُمَمِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَضْلًا عَنْ تَوَاتُرِهِ عِنْدَهُمْ حَتَّى إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأُمَمِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ الْأَنْبِيَاءَ قَدْ لَا يَكُونُوا قَدْ سَمِعُوا بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ وَلَا بِأَخْبَارِهِمْ فَضْلًا عَنْ تَوَاتُرِهَا عِنْدَهُمْ، وَأَكْثَرُ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَتَوَاتَرْ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ الْمُلُوكِ وَسِيَرِهِمْ مَا تَوَاتَرَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ حَتَّى إِنَّ أَكْثَرَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَسْمَعُوا بِأَسْمَاءِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَبَنِي الْعَبَّاسِ، وَأَسْمَاءِ وُزَرَائِهِمْ وَنُوَّابِهِمْ وَقُوَّادِهِمْ.
وَبِالْحُرُوبِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ، وَلَا يَعْرِفُونَ الْوَقَائِعَ الْعَظِيمَةَ مِنَ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْدَائِهِمْ مِثْلَ يَوْمِ أَجْنَادِينَ، وَيَوْمِ مَرْجِ الصُّفَّرِ، وَيَوْمِ فِحْلٍ، وَمِثْلَ يَوْمِ الْحَرَّةِ، وَيَوْمِ مَرْجِ رَاهِطٍ، وَفِتْنَةِ
ابْنِ الْمُهَلَّبِ، وَفِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ وَالْقُرَّاءِ مَعَ الْحَجَّاجِ، وَحَرْبِ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ مَعَ الْمُخْتَارِ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَفِتْنَةِ
الْمَنْصُورِ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَسَنِ بْنِ حَسَنٍ بِالْمَدِينَةِ، وَمَعَ أَخِيهِ إِبْرَاهِيمَ بِالْبَصْرَةِ، وَمِثْلَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ، وَيَوْمِ الْيَرْمُوكِ، وَيَوْمِ
الْقَادِسِيَّةِ، وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ فَتَحُوا قُبْرُصَ، وَلَا غَزَوُا الْقُسْطَنْطِينِيَّةَ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً فِي زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَمَرَّةً فِي زَمَنِ بَنِي مَرْوَانَ.
وَكَذَلِكَ الْفِتَنُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. لَا بَلْ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ لَمْ يَسْمَعُوا بِأَبِي مُسْلِمٍ صَاحِبِ الدَّعْوَةِ، وَبِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَمَا جَرَى لَهُمَا مِنَ الْحُرُوبِ مَعَ عَسَاكِرِ مَرْوَانَ آخَرِ خُلَفَاءِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَمْ يَسْمَعُوا أَيْضًا بِدُخُولِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِشَامٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَمَا جَرَى لَهُ فِيهَا، وَلَا بِالْفِتْنَةِ الَّتِي بَيْنَ ابْنَيِ الرَّشِيدِ الْأَمِينِ
وَالْمَأْمُونِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالسِّيَرِ وَأَخْبَارِ النَّاسِ وَالتَّوَارِيخِ، وَظُهُورُ هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ وَأَعْلَامُهَا مَشْهُورَةٌ بَيْنَ الْأُمَّةِ عَامَّتِهَا وَخَاصَّتِهَا فِي كُلِّ زَمَانٍ أَعْظَمَ مِنْ ظُهُورِ هَذِهِ الْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ فَهِيَ أَحَقُّ أَنْ تُجْعَلَ مُتَوَاتِرَةً مِنْ هَذِهِ، وَنَقَلَةُ هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ الْخَاصَّةِ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَكُتُبُ الْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ وَالْمَغَازِي وَالسِّيَرِ وَكُتُبُ الْأُصُولِ وَالْفِقْهِ الَّتِي تُوجَدُ فِيهَا هَذِهِ الْأَخْبَارُ أَصَحُّ نَقْلًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ مِنْ كُتُبِ التَّوَارِيخِ الْمُرْسَلَةِ، فَإِنَّ تِلْكَ كَثِيرٌ مِنْ أَخْبَارِهَا مُنْقَطِعُ الْإِسْنَادِ، وَفِيهَا مِنَ الْأَكَاذِيبِ مَا لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْقِصَّةِ قَدْ يَكُونُ مُتَوَاتِرًا، وَهَذِهِ الْآيَاتُ الْمَشْهُورَةُ فِي الْأُمَّةِ كَثِيرٌ مِنْ أَجْنَاسِهَا مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَكَثِيرٌ مِنْ آحَادِهَا مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ الْخَاصَّةِ.
بَلْ وَكَثِيرٌ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ أَوْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ عَدَدَ مَغَازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي قَاتَلَ فِيهَا أَعْدَاءَهُ، وَهِيَ وَقَائِعُ مَشْهُورَةٌ كُلٌّ مِنْهَا مُتَوَاتِرٌ تَوَاتُرًا ظَاهِرًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِثْلَ يَوْمِ بَدْرٍ، وَيَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ الْخَنْدَقِ، وَغَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَغَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَفَتْحِ مَكَّةَ، وَيَوْمِ حُنَيْنٍ، وَحِصَارِ الطَّائِفِ.
فَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فَضْلًا عَنِ الْعَامَّةِ، وَإِنْ كَانُوا سَمِعُوا بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَوْ بَعْضِهَا فَلَا يَعْرِفُونَ أَيُّهَا كَانَ قَبْلَ الْآخَرِ، وَلَا يَعْرِفُونَ بِأَيِّ بُقْعَةٍ كَانَتْ تِلْكَ الْغَزَاةُ، بَلْ وَلَا يَعْرِفُونَ مَنْ كَانَ الْعَدُوُّ فِيهَا، وَلَا كَيْفَ كَانَتْ، بَلْ أَكْثَرُ الْعَامَّةِ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ بَلْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ: يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ ذَلِكَ يَوْمٌ وَاحِدٌ، وَأَنَّهَا غَزَاةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمَا غَزَاتَانِ بَيْنَهُمَا نَحْوُ سِتِّ سِنِينَ. كَانَتْ بَدْرٌ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ
الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ حُنَيْنٌ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَأَنَّ بَدْرًا مَكَانٌ بَيْنَ مَكَّةَ، وَالْمَدِينَةِ شَامِيِّ مَكَّةَ، وَيَمَانِيِّ الْمَدِينَةِ، وَحُنَيْنٌ، وَادٍ قَرِيبٌ مِنَ الطَّائِفِ شَرْقِيِّ مَكَّةَ، وَإِنَّمَا قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْمِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ فِيهِمَا الْمَلَائِكَةَ، وَأَيَّدَ بِهَا نَبِيَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ حَتَّى غَلَبُوا عَدُوَّهُمْ مَعَ قُوَّةِ الْعَدُوِّ فِي بَدْرٍ، وَمَعَ هَزِيمَةِ أَكْثَرِ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا بِحُنَيْنٍ، وَامْتَنَّ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ:
{وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران: 123]
وَفِي قَوْلِهِ:
{وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25](25){ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 26] . . .
حَتَّى بَعْضِ أَكَابِرِ أَئِمَّةِ الْفُتْيَا الْمَشْهُورِينَ قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ لَمَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ طَلَبَ السِّيَرِ: تَسْكُتُ وَإِلَّا سَأَلْتُكَ قُدَّامَ النَّاسِ: أَيُّهُمَا كَانَتْ قَبْلُ، بَدْرٌ أَوْ أُحُدٌ فَإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُهُ. مَعَ أَنَّهُ مِنَ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَسْتَرِيبُ فِيهِ مَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْأَخْبَارِ أَنَّ أُحُدًا
كَانَتْ بَعْدَ بَدْرٍ، وَفِي بَدْرٍ انْتَصَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيَوْمَ أُحُدٍ اسْتَظْهَرَ الْكُفَّارُ. بَلْ وَكَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ الْأَكَابِرِ لَا يَعْلَمُونَ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، بَلْ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَرَّتَيْنِ، وَمَجِيءِ بُخْتَ نَصَّرَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ الْمَرَّتَيْنِ فَقَالَ:
{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4](4){فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 5](5){ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6](6){إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا} [الإسراء: 7]
وَكَانَتِ الْأُولَى بَعْدَ سُلَيْمَانَ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ بَعْدَ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَالْمَسِيحِ لَمَّا قَتَلُوا يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا الَّذِي يُسَمِّيهِ أَهْلُ الْكِتَابِ يُوحَنَّا الْمَعْمِدَانِيَّ.
وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَذْكُورِينَ بِالْعِلْمِ يَظُنُّ أَنَّ (بُخْتَ نَصَّرَ) هُوَ الَّذِي قَدِمَ الشَّامَ لَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا، وَهَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ مَنْ لَهُ خِبْرَةٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ بَاطِلٌ، وَالْمُتَوَاتِرُ أَنَّ (بُخْتَ نَصَّرَ) هُوَ الَّذِي قَدِمَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ كَوْنُ شُعَيْبٍ النَّبِيِّ كَانَ حَمْوَ مُوسَى عليه السلام كَمَا تَقُولُهُ طَائِفَةٌ مِنَ الْجُهَّالِ، وَالْمُتَوَاتِرُ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَغَيْرِهِمْ خِلَافُ ذَلِكَ، وَعِنْدَ النَّصَارَى مِنْ أَخْبَارِهِمْ وَأَخْبَارِ عُلَمَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمُ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْيَهُودُ، وَعِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ عُلَمَائِهِمْ وَمُلُوكِهِمُ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا لَا يَعْرِفُهُ أَكْثَرُ الْأُمَمِ.
بَلْ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَخْبَارِ شُيُوخِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ وَبِلَادِهِمُ الْمُتَوَاتِرَةِ مَا لَمْ تُسْمَعْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنِ ادَّعَى خَبَرًا لَمْ يَكُنْ يُعْرَفُ فِي الَّذِينَ شَاهَدُوا تِلْكَ الْقَضِيَّةَ، كَمَا لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ، وَأَنَّهُ كَانَ يَصُومُ شَهْرَ رَمَضَانَ بِمَكَّةَ، وَأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ أَذَانٌ أَوْ أَنَّهُ كَانَ فِي عَسَاكِرِهِ، وَعَسَاكِرِ خُلَفَائِهِ دَبَادِبُ وَبُوقَاتٌ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُؤَذِّنُ لِلْعِيدَيْنِ أَوْ كَانَ يَخْطُبُ لِلْعِيدَيْنِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنْ عِيدٍ أَوْ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ أَرْبَعًا، أَوْ أَنَّهُ صَلَّى بِمِنًى صَلَاةَ عِيدِ النَّحْرِ، أَوْ أَنَّهُ نَصَّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه أَوْ غَيْرِهِ بِالْخِلَافَةِ نَصًّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا، أَوْ أَنَّهُ عَزَلَ أَبَا بَكْرٍ عَنِ الْإِمَارَةِ فِي الْحَجَّةِ وَوَلَّى عَلِيًّا، أَوْ أَنَّهُ صَلَّى فِي مَرَضِ مَوْتِهِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الْأَخْبَارِ الَّتِي يُعْرَفُ أَنَّهَا كَذِبٌ بَاطِلٌ لِتَوَاتُرِ
نَقِيضِهَا، وَلِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً لَكَانَتْ مِمَّا تَتَوَفَّرُ الْهِمَمُ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ وَاشْتِهَارِهِ، وَمَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذِكْرٌ فِي الزَّمَنِ الْمُتَقَدِّمِ.
وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْجَهْلِ مِثْلَ مَا يَجْعَلُونَهُ مِنْ مُعْجِزَاتِ الرَّسُولِ أَوْ غَيْرِهِ، وَلَا يُوجَدُ مَنْقُولًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ، بَلْ يُكَذِّبُونَ نَاقِلَهُ مِثْلَ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْعَامَّةِ: إِنَّ الْغَمَامَ كَانَ يُظِلُّهُ دَائِمًا، فَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ، وَلَا نَقَلَهُ عَالِمٌ مِنْ عُلَمَائِهِمْ، بَلْ هُوَ كَذِبٌ عِنْدَهُمْ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَنْقُلُهُ، وَإِنَّمَا نُقِلَ أَنَّ الْغَمَامَةَ أَظَلَّتْهُ لَمَّا كَانَ صَغِيرًا فَقَدِمَ مَعَ عَمِّهِ إِلَى الشَّامِ تَاجِرًا، وَرَآهُ بَحِيرَا الرَّاهِبُ، وَمَعَ هَذَا فَهَذَا لَا يَجْزِمُ بِصِحَّتِهِ، وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وَطِئَ أَثَّرَ قَدَمُهُ فِي الْحَجَرِ وَفِي الرَّمْلِ لَمْ يَكُنْ يُؤَثِّرْ، فَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ، وَلَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَلْ هُوَ كَذِبٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ مِنْ كَثْرَةِ الْقَتْلِ بِحُرُوبِهِ، أَوِ الْمَغَازِي الْكَثِيرَةِ الَّذِي يَذْكُرُ مِثْلَهَا صَاحِبُ الْكِتَابِ الَّذِي سَمَّاهُ
بِـ " نَقَلَاتِ الْأَنْوَارِ " وَيُقَالُ لَهُ الْبِكْرِيُّ، فَهَذِهِ لَمَّا كَانَ أَكْثَرُهَا لَا يُوجَدُ فِي كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الْمَعْرُوفَةِ، وَلَا نَقَلَهَا عُلَمَاؤُهُمْ، بَلْ قَدْ تَوَاتَرَ مَا يُخَالِفُهَا كَانَتْ كَذِبًا ظَاهِرًا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ الْجُهَّالِ بِأَحْوَالِهِ قَدْ يُصَدِّقُ بِهَا.
وَمِثْلَ مَا يَنْقُلُهُ طَائِفَةٌ أَنَّهُ كَانَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ نَصَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَدَهُ لِيَمُرَّ الْجَيْشُ عَلَيْهَا، وَأَنَّ الْبَغْلَةَ مَرَّتْ عَلَيْهَا فَقَالَ: قَطَعَ اللَّهُ نَسْلَكِ، فَانْقَطَعَ نَسْلُهَا، فَهَذَا لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ، وَلَا نَقَلَ ذَلِكَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُ ذَلِكَ مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالْكَذِبِ أَوْ جَاهِلٌ، وَلِهَذَا كَانَ هَذَا مِنَ الْكَذِبِ الَّذِي يَقْطَعُ بِكَذِبِهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ تَوَاتَرَ نَقِيضُهُ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ بَغْلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمَدِينَةِ وَلَا بِمَكَّةَ بَغْلَةٌ إِلَّا بَغْلَتَهُ الَّتِي أَهْدَاهَا لَهُ الْمُقَوْقِسُ النَّصْرَانِيُّ مَلِكُ مِصْرَ وَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَإِنَّمَا أَهْدَاهَا لَهُ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ لَمَّا كَتَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى
مُلُوكِ الطَّوَائِفِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ إِنَّمَا أَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الطَّوَائِفِ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ وَخَيْبَرَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ خَيْبَرَ، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الْبَغْلَةَ لَمْ تَزَلْ مَقْطُوعَةَ النَّسْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسْلٌ قَطُّ.
وَكَذَلِكَ مَا يَنْقُلُهُ بَعْضُ الْكَذَّابِينَ مِنْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ سُبُوا فَأُرْكِبُوا جِمَالًا فَنَبَتَ لَهَا سَنَامَانِ، وَأَنَّهَا الْبَخَاتِيُّ، فَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِالْأَخْبَارِ عَلَى أَنَّهُ كَذِبٌ، لَمْ يَسْبِ الْمُسْلِمُونَ قَطُّ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ بَيْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَا فِي خِلَافَةِ بَنِي أُمَيَّةَ، وَلَا فِي خِلَافَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ، وَالْجِمَالُ الْبَخَاتِيُّ مَا زَالَتْ هَكَذَا لَمْ يَتَجَدَّدْ لَهَا السَّنَامُ فِي الْإِسْلَامِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا ذَكَرَ مَا يُحْدِثُ النِّسَاءُ بَعْدَهُ، قَالَ:" «عَلَى رُءُوسِهِنَّ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ» "
وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الشَّمْسَ رُدَّتْ لَمَّا فَاتَتْ عَلِيًّا صَلَاةُ الْعَصْرِ لِكَوْنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فِي حِجْرِهِ، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ هَذَا مِنَ الْمُعْجِزَاتِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي يَعْتَمِدُونَ عَلَى مَا فِيهَا مِنَ الْمَنْقُولَاتِ،
لَا الصِّحَاحِ، وَلَا الْمَسَانِدِ، وَلَا الْمَغَازِي وَالسِّيَرِ، وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ بَيَّنَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ أَنَّ هَذَا كَذِبٌ، وَلَيْسَ لَهُ إِسْنَادٌ وَاحِدٌ صَحِيحٌ مُتَّصِلٌ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يُرْوَى عَمَّنْ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ، وَلَمْ يَرْوِهِ إِلَّا هُوَ مَعَ تَوَفُّرِ الْهِمَمِ وَالدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِهِ، فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَذِبٌ، وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ يُبَيِّنُ أَنَّ عُلَمَاءَ الْمُسْلِمِينَ يُمَيِّزُونَ الْمَنْقُولَاتِ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ، فَيَرُدُّونَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ فَضَائِلِ نَبِيِّهِمْ وَأَعْلَامِهِ وَفَضَائِلِ أَصْحَابِهِ وَأُمَّتِهِ مَا هُوَ عَظِيمٌ، وَيَقْبَلُونَ الصِّدْقَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ شُبْهَةُ إِشْكَالٍ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ الْمُنَازِعُونَ لَهُمْ.
وَكَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ يَقُولُ: أَهْلُ الْعِلْمِ يَكْتُبُونَ مَا لَهُمْ وَمَا عَلَيْهِمْ، وَأَهْلُ الْأَهْوَاءِ لَا يَكْتُبُونَ إِلَّا مَا لَهُمْ. وَمِنْ ذَلِكَ مَغَازِي حَمْزَةَ الشَّائِعَةُ بَيْنَ كَثِيرٍ مِنْ جُهَّالِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ، لَا يُوجَدُ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِ الْعِلْمِ، بَلْ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَمْزَةَ لَمْ يَشْهَدْ غَزْوَةً إِلَّا
غَزْوَةَ بَدْرٍ ثُمَّ غَزْوَةَ أُحُدٍ، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، قَتَلَهُ وَحْشِيُّ بْنُ حَرْبٍ، وَهَذَا مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ فِي الصِّحَاحِ بَلْ وَكَثِيرٌ مِمَّا لَمْ يُخَرِّجْهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، فَهَذِهِ عَامَّتُهَا مِمَّا يَقْطَعُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِصِحَّتِهَا، وَيَتَيَقَّنُونَ ذَلِكَ، وَهَذَا عِنْدَهُمْ مُسْتَفِيضٌ مُتَوَاتِرٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ قَدْ لَا يَتَوَاتَرُ وَيَسْتَفِيضُ عِنْدَ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ الْأَخْبَارَ قَدْ تَتَوَاتَرُ وَتَسْتَفِيضُ عِنْدَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ بِحَسَبِ عِنَايَتِهِمْ بِهَا وَطَلَبِهِمْ لَهَا، وَعِلْمِهِمْ بِمَنْ أَخْبَرَ بِهَا، وَصِفَاتِهِمْ، وَمَقَادِيرِهِمْ، وَمَا دَلَّ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ وَأَسْبَابِ نُزُولِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لَهُمْ بِهَذَا مِنَ الْعِلْمِ وَعِنْدَهُمْ بِهِ مِنَ الْيَقِينِ مَا لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ أَصْحَابَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ أَقْوَالِ مَتْبُوعِهِمْ وَنُصُوصِهِ وَأَخْبَارِهِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَالْأَطِبَّاءُ عِنْدَهُمْ مِنْ كَلَامِ أَبُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ وَمُحَمَّدِ بْنِ
زَكَرِيَّا وَأَمْثَالِهِمْ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ، وَغَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَأَهْلُ الْهَيْئَةِ عِنْدَهُمْ مِنْ كَلَامِ بَطْلَيْمُوسَ، وَالرَّصْدِ الْمُمْتَحِنِ الْمَأْمُونِيِّ، وَثَابِتِ بْنِ قُرَّةَ، وَأَبِي الْحُسَيْنِ الصُّوفِيِّ مَا يَعْلَمُونَهُ هُمْ، وَغَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ بِحَيْثُ يَجْزِمُ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ بِكَثِيرٍ مِنْ مَذَاهِبِ أَهْلِ الطِّبِّ وَالْحِسَابِ وَتَجَارِبِ الْأَطِبَّاءِ وَأَرْصَادِ أَهْلِ الْحِسَابِ، وَغَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ.
وَعِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ كَالْيَهُودِ مِنْ أَخْبَارِ هِلَالٍ، وَسِمَابِي، وَغَيْرِهِمَا
مِنْ شُيُوخِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ، وَعِنْدَ النَّصَارَى مِنْ أَخْبَارِ الْحَوَارِيِّينَ، وَمِنْ أَخْبَارِ قُسْطَنْطِينَ، وَالْمَجْمَعِ الْأَوَّلِ بِنِيقِيَّةَ، وَالْمَجْمَعِ الثَّانِي، وَالثَّالِثِ، وَالرَّابِعِ، وَالْخَامِسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَجَامِعِهِمْ، وَأَخْبَارِهِمْ مَا يَقْطَعُ بِهِ عُلَمَاؤُهُمْ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِأَيَّامِ الْإِسْلَامِ يَعْلَمُونَ مِنْ سِيرَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَمَغَازِيهِمْ كَوَقْعَةِ أَجْنَادِينَ، وَمَرْجِ الصُّفَّرِ، وَغَيْرِهِمَا فِي خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ، وَكَوَقْعَةِ الْيَرْمُوكِ، وَخَبَرِ أَبِي عُبَيْدَةَ
وَهَزِيمَةِ الْفُرْسِ، وَفَتْحِ مِصْرَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَا يَقْطَعُونَ بِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُمْ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ بَعْدَ هَؤُلَاءِ مِنْ سِيَرِ الْمُلُوكِ وَحَوَادِثِ الْوُجُودِ، بَلْ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالرِّجَالِ يَعْلَمُونَ مِنْ حَالِ آحَادِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَلْقَمَةَ، وَالْأَسْوَدِ، وَغَيْرِ هَؤُلَاءِ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ.
وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّحْوِ يَعْلَمُونَ مِنْ حَالِ سِيبَوَيْهِ، وَالْأَخْفَشِ، وَالْمُبَرِّدِ، وَالزَّجَّاجِ، وَالْفَرَّاءِ
وَالْكِسَائِيِّ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ.
وَالْقُرَّاءُ يَعْلَمُونَ مِنْ قِرَاءَةِ أَبِي عَمْرٍو، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ، وَابْنِ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ، وَالْأَعْمَشِ
وَخَلَفِ بْنِ هِشَامٍ، وَأَبِي جَعْفَرٍ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ.
فَإِذَا كَانَ آحَادُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ أَوِ الطِّبِّ أَوِ الْحِسَابِ أَوِ النَّحْوِ أَوِ الْقِرَاءَاتِ، بَلْ وَآحَادُ الْمُلُوكِ يَعْلَمُ الْخَاصَّةُ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُمْ وَيَقْطَعُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ أَعْلَى قَدْرًا مِنْ كُلِّ عَالِمٍ، وَأَرْفَعُ مَنْزِلَةً مِنْ كُلِّ مَلِكٍ، وَهُمْ أَرْغَبُ الْخَلْقِ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِهِ، وَأَعْظَمُ تَحَرِّيًا لِلصِّدْقِ فِيهَا، وَلِرَدِّ الْكَذِبِ مِنْهَا حَتَّى قَدْ صَنَّفُوا الْكُتُبَ الْكَثِيرَةَ فِي أَخْبَارِ جَمِيعِ مَنْ رَوَى شَيْئًا مِنْ أَخْبَارِهِ، وَذَكَرُوا فِيهَا أَحْوَالَ نَقَلَةِ حَدِيثِهِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ مِنْ جَرْحٍ وَتَعْدِيلٍ، وَدَقَّقُوا فِي ذَلِكَ، وَبَالَغُوا مُبَالَغَةً لَا يُوجَدُ مِثْلُهَا لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَّا لِأَهْلِ الْحَدِيثِ، فَهَذَا يُعْطِي أَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِحَالِ نَبِيِّهِمْ مَنْ كُلِّ أَحَدٍ بِحَالِ مَتْبُوعِهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَعْلَمُ بِصِدْقِ النَّاقِلِ وَكَذِبِهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ بِصِدْقِ مَنْ نَقَلَ عَنْ مَتْبُوعِهِمْ وَكَذِبِهِ
فَإِذَا كَانَ أُولَئِكَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ مَتْبُوعِهِمْ مُتَّفِقِينَ عَلَيْهِ جَازِمِينَ بِتَصْدِيقِهِ لَا يَكُونُ إِلَّا صِدْقًا، فَهَؤُلَاءِ مَعَ جَزْمِهِمْ بِالصِّدْقِ، وَاتِّفَاقِهِمْ عَلَى التَّصْدِيقِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَا جَزَمُوا بِصِدْقِهِ إِلَّا صِدْقًا.
وَعَامَّةُ أَخْبَارِ الصَّحِيحَيْنِ مِمَّا اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْحَدِيثِ عَلَى التَّصْدِيقِ بِهَا، وَجَزَمُوا بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَنَازَعُوا فِي أَحَادِيثَ قَلِيلَةٍ مِنْهَا، وَعَامَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ آيَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّتِي فِي الصِّحَاحِ هِيَ مِنْ مَوَارِدِ إِجْمَاعِهِمُ الْمُسْتَفِيضَةِ عِنْدَهُمُ الَّتِي يَجْزِمُونَ بِصِدْقِهَا، لَيْسَتْ مِنْ مَوَارِدِ نِزَاعِهِمْ، فَهَذَا طَرِيقٌ يَسْلُكُهُ مَنْ عَرَفَهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَيَعْلَمُ خِيرَةُ أَهْلِهِ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِهِمْ، فَهَذِهِ طَرِيقَانِ فِي تَصْدِيقِ هَذِهِ الْآيَاتِ: التَّوَاتُرُ الْعَامُّ، وَالتَّوَاتُرُ الْخَاصُّ.
الطَّرِيقُ الثَّالِثُ: التَّوَاتُرُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهَذَا مِمَّا اتَّفَقَ عَلَى مَعْرِفَتِهِ عَامَّةُ الطَّوَائِفِ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ يَسْمَعُونَ أَخْبَارًا مُتَفَرِّقَةً بِحِكَايَاتٍ يَشْتَرِكُ مَجْمُوعُهَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ، كَمَا سَمِعُوا أَخْبَارًا مُتَفَرِّقَةً تَتَضَمَّنُ شَجَاعَةَ عَنْتَرَةَ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَأَمْثَالِهِمَا، وَتَتَضَمَّنُ سَخَاءَ حَاتِمٍ
وَمَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، وَأَمْثَالِهِمَا، وَتَتَضَمَّنُ حِلْمَ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَمْثَالِهِمَا، وَتَتَضَمَّنُ شِعْرَ امْرِئِ الْقَيْسِ وَالنَّابِغَةِ وَلَبِيدٍ وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَشِعْرَ الْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ
وَعُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُوَلَّدِينَ، وَشِعْرَ أَبِي نُوَاسٍ وَالْمُتَنَبِّي وَأَبِي تَمَّامٍ، وَأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْمُحْدَثِينَ، بَلْ وَسَمِعُوا أَقْوَالًا وَفَتَاوِي مُتَفَرِّقَةً تَتَضَمَّنُ فِقْهَ مَالِكٍ، وَالثَّوْرِيِّ، وَاللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَأَخْبَارًا مُتَفَرِّقَةً تَتَضَمَّنُ الْعَدْلَ وَحُسْنَ السِّيرَةِ مِنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ، وَسَمِعُوا أَخْبَارًا مُتَفَرِّقَةً تَتَضَمَّنُ الزُّهْدَ عَنْ مِثْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَالْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَمَالِكِ بْنِ دِينَارٍ، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَغَيْرِهِمْ مِنَ الزُّهَّادِ، وَسَمِعُوا أَخْبَارًا مُتَفَرِّقَةً تَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ أَبُقْرَاطَ وَجَالِينُوسَ وَنَحْوِهِمَا بِالطِّبِّ، فَيَحْصُلُ بِمَجْمُوعِ الْأَخْبَارِ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ بِأَنَّ الشَّخْصَ مَوْصُوفٌ بِذَلِكَ النَّعْتِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْبَارِ لَوْ تَجَرَّدَ وَحْدَهُ لَمْ يُفِدِ الْعِلْمَ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنَ الْحِكَايَاتِ لَيْسَتْ وَحْدَهَا مَنْقُولَةً بِالتَّوَاتُرِ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ الْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ بِالْإِيمَانِ وَالْمَوْتِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ اسْتِقَامَةُ مُوجِبِ الْعِلْمِ الْقَطْعِيِّ كَعِلْمِ النَّاسِ بِأَنَّ خَدِيجَةَ وَعَائِشَةَ وَنَحْوَهُمَا مِنْ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ فَاطِمَةَ وَزَيْنَبَ مِنْ
بَنَاتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ عَائِشَةَ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ تَوَلَّوُا الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ، وَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ دُفِنَا فِي حُجْرَتِهِ، وَإِذَا عُرِفَ هَذَا فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا هِيَ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُنْقَلُ عَنِ الْوَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ، وَنَقَلَتُهَا أَجَلُّ وَأَكْثَرُ وَأَفْضَلُ مِنْ نَقَلَةِ أَخْبَارِ هَؤُلَاءِ، وَهِيَ كَامِلَةٌ تَتَضَمَّنُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَجْرِي عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ وَالْعَجَائِبِ الْعَظِيمَةِ مَا لَا يُعْرَفُ نَظِيرُهُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَعِلْمُ الْمُسْلِمِينَ بِهَذَا أَعْظَمُ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمَا يَنْقُلُونَهُ مِنْ آيَاتِ مُوسَى وَعِيسَى وَغَيْرِهِمَا، فَإِنَّ نَقَلَةَ آيَاتِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم غَيْرِ الْقُرْآنِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ نَقَلَةِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّ التَّوْرَاةَ لَمْ تَكُنْ جَمِيعُهَا مَحْفُوظَةً لِعُمُومِ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ، وَعِنْدَ خَرَابِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ قَلَّ مَنْ يَحْفَظُهَا جِدًّا حَتَّى تَنَازَعَ النَّاسُ فِي تَوَاتُرِ نَقْلِهَا
وَكَذَلِكَ الْإِنْجِيلُ نَقَلَتُهُ أَقَلُّ بِكَثِيرٍ مِنْ نَقَلَةِ آيَاتِ مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا قَالَ النَّصَارَى هَؤُلَاءِ كَانُوا صَالِحِينَ، وَكَانَ لَهُمْ آيَاتٌ، كَمَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ آيَاتِ الْحَوَارِيِّينَ فَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَتَابِعُوهُمْ صَالِحُونَ، وَلَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ أَعْظَمُ مِمَّا لِلْحِوَارِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يَحْمِلُ الْعَسْكَرَ عَلَى الْمَاءِ، وَمَنْ كَانَ يَشْرَبُ السُّمُومَ الْقَاتِلَةَ، وَمَنْ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى بِدَعْوَتِهِ، وَمَنْ يُكَثِّرُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَكُتُبُ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِمَّا عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهُمْ يَنْقُلُونَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ مِنْ كُتُبٍ عِنْدَهُمْ، مِثْلَ كِتَابِ أَخْبَارِ الْحَوَارِيِّينَ، وَكِتَابِ سِفْرِ الْمُلُوكِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَمَا يَذْكُرُونَ مِنْ حُجَّةٍ فِي صِحَّةِ نَقْلِهَا إِلَّا وَحُجَّةُ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِيَنَ أَظْهَرُ وَأَقْوَى.
الطَّرِيقُ الرَّابِعُ: أَنْ يُقَالَ: هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَا بَعْضَهَا كَانَتْ تَكُونُ بِمَحْضَرٍ مِنَ الْخَلْقِ الْكَثِيرِ كَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَإِنَّهُ كَانَ أَهْلُ الْخَنْدَقِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ أُلُوفًا.
وَكَذَلِكَ نَبْعُ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَفَيَضَانُ الْبِئْرِ بِالْمَاءِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَكُلُّهُمْ صَالِحُونَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ، لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ مَنْ تَعَمَّدَ كَذِبَةً وَاحِدَةً عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَكَذَلِكَ تَكْثِيرُ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ كَانُوا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ، وَفِي تَبُوكَ كَانُوا أُلُوفًا مُؤَلَّفَةً، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ هَذِهِ الْمَشَاهِدَ نَقَلَ هَذِهِ الْآيَاتِ قُدَّامَ آخَرِينَ مِمَّنْ حَضَرَهَا، وَيَنْقُلُهَا لِأَقْوَامٍ فَيَذْهَبُ أُولَئِكَ فَيُخْبِرُونَ بِهَا أُولَئِكَ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَحْكِي هَذَا مِثْلَ مَا حَكَى هَذَا مِنْ غَيْرِ تَوَاطُئٍ وَتَشَاعُرٍ، وَأَدْنَى أَحْوَالِهِ أَنْ يُقِرَّهُ وَلَا يُنْكِرَ عَلَيْهِ رِوَايَتَهَا، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِمُوجِبِ الْعَادَةِ الْفِطْرِيَّةِ الَّتِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهَا عِبَادَهُ، وَبِمُوجِبِ مَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ مِنَ اعْتِقَادِ الصِّدْقِ وَتَحَرِّيهِ، وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ، وَمِنْ شِدَّةِ تَوَقِّيهِمُ الْكَذِبَ عَلَى نَبِيِّهِمْ، وَتَعْظِيمِهِمْ ذَلِكَ، إِذْ قَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:«مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»
فَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يُقِرُّونَ مَنْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ يَكْذِبُ عَلَيْهِ، وَمَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ بِمَا كَانُوا مُشَاهِدِينَ لَهُ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُ كَذَبَ
عَلَيْهِ، فَلَمَّا اتَّفَقُوا عَلَى الْإِقْرَارِ عَلَى ذَلِكَ، وَعَلَى تَنَاقُلِهِ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارِ أَحَدٍ مِنْهُمْ لِذَلِكَ عُلِمَ قَطْعًا أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ كَمَا هُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى نَقْلِ الْقُرْآنِ وَالشَّرِيعَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ، وَإِنْ كَانَ جُمْهُورُهُمْ لَيْسَ مُنْتَصِبًا لِتَلْقِينِ الْقُرْآنِ، بَلْ هَذَا يُلَقِّنُهُ وَهَذَا يَسْمَعُهُ مِنْ هَذَا الْمُتَلَقِّنِ، لَا يُنْكِرُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْقِرَاءَةَ، وَهَذَا يُعَلِّمُ هَذَا الصَّلَاةَ: أَنَّ الظُّهْرَ فِي الْحَضَرِ أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ، وَالْمَغْرِبَ ثَلَاثًا، وَالْفَجْرَ رَكْعَتَانِ، وَهَذَا يُقِرُّ هَذَا، فَلَمَّا كَانَ بَعْضُهُمْ يُقِرُّ بَعْضًا عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ عُلِمَ اتِّفَاقُهُمْ عَلَى نَقْلِ ذَلِكَ، وَهَذَا غَايَةُ التَّوَاتُرِ.
وَكَذَلِكَ مَا نَقَلُوهُ مِنْ شَرَائِعِهِ وَمِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْكَرَهُ بَعْضُهُمْ رَدَّهُ عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يُوَافِقْهُ، وَإِنْ كَانُوا مُتَأَخِّرِينَ عَنْ زَمَنِ الصَّحَابَةِ فَكَيْفَ بِالْمُتَقَدِّمِينَ، كَتَنَازُعِهِمْ هَلْ كَانَ يَجْهَرُ بِالْبَسْمَلَةِ أَمْ لَا يَجْهَرُ بِهَا؟ وَهَلْ كَانَ يُدَاوِمُ عَلَى الْقُنُوتِ فِي الْفَجْرِ أَمْ كَانَ يَقْنُتُ أَحْيَانًا لِلنَّوَازِلِ، أَمْ قَنَتَ مَرَّةً ثُمَّ تَرَكَهُ، فَهَذَا مِنْ أَهْوَنِ الْأُمُورِ وَأَيْسَرِهَا، إِذْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ قَنَتَ، وَعَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ لَمْ يَقْنُتْ، وَمَنْ جَهَرَ، وَمَنْ خَافَتْ، وَلَكِنْ لَمَّا تَنَازَعُوا فِيمَا فَعَلَهُ الرَّسُولُ تَنَازَعُوا فِي الْحُكْمِ، فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ مَا كَانَ مَشْهُورًا فِي الْأُمَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِهَا كَانَتِ الْأُمَّةُ مُتَّفِقَةً عَلَى نَقْلِهِ كَنَقْلِهِمْ لِلْقُرْآنِ، وَلِلشَّرَائِعِ الظَّاهِرَةِ
الْمَشْهُورَةِ، وَإِنَّ نَقْلَ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ نَقْلِ سَائِرِ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالزُّهَّادِ
وَكَذَلِكَ حَجُّهُ، فَإِنَّهُمْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ بَعْدَ الْهِجْرَةِ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، وَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى حَجَّةُ الْوَدَاعِ، وَإِنَّمَا عَاشَ بَعْدَهَا نَحْوًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَأَنَّهُ لَمَّا حَجَّ أَمَرَ أَصْحَابَهُ كُلَّهُمْ إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ مِنْهُمْ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ حَجُّوا مَعَهُ بَعْدَ الْحَجِّ إِلَّا عَائِشَةُ وَحْدَهَا، وَأَنَّهُ هُوَ نَفْسُهُ لَمْ يَحِلَّ مِنْ حَجَّتِهِ، وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ سَاقَ الْهَدْيَ مَعَهُ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى بَعْضِهِمْ بَعْضُ أَلْفَاظِهِ أَوْ بَعْضُ الْأُمُورِ الَّتِي تَخْفَى عَلَى أَكْثَرِ النَّاسِ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَنْقُلُونَ تَمَتُّعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَمُرَادُهُمْ بِالتَّمَتُّعِ أَنَّهُ قَرَنَ بَيْنَ الْعُمْرَةِ وَالْحَجِّ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُ أَخَّرَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ إِلَى أَنْ قَضَى الْعُمْرَةَ، وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ: إِنَّهُ أَفْرَدَ بِالْحَجِّ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ حَجَّ، وَاعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ، وَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ، بَلِ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَمِرْ بَعْدَ الْحَجِّ، وَرَوَى بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَرَنَ، فَظَنَّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ طَافَ طَوَافَيْنِ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ، وَهَذَا لَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ عَنْهُ، وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ غَلَطِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ تِلْكَ الْأَلْفَاظَ فِي مَعَانٍ غَيْرَ مَا اسْتَعْمَلَتْهُ فِيهَا الصَّحَابَةُ، فَغَلِطَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى بَعْضِ الصَّحَابَةِ، وَأَمَّا مَا فَعَلَهُ فِي الْحَجِّ مَشْهُورًا فَهُوَ
مُتَوَاتِرٌ لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ النَّقْلُ، وَلَا عُلَمَاءُ النَّقْلِ، وَمَنْ تَدَبَّرُ هَذِهِ الطَّرِيقَ أَفَادَتْهُ عِلْمًا يَقِينِيًّا قَطْعِيًّا بِصِحَّةِ هَذِهِ الْآيَاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم، وَكَذَلِكَ الطُّرُقُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا كَانَ النَّاسُ أَحْوَجَ إِلَى مَعْرِفَتِهِ يَسَّرَ اللَّهُ دَلَائِلَهُ لِلنَّاسِ أَعْظَمَ مِنْ تَيْسِيرِ غَيْرِهِ، وَحَاجَةُ الْخَلْقِ إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ حَاجَتِهِمْ إِلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، إِذْ بِذَلِكَ تَحْصُلُ سَعَادَتُهُمْ فِي الْآخِرَةِ، وَنَجَاتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَبِهِ يَحْصُلُ صَلَاحُ الْعِبَادِ فِي الْمَعَادِ وَالْمَعَاشِ
الطَّرِيقُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَا مِنْ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ الْعُلَمَاءِ إِلَّا وَقَدْ تَوَاتَرَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ، فَكُتُبُ التَّفْسِيرِ مَشْحُونَةٌ بِذِكْرِ الْآيَاتِ مُتَوَاتِرٌ ذَلِكَ فِيهَا، وَكُتُبُ الْحَدِيثِ مَشْحُونَةٌ بِذِكْرِ الْآيَاتِ مُتَوَاتِرٌ ذَلِكَ فِيهَا، وَكُتُبُ السِّيَرِ وَالْمَغَازِي وَالتَّوَارِيخِ مَشْحُونَةٌ بِذِكْرِ الْآيَاتِ مُتَوَاتِرٌ ذَلِكَ فِيهَا، وَكُتُبُ الْفِقْهِ مَشْحُونَةٌ بِذِكْرِ الْآيَاتِ مُتَوَاتِرٌ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مَقْصُودًا مِنْهَا، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْأَحْكَامُ لَكِنَّهُمْ فِي ضِمْنِ مَا يَرْوُونَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ يَرْوُونَ فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَهُمْ، وَكُتُبُ الْأُصُولِ وَالْكَلَامِ مَشْحُونَةٌ بِذِكْرِ الْآيَاتِ مُتَوَاتِرٌ ذَلِكَ فِيهَا، وَنَقْلُ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ يُفِيدُ الْعِلْمَ الْيَقِينِيَّ، فَكَيْفَ بِمَا يَنْقُلُهُ كُلُّ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الطَّوَائِفِ، وَهَذِهِ الطَّرِيقُ وَغَيْرُهَا مِثْلَ طَرِيقِ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ، وَطَرِيقِ التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَطَرِيقِ تَصْدِيقِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ، يُسْتَدَلُّ بِهَا تَارَةً عَلَى تَوَاتُرِ الْجِنْسِ الْعَامِّ لِلْآيَاتِ الْخَارِقَةِ لِلْعَادَةِ، وَهَذَا أَقَلُّ مَا يَكُونُ، وَيُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى تَوَاتُرِ جِنْسِ جِنْسٍ مِنْهَا، كَتَوَاتُرِ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ، وَتَوَاتُرِ تَكْثِيرِ الطَّهُورِ
وَالشَّرَابِ، وَعَلَى تَوَاتُرِ نَوْعِ نَوْعٍ مِنْهَا، كَتَوَاتُرِ نَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ، وَتَوَاتُرِ إِشْبَاعِ الْخَلْقِ الْعَظِيمِ مِنَ الطَّعَامِ الْقَلِيلِ، وَتَوَاتُرِ شَخْصِ شَخْصٍ مِنْهَا، كَتَوَاتُرِ حَنِينِ الْجِذْعِ إِلَيْهِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَكُلَّمَا أَمْعَنَ الْإِنْسَانُ فِي ذَلِكَ النَّظَرَ، وَاعْتَبَرَ ذَلِكَ بِأَمْثَالِهِ، وَاعْتَبَرَ وَأَعْطَاهُ حَقَّهُ مِنَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ ازْدَادَ بِذَلِكَ عِلْمًا وَيَقِينًا، وَتَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ أَظْهَرُ مِنْ جَمِيعِ مَا يَطْلُبُ مِنَ الْعِلْمِ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا عِلْمٌ مَطْلُوبٌ بِالْأَخْبَارِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِلَّا وَالْعِلْمُ بِآيَاتِ الرَّسُولِ وَشَرَائِعِ دِينِهِ أَظْهَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَا مِنْ حَالِ أَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَشَايِخِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَسِيرَتِهِ إِلَّا وَالْعِلْمُ بِأَحْوَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَظْهَرُ مِنَ الْعِلْمِ بِهِ، وَمَا مِنْ عِلْمٍ يُعْلَمُ بِالتَّوَاتُرِ مِمَّا هُوَ مَوْجُودٌ الْآنَ كَالْعِلْمِ بِالْبِلَادِ الْبَعِيدَةِ كَعِلْمِ أَهْلِ الشَّامِ بِالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْهِنْدِ وَالصِّينِ وَالْأَنْدَلُسِ، وَعِلْمِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ وَالْهِنْدِ، وَعِلْمِ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ، وَعِلْمِ أَهْلِ الْهِنْدِ بِالْعِرَاقِ وَالشَّامِ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْبِلَادِ بَعْضِهِمْ بِحَالِ بَعْضٍ إِلَّا وَعِلْمُ الْإِنْسَانِ بِحَالِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، وَمَا يَنْقُلُونَهُ عَنْ نَبِيِّهِمْ مِنْ آيَاتِهِ وَشَرَائِعِهِ أَظْهَرُ مِنْ عِلْمِهِ بِهَذَا كُلِّهِ.
وَهَذَا مِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ أَمْرٌ يُعْلَمُ بِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ إِلَّا وَآيَاتُ الرَّسُولِ وَشَرَائِعُهُ تُعْلَمُ بِالنُّقُولِ الْمُتَوَاتِرَةِ أَعْظَمَ مِمَّا يُعْلَمُ ذَلِكَ
الْأَمْرُ تَحْقِيقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَظُهُورُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ بِالْعِلْمِ وَالْحُجَّةِ وَالْبَيَانِ إِنَّمَا هُوَ بِمَا يُظْهِرُهُ مِنْ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَتِمُّ بِالْعِلْمِ بِمَا يُنْقَلُ عَنْ مُحَمَّدٍ مِنْ آيَاتِهِ الَّتِي هِيَ الْأَدِلَّةُ، وَشَرَائِعِهِ الَّتِي هِيَ الْمَدْلُولُ الْمَقْصُودُ بِالْأَدِلَّةِ، فَهَذَا قَدْ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَحُجَّةً وَبَيَانًا عَلَى كُلِّ دِينٍ، كَمَا أَظْهَرَهُ قُوَّةً وَنَصْرًا وَتَأْيِيدًا عَلَى كُلِّ دِينٍ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
كَمَا أَنَّهُ مَا مِنْ دَلِيلٍ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَدْلُولٍ إِلَّا وَالْأَدِلَّةُ عَلَى آيَاتِ الرَّبِّ أَكْبَرُ وَأَكْثَرُ.
الطَّرِيقُ السَّادِسُ: أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ صَنَّفُوا مُصَنَّفَاتٍ كَثِيرَةً فِي ذِكْرِ آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الْمَنْقُولَةِ فِي الْأَخْبَارِ، وَجَرَّدُوا لِذَلِكَ كُتُبًا مِثْلَ كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْفَقِيهِ الْحَافِظِ أَبِي بَكْرٍ الْبَيْهَقِيِّ، وَقَبْلَهُ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ
لِلشَّيْخِ أَبِي نُعَيْمٍ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَقَبْلَهُ دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِأَبِي الشَّيْخِ الْأَصْبَهَانِيِّ، وَلِأَبِي الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيِّ، وَقَبْلَهُمَا دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ لِلْإِمَامِ الْحَافِظِ أَبِي زُرْعَةَ الرَّازِيِّ، وَالشَّيْخِ الْمُصَنِّفِ أَبِي بَكْرٍ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الدُّنْيَا، وَلِلْمُصَنِّفِ الْحَافِظِ الْإِمَامِ أَبِي إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمَ
الْحَرْبِيِّ، وَأَبِي بَكْرٍ جَعْفَرٍ الْفِرْيَابِيِّ، وَمَا صَنَّفَهُ الشَّيْخُ الْعَالِمُ أَبُو الْفَرَجِ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالْوَفَا فِي فَضَائِلِ الْمُصْطَفَى، وَمَا صَنَّفَهُ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَقْدِسِيُّ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، وَهَؤُلَاءِ وَغَيْرُهُمْ يَذْكُرُونَ مَا يَذْكُرُونَ مِنَ الْأَسَانِيدِ الْمَعْرُوفَةِ، وَالطُّرُقِ الْمُتَعَدِّدَةِ الْكَثِيرَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ.
وَهَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ يُمَيِّزُ مَا يَذْكُرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ بَيْنَ مَا فِي صَحِيحَيِ الْبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَمَا فِي غَيْرِهِمَا، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا
أَيْضًا كَالْبَيْهَقِيِّ، وَابْنِ الْجَوْزِيِّ، وَالْمَقْدِسِيِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرُ ذَلِكَ جَمِيعَهُ بِأَسَانِيدِهِ، وَقَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْأَسَانِيدِ وَالطُّرُقِ وَيَذْكُرُ تَعَدُّدَهَا مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ مِنْهُ أَنْ يَذْكُرَ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ كَأَبِي زُرْعَةَ شَيْخِ مُسْلِمٍ، وَأَبِي الشَّيْخِ، وَأَبِي نُعَيْمٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَآخَرُونَ يَذْكُرُونَهُ مَعْزُوًّا مُسْنَدًا إِلَى مَنْ رَوَاهُ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا إِسْنَادَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ السَّبْتِيُّ فِي كِتَابِهِ الْمُسَمَّى بِالشِّفَا بِتَعْرِيفِ حُقُوقِ الْمُصْطَفَى، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَرِّرُ ذَلِكَ بِشُهْرَةِ ذَلِكَ وَطُرُقٍ أُخْرَى مِنْ صِحَّتِهِ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النُّظَّارِ كَالْقَاضِي عَبْدِ الْجَبَّارِ
وَالْجَاحِظِ، وَالْمَاوَرْدِيِّ الْقَاضِي، وَسُلَيْمٍ الرَّازِيِّ الْفَقِيهِ، وَغَيْرِهِمْ، وَهَذِهِ الْكُتُبُ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِآيَاتِ نُبُوَّتِهِ وَبَرَاهِينِ رِسَالَتِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ الْأَحَادِيثِ الْمَأْثُورَةِ فِيمَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عَنْهُ مِثْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَصَدِّ الْمُشْرِكِينَ لَهُ، وَمُصَالَحَتِهِ
إِيَّاهُمْ، وَحِلِّهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَرُجُوعِهِمْ ذَلِكَ الْعَامَ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ، وَعُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، وَعُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ.
وَمِثْلَ حِصَارِهِ لِأَهْلِ الطَّائِفِ، وَفَتْحِ مَكَّةَ قَبْلَ ذَلِكَ، وَمِثْلَ غَزْوِهِ النَّصَارَى عَامَ تَبُوكَ، وَإِرْسَالِهِ جَيْشًا لِغَزْوِهِمْ بِمُؤْتَةَ مِنْ مَشَارِفِ الشَّامِ قَرِيبًا مِنَ الْحِصْنِ الْمُسَمَّى بِالْكَرَكِ، وَمِثْلِ
غَزْوِهِ لِلْيَهُودِ بِخَيْبَرَ، وَغَزْوِهِ لِلْيَهُودِ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَنْ كَانَ عِنْدَ الْمَدِينَةِ مِثْلَ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَالنَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ، وَمِثْلَ إِرْسَالِهِ أَبَا بَكْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِّ سَنَةَ تِسْعٍ، وَنَبْذِهِ الْعُهُودَ، وَمُنَادَاتِهِ أَنْ «لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ» ، وَمِثْلَ هِجْرَتِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ وَرَجُلٍ ثَالِثٍ كَانَ دَلِيلًا لَهُمْ.
وَمِثْلَ مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْعِيدَيْنِ بِالْمُصَلَّى خَارِجِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي الْعِيدَ فِي مَسْجِدِهِ إِلَّا مَرَّةً نُقِلَ أَنَّهُ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ لِأَجْلِ الْمَطَرِ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ يُصَلِّي أَحَدٌ بِالْمَدِينَةِ صَلَاةَ الْعِيدِ إِلَّا خَلْفَهُ لَمْ يَكُنْ يُصَلِّي صَلَاتَيْ عِيدٍ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَمَّا كَثُرَ النَّاسُ وَضَعُفَ أَقْوَامٌ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الصَّحْرَاءِ اسْتَخْلَفَ مَنْ يُصَلِّي
بِهِمْ فِي الْمَسْجِدِ.
وَكَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا إِلَّا إِذَا قَعَدَ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ كَثُرَ النَّاسُ فَأَمَرَ بِالنِّدَاءِ الثَّالِثِ عَلَى دَارٍ قَرِيبَةٍ مِنَ الْمَسْجِدِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا الزَّوْرَاءُ، وَكَمَا تَوَاتَرَ أَنَّ مَسْجِدَهُ كَانَ بِاللَّبِنِ، وَسَقْفَهُ كَانَ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَكَانَتْ حُجَرُ أَزْوَاجِهِ قِبْلِيِّ الْمَسْجِدِ وَشَرْقِيِّهِ فَلَمَّا كَثُرَ النَّاسُ زَادَ فِيهِ عُمَرُ ثُمَّ زَادَ فِيهِ عُثْمَانُ، وَبَنَاهُ بِالْقَصَّةِ وَالْحِجَارَةِ، ثُمَّ فِي إِمَارَةِ الْوَلِيدِ أَمَرَ نَائِبَهُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنْ يَشْتَرِيَ الْحُجَرَ وَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَتْ حُجْرَةُ عَائِشَةَ الَّتِي دُفِنَ فِيهَا هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فِي الْمَسْجِدِ مِنْ حِينِئِذٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ فِي حَيَاتِهِ خَارِجَةً عَنِ الْمَسْجِدِ إِلَى سَنَةِ إِحْدَى وَتِسْعِينَ، وَقَالَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ:
وَكَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَوَقْتَ غُرُوبِهَا، وَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُضَحِّي فِي عِيدِ الْأَضْحَى، بَلْ تَوَاتَرَ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ تُرُوكُهُ الْمَشْهُورَةُ كَمَا تَوَاتَرَتْ أَفْعَالُهُ الْمَشْهُورَةُ، فَتَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُؤَذِّنُ لِلْعِيدَيْنِ، وَلَا الْكُسُوفِ، وَلَا الِاسْتِسْقَاءِ، وَأَنَّهُ صَلَّى الْكُسُوفَ بِرُكُوعَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ صَلَاةٌ طَوِيلَةٌ، وَتَوَاتَرَ عَنْهُ كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الطَّوَافِ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَلِّي بَعْدَ السَّعْيِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَتَوَاتَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوَاصِلُ، وَنَهَى
أَصْحَابَهُ عَنِ الْوِصَالِ، وَيَقُولُ:«إِنِّي لَسْتُ كَهَيْأَتِكُمْ، إِنِّي أَبِيتُ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَأَنَّهُ لَمْ يَفْرِضْ صَوْمًا إِلَّا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلَمْ يَفْرِضِ الْحَجَّ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ إِلَّا مَرَّةً، وَأَنَّهُ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ عَلَى كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ إِلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ، وَأَنَّهُ مَنَعَ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ مِنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ، وَكَانَ الْحُيَّضُ يُؤْمَرْنَ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ، وَلَا يُؤْمَرْنَ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ.
وَأَنَّهُ أَمَرَ بِالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَمَرَ بِالْوُضُوءِ عِنْدَ الصَّلَاةِ لِمَنْ بَالَ أَوْ تَغَوَّطَ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ أَوْ مَذْيٌ، وَأَنَّهُ رَخَّصَ فِي الِاسْتِجْمَارِ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِينِ، وَنَهَى عَنِ الِاسْتِجْمَارِ بِالْعَظْمِ وَالْبَعْرِ، وَقَالَ:" «إِنَّهَا زَادُ إِخْوَانِكُمْ مِنَ الْجِنِّ» " وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجْمَعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى سَمَاعِ كَفٍّ، وَلَا دُفٍّ، وَلَا رَقْصٍ
وَلَا صَعْقٍ، لَا هُوَ وَلَا أَصْحَابُهُ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ، بَلْ كَانُوا تَوْجَلُ قُلُوبُهُمْ، وَتَقْشَعِرُّ جُلُودُهُمْ، وَتَدْمَعُ عُيُونُهُمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ تُعَادُ امْرَأَةٌ مُطَلَّقَةٌ إِلَى زَوْجِهَا بِنِكَاحٍ يُقْصَدُ بِهِ التَّحْلِيلُ، بَلْ لَعَنَ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ رُبَّمَا فُعِلَ سِرًّا.
وَأَنَّهُ أَمَرَ بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، وَتَشْيِيعِ الْجَنَازَةِ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي عَلَى الْمَيِّتِ وَيُكَبِّرُ أَرْبَعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَقَدْ كَانَ أَحْيَانًا يُكَبِّرُ خَمْسًا وَسَبْعًا، وَأَمَرَ بِتَغْسِيلِ الْمَيِّتِ وَتَكْفِينِهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَدَفْنِهِ، وَأَنَّهُ حَرَّمَ كُلَّ مُسْكِرٍ، وَحَرَّمَ بَيْعَ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ، وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ، وَالصَّاعِ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَأَنَّهُ أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لَمَّا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقْتَاتُونَ التَّمْرَ وَالشَّعِيرَ، وَأَنَّهُ أَبَاحَ الدَّوَاءَ وَقَالَ:" «تَدَاوُوا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ دَاءٌ إِلَّا أُنْزِلَ لَهُ دَوَاءٌ إِلَّا السَّامُ» " وَالسَّامُ
الْمَوْتُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَتَدَاوَى بِالْحِجَامَةِ وَغَيْرِهَا
وَكَذَلِكَ مَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ أَحَادِيثَ سِوَى مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَذِكْرِ الْعَرْشِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْجِنِّ، وَإِرْسَالِهِ إِلَى الثَّقَلَيْنِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ، وَصِفَاتِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَنَعِيمِهِ، وَمِنْ دُخُولِ مَنْ يَدْخُلُ النَّارَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ، وَخُرُوجِهِمْ مِنَ النَّارِ بِشَفَاعَتِهِ، وَشَفَاعَةِ غَيْرِهِ، وَمِنْ ذِكْرِ حَوْضِهِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمُحَاسَبَةِ اللَّهِ لِلْعِبَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يُرْسِلُ رُسُلًا إِلَى الْمُلُوكِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، كَمَا أَرْسَلَ إِلَى مُلُوكِ الْيَمَنِ، وَإِلَى مُلُوكِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْعِرَاقِ، وَإِلَى مُلُوكِ الْمُشْرِكِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ بَعْدَ مَا حَارَبَ الْيَهُودَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْكَبُ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ، وَأَنَّهُ رَجَمَ الزَّانِي الْمُحْصَنَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَقَطَعَ يَدَ السَّارِقِ، وَجَلَدَ شَارِبَ الْخَمْرِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي السَّفَرِ الرُّبَاعِيَّةَ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَةَ، وَفِي مُزْدَلِفَةَ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ، وَأَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَأَمَرَ
الْمُسْلِمِينَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ أَنْ يَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ، وَيَجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلَّا مَنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَبْقَى عَلَى إِحْرَامِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ لَمْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ، وَلَا اعْتَمَرَ بَعْدَ الْحَجِّ لَا هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِمَّنْ حَجَّ مَعَهُ إِلَّا عَائِشَةَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَائِضًا، وَأَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ فُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْهِجْرَةِ فَصَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ.
وَأَنَّهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ بَنَاتٍ وَثَلَاثَةُ بَنِينَ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَكْبَرِ أَوْلَادِهِ الْقَاسِمِ فَيُدْعَى أَبَا الْقَاسِمِ، وَأَنَّهُ تَزَوَّجَ بِنْتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَزَوَّجَ عُثْمَانَ ابْنَتَيْهِ، وَزَوَّجَ عَلِيًّا بِنْتًا، وَأَنَّهُ آمَنَ بِهِ مِنْ أَعْمَامِهِ حَمْزَةُ وَالْعَبَّاسُ، وَلَمْ يُؤْمِنْ أَبُو لَهَبٍ وَلَا أَبُو طَالِبٍ مَعَ أَنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُهُ، وَيَذُبُّ عَنْهُ، وَأَنَّهُ اسْتَخْلَفَ أَبَا بَكْرٍ لِيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ لَمَّا مَرِضَ وَثَقُلَ عَنِ الصَّلَاةِ لَمْ يُصِلِّ أَحَدٌ بِإِذْنِهِ مَعَ حُضُورِهِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ، وَلَمَّا ذَهَبَ لِيُصْلِحَ بَيْنَ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَأَنَّهُ كَانَ مِنْ خَوَاصِّ أَصْحَابِهِ الْعَشَرَةُ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدُ بْنُ
أَبِي وَقَّاصٍ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَأَبِي طَلْحَةَ، وَأَبِي أَيُّوبَ، وَأُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ، وَأَضْعَافِ هَؤُلَاءِ، وَأَنَّهُ بَايَعَهُ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]
وَأَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ، وَكَانَ فِي شَمَالِيِّهِ صُفَّةٌ يَنْزِلُهَا الْعَزْبَاءُ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ كُلَّهُمْ أَسْلَمُوا طَوْعًا بِلَا رَغْبَةٍ وَلَا
رَهْبَةٍ، وَأَنَّ الْمُهَاجِرِينَ آذَاهُمُ الْكُفَّارُ إِيذَاءً عَظِيمًا حَتَّى هَاجَرَ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ إِلَى الْحَبَشَةِ عِنْدَ النَّجَاشِيِّ، وَأَنَّ النَّجَاشِيَّ آمَنَ بِهِ، وَأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَوْتِهِ يَوْمَ مَاتَ، وَأَنَّهُ صَلَّى عَلَيْهِ بِأَصْحَابِهِ فِي الْمُصَلَّى كَمَا يُصَلِّي عَلَى الْمَيِّتِ الْحَاضِرِ
وَأَنَّهُ كَانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَيَخْطُبُ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَكَانَ يُؤَذِّنُ لِلْجُمُعَةِ وَلِلصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَلَا يُؤَذِّنُ لِلْعِيدَيْنِ، وَلَا غَيْرِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَأَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ لَهُ بِالْمَدِينَةِ هُوَ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى، وَكَانَ سَعْدُ الْقَرَظِ يُؤَذِّنُ لِأَهْلِ قِبَاءَ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ يُؤَذِّنُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَكَمَا تَوَاتَرَ عَنْهُ وَعَنْ خُلَفَائِهِ أَنَّهُمْ
لَمْ يَكُونُوا بِمِنًى يُصَلُّونَ صَلَاةَ عِيدٍ بَلْ يَرْمُونَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَيَنْحَرُونَ كَمَا أَمَرَ أَهْلَ الْأَمْصَارِ أَنْ يُصَلُّوا ثُمَّ يَنْحَرُوا، إِلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ مِمَّا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ كُلِّ مَنْ كَانَ عَالِمًا بِأَحْوَالِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْأُمَّةِ.
وَمِنْهَا مَا هُوَ مُتَوَاتِرٌ عِنْدَ جُمْهُورِهَا، وَلَيْسَ مِنْهَا شَيْءٌ إِلَّا وَتَوَاتَرَتْ آيَاتُهُ وَبَرَاهِينُهُ صَلَّى اللَّهُ فِيهَا عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ أَعْظَمَ مِنْ تَوَاتُرِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْكُتُبِ الْمُصَنَّفَةِ فِي آيَاتِهِ وَبَرَاهِينِهِ الْخَارِجَةِ عَنِ الْقُرْآنِ فِيهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا يُوجَدُ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بَلْ فِي كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَصْنَافِ آيَاتِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ أَضْعَافُ مَا يُوجَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ كَتَوَاتُرِ إِخْبَارِهِ بِالْغُيُوبِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَتَوَاتُرِ تَكْثِيرِهِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مَرَّاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، وَتَكْثِيرِهِ الطَّهُورَ إِمَّا بِنَبْعِ الْمَاءِ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَإِمَّا بِفَيَضَانِ الْيَنْبُوعِ الَّذِي يَضَعُ فِيهِ بَعْضَ آثَارِهِ، وَإِمَّا
بِفَيَضَانِ الْمَاءِ مِنَ الْوِعَاءِ الَّذِي بَرَّكَ فِيهِ، وَالْمَاءُ بَاقٍ بِحَالِهِ لَمْ يَنْقُصْ.
فَالْأَحَادِيثُ الْمُتَوَاتِرَةُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْأُمُورِ الَّتِي هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ، وَلِهَذَا كَانَ شُهْرَةُ هَذِهِ الْأُمُورِ فِي الْأُمَّةِ وَفِي أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَحْوَالِهِ أَعْظَمَ مِنْ شُهْرَةِ كَثِيرٍ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا أَنَّ تَوَاتُرَ آيَاتِهِ الْمُسْتَفِيضَةِ فِي الْأَحَادِيثِ أَعْظَمُ مِنْ تَوَاتُرِ أُمُورٍ كَثِيرَةٍ هِيَ مُتَوَاتِرَةٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ أَوْ عِنْدَ عُلَمَائِهَا وَعُلَمَاءِ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَهَذَا غَيْرُ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ الْمُسْتَفَادَةِ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ تِلْكَ قَدْ تَجَرَّدَ لَهَا طَوَائِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ذَكَرُوا مِنْ أَنْوَاعِهَا وَصِفَاتِهَا مَا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ حَتَّى بَيَّنُوا أَنَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْآيَاتِ يَزِيدُ عَلَى عَشَرَاتِ أُلُوفٍ مِنَ الْآيَاتِ، وَهَذَا غَيْرُ مَا فِي كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ
وَهَذِهِ الْأَجْنَاسُ الثَّلَاثَةُ غَيْرُ مَا فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا، وَغَيْرُ صِفَاتِ أُمَّتِهِ، وَغَيْرُ مَا يَدُلُّ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِسِيرَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ نَصْرِ اللَّهِ وَإِكْرَامِهِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ، وَعُقُوبَتِهِ وَانْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ بِهِ كَمَا فَعَلَ بِالْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ فَإِنَّ تَعْدَادَ أَعْيَانِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ
مِمَّا لَا يُمْكِنُ بَشَرًا الْإِحَاطَةُ بِهِ إِذْ كَانَ الْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ أَحَدٍ.
فَيُبَيِّنُ اللَّهُ لِكُلِّ قَوْمٍ بَلْ لِكُلِّ شَخْصٍ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ مَا لَا يُبَيِّنُ لِقَوْمٍ آخَرِينَ
كَمَا أَنَّ دَلَائِلَ الرُّبُوبِيَّةِ وَآيَاتِهَا أَعْظَمُ وَأَكْثَرُ مِنْ كُلِّ دَلِيلٍ عَلَى كُلِّ مَدْلُولٍ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ بَلْ وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ مِنَ الدَّلَائِلِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي يُرِيهِ اللَّهُ إِيَّاهَا فِي نَفْسِهِ وَفِي الْآفَاقِ مَا لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ. قَالَ تَعَالَى:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]
وَالضَّمِيرُ فِي ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى الْقُرْآنِ عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ وَالسَّلَفِ وَعَامَّةِ الْعُلَمَاءِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52](52){سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] . . .
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ الضَّمِيرَ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ كَمَا قَالَ:
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} [فصلت: 52]
وَهَذَا هُوَ الْقُرْآنُ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]
ثُمَّ قَالَ:
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]
فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَيُرِي النَّاسَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ مِنَ الْآيَاتِ الْعِيَانِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ الْمَعْقُولَةِ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةَ الْمَسْمُوعَةَ الْمَتْلُوَّةَ حَقٌّ فَيَتَطَابَقُ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، وَيَتَّفِقُ الْعِيَانُ وَالْقُرْآنُ، وَتُصَدِّقُ الْمُعَايَنَةُ لِلْخَبَرِ.
وَإِذَا كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا لَزِمَ كَوْنُ الرَّسُولِ الَّذِي جَاءَ بِهِ صَادِقًا، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ، وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَالطَّاعَةُ لِمَا أَوْجَبَهُ وَأَمَرَ بِهِ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إِثْبَاتَ الصَّانِعِ وَتَوْحِيدَهُ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَإِثْبَاتَ النُّبُوَّاتِ، وَإِثْبَاتَ الْمَعَادِ، وَهَذِهِ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ الَّتِي عُلِّقَتْ بِهَا السَّعَادَةُ وَالنَّجَاةُ.