المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أولا: الاعتراض على حكمة التشريع - الحد الفاصل بين الإيمان والكفر

[عبد الرحمن بن عبد الخالق]

الفصل: ‌أولا: الاعتراض على حكمة التشريع

بين جريمتين؛ الكفر إحداهما والعياذ بالله، والسبب في هذا عداوة المسلم لأجل تدينه هي في حقيقتها عداوة لدين الله، ومن عادى دين الله فقد عاداه وعدو الله هو الكافر وأما المؤمن فإنه ولي الله لأن الله يقول:{الله ولي الذين آمنوا} (البقرة: 257) . وأما معاداة المؤمن لأجل شيء آخر فليس بكفر، فمن عادى مؤمناً في خصومه ما على دنيا أو جاه فهي معصية لا يكفر بها.

وأرجو بهذا البيان أن أكون قد أوضحت الصورة الكلية لحقيقة الإيمان وكيف أنها تنتقض بانتقاض إحدى جزئياتها. والله أسأل أن يعصمني وإخواني المؤمنين من أن ننقض إيماننا، وأن يرزقنا تكميل هذا الإيمان حتى نلقاه سبحانه وتعالى وهو موفور كامل.

وهذا أوان بيان بعض هذه النواقض على شيء من التفصيل وسأذكر ما يكثر فيه الوقوع -ولا حول ولا قوة إلا بالله- وما يكثر حوله الجدل والخلاف.

‌أولاً: الاعتراض على حكمة التشريع

لما خلق الله سبحانه وتعالى آدم، وأسكنه الجنة،

ص: 51

أخبره سبحانه وتعالى أنه وطنه، ولما عصى آدم وأهبطه الله إلى الأرض كانت فترة حياته عليها وحياة ذريته فترة اختبار وابتلاء يكون ثمرته العودة إلى الجنة لمن جاز هذا الاختبار بنجاح، ليدخل الجنة عن جدارة واستحقاق، والمصير إلى الجحيم لمن عطل القوى التي آتاها الله إليه، ولمن نسي التكريم الذي خلق من أجله. والاختبار والابتلاء إنما هو الأمر والنهي. قال العلماء من السلف في قول الله تبارك وتعالى:{أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون} (المؤمنون: 115) قالوا: عبثاً أي سدى لا تؤمرون ولا تنهون..

وهذا الأمر والنهي هو التشريع سواء كان من العبادات أم المعاملات أم الأخلاق. فإذا كان مقصود الخلق هو الابتلاء بالأمر والنهي فإن التشريع في هذه الصورة يصبح واجباً ملزماً، وفرضاً لا يجوز مخالفته لأنه غاية في ذاته من خلق الخلق وقد تولى ربنا بنفسه سبحانه وتعالى أمر هذا التشريع وقال:{إن الحكم إلا لله} (الأنعام: 57) وقال تعالى: {ألا له الخلق والأمر} (الأعراف: 54) .

وعندما وضع الله التشريع للبشر على ألسنة رسله فقد أنزل ذلك بعلمه وحكمته فهو العليم سبحانه

ص: 52

وتعالى بما يصلح الناس وما يفسدهم.. وبهذه المقدمة نعلم أن الاعتراض على التشريع اعتراض على واضعه ومنزله سبحانه وتعالى، وهذا كفر. ومن المعلوم قطعاً أن "لا إله إلا الله" تقتضي الشهادة لله سبحانه وتعالى بالخلق والأمر، فمن أقر بالخلق فقط وجرد الله سبحانه وتعالى من الأمر وقال: للبشر أن يشرعوا لأنفسهم ما يرونه صالحاً لحياتهم فقد كفر وأشرك. بل لا إله إلا الله معناه لا خالق ولا معبود ولا إله يطاع أمره وينفذ حكمه إلا الله سبحانه وتعالى: ولا يفيد بالطبع الإقرار العام بحق الله عز وجل في التشريع، ونفي الحكمة عن جزئية واحدة من تشريعه لأن الرب تبارك وتعالى ليس محلاً للنقص والغفلة {وما كان ربك نسياً} (مريم: 64) ولا يتأتى من فعله شيء خارج عن الحكمة سبحانه وتعالى، فالاعتراض على جزئية من جزئيات التشريع هو اعتراض على المشرع سبحانه وتعالى، وقد عرفنا حكم ذلك.

وقد حدث في المجتمع المسلم الأول في مكة شيء من هذا عندما نهى سبحانه وتعالى عن أكل الميتة، وكانت العرب تأكلها ألقى الشيطان في نفوس أتباعه

ص: 53

شبهة ليمزق بها المجتمع المسلم الناشيء فقال لهم: سلوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من قتلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الله، فقال المشركون: ما تقتلونه أنتم بأيديكم تقولون عنه حلال، مذكى وتأكلونه، وما يقتله الله تقولون عنه ميت حرام وتنهون عنه. أأنتم أفضل من الله؟ وانطلت هذه الشبهة الصغيرة على بعض النفوس الضعيفة فأنزل الله بيان الأمر قال تعالى:{ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} (الأنعام: 121) .

فجعل سبحانه وتعالى طاعة المشركين في جزئية من التشريع شركاً به سبحانه وتعالى وذلك أنه اعتراف بحق غيره في التشريع، واعتراض على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا أمر واضح ظاهر والحمد لله.

وقد فشى في أوساط المسلمين اليوم ترديد شبه أعداء الإسلام فنقلوا واعتقدوا ما بثوه من اعتراض على تشريع الله، ولا يكاد اليوم يخلو حكم شرعي من أحكام الإسلام إلا ونسمع الاعتراض عليه وأظهر ذلك تعدد الزوجات، والطلاق، والرق، وحد السرقة، وحكم القصاص وحد الزنا.. الخ وترديد من يشهد

ص: 54

أن لا إله إلا الله لمثل هذه الاعتراضات دون فهم ووعي لحكم ذلك أمر خطير، واعتقاد انتقاء الحكمة من هذه الشرائع والأحكام والحدود كفر بالله تبارك وتعالى.

وهذا الأمر أعني كفر المعترض على التشريع أشد وضوحاً فيمن ينكر الشريعة جملة. ويرى أنها لا تساير نظام حياة الناس ولا تناسب رقيهم وتطورهم المادي، فهؤلاء خارجون عن الإسلام سواء كانوا مسلمين قبلاً أو لم يسبق لهم إيمان وشهادة.

ولكن أرجو أن يعلم أن الاعتراض قد يصدر أحياناً من مسلم يفاجئه الحكم ولا يرى الحكمة منه مباشرة، ولا يخرج بهذا عن الإسلام إلا بعد أن يبين له فلا يرجع إلى الله، ولا يفيء إلى أمره عز وجل.

ومن ذلك ما صدر عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عندما سمع {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً} (النور: 4) .

أهكذا أنزلت يا رسول الله؟.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟..] فقالوا يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور، والله ما

ص: 55

تزوج امرأة قط إلا بكراً وما طلق امرأة قط فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله يا رسول الله إني لأعلم أنها لحق وأنها من الله، ولكني قد تعجبت أني لو وجدت لكاعاً قد تفخدها رجل لم يكن لي أن أهيجه، ولا أحركه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته.. ثم أنزل الله تبارك وتعالى بعد ذلك {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله..} (النور: 6) (رواه أحمد) .

والشاهد في سوقي لهذا الحديث أن أبين أنه يحصل للمسلم أحياناً الاستفسار في صورة الاعتراض على حكم الله، ولا يكون هذا مخرجاً له عن الإسلام.

وقد حدث مثل هذا لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عندما اعترض على صلح الحديبية الذي أبرمه الرسول صلى الله عليه وسلم مع المشركين، ورأى عمر رضي الله تعالى عنه أن فيه انتقاصاً لحق المسلمين ورضاً بالدنية بالدين، ثم جاء الأمر على خلاف ظنه ورأيه فكان صلح الحديبية أعظم فتح في الإسلام. والشاهد في هذا أيضاً أنه جابه الرسول وأبا بكر بالإنكار والاعتراض ولم يكن

ص: 56

ذلك خروجاً منه عن دائرة الإسلام رضي الله تعالى عنه وأرضاه.

وخلاصة الأمر أن الاعتراض على الشريعة إذا أصبح عقيدة يعتقدها صاحبها ويطعن بها في حكمة التشريع كان هذا مخرجاً له عن دائرة الإسلام، ولا يختلف هذا الأمر -أعني الاعتراض على حكمة التشريع- عن الاعتراض على ما شرع الله لنبيه ورضى له. فالاعتراض على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من مباح كالزواج بأكثر من أربع، وأخذ الخمس من المغنم وغير ذلك مما اختص به صلوات الله وسلامه عليه، تعتبر طعناً في الرسالة واتهاماً لاختيار الله للرسول صلى الله عليه وسلم.

واتهام اختيار الله كفر به سبحانه وتعالى، ومما يجرح القلب حزناً على مسلمي اليوم اعتراضهم على ما أباح الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهل هؤلاء مسلمون؟

وخلاصة هذا الأمر أن موقف المسلم من تشريع الله عز وجل هو الرضى والتسليم (سمعنا وأطعنا) هذا شعار المسلم دائماً ولا بأس أن يسأل عن الحكمة ويلتمسها، لأن ظهور حكمة التشريع تزيد المؤمن إيماناً، وتقوي صلته بربه جل وعلا. وشتان بين أن يكون هناك تلمس لحكمة التشريع وبين أن يكون هناك

ص: 57