المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى … فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا - الداء والدواء = الجواب الكافي - ط دار المعرفة

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌[لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءٌ]

- ‌[الْقُرْآنُ شِفَاءٌ]

- ‌[الدُّعَاءُ يَدْفَعُ الْمَكْرُوهَ]

- ‌[دعاء الغافل]

- ‌[فَصْلٌ الدُّعَاءُ مِنْ أَنْفَعِ الْأَدْوِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ آفَاتِ الدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ أَوْقَاتُ الْإِجَابَةِ]

- ‌[فَصْلٌ ظُرُوفُ الدُّعَاءِ]

- ‌[فَصْلٌ شُرُوطُ الدُّعَاءِ الْمُسْتَجَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الدُّعَاءُ وَالْقَدَرُ]

- ‌[فَصْلٌ مُغَالَطَةُ النَّفْسِ حَوْلَ الْأَسْبَابِ]

- ‌[فَصْلٌ الَّذِينَ اعْتَمَدُوا عَلَى عَفْوِ اللَّهِ فَضَيَّعُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الِاغْتِرَارُ بِالدُّنْيَا]

- ‌[فَصْلٌ الْفَرْقُ بَيْنَ حُسْنِ الظَّنِّ وَالْغُرُورِ]

- ‌[فَصْلٌ الرَّجَاءُ وَالْأَمَانِيُّ]

- ‌[فَصْلٌ ضَرَرُ الذُّنُوبِ فِي الْقَلْبِ كَضَرَرِ السُّمُومِ فِي الْأَبْدَانِ]

- ‌[فَصْلٌ مِنْ آثَارِ الْمَعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ تَوَالُدُ الْمَعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُضْعِفُ إِرَادَةَ الْخَيْرِ]

- ‌[فَصْلٌ إِلْفُ الْمَعْصِيَةِ]

- ‌[فَصْلٌ هَوَانُ الْعَاصِي عَلَى رَبِّهِ]

- ‌[فَصْلٌ شُؤْمُ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُورِثُ الذُّلَّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُفْسِدُ الْعَقْلَ]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ تَطْبَعُ عَلَى الْقُلُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ تُدْخِلُ الْعَبْدَ تَحْتَ لَعْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ حِرْمَانُ دَعْوَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم]

- ‌[فَصْلٌ مَا رَآهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُصَاةِ]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ تُحْدِثُ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ تُطْفِئُ الْغَيْرَةَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُذْهِبُ الْحَيَاءَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُضْعِفُ فِي الْقَلْبِ تَعْظِيمَ الرَّبِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُنْسِي اللَّهَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُخْرِجُ الْعَبْدَ مِنْ دَائِرَةِ الْإِحْسَانِ]

- ‌[فَصْلٌ الْعَاصِي يَفُوتُهُ ثَوَابُ الْمُؤْمِنِينَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْقَلْبَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُلْقِي الرُّعْبَ وَالْخَوْفَ فِي الْقُلُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُمْرِضُ الْقُلُوبَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُعْمِي الْبَصِيرَةَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُصَغِّرُ النَّفْسَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي فِي سِجْنِ الشَّيْطَانِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُسْقِطُ الْكَرَامَةَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ مَجْلَبَةٌ لِلذَّمِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْلِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُوجِبُ الْقَطِيعَةَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تَمْحَقُ الْبَرَكَةَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تَجْعَلُ صَاحِبَهَا مِنَ السَّفَلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُجَرِّئُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْدَاءَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُضْعِفُ الْعَبْدَ أَمَامَ نَفْسِهِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُعْمِي الْقَلْبَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي عَدُوٌّ لَدُودٌ]

- ‌[فَصْلٌ ثَغْرُ الْأُذُنِ]

- ‌[فَصْلٌ ثَغْرُ اللِّسَانِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُنْسِي الْعَبْدَ نَفْسَهُ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي تُزِيلُ النِّعَمَ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعْصِيَةُ تُبَاعِدُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْمَلِكِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَعَاصِي مَجْلَبَةُ الْهَلَاكَ]

- ‌[فَصْلٌ الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ عَلَى الْمَعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ عُقُوبَاتُ الذُّنُوبِ شَرْعِيَّةٌ وَقَدَرِيَّةٌ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَطْعُ لِإِفْسَادِ الْأَمْوَالِ]

- ‌[فَصْلٌ الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ]

- ‌[الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى الْقُلُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْعُقُوبَاتُ الْقَدَرِيَّةُ عَلَى الْأَبْدَانِ]

- ‌[فَصْلٌ بَعْضُ عُقُوبَاتِ الْمَعَاصِي]

- ‌[فَصْلٌ أَصْلُ الذُّنُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الذُّنُوبُ كَبَائِرُ وَصَغَائِرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شِرْكُ الْوَسَاطَةِ]

- ‌[فَصْلٌ شِرْكُ مَنْ جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ فِي الْعِبَادَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ فِي اللَّفْظِ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ فِي الْإِرَادَاتِ وَالنِّيَّاتِ]

- ‌[فَصْلٌ حَقِيقَةُ الشِّرْكِ]

- ‌[فَصْلٌ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ]

- ‌[فَصْلٌ الشِّرْكُ وَالْكِبْرُ]

- ‌[فَصْلٌ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ]

- ‌[فَصْلٌ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ]

- ‌[فَصْلٌ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ]

- ‌[فَصْلٌ جَرِيمَةُ الزِّنَى]

- ‌[فَصْلٌ مَدْخَلُ الْمَعَاصِي النَّظْرَةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْخَطْرَةُ]

- ‌[فَصْلٌ اللَّفْظَةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْخُطْوَةُ]

- ‌[فَصْلٌ عُقُوبَةُ اللِّوَاطِ]

- ‌[فَصْلُ عُقُوبَةِ اللِّوَاطِ وَعُقُوبَةِ الزِّنَى]

- ‌[فَصْلُ وَاطِئِ الْبَهِيمَةِ]

- ‌[فَصْلُ اللِّوَاطِ وَالسِّحَاقِ]

- ‌[فَصْلُ دَوَاءِ اللِّوَاطِ]

- ‌[فَصْلُ تَوْحِيدِ الْمَحْبُوبِ]

- ‌[فَصْلُ خَاصِّيَّةِ التَّعَبُّدِ]

- ‌[فَصْلٌ: آخِرُ مَرَاتِبِ الْحُبِّ]

- ‌[الشِّرْكُ فِي الْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ أَنْوَاعُ الْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ كَمَالُ الْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ وَالْخُلَّةُ]

- ‌[فَصْلٌ إِيثَارُ الْأَعْلَى]

- ‌[فَصْلٌ إِيثَارُ الْأَنْفَعِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ الْمَحْبُوبِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحُبُّ أَصْلُ كُلِّ عَمَلٍ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ الْمَحْمُودَةُ وَالْمَحَبَّةُ الْمَذْمُومَةُ]

- ‌[فَصْلٌ الْحُبُّ أَصْلُ الْحَرَكَةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحُبُّ لِلَّهِ وَحْدَهُ]

- ‌[فَصْلٌ آثَارُ الْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْمَحَبَّةُ أَصْلُ كُلِّ دِينٍ]

- ‌[فَصْلٌ عِشْقُ الصُّوَرِ]

- ‌[فَصْلٌ عِشْقُ اللُّوطِيَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ دَوَاءُ الْعِشْقِ]

- ‌[فَصْلٌ مَقَامَاتُ الْعَاشِقِ]

- ‌[الْمَحَبَّةُ النَّافِعَةُ]

- ‌[فَصْلٌ كَمَالُ اللَّذَّةِ فِي كَمَالِ الْمَحْبُوبِ وَكَمَالِ الْمَحَبَّةِ]

- ‌[فَصْلٌ الْحُبُّ الَّذِي لَا يُنْكَرُ وَلَا يُذَمُّ]

- ‌[فَصْلٌ مَحَبَّةُ الزَّوْجَاتِ]

- ‌[فَصْلٌ أَقْسَامُ النَّاسِ فِي الْعِشْقِ]

- ‌[فَصْلٌ حَدِيثُ مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ]

الفصل: أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى … فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى

فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا فَتَمَكَّنَا

وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ بَنَوْا سُلُوكَهُمْ عَلَى حِفْظِ الْخَوَاطِرِ، وَأَنْ لَا يُمَكِّنُوا خَاطِرًا يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى تَصِيرَ الْقُلُوبُ فَارِغَةً قَابِلَةً لِلْكَشْفِ وَظُهُورِ حَقَائِقِ الْعُلْوِيَّاتِ فِيهَا، وَهَؤُلَاءِ حَفِظُوا شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَخْلَوُا الْقُلُوبَ مِنْ أَنْ يَطْرُقَهَا خَاطِرٌ فَبَقِيَتْ فَارِغَةً لَا شَيْءَ فِيهَا، فَصَادَفَهَا الشَّيْطَانُ خَالِيَةً، فَبَذَرَ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي قَوَالِبَ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهَا أَعْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفُهَا، وَعَوَّضَهُمْ بِهَا عَنِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَوَجَدَ الْمَحِلَّ خَالِيًا، فَيَشْغَلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ صَاحِبِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَشْغَلَهُ بِالْخَوَاطِرِ السُّفْلِيَّةِ، فَشَغَلَهُ بِإِرَادَةِ التَّجْرِيدِ وَالْفَرَاغِ مِنَ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا صَلَاحَ لِلْعَبْدِ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةَ عَلَى قَلْبِهِ، وَهِيَ إِرَادَةُ مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَشُغْلُ الْقَلْبِ وَاهْتِمَامُهُ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ بِهِ، وَالْقِيَامِ بِهِ، وَتَنْفِيذِهِ فِي الْخَلْقِ، وَالتَّطَرُّقِ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ فِي الْخَلْقِ لِتَنْفِيذِهِ، فَيُضِلُّهُمُ الشَّيْطَانُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِهِ وَتَعْطِيلِهِ مِنْ بَابِ الزُّهْدِ فِي خَوَاطِرِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا.

وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ كَمَالَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّجْرِيدِ وَالْفَرَاغِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، إِنَّمَا الْكَمَالُ فِي امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ وَمِنَ النَّاسِ، وَالْفِكْرِ فِي طُرُقِ ذَلِكَ وَالتَّوَصُّلِ إِلَيْهِ، فَأَكْمَلُ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَنْقَصَ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِحُظُوظِهِ وَهَوَاهُ أَيْنَ كَانَتْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَتْ تَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ الْخَوَاطِرُ فِي مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى، فَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي صَلَاتِهِ، فَكَانَ يُجَهِّزُ جَيْشَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابٍ عَزِيزٍ شَرِيفٍ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا صَادِقٌ حَاذِقُ الطَّلَبِ، مُتَضَلِّعٌ مِنَ الْعِلْمِ، عَالِي الْهِمَّةِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي عِبَادَةٍ يَظْفَرُ فِيهَا بِعِبَادَاتٍ شَتَّى، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ.

[فَصْلٌ اللَّفْظَةُ]

وَأَمَّا اللَّفَظَاتُ: فَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يُخْرِجَ لَفْظَةً ضَائِعَةً، بَلْ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ الرِّبْحَ وَالزِّيَادَةَ فِي دِينِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ نَظَرَ: هَلْ فِيهَا رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ أَمْ لَا؟ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ، نَظَرَ: هَلْ تَفُوتُهُ بِهَا كَلِمَةٌ أَرْبَحُ مِنْهَا، فَلَا يُضَيِّعُهَا بِهَذِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، فَاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُكَ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، شَاءَ صَاحِبُهُ أَمْ أَبَى.

ص: 158

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ: الْقُلُوبُ كَالْقُدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا، وَأَلْسِنَتُهَا مَغَارِفُهَا، فَانْظُرْ إِلَى الرَّجُلِ حِينَ يَتَكَلَّمُ فَإِنَّ لِسَانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ بِمَا فِي قَلْبِهِ، حُلْوٌ وَحَامِضٌ، وَعَذْبٌ وَأُجَاجٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَكَ طَعْمَ قَلْبِهِ اغْتِرَافُ لِسَانِهِ، أَيْ كَمَا تَطْعَمُ بِلِسَانِكَ طَعْمَ مَا فِي الْقُدُورِ مِنَ الطَّعَامِ فَتُدْرِكُ الْعِلْمَ بِحَقِيقَتِهِ، كَذَلِكَ تَطْعَمُ مَا فِي قَلْبِ الرَّجُلِ مِنْ لِسَانِهِ، فَتَذُوقُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ لِسَانِهِ، كَمَا تَذُوقُ مَا فِي الْقِدْرِ بِلِسَانِكَ.

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ: «لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ» .

«وَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ فَقَالَ: الْفَمُ وَالْفَرْجُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَقَدْ «سَأَلَ مُعَاذٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِرَأْسِهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ: كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقَالَ: وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ؟» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ.

وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فَانْظُرْ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ؟ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» فَهَذَا الْعَابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَعْبُدَهُ، أَحْبَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ.

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ.

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ

ص: 159

لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ» ، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ:«إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ» .

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» ، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ: كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ.

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكَ؟ لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُنْقِصُهُ» قَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي لَفْظٍ: «أَنَّ غُلَامًا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ، فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ: هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: وَمَا يُدْرِيكِ؟ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» .

وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ» .

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» .

وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قَالَ: قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا» ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ.

وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عز وجل» ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، تَقُولُ: اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا» .

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحَاسِبُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ: يَوْمٌ حَارٌّ، وَيَوْمٌ بَارِدٌ.

وَلَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ

ص: 160