الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلَّا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ: لَا يَا عُمَرُ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ، قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، قَالَ: الْآنَ يَا عُمَرُ.
» فَإِذَا كَانَ هَذَا شَأْنَ مَحَبَّةِ عَبْدِهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَوُجُوبِ تَقْدِيمِهَا عَلَى مَحَبَّةِ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، فَمَا الظَّنُّ بِمَحَبَّةِ مُرْسِلِهِ سبحانه وتعالى، وَوُجُوبِ تَقْدِيمِهَا عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُ؟ .
وَمَحَبَّةُ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ تَخْتَصُّ عَنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ فِي قَدْرِهَا وَصِفَتِهَا وَإِفْرَادِهِ سُبْحَانَهُ بِهَا: فَإِنَّ الْوَاجِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ أَحَبَّ إِلَى الْعَبْدِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، بَلْ مِنْ سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَنَفْسِهِ الَّتِي بَيْنَ جَنْبَيْهِ، فَيَكُونُ إِلَهُهُ الْحَقُّ وَمَعْبُودُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَالشَّيْءُ قَدْ يُحَبُّ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ، وَقَدْ يُحَبُّ بِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ يُحَبُّ لِذَاتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إِلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ، وَلَا تَصْلُحُ الْأُلُوهِيَّةُ إِلَّا لَهُ، وَ {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ: 22] .
وَالتَّأَلُّهُ: هُوَ الْمَحَبَّةُ وَالطَّاعَةُ وَالْخُضُوعُ.
[فَصْلٌ الْحُبُّ أَصْلُ الْحَرَكَةِ]
فَصْلٌ
الْحُبُّ أَصْلُ الْحَرَكَةِ
وَكُلُّ حَرَكَةٍ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ فَأَصْلُهَا الْمَحَبَّةُ، فَهِيَ عَلَيْهَا الْفَاعِلِيَّةُ وَالْغَائِيَّةُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَرَكَاتِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: حَرَكَةٌ اخْتِيَارِيَّةٌ إِرَادِيَّةٌ، وَحَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ، وَحَرَكَةٌ قَسْرِيَّةٌ.
وَالْحَرَكَةُ الطَّبِيعِيَّةُ أَصْلُهَا السُّكُونُ، وَإِنَّمَا يَتَحَرَّكُ الْجِسْمُ إِذَا خَرَجَ عَنْ مُسْتَقَرِّهِ وَمَرْكَزِهِ الطَّبِيعِيِّ، فَهُوَ يَتَحَرَّكُ لِلْعَوْدِ إِلَيْهِ، وَخُرُوجُهُ عَنْ مَرْكَزِهِ وَمُسْتَقَرِّهِ إِنَّمَا هُوَ بِتَحْرِيكِ الْقَاصِرِ الْمُحَرِّكِ لَهُ، فَلَهُ حَرَكَةٌ قَسْرِيَّةٌ تَتَحَرَّكُ بِتَحْرِيكِ مُحَرِّكِهِ وَقَاسِرِهِ، وَحَرَكَةٌ طَبِيعِيَّةٌ بِذَاتِهَا يَطْلُبُ بِهَا الْعَوْدَ إِلَى مَرْكَزِهِ، وَكِلَا حَرَكَتَيْهِ تَابِعَةٌ لِلْقَاسِرِ الْمُحَرِّكِ، فَهُوَ أَصْلُ الْحَرَكَتَيْنِ.
وَالْحَرَكَةُ الِاخْتِيَارِيَّةُ الْإِرَادِيَّةُ هِيَ أَصْلُ الْحَرَكَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ، وَهِيَ تَابِعَةٌ لِلْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى انْحِصَارِ الْحَرَكَاتِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ: أَنَّ الْمُتَحَرِّكَ إِنْ كَانَ لَهُ شُعُورٌ بِالْحَرَكَةِ فَهِيَ الْإِرَادِيَّةُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ شُعُورٌ بِهَا، فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ عَلَى وَفْقِ طَبْعِهِ أَوْ لَا، فَالْأُولَى هِيَ الطَّبِيعِيَّةُ، وَالثَّانِيَةُ الْقَسْرِيَّةُ، إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ حَرَكَاتِ الْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ وَالْمَطَرِ وَالنَّبَاتِ وَحَرَكَاتِ الْأَجِنَّةِ فِي
بُطُونِ أُمَّهَاتِهَا، فَإِنَّمَا هِيَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا وَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا، كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ فِي نُصُوصٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ، وَالْإِيمَانُ بِذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْإِيمَانِ بِالْمَلَائِكَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَائِكَةً، وَبِالْقَطْرِ مَلَائِكَةً، وَبِالنَّبَاتِ مَلَائِكَةً، وَبِالرِّيَاحِ مَلَائِكَةً، وَبِالْأَفْلَاكِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَوَكَّلَ بِكُلِّ عَبْدٍ أَرْبَعَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ، كَاتِبَيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، وَحَافِظَيْنِ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ، وَوَكَّلَ مَلَائِكَةً بِقَبْضِ رُوحِهِ وَتَجْهِيزِهَا إِلَى مُسْتَقَرِّهَا فِي الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَلَائِكَةً بِمُسَاءَلَتِهِ وَامْتِحَانِهِ فِي قَبْرِهِ، وَمَلَائِكَةً بِتَعْذِيبِهِ فِي النَّارِ أَوْ نَعِيمِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَوَكَّلَ بِالْجِبَالِ مَلَائِكَةً، وَبِالسَّحَابِ مَلَائِكَةً تَسُوقُهُ حَيْثُ أُمِرَتْ بِهِ، وَبِالْقَطْرِ مَلَائِكَةً تَنْزِلُ بِأَمْرِ اللَّهِ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ كَمَا شَاءَ اللَّهُ، وَوَكَّلَ مَلَائِكَةً بِغَرْسِ الْجَنَّةِ وَعَمَلِ آلَتِهَا وَفُرُشِهَا وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا، وَمَلَائِكَةً بِالنَّارِ كَذَلِكَ.
فَأَعْظَمُ جُنْدِ اللَّهِ الْمَلَائِكَةُ، وَلَفْظُ الْمَلَكِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ مُنَفِّذُ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ، بَلِ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ، وَهُمْ يُدَبِّرُونَ الْأَمْرَ وَيُقَسِّمُونَهُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِذْنِهِ، قَالَ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْهُمْ:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [سُورَةُ مَرْيَمَ: 64] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [سُورَةُ النَّجْمِ: 26] .
وَأَقْسَمَ سُبْحَانَهُ بِطَوَائِفَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُنَفِّذِينَ لِأَمْرِهِ فِي الْخَلِيفَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا - فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا - فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [سُورَةُ الصَّافَّاتِ: 1 - 3] .
وَقَالَ: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا - فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا - وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا - فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا - فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا - عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ: 1 - 6] .
وَقَالَ تَعَالَى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا - وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا - وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا - فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا - فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [سُورَةُ النَّازِعَاتِ: 1 - 5] .
وَقَدْ ذَكَرْنَا مَعْنَى ذَلِكَ وَسِرَّ الْإِقْسَامِ بِهِ فِي كِتَابِ (التِّبْيَانِ فِي أَقْسَامِ الْقُرْآنِ) .