المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيكلام أهل العلم على الأحاديث السابقة - الخصال المكفرة للذنوب

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر:

- ‌ثانياً: توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد:

- ‌ثالثاً: أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد:

- ‌المبحث الأولالخصال المكفرة للذنوب

- ‌أولاً: الوضوء وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها:

- ‌ثانياً: الصلوات الخمس:

- ‌ثالثاً: موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة:

- ‌رابعاً: المشي إلى المساجد:

- ‌خامساً: المحافظة على صلاة الجمعة:

- ‌سادساً: صيام نهار رمضان وقيام ليله وقيام ليلة القدر:

- ‌سابعاً: صيام عاشوراء:

- ‌ثامناً: صيام يوم عرفه:

- ‌تاسعاً: الحج والعمرة:

- ‌عاشراً: الصدقة:

- ‌أحد عشر: الحمدُ بعد الطعام:

- ‌ثاني عشر: المرض والتعب:

- ‌المبحث الثانيكلام أهل العلم على الأحاديث السابقة

- ‌المبحث الثالثتكفير الحج للذنوب وكلام أهل العلم في ذلك

- ‌المبحث الرابعكلام أهل العلم في قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)

- ‌المبحث الخامسترجمة الخطيب الشربيني

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌شيوخه وثناء العلماء عليه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصادر ترجمته:

- ‌المبحث السادسوصف المخطوطة

- ‌الخِصالُ المُكَفِّرَةُ للذنوب

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المبحث الثانيكلام أهل العلم على الأحاديث السابقة

‌المبحث الثاني

كلام أهل العلم على الأحاديث السابقة

يؤخذ من هذه الأحاديث أن الأعمال الصالحة المذكورة تكفر الذنوب والخطايا، إلا أن أهل العلم قد اختلفوا في دخول الكبائر ضمن ما تكفره الأعمال الصالحة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب، وأما الكبائر فلا تُكَفَّر بمجرد فعل الأعمال الصالحة، بل لا بد من التوبة بشروطها حتى تُكَفَّر. نيل الأوطار 3/ 57.

قال القاضي عياض: [هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تُؤتَ كبيرةٌ، هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله] شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 446. وانظر نيل الأوطار 3/ 57.

وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) فإذا كانت الصلاة مقرونة بالوضوء لا تكفر الكبائر فانفراد الوضوء بالتقصير عن ذلك أحرى) عارضة الأحوذي 1/ 13.

ص: 39

وقال الحافظ ابن عبد البر: [وقال بعض المنتمين إلى العلم من أهل عصرنا: إن الكبائر والصغائر يكفرها الصلاة والطهارة واحتج بظاهر حديث الصنابجي هذا وبمثله من الآثار وبقوله صلى الله عليه وسلم: (فما ترون ذلك يبقى من ذنوبه)، وما أشبه ذلك.

هذا جهل بيِّن ومواقفه للمرجئة فيما ذهبوا إليه من ذلك، وكيف يجوز لذي لب أن يحمل هذه الآثار على عمومها، وهو يسمع قول الله عز وجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8، وقوله تبارك وتعالى:(وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31 في آي كثير من كتابه.

ولو كانت الطهارة والصلاة وأعمال البر مكفرة للكبائر والمتطهر المصلي غير ذاكر لذنبه الموبق ولا قاصد إليه ولا حضره في حينه ذلك أنه نادم عليه ولا خطرت خطيئته المحيطة به بباله لما كان لأمر الله عز وجل بالتوبة معنى، ولكان كل من توضأ وصلى يُشهَدُ له بالجنة بأثر سلامه من الصلاة وإن ارتكب قبلها ما شاء من الموبقات الكبائر وهذا لا يقوله أحد ممن له فهم صحيح.

وقد أجمع المسلمون أن التوبة على المذنب فرض والفروض لا يصح أداء شيء منها إلا بقصد ونية واعتقاد أن لا عودة، فأما أن يصلي وهو

ص: 40

غير ذاكر لما ارتكب من الكبائر ولا نادم على ذلك فمحال وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة)، وقال صلى الله عليه وسلم:(الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن من الخطايا ما لم تغش الكبائر).

وعن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما لمن اجتنب الكبائر).

وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [الصلوات الخمس كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر].

عن طارق بن شهاب سمع سلمان الفارسي رضي الله عنهم يقول: [حافظوا على هذه الصلوات الخمس فإنهن كفارة هذه الجراح ما لم تصب المقتلة].

عن سليمان بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أحدثكم عن يوم الجمعة؟ لا يتطهر رجل ثم يأتي يوم الجمعة فيجلس وينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كانت له كفارة ما بين الجمعة إلى الجمعة ما اجتنبت الكبائر).

عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحدثك عن يوم الجمعة؟ من تطهر وأتى الجمعة حتى يقضي الإمام صلاته كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها ما اجتنبت المقتلة).

ص: 41

وهذا يبين لك ما ذكرنا ويوضح لك أن الصغائر تكفر بالصلوات الخمس لمن اجتنب الكبائر فيكون على هذا معنى قول الله عز وجل: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة النساء الآية 31 الصغائر بالصلاة والصوم والحج وأداء الفرائض وأعمال البر، وإن لم تجتنبوا الكبائر ولم تتوبوا منها لم تنتفعوا بتكفير الصغائر إذا واقعتم الموبقات المهلكات والله أعلم.

وهذا كله قبل الموت فإن مات صاحب الكبيرة فمصيره إلى الله، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه فإن عذبه فبجرمه وإن عفا عنه فهو أهل العفو وأهل المغفرة وإن تاب قبل الموت وقبل حضوره ومعاينته وندم واعتقد أن لا يعود واستغفر ووجل كان كمن لم يذنب، وبهذا كله الآثار الصحاح عن السلف قد جاءت وعليه جماعة علماء المسلمين، ولو تدبر هذا القائل الحديث الذي فيه ذكر خروج الخطايا من فمه وأنفه ويديه ورجليه ورأسه، لعلم أنها الصغائر في الأغلب ولعلم أنها معفو عنها بترك الكبائر دليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(العينان تزنيان واليدان تزنيان والفم يزني ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه) يريد والله أعلم أن الفرج بعمله يوجب المهلكة وما لم يكن ذلك فأعمال البر يغسلن ذلك كله وقد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به جاهل فينهمك في الموبقات اتكالاً على

ص: 42

أنها تكفرها الصلوات الخمس ودون الندم عليها والاستغفار والتوبة منها والله أعلم ونسأله العصمة والتوفيق] فتح المالك بتبويب التمهيد لابن عبد البر على موطأ الإمام مالك 1/ 354 - 357.

وقال ابن رجب الحنبلي: [وقد اختلف الناس في مسألتين: إحداهما هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر؟ أم لا تكفر سوى الصغائر؟ منهم من قال: لا تكفر سوى الصغائر. وقد روي هذا عن عطاء وغيره من السلف في الوضوء أنه يكفر الصغائر.

وقال سلمان الفارسي في الوضوء: [إنه يكفر الجراحات الصغار والمشي إلى المسجد يكفر أكبر من ذلك والصلاة تكفر أكبر من ذلك] خرَّجه محمد بن نصر المروزي.

وأما الكبائر فلا بد لها من التوبة، لأن الله أمر العباد بالتوبة، وجعل من لم يتب ظالماً، واتفقت الأمة على أن التوبة فرض، والفرائض لا تؤدى إلا بنية وقصد، ولو كانت الكبائر تقع مكفرة بالوضوء والصلاة وأداء بقية أركان الإسلام، لم يحتج إلى التوبة، وهذا باطل بالإجماع.

وأيضاً فلو كفرت الكبائر بفعل الفرائض، لم يبق لأحدٍ ذنبٌ يدخل به النار إذا أتى بالفرائض، وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل، هذا ما ذكره ابن عبد البر في كتابه التمهيد، وحكى إجماع المسلمين على

ص: 43

ذلك، واستدل عليه بأحاديث: منها قوله صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر) وهو مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة، وهذا يدل على أن الكبائر لا تكفرها هذه الفرائض.

وقد حكى ابن عطية في تفسيره في معنى هذا الحديث قولين: أحدهما عن جمهور أهل السنة أن اجتناب الكبائر شرط لتكفير هذه الفرائض للصغائر، فإن لم يجتنب لم تكفر هذه الفرائض شيئاً بالكلية، والثاني: أنها تكفر الصغائر مطلقاً ولا تكفر الكبائر إن وجدت، لكن يشترط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها. ورجَّح هذا القول وحكاه عن الحذَّاق.

وقوله: بشرط التوبة من الصغائر وعدم الإصرار عليها، مراده أنه إذا أصر عليها صارت كبيرة فلم تكفرها الأعمال.

والقول الأول الذي حكاه غريب مع أنه قد حُكي عن أبي بكر عبد العزيز بن جعفر من أصحابنا مثله.

وفي صحيح مسلم عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله). وفي مسند الإمام أحمد عن سلمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتطهر

ص: 44

الرجل - يعني يوم الجمعة - فيحسن طهوره ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته إلا كان كفارة ما بينه وبين الجمعة المقبلة ما اجتنبت الكبائر المقتلة).

وخرَّج النسائي وابن حبان والحاكم من حديث أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان ويخرج الزكاة ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له ادخل بسلام).

وخرَّج الإمام أحمد والنسائي من حديث أبي أيوب عن النبي صلى الله عليه وسلم معناه أيضاً.

وخرَّج الحاكم معناه من حديث عبد الله بن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم.

ويروى من حديث ابن عمر مرفوعاً: (يقول الله عز وجل: ابن آدم اذكرني من أول النهار ساعة ومن آخر النهار ساعة أغفر لك ما بين ذلك إلا الكبائر أو تتوب منها).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر].

وقال سلمان رضي الله عنه: [حافظوا على الصلوات الخمس فإنهن كفارات لهذه الجوارح ما لم تصب المقتلة]. وقال ابن عمر رضي الله عنه لرجل:

ص: 45

[أتخاف النار أن تدخلها وتحب الجنة أن تدخلها؟ قال: نعم. قال: برَّ أمك فوالله لئن ألنت لها الكلام وأطعمتها الطعام لتدخلن الجنة ما اجتنبت الكبائر].

وقال قتادة: [إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنب الكبائر وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا الكبائر وسددوا وأبشروا)] جامع العلوم والحكم ص214 - 215.

وقال الزركشي: [وأما ما ورد من إطلاق غفران الذنوب جميعها على فعل بعض الطاعات من غير توبة لحديث (الوضوء يكفر الذنوب) وحديث (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) (ومن صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) (ومن حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) ونحوه، فحملوه على الصغائر، فان الكبائر لا يكفرها غير التوبة].

المنثور 1/ 415 - 416.

وقال ابن مفلح: [وتكفر طهارة وصلاة ورمضان وعرفة وعاشوراء الصغائر فقط، قال شيخنا وكذا حج، لأن الصلاة ورمضان أعظم منه

] الفروع 6/ 183 - 184.

ص: 46

وقال أبو الحسن المالكي: [والمراد بالذنوب التي يكفرها القيام الصغائر التي بينه وبين ربه، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة] كفاية الطالب 1/ 579.

وقال الزرقاني: [ثم هذا مخصوص بالصغائر كما صرح به في أحاديث أخر، قال الحافظ ظاهره يعم الكبائر والصغائر، لكن العلماء خصوه بالصغائر لوروده مقيداً باستثناء الكبائر في غير هذه الرواية، وهو في حق من له كبائر وصغائر، فمن ليس له إلا صغائر كفرت عنه، ومن ليس له إلا الكبائر خفف عنه منها بمقدار ما لصاحب الصغائر، ومن ليس له صغائر ولا كبائر يزاد في حسناته بنظير ذلك] شرح الزرقاني 1/ 99.

وقال الزرقاني أيضاً: [وخص العلماء هذا ونحوه من الأحاديث التي فيها غفران الذنوب بالصغائر، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، لحديث الصحيحين (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان كفارات لما بينها ما اجتنبت الكبائر) فجعلوا التقييد في هذا الحديث مقيداً للإطلاق في غيره] شرح الزرقاني 1/ 104.

وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي: [في الصحيحين وفي الموطأ عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمر بعزيمة فيقول من قام رمضان إيماناً واحتساباً

ص: 47

غفر له ما تقدم من ذنبه) والمراد ذنوبه الصغائر، وأما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة أو عفو الله]. الفواكه الدواني 1/ 317.

وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي أيضاً: [وأما الكبائر المفعولة في تلك المدة، فلا يكفرها إلا التوبة أو محض العفو] الفواكه الدواني 1/ 77.

وجاء في المعيار المعرب: [وسئل بما نصه سيدنا الشيخ حجة الإسلام أبو محمد عبد العزيز الفضل في أن يبين ما جهله بعض الفقهاء من جوابه للسائل: هل تسقط عن الحاج حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين أم لا؟

فأجاب: بأن ذلك لا يسقط فقال المعترض: أما حقوق الآدميين فلا تسقط وأما حقوق الله تعالى فالله يغفرها فإن هذا سدَّ بابَ الرحمة عن العباد وذلك يؤدي إلى أن لا يحج أحد. وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:

(من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وذكر حديث يوم عرفة وتجاوز الله فيه عن الذنوب العظام، وأن الله يسامح عباده في حقوقه بخلاف حقوق العباد وقال: بدليل أنه أسقط عن العبد الجمعة، لأنه في خدمة سيده. وبدليل الحديث: (إن الظلم ثلاث: ظلم لا يغفره الله تعالى، وظلم لا يتركه الله، وظلم لا يعبأ به. فأما الظلم الذي لا يغفره الله فهو الشرك وأما الظلم الذي لا

ص: 48

يتركه الله فهو ظلم العباد بعضهم لبعض وأما الظلم الذي لا يعبأ به فظلم العبد بينه وبين الله تعالى).

فأجاب: هذا المعترض جاهلٌ لا يفرق بين حقوق الله تعالى المقربة إليه الموجبة لثوابه وبين معصية الله المبعدة منه الموجبة لعقابه فإن حقوق الله تعالى هي الإيمان والإسلام وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت والصدقات والكفارات وأنواع العبادات قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حق الله عز وجل على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة).

وأما الذنوب فهي مخالفة الله تعالى ومعصيته فالحج يسقط ذنوب المخالفة ولا يسقط حقوق الله تعالى كالصلاة والزكاة وأشباههما. فما أجهل من جعل طاعة الله وإجابته ذنوباً تغفر وإنما المغفور المخالفة لا عين الحقوق فمن ترك الصلاة أو الزكاة أو غيرهما من الحقوق فالحج يكفر عنه إثم التأخير لأنه هو الذنب وأما إسقاطه لما استقر في الذمة من صلاة أو زكاة أو نذر فهذا خلاف إجماع المسلمين وحسبه بجهل من يخالف إجماع المسلمين.

ثم يزعم أن ذكر ما أجمعوا عليه سد لباب رحمة الله تعالى عن عباده منفر عن الحج ولو عرف هذا الغبي أن ذكر ما أجمع عليه المسلمون ليس بمنفر بل هو موجب للمحافظ على حقوق الله تعالى والخوف

ص: 49

والوجل اللازم عن معصية الله تعالى ما زعم أنه تنفير ولو أفتى أحد من أهل الفتيا بأن الحج يسقط شيئاً من حقوق الله تعالى ثم يحج إسقاطاً لجميع حقوق الله تعالى فالذي يوجبه الحج الذي اجتنب فيه الرفث والفسوق، إنما هو إسقاط المعاصي والمخالفات وليست حقوق الله تعالى معصية ولا مخالفة حتى تندرج في الحديث فيخرج من هذا وجوب تعزير هذا الجاهل المحرف لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صريحه وما افتراه على ذلك حتى قال من زعم أن الحقوق لا تسقط بالحج كان مؤيساً للناس من الرحمة ويلزمها أن يكون المسلمون قد سدوا باب الرحمة لإجماعهم أن الحج لا يسقط حقوق الله تعالى فمن أخر الكفارات أو النذر أو الصلاة أو الزكاة أو الصوم على أوقاتها التي أوجبها الله تعالى فيها كان عاصياً بمجرد التأخير فتلك المعصية هي التي يكفرها الحج المبرور.

وأما إسقاط تلك الحقوق بالحج فهذا شيء لم ينقله أحد من أهل العلم وأضرها على المسلمين جاهل مثل هذا يقول ما لم يقله أحد من أهل الإسلام ثم يفتي أن ذكر ما أجمع عليه المسلمون سد لباب رحمة الله تعالى: (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) سورة المجادلة الآية 18] المعيار المعرب 11/ 87 - 89.

ص: 50

وقال الزركشي: [وقال المحب الطبري في أحكامه اختلف العلماء في أن تكفير الصغائر بالعبادات هل هو مشروط باجتناب الكبائر على قولين: أحدهما نعم وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم ما اجتنب الكبائر وظاهرة الشرطية فإذا اجتنت كانت مكفرات لها وإلا فلا].

وذكر ابن عطية في تفسيره أن هذا قول الجمهور وقال بعضهم لا يشترط والشرط في الحديث بمعنى الاستثناء والتقدير مكفرات ما بينهن الا الكبائر قال وهذا أظهر لمطلق حديث خروج الخطايا من أعضاء الوضوء مع قطر الماء.

واختلفوا في أن التكفير هل يشترط في التوبة ولعل الخلاف مبني على التأويلين فمن جعل اجتناب الكبائر شرطاً في تكفير الصغائر لم يشترط التوبة وجعل هذه خصوصية لمجتنب الكبائر ومن لم يشترطه اشترط التوبة وعدم الإصرار ويدل عليه حديث الذي قبل المرأة ثم ندم فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن صلاة العصر كفرت عنه وكان الندم قد تقدم منه والندم توبة لكن ظاهر إطلاق الحديث يقتضي أن التكفير كان بنفس الصلاة فان التوبة بمجردها تجب ما قبلها فلو اشترطناها مع العبادات لم تكن العبادات مكفرة وقد ثبت أنها مكفرات فسقط اعتبار التوبة معها.

ص: 51

والحاصل أن قوله ما اجتنبت الكبائر هل هو قيد في التكفير حتى لو كان مصراً على الكبائر لم يغفر له شيء من الصغائر أو هو قيد التعميم أي تعميم المغفرة فعلى هذا تغفر الصغائر وإن ارتكب الكبائر والأقرب الثاني وإلا لم يكن لذلك تأثير في التكفير لأن الصغائر تكفر باجتناب الكبائر بدليل قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ).

قال صاحب الإحياء: واجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة

] المنثور 1/ 418 - 420.

القول الثاني: ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الأعمال الصالحة تكفر الذنوب مطلقاً أي الصغائر والكبائر وهو قول ابن المنذر وابن حزم وجماعة من أهل العلم المتقدمين وبه قال العلامة الألباني والشيخ أحمد البنا من المتأخرين.

قال ابن رجب الحنبلي: [وذهب قوم من أهل الحديث وغيرهم إلى أن هذه الأعمال تكفر الكبائر ومنهم ابن حزم الظاهري وإياه عنى ابن عبد البر في كتاب التمهيد بالرد عليه وقال: قد كنت أرغب بنفسي عن الكلام في هذا الباب لولا قول ذلك القائل وخشيت أن يغتر به

ص: 52

جاهل فينهمك في الموبقات اتكالاً على أنها تكفرها الصلوات دون الندم والاستغفار والتوبة والله أسأله العصمة والتوفيق.

قلت: وقد وقع مثل هذا في كلام طائفة من أهل الحديث في الوضوء ونحوه ووقع مثله في كلام ابن المنذر في قيام ليلة القدر قال: يرجى لمن قامها أن يغفر له جميع ذنوبه كبيرها وصغيرها] جامع العلوم والحكم ص 215.

وقال الحافظ ابن حجر: [قوله صلى الله عليه وسلم: (رجع كيوم ولدته أمه) أي بغير ذنب وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري] فتح الباري 3/ 482.

وقال الزركشي: [ونازع في ذلك صاحب الذخائر: وقال فضل الله أوسع وكذلك قال ابن المنذر في الإشراف في كتاب الاعتكاف في قوله صلى الله عليه وسلم: (من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) قال: يغفر له جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها.

وحكاه ابن عبد البر في التمهيد عن بعض المعاصرين له، قيل يريد به أبا محمد الأصيلي المحدث إن الصغائر والكبائر يكفرها الطهارة والصلاة لظاهر الأحاديث] المنثور 1/ 417 - 418

ص: 53

وقال ابن مفلح: [

ونقل المروزي: بر الوالدين كفارة للكبائر، وفي الصحيحين أو الصحيح (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما)، قال ابن هبيرة: [فيه إشارة إلى أن كبار الطاعات يكفر الله ما بينهما لأنه لم يقل كفارة لصغار ذنوبه بل إطلاقه يتناول الصغائر والكبائر قال: وقوله (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) أي زادت قيمته فلم يقاومه شيء من الدنيا.

وقوله (فلم يرفث ولم يفسق) أي أيام الحج فيرجع ولا ذنب له وبقي حجه فاضلاً له لأن الحسنات يذهبن السيئات] الفروع 6/ 183 - 184.

وقال الشوكاني: [إن الحسنات يذهبن السيئات، أي إن الحسنات على العموم ومن جملتها بل عمادها الصلاة يذهبن السيئات على العموم، وقيل المراد بالسيئات الصغائر، ومعنى يذهبن السيئات يكفرنها حتى كأنها لم تكن] تفسير فتح القدير 2/ 532.

وقال المباركفوري: [وتمسك بظاهر قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) المرجئة وقالوا إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة]. تحفة الأحوذي 8/ 425.

وقال الشيخ الألباني: [قال الإمام النووي: معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن

ص: 54

كبيرة فإن كانت لا يغفر شيء من الصغائر فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الحديث يأباه.

قال القاضي عياض رحمه الله: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله والله أعلم.

قلت - أي الألباني -: هذا الحصر ينافي الاستفهام التقريري في الحديث الذي قبله (هل يبقى من درنه شيء؟) كما هو ظاهر، فإنه لا يمكن تفسيره على أن المراد به الدرن الصغير فلا يبقى منه شيء وأما الدرن الكبير فيبقى كله كما هو! فإن تفسير الحديث بهذا ضرب له في الصدر كما لا يخفى. وفي الباب أحاديث أخرى لا يمكن تفسيرها بالحصر المذكور كقوله صلى الله عليه وسلم:(من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وسيأتي إن شاء الله تعالى.

فالذي يبدو لي والله أعلم أن الله تعالى زاد في تفضله على عباده فوعد المصلين منهم بأن يغفر لهم الذنوب جميعاً وفيها الكبائر بعد أن كانت المغفرة خاصة بالصغائر ولعله مما يؤيد هذا قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة النساء الآية 31. فإذا كانت الصغائر تكفر بمجرد اجتناب الكبائر فالفضل الإلهي يقتضي أن تكون للصلاة وغيرها من العبادات فضيلة أخرى تتميز بها

ص: 55

على فضيلة اجتناب الكبائر ولا يبدو أن ذلك يكون إلا بأن تكفر الكبائر والله تعالى أعلم.

ولكن ينبغي على المصلين أن لا يغتروا فإن الفضيلة المذكورة لا شك أنه لا يستحقها إلا من أقام الصلاة وأتمها وأحسن أدائها كما أمر وهذا صريح في حديث عقبة المتقدم: (من توضأ كما أمر وصلى كما أمر غفر له ما تقدم من عمل). وأنى لجماهير المصلين أن يحققوا الأمرين المذكورين ليستحقوا مغفرة الله وفضله العظيم فليس لنا إلا أن ندعو الله أن يعاملنا برحمته وليس بما نستحقه من أعمالنا] صحيح الترغيب والترهيب ص140 - 141.

وقال الشيخ أحمد البنا: [قلت ظاهر الحديث يدل على غفران الذنوب التي قبل الحج كلها صغيرها وكبيرها مطلقاً وفضل الله واسع ويؤيد ذلك ما جاء في صحيح مسلم في كتاب الإيمان في (باب كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الحج والهجرة) من حديث عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله الحديث) ومعنى يهدم ما كان قبله أي يسقطه ويمحو أثره] الفتح الرباني 11/ 7.

ص: 56

وقال الشيخ أحمد البنا أيضاً: [أحاديث الباب مع الزوائد تدل على فضل الحج والعمرة وأنهما يمحوان الذنوب كلها صغيرها وكبيرها إذا حسنت النية وتمحض الإخلاص لله عز وجل وتقدم الكلام في الشرح على ما قاله العلماء في ذلك.

وحديث العباس بن مرداس الذي أشار إليه الحافظ (في الكلام على قوله في حديث أبي هريرة رجع كهيئته يوم ولدته أمه) رواه ابن ماجة عن عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة، فأجيب أني قد غفرت لهم ما خلا الظالم فإني آخذ للمظلوم منه قال: أي رب إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم، فلم يجب عشية عرفة، فلما أصبح بالمزدلفة أعاد الدعاء فأجيب إلى ما سأل، قال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال تبسم فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها فما الذي أضحكك؟ أضحك الله سنك. قال: إن عدو الله إبليس لما علم أن الله قد استجاب دعائي وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه ويدعو بالويل والثبور فأضحكني ما رأيت من جزعه) وأورده المنذري أيضاً وقال رواه البيهقي من حديث ابن كنانة بن العباس بن مرداس ولم يسمه عن أبيه عن جده عباس ثم قال: وهذا الحديث له

ص: 57

شواهد كثيرة وقد ذكرناها في كتاب البعث. فإن صح بشواهده ففيه الحجة وإن لم يصح فقد قال تعالى: (وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) وظلم بعضهم بعضاً دون الشرك] الفتح الرباني 11/ 13 - 14.

قلت: وحديث عباس بن مرداس السابق رواه ابن ماجة 2/ 1002 والبيهقي في شعب الإيمان حديث رقم 346 وذكره المنذري في الترغيب والترهيب. وهو حديث ضعيف، قال في الزوائد: في إسناده عبد الله بن كنانة، قال البخاري: لم يصح حديثه ولم أرَ من تكلم فيه بجرح ولا توثيق. الزوائد بهامش سنن ابن ماجة 2/ 1002.

وقال الشيخ الألباني: إنه حديث ضعيف، انظر ضعيف الترغيب والترهيب 1/ 368.

القول الراجح:

وبعد هذا العرض لكلام أهل العلم في هذه المسألة يظهر لي رجحان قول من قال إن الأعمال الصالحة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها وأنه لا بد من التوبة بشروطها من الكبيرة حتى تكفر.

قال الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم

ص: 58

خمساً ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقي من درنه شيئاً. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به الخطايا).

قال الحافظ ابن حجر: [وظاهره أن المراد بالخطايا في الحديث ما هو أعمّ من الصغيرة والكبيرة، لكن قال ابن بطال: يؤخذ من الحديث أن المراد الصغائر خاصة، لأنه شبه الخطايا بالدرن والدرن صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه من القروح والخراجات انتهى. وهو مبني على أن المراد بالدرن في الحديث الحب والظاهر أن المراد به الوسخ لأنه هو الذي يناسبه الاغتسال والتنظف. وقد جاء من حديث أبي سعيد الخدري التصريح بذلك وهو فيما أخرجه البزار والطبراني بإسناد لا بأس به من طريق عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري يحدث أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرأيت لو أن رجلاً كان له معتمل وبين منزله ومعتمله خمسة أنهار فإذا انطلق إلى معتمله عمل ما شاء الله فأصابه وسخ أو عرق فكلما مرَّ بنهر اغتسل منه) الحديث. ولهذا قال القرطبي: ظاهر الحديث أن الصلوات الخمس تستقل بتكفير جميع الذنوب وهو مشكل لكن روى مسلم قبله حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعاً: (الصلوات الخمس كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر) فعلى هذا المقيد يحمل ما أطلق في غيره] فتح الباري 2/ 17.

ص: 59

وقال الحافظ أيضاً في شرحه لحديث سلمان رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى). ما نصه:

[ودل التقييد بعدم غشيان الكبائر على أن الذي يكفر من الذنوب هو الصغائر فتحمل المطلقات كلها على هذا المقيد وذلك أن معنى قوله:

(ما لم تغش الكبائر) أي فإنها إذا غشيت لا تكفر وليس المراد أن تكفير الصغائر شرطه اجتناب الكبائر. إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفرها كما نطق به القرآن ولا يلزم من ذلك أن لا يكفرها إلا اجتناب الكبائر وإذا لم يكن للمرء صغائر تكفر رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك وهو جار في جميع ما ورد في نظائر ذلك والله أعلم] فتح الباري 2/ 479.

وقال الحافظ ابن حجر أيضاً: [وتمسك بظاهر قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) سورة هود الآية 114 المرجئة وقالوا: إن الحسنات تكفر كل سيئة كبيرة كانت أو صغيرة وحمل الجمهور هذا المطلق على المقيد في الحديث الصحيح: (إن الصلاة إلى الصلاة كفارة لما بينها ما اجتنبت الكبائر) فقال طائفة: إن اجتنبت الكبائر كانت الحسنات

ص: 60

كفارة لما عدا الكبائر من الذنوب وإن لم تجتنب الكبائر لم تحط الحسنات شيئاً] فتح الباري 8/ 453.

وقال الحافظ أبو العباس القرطبي المحدث: [(وقوله إذا اجتنبت الكبائر) يدل على أن الكبائر إنما تغفر بالتوبة المعبر عنها بالاجتناب في قوله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) سورة النساء الآية 31. وقد تقدم القول في الكبائر ما هي فقوله: (حتى يخرج نقياً من الذنوب) يعني به: الصغائر ولا بُعدَ في أن يكون بعض الأشخاص تغفر له الكبائر والصغائر بحسب ما يحضره من الإخلاص بالقلب ويراعيه من الإحسان والأدب وذلك فضل له يؤتيه من يشاء] المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم 1/ 492.

وقال الإمام ابن العربي المالكي: [الخطايا المحكوم بمغفرتها هي الصغائر دون الكبائر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر)] عارضة الأحوذي 1/ 13.

وقال ابن رجب الحنبلي: [والأظهر والله أعلم في هذه المسألة: أعني مسألة تكفير الكبائر بالأعمال إن أريد أن الكبائر تمحى بمجرد الإتيان بالفرائض وتقع الكبائر مكفرة بذلك كما تكفر الصغائر باجتناب الكبائر فهذا باطل وإن أريد أنه قد يوازن يوم القيامة بين الكبائر وبين بعض

ص: 61

الأعمال فتمحى الكبيرة بما يقابلها من العمل ويسقط العمل فلا يبقى له ثواب فهذا قد يقع. وقد تقدم عن ابن عمر أنه لما أعتق مملوكه الذي ضربه قال: ليس لي فيه من الأجر شيء، حيث كان كفارة لذنبه ولم يكن ذنبه من الكبائر فكيف بما كان من الأعمال مكفراً للكبائر.

وسبق أيضاً قول من قال من السلف: إن السيئة تمحى ويسقط نظيرها حسنة من الحسنات التي هي ثواب العمل، فإذا كان هذا في الصغائر فكيف بالكبائر؟ فإن بعض الكبائر قد يحبط بعض الأعمال المنافية لها كما يبطل المن والأذى الصدقة، وتبطل المعاملة بالربى الجهاد كما قالت عائشة. وقال حذيفة: قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة. وروي عنه مرفوعاً، خرَّجه البزار في مسنده والحاكم من حديث ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(يؤتى بحسنات العبد وسيئاته يوم القيامة فيقص ويقضى بها بعضها من بعض فإن بقيت له حسنة وسع له بها في الجنة).

وخرَّج ابن أبي حاتم من حديث ابن لهيعة قال: حدثني عطاء بن دينار عن سعيد بن جبير في قول الله عز وجل: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ) سورة الزلزلة آية 7. قال: كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه فيجيء المسكين فيستقلون أن

ص: 62

يعطوه تمرة وكسرة وجوزة ونحو ذلك فيردونه ويقولون: ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما يعطى ونحن نحبه وكانوا يرون أنهم لا يلامون على الذنب اليسير مثل الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك، يقولون إنما وعد الله النار على الكبائر فرغبهم الله في القليل من الخير أن يعمله فإنه يوشك أن يكثر وحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر فنزلت:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) يعني ذرة أصغر النمل (خَيْرًا يَرَهُ) يعني في كتابه ويسره ذلك قال يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة واحدة سيئة وبكل حسنة عشر حسنات فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمن أيضاً بكل واحدة عشراً فيمحو عنهم بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته على سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة. وظاهر هذا أنه يقع المقاصة بين الحسنات والسيئات ثم يسقط الحسنات المقابلة للسيئات وينظر إلى ما يفضل منها بعد المقاصة.

وهذا يوافق قول من قال: بأن من رجحت حسناته على سيئاته بحسنة واحدة أثيب بتلك الحسنة خاصة وتسقط باقي حسناته في مقابلة سيئاته خلافاً لمن قال: يثاب بالجميع وتسقط سيئاته كأنها لم تكن وهذا في الكبائر.

أما الصغائر فإنه قد تمحى بالأعمال الصالحة مع بقاء ثوابها كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحق الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟

ص: 63

إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة) فأثبت لهذه الأعمال تكفير الخطايا ورفع الدرجات.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له مائة مرة كتب الله له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له عدل عشر رقاب) فهذا يدل على أن الذكر يمحو السيئات ويبقى ثوابه لعامله ومضاعفاً وكذلك سيئات التائب توبة نصوحاً تكفر عنه وتبقى له حسناته كما قال الله تعالى:

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) سورة الأحقاف الآيات 15 - 16. وقال تعالى: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) سورة الزمر الآيات 33 - 35. فلما وصف هؤلاء بالتقوى والإحسان دل على

ص: 64

أنهم ليسوا بمصرين على الذنوب بل تائبون منها. وقوله: (لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا) يدخل فيه الكبائر لأنها أسوأ الأعمال.

وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا) سورة الطلاق آية 5، فرتب على التقوى المتضمنة لفعل الواجبات وترك المحرمات تكفير السيئات وتعظيم الأجر وأخبر الله عن المؤمنين المتفكرين في خلق السموات والأرض أنهم قالوا:(رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ) سورة آل عمران الآية 193، فأخبر أنه استجاب لهم ذلك وأنه كفر عنهم سيئاتهم وأدخلهم الجنات. وقوله:(فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا) فخص الله الذنوب بالمغفرة والسيئات بالتكفير فقد يقال: السيئات تخص الصغائر والذنوب يراد بها الكبائر فالسيئات تكفر لأن الله جعل لها كفارات في الدنيا شرعية وقدرية والذنوب تحتاج إلى مغفرة تقي صاحبها من شرها أو المغفرة والتكفير يتقاربان فإن المغفرة قد قيل إنها ستر الذنوب وقيل: وقاية شر الذنوب مع سترها.

ولهذا يسمى ما ستر الرأس ووقاه في الحرب مِغفراً ولا يسمى كل ساتر للرأس مِغفراً وقد أخبر الله عن الملائكة أنهم يدعون للمؤمنين التائبين

ص: 65

بالمغفرة ووقاية السيئات والتكفير من هذا الجنس لأن أصل الكفر الستر والتغطية أيضاً] جامع العلوم والحكم ص221 - 223.

ص: 66