الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْإِيمَانِ يُنَادِي كُلَّ وَقْتٍ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، عِنْدَ الصَّبَاحِ يَحْمَدُ الْقَوْمُ السُّرَى، وَفِي الْمَمَاتِ يَحْمَدُ الْعَبْدُ التُّقَى، فَإِنِ اشْتَدَّ ظَلَامُ لَيْلِ الْمَحَبَّةِ، وَتَحَكَّمَ سُلْطَانُ الشَّهْوَةِ وَالْإِرَادَةِ، يَقُولُ: يَا نَفْسُ اصْبِرِي فَمَا هِيَ إِلَّا سَاعَةٌ ثُمَّ تَنْقَضِي وَيَذْهَبُ هَذَا كُلُّهُ وَيَزُولُ.
[فَصْلٌ الْحُبُّ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ]
فَصْلٌ
الْحُبُّ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ
وَإِذَا كَانَ الْحُبُّ أَصْلَ كُلِّ عَمَلٍ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ، فَأَصْلُ الْأَعْمَالِ الدِّينِيَّةِ حُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، كَمَا أَصْلُ الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ تَصْدِيقُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَكُلُّ إِرَادَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ الْحُبِّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُزَاحِمُ هَذِهِ الْمَحَبَّةَ أَوْ شُبْهَةٍ تَمْنَعُ كَمَالَ التَّصْدِيقِ، فَهِيَ مُعَارِضَةٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ أَوْ مُضْعِفَةٌ لَهُ، فَإِنْ قَوِيَتْ حَتَّى عَارَضَتْ أَصْلَ الْحُبِّ وَالتَّصْدِيقِ كَانَتْ كُفْرًا أَوْ شِرْكًا أَكْبَرَ، وَإِنْ لَمْ تُعَارِضْهُ قَدَحَتْ فِي كَمَالِهِ، وَأَثَّرَتْ فِيهِ ضَعْفًا وَفُتُورًا فِي الْعَزِيمَةِ وَالطَّلَبِ، وَهِيَ تَحْجُبُ الْوَاصِلَ، وَتَقْطَعُ الطَّالِبَ، وَتُنَكِّسُ الرَّاغِبَ، فَلَا تَصِحُّ الْمُوَالَاةُ إِلَّا بِالْمُعَادَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْ إِمَامِ الْحُنَفَاءِ الْمُحِبِّينَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ:{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ - أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ - فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: 75 - 77] .
فَلَمْ يَصِحَّ لِخَلِيلِ اللَّهِ هَذِهِ الْمُوَالَاةُ وَالْخُلَّةُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ هَذِهِ الْمُعَادَاةِ، فَإِنَّهُ لَا وَلَاءَ إِلَّا بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ، قَالَ تَعَالَى:{قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ: 4] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ - وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [سُورَةُ الزُّخْرُفِ: 26 - 28] .
أَيْ جَعَلَ هَذِهِ الْمُوَالَاةَ لِلَّهِ، وَالْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ يَتَوَارَثُهَا الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ وَهِيَ كَلِمَةُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ الَّتِي وَرَّثَهَا إِمَامُ الْحُنَفَاءِ لِأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
كَلِمَةُ التَّوْحِيدِ
وَهِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي قَامَتْ بِهَا الْأَرْضُ وَالسَّمَاوَاتُ، وَفَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَعَلَيْهَا أُسِّسَتِ الْمِلَّةُ وَنُصِبَتِ الْقِبْلَةُ، وَجُرِّدَتْ سُيُوفُ الْجِهَادِ، وَهِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ عَلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ، وَهِيَ الْكَلِمَةُ الْعَاصِمَةُ لِلدَّمِ وَالْمَالِ وَالذُّرِّيَّةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، وَالْمُنْجِيَةُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَهِيَ الْمَنْشُورُ الَّذِي لَا يُدْخَلُ الْجَنَّةُ إِلَّا بِهِ، وَالْحَبْلُ الَّذِي لَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ مَنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِسَبَبِهِ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْإِسْلَامِ، وَمِفْتَاحُ دَارِ السَّلَامِ، وَبِهَا انْقَسَمَ النَّاسُ إِلَى شَقِيٍّ وَسَعِيدٍ، وَمَقْبُولٍ وَطَرِيدٍ، وَبِهَا انْفَصَلَتْ دَارُ الْكُفْرِ مِنْ دَارِ الْإِيمَانِ، وَتَمَيَّزَتْ دَارُ النَّعِيمِ مِنْ دَارِ الشَّقَاءِ وَالْهَوَانِ، وَهِيَ الْعَمُودُ الْحَامِلُ لِلْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ، وَ «مَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
رُوحُ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ
وَرُوحُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَسِرُّهَا: إِفْرَادُ الرَّبِّ - جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ، وَتَبَارَكَ اسْمُهُ، وَتَعَالَى جَدُّهُ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُهُ - بِالْمَحَبَّةِ وَالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ: مِنَ التَّوَكُّلِ وَالْإِنَابَةِ وَالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، فَلَا يُحَبُّ سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا كَانَ يُحَبُّ غَيْرَهُ فَإِنَّمَا يُحَبُّ تَبَعًا لِمَحَبَّتِهِ، وَكَوْنِهِ وَسِيلَةً إِلَى زِيَادَةِ مَحَبَّتِهِ، وَلَا يُخَافُ سِوَاهُ، وَلَا يُرْجَى سِوَاهُ، وَلَا يُتَوَكَّلُ إِلَّا عَلَيْهِ، وَلَا يُرْغَبُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُرْهَبُ إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يُحْلَفُ إِلَّا بِاسْمِهِ، وَلَا يُنْظَرُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يُتَابُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُطَاعُ إِلَّا أَمْرُهُ، وَلَا يُتَحَسَّبُ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُسْتَغَاثُ فِي الشَّدَائِدِ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُلْتَجَأُ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا يُسْجَدُ إِلَّا لَهُ، وَلَا يُذْبَحُ إِلَّا لَهُ وَبِاسْمِهِ، وَيَجْتَمِعُ ذَلِكَ فِي حَرْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ: أَنْ لَا يُعْبَدَ إِلَّا إِيَّاهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ، فَهَذَا هُوَ تَحْقِيقُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلِهَذَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَقِيقَةَ الشَّهَادَةِ، وَمُحَالٌ أَنْ يَدْخُلَ النَّارَ مَنْ تَحَقَّقَ بِحَقِيقَةِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَقَامَ بِهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [سُورَةُ الْمَعَارِجِ: 33] .
فَيَكُونُ قَائِمًا بِشَهَادَتِهِ فِي ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، فِي قَلْبِهِ وَقَالَبِهِ، فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ تَكُونُ شَهَادَتُهُ مَيِّتَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ نَائِمَةً، إِذَا نُبِّهَتِ انْتَبَهَتْ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ مُضْطَجِعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ تَكُونُ إِلَى الْقِيَامِ أَقْرَبَ، وَهِيَ فِي الْقَلْبِ بِمَنْزِلَةِ الرُّوحِ فِي الْبَدَنِ، فَرُوحٌ مَيِّتَةٌ، وَرُوحٌ مَرِيضَةٌ إِلَى الْمَوْتِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ إِلَى الْحَيَاةِ أَقْرَبُ، وَرُوحٌ صَحِيحَةٌ قَائِمَةٌ بِمَصَالِحِ الْبَدَنِ.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً لَا يَقُولُهَا عَبْدٌ عِنْدَ الْمَوْتِ إِلَّا وَجَدَتْ رُوحُهُ لَهَا رَوْحًا» فَحَيَاةُ هَذِهِ الرُّوحِ بِحَيَاةِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِيهَا، فَكَمَا أَنَّ حَيَاةَ الْبَدَنِ بِوُجُودِ الرُّوحِ فِيهِ،
وَكَمَا أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ يَتَقَلَّبُ فِيهَا، فَمَنْ عَاشَ عَلَى تَحْقِيقِهَا وَالْقِيَامِ بِهَا فَرُوحُهُ تَتَقَلَّبُ فِي جَنَّةِ الْمَأْوَى وَعَيْشُهُ وَأَطْيَبُ عَيْشٍ قَالَ:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى - فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 40 - 41] .
فَالْجَنَّةُ مَأْوَاهُ يَوْمَ اللِّقَاءِ.
وَجَنَّةُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْأُنْسِ بِاللَّهِ وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِهِ وَالْفَرَحِ بِهِ وَالرِّضَا بِهِ، وَعَنْهُ مَأْوَى رُوحِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَمَنْ كَانَتْ هَذِهِ الْجَنَّةُ مَأْوَاهُ هَاهُنَا، كَانَتْ جَنَّةُ الْخُلْدِ مَأْوَاهُ يَوْمَ الْمِيعَادِ، وَمَنْ حُرِمَ هَذِهِ الْجَنَّةَ فَهُوَ لِتِلْكَ الْجَنَّةِ أَشَدُّ حِرْمَانًا، وَالْأَبْرَارُ فِي النَّعِيمِ وَإِنِ اشْتَدَّ بِهِمُ الْعَيْشَ، وَضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، وَالْفُجَّارُ فِي جَحِيمٍ وَإِنِ اتَّسَعَتْ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [سُورَةُ النَّحْلِ: 97] وَطِيبُ الْحَيَاةِ جَنَّةُ الدُّنْيَا، قَالَ تَعَالَى:{فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} [سُورَةُ الْأَنْعَامِ: 125] .
فَأَيُّ نَعِيمٍ أَطْيَبُ مِنْ شَرْحِ الصَّدْرِ؟ وَأَيُّ عَذَابٍ أَمَرُّ مِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ؟
وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سُورَةُ يُونُسَ: 62 - 64] فَالْمُؤْمِنُ الْمُخْلِصُ لِلَّهِ مِنْ أَطْيَبِ النَّاسِ عَيْشًا، وَأَنْعَمِهِمْ بَالًا، وَأَشْرَحِهِمْ صَدْرًا، وَأَسَرِّهِمْ قَلْبًا، وَهَذِهِ جَنَّةٌ عَاجِلَةٌ قَبْلَ الْجَنَّةِ الْآجِلَةِ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ فَارْتَعُوا، قَالُوا: وَمَا رِيَاضُ الْجَنَّةِ؟ قَالَ: حِلَقُ الذِّكْرِ» .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» .
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ وَقَدْ سَأَلُوهُ عَنْ وِصَالِهِ فِي الصَّوْمِ: «إِنِّي لَسْتُ كَهَيْئَتِكُمْ إِنِّي أَظَلُّ عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» .
فَأَخْبَرَ صلى الله عليه وسلم أَنَّ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الْغِذَاءِ عِنْدَ رَبِّهِ يَقُومُ مَقَامَ الطَّعَامِ