الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهم يقولون لا إله إلا الله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم» فقال: ألم يقل: «إلا بحقها» ، وهذا من حقها، والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة لأنهما مقترنان في قوله تعالى {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} قالوا له: فلعلك تعرض أولا عن مانعي الزكاة وتستعين بهم على أهل الردة ثم إذا استقر الأمر فلك فيهم شأنك، فقال: فإن ترك آخرون الصلاة وآخرون الزكاة وآخرون الصيام وانحلت عرى الدين عقدة عقدة فماذا أفعل، بل أستعين بالله على نصرة دينه وهو خير الناصرين. فانشرحت صدورهم برأيه المبارك، وانقادوا له، وعرفوا بذلك علو همته وشدة عزمه، فحصل النصر والظفر، واستقرت قواعد الإسلام ببركته رضي الله عنه.
فصل
عن زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كنت مولاه فعلي مولاه» أخرجه الترمذي وأحمد. وفي بعض طرقه «ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم» قالوا: بلى يا رسول الله، قال:" «من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه» وانصر من نصره".
وعنه أيضا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي رضي الله عنه: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" أخرجه الترمذي.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا على سرية فلما رجعوا شكاه أربعة نفر من السرية والنبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنهم فقال: «ما تريدون من علي ما تريدون من علي إن عليا مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن بعدي» أخرجه الترمذي وأحمد.
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك فقال: يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان فقال: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي» أخرجه البخاري ومسلم.
وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر وهو كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما» أخرجه الترمذي.
والأخبار الواردة في فضل علي وسائر أهل البيت الطيبين الطاهرين أكثر من أن تحصر، وفضلهم ومجدهم وفخرهم أشهر من أن يذكر. وليس من شرط محبتهم وموالاتهم الغلو في الدين واتباع سبيل المفسدين، قال الله تعالى:{لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل} .
وما استمسك به المبطلون في أن هذه الأحاديث وأمثالها تقتضي أن يكون سيدنا علي هو الوصي بالخلافة وأن خلافة الثلاثة من السادة الأتقياء قبله معصية مخالفة لنص الرسول: إفك مفترى اجترأوا عليه سفها بغير علم افتراء على الله، قد ضلوا وما كانوا مهتدين، ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا، {فأما الذين في قلوبهم مرض فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} على وفق أرائهم الفاسدة {والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب} . {أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم} {فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم. أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم} . {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها. إن الذين ارتدوا على أدبارهم من بعد ما تبين لهم الهدى الشيطان سول لهم وأملى لهم. ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم. فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم} . وأي سخط أعظم ممن يعتقد رأيا يؤدي إلى تكذيب الله تعالى وتكذيب رسوله وتكذيب أصحابه والتابعين لهم إلى يوم الدين وتخطئة علي وابن عباس وأتباعهما من سادة أهل البيت بموالاتهم الصحابة ونسبتهم إلى خذلان دين الله بتركهم بذل أنفسهم في نصرة الله ورسوله، إلى غير ذلك من الآثار القبيحة والفضائح الشنيعة، قبح الله معتقديها الذين استحبوا العمى على الهدى، وأذاقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.
يا عجبا أي عقل أو نقل يقضي أن يرتكب مثل ذلك بمجرد احتمال قام الإجماع على أنه غير مراد. مع أنا لو وجدنا ألف آية في كتاب الله وألف حديث يتواتر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم متطابقة على الأمر بتولية علي بعد النبي، ثم وجدنا الإجماع منعقد من الصحابة ومن علي أيضا على أن الصديق أولى بالخلافة على تصويب ما فعلوه، كانت القواعد المقررة والأصول المحررة المتفق عليه بين أئمة الدين تقتضي إما حمل تلك النصوص كلها على النسخ ويمحو الله ما يشاء ويثبت، وإما على التأويل اللائق المؤدي إلى الجمع بينها وبين ما أجمعوا عليه؛ ولم يداخلنا شك في أنهم إنما امتثلوا بما أجمعوا عليه أمر الله تعالى ولم يتعدوا حكم الله. لأنا إن لم نعتقد ذلك لزمنا اعتقاد بطلان الكتاب كله
والسنة كلها وحصلنا على مراد أعداء الله تعالى المتظاهرين بالرفض المصرين على الكفر المحض. فكيف نتناول احتمال أحاديث قد عورضت بما هو أقوى منها متنا وسندا مستندا إلى الإجماع، وتقرير كل نص في محله.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» يحتمل أن يريد ما زعمه الخصم إثبات ما له من الولاية عليهم والتصرف فيهم بعده من غير فاصل بينه وبينه، ويحتمل أن يكون مع فاصل، ويحتمل أن يكون المراد بالمولى القائم بالنصرة والتقدير من كنت مولاه فعلي قائم مقامي بعدي في نصرته، وهو ناصر كل مؤمن بعدي، أو من كان على نصرته فعلي على ذلك أيضا لأن قرابة الرجل تتحمل ما على قريبه. وفائدة اختصاصه بذلك ما عرف لعلي من النصرة لدين الله بما لم يعرف لغيره، فكم جلى
من كروب، وكم كابد من حروب، وكم فتح الله على يديه في زمنه صلى الله عليه وسلم وكان ذلك كله منه لنصرة الله ورسوله، والله ورسوله ولي المؤمنين {ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم} أي لا ناصر لهم، وإذا كان كذلك أعلمهم أيضا أنه يبقى بعده على ما كان عليه ناصرا لمن كان النبي ناصره. وصدق صلى الله عليه وسلم، فكم أشاد الله من دعائم الإسلام، وأثبت له بها المنة في عنق الخاص والعام. ويحتمل أن يريد إثبات الخلافة له في الجملة لكن بعد فاصل بينه وبينه، وقد وقع ذلك، وهذا كما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم رأى في منامه حورية في الجنة لعثمان فقال لها: لمن أنت؟ فقالت: للخليفة بعدك. ومثل ذلك جائز في كلام العرب حقيقة ومجازا لصدق البَعدية حتى أهل عصرنا هذا لو صدق عليهم اسم الخلافة حقيقة لم يزل اسم الخلافة مستمرا على الزمان، لأن قولنا جاء زيد بعد عمرو محتمل أنه جاء بعده من غير فاصل ومن غير مهلة، ويحتمل عكس ذلك. فكذلك قوله بعدي على هذا الوجه محتمل.
وعلم الصحابة بترجيح الاحتمال الثاني بتولية أبي بكر في الصلاة مع حضور علي وغيره
هو خبر متفق على صحته بخلاف شيء من هذه الأخبار فإنها غاية ما تبلغ درجة الحسن سوى قوله «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» وقد علم من سياق القصة أنه قال له تطييبا لخاطره وإعلاما له إنما اختاره له من الخلافة عنه بالمدينة عند سيره إلى الجهاد في تلك المرة لا غير لا نقص عليه فيه، وإن تلك المنزلة منزلة هارون الذي هو أرفع درجة من موسى حيث يقول موسى لأخيه هارون {اخلفني في قومي} ، وأن الرفعة له فيما اختاره من المضي معه كما هو أكثر أحواله، والتخلف عنه كما في هذه المرة.
وكيف يكون
مراده بذلك تولية الخلافة بعده وهارون المشبه به مات قبل موسى عليهما السلام، وإنما خلفه فتاه وصاحبه في سفره يوشع الذي هو بمنزلة الصديق، {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} ، فصح أن عليا في تلك المرة بمنزلة هارون من موسى، وأبو بكر بمنزلة فتى موسى من موسى في توليه الخلافة.
وفائدة جمع المسلمين وإشهادهم على ما في بعض طرق الحديث من قوله «ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن في نفسه» إلى آخره، إخبارهم بأن عليا كان خليفة بما ولاه عليه من أمر السرية بل ومتأهل التولية أمر الأمة بعده أيام خلافته التي وقعت لا سيما وقد شكوا منه. فأراد التنبيه على جلالة قدره وتعريفهم بأنه سيولى أمرهم ليتمرنوا على اعتقاد طاعته وينوطوا به الآمال إذا توقعوها كائنة وليحذرهم من مخالفته والخروج عليه لما أطلعه الله من أنهم لا يجتمعون عليه لتكون إقامة الحجة على من يعمل خلافه يومئذ. ولو كان المراد ما زعمه الخصم للزم منه ما يترتب عليه من المقاصد السابقة، فوجب العدول عنه عقلا ونقلا.
وما أحسن قول الحسن المثنى بن الحسن بن علي رضي الله عنه لما قال له الرافضي يزعم ما زعمه الخصم: ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فقال الحسن: أما والله لو عنى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تزعمه من الخلافة بعده وتوليته عهده لأفصح به ولقال: أيها الناس إن عليا هو ولي عهدي والخليفة بعدي فاسمعوا له وأطيعوا. أي كما أفصح بالصلاة في قوله «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وكما قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن كان عبدا حبشيا» . ثم قال: لئن كان ما زعمتم حقا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختار عليا لهذا الأمر بمشهد من المسلمين فإن عليا أعظم خلق الله إثما وأفحشهم خطئية وجرما إذ ترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والقيام بأمر الله وحابى فيه الناس. أورده المحب الطبري.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلي: "أنت أخي في الدنيا والآخرة" فذلك بعد أن آخى بين المسلمين وجاءه علي تدمع عيناه قال يا رسول: آخيت بين أصحابك
ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فالسياق يدل على وقوع القول وجوبا تطييبا لقلبه مع أنه حق في نفسه، والأخوة هنا أخوة الإسلام، واختصاص علي بها في هذا المقام فضيلة هو لها أهل. ولكن إذا قوبلت هذه الفضيلة بفضيلة الصديق التي أثبتها له صلى الله عليه وسلم ابتداء بقوله وهو على المنبر قبل أن يموت بأيام قلائل في مرضه الذي مات فيه وقد خرج عاصبا رأسه بخرقة فقعد على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:«أيها الناس إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكنه أخي وصاحبي» ، وفي رواية:«ألا إني أبرأ إلى كل خل من خلته» أخرجه البخاري ومسلم والترمذي مع اختلاف في بعض الألفاظ. واتفقوا على قوله «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخي وصاحبي» ظهر لك أن الله يمن على من يشاء من عباده، ويختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، وأين قوة السند من السند، والمتن من المتن، والفضيلة من الفضيلة، والقول المبتدأ من القول المستدعى {وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير} .
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا» إلى آخره، فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. لكن الشأن في فهم من هو أحق بهذه الفضيلة، فإن كان أهل بيته العباس وابنه علي وعليا وابنيه ومن اقتفى أثرهم واتبع أفعالهم وأقوالهم من أهل البيت إلى يوم الدين فقد ظهر مصداق ذلك إذ لم يزالوا قرناء كتاب الله وسنة رسول الله، وانتشر عنهم من التفسير والحديث والفقه والمواعظ والحكم والسياسات الرياضية وغيرها ما طبق الأرض وملأ أقطار الدنيا، فعلى مخالفهم منا ومن الخصم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وبيننا وبين الخصم تحكيم النصوص عنهم أولا ثم المباهلة فنجعل لعنة الله على الكاذبين، وإنا وإياهم لعلى هدى أو في ضلال مبين.
وقد سبق عن أهل البيت ما فيه كفاية لقوم مؤمنين {فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} {ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم
في طغيانهم يعمهون} {ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون} .
وأما ما اجترأ عليه عدو الله من القدح في الثلاثة الخلفاء رضي الله عنهم فقد علمت مما سبق أن القدح فيهم خاصة وفي سائر الصحابة عامة يؤدي إلى الكفر الصريح الذي ليس بعده كفر، فاتخذ ذلك أصلا لترد به تزويرات أهل الأباطيل، وتحمل به ما صح وثبت على أجمل المحامل وأحسن التأويل. وكان الأولى بنا أن لا نلوث كتابنا بما ألقاه، ويجعل لهم أسوة بما قد افتراه أعداء الله على الله:
قد قيل إن الإله ذو ولد
…
وأن هذا الرسول قد كهنا
فما سلم الله من بريته
…
ولا رسوله فكيف أنا
لكن رأينا أن نكافئه عنهم بسوء فعله ونكشف الغطاء عما غره من قبيح جهله بنكت نشير إلى الجواب وتهدي إلى جادة الصواب.
أما قوله: إن عليا رضي الله عنه قد استنقذ أم ابنه محمد بن الحنفية من يد أبي بكر إذ كان لا يجوز لأبي بكر سبيها؛ فهذه العبارة الخشنة من أين لفقها وعمن تلقفها، أم من هواه اختلقها أم من مخارق أهل مذهبه الفاسد اخترقها؟ بل المحمل الصحيح في ذلك أن أبا بكر رضي الله عنه رأى جواز سبي نساء أهل الردة قياسا على الكفار الأصليين فوافقه الصحابة يومئذ على ذلك، وهي مسألة اجتهادية للاحتمال فيها مجال، ثم ترجح بعد ذلك للصحابة الفرق بين الكافر الأصلي وبين المرتد فلا تسبى ذراري المرتدين، وكانت أم محمد بن الحنفية من السبي.
فإن صح أن عليا جدد نكاحها من وليها أو غيره فمحمول على الورع والاحتياط قبل ترجيح عدم جواز سبي المرتدين، وعلى تدارك الصحة إن كان بعد الترجيح، ولا يترتب على ذلك قدح ولا ذم أصلا.
أما قوله: لأنها من قوم لم يجر منهم ما يوجب القتال؛ فإن كانت هذه الفتوى من على دين محمد صلى الله عليه وسلم فكذب عدو الله لانعقاد إجماع الأمة على أن بني حنيفة ارتدوا، وادعى فيهم مسيلمة الكذاب لعنه الله النبوة، وافترى على الله، وقال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، وقال سأنزل مثل ما أنزل الله، وتزوج بسجاح اليربوعية المدعية للنبوة أيضا وأمهرها أن حط عن قومها صلاتي الصبح والعشاء، ولا خلاف بين المسلمين على كفرهم. وإن كان على مذهب إمامه وقدوته عدو الله علي بن الفضل القرمطي فصدق، لأنه استولى على اليمن وتمكن وأظهر ما تضمره الإسماعيلية من المذهب الخبيث، وادعى أولا النبوة، وكان يؤذن المؤذن بين يديه أشهد أن علي بن الفضل رسول الله، واستباح المحظورات، وأحل الخمر والزنا ونكاح البنات. وأنشد أبياته المشهورة:
خذي الدف يا هذه والعبي
…
وغني هزاريك ثم اطربي
تولى نبي بني هاشم
…
وهذي شرائع هذا النبي
لكل نبي مضى شرعه
…
وهذا نبي بني يعرب
فقد حط عنا فروض الصلاة
…
وحط الصيام فلم نتعب
إذا الناس صلوا فلا تنهضي
…
وإن صوموا فكلي واشربي
ولا تطلبي السعي عند الصفا
…
ولا زورة القبر فى يثرب
ولا تمنعي نفسك المعرسين
…
من الأقربين ولا الأجنبي
فكيف حللت لهذا الغريب
…
وصرت محرمة للأب
أليس الغراس لمن ربّه
…
وأسقاه في الزمن المجدب
وما الخمر إلا كماء السماء
…
حلال فقدست من مذهب
بل قبحه الله من مذهب.
ثم ادعى الربوبية ثانيا فكان إذا كتب كتابا قال فيه: من باسط الأرض وداحيها ومزلزل الجبال ومرسيها علي بن الفضل إلى عبده فلان.
فلا رحم الله مثواه، ولا بلّ بشيء من وابل الرحمة ثراه.
فمن كان هذا إعلان إسراره وعنوان صحيفة إضماره، فكيف يميل إلى مذهبه من يدعي الإيمان فضلا عن أن يعتقده أقوم الأديان {ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون. ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون} .
وأما قول عدو الله: إن عليا لم يتأمر عليه أبو بكر ولا غيره، ولا صلى
خلف أحد من الخلفاء قبله؛ فكذب مفترى، وقد سبق تصريح علي نفسه بأنه بايع أبا بكر وعمر طائعا، وعلى ذلك انعقد الإجماع، لكن لم يبايع أبا بكر إلا بعد ستة أشهر من خلافته واعتذر إليه من تخلفه. وقد سبق في خطبة علي أيضا أن أبا بكر صلى بالناس في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أيام، ولم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أبي بكر في تلك المدة، ولا معنى للسؤال عن ذلك، لأنه إنما أقامه نيابة عنه لعدم قدرته على الصلاة بالمسلمين، وكفى لأبي بكر فخرا قيامه مقام المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وموضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم كان ملكا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلفه تركة بعده يصرف في المصالح، ولأزواجه بعده في ذلك حق السكنى كما لهن حق الإنفاق من صدقاته، ثم يصير فيئا للمسلمين، فلما قبر النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها بقي ذلك الموضع الباقي مستحقا لعائشة فيه السكنى، والبيت بيتها فأذنت لأبيها في ذلك. ثم استأذنها عمر عند موته وأمر باستئذانها بعد موته أيضا فأذنت له حيا وميتا. وقد سبق ذكر قول علي في عمر: إني كنت لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك. وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقبر يحفر فقال: قبر من هذا؟ فقالوا: قبر فلان الحبشي، فقال:"سبحان الله سيق من أرضه إلى الأرض التي خلق منها". وقال علي: إني لأعلم لأبي بكر وعمر فضيلة ليست لأحد خلقا من تربة خلق منها النبي صلى الله عليه وسلم. أورده المحب الطبري. وكفى بهذه شهادة من المصطفى ومن علي لهما بأن جعلهما عنده أكبر المناقب. فكيف يصادم عدو الله قولهما، ويجعل ذلك من أقبح المثالب.
وأما تركه صلى الله عليه وسلم الوصية بتعيين الخليفة من بعده، فقد سبق أنه صلى الله عليه وسلم أشفق على أمته من أن يحصل منهم عصيان لخليفته أو خليفة خليفته وهلم جرا فيحل بهم العذاب، فوكل ذلك إليهم ليجمع لهم بين فضيلة الاجتهاد وبين السلامة من الوقوع في المحذور ولو بعد حين، ودعوى الخصم الوصية لعلي خلاف الإجماع إن أراد بذلك الخلافة الكبرى، وأما في أمور جزئية فمسلم.
وكون علي رضي الله عنه يسمى وصيا فقد سئل عنه علي فقال: لا، وقد سبق قوله: لم يعهد إلينا في ذلك شيئا، وإنما هو شيء رأيناه من أنفسنا. فهو تكذيب لعلي نفسه، هذا مع إجماع المسلمين على تسمية الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماعهم على أنه لم يستخلفه، فإن صح تسمية علي بالوصي فكذلك.
ونزول أبي بكر وعمر عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم في المنبر أدب ليس بواجب، وعود عثمان إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم اتباع لسنة النبي وعمل بما عمل، وهو أفضل يومئذ لما فيه من المصلحة، لأنه يترتب على ذلك لو بقي كل خليفة ينزل درجة تبين هجران سنة المنبر، ولكان الخليفة اليوم يخطب الناس وهو في تخوم الأرض.
وإذا صحت إمامته نفذت تصرفاته كلها من الأخذ والعطاء والنفي والإثبات بنظر المصلحة.
وفدك صارت بالإجماع غير ميراث عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان مذهب عثمان وكثير من العلماء، أنها للوالي بعده لأنه القائم مقامه، فاستحقها عثمان كلها ووهبها لأرحامه. وعند الباقين أنها صارت فيئا للمسلمين من جملة المصالح العامة يتصرف فيها الوالي كيف شاء بحسب ما يراه من المصلحة. وعلى كل تقدير فقد اتفقوا على تصويب عثمان فيما فعله فيها وفي غيرها ما سوى عدو الله وأهل مذهبه.
ولو أن عمر رضي الله عنه قتل ألفا من أمثال سعد بن عبادة وأمثال الزبير حملناه على الصواب وموافقة حكم الله بعد أن نصحح إمامته، لأن تصرفات الأئمة لا سيما عمر محمولة على الصحة ما لم يعلم مخالفتها لنص، فضلا عن تخطئته بضرب أو كسر سيف لا صحة له.
وقد قال يوم أوصى بالخلافة شورى بين المسلمين وهو في تلك الحالة إذا اتفق أربعة منهم على رأي وخالفهم اثنان أي من الستة المذكورين فاشدخوا رؤوسهما بهذا السيف، فنظرهم رضي الله عنهم مصروف إلى ما يصلح الأمة وحسابهم على الله تعالى لا إلى محاباة زيد وعمرو.
وكراهته صلى الله عليه وسلم أن ينتشر إخباره بالخليفتين من بعده محمول على أمر الله له بذلك مراعاة لقرابته، وهو مأمور بالتبليغ فيما أمر بتبليغه، وبالكتمان فيما أمر بكتمه، ومخير في أشياء يبلغها إن شاء ويخبر بها من شاء ويكتمها عن من يشاء. ومن المحتوم عليه التبليغ فيه تبليغ القرآن. ومتى لم ينص على شيء لا يقال لم لم ينص عليه، وإنما علينا قبول ما جاء عنه من غير اعتراض بعقولنا القاصرة عن أسرار النبوة.
والخلافة باقية إلى الآن بمصر في بني العباس، لا يصح عندهم تولية سلطان إلا بعقد يعقد له من الخليفة القائم في كل عصر.
ونكاح عمر رضي الله عنه لأم كلثوم متفق على صحته. ومذهب جمهور السلف والخلف أن الكفاءة في الحرية والدين والعفة كافية، وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس القرشية من مولاه أسامة بن زيد واختاره لها على قريش، وليس لها ولي غير الشرع. والغبطة والمصلحة عند ولي أم كلثوم بنت علي كانت أظهر من الشمس، وإنما خفيت على حزب الشيطان. وما اعتبره الشافعي من مراعاة الكفاءة في النسب أيضا مذهبه الجديد، والمسألة اجتهادية، واختلاف المجتهدين في الفروع لا قدح فيه.
وكل ما نقل في أمر فدك من ميراث أو نحلة شيء منها فإن تقرير علي لها على ما كانت عليه أيام الخلفاء قبله يكذب ذلك كله.
وقد قام بعض العلوية في جامع الكوفة والمصحف في عنقه بين يدي السفاح أول خلفاء بني العباس وناشده الله أن ينصفه ممن ظلمه، قال: ومن ظلمك؟