الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ رُفِعَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ بِعَرَفَةَ شَابٌّ قَدِ انْتَحَلَ حَتَّى عَادَ جِلْدًا عَلَى عَظْمٍ، فَقَالَ: مَا شَأْنُ هَذَا؟ قَالُوا: بِهِ الْعِشْقُ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنَ الْعِشْقِ عَامَّةَ يَوْمِهِ.
الثَّامِنُ: أَنَّ الْعِشْقَ كَمَا تَقَدَّمَ هُوَ الْإِفْرَاطُ فِي الْمَحَبَّةِ، بِحَيْثُ يَسْتَوْلِي الْمَعْشُوقُ عَلَى قَلْبِ الْعَاشِقِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ مِنْ تَخَيُّلِهِ وَذِكْرِهِ وَالْفِكْرِ فِيهِ، بِحَيْثُ لَا يَغِيبُ عَنْ خَاطِرِهِ وَذِهْنِهِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَشْتَغِلُ النَّفْسُ عَنِ اسْتِخْدَامِ الْقُوَّةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَالنَّفْسَانِيَّةِ فَتَتَعَطَّلُ تِلْكَ الْقُوَّةُ، فَيَحْدُثُ بِتَعْطِيلِهَا مِنَ الْآفَاتِ عَلَى الْبَدَنِ وَالرُّوحِ مَا يَعِزُّ دَوَاؤُهُ وَيَتَعَذَّرُ، فَتَتَغَيَّرُ أَفْعَالُهُ وَصِفَاتُهُ وَمَقَاصِدُهُ، وَيَخْتَلُّ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَتَعْجِزُ الْبَشَرُ عَنْ صَلَاحِهِ، كَمَا قِيلَ:
الْحُبُّ أَوَّلُ مَا يَكُونُ لَجَاجَةٌ
…
يَأْتِي بِهَا وَتَسُوقُهُ الْأَقْدَارُ
حَتَّى إِذَا خَاضَ الْفَتَى لُجَجَ الْهَوَى
…
جَاءَتْ أُمُورٌ لَا تُطَاقُ كِبَارُ
وَالْعِشْقُ مَبَادِيهِ سَهْلَةٌ حُلْوَةٌ، وَأَوْسَطُهُ هَمٌّ وَشُغْلُ قَلْبٍ وَسَقَمٌ، وَآخِرُهُ عَطَبٌ وَقَتْلٌ، إِنْ لَمْ تَتَدَارَكْهُ عِنَايَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قِيلَ:
وَعِشْ خَالِيًا فَالْحُبُّ أَوَّلُهُ عَنَا
…
وَأَوْسَطُهُ سَقَمٌ وَآخِرُهُ قَتْلُ
وَقَالَ آخَرُ:
تَوَلَّعَ بِالْعِشْقِ حَتَّى عَشِقْ
…
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يُطِقْ
رَأَى لُجَّةً ظَنَّهَا مَوْجَةً
…
فَلَمَّا تَمَكَّنَ مِنْهَا غَرِقْ
وَالذَّنْبُ لَهُ، فَهُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ قَعَدَ تَحْتَ الْمَثَلِ السَّائِرِ:" يَدَاكَ أَوْكَتَا، وَفُوكَ نَفَخَ ".
[فَصْلٌ مَقَامَاتُ الْعَاشِقِ]
فَصْلٌ
مَقَامَاتُ الْعَاشِقِ
وَالْعَاشِقُ لَهُ ثَلَاثُ مَقَامَاتٍ: مَقَامُ ابْتِدَاءٍ، وَمَقَامُ تَوَسُّطٍ، وَمَقَامُ انْتِهَاءٍ.
فَأَمَّا مَقَامُ ابْتِدَائِهِ: قَالُوا: يَجِبُ عَلَيْهِ مُدَافَعَتُهُ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، إِذَا كَانَ الْوُصُولُ إِلَى مَعْشُوقِهِ مُتَعَذِّرًا قَدَرًا وَشَرْعًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَبَى قَلْبُهُ إِلَّا السَّفَرَ إِلَى مَحْبُوبِهِ - وَهَذَا مَقَامُ التَّوَسُّطِ وَالِانْتِهَاءِ - فَعَلَيْهِ كِتْمَانُهُ ذَلِكَ، وَأَنْ لَا يُفْشِيَهُ إِلَى الْخَلْقِ، وَلَا يَشْمَتَ بِمَحْبُوبِهِ وَيَهْتِكُهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ، فَإِنَّ الظُّلْمَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ
الظُّلْمِ، وَرُبَّمَا كَانَ أَعْظَمَ ضَرَرًا عَلَى الْمَعْشُوقِ وَأَهْلِهِ مِنْ ظُلْمِهِ فِي مَالِهِ، فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْمَعْشُوقَ بِهَتْكِهِ فِي عِشْقِهِ إِلَى وُقُوعِ النَّاسِ فِيهِ، وَانْقِسَامِهِمْ إِلَى مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَصَدَّقُ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَدْنَى شُبْهَةٍ، وَإِذَا قِيلَ فُلَانٌ فَعَلَ بِفُلَانٍ أَوْ بِفُلَانَةَ، كَذَّبَهُ وَاحِدٌ وَصَدَّقَهُ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ.
وَخَبَرُ الْعَاشِقِ الْمُتَهَتِّكِ عِنْدَ النَّاسِ فِي هَذَا الْبَابِ يُفِيدُ الْقَطْعَ الْيَقِينِيَّ، بَلْ إِذَا أَخْبَرَهُمُ الْمَفْعُولُ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ كَذِبًا وَافْتِرَاءً عَلَى غَيْرِهِ جَزَمُوا بِصِدْقِهِ جَزْمًا لَا يَحْتَمِلُ النَّقِيضَ، بَلْ لَوْ جَمَعَهُمَا مَكَانٌ وَاحِدٌ اتِّفَاقًا؛ لَجَزَمُوا أَنَّ ذَلِكَ عَنْ وَعْدٍ وَاتِّفَاقٍ بَيْنَهُمَا، وَجَزْمُهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى الظُّنُونِ وَالتَّخَيُّلِ وَالشُّبَهِ وَالْأَوْهَامِ وَالْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ، كَجَزْمِهِمْ بِالْحِسِّيَّاتِ الْمُشَاهَدَةِ، وَبِذَلِكَ وَقَعَ أَهْلُ الْإِفْكِ فِي الطَّيِّبَةِ الْمُطَيَّبَةِ، حَبِيبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الْمُبَرَّأَةِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، بِشُبْهَةِ مَجِيءِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطَّلِ بِهَا وَحْدَهُ خَلْفَ الْعَسْكَرِ حَتَّى هَلَكَ مَنْ هَلَكَ، وَلَوْلَا أَنْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَرَاءَتَهَا، وَالذَّبَّ عَنْهَا، وَتَكْذِيبَ قَاذِفِهَا، لَكَانَ أَمْرًا آخَرَ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ فِي إِظْهَارِ الْمُبْتَلَى عِشْقَ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاتِّصَالُ بِهِ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَذَاهُ مَا هُوَ عُدْوَانٌ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَرُّضٌ لِتَصْدِيقِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ ظُنُونَهُمْ فِيهِ، فَإِنِ اسْتَعَانَ عَلَيْهِ بِمَنْ يَسْتَمِيلُهُ إِلَيْهِ، إِمَّا بِرَغْبَةٍ أَوْ رَهْبَةٍ، تَعَدَّى الظُّلْمُ وَانْتَشَرَ، وَصَارَ ذَلِكَ الْوَاسِطَةُ دَيُّوثًا ظَالِمًا، وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَعَنَ الرَّائِشَ - وَهُوَ الْوَاسِطَةُ بَيْنَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي إِيصَالِ الرِّشْوَةِ - فَمَا ظَنُّكَ بِالدَّيُّوثِ الْوَاسِطَةِ بَيْنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ فِي الْوَصْلِ، فَيَتَسَاعَدُ الْعَاشِقُ وَالدَّيُّوثُ عَلَى ظُلْمِ الْمَعْشُوقِ وَظُلْمِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ غَرَضِهِ عَلَى ظُلْمِهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ عِرْضٍ، فَإِنَّ كَثِيرًا مَا يَتَوَقَّفُ الْمَطْلُوبُ فِيهِ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ يَكُونُ حَيَاتُهَا مَانِعَةً مِنْ غَرَضِهِ، وَكَمْ قَتِيلٍ طُلَّ دَمُهُ بِهَذَا السَّبَبِ، مِنْ زَوْجٍ وَسَيِّدٍ وَقَرِيبٍ، وَكَمْ خُبِّبَتِ امْرَأَةٌ عَلَى بَعْلِهَا، وَجَارِيَةٍ وَعَبْدٍ عَلَى سَيِّدِهِمَا، وَقَدْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَبَرَّأَ مِنْهُ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَى أَنْ يَخْطُبَ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ، وَأَنْ يَسْتَامَ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَسْعَى فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَ رَجُلٍ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَمَتِهِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِهِمَا؟
وَعُشَّاقُ الصُّوَرِ وَمُسَاعِدُوهُمْ مِنَ الدَّيَايِثَةِ لَا يَرَوْنَ ذَلِكَ ذَنْبًا، فَإِنْ طَلَبَ الْعَاشِقُ وَصْلَ مَعْشُوقِهِ وَمُشَارَكَةَ الزَّوْجِ وَالسَّيِّدِ، فَفِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمِ ظُلْمِ الْغَيْرِ مَا لَعَلَّهُ لَا يَقْصُرُ عَنْ إِثْمِ الْفَاحِشَةِ، وَإِنْ لَمْ يُرَبَّ عَلَيْهَا، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْغَيْرِ بِالتَّوْبَةِ مِنَ الْفَاحِشَةِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ وَإِنْ أَسْقَطَتْ حَقَّ اللَّهِ فَحَقُّ الْعَبْدِ بَاقٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ مِنْ ظُلْمِ الْوَالِدِ إِفْسَادَ وَلَدِهِ وَفِلْذَةِ كَبِدِهِ، وَمَنْ هُوَ أَعَزُّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ، فَظُلْمُ الزَّوْجِ بِإِفْسَادِ حَبِيبَتِهِ وَالْجِنَايَةِ عَلَى فِرَاشِهِ - أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِهِ بِأَخْذِ مَالِهِ كُلِّهِ، وَلِهَذَا يُؤْذِيهِ ذَلِكَ أَعْظَمَ مِمَّا يُؤْذِيهِ أَخْذُ مَالِهِ، وَلَا يَعْدِلُ ذَلِكَ عِنْدَهُ إِلَّا سَفْكُ دَمِهِ، فَيَا لَهُ مِنْ ظُلْمٍ أَعْظَمَ إِثْمًا مِنْ فِعْلِ الْفَاحِشَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا لِغَازٍ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ وُقِفَ لَهُ الْجَانِي الْفَاعِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَهُ:«خُذْ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا شِئْتَ،» كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: فَمَا ظَنُّكُمْ؟ أَيْ: فَمَا تَظُنُّونَ يَبْقَى لَهُ مِنْ حَسَنَاتِهِ؟ فَإِنِ انْضَافَ إِلَى ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمَظْلُومُ جَارًا، أَوْ ذَا رَحِمٍ مُحَرَّمٍ، تَعَدَّدَ الظُّلْمُ فَصَارَ ظُلْمًا مُؤَكَّدًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَإِيذَاءِ الْجَارِ، وَلَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعُ رَحِمٍ، وَلَا مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ.
فَإِنِ اسْتَعَانَ الْعَاشِقُ عَلَى وِصَالِ مَعْشُوقِهِ بِشَيَاطِينِ الْجِنِّ - إِمَّا بِسِحْرٍ أَوِ اسْتِخْدَامٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ - ضُمَّ إِلَى الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ كُفْرُ السِّحْرِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ، كَانَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ غَيْرَ كَارِهٍ لِحُصُولِ مَقْصِدِهِ، وَهَذَا لَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنَ الْكُفْرِ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ التَّعَاوُنَ فِي هَذَا الْبَابِ، تَعَاوُنٌ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
وَأَمَّا مَا يَقْتَرِنُ بِحُصُولِ غَرَضِ الْعَاشِقِ مِنَ الظُّلْمِ الْمُنْتَشِرِ الْمُتَعَدِّي ضَرَرُهُ فَأَمْرٌ لَا يَخْفَى، فَإِنَّهُ إِذَا حَصَلَ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنَ الْمَعْشُوقِ، فَلِلْمَعْشُوقِ أَغْرَاضٌ أُخَرُ يُرِيدُ مِنَ الْعَاشِقِ إِعَانَتَهُ عَلَيْهَا، فَلَا يَجِدُ مِنْ إِعَانَتِهِ بُدًّا، فَيَبْقَى كُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ، فَالْمَعْشُوقُ يُعِينُ الْعَاشِقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَتَّصِلُ بِهِ مِنْ أَهْلِهِ وَأَقَارِبِهِ وَسَيِّدِهِ وَزَوْجِهِ، وَالْعَاشِقُ يُعِينُ الْمَعْشُوقَ عَلَى ظُلْمِ مَنْ يَكُونُ غَرَضُ الْمَعْشُوقِ مُتَوَقِّفًا عَلَى ظُلْمِهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا يُعِينُ الْآخَرَ عَلَى أَغْرَاضِهِ الَّتِي فِيهَا ظُلْمُ النَّاسِ، فَيَحْصُلُ الْعُدْوَانُ وَالظُّلْمُ بِسَبَبِ اشْتِرَاكِهِمَا فِي الْقُبْحِ لِتَعَاوُنِهِمَا بِذَلِكَ عَلَى الظُّلْمِ، كَمَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ بَيْنَ الْعُشَّاقِ وَالْمَعْشُوقِينَ، مِنْ إِعَانَةِ الْعَاشِقِ لِمَعْشُوقِهِ عَلَى مَا فِيهِ ظُلْمٌ وَعُدْوَانٌ وَبَغْيٌ، حَتَّى رُبَّمَا يَسْعَى لَهُ فِي مَنْصِبٍ لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَصْلُحُ لِمَثَلِهِ، وَفِي تَحْصِيلِ مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَفِي اسْتِطَالَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، فَإِذَا اخْتَصَمَ مَعْشُوقُهُ وَغَيْرُهُ أَوْ تَشَاكَيَا لَمْ يَكُنْ إِلَّا فِي جَانِبِ الْمَعْشُوقِ ظَالِمًا كَانَ أَوْ مَظْلُومًا، هَذَا إِلَى مَا يَنْضَمُّ إِلَى ذَاكَ مِنْ ظُلْمِ الْعَاشِقِ لِلنَّاسِ بِالتَّحَيُّلِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِهِمْ، وَالتَّوَصُّلِ بِهَا إِلَى مَعْشُوقِهِ بِسَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ خِيَانَةٍ أَوْ يَمِينٍ كَاذِبَةٍ أَوْ قَطْعِ طَرِيقٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى قَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ، لِيَأْخُذَ مَالَهُ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ إِلَى مَعْشُوقِهِ.
فَكُلُّ هَذِهِ الْآفَاتِ وَأَضْعَافُهَا وَأَضْعَافُ أَضْعَافِهَا تَنْشَأُ مِنْ عِشْقِ الصُّوَرِ، وَرُبَّمَا حَمَلَ عَلَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ تَنَصَّرَ جَمَاعَةٌ مِمَّنْ نَشَئُوا فِي الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْعِشْقِ، كَمَا جَرَى لِبَعْضِ الْمُؤَذِّنِينَ حِينَ أَبْصَرَ امْرَأَةً جَمِيلَةً عَلَى سَطْحٍ، فَفُتِنَ بِهَا، وَنَزَلَ، وَدَخَلَ عَلَيْهَا، وَسَأَلَهَا نَفْسَهَا، فَقَالَتْ: هِيَ نَصْرَانِيَّةٌ، فَإِنْ دَخَلْتَ فِي دِينِي تَزَوَّجْتُ بِكَ، فَفَعَلَ، فَرَقِيَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى دَرَجَةٍ عِنْدَهُمْ فَسَقَطَ مِنْهَا فَمَاتَ، ذَكَرَ هَذَا عَبْدُ الْحَقِّ فِي كِتَابِ الْعَاقِبَةِ لَهُ.
وَإِذَا أَرَادَ النَّصَارَى أَنْ يُنَصِّرُوا الْأَسِيرَ، أَرَوْهُ امْرَأَةً جَمِيلَةً وَأَمَرُوهَا أَنْ تُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهَا
حَتَّى إِذَا تَمَكَّنَ حُبُّهَا مِنْ قَلْبِهِ، بَذَلَتْ لَهُ نَفْسَهَا إِنْ دَخَلَ فِي دِينِهَا، فَهُنَالِكَ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ: 27] .
وَفِي الْعِشْقِ مِنْ ظُلْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعَاشِقِ وَالْمَعْشُوقِ لِصَاحِبِهِ بِمُعَاوَنَتِهِ لَهُ عَلَى الْفَاحِشَةِ، وَظُلْمِهِ لِنَفْسِهِ مَا فِيهِ، فَكُلٌّ مِنْهُمَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبِهِ، وَظُلْمُهُمَا مُتَعَدٍّ إِلَى الْغَيْرِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ظُلْمُهُمَا بِالشِّرْكِ، فَقَدْ تَضَمَّنَ الْعِشْقُ أَنْوَاعَ الظُّلْمِ كُلَّهَا.
وَالْمَعْشُوقُ إِذَا لَمْ يَتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ الْعَاشِقَ لِلتَّلَفِ، وَذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُ، بِأَنْ يُطْمِعَهُ فِي نَفْسِهِ وَيَتَزَيَّنَ لَهُ وَيَسْتَمِيلَهُ بِكُلِّ طَرِيقٍ حَتَّى يَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَالَهُ وَنَفْعَهُ وَلَا يُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهِ، لِئَلَّا يَزُولَ غَرَضُهُ بِقَضَاءِ وَطَرِهِ مِنْهُ، فَهُوَ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَالْعَاشِقُ رُبَّمَا قَتَلَ مَعْشُوقَهُ لِيَشْفِيَ نَفْسَهُ مِنْهُ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا جَادَ بِالْوِصَالِ لِغَيْرِهِ، فَكَمْ لِلْعِشْقِ مِنْ قَتِيلٍ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَكَمْ أَزَالَ مِنْ نِعْمَةٍ، وَأَفْقَرَ مِنْ غِنًى، وَأَسْقَطَ مِنْ مَرْتَبَةٍ، وَشَتَّتَ مِنْ شَمْلٍ، وَكَمْ أَفْسَدَ مِنْ أَهْلٍ لِلرَّجُلِ وَوَلَدِهِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا رَأَتْ بَعْلَهَا عَاشِقًا لِغَيْرِهَا اتَّخَذَتْ هِيَ مَعْشُوقًا لِنَفْسِهَا، فَيَصِيرُ الرَّجُلُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ خَرَابِ بَيْتِهِ بِالطَّلَاقِ وَبَيْنَ الْقِيَادَةِ، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْثِرُ هَذَا.
فَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لَا يُحَكِّمَ عَلَى نَفْسِهِ عِشْقَ الصُّوَرِ، لِئَلَّا يُؤَدِّيَهُ ذَلِكَ إِلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ بَعْضِهَا، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ الْمُفَرِّطُ بِنَفَسِهِ الْمُغَرِّرُ بِهَا، فَإِذَا هَلَكَتْ فَهُوَ الَّذِي أَهْلَكَهَا، فَلَوْلَا تَكْرَارُهُ النَّظَرَ إِلَى وَجْهِ مَعْشُوقِهِ وَطَمَعُهُ فِي وِصَالِهِ لَمْ يَتَمَكَّنْ عِشْقُهُ مِنْ قَلْبِهِ، فَإِنَّ أَوَّلَ أَسْبَابِ الْعِشْقِ الِاسْتِحْسَانُ سَوَاءٌ تَوَلَّدَ عَنْ نَظَرٍ أَوْ سَمَاعٍ، فَإِنْ لَمْ يُقَارِنْهُ طَمَعٌ فِي الْوِصَالِ وَقَارَنَهُ الْإِيَاسُ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ اقْتَرَنَ بِهِ الطَّمَعُ فَصَرَفَهُ عَنْ فِكْرِهِ وَلَمْ يَشْغَلْ قَلْبَهُ بِهِ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ، فَإِنْ أَطَالَ مَعَ ذَلِكَ الْفِكْرَ فِي مَحَاسِنِ الْمَعْشُوقِ وَقَارَنَهُ خَوْفُ مَا هُوَ أَكْبَرُ عِنْدَهُ مِنْ لَذَّةِ وِصَالِهِ، إِمَّا خَوْفٌ دِينِيٌّ كَدُخُولِ النَّارِ، وَغَضَبِ الْجَبَّارِ، وَاحْتِقَابِ الْأَوْزَارِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ عَلَى ذَلِكَ الطَّمَعِ وَالْفِكْرِ؛ لَمْ يَحْدُثْ لَهُ ذَلِكَ الْعِشْقُ، فَإِنْ فَاتَهُ هَذَا الْخَوْفُ فَقَارَنَهُ خَوْفٌ دُنْيَوِيٌّ كَخَوْفِ إِتْلَافِ نَفْسِهِ، أَوْ مَالِهِ، أَوْ ذَهَابِ جَاهِهِ وَسُقُوطِ مَرْتَبَتِهِ عِنْدَ النَّاسِ، وَسُقُوطِهِ مِنْ عَيْنِ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْهِ، وَغَلَبَ هَذَا الْخَوْفُ لِدَاعِي الْعِشْقِ دَفَعَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا خَافَ مِنْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ هُوَ أَحَبُّ إِلَيْهِ وَأَنْفَعُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ، وَقَدَّمَ مَحَبَّتَهُ عَلَى مَحَبَّةِ ذَلِكَ الْمَعْشُوقِ؛ انْدَفَعَ عَنْهُ الْعِشْقُ، فَإِنِ انْتَفَى ذَلِكَ كُلُّهُ، وَغَلَبَتْ مَحَبَّةُ الْمَعْشُوقِ لِذَلِكَ، انْجَذَبَ إِلَيْهِ الْقَلْبُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَمَالَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ كُلَّ الْمَيْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ذَكَرْتُمْ آفَاتِ الْعِشْقِ وَمَضَارَّهُ وَمَفَاسِدَهُ، فَهَلَّا ذَكَرْتُمْ مَنَافِعَهُ وَفَوَائِدَهُ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا: رِقَّةُ الطَّبْعِ، وَتَرْوِيحُ النَّفْسِ وَخِفَّتُهَا، وَزَوَالُ ثِقَلِهَا وَرِيَاضَتُهَا، وَحَمْلُهَا عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، مِنَ الشَّجَاعَةِ، وَالْكَرَمِ، وَالْمُرُوءَةِ، وَرِقَّةِ الْحَاشِيَةِ، وَلُطْفِ الْجَانِبِ.
وَقَدْ قِيلَ لِيَحْيَى بْنِ مُعَاذٍ الرَّازِيِّ: إِنَّ ابْنَكَ قَدْ عَشِقَ فُلَانَةً، فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَيَّرَهُ إِلَى طَبْعِ الْآدَمِيِّ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْعِشْقُ دَوَاءُ أَفْئِدَةِ الْكِرَامِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: الْعِشْقُ لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِذِي مُرُوءَةٍ ظَاهِرَةٍ، وَخَلِيقَةٍ طَاهِرَةٍ، أَوْ لِذِي لِسَانٍ فَاضِلٍ، وَإِحْسَانٍ كَامِلٍ، أَوْ لِذِي أَدَبٍ بَارِعٍ، وَحَسَبٍ نَاصِعٍ.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُشَجِّعُ جَنَانَ الْجَبَانِ، وَيُصَفِّي ذِهْنَ الْغَبِيِّ، وَيُسَخِّي كَفَّ الْبَخِيلِ، وَيُذِلُّ عِزَّةَ الْمُلُوكِ، وَيُسَكِّنُ نَوَافِرَ الْأَخْلَاقِ، وَهُوَ أَنِيسُ مَنْ لَا أَنِيسَ لَهُ، وَجَلِيسُ مَنْ لَا جَلِيسَ لَهُ.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ يُزِيلُ الْأَثْقَالَ، وَيُلَطِّفُ الرُّوحَ، وَيُصَفِّي كَدَرَ الْقَلْبِ، وَيُوجِبُ الِارْتِيَاحَ لِأَفْعَالِ الْكِرَامِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
سَيَهْلِكُ فِي الدُّنْيَا شَفِيقٌ عَلَيْكُمْ
…
إِذَا غَالَهُ مِنْ حَادِثِ الْحُبِّ غَائِلُهُ
كَرِيمٌ يُمِيتُ السِّرَّ حَتَّى كَأَنَّهُ
…
إِذَا اسْتَفْهَمُوهُ عَنْ حَدِيثِكَ جَاهِلُهُ
يَوَدُّ بِأَنْ يُمْسِيَ سَقِيمًا لَعَلَّهَا
…
إِذَا سَمِعَتْ عَنْهُ بِشَكْوَى تُرَاسِلُهُ
وَيَهْتَزُّ لِلْمَعْرُوفِ فِي طَلَبِ الْعُلَا
…
لِتُحْمَدَ يَوْمًا عِنْدَ لَيْلَى شَمَائِلُهُ
فَالْعِشْقُ يَحْمِلُ عَلَى مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: الْعِشْقُ يُرَوِّضُ النَّفْسَ، وَيُهَذِّبُ الْأَخْلَاقَ، وَإِظْهَارُهُ طَبِيعِيٌّ، وَإِضْمَارُهُ تَكْلِيفِيٌّ.
وَقَالَ الْآخَرُ: مَنْ لَمْ يُهَيِّجْ نَفْسَهُ بِالصَّوْتِ الشَّجِيِّ، وَالْوَجْهِ الْبَهِيِّ، فَهُوَ فَاسِدُ الْمِزَاجِ، يَحْتَاجُ إِلَى عِلَاجٍ، وَأَنْشَدُوا فِي ذَلِكَ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
…
فَمَا لَكَ فِي طِيبِ الْحَيَاةِ نَصِيبُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
…
فَأَنْتَ وَعِيرٌ فِي الْفَلَاةِ سَوَاءُ
وَقَالَ آخَرُ:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَعْشَقْ وَلَمْ تَدْرِ مَا الْهَوَى
…
فَقُمْ فَاعْتَلِفْ تِبْنًا فَأَنْتَ حِمَارُ
وَقَالَ بَعْضُ الْعُشَّاقِ أُولُو الْعِفَّةِ وَالصِّيَانَةِ: عِفُّوا تَشْرُفُوا، وَاعْشَقُوا تَظْفَرُوا.
وَقِيلَ لِبَعْضِ الْعُشَّاقِ: مَا كُنْتَ تَصْنَعُ لَوْ ظَفِرْتَ بِمَنْ تَهْوَى؟ فَقَالَ: كُنْتُ أُمَتِّعُ طَرْفِي بِوَجْهِهِ، وَأُرَوِّحُ قَلْبِي بِذِكْرِهِ وَحَدِيثِهِ، وَأَسْتُرُ مِنْهُ مَا لَا يُحِبُّ كَشْفَهُ، وَلَا أَصِيرُ بِقَبِيحِ الْفِعْلِ إِلَى مَا يَنْقُضُ عَهْدَهُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَخْلُو بِهِ فَأَعِفُّ عَنْهُ تَكَرُّمًا
…
خَوْفَ الدِّيَانَةِ لَسْتُ مِنْ عُشَّاقِهِ
كَالْمَاءِ فِي يَدِ صَائِمٍ يَلْتَذُّهُ
…
ظَمَأً فَيَصْبِرُ عَنْ لَذِيذِ مَذَاقِهِ
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَرْوَاحُ الْعُشَّاقِ عَطِرَةٌ لَطِيفَةٌ، وَأَبْدَانُهُمْ رَقِيقَةٌ خَفِيفَةٌ، نُزْهَتُهُمُ الْمُؤَانَسَةُ، وَكَلَامُهُمْ يُحْيِي مَوَاتَ الْقُلُوبِ، وَيَزِيدُ فِي الْعُقُولِ، وَلَوْلَا الْعِشْقُ وَالْهَوَى لَبَطَلَ نَعِيمُ الدُّنْيَا.
وَقَالَ آخَرُ: الْعِشْقُ لِلْأَرْوَاحِ بِمَنْزِلَةِ الْغِذَاءِ لِلْأَبْدَانِ، إِنْ تَرَكْتَهُ ضَرَّكَ، وَإِنْ أَكْثَرْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ، وَفِي ذَلِكَ قِيلَ:
خَلِيلَيَّ إِنَّ الْحُبَّ فِيهِ لَذَاذَةٌ
…
وَفِيهِ شَقَاءٌ دَائِمٌ وَكُرُوبُ
عَلَى ذَاكَ مَا عَيْشٌ يَطِيبُ بِغَيْرِهِ
…
وَلَا عَيْشَ إِلَّا بِالْحَبِيبِ يَطِيبُ
وَلَا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا بِغَيْرِ صَبَابَةٍ
…
وَلَا فِي نَعِيمٍ لَيْسَ فِيهِ حَبِيبُ
وَذَكَرَ الْخَرَائِطِيُّ عَنْ أَبِي غَسَّانَ قَالَ: مَرَّ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه بِجَارِيَةٍ وَهِيَ تَقُولُ:
وَهَوَيْتُهُ مِنْ قَبْلِ قَطْعِ تَمَائِمِي
…
مُتَمَايِلًا مِثْلَ الْقَضِيبِ النَّاعِمِ
سَأَلَهَا: أَحُرَّةٌ أَنْتِ أَمْ مَمْلُوكَةٌ؟ قَالَتْ: بَلْ مَمْلُوكَةٌ، فَقَالَ: مَنْ هَوَاكِ؟ فَتَلَكَّأَتْ، فَأَقْسَمَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ:
وَأَنَا الَّتِي لَعِبَ الْهَوَى بِفُؤَادِهَا
…
قُتِلَتْ بِحُبِّ مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ
فَاشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا، وَبَعَثَ بِهَا إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْقَاسِمِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ وَاللَّهِ فَتَنَّ الرِّجَالَ، وَكَمْ وَاللَّهِ مَاتَ بِهِنَّ كَرِيمٌ، وَعَطِبَ بِهِنَّ سَلِيمٌ.
وَجَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رضي الله عنه تَسْتَعْدِي عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهَا عُثْمَانُ: مَا قِصَّتُكِ؟ فَقَالَتْ: كَلِفْتُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بِابْنِ أَخِيهِ، فَمَا أَنْفَكُّ أُرَاعِيهِ، فَقَالَ عُثْمَانُ: إِمَّا أَنْ تَهَبَهَا إِلَى ابْنِ أَخِيكَ، أَوْ أُعْطِيَكَ ثَمَنَهَا مِنْ مَالِي، فَقَالَ: أُشْهِدُكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا لَهُ.
وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ فَسَادَ الْعِشْقِ الَّذِي مُتَعَلِّقُهُ فِعْلُ الْفَاحِشَةِ بِالْمَعْشُوقِ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي
الْعِشْقِ الْعَفِيفِ مِنَ الرَّجُلِ الظَّرِيفِ، الَّذِي يَأْبَى لَهُ دِينُهُ وَعِفَّتُهُ وَمُرُوءَتُهُ أَنْ يُفْسِدَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْشُوقِهِ بِالْحَرَامِ، وَهَذَا عِشْقُ السَّلَفِ الْكِرَامِ وَالْأَئِمَّةِ الْأَعْلَامِ، فَهَذَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَحَدُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، عَشِقَ حَتَّى اشْتُهِرَ أَمْرُهُ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَعَدَّ ظَالِمًا مَنْ لَامَهُ، وَمِنْ شِعْرِهِ:
كَتَمْتَ الْهَوَى حَتَّى أَضَرَّ بِكَ الْكَتْمُ
…
وَلَامَكَ أَقْوَامٌ وَلَوْمُهُمْ ظُلْمُ
فَنَمَّ عَلَيْكَ الْكَاشِحُونَ، وَقَبْلَهُمْ
…
عَلَيْكَ الْهَوَى قَدْ نَمَّ لَوْ يَنْفَعُ الْكَتْمُ
فَأَصْبَحْتَ كَالْهِنْدِيِّ إِذْ مَاتَ حَسْرَةً
…
عَلَى إِثْرِ هِنْدٍ أَوْ كَمَنْ شَفَّهُ سُقْمُ
تَجَنَّبْتَ إِتْيَانَ الْحَبِيبِ تَأَثُّمًا
…
أَلَا إِنَّ هُجْرَانَ الْحَبِيبِ هُوَ الْإِثْمُ
فَذُقْ هَجْرَهَا قَدْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّهُ
…
رَشَادٌ أَلَا يَا رُبَّمَا كَذَبَ الزَّعْمُ
وَهَذَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِشْقُهُ مَشْهُورٌ لِجَارِيَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَانَتْ جَارِيَةً بَارِعَةَ الْجَمَالِ، وَكَانَ مُعْجَبًا بِهَا، وَكَانَ يَطْلُبُهَا مِنِ امْرَأَتِهِ، وَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ تَهَبَهَا لَهُ، فَتَأْبَى، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ، فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ، أَمَرَتْ فَاطِمَةُ بِالْجَارِيَةِ فَأُصْلِحَتْ، وَكَانَتْ مَثَلًا فِي حُسْنِهَا وَجَمَالِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْ عَلَى عُمَرَ، وَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّكَ كُنْتَ مُعْجَبًا بِجَارِيَتِي فُلَانَةَ، وَسَأَلْتَهَا، فَأَبَيْتُ عَلَيْكَ، وَالْآنَ قَدْ طَابَتْ نَفْسِي لَكَ بِهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ؛ اسْتَبَانَ الْفَرَحُ فِي وَجْهِهِ، وَقَالَ عَجِّلِي عَلَيَّ بِهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ بِهَا عَلَيْهِ، ازْدَادَ بِهَا عَجَبًا، وَقَالَ لَهَا: أَلْقِي ثِيَابَكِ، فَفَعَلَتْ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: عَلَى رِسْلِكِ، أَخْبِرِينِي لِمَنْ كُنْتِ؟ وَمِنْ أَيْنَ صِرْتِ لِفَاطِمَةَ؟ فَقَالَتْ: أَغْرَمَ الْحَجَّاجُ عَامِلًا لَهُ بِالْكُوفَةِ مَالًا، وَكُنْتُ فِي رَقِيقِ ذَلِكَ الْعَامِلِ، قَالَتْ: فَأَخَذَنِي وَبَعَثَ بِي إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ، فَوَهَبَنِي لِفَاطِمَةَ، قَالَ: وَمَا فَعَلَ ذَلِكَ الْعَامِلُ؟ قَالَتْ: هَلَكَ، قَالَ: وَهَلْ تَرَكَ وَلَدًا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: فَمَا حَالُهُمْ؟ قَالَتْ: سَيِّئَةٌ، فَقَالَ: شُدِّي عَلَيْكِ ثِيَابَكِ، وَاذْهَبِي إِلَى مَكَانِكِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى عَامِلِهِ عَلَى الْعِرَاقِ: أَنِ ابْعَثْ إِلَيَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ عَلَى الْبَرِيدِ، فَلَمَّا قَدِمَ، قَالَ لَهُ: ارْفَعْ إِلَيَّ جَمِيعَ مَا أَغْرَمَهُ الْحَجَّاجُ لِأَبِيكَ، فَلَمْ يَرْفَعْ إِلَيْهِ شَيْئًا إِلَّا دَفَعَهُ إِلَيْهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِالْجَارِيَةِ فَدُفِعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِيَّاكَ وَإِيَّاهَا، فَلَعَلَّ أَبَاكَ قَدْ أَلَمَّ بِهَا، فَقَالَ الْغُلَامُ: هِيَ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهَا، قَالَ: فَابْتَعْهَا مِنِّي، قَالَ: لَسْتُ إِذًا مِمَّنْ نَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَلَمَّا عَزَمَ الْفَتَى عَلَى الِانْصِرَافِ بِهَا، قَالَتْ: أَيْنَ وَجْدُكَ بِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: عَلَى حَالِهِ، وَلَقَدْ زَادَ، وَلَمْ تَزَلِ الْجَارِيَةُ فِي نَفْسِ عُمَرَ، حَتَّى مَاتَ رحمه الله.
وَهَذَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ دَاوُدَ الظَّاهِرِيُّ الْعَالِمُ الْمَشْهُورُ فِي فُنُونِ الْعِلْمِ: مِنَ الْفِقْهِ، وَالْحَدِيثِ، وَالتَّفْسِيرِ، وَالْأَدَبِ، وَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْفِقْهِ، وَهُوَ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ، وَعَشِقُهُ مَشْهُورٌ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَقُلْتُ: كَيْفَ تَجِدُكَ؟ فَقَالَ: حُبُّ مَنْ تَعْلَمُ أَوْرَثَنِي مَا تَرَى، فَقُلْتُ: وَمَا يَمْنَعُكَ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؟ فَقَالَ:
الِاسْتِمْتَاعُ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّظَرُ الْمُبَاحُ، وَالْآخَرُ: اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ، فَأَمَّا النَّظَرُ الْمُبَاحُ فَهُوَ الَّذِي أَوْرَثَنِي مَا تَرَى، وَأَمَّا اللَّذَّةُ الْمَحْظُورَةُ فَيَمْنَعُنِي مِنْهَا مَا حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّابِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما يَرْفَعُهُ:«مَنْ عَشِقَ وَكَتَمَ وَعَفَّ وَصَبَرَ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ وَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ ".»
ثُمَّ أَنْشَدَ:
انْظُرْ إِلَى السِّحْرِ يَجْرِي مِنْ لَوَاحِظِهِ
…
وَانْظُرْ إِلَى دَعَجٍ فِي طَرْفِهِ السَّاجِي
وَانْظُرْ إِلَى شَعَرَاتٍ فَوْقَ عَارِضِهِ
…
كَأَنَّهُنَّ نِمَالٌ دَبَّ فِي عَاجِ
ثُمَّ أَنْشَدَ:
مَا لَهُمْ أَنْكَرُوا سَوَادًا بِخَدَّيْهِ
…
وَلَا يُنْكِرُونَ وَرْدَ الْغُصُونِ؟
إِنْ يَكُنْ عَيْبُ خَدِّهِ بَرْدُ الشَّعْرِ
…
فَعَيْبُ الْعُيُونِ شَعْرُ الْجُفُونِ
فَقُلْتُ لَهُ: نَفَيْتَ الْقِيَاسَ فِي الْفِقْهِ، وَأَثْبَتَّهُ فِي الشَّرِّ؟ فَقَالَ: غَلَبَةُ الْوَجْدِ وَمَلَكَةُ النَّفْسِ دَعَتْ إِلَيْهِ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ، وَبِسَبَبِ مَعْشُوقِهِ صَنَّفَ كِتَابَ الزَّهْرَةِ.
وَمِنْ كَلَامِهِ فِيهِ: " مَنْ يَئِسَ مِمَّنْ يَهْوَاهُ، وَلَمْ يَمُتْ مِنْ وَقْتِهِ سَلَاهُ، وَذَلِكَ أَوَّلُ رَوْعَاتِ الْيَأْسِ تَأْتِي الْقَلْبَ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لَهَا، فَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَتَأْتِي الْقَلْبَ وَقَدْ وَطَّأَتْهُ لَهَا الرَّوْعَةُ الْأُولَى ".
وَالْتَقَى هُوَ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ فِي مَجْلِسِ أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، فَتَنَاظَرَا فِي مَسْأَلَةٍ مِنَ الْإِيلَاءِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ: أَنْتَ بِأَنْ تَقُولَ: مَنْ دَامَتْ لَحَظَاتُهُ؛ كَثُرَتْ حَسَرَاتُهُ، أَحَذَقُ مِنْكَ بِالْكَلَامِ عَلَى الْفِقْهِ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ ذَلِكَ فَإِنِّي أَقُولُ:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتَيَّ
…
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
وَأَحْمِلُ مِنْ ثِقَلِ الْهَوَى مَا لَوْ أَنَّهُ
…
يُصَبُّ عَلَى الصَّخْرِ الْأَصَمِّ تَهَدَّمَا
وَيَنْطِقُ طَرْفِي عَنْ مُتَرْجَمِ خَاطِرِي
…
فَلَوْلَا اخْتِلَاسِي وُدَّهُ لَتَكَلَّمَا
رَأَيْتُ الْهَوَى دَعْوَى مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمُ
…
فَلَسْتُ أَرَى وُدًّا صَحِيحًا مُسَلَّمًا
فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: بِمَ تَفْخَرُ عَلَيَّ؟ وَلَوْ شِئْتُ لَقُلْتُ:
وَمَطَاعِمُهُ كَالشَّهْدِ فِي نَغَمَاتِهِ
…
قَدْ بِتَّ أَمْنَعُهُ لَذِيذَ سِنَاتِهِ
بِصَبَابَةٍ وَبِحُسْنِهِ وَحَدِيثِهِ
…
وَأُنَزِّهُ اللَّحَظَاتِ عَنْ وَجَنَاتِهِ
حَتَّى إِذَا مَا الصُّبْحُ رَاحَ عَمُودُهُ
…
وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاتِهِ
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَحْفَظُ عَلَيْهِ الْوَزِيرُ مَا أَقَرَّ بِهِ حَتَّى يُقِيمَ شَاهِدًا عَلَى أَنَّهُ وَلَّى بِخَاتَمِ رَبِّهِ وَبَرَاءَتِهِ، فَقَالَ ابْنُ سُرَيْجٍ: يَلْزَمُنِي فِي هَذَا مَا يَلْزَمُكَ فِي قَوْلِكَ:
أُنَزِّهُ فِي رَوْضِ الْمَحَاسِنِ مُقْلَتِي
…
وَأَمْنَعُ نَفْسِي أَنْ تَنَالَ مُحَرَّمَا
فَضَحِكَ الْوَزِيرُ، وَقَالَ: لَقَدْ جَمَعْتُمَا لُطْفًا وَظُرْفًا، ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ فِي تَارِيخِهِ.
وَجَاءَتْهُ يَوْمًا فُتْيَا مَضْمُونُهَا:
يَا ابْنَ دَاوُدَ يَا فَقِيهَ الْعِرَاقِ
…
أَفْتِنَا فِي قَوَاتِلِ الْأَحْدَاقِ
هَلْ عَلَيْهَا بِمَا أَتَتْ مِنْ جُنَاحِ
…
أَمْ حَلَالٌ لَهَا دَمُ الْعُشَّاقِ
فَكَتَبَ بِخَطِّهِ تَحْتَ الْبَيْتَيْنِ:
عِنْدِي جَوَابُ مَسَائِلِ الْعُشَّاقِ
…
فَاسْمَعْهُ مِنْ قَرِحِ الْحَشَا مُشْتَاقِ
لَمَّا سَأَلْتَ عَنِ الْهَوَى هَيَّجْتَنِي
…
وَأَرَقْتَ دَمْعًا لَمْ يَكُنْ بِمُرَاقِ
إِنْ كَانَ مَعْشُوقًا يُعَذِّبُ عَاشِقًا
…
كَانَ الْمُعَذَّبُ أَنْعَمَ الْعُشَّاقِ
قَالَ صَاحِبُ كِتَابِ " مَنَازِلِ الْأَحْبَابِ "، شِهَابُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ فَهْدٍ صَاحِبُ كِتَابِ الْإِنْشَاءِ: وَقُلْتُ فِي جَوَابِ الْبَيْتَيْنِ عَلَى قَافِيَتِهِمَا مُجِيبًا لِلسَّائِلِ:
قُلْ لِمَنْ جَاءَ سَائِلًا عَنْ لِحَاظٍ
…
هُنَّ يَلْعَبْنَ فِي دَمِ الْعُشَّاقِ
مَا عَلَى السَّيْفِ فِي الْوَرَى مِنْ جُنَاحٍ
…
إِنْ ثَنَى الْحَدَّ عَنْ دَمٍ مُهْرَاقِ
وَسُيُوفُ اللِّحَاظِ أَوْلَى بِأَنْ تَصْ
…
فَحَ عَمَّا جَنَتْ عَلَى الْعُشَّاقِ
إِنَّمَا كُلُّ مَنْ قَتَلْنَ شَهِيدٌ
…
وَلِهَذَا يَفْنَى ضَنًى وَهْوَ بَاقٍ
وَنَظِيرُ ذَلِكَ فَتْوَى وَرَدَتْ عَلَى الشَّيْخِ أَبِي الْخَطَّابِ مَحْفُوظِ بْنِ أَحْمَدَ الْكَوْذَانِيِّ شَيْخِ الْحَنَابِلَةِ فِي وَقْتِهِ رحمه الله:
قُلْ لِلْإِمَامِ أَبِي الْخَطَّابِ: مَسْأَلَةٌ
…
جَاءَتْ إِلَيْكَ وَمَا خُلِقَ سِوَاكَ لَهَا
مَاذَا عَلَى رَجُلٍ رَامَ الصَّلَاةَ فَمُذْ
…
لَاحَتْ لِخَاطِرِهِ ذَاتُ الْجَمَالِ لَهَا
فَأَجَابَهُ تَحْتَ السُّؤَالِ:
قُلْ لِلْأَدِيبِ الَّذِي وَافَى بِمَسْأَلَةٍ
…
سَرَّتْ فُؤَادِي لَمَّا أَنْ أَصَخْتُ لَهَا
إِنَّ الَّتِي فَتَنَتْهُ عَنْ عِبَادَتِهِ
…
خَرِيدَةٌ ذَاتُ حُسْنٍ فَانْثَنَى وَلَهَا
إِنْ تَابَ ثُمَّ قَضَى عَنْهُ عِبَادَتَهُ
…
فَرَحْمَةُ اللَّهِ تَغْشَى مَنْ عَصَى وَلَهَا
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ: حَجَجْتُ سَنَةً، ثُمَّ دَخَلْتُ ذَاتَ لَيْلَةٍ مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَيْنَمَا أَنَا جَالِسٌ بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ، إِذْ سَمِعْتُ أَنِينًا فَأَصْغَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ يَقُولُ:
أَشْجَاكَ نَوْحُ حَمَائِمِ السِّدْرِ
…
فَأَهَجْنَ مِنْكَ بَلَابِلَ الصَّدْرِ
أَمْ عَزَّ نَوْمَكَ ذِكْرُ غَانِيَةٍ
…
أَهَدَتْ إِلَيْكَ وَسَاوِسَ الْفِكْرِ
يَا لَيْلَةً طَالَتْ عَلَى دَنِفٍ
…
يَشْكُو السُّهَادَ وَقِلَّةَ الصَّبْرِ
أَسَلَّمْتَ مَنْ تَهْوَى لِحَرِّ جَوًى
…
مُتَوَقِّدٍ كَتَوَقُّدِ الْجَمْرِ
فَالْبَدْرُ يَشْهَدُ أَنَّنِي كَلِفٌ
…
مُغْرًى بِحُبِّ شَبِيهَةِ الْبَدْرِ
مَا كُنْتُ أَحْسَبُنِي أَهِيمُ بِحُبِّهَا
…
حَتَّى بُلِيتُ وَكُنْتُ لَا أَدْرِي
ثُمَّ انْقَطَعَ الصَّوْتُ، فَلَمْ أَدْرِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ، وَإِذَا بِهِ قَدْ عَادَ الْبُكَاءُ وَالْأَنِينُ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَشْجَاكَ مِنْ رَيَّا خَيَالٌ زَائِرٌ
…
وَاللَّيْلُ مُسْوَدُّ الذَّوَائِبِ عَاكِرُ
وَاغْتَالَ مُهْجَتَكَ الْهَوَى بِرَسِيسَةٍ
…
وَاهْتَاجَ مُقْلَتَكَ الْخَيَالُ الزَّائِرُ
نَادَيْتَ رَيًّا وَالظَّلَامُ كَأَنَّهُ
…
يَمٌّ تَلَاطَمَ فِيهِ مَوْجٌ زَاخِرُ
وَالْبَدْرُ يَسْرِي فِي السَّمَاءِ كَأَنَّهُ
…
مَلِكٌ تَرَجَّلَ وَالنُّجُومُ عَسَاكِرُ
وَتَرَى بِهِ الْجَوْزَاءَ تَرْقُصُ فِي الدُّجَى
…
رَقْصَ الْحَبِيبِ عَلَاهُ سُكْرٌ ظَاهِرُ
يَا لَيْلُ طُلْتَ عَلَى مُحِبٍّ مَا لَهُ
…
إِلَّا الصَّبَاحَ مُسَاعِدٌ وَمُؤَازِرُ
فَأَجَابَنِي مُتْ حَتْفَ أَنْفِكَ وَاعْلَمَنْ
…
أَنَّ الْهَوَى لَهْوَ الْهَوَانُ الْحَاضِرُ
قَالَ: وَكُنْتُ ذَهَبْتُ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْأَبْيَاتِ فَلَمْ يَتَنَبَّهْ إِلَّا وَأَنَا عِنْدُهُ، فَرَأَيْتُ شَابًّا مُقْتَبِلًا شَبَابُهُ قَدْ خَرَقَ الدَّمْعُ فِي خَدِّهِ خَرْقَيْنِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: اجْلِسْ، مَنْ أَنْتَ؟ فَقُلْتُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ الْقَيْسِيُّ، قَالَ: أَلَكَ حَاجَةٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ كُنْتُ جَالِسًا فِي الرَّوْضَةِ، فَمَا رَاعَنِي إِلَّا صَوْتُكَ، فَبِنَفْسِي أَفْدِيكَ فَمَا الَّذِي تَجِدُهُ؟ فَقَالَ أَنَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَمُوحِ الْأَنْصَارِيُّ، غَدَوْتُ يَوْمًا إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ فَصَلَّيْتُ فِيهِ، ثُمَّ اعْتَزَلْتُ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَإِذَا بِنِسْوَةٍ قَدْ أَقْبَلْنَ يَتَهَادَيْنَ مِثْلَ الْقَطَا، وَإِذَا فِي وَسَطِهِنَّ جَارِيَةٌ بَدِيعَةُ الْجَمَالِ، كَامِلَةُ الْمَلَاحَةِ، فَوَقَفَتْ عَلَيَّ، فَقَالَتْ: يَا عُتْبَةُ، مَا تَقُولُ فِي وَصْلِ مَنْ يَطْلُبُ وَصْلَكَ؟ ثُمَّ تَرَكَتْنِي وَذَهَبَتْ، فَلَمْ أَسْمَعْ لَهَا خَبَرًا، وَلَا قَفَوْتُ لَهَا أَثَرًا، وَأَنَا حَيْرَانُ أَنْتَقِلُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى آخَرَ، ثُمَّ صَرَخَ وَأَكَبَّ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، ثُمَّ أَفَاقَ، كَأَنَّمَا صُبِغَتْ وَجَنَتَاهُ بِوَرْسٍ، ثُمَّ أَنْشَدَ:
أَرَاكُمْ بِقَلْبِي مِنْ بِلَادٍ بَعِيدَةٍ
…
فَيَا هَلْ تَرَوْنِي بِالْفُؤَادِ عَلَى بَعْدِي
فُؤَادِي وَطَرْفِي يَأْسَفَانِ عَلَيْكُمُ
…
وَعِنْدَكُمْ رُوحِي وَذِكْرُكُمْ عِنْدِي
وَلَسْتُ أَلَذَّ الْعَيْشَ حَتَّى أَرَاكُمُ
…
وَلَوْ كُنْتُ فِي الْفِرْدَوْسِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ
فَقُلْتُ: يَا ابْنَ أَخِي، تُبْ إِلَى رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ مِنْ ذَنْبِكَ، فَبَيْنَ يَدَيْكَ هَوْلُ الْمَطْلَعِ، فَقَالَ: مَا أَنَا بِسَالٍ حَتَّى يَئُوبَ الْقَارِظَانِ، وَلَمْ أَزَلْ مَعَهُ إِلَى أَنْ طَلَعَ الصُّبْحُ، فَقُلْتُ: قُمْ بِنَا
إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكْشِفَ كُرْبَتَكَ، فَقَالَ: أَرْجُو ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِبَرَكَةِ طَاعَتِكَ، فَذَهَبْنَا حَتَّى أَتَيْنَا مَسْجِدَ الْأَحْزَابِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ:
يَا لَلرِّجَالِ لِيَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ أَمَا
…
يَنْفَكُّ يُحْدِثُ لِي بَعْدَ النُّهَى طَرَبًا
مَا إِنْ يَزَالُ غَزَالٌ مِنْهُ يَقْتُلُنِي
…
يَأْتِي إِلَى مَسْجِدِ الْأَحْزَابِ مُنْتَقِبًا
يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّ الْأَجْرَ هِمَّتُهُ
…
وَمَا أَتَى طَالِبًا لِلْأَجْرِ مُحْتَسِبًا
لَوْ كَانَ يَبْغِي ثَوَابًا مَا أَتَى صَلَفًا
…
مُضَمِّخًا بِفَتِيتِ الْمِسْكِ مُخْتَضِبًا
ثُمَّ جَلَسْنَا حَتَّى صَلَّيْنَا الظُّهْرَ، فَإِذَا بِالنِّسْوَةِ قَدْ أَقْبَلْنَ وَلَيْسَتِ الْجَارِيَةُ فِيهِنَّ، فَوَقَفْنَ عَلَيْهِ، وَقُلْنَ لَهُ: يَا عُتْبَةُ مَا ظَنُّكَ بِطَالِبَةِ وَصْلِكَ، وَكَاسِفَةِ بَالِكَ؟ قَالَ: وَمَا بَالُهَا، قُلْنَ: أَخَذَهَا أَبُوهَا وَارْتَحَلَ بِهَا إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ، فَسَأَلْتُهُنَّ عَنِ الْجَارِيَةِ، فَقُلْنَ: هِيَ رَيَّا بِنْتُ الْغِطْرِيفِ السُّلَمِيِّ، فَرَفَعَ عُتْبَةُ رَأَسَهُ إِلَيْهِنَّ وَقَالَ:
خَلِيلِيَّ رَيَّا قَدْ أُجِدَّ بِكُوْرِهَا
…
وَسَارَتْ إِلَى أَرْضِ السَّمَاوَةِ غَيْرُهَا
خَلِيلِيَّ إِنِّي قَدْ عَشِيتُ مِنَ الْبُكَا
…
فَهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقْلَةٌ أَسْتَعِيرُهَا
فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي قَدْ وَرَدْتُ بِمَالٍ جَزِيلٍ أُرِيدُ بِهِ أَهْلَ السَّتْرِ، وَوَاللَّهِ لَأَبْذُلَنَّهُ أَمَامَكَ حَتَّى تَبْلُغَ رِضَاكَ وَفَوْقَ الرِّضَا، فَقُمْ بِنَا إِلَى مَسْجِدِ الْأَنْصَارِ، فَقُمْنَا وَسِرْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ، فَسَلَّمْتُ، فَأَحْسَنُوا الرَّدَّ، فَقُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلَأُ، مَا تَقُولُونَ فِي عُتْبَةَ وَأَبِيهِ؟ قَالُوا: مِنْ سَادَاتِ الْعَرَبِ، قُلْتُ: فَإِنَّهُ قَدْ رُمِيَ بِدَاهِيَةٍ مِنَ الْهَوَى وَمَا أُرِيدُ مِنْكُمْ إِلَّا الْمُسَاعَدَةَ إِلَى السَّمَاوَةِ، فَقَالُوا: سَمْعًا وَطَاعَةً، فَرَكِبْنَا وَرَكِبَ الْقَوْمُ مَعَنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى مَنَازِلِ بَنِي سُلَيْمٍ، فَأُعْلِمَ الْغِطْرِيفُ بِنَا، فَخَرَجَ مُبَادِرًا فَاسْتَقْبَلَنَا، وَقَالَ: حُيِّيتُمْ يَا كِرَامُ، فَقُلْنَا: وَأَنْتَ فَحَيَّاكَ إِنَّا لَكَ أَضْيَافٌ، فَقَالَ: نَزَلْتُمْ أَكْرَمَ مَنْزِلٍ، ثُمَّ نَادَى: يَا مَعْشَرَ الْعَبِيدِ، أَنْزِلُوا الْقَوْمَ، فَفُرِشَتِ الْأَنْطَاعُ وَالنَّمَارِقُ، وَذُبِحَتِ الذَّبَائِحُ، فَقُلْنَا: لَسْنَا بِذَائِقِي طَعَامِكَ حَتَّى تَقْضِيَ حَاجَتَنَا، فَقَالَ: وَمَا حَاجَتُكُمْ؟ قُلْنَا: نَخْطُبُ عَقِيلَتَكَ الْكَرِيمَةَ لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، فَقَالَ: إِنَّ الَّتِي تَخْطِبُونَهَا أَمْرُهَا إِلَى نَفْسِهَا، وَأَنَا أَدْخُلُ أُخْبِرُهَا، ثُمَّ دَخَلَ مُغْضَبًا عَلَى ابْنَتِهِ، فَقَالَتْ: يَا أَبَتِ مَا لِي أَرَى الْغَضَبَ فِي وَجْهِكَ؟ ، فَقَالَ: قَدْ وَرَدَ الْأَنْصَارُ يَخْطُبُونَكِ مِنِّي، فَقَالَتْ: سَادَاتٌ كِرَامٌ، اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلِمَنِ الْخُطْبَةُ مِنْهُمْ؟ فَقَالَ: لِعُتْبَةَ بْنِ الْحُبَابِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ عَنْ عُتْبَةَ هَذَا: إِنَّهُ يَفِي بِمَا وَعَدَ، وَيُدْرِكُ إِذَا قَصَدَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ لَا أُزَوِّجَنَّكِ بِهِ أَبَدًا، وَلَقَدْ نَمَى إِلَيَّ بَعْضُ حَدِيثِكِ مَعَهُ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ إِذْ أَقْسَمْتَ، فَإِنَّ الْأَنْصَارَ لَا يُرَدُّونَ رَدًّا قَبِيحًا، حَسِّنْ لَهُمُ الرَّدَّ، فَقَالَ: بِأَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: أَغْلِظْ عَلَيْهِمُ الْمَهْرَ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا يُجِيبُونَ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ مَا قُلْتِ، فَخَرَجَ مُبَادِرًا عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: إِنَّ فَتَاةَ الْحَيِّ قَدْ أَجَابَتْ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا، فَمَنِ الْقَائِمُ بِهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَعْمَرٍ: أَنَا،
فَقُلْ مَا شِئْتَ، فَقَالَ: أَلْفُ مِثْقَالٍ مِنَ الذَّهَبِ، وَمِائَةُ ثَوْبٍ مِنَ الْأَبْرَادِ، وَخَمْسَةُ أَكْرِشَةٍ مِنْ عَنْبَرٍ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ ذَلِكَ كُلُّهُ، فَهَلْ أَجَبْتَ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَأَنْفَذْتُ نَفَرًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا بِجَمِيعِ مَا طَلَبَ، ثُمَّ صُنِعَتِ الْوَلِيمَةُ، وَأَقَمْنَا عَلَى ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ قَالَ: خُذُوا فَتَاتَكُمْ وَانْصَرِفُوا مُصَاحِبِينَ، ثُمَّ حَمَلَهَا فِي هَوْدَجٍ، وَجَهَّزَهَا بِثَلَاثِينَ رَاحِلَةً مِنَ الْمَتَاعِ وَالتُّحَفِ، فَوَدَّعْنَاهُ وَسِرْنَا، حَتَّى إِذَا بَقِيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ مَرْحَلَةٌ وَاحِدَةٌ، خَرَجَتْ عَلَيْنَا خَيْلٌ تُرِيدُ الْغَارَةَ
أَحْسَبُهَا مِنْ سُلَيْمٍ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا عُتْبَةُ بْنُ الْحُبَابِ، فَقَتَلَ مِنْهُمْ رِجَالًا، وَجَرَحَ آخَرِينَ، ثُمَّ رَجَعَ وَبِهِ طَعْنَةٌ تَفُورُ دَمًا، فَسَقَطَ إِلَى الْأَرْضِ، وَانْثَنَى بِخَدِّهِ، فَطُرِدَتْ عَنَّا الْخَيْلُ وَقَدْ قَضَى عُتْبَةُ نَحْبَهُ، فَقُلْنَا: وَاعُتْبَتَاهُ، فَسَمِعَتْنَا الْجَارِيَةُ، فَأَلْقَتْ نَفْسَهَا مِنَ الْبَعِيرِ، وَجَعَلَتْ تَصِيحُ بِحُرْقَةٍ، وَأَنْشَدَتْ:
تَصَبَّرْتُ لَا أَنِّي صَبِرْتُ وَإِنَّمَا
…
أُعَلِّلُ نَفْسِي أَنَّهَا بِكَ لَاحِقَهْ
فَلَوْ أَنْصَفَتْ رُوحِي لَكَانَتْ إِلَى الرَّدَى
…
أَمَامَكَ مِنْ دُونِ الْبَرِيَّةِ سَابِقَهْ
فَمَا أَحَدٌ بَعْدِي وَبَعْدَكَ مُنْصِفٌ
…
خَلِيلًا وَلَا نَفْسٌ لِنَفْسٍ مُوَافِقَهْ
ثُمَّ شَهِقَتْ وَقَضَتْ نَحْبَهَا، فَاحْتَفَرْنَا لَهُمَا قَبْرًا وَاحِدًا وَدَفَنَّاهُمَا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَقَمْتُ سَبْعَ سِنِينَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ إِلَى الْحِجَازِ وَوَرَدْتُ الْمَدِينَةَ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّ قَبْرَ عُتْبَةَ أَزُورُهُ، فَأَتَيْتُ الْقَبْرَ، فَإِذَا عَلَيْهِ شَجَرَةٌ عَلَيْهَا عَصَائِبُ حُمْرُ وَصُفْرُ، فَقُلْتُ: لِأَرْبَابِ الْمَنْزِلِ مَا يُقَالُ لِهَذِهِ الشَّجَرَةِ؟ قَالُوا: شَجَرَةُ الْعَرُوسَيْنِ.
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعِشْقِ مِنَ الرُّخْصَةِ الْمُخَالِفَةِ لِلتَّشْدِيدِ إِلَّا الْحَدِيثُ الْوَارِدُ بِالْحَسَنِ مِنَ الْأَسَانِيدِ، وَهُوَ حَدِيثُ سُوَيْدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُسْهِرٍ عَنْ أَبِي يَحْيَى الْقَتَّاتِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَرْفَعُهُ:«مَنْ عَشِقَ وَعَفَّ، وَكَتَمَ فَمَاتَ فَهُوَ شَهِيدٌ» وَرَوَاهُ سُوَيْدٌ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ الْخَطِيبُ عَنِ الْأَزْهَرِيِّ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ زَكَرِيَّا عَنْ قُطْبَةَ عَنِ ابْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَسْرُوقٍ عَنْهُ، وَرَوَاهُ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَهَذَا سَيِّدُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَرَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ رضي الله عنها فَقَالَتْ: سُبْحَانَ مُقَلِّبِ الْقُلُوبِ، وَكَانَتْ تَحْتَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ مَوْلَاهُ، فَلَمَّا هَمَّ بِطَلَاقِهَا، قَالَ لَهُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ، فَلَمَّا طَلَّقَهَا، زَوَّجَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ، فَكَانَ هُوَ وَلِيَّهَا وَوَلِيَ تَزْوِيجَهَا مِنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَعَقَدَ نِكَاحَهَا مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ، وَأَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم: