الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني
نواقض الإيمان
عرفنا في الجزء السالف مضمون الإيمان وأنه تصديق الله عز وجل فيما يخبر فيه عن نفسه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله وقضائه وقدره واليوم الآخر، كل ذلك على النحو الذي بينه سبحانه أو بينه رسوله صلوات الله وسلامه عليه، وعرفنا شرط الإيمان وهو العمل بشقيه: العمل الواجب الذي يجب أن يسارع المؤمن إليه، والعمل المحرم الذي يجب على المؤمن الفرار منه والبعد عنه والذي يجب أن نعرفه أيضاً، أنه على قدر ثبات مضمون الإيمان وظهور حقيقته في النفس يكون تحقيق شرط الإيمان وهو العمل. فالملتزمون العاملون بأوامر الله هم الصادقون في دعوى الإيمان، والمفرطون المخذولون هم الكاذبون الغاشون لأنفسهم. فإذ قد ظهرت لنا حقيقة الإيمان على هذا النحو وجب
علينا أن نعرف أن هذه الحقيقة لها نواقض تنقض عراها. وتعري صاحبها منها. فالرجل قد يتصف بحقيقة الإيمان التي أسلفت القول فيها، ولكنه يرد على قلبه اعتقاداً ما، أو يعمل عملاً ما فإذا به خارج عن حقيقة الإيمان داخل في إطار الكفر، فما هذه الأقوال والأعمال التي تخرج صاحبها عن حقيقة الإيمان إلى الكفر والعياذ بالله؟؟.. والجواب: أن حصر هذه الاعتقادات التي يكفر بها صاحبها يخرج بهذه الرسالة عن حجمها المقدر لها، ولذلك سأورد الأصول من ذلك والقصد بحول الله هو بيان الحق في هذه المسألة الخطيرة التي نحن بصددها، وقبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من فهم هذه المقدمة:
إن الإيمان حقيقة كلية لا تقبل التجزئة.. إنه حقيقة كلية يندرج تحتها فروع كثيرة، ومع ذلك فإخراج فرعية واحدة من قضايا الإيمان وجحدها هو كفر ببقية القضايا والمسائل والفروع الأخرى. والأدلة على هذه المقدمة مشهورة واضحة في كتاب الله تبارك وتعالى. قال تعالى: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما
تعملون} (البقرة: 85) .
وقال عز وجل: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً، أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً} (النساء: 150-151) .
فهذه نصوص واضحة صريحة على أن الإيمان والالتزام يجب أن يكون كلياً غير منقوص، وهاتان الآيتان وإن كانتا في شأن اليهود إلا أن العبرة بعموم لفظها، ولا شك أن ما يعيبه الله على قوم يعيبه علينا إن فعلنا مثلهم. فالآية الأولى آية البقرة بشأن عمل، والثانية آية النساء، بشأن اعتقاد.
ففي الأولى: عاب الله على اليهود في المدينة انقسامهم ومحالفة بعضهم للأوس وبعضهم للخزرج، ولقد كانت تشب الحروب بين الفريقين فيقتل اليهودي الموالي للخزرج اليهودي الموالي للأوس ويساعد عليه عدوه ويخرجه من داره والعكس أيضاً، فإذا وضعت الحرب أوزارها اجتمع رؤساء اليهود من كلا الفريقين وجمعوا الأموال وفادوا الأسرى، وداووا الجرحى.. من
كليهما فأنزل الله في شأن ذلك: {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون *ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وأن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون} (البقرة: 84-85) .
وأما الآية الثانية: فهي رد على اليهود بشأن تصديقهم بنبوة موسى وكفرهم بنبوة محمد وعيسى صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً وهذا تفريق بين الله ورسوله، والشاهد من سرد هذه الأدلة بيان أن قضية الإيمان قضية كلية لا تقبل التجزئة، وسيزاد هذا الأمر وضوحاً وبياناً عند التمثيل لكل ناقض من نواقض الإيمان على حده.
أما السبب في أن الإيمان ينتقض بانتقاض فرد واحد وقضية واحدة من قضاياه فهو أن الطعن في مسألة من العقيدة طعن في العقيدة كلها، فالذي يعتقد بأن
الله هو الحكيم العليم قد آمن، فإذا ظن هذا أن هناك عملاً من أعمال الله قد خلا من الحكمة أو جاء على مقتضى الجهل فقد كفر بإيمانه السابق، والذي أعتقد بأن الله هو الرحمن الرحيم والذي يكفر برسول واحد هو الله سبحانه وتعالى، فتعصب إنسان ما لرسول تعصباً يحمله على الكفر بغيره هو طعن في مرسل الرسول نفسه وهو الله سبحانه وتعالى والكفر بالملائكة مثلاً تكذيب لله ومن كذب الله فقد كفر.
ومن هذا القبيل أيضاً استحلال المعصية إذ هو لله تبارك وتعالى. أنا لا أرضى حكمه ولا أرتضي حكمتك في تحريم هذا الأمر والواجب أن يكون حلالاً.. وهذا رد لكل إيمان سبق إن كان قد سبق إيمان، وكذلك الأمر بالنسبة للمستكبر عن الطاعة فبيان حاله أنه يقول لا أذعن ولا أفعل لأن أمرك هذا خال من الحكمة وعار عن العلم. وهذه معصية إبليس عليه لعنة الله، فقد امتنع عن أمر الله تكبراً واتهاماً لهذا الأمر بالخلو عن الحكمة والعلم. ولهذا لم يصبح الأمر مجرد معصية وإنما أصبح قدحاً في علم الله وحكمته وذماً
لأمره، وهذا ناقض لكل إيمان سابق وعمل صالح سالف.
وبهذا التمهيد أرجو أن يكون الأمر جلياً واضحاً في تطبيق هذه القاعدة على بعض فروعها التي سأتعرض لذكرها بحول الله وإعانته. وليس القصد في عرض هذه الفروع الناقضة للإيمان هو الاستقصاء، ولكنه التمثيل فقط لتتضح هذه القاعدة. وسأتعرض بالذات لما يكثر عليه الخلاف والجدل في زماننا وما يختلط فيه الحق والباطل والله أسأل الهداية إلى سواء الصراط.