المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفرق بين الكفر والكافر: - الحد الفاصل بين الإيمان والكفر

[عبد الرحمن بن عبد الخالق]

الفصل: ‌الفرق بين الكفر والكافر:

‌الفصل الثالث

‌الكفر ما هو وما حقيقته

؟

‌الفرق بين الكفر والكافر:

في الصفحات السابقة -عرفنا بحول الله- حقيقة الإيمان ولازمه وهو العمل وما ينقض هذا الإيمان ويذهب به، وقد تردد في هذه الرسالة اسم الكفر كثيراً ولا شك أننا نعلم أن الكفر الآن هو الخروج عن الإيمان والانسلاخ منه، وهذا هو المعنى الحقيقي لمعنى الكفر.

والكفر لغة معناه الستر والتغطية فالعرب تسمي الليل كافراً لأنه يستر الأشياء ويخفيها وتسمي الفلاح كافراً لأنه يغطي الحب في التراب، ومن هذا المعنى قوله تعالى:

ص: 77

{اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته} (الحديد: 20) .

ومعنى الكفار هنا الزراع، والسبب في تسمية الخارج عن الإيمان كافراً أنه يرى أدلة التوحيد، وما يدعوه إلى الإيمان بربه جل وعلا ثم يصر مستكبراً على باطله وكفره. انظر كلام الله عن إمام الكافرين في الأرض فرعون الذي ترك الإيمان بالله جحوداً ونكراناً لا جهلاً، قال تعالى على لسان موسى لفرعون:{قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً} (الإسراء: 102) .

أي لقد علمت يا فرعون أن الله تبارك وتعالى خالق السماوات والأرض هو الذي أنزل ما شاهدته من الآيات كالعصا واليد لتبصر أنت وقومك، وتعلموا أنني رسول من الله عز وجل وكذلك أخبر سبحانه وتعالى عن قوم فرعون أنهم علموا الحق ولكنهم كذبوه وزاغوا عنه، قال تعالى: {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً

ص: 78

فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} (النمل: 14) . أي تيقنت أنفسهم أن الآيات التي جاء بها موسى هي آيات الله حقاً وصدقاً، ولكنهم جحدوا أي أنكروا وكابروا وردوا الحق عن علم وبصيرة، وكذلك أخبر سبحانه وتعالى عن كفار العرب الذين كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عنهم:{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون} (الأنعام: 33) .

ومعنى هذا كله أن الكفر شرعاً هو رد الحق بعد معرفته، ومعنى هذا أن الذي يرد الحق جهلاً أو يفعل شيئاً من الكفر جاهلاً ظاناً أنه من الإسلام وأنه فعل ما لا يضاد الإيمان، فليس بكافر حتى تقوم الحجة عليه ويعلم الحق فيرده على النحو المبين سابقاً في تعريف الإيمان ومستلزماته ونواقضه، وكذلك لا يكون كافراً من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم يفعل مناقضاً للإيمان جاهلاً به غير عالم أنه مخرج له من الإيمان فإن علم ورد وكابر وجحد فقد كفر والعياذ بالله.

وقد فعل بعض الصحابة شيئاً من هذه المناقضات للإيمان عن جهل بحكمها فأنكر عليهم

ص: 79

الرسول إنكاراً شديداً ولم يخرجهم من الإيمان. فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال قلت يا رسول الله إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني، فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة، فقال: أسلمت لله أفأقتله يا رسول الله؟ بعد أن قالها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لا تقتله] قال فقلت يا رسول الله إنه قطع إحدى يدي. ثم قال ذلك بعد أن قطعها أفأقتله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:[لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله، وأنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قالها](رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد) ، والمعنى أنه بذلك تقتل مؤمناً وتصبح كافراً ولهذا لما قتل أسامة بن زيد رجلاً قال لا إله إلا الله في غزوة من الغزوات عنفه الرسول صلى الله عليه وسلم تعنيفاً شديداً وظل يردد عليه قوله [قال لا إله إلا الله وقتلته؟..] حتى أن أسامة ليقول تمنيت أني أسلمت يومئذ، أي لم أكن أسلمت قبل (البخاري ومسلم وأحمد) .

والسبب في ذلك أن أسامة كان جاهلاً بهذا الحكم والقاعدة الشرعية المعروفة هي أن المؤاخذة لا

ص: 80

تكون إلا بعد العلم، قال تعالى:{وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم} (التوبة: 115) . أي أن المسلم لا يعتبر ضالاً إلا إذا عرف الحق ثم زاغ منه وكابر، وهذه الآية نزلت تعقيباً على عتاب الله لرسوله والمؤمنين الذين استغفروا الله لأقربائهم الذين ماتوا على الشرك، قال تعالى:{وما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين، ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم *وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، إن إبراهيم لأواه حليم *وما كان الله ليضل قوماً بعد إذا هداهم حتى يبين لهم ما يتقون *إن الله بكل شيء عليم} (التوبة: 113-115) .

فقرر الله سبحانه وتعالى في ختام هذا الحكم هذه القاعدة الشرعية العظيمة وهي أن المؤاخذة دائماً بعد العلم. وهذا من فضل الله ورحمته فله الحمد ويشبه مسألة أسامة ما جاء على بعض ألسنة المسلمين مما يعتبر شركاً، ومعلوم أن الشرك مناقض للإيمان كما قال أحدهم للرسول صلى الله عليه وسلم: ما شاء الله وشئت فقال:

ص: 81

[أجعلتني لله نداً قال ما شاء الله وحده](أحمد) . فرده إلى الحكم وعلمه إياه. وما قاله بعض مسلمة الفتح عندما خرج بهم الرسول إلى هوازن ومروا على شجرة للمشركين كانوا ينوطون (يعلقون) بها سيوفهم ليلة المعركة زاعمين أن من فعل ذلك لاقى النصر في معركته. يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفس محمد بيده، كما قال بنو إسرائيل لموسى: {اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} ](أحمد والترمذي) ، وذلك أن النصر من الله فكيف يرتجى النصر بتعليق السلاح في شجرة تهب البركة والنصر! إنه الشرك والشاهد أن الرسول لم يقل لهم كفرتم وأبطلتم إسلامكم السابق ولا بد لكم من إسلام جديد، وإنما بين لهم أن هذا العمل شرك وذلك ليحذروا هذا مستقبلاً.

وهذه الأدلة وغيرها كثير نستفيد منها أنه يجب أن نفرق دائماً بين الكفر والكافر، فالكفر أعمال وأقوال ومناقضات للإيمان قد يصدر بعضها جهلاً من

ص: 82

المسلمين، فلا يجوز والحالة هذه والحكم عليهم بالكفر، بل يجب تعليمهم أن هذا العمل كفر أو شرك أو مناقض للإيمان، وذلك ليحذروه مستقبلاً، فمن آمن وأذعن فقد تمسك بإيمانه، ومن كابر فقد انتقل من الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله، وأما الكافر فهو الذي ظهرت له أدلة الإيمان فجحدها وأنكرها، وعلم الحق فزاغ عنه ورده والعياذ بالله.

ص: 83