الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجميع خلقه بأنا من أتباع أولئك نعادي من يعادون، ونوالي من يوالون، وأما الخصم فبيننا وبينهم كتاب الله وسنة رسوله وأهل البيت المذكورون، فما حكموا به على الصحابة من مدح أو ذم اتبعناه، ونحن والله أولى منهم بموالاة السادة الكرام أهل البيت لاقتفائنا آثارهم، {إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين} .
فصل
اعلم أن من حسن الأدب معهم رضي الله عنهم أن نتلقى ما ورد من فضائلهم ومناقبهم بالقبول ليقع في القلوب موقع التعظيم، ولا نشتغل بمقابلة هذه الفضيلة بهذه الفضيلة تفضيلا لأنه ربما خيف من الإزراء بالمفضول، هذا مع اعتقاد ما أجمع عليه السلف، وهذا كما نهي عن المجادلة في تفضيل الرسل بعضهم على بعض مع تصريح القرآن بذلك، وتصريح الرسول بأنه سيد ولد آدم مع قوله:"لا تفضلوني على يونس بن متى".
فكان اللائق بنا أن لا نشتغل بالجواب عما أورده الخصم، ولكن عند الضرورات تباح المحظورات، فنقول: قد علمت مما سبق أن حجته داحضة من وجوه كثيرة:
أحدها: إنه يزعم فسق الرواة فيعترف ببطلان شبهته على معتقده الفاسد، فقد ألزم نفسه بطلان شبهته، وكفى بنفسه عليه شهيدا، فلا نشتغل بجوابه حتى يوافقنا على معتقدنا.
الثاني: إذا اعترف زدناه فقلنا: كل هذه الأدلة الواردة في فضل سيدنا أمير المؤمنين علي معارضة بأدلة أقوى منها، وأقوى من ذلك كله الإجماع على أفضلية أبي بكر وتقديمه وصحة إمامته حتى من علي وسائر أهل البيت رضي الله عنهم، وهذه النقول الصادقة المعتمدة بيننا وبينكم محكمة، ولا نعطي كل أحد بدعواه، وكل دعوة لا يؤيدها بينة شرعية مردودة.
الثالث: إن اعتقادنا أفضلية الصديق وصحة إمامته موجب لتقرير الشريعة وموجب لفضيلة علي وإثبات فضائل أهل البيت وغير ذلك مع اعتقاد صدق الناقلين لذلك، واعتقادهم أفضلية علي موجب لبطلان إمامة الصديق وفسق الرواة فيوجب ذلكرد فضائل علي أيضا وغيره، فلو لم يرد نص في أفضلية الصديق ولا إجماع لوجب قطعا اتباع معتقدنا، فكيف والأمر بالعكس، فما أشبههم بإخوانهم الزاعمين اتباع موسى والإيمان بالتوراة ويكفرون بمحمد والقرآن المصدق لموسى والتوراة، مع أن شريعة موسى والتوراة موجبة التصديق بمحمد والقرآن، فكفروا بموسى والتوراة من حيث لا يشعرون، {ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض، ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا} .
الرابع: ما يترتب على معتقدهم من الإزراء بأمير المؤمنين علي وسبه أعظم السب وحاشاه من ذلك لأنهم يزعمون أنه يعلم أنه وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم وولي عهده، فكيف نبذ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره وضيع عهد الله وخذل دين الله، بل وعلى ما أجمع السلف أنه لا نص في الخلافة، فيزعمون أنه يعلم أنه أفضل الأمة وأن الخلافة متعينة عليه. فقد نسبوه على كل تقدير إلى ما لا يجوز لمسلم أن ينسبه إلى أفسق الولاة الظلمة من تضييع حقوق الله ورسوله وحقوق دينه وحقوق العباد، وتركها بأيدي من يزعمون أنهم فسقة ظلمة متعاونون على الإثم والعدوان، هذا وهو البطل المقدام، الذي لا يماثله الشجعان، فكيف رهب من الموت، وآثر الحياة الدنيا، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج الزهراء وأبو السبطين. أما وجد قط في بني هاشم ثم قبائل قريشثم في سائر الأمة من يقوم بنصره ويعينه على أمره، ويبذل روحه لله ولرسوله! فكيف قدر بعد ذلك على قتال معاوية وأتباعه لما رأى الإمامة متعينة عليه، أين يذهب هؤلاء الضلال؟ {وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون} .
الخامس: القرائن الشاهدة بوجوب تقديم الصديق أصرح وأظهر مما استدلوا به على وجوبت قديم علي:
فمنها: الإجماع على أنه صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر في الصلاة ولم يعزله فيبقى بالاتفاق إماما للمسلمين في الصلاة بالنص المجمع عليه، فيكون إمامهم في غيرها من طريق الأولى، إذ لا قائل بأن شيئا من أركان الإسلام أعظم منها، ولأنه يلزم منه لو عزلوه عن الصلاة مخالفة النص الصريح، وإن اتبعوه فيها واستخلفوا غيره فيما سواها نقصان شأن ذلك الخليفة وانخرام أمر خلافته، والقطع بأن ما بقي عليه الصديق من الصلاة أعظم شأنا مما استفاده الخليفة الآخر وقد سبقت الإشارة إلى ذلك. وقد نبه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بقوله
السابق: استخلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلاة المسلمين، وولاه المسلمون ذلك بعده، وفوضوا إليه أمر الزكاة لأنهما مقترنان.
ومنها: من الآيات قوله تعالى: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا} تدل بالنص الصريح على أنه لا أن يكون في هذه الأمة التي هي خير الأمم من المؤمنين المخاطبين بالآية خلفاء حق حتى يخلفون رسوله، كما خلف الرسل قبلهم خلفاء حق يمكن لهم دينهم الذي أكمله لهم وارتضاه في حياة نبيهم، ويبدلهم من بعد خوفهم في ابتداء الإسلام أمنا فهذا منطوقها مجملا. ويجب حملها عقلا ونقلا على الخلفاء الأربعة للإجماع على أنه لم يلحقهم من هو أولى بهذه الفضيلة منهم، فهم الذين صدق وعد الله فيهم، وهم أئمة حق، وعلى هدى من ربهم، قاموا بسياسة المسلمين والذب عن حوزة الإسلام أتم قيام فقرروا قواعد الدين فتمكن وأمن بهم المسلمون أبلغ أمن، ثم هذه الأمور الموعودة كان ابتداؤها في خلافة أبي بكر وكمالها على أتم الوجوه في مدة خلافة عمر وصدر خلافة عثمان، وانتهاؤها في إمامة علي رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وسلم: " «الخلافة بعدي ثلاثون» ثم يكون ملكا عضوضا". فالتعريف في قوله الخلافة للعهد فكأنه قال الخلافة التي وعدكم الله بها، ومتى صحت خلافة الأربعة وجب ترتيبهم في الفضل والحقية بها على الترتيب الواقع.
وقوله تعالى: {قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} أي يكون أحد الأمرين إما قتالكم لهم أو إسلامهم، وليسوا ممن يقاتل حتى يسلم أو يعطى الجزية، فأما المفسرون فحملوا الداعي على الصديق، والقوم أولي البأس على بني حنيفة. وأما من حيث تعيين ذلك أيضا فللعلم بأن ذلك الداعي للأعراب إلى الجهاد معهم ليس رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى {قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل} ولا عليا رضي الله عنه لأنه لم يقاتل كفارا ليسلموا، ولا من بعده لأنهم عندنا ظلمة وعندهم أشد ظلما. وبقي الاحتمال منحصرا في الثلاثة أبي بكر لقتال أصحاب مسيلمة، وعمر وعثمان لقتالهما فارس والروم، ويترجح جانب الصديق لأن فارس والروم يقاتلون ليسلموا أو يعطوا الجزية، وأهل اليمامة يقاتلون أو يسلمون، ولهذا حمل المفسرون الآية على ذلك ليطابق الواقع،
فثبت أن الصديق هو الداعي الموعود به، وثبتت خلافته وخلافة من بعده على الترتيب.
وقوله تعالى: {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر} فلو كانت إمامة الصديق باطلة وقد أعانته عليه والإمامة حق علي ولم تعنه لكانوا شر أمة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف.
وقوله تعالى {وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا} قال ابن عباس: والله إن خلافة أبي بكر وعمر لفي كتاب الله تعالى، وتلا هذه الآية وقال: قال لحفصة: "أبوك وأبو عائشة أولياء الناس بعدي". أخرجه الواحدي وأورده المحب الطبري. وقال في قوله تعالى {ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه} قال الزرع محمد صلى الله عليه وسلم والشطأ أبو بكر فآزره فقواه عمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعلي رضي الله عنهم.
وعن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسير سورة العصر فقال: {والعصر} قسم من الله تعالى بآخر النهار {إن الإنسان لفي خسر} أبو جهل {إلا الذين آمنوا} أبو بكر {وعملوا الصالحات} عمر {وتواصوا بالحق} عثمان {وتواصوا بالصبر} علي. أخرجه الواحدي وأورده المحب الطبري. وموضع الدلالة سياق ترتيبهم الدال على ترتيب منازلهم في الفضل، وهم يوجبون إمامة الأفضل، وكذلك كل موضع ورد فيه ذكرهم لا تراهم إلا على هذا الترتيب.
ومن الأخبار قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لا أدري قدر بقائي فيكم فاقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار، وما حدثكم به ابن مسعود فصدقوه» أخرجه الترمذي. وأخرجه أحمد وأبو حاتم إلى قوله «أبي بكر وعمر»
"لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أن يؤمهم غيره" أخرجه الترمذي.
«يأبى الله ذلك والمسلمون» ثلاث مرات. أخرجه الترمذي أيضا، وقد سبق.
وقيل يا رسول الله: من نؤمر بعدك؟ قال: "إن تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه أمينا قويا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم". أخرجه. (1) وأشار بقوله: "ولا أراكم فاعلين" إلى اختلافهم عليه يوم ولايته وعدم ذكره لعثمان هنا لأن كلامه جواب لهم، ولم يسألوه عنه فنقل الراوي الجواب دون السؤال.
(1) في الهامش: "هكذا بالأصل"
يوضحه أنه قد جاء أيضا في رواية: قيل له: يا رسول الله ألا تستخلف؟ قال: "إني إن استخلفت عليكم فعصيتم خليفتي نزل بكم العذاب" قالوا: ألا تستخلف أبا بكر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قويا في أمر الله ضعيفا في نفسه"، قالوا: ألا تستخلف عمر؟ قال: "إن تستخلفوه تجدوه قويا في أمر الله قويا في أمر نفسه"، قالوا: ألا تستخلف عليا؟ قالوا: "إن تستخلفوه تجدوه هاديا مهديا يسلك بكم الصراط المستقيم".
وبايع صلى الله عليه وسلم أعرابيا بقلائص إلى أجل فقال: يا رسول الله إن أعجلتك منيتك فمن يقضيني؟ قال: "يقضيك أبو بكر" قال: فإن عجلت بأبي بكر منيته فمن يقضيني بعده؟ قال: "عمر" قال: فإن عجلت بعمر منيته فمن يقضيني بعده؟ قال: "عثمان" قال: فإن عجلت عثمان منيته فمن يقضيني؟ فقال: "إذا أتى على أبي بكر وعمر وعثمان أجلهم فإن استطعت أن تموت فإن بطن الأرض خير لك من ظاهرها". أورده المحب الطبري.
وسأله بنو المصطلق إلى من ندفع زكاتنا إن حدث بك حدث؟ فقال: "ادفعوها إلى أبي بكر"، قالوا: فإن حدث بأبي بكر حدث الموت فإلى من ندفعها؟ فقال: "إلى عمر"، قالوا: فإلى من ندفعها بعد عمر؟ فقال: "إلى عثمان"، قالوا فإن حدث بعثمان حدث فإلى من ندفعها؟ فقال:"إذا حدث بعثمان حدث فتبا لكم آخر الدهر". أورده المحب الطبري.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم بستانا فأتى آت فدق الباب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا أنس قم افتح الباب له وبشره بالجنة وبالخلافة بعدي"، قال قلت: أعلمه بذلك يا رسول الله؟ قال: "أعلمه"،
ففتحت فإذا أبو بكر فقلت: أبشر بالجنة وبالخلافة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر في عمر وعثمان كذلك، وذكر في عمر أنه الخليفة بعد أبي بكر وأنه مقتول، وأن عثمان قال له: يا رسول الله والله ما تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعتك بها قال: "هو ذاك يا عثمان". أورده المحب الطبري وأشار إلى أن هذه قصة غير قصة بئر أريس التي رواها أبو موسى المشهورة في الصحيحين وغيرهما.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم ونيط عمر بأبي بكر ونيط عثمان بعمر"، قال جابر: فقلنا أما الرجل الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم وأما تنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم. رواه أبو داود.
وقال صلى الله عليه وسلم: «بينما أنا نائم رأيتني على قليب أي بئر عليها دلو فنزعت منها ما شاء الله أي لسقي الناس على حوضها، ثم أخذها ابن أبي قحافة فنزع بها ذنوبا أو ذنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له ضعفه، ثم أخذها ابن الخطاب فنزع حتى روي الناس» ووصفه بالقوة. أخرجه البخاري ومسلم وأحمد وابن أبي حاتم مع اختلاف في بعض الألفاظ.
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي بكر: "كيف أنت يا أبا بكر إن وليت الأمر بعدي؟ " فقال: بل قبل ذلك أموت يا رسول الله، قال:"فأنت يا عمر" قال عمر: هلكت إذا، قال:"فأنت يا عثمان؟ " قال: آكل فأطعم وأقسم فلا أظلم، قال:"فأنت يا علي؟ " قال: آكل القوت، وأخفض الصوت، وأقسم التمرة، وأحمي الجمرة قال:"كلكم سيلي وسيرى الله عملكم". أورده المحب الطبري.
وقال ذات يوم: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟» فقال رجل: أنا يا رسول الله رأيت
كأن ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر فرجحت أنت بأبي بكر، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووزن عمر وعثمان فرجح عمر بعثمان ثم رفع الميزان، قال الراوي فرأينا الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي رواية: فاستاء لها، يعني فساءه ذلك، فقال: خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء.
وسبب الكراهة التي بدت على وجهه ليس راجعا إلى رجحان بعضهم ببعض لأن ذلك هو المعلوم المقرر عنده، بل راجع إلى قوله ثم رفع الميزان، وهذا الميزان هو الميزان المشار إليه بقوله تعالى:{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} ، وهو الميزان الذي يوزن به حكم الكتاب الذي نزل مقارنا له، فيسوى به الحقوق، ويقام فيها القسط فيعطى كل ذي حق حقه، ولما أخبره أنه ذلك الميزان رفع بموت عثمان علم أن منتهى استقامة أمته على أكمل الأحوال، وأتم قوانين العدل إلى موت عثمان، وهذه المدة المشار إليها بقوله خلافة نبوة أي كاملة من كل وجه باجتماع الكلمة واتحادها كما اجتمعوا على نبيهم سامعين مطيعين، ثم يحصل الجور في جانب فيعطى بعض الحق غير أهله كما انصرفت الخلافة عن علي وآله إلى بني مروان. ولا يقدح ذلك في خلافة سيدنا علي لأنه قد أدخل مدته في أسهم الخلافة الموعود بها في قوله تعالى:{وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم} فهذه هنا خلافة نبوة، وهي خلافة خاصة مشروط فيها اتحاد الكلمة، والتي في الآية خلافة حق عامة مطلقة. والله أعلم.
وقال رجل: يا رسول الله رأيت كأن دلوا دلي من السماء فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها فشرب شربا ضعيفا، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها
فانتشطت وانتضح عليه منها شيء. أخرجه أبو داود. ومعنى انتشطت: جذبت ورفعت قبل أن يتمكن من الري من غير تقصير منه ولا تفريط، ومع تأهله وشدة حرصه لولا ما حال بينه وبينها من القضاء المبرم، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
ومن الآثار عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه واليا على عمان، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ثم، فجاء عالمهم وكان قد أسلم ليلة مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتى عليه هذه الليلة، وأتى نحو ذلك في كتابنا، قال: فلم ألبث أن جاءني كتاب أبي بكر بذلك، فقلت لهم: هذا الذي ولينا بعده ما تجدونه في كتابكم؟ قال: يسيرا ثم يموت، قال: قلت: ثم ماذا؟ قالوا: ثم يليكم قرن الحديد يعمل بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، يملأ مشارق الأرض ومغاربها قسطا وعدلا لا تأخذه في الله لومة لائم. أورده المحب الطبري. وأخرج أبو داود أن عمر رضي الله عنه سأل الأسقف وهو عالم النصارى لما قدم عليه كيف تجدوني عندكم؟ فقال: قرن حديد. ثم تعرض لخلافة عثمان بعده وخلافة علي بعده رضي الله عنهم.
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: كنت ببصرى من أرض الشام فأدخلني النصارى ديرا كبيرا فيه تصاوير كثيرة، فإذا بصورة رسول الله
- صلى الله عليه وسلم وصورة أبي بكر رضي الله عنه وهو آخذ بعقب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هل ترى صورة صاحبكم؟ قلت: نعم ولا أخبركم حتى أرى ما تقولون، قالوا: هو هذا، قلت: نعم أشهد أنه هو، قالوا: أتعرف هذا الذي آخذ بعقبه؟ قلت: نعم، قالوا: أتشهد أنه الخليفة بعده؟ قال وذلك في ابتداء الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة يومئذ. أورده المحب الطبري.
ثم إنه مما ألجأ الصحابة رضي الله عنهم إلى المبادرة بعقد البيعة للصديق رضي الله عنه مع ما قد عرفوا من الفضل مع ما أبان الله به فضله وأظهر به شأنه وغزارة علمه ونبله:
فمنها: ثباته عند اختلافهم في موت النبي صلى الله عليه وسلم واختلال عقول أشدهم بأسا عند تلك الصدمة العظيمة، فخطبهم وقرر لهم موت النبي صلى الله عليه وسلم وعزاهم به، وقوى عزائمهم على الصبر ونصرة الدين والثبات على ما كان عليه نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله رضي الله عنه:"أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت"، ثم تلا قوله تعالى:{إنك ميت وإنهم ميتون} وقوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين} فكأنهم لم يسمعوا قبل مقامه ذلك بهذه الآية، فحمدوا الله واسترجعوا وصبروا وثبتوا ولو كان الخطب عظيما.
ثم قال لهم ليجمع شملهم على الهدى: {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} ، إنه لا بد لهذا الدين ممن يقوم به. ولم يدعهم قط إلى نفسه ولا طلب انقيادهم له خاصة، فأناب الكل إلى قوله، إلا أن الأنصار رضي الله عنهم قالوا: صدقت، ولكن منا أمير ومنكم أمير، أي لأنهم كانوا ممتازين أيام الرسول، فالمهاجرون حيز والأنصار حيز، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يؤمر على المهاجرين رجلا منهم، وعلى الأنصار رجلا منهم، مع أنهم كلهم مآل أمرهم إليه. فعرفهم الصديق أن القائم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه، فيجب الإجماع على الولاية العظمى، وتلك ولاية في بعض الأحوال تكون بنظر الإمام، فلا يجوز أن تكون الإمامة إلا لشخص واحد، ثم يجب أن يكون قرشيا لقوله صلى الله عليه وسلم:«الأئمة من قريش» وأيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} وقد سمانا الصادقين في قوله تعالى: {للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون} .
فقد أمركم الله أن تكونوا معنا تبعا فأذعنوا له، واعترفوا بغزارة علمه، فعقدوا له البيعة كارها.
ثم اختلفوا في موضع يقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قال ينقل إلى مكة لأنها مسقط رأسه ومنشأه ومقام أبيه إبراهيم وحرم الله الأعظم،
وقال قوم بل ينقل إلى بيت المقدس عند أبيه إبراهيم وإخوانه الأنبياء والمرسلين، وقال قوم بل يقبر في البقيع بالمدينة عند أصحابه لأنها قد صارت دار هجرته والبقيع بالباء هي المقبرة التي أمر بها صلى الله عليه وسلم، فتنازعوا في ذلك فرجعوا إليه، فقال سمعته صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الأنبياء تدفن حيث تقبض أرواحهم" أو كما قال، فدفنوه في حجرته فزال عنهم الخلاف، واطمأنت قلوبهم ببركته رضي الله عنه.
ولم يزالوا يتعرفون بركة رأيه وغزارة علمه وثبات جأشه، فأول شيء اختلفوا فيه بعد دفن النبي صلى الله عليه وسلم وعقد البيعة له جيش أسامة بن زيد رضي الله عنه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم أمره على جيش ومات والجيش مجموع بظاهر المدينة. فأشار جمهور الصحابة على أبي بكر بتخليفه ليكون عونا للمسلمين خشية أن يحدث على المدينة حدث قبل استقرار الأمر، فأبى إلا تنفيذه لجهته وقال:"والله لو جرت الكلاب بأرجل أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ما حللت لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، ويكون ذلك أول شيء أبدأ به في أمري"، فنفذه لشأنه فحمدوا عاقبته وبركة رأيه لما في ذلك من الإرجاف لكثير من أعداء الدين. وكانت الأعراب التي حول المدينة قد أشاعوا الردة، فلما رأوا ذلك قالوا: والله ما تجاسر هؤلاء على تجهيز الجيوش مبادرة إلا وأمرهم مجتمع وشملهم متحد، فانكسر به حدهم.
ثم من العرب من ارتد كبني حنيفة، ومنهم من منع الزكاة فقط، فعزم على قتال الكل فنازعه الصحابة أولا في قتال مانعي الزكاة، وقالوا كيف نقاتلهم