المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[فصل: من طلب آية ثانية وثالثة والحكمة من تتابع الآيات الدالة على النبوة] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية - جـ ٦

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌[فَصْلٌ: فَضْلُ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْإِيمَانِ. وَالْعَمَلُ آيَةٌ لِنُبُوَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: تَوَسُّطُ الْمُسْلِمِينَ وَاعْتِدَالُهُمْ فِي التَّوْحِيدِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ: أَقْسَامُ مُدِّعِي النُّبُوَّةِ وَدَلَالَةُ ذَلِكَ عَلَى صِدْقِهِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ قِصَّةُ الْفِيلِ وَحِرَاسَةُ السَّمَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ: مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ مَا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ أَوْ بِالتَّوَاتُرِ]

- ‌[فَصْلٌ: إِخْبَارُهُ عليه السلام بِالْكَثِيرِ مِنَ الْغُيُوبِ الْمَاضِيَةِ وَالْمُسْتَقْبَلَةِ وَدَلَالَتِهَا عَلَى النُّبُوَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: آيَاتُهُ صلى الله عليه وسلم الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْقُدْرَةِ وَالْفِعْلِ وَالتَّأْثِيرِ] [

- ‌انْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَحِرَاسَةُ السَّمَاءِ بِالشُّهُبِ مِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ اسْتِسْقَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم وَنُزُولُ الْمَطَرِ بِدُعَائِهِ]

- ‌[تَصَرُّفُهُ عليه السلام فِي الْحَيَوَانِ مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[التَّأْثِيرُ فِي الْأَشْجَارِ وَالْخَشَبِ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: تَكْثِيرُ الْمَاءِ وَالطَّعَامِ وَالثِّمَارِ مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: قِصَصُ تَكْثِيرِ الطَّعَامِ مِنْ آيَاتِ نُبُوَّتِهِ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: مِنْ آيَاتِ النُّبُوَّةِ تَكْثِيرُ الثِّمَارِ]

- ‌[فَصْلٌ: تَسْخِيرُ الْأَحْجَارِ لَهُ عليه السلام مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: مِنْ آيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم تَأْيِيدُ اللَّهِ لَهُ بِمَلَائِكَتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: حِفْظُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ]

- ‌[إِجَابَةُ دَعَوَاتِهِ عليه السلام مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ]

- ‌[فَصْلٌ: سِتُّ طُرُقٍ كُبْرَى لِلْقَطْعِ بِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ عليه السلام]

- ‌[فَصْلٌ: أَدِلَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى مَجِيءِ الرُّسُلِ بِالْآيَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ: مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ إِهْلَاكُ اللَّهِ لِمُكَذِّبِيهِمْ وَنَصْرُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِمْ]

- ‌[فَصْلٌ: دَلَائِلُ النُّبُوَّةِ أَخْبَارٌ تَحْمِلُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ]

- ‌[فَصْلٌ: مَنْ طَلَبَ آيَةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَالْحِكْمَةُ مِنْ تَتَابُعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ: كُلُّ مَا يُقَالُ فِي إِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ مُتَّصِلٌ بِطَبِيعَةِ الْخَبَرِ]

- ‌[فَصْلٌ: أَحْوَالُ وَشَوَاهِدُ صِدْقِ الْمُخْبِرِ وَكَذِبِهِ]

الفصل: ‌[فصل: من طلب آية ثانية وثالثة والحكمة من تتابع الآيات الدالة على النبوة]

[فَصْلٌ: مَنْ طَلَبَ آيَةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً وَالْحِكْمَةُ مِنْ تَتَابُعِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى النُّبُوَّةِ]

وَمِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ إِذَا أَرْسَلَ نَبِيًّا وَأَتَى بِآيَةٍ دَالَّةٍ عَلَى صِدْقِهِ قَامَتْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَظَهَرَتْ بِهَا الْمَحَجَّةُ، فَمَنْ طَالَبَهُمْ بِآيَةٍ ثَانِيَةٍ لَمْ تَجِبْ إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، بَلْ وَقَدْ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إِذَا جَاءَ بِآيَةٍ ثَانِيَةٍ طُولِبَ بِثَالِثَةٍ، وَإِذَا جَاءَ بِثَالِثَةٍ طُولِبَ بِرَابِعَةٍ، وَطَلَبُ الْمُتَعَنِّتِينَ لَا أَمَدَ لَهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ قَامَتْ عَلَيْهِ حُجَّةٌ فِي مَسْأَلَةِ عِلْمٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي يَتَخَاصَمُونَ فِيهَا، وَقَالَ: أَنَا لَا أَقْبَلُ حَتَّى تَقُومَ عَلَيْهِ حُجَّةٌ ثَانِيَةٌ وَثَالِثَةٌ كَانَ ظَالِمًا مُتَعَدِّيًا، وَلَمْ يَجِبْ إِجَابَتُهُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يُمَكِّنِ الْحُكَّامُ الْخُصُومَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِذَا قَامَتِ الْبَيِّنَةُ بِحَقِّ الْمُدَّعِي حُكِمَ لَهُ بِذَلِكَ، وَلَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ: أُرِيدُ بَيِّنَةً ثَانِيَةً، وَثَالِثَةً، وَرَابِعَةً، لَمْ يُجَبْ إِلَى ذَلِكَ، فَحَقُّ اللَّهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ عَلَى عِبَادِهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ، وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَبِرُسُلِهِ أَوْلَى إِذَا أَقَامَ بَيِّنَةً أَوْجَبَتْ عَلَى الْخَلْقِ الْإِيمَانَ بِرُسُلِهِ أَنْ لَا يُجِبْ إِجَابَةَ الطَّالِبِ إِلَى ثَانِيَةٍ وَثَالِثَةٍ.

ثُمَّ قَدْ يَكُونُ فِي تَتَابُعِ الْآيَاتِ حِكْمَةٌ، فَيُتَابِعُ تَعَالَى بَيْنَ الْآيَاتِ، كَمَا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِآيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ لِعُمُومِ دَعْوَتِهِ وَشُمُولِهَا، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ كُلَّمَا كَثُرَتْ، وَتَوَارَدَتْ عَلَى مَدْلُولٍ وَاحِدٍ

ص: 429

كَانَ أَوْكَدَ وَأَظْهَرَ وَأَيْسَرَ لِمَعْرِفَةِ الْحَقِّ فَقَدْ يَعْرِفُ دَلَالَةَ أَحَدِ الْأَدِلَّةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْآخَرَ، وَقَدْ يُبَلِّغُ هَذَا مَا لَمْ يُبَلِّغْ هَذَا، وَقَدْ يُرْسَلُ الْأَنْبِيَاءُ بِآيَاتٍ مُتَتَابِعَةٍ، وَتُقْسَى قُلُوبُ الْكُفَّارِ عَنِ الْإِيمَانِ لِتَتَابُعِ الْآيَاتِ آيَةً بَعْدَ آيَةٍ لِيَنْتَشِرَ ذَلِكَ، وَيَظْهَرَ، وَيَبْلُغَ ذَلِكَ قَوْمًا آخَرِينَ فَيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِإِيمَانِهِمْ، كَمَا فَعَلَ بِآيَاتِ مُوسَى، وَآيَاتِ مُحَمَّدٍ، كَمَا ذَكَرَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ يُقْسِي قَلْبَ فِرْعَوْنَ لِتَظْهَرَ عَجَائِبُهُ وَآيَاتُهُ، وَكَمَا صَدَّ الْمُكَذِّبِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى يُمَانِعُوهُ، وَيَسْعَوْا فِي مُعَارَضَتِهِ، وَالْقَدْحِ فِي آيَاتِهِ فَيَظْهَرُ بِذَلِكَ عَجْزُهُمْ عَنْ مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ، وَغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ ظُهُورِ آيَاتِهِ، وَبَرَاهِينِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوِ اتُّبِعَ ابْتِدَاءً بِدُونِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَى مُعَارَضَتِهِ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَى يَقِينِهِ، وَصَبْرِهِ، وَجِهَادِهِ، وَيَقِينِ مَنْ آمَنَ بِهِ، وَصَبْرِهِمْ، وَجِهَادِهِمْ مَا يَنَالُونَ بِهِ عَظِيمَ الدَّرَجَاتِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَدْ تَقْتَضِي الْحِكْمَةُ أَنْ لَا يُرْسِلَ بِالْآيَاتِ الَّتِي تُوجِبُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَقْتَرِحُونَ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ آيَاتٍ غَيْرَ الْآيَاتِ الَّتِي جَاءُوا، بِهَا فَتَارَةً يُجِيبُهُمُ اللَّهُ إِلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ، وَتَارَةً لَا يُجِيبُهُمْ لِمَا فِيهِ فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَفْسَدَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ أَهْلِ الْمِلَلِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إِنَّهُ يَفْعَلُ لِلْحِكْمَةِ، وَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْ أَفْعَالَهُ يَرُدُّ ذَلِكَ إِلَى

ص: 430

مَحْضِ الْمَشِيئَةِ، وَيَقُولُ: اقْتَرَنَ بِالْمُرَادِ وَالْمَفْسَدَةِ عَادَةً، وَسُنَّةً مِنَ اللَّهِ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا لِهَذَا.

وَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم رُبَّمَا طَلَبَ تِلْكَ الْآيَاتِ رَغْبَةً مِنْهُ فِي إِيمَانِهِمْ بِهَا، فَيُجَابُ بِأَنَّ الْآيَاتِ لَا تَسْتَلْزِمُ الْهُدَى، بَلْ تَسْتَلْزِمُ إِقَامَةَ الْحُجَّةِ، وَتُوجِبُ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ لِمَنْ كَذَّبَ بِهَا، وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ يُظْهِرُ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةَ مَعَ طَبْعِهِ عَلَى قَلْبِ الْكَافِرِ، كَمَا فَعَلَ بِفِرْعَوْنَ، وَأَبِي لَهَبٍ، وَغَيْرِهِمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الْعَظِيمَةِ كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْقُرْآنُ، وَالتَّوْرَاةُ، وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُظْهِرُهَا لِانْتِفَاءِ الْحِكْمَةِ فِيهَا أَوْ لِوُجُودِ الْمَفْسَدَةِ. قَالَ تَعَالَى:

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109](109){وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110](110){وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} [الأنعام: 111]

وَقَالَ تَعَالَى:

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} [الإسراء: 59]

ص: 431

بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا مَنَعَهُ أَنْ يُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ بِهَا الَّذِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْهَلَاكَ، فَإِذَا كَذَّبَ بِهَا هَؤُلَاءِ اسْتَحَقُّوا مَا اسْتَحَقَّهُ أُولَئِكَ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَذْكُورٌ فِي عَامَّةِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ، وَغَيْرِهَا مِنْ كُتُبِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْأَسَانِيدِ الثَّابِتَةِ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ مَا رَوَاهُ أَهْلُ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْمُسْنَدِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ إِيَاسٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:«سَأَلَ أَهْلُ مَكَّةَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا، وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ حَتَّى يَزْرَعُوا. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: إِنْ شِئْتَ تَسْتَأْنِي بِهِمْ، وَإِنْ شِئْتَ أَنْ تُؤْتِيَهُمُ الَّذِي سَأَلُوا فَإِنْ كَفَرُوا هَلَكُوا كَمَا أَهْلَكْتُ مَنْ قَبْلَهُمْ. قَالَ: لَا بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ» . فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ:

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]

ص: 432

وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَغَيْرُهُ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فِي قَوْلِهِ:

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]

قَالَ: رَحْمَةٌ لَكُمْ أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ، أَنَّا لَوْ أَرْسَلْنَا بِالْآيَاتِ فَكَذَّبْتُمْ بِهَا أَصَابَكُمْ مَا أَصَابَ مَنْ قَبْلَكُمْ.

وَفِي الْإِنْجِيلِ: أَنَّ الْيَهُودَ طَلَبُوا مِنَ الْمَسِيحِ آيَةً مِنَ السَّمَاءِ فَقَالَ لَهُمُ الْمَسِيحُ: الْأُمَّةُ الْفَاجِرَةُ تَطْلُبُ آيَةً، وَلَا تُعْطَى إِلَّا مِثْلَ آيَةِ نُونَانَ

ص: 433

وَقَدْ كَانَتِ الْآيَاتُ يَأْتِي بِهَا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم آيَةً بَعْدَ آيَةٍ فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهَا. قَالَ تَعَالَى:

{وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [الأنعام: 4](4){فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 5](5){أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} [الأنعام: 6](6){وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7](7){وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ} [الأنعام: 8](8){وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9](9){وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام: 10](10){قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الأنعام: 11]

ص: 434

أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنَّ الْآيَاتِ تَأْتِيهِمْ، وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا أَعْرَضُوا عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ بِتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ سَوْفَ يَرَوْنَ صِدْقَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، كَمَا أَهْلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ بِذُنُوبِهِمُ الَّتِي هِيَ تَكْذِيبُ الرَّسُولِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ:

{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59]

وَأَخْبَرَ بِشِدَّةِ كُفْرِهِمْ بِأَنَّهُ لَوْ أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ الرَّسُولَ مَلَكًا لَجَعَلَهُ عَلَى صُورَةِ الرَّجُلِ إِذْ كَانُوا لَا يُطِيقُونَ أَنْ يَرَوُا الْمَلَائِكَةَ فِي صُوَرِهِمْ، وَحِينَئِذٍ فَكَانَ اللَّبْسُ يَقَعُ لِظَنِّهِمْ أَنَّ الرَّسُولَ بَشَرٌ لَا مَلَكٌ، وَقَالَ تَعَالَى:

{وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا} [الإسراء: 90](90){أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا} [الإسراء: 91](91){أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا} [الإسراء: 92](92){أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93](93){وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94](94){قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا} [الإسراء: 95](95)

ص: 435

وَهَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَوْ أُجِيبُوا بِهَا، وَلَمْ يُؤْمِنُوا أَتَاهُمْ عَذَابُ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَيْضًا فَهِيَ مِمَّا لَا يَصْلُحُ الْإِتْيَانُ بِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ " حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا " يَقْتَضِي تَفْجِيرَ الْيَنْبُوعِ بِأَرْضِ مَكَّةَ فَيَصِيرُ وَادِيًا ذَا زَرْعٍ، وَاللَّهُ مِنْ حِكْمَتِهِ جَعْلُ بَيْتِهِ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لِئَلَّا يَكُونَ عِنْدَهُ مَا تَرْغَبُ النُّفُوسُ فِيهِ مِنَ الدُّنْيَا فَيَكُونَ حَجُّهُمْ لِلدُّنْيَا لَا لِلَّهِ، وَإِذَا كَانَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ يُفَجِّرُ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا كَانَ فِي هَذَا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي الدُّنْيَا مَا يَقْتَضِي نَقْصَ دَرَجَتِهِ، وَانْخِفَاضَ مَنْزِلَتِهِ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ لَهُ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، وَالزُّخْرُفُ الذَّهَبُ، وَأَمَّا إِسْقَاطُ السَّمَاءِ كِسَفًا فَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ

ص: 436

وَهُوَ لَمْ يُخْبِرْهُمْ أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَوْلُهُمْ " كَمَا زَعَمْتَ " كَذِبٌ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُرِيدُوا التَّمْثِيلَ فَيَكُونَ الْقِيَاسُ فَاسِدًا، وَأَمَّا الْإِتْيَانُ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا فَهَذَا لَمَّا سَأَلَ قَوْمُ مُوسَى مَا هُوَ دُونَهُ أَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ. قَالَ تَعَالَى:

{وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [البقرة: 55](55){ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] وَأَمَّا إِنْزَالُ الْكِتَابِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى:

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153](153){وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154](154){فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155](155){وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء: 156](156){وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157](157){بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 158](158){وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} [النساء: 159](159){فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا} [النساء: 160](160){وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] . . . .

ص: 437

بَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ سَأَلُوهُ إِنْزَالَ كِتَابٍ، وَأَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ سَأَلُوهُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ لَا تُؤْمِنُ إِذَا

ص: 438

جَاءَهُمْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا سَأَلُوهُ تَعَنُّتًا فَقَالَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ:

{وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأنعام: 7]

وَذَكَرَ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُمْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ رُؤْيَةُ اللَّهِ جَهْرَةً فَقَالَ:

{يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا} [النساء: 153](153){وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] فَهُمْ مَعَ هَذَا نَقَضُوا الْمِيثَاقَ، وَكَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتَلُوا النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَى أَمْثَالِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ بِسَبَبِ ظُلْمِهِمْ وَصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ فَكَانَ فِي هَذَا مِنَ الِاعْتِبَارِ لِأُمَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ الْمُكَذِّبَةَ بِكَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ

ص: 439

إِذَا جَاءَتْهُمُ الْآيَاتُ الْمُقْتَرَحَةُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَمْ يَكُ فِي مَجِيئِهَا مَنْفَعَةٌ لَهُمْ بَلْ فِيهَا مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَهُمْ عُقُوبَةَ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا جَاءَتْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا، وَتَغْلِيظِ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ أَنْ لَا يُنْزِلَ مِثْلَ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ أَعْظَمَ رَحْمَةً وَحِكْمَةً.

وَقَدْ عَرَضَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُهْلِكَ قَوْمَهُ لَمَّا كَذَّبُوهُ فَقَالَ: بَلْ أَسْتَأْنِي بِهِمْ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ عَلَيْكَ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَا لَيْلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ عَلَى وَجْهِي، وَأَنَا مَهْمُومٌ فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ،

ص: 440

وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمَكَ، وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا» أَخْرَجَاهُ.

وَلَمَّا طُلِبَ مِنَ الْمَسِيحِ الْمَائِدَةَ كَانَتْ مِنَ الْآيَاتِ الْمُوجِبَةِ لِمَنْ كَفَرَ بِهَا عَذَابًا لَمْ يُعَذِّبْهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. قَالَ تَعَالَى:

{إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 112](112){قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 113](113){قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيرُ الرَّازِقِينَ} [المائدة: 114](114){قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ} [المائدة: 115] وَكَانَ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ يُهْلِكُ اللَّهُ الْمُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ بِعَذَابِ

ص: 441

الِاسْتِئْصَالِ عَذَابًا عَاجِلًا يُهْلِكُ اللَّهُ بِهِ جَمِيعَ الْمُكَذِّبِينَ كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ، وَكَمَا أَهْلَكَ عَادًا، وَثَمُودَ، وَأَهْلَ مَدْيَنَ، وَقَوْمَ لُوطٍ، وَكَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ، وَأَظْهَرَ آيَاتٍ كَثِيرَةً لَمَّا أَرْسَلَ مُوسَى لِيَبْقَى ذِكْرُهَا وَخَبَرُهَا فِي الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ التَّوْرَاةِ لَمْ يُهْلِكْ أُمَّةً بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، بَلْ قَالَ تَعَالَى:

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى} [القصص: 43]

بَلْ كَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمَّا يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي يُعَذَّبُ بَعْضُهُمْ وَيَبْقَى بَعْضُهُمْ، إِذْ كَانُوا لَمْ يَتَّفِقُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَلِهَذَا لَمْ يَزَلْ فِي الْأَرْضِ أُمَّةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَاقِيَةً. قَالَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ:

{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168]

وَقَدْ قَالَ - تَعَالَى -:

{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113](113){يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 114]

ص: 442

وَكَانَ مِنْ حِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ سبحانه وتعالى لَمَّا أَرْسَلَ مُحَمَّدًا أَنْ يُهْلِكَ قَوْمَهُ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ، بَلْ عَذَّبَ بَعْضَهُمْ بِأَنْوَاعِ الْعَذَابِ كَمَا عَذَّبَ طَوَائِفَ مِمَّنْ كَذَّبَهُ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ كَالْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ فِيهِمْ:

{إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} [الحجر: 95](95){الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 96] فَعَذَّبَ اللَّهُ كُلَّ وَاحِدٍ بِعَذَابٍ مَعْرُوفٍ، وَكَالَّذِي دَعَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُسَلِّطَ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِهِ، فَكَانَ يَحْتَرِسُ بِقَوْمِهِ فَجَاءَهُ الْأَسَدُ وَأَخَذَهُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَقَتَلَهُ، وَأَمْثَالِ ذَلِكَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وَقَالَ تَعَالَى:

{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52]

ص: 443

فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُعَذِّبُ الْكُفَّارَ تَارَةً بِأَيْدِي عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجِهَادِ، وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ، وَتَارَةً بِعَذَابٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَكَانَ يُعَذِّبُهُمْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ مِمَّا يُوجِبُ إِيمَانَ أَكْثَرِهِمْ كَمَا جَرَى لِقُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوهُ لَوْ أَهْلَكَهُمْ كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَمَنْ قَبْلَهُمْ لَبَادَتَا وَانْقَطَعَتِ الْمَنْفَعَةُ بِهِ عَنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذُرِّيَّةٌ تُؤْمِنُ بِهِ بِخِلَافِ مَا إِذَا عَذَّبَ بَعْضَهُمْ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَوْ بِالْهَزِيمَةِ وَالْأَسْرِ وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ كَمَا عُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَإِنَّ فِي هَذَا مِنْ إِذْلَالِهِمْ وَقَهْرِهِمْ مَا يُوجِبُ عَجْزَهُمْ مَعَ بَقَائِهِمْ، وَالنُّفُوسُ إِذَا كَانَتْ قَادِرَةً عَلَى كَمَالِ أَغْرَاضِهَا فَلَا تَكَادُ تَنْصَرِفُ عَنْهَا، بِخِلَافِ مَا إِذَا عَجَزَتْ عَنْ كَمَالِ أَغْرَاضِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَدْعُوهَا إِلَى التَّوْبَةِ، كَمَا يُقَالُ: مِنَ الْعِصْمَةِ أَنْ لَا تُقَدَّرَ. فَكَانَ مَا وَقَعَ بِهِمْ تَعْجِيزًا وَزَاجِرًا وَدَاعِيًا إِلَى التَّوْبَةِ، وَلِهَذَا آمَنَ عَامَّتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، لَمْ يُقْتَلْ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ، وَهُمْ صَنَادِيدُ الْكُفْرِ الَّذِينَ كَانَ أَحَدُهُمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَفِرْعَوْنَ فِي تِلْكَ الْأُمَّةِ، كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «عَنْ أَبِي جَهْلٍ: " هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الْأُمَّةِ» وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ لِمُوسَى فِي التَّوْرَاةِ: إِنِّي أُقَسِّي قَلْبَ فِرْعَوْنَ فَلَا يُؤْمِنُ بِكَ لِتَظْهَرَ آيَاتِي وَعَجَائِبِي

ص: 444

بَيَّنَ أَنَّ فِي ذَلِكَ مِنَ الْحِكْمَةِ انْتِشَارَ آيَاتِهِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ أَنْبِيَائِهِ فِي الْأَرْضِ، إِذْ كَانَ مُوسَى قَدْ أَخْبَرَ بِتَكْلِيمِ اللَّهِ لَهُ، وَبِكِتَابَةِ التَّوْرَاةِ لَهُ، فَأَظْهَرَ اللَّهُ مِنَ الْآيَاتِ مَا يُبْقِي ذِكْرَهَا فِي الْأَرْضِ، وَكَانَ فِي ضِمْنِ ذَلِكَ مِنْ تَقْسِيَتِهِ قَلْبَ فِرْعَوْنَ مَا أَوْجَبَ أَنْ أَهْلَكَهُ وَقَوْمَهُ أَجْمَعِينَ، وَفِرْعَوْنُ كَانَ جَاحِدًا لِلصَّانِعِ مُنْكِرًا لِرُبُوبِيَّتِهِ لَا يُقِرُّ بِهِ، فَلِذَلِكَ أَتَى مِنَ الْآيَاتِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَهُ، وَأَمَّا بَنُو إِسْرَائِيلَ مَعَ الْمَسِيحِ فَكَانُوا مُقِرِّينَ بِالْكِتَابِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَحْتَاجُوا إِلَى مِثْلِ مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ مُوسَى وَمُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إِلَى تَقْرِيرِ جِنْسِ النُّبُوَّةِ إِذْ كَانَتِ الرُّسُلُ قَبْلَهُ جَاءَتْ بِمَا ثَبَتَ ذَلِكَ، وَقَوْمُهُ كَانُوا مُقِرِّينَ بِالصَّانِعِ، وَإِنَّمَا كَانَتِ الْحَاجَةُ دَاعِيَةً إِلَى تَثْبِيتِ نُبُوَّتِهِ، وَمَعَ هَذَا فَأَظْهَرَ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ مِثْلَ آيَاتِ مَنْ قَبْلَهُ وَأَعْظَمَ، وَمَعَ هَذَا فَلَمْ يَأْتِ بِآيَاتِ الِاسْتِئْصَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ مُكَذِّبُهَا الْعَذَابَ الْعَامَّ الْعَاجِلَ كَمَا اسْتَحَقَّهُ قَوْمُ فِرْعَوْنَ وَهُودٍ، وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ وَغَيْرِهِمْ، فَلِهَذَا يُبَيِّنُ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ إِذَا جَاءَتْ لَا تَنْفَعُهُمْ إِذْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِهَا، وَلَكِنْ تَضُرُّهُمْ إِذْ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ إِذَا كَذَّبُوا حِينَئِذٍ، وَمَعَ وُجُودِ الْمَانِعِ وَعَدَمِ الْمُقْتَضِي لَا يَصْلُحُ الْفِعْلُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ الْقَائِلِينَ بِالْحِكْمَةِ، وَمَنْ لَمْ يُعَلِّلْ

ص: 445

فَلَا يَطْلُبُ سَبَبًا وَلَا حِكْمَةً، بَلْ يَرُدُّ الْأَمْرَ إِلَى مَحْضِ الْمَشِيئَةِ. قَالَ تَعَالَى:

{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} [الإسراء: 59]

وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ قُلُوبَ هَؤُلَاءِ كَقُلُوبِ أُولَئِكَ الْأَوَّلِينَ فَيُكَذِّبُونَ بِهَا فَيَسْتَحِقُّونَ بِهَا مَا اسْتَحَقَّهُ أُولَئِكَ كَقَوْمِ نُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَشُعَيْبٍ، وَلُوطٍ، وَغَيْرِهِمْ. قَالَ - تَعَالَى -:

{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52](52){أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53](53){فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54](54){وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]

وَقَالَ تَعَالَى:

{قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118]

وَقَالَ تَعَالَى عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ:

{يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التوبة: 30]

ص: 446

وَقَالَ تَعَالَى:

{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43](43){أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44](44){سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45](45){بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]

ذَكَرَ هَذَا فِي سُورَةِ (اقْتَرَبَتِ) الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا انْشِقَاقَ الْقَمَرِ، وَإِعْرَاضَهُمْ عَنِ الْآيَاتِ، وَقَوْلَهُمْ: هَذَا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ، وَتَكْذِيبَهُمْ، وَاتِّبَاعَهُمْ أَهْوَاءَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى:

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1](1){وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2](2){وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 3](3)

ثُمَّ قَالَ:

{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4]

أَيْ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ، وَمَا أَخْبَرَ بِهِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ أَيْ مَا يَزْجُرُهُمْ عَنِ الْكُفْرِ، إِذْ كَانَ فِي تِلْكَ الْإِنْبَاءَاتِ بَيَانُ صِدْقِ الرَّسُولِ، وَالْإِنْذَارُ لِمَنْ كَذَّبَهُ بِالْعَذَابِ كَمَا عُذِّبَ الْمُتَقَدِّمُونَ، وَلِهَذَا يَقُولُ عَقِيبَ

ص: 447

الْقِصَّةِ:

{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16]

أَيْ كَيْفَ كَانَ عَذَابِي لِمَنْ كَذَّبَ رُسُلِي وَإِنْذَارِي بِذَلِكَ قَبْلَ مَجِيئِهِ يُبَيِّنُ صِدْقَ قَوْلِهِ الَّذِي أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَعُقُوبَتَهُ لِمَنْ كَذَّبَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ الْمُكَذِّبِينَ كَنُوحٍ، وَهُودٍ، وَصَالِحٍ، وَلُوطٍ إِلَى قَوْلِهِ:

{وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: 41](41){كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42]

فَإِنَّ قَوْمَ فِرْعَوْنَ كَذَّبُوا بِجَمِيعِ آيَاتِ مُوسَى، وَجَمِيعِ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَهُ، وَكَذَّبُوا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُودِ الرَّبِّ وَقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، إِذْ كَانُوا جَاحِدِينَ لِلْخَالِقِ مُنْكِرِينَ لَهُ فَكَذَّبُوا بِآيَاتِهِ كُلِّهَا، ثُمَّ قَالَ:

(أَكُفَّارُكُمْ) أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ الَّتِي أُرْسِلَ مُحَمَّدٌ إِلَيْهَا {خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43]

الَّذِينَ كَذَّبُوا نُوحًا، وَهُودًا، وَصَالِحًا، وَلُوطًا، وَمُوسَى

{أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43](43){أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44]

ص: 448

وَذَلِكَ أَنَّ كَوْنَكُمْ لَا تُعَذَّبُونَ مِثْلَ مَا عُذِّبُوا إِذَا كَذَّبْتُمْ إِمَّا أَنْ يَكُونَ لِكَوْنِكُمْ خَيْرًا مِنْهُمْ فَلَا تَسْتَحِقُّونَ مِثْلَ مَا اسْتَحَقُّوا أَوْ لِكَوْنِ اللَّهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُكُمْ فَتَكُونُ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ فَتَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِخَبَرِهِ، فَإِنَّ مَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ تَارَةً يُعْلَمُ بِخَبَرِهِ، وَتَارَةً يُعْلَمُ بِسُنَّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونُوا عَلِمْتُمْ هَذَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَوْ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، هَذَا إِنْ نُظِرَ إِلَى مَا فَعَلَ اللَّهُ الَّذِي لَا طَاقَةَ لِلْبَشَرِ بِهِ، وَإِنْ نُظِرَ إِلَى قُوَّةِ الرَّسُولِ وَأَتْبَاعِهِ فَيَقُولُونَ:

{نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] فَإِنَّهُمْ أَكْثَرُ وَأَقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} [مريم: 73](73){وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} [مريم: 74] أَيْ أَمْوَالًا وَمَنْظَرًا، فَقَالَ تَعَالَى:

{سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45]

ص: 449

أَخْبَرَ بِهَزِيمَتِهِمْ، وَهُوَ بِمَكَّةَ فِي قِلَّةٍ مِنَ الْأَتْبَاعِ، وَضَعْفٍ مِنْهُمْ، وَلَا يَظُنُّ أَحَدٌ بِالْعَادَةِ الْمَعْرُوفَةِ أَنَّ أَمْرَهُ يَظْهَرُ وَيَعْلُو قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، وَكَانَ كَمَا أَخْبَرَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ وَغَيْرَهَا هُزِمَ جَمْعُهُمْ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ فِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ. قَالَ تَعَالَى:

{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الفتح: 22](22){سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح: 23]

وَحَيْثُ ظَهَرَ الْكُفَّارُ فَإِنَّمَا ذَاكَ لِذُنُوبِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَوْجَبَتْ نَقْصَ إِيمَانِهِمْ، ثُمَّ إِذَا تَابُوا بِتَكْمِيلِ إِيمَانِهِمْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:

{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]

وَقَالَ:

{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران: 165]

فَإِذَا كَانَ مِنْ تَمَامِ الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ أَنْ لَا يُهْلِكَهُمْ هَلَاكَ

ص: 450

اسْتِئْصَالٍ كَمَا أَهْلَكَ الْمُكَذِّبِينَ، وَكَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا مُوجِبَةً لِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ كَمَا أُهْلِكَتِ الْأُمَمُ قَبْلَهُمْ كَمَا قَالَ:

{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43]

كَانَ أَنْ لَا يَأْتِيَ بِمُوجِبِ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ مَعَ إِتْيَانِهِ سُبْحَانَهُ بِمَا يُقِيمُ الْحُجَّةَ وَيُوَضِّحُ الْمَحَجَّةَ أَكْمَلَ فِي الْحِكْمَةِ وَالرَّحْمَةِ، إِذْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الْآيَاتِ حَصَلَ بِهِ كَمَالُ الْخَيْرِ، وَالْمَنْفَعَةُ، وَالْهُدَى، وَالْبَيَانُ، وَالْحُجَّةُ عَلَى مَنْ كَفَرَ، وَمَا امْتَنَعَ مِنْهُ دَفَعَ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، وَالْهَلَاكِ، وَالْعَذَابِ الْعَامِّ مَا أَوْجَبَ بَقَاءَ جُمْهُورِ الْأُمَّةِ حَتَّى يَتُوبُوا، وَيُؤْمِنُوا، وَيَهْتَدُوا، وَكَانَ فِي إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لَمَّا كَانَ خَاتَمَ الرُّسُلِ مِنَ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالْمِنَنِ السَّابِغَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي رِسَالَةِ رَسُولٍ غَيْرِهِ، صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ

ص: 451