المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالثتكفير الحج للذنوب وكلام أهل العلم في ذلك - الخصال المكفرة للذنوب

[الخطيب الشربيني]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌تمهيد

- ‌أولاً: تقسيم المعاصي إلى صغائر وكبائر:

- ‌ثانياً: توضيح المراد بحقوق الله وحقوق العباد:

- ‌ثالثاً: أثر التوبة على حقوق الله وحقوق العباد:

- ‌المبحث الأولالخصال المكفرة للذنوب

- ‌أولاً: الوضوء وقد جاء فيه أحاديث كثيرة منها:

- ‌ثانياً: الصلوات الخمس:

- ‌ثالثاً: موافقة تأمين المأموم لتأمين الملائكة:

- ‌رابعاً: المشي إلى المساجد:

- ‌خامساً: المحافظة على صلاة الجمعة:

- ‌سادساً: صيام نهار رمضان وقيام ليله وقيام ليلة القدر:

- ‌سابعاً: صيام عاشوراء:

- ‌ثامناً: صيام يوم عرفه:

- ‌تاسعاً: الحج والعمرة:

- ‌عاشراً: الصدقة:

- ‌أحد عشر: الحمدُ بعد الطعام:

- ‌ثاني عشر: المرض والتعب:

- ‌المبحث الثانيكلام أهل العلم على الأحاديث السابقة

- ‌المبحث الثالثتكفير الحج للذنوب وكلام أهل العلم في ذلك

- ‌المبحث الرابعكلام أهل العلم في قوله تعالى (إن الحسنات يذهبن السيئات)

- ‌المبحث الخامسترجمة الخطيب الشربيني

- ‌اسمه ونسبه:

- ‌شيوخه وثناء العلماء عليه:

- ‌مصنفاته:

- ‌وفاته:

- ‌مصادر ترجمته:

- ‌المبحث السادسوصف المخطوطة

- ‌الخِصالُ المُكَفِّرَةُ للذنوب

- ‌قائمة المصادر

الفصل: ‌المبحث الثالثتكفير الحج للذنوب وكلام أهل العلم في ذلك

‌المبحث الثالث

تكفير الحج للذنوب وكلام أهل العلم في ذلك

بعد أن استعرضت أقوال أهل العلم في بيان المراد بالذنوب التي تكفرها الأعمال الصالحة أذكر ما قالوه على وجه الخصوص في تكفير الحج للذنوب حيث إن هذه المسألة هي موضوع السؤال والجواب المذكورين في المخطوطة للخطيب الشربيني كما سيأتي:

فقد ورد في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه البخاري.

وعنه أيضاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق غفر له ما تقدم من ذنبه) رواه الترمذي ثم قال: حديث حسن صحيح. وغير ذلك من الأحاديث.

فهل الحج يكفر كل الذنوب الصغائر والكبائر؟ وهل يدخل في ذلك حقوق العباد؟

هذه الأحاديث ونحوها من العام المخصوص على الصحيح من أقوال أهل العلم فإن الحج وغيره من الطاعات كالوضوء والصلاة والعمرة تكفر صغائر الذنوب دون كبائرها ولا أثر للطاعات في إسقاط حقوق العباد

ص: 67

فلا بد من رد الحقوق لأصحابها ولا بد للمسلم من التوبة الصادقة من كبائر الذنوب.

قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا) سورة التحريم الآية 8.

وقال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) سورة النور الآية 31.

قال الخطيب الشربيني: [إنه يكفر الصغائر مطلقاً، وأما الكبائر المتعلقة بالآدمي فإن كانت مالية كدين فلا يكفر بل لا بد من وفاء دينه لما ورد (أن نفس المؤمن تحبس عن مقامها حتى يوفى في دينه)

نعم: إن كان معسراً وكان في عزمه أن يوفيه إذا قدر عليه ومات كذلك فإن هذا يكفر ويرضي الله تعالى عنه خصمه.

وأما ما يتعلق بغيبته ولم تبلغ صاحبها ولم يتب فإنها تكفر بذلك.

وأما إذا بلغت صاحبها فلا تكفر إلا بتحليله.

وأما الكبائر المتعلقة بحق الله تعالى فإن كان صلاة أو صوماً، فإنه يجب عليه قضاؤه ولا يكفر وإذا كان كتأخير لصلاة عن وقتها بغير عذر والصوم فهذا يكفر.

وأما الزنى واللواط، فإن ثبت عند حاكم بالشهادة فلا يكفر إلا بإقامة الحد عليه.

ص: 68

والحديث المذكور عام مخصوص فلا يمنع ما ذكر والله تعالى أعلم]. النص من المخطوطة وستأتي.

وقال ابن نجيم الحنفي: [فالحاصل أن المسألة ظنية وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله تعالى فضلا عن حقوق العباد وإن قلنا بالتكفير للكل فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن الدين يسقط عنه، وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكاة، إذ لم يقل أحد بذلك، وإنما المراد أن إثم مطل الدين وتأخيره يسقط ثم بعد الوقوف بعرفة إذا مطل صار آثما الآن، وكذا إثم تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء فإن لم يفعل كان آثما على القول بفوريته، وكذا البقية على هذا القياس، وبالجملة فلم يقل أحد بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفى]. البحر الرائق 2/ 364.

وقال ابن نجيم أيضاً: [فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم ولا يقطع فيهما بمحو الكبائر وإنما يكفران الصغائر]. المصدر السابق.

وقال الشيخ أحمد النفراوي المالكي: [

ما ورد في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حج هذا البيت ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) والرفث الجماع، وقيل الفحش من القول والفسوق المعاصي وفي الصحيحين أيضاً عنه عليه صلى الله عليه وسلم أنه قال:

ص: 69

(العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).

قال الحافظ: الحج المبرور الذي لم يتعمد فيه صاحبه معصية وقال عياض هو الذي لم يخالطه شيء من المأثم

ومن علامات القبول أن يزداد الشخص بعد فعله خيراً.

وقوله (خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، قال الحافظ ابن حجر: أي صار بلا ذنب وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات.

وقال الأبي قال القرطبي: أما الحج والعمرة فلا يهدمان إلا الصغائر وفي هدمهما للكبائر نظر، قال الأبي قلت: الأظهر هدمها ذلك.

وذكر القرافي أن الذي يسقطه الحج إثم مخالفة الله تعالى، فإن التشبيه بيوم الولادة يقتضي سقوط تبعات العباد وقضاء الصلوات والكفارت وليس كذلك. وأجاب بأن لفظ الذنوب لا يتناولها لأن حقوق الله وحقوق عباده في الذمة ليست ذنباً وإنما الذنب المطل فيه فيتوقف حق الآدمي على إسقاط صاحبه فالذي يسقطه الحج إثم مخالفة الله فقط وإيضاح ذلك أن الأعيان المغصوبة ليست ذنباً وإنما الذنب أخذها من مالكها بغير اختياره وحبسها عنه وكذا أعيان الصلوات والزكوات ليست ذنوباً وإنما الذنب تأخيرها عن وقتها والحاصل أن الحج يسقط الصغائر اتفاقاً وكذا الكبائر على ما قاله

ص: 70

الحافظ والأبي. وأما التبعات كالغيبة والقذف والقتل فعند الحافظ تسقط وعند القرافي لا تسقط.

وأما الصلوات المترتبة في الذمة والكفارات والديون والودائع ونحوها من الأعيان المستحقة للغير فلا تسقط بالحج ولا غيره بإجماع الشيوخ نعم إذا عجز عن استحلال المستحق لموته أو للخوف منه فليلجأ إلى الله تعالى فإنه يرجى من كرمه أن يرضى خصمه عنه يوم القيامة] الفواكه الدواني 1/ 375. وانظر حاشية العدوي 1/ 709.

وجاء في فتاوى الرملي: [سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الحج: (خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) هل المراد به غفران كل الذنوب حتى التبعات أم غير ذلك؟

أفتونا في ذلك بأقوال العلماء معزوة، وهل ما في فتاوى الشيخ زكريا في ذلك معتمد أم لا؟

فأجاب: بأن المراد غفران الذنوب صغائرها وكبائرها حتى التبعات ففي خبر رواه الطبراني في الكبير والبزار وابن حبان في صحيحه عن ابن عمر: (وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله تعالى يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة فيقول عبادي جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي فلو كانت ذنوبهم كعدد الرمل أو كقطر المطر أو كزبد البحر لغفرتها أفيضوا مغفوراً لكم وأما رميك الجمار فلك بكل

ص: 71

حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات وأما طوافك بالبيت فإن تطوف ولا ذنب عليك يأتي ملك فيضع يديه بين كتفيك فيقول اعمل فيما يستقبل فقد غفر لك فيما مضى) ورواه الطبراني في الأوسط من حديث عبادة بن الصامت بلفظ: (وأما وقوفك بعرفة فإن الله عز وجل يقول لملائكته يا ملائكتي ما جاء بعبادي؟ قالوا: جاءوك يلتمسون رضوانك والجنة فيقول الله عز وجل: فإني أشهد نفسي وخلقي أني قد غفرت لهم ولو كانت ذنوبهم عدد أيام الدهر وعدد رمل عالج) ورواه أبو القاسم الأصبهاني بلفظ: (وأما وقوفك بعرفات فإن الله تعالى يطلع على أهل عرفات فيقول: عبادي أتوني شعثاً غبراً أتوني من كل فج عميق فيباهي بكم الملائكة فلو كان عليك من الذنوب مثل رمل عالج ونجوم السماء وقطر البحر والمطر لغفر الله لك).

وقال الزركشي والدماميني بعد ذلك الحديث هذا يقتضي أنه تغفر الصغائر والكبائر.

وقال شيخ الإسلام ابن حجر: وقوله (رجع كيوم ولدته أمه) أي بغير ذنب وظاهره غفران الصغائر والكبائر والتبعات وهو من أقوى الشواهد لحديث عباس بن مرداس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري أهـ.

ص: 72

وحديث عباس بن مرداس أخرجه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء فأجابه الله عز وجل: أن قد فعلت وغفرت لأمتك إلا من ظلم بعضهم بعضاً فقال: يا رب إنك قادر أن تغفر للظالم وتثيب المظلوم خيراً من مظلمته فلم يكن تلك العشية فلما كان من الغد دعا غداة المزدلفة فعاد يدعو لأمته فلم يلبث النبي صلى الله عليه وسلم أن تبسم فقال بعض أصحابه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ضحكت في ساعة لم تكن تضحك فيها فما أضحكك أضحك الله سنك؟ قال: تبسمت من عدو الله إبليس حين علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي وغفر المظالم أهوى يدعو بالثبور والويل ويحثو التراب على رأسه فتبسمت مما يصنع من جزعه) وأخرجه الطبراني في المعجم الكبير والبيهقي في السنن الكبرى وأخرجه ابن عدي وفيه: (أنك قادر أن تثيب المظلوم وتغفر لهذا الظالم فأجابه الله عز وجل: أن قد فعلت) وأخرجه أبو داود في السنن وسكت عليه فهو صالح عنده وأخرجه ضياء الدين المقدسي في الأحاديث المختارة مما ليس في الصحيحين من طرق وقال البيهقي هذا الحديث له شواهد كثيرة قد ذكرناها في كتاب البعث أهـ.

ص: 73

وجاء أيضاً عن عبادة بن الصامت وأنس بن مالك وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبي هريرة وزيد جد عبد الرحمن بن عبد الله بن زيد.

وقال الكرماني بعد ذلك الحديث فإن قلت: هل هو عام في جميع الذنوب؟ قلت: هو عام في جميع ما يتعلق بحق الله تعالى لأن مظالم الناس تحتاج إلى استرضاء الخصوم أهـ. ويمكن رجوعه إلى ما قدمناه بمعنى أن حقوق الناس لا تسقط به بل يعوضهم الله عز وجل من الجنة.

وقال شيخنا شيخ الإسلام زكريا في فتاويه: ظاهر الحديث أنه يغفر له بذلك الصغائر والكبائر وقد جاء مصرحاً به في بعض الأحاديث، لكن الأوجه حمله على غير الكبائر المتعلقة بالآدمي

وحاصله أن الراجح أن المكفر بهذه الأمور الصغائر دون الكبائر وهو وإن كان عاماً فيها مخصوص بغير الحج المذكور لما تقدم فيه من الأدلة أو أنه حكم على مجموعها فلا ينافي ما قررناه من تكفير الحج المذكور لجميع الذنوب صغائرها وكبائرها حتى التبعات] فتاوى الرملي 2/ 81 - 86.

وجاء في فتوى صادرة عن مركز الفتوى في موقع وزارة الأوقاف القطرية على شبكة الإنترنت ما يلي:

ص: 74

[وكذلك جاء في الأحاديث الصحيحة أن إسباغ الوضوء على المكاره، ونقل الخطا إلى المساجد، والصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان وقيامه، وقيام ليلة القدر، وصيام عاشوراء وغيرها من الطاعات أنها كفارات للسيئات والخطايا، وأكثر تلك الأحاديث فيها تقييد ذلك باجتناب الكبائر وعليه يحمل المطلق منها فيكون اجتناب الكبائر شرطاً في تكفير الصغائر بالحسنات وبدونها].

وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:

[يجب العلم أن الحج لا يكفر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها فالمقيم على ذنب ما لم يتب منه، وهو مستمر فيه، فإن الحج لا يكفر ذنبه، وإنما الحج كفارة وأجر للعبد التائب إلى الله الراجع إليه، الراجي رحمته وعفوه، والذي أقلع عن ذنوبه الكبار إقلاعاً لا رجعة بعده.

والدليل على ذلك ما رواه الإمام مسلم رحمه الله بإسناده إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟! قال صلى الله عليه وسلم: أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام.

ص: 75

وفي رواية أخرى: قلنا يا رسول الله: أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر.

هذا مع بيان النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام يهدم ما قبله كما في حديث مسلم أيضاً أن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قال: [

فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك فبسط صلى الله عليه وسلم يمينه. قال: فقبضت يدي. قال صلى الله عليه وسلم: ما بالك يا عمر قال قلت: أردت أن اشترط. قال صلى الله عليه وسلم: تشترط بماذا؟ قلت: أن يُغْفر لي. قال صلى الله عليه وسلم: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله. انتهى

فمع أن الإسلام يهدم ما كان قبله إلا أن من أساء في الإسلام جوزي بعمله السيئ في الإسلام، وما كان قبل الإسلام. فمن كان يشرب الخمر مثلاً ويزني في جاهليته، وحال كفره، فإنه إن دخل في الإسلام حط الله عنه وغفر له ما كان قد سلف منه من هذه المعاصي، ولكنه إن عاد إلى الزنا وشرب الخمر في الإسلام جوزي بعمله الأول والآخر، وكذلك الحال فيمن له معاصٍ لم يتب منها قبل الحج فإن الحج يهدم ما كان من هذه المعاصي إلا أن يكون هذا الحاج مقيماً على معاصيه مستمراً فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة، وهذا

ص: 76

يعني أن الحج لا يفيد إلا التائب من الذنب، والعائد إلى الله، الراجع إليه المقلع عن ذنوبه، وأما المقيم على معاصيه وذنوبه المستمر فيها فإن الحج لا يهدم ما كان قبله في هذه الحالة.

هل يكفر الحج الكبائر دون توبة منها؟

ثم إن الذنوب تنقسم إلى كبائر وصغائر، والصغائر قد جاء أن الله سبحانه وتعالى يغفرها إذا اجتنبت الكبائر كما قال تعالى:(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا).

فمجرد ترك الكبائر خوفاً من الله وطاعة مكفر لصغائر الذنوب، وكذلك يكفر الله السيئات والصغائر بموالاة العبد على الطاعة، كما في الحديث الصحيح:(الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر).

وفي رواية أخرى: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر) رواه مسلم عن أبي هريرة. وفي هذا دليل على أن ما بين الطاعة ومثلها يكفر الله عنه ما بينهما من الذنوب الصغائر إذا ترك العبد الكبائر.

ص: 77

وفي الحديث الصحيح أيضاً: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما من الذنوب والخطايا، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة) رواه أحمد وانظر الصحيحة لشيخنا الألباني 1200.

وفي هذا دليل على أن الموالاة بين طاعتين يكفر الله ما بينهما من الذنوب الصغائر. لكن هل يكفر الحج إثم الذنوب الكبائر لمن لم يترك هذه الكبائر ولم يحصل منه توبة عنها؟

لا شك أن ظاهر الحديث: الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة وقوله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) يدل على أن الحج يكفر الذنوب كلها صغيرها وكبيرها، ولكنه يستفاد من الآيات والأحاديث الأخرى أن ذلك إذا كان الحاج تائباً عن الكبائر كلها مقلع عنها عازماً على عدم العودة إليها، وأما إن كان من أهل السرقة وهو مستمر في سرقته، أو من أهل الزنا وهو مستمر في زناه، أو ممن يشرب الخمر وهو مستمر في شربها، فإن الحج لا يكفر خطيئة من لم يتب منها فاعلها ولم يقلع عنها.

ومن ظن أن الحج يكفر الكبائر المقيم عليها صاحبها فقد أخطأ خطئاً بليغاً، وفهم الحديث على غير معناه.

ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى في نهاية آيات الحج من سورة البقرة: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ

ص: 78

تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) سورة البقرة الآية 203.

فقوله سبحانه وتعالى: (لِمَنِ اتَّقَى) يدل على أن المتقي لله الخائف منه هو الذي تغفر له ذنوبه بعد تمام الحج متعجلاً في يومين أو متأخراً لليوم الثالث، فقوله تعالى:: (لِمَنِ اتَّقَى) راجع للمتعجل والمتأخر ومعلوم أن المقيم على الذنب ليس من اتقى الله وخافه.

وأما هل يكفر الحج الكبائر التي لم يتب عنها صاحبها، وإن كان قد تركها، فالصحيح - إن شاء الله - أنها إن كانت مما يتعلق بحقوق العباد فإن الحج لا يغفرها كما جاء في الحديث أن الشهادة في سبيل الله تكفر الذنوب كلها إلا الدّين، وذلك أنه من حقوق العباد، وهكذا الأمر هنا، فإن الحج لا يكفر حقوق العباد، فمن كان عليه دين لم يؤده، أو في ذمته عهد أو مال أو أمانة لغيره فإن الحج شأنه شأن كل الطاعات التي يكفر الله بها السيئات، لا يكفر الله بها حقوق الآدميين، لأن حقوق العباد لا بد من ردها، أو تنازل أهل الحقوق عنها في الدنيا أو في الآخرة، أو المقاضاة فيها يوم القيامة كما قال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس من كان له عند أخيه مظلمة من عرض أو مال فليتحلل منه الآن قبل ألا يكون دينار ولا درهم، إنما هي الحسنات والسيئات،

ص: 79

فإن كان له حسنات أخذ منه بقدر مظلمته، وإلا أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم طرح في النار). فلا يجوز الظن أن تكفير الحج للذنوب مسقط لحقوق الآدميين والله تعالى أعلم.

وأما ما يتعلق بحق الله تعالى فهل يسقط إثم الكبائر دون توبة منها إذا قام العبد بهذه الأعمال العظيمة التي جاء أنه تكفر كل الذنوب كالحج والشهادة، وصلاة ركعتين لا يحدث المصلي فيهما نفسه كما في الحديث الصحيح:(من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه إلا غفر الله ما تقدم من ذنبه) متفق عليه.

وكذلك صيام رمضان، وأنه عتق من النار، وكذلك التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات وأنه:(من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحمده ثلاثاً وثلاثين وكبره ثلاثاً وثلاثين، وقال تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلا غفرت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر).

فلا شك أن ظاهر هذه الأحاديث يدل على أن هذه الأعمال الشريفة العظيمة يسقط كل الذنوب صغيرها وكبيرها، لكن عند النظر والتأمل والجمع بين النصوص المختلفة يتبين أن هذه المغفرة للذنوب لا تكون إلا للتائب من الكبائر.

ص: 80

ومن أجل ذلك يوصي الحاج عند عزمه على الحج، أن يخرج عما في يديه من حقوق الآدميين ليكون حجه مبروراً، وأن يتوب إلى الله من جميع ذنوبه ليكون وذنبه مغفوراً.

ومما يدل أن الحج لا يسقط ذنوب الكبائر إلا للتائب منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، ولا يكون الحج مبروراً إلا إذا كان صاحبه تائباً إلى الله من معاصيه راجعاً إليه، أما إن كان مصراً على المعاصي، مقيماً عليها ناوياً أن يعود إليها بعد حجه فهذا لا يكون حجه مبروراً] عن شبكة الإنترنت.

وخلاصة الأمر أن الحج يكفر صغائر الذنوب وكبائرها التي تاب منها صاحبها، ما لم تكن متعلقة بحقوق العباد.

وأما ما كان متعلقاً بحقوق العباد فلا يسقط بالحج، بل لا بد من ردِّ الحقوق لأصحابها، وكذلك فإن الحج لا يسقط كبائر الذنوب التي لم يتب منها صاحبها، بل استمر مقيماً عليها، والعياذ بالله.

ص: 81