المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، - الدر المصون في علوم الكتاب المكنون - جـ ١١

[السمين الحلبي]

الفصل: وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ،

وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.

الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ» لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.

ص: 6

قوله: {وَمَا وَلَدَ} : قيل: «ما» بمعنى «مَنْ» وقيل: مصدريةٌ. أَقْسَم بالشخص وفِعْلِه. وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: هَلَاّ قيل: ومَنْ وَلَدَ. قلت: فيه ما في قولِه {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:‌

‌ 3

6] ، أي: بايِّ شيءٍ وَضَعَتْ، أي: موضوعاً عجيبَ الشأن» وقيل: «ما» نافيةٌ فتحتاج إلى إضمارِ موصولٍ، به يَصِحُّ الكلامُ تقديره: والذي ما وَلَدَ؛ إذ المرادُ بالوالد مَنْ يُوْلدُ له، وبالذي لم يَلِدْ العاقرُ، قال: معناه ابنُ عباس وتلميذُه ابنُ جُبير وعكرمة.

ص: 6

قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا} : هذا هو المُقْسَمُ عليه والكَبَدُ: المَشقةُ. قال الزمخشري: «وأصلُه مِنْ كَبِدَ الرجلُ كَبَداً فهو أكبدُ، إذا

ص: 6

وَجِعَتْ كَبِدْه وانتفخَتْ، فاتُّسِعَ فيه حتى اسْتُعْمِلَ في كلِّ نَصَبٍ ومشقةٍ، ومنه اشْتُقَّت المكابَدَةُ، كما قيل: كَبَته، بمعنى أهلكه، وأصلُه كَبَدَه، أي: أصاب كَبِدَه. قال لبيد:

4573 -

يا عَيْنُ هَلَاّ بَكَيْتِ أَرْبَدَ إذ

قُمْنا وقام الخُصومُ في كَبَدِ

أي: في شِدَّةِ الأمرِ وصعوبةِ الخَطْبِ وقال ذو الإِصبَع:

4574 -

ليَ ابنُ عَمّ لَوَانَّ الناسَ في كَبَدٍ

لظلَّ مُحْتَجِراً بالنَّبْلِ يَرْمِيْني

ص: 7

قوله: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} : يجوزُ أَنْ تكونَ مستأنفةً، وأنْ تكونَ حالاً. وقرأ العامَّةُ «لُبَداً» بضمِّ اللامِ وفتحِ الباءِ. وشَدَّد أبو جعفر الباءَ، وعنه أيضاً سكونُها. ومجاهد وابن أبي الزناد بضمتين، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه اللفظةِ والاختلافُ فيها في الجنِّ.

ص: 7

قوله: {وَشَفَتَيْنِ} : الشَّفْةُ محذوفةُ اللامِ، والأصلُ شَفَهة، بدليل تصغيرِها على شُفَيْهَة، وجَمْعِها على شِفاه، ونظيرُه سَنَة

ص: 7

في إحدى اللغتين. وشافَهْتُه، أي: كلَّمْتُه من غير واسطةٍ، ولا يُجمع بالألفِ والتاءِ، استغناءً بتكسيرِها عن تَصْحيحِها.

ص: 8

قوله: {النجدين} : إمَّا ظرفٌ، وإمَّا على حَذْفِ الجارِّ إنْ أُريد بهما الثَّدْيان، والنَّجْدُ في الأصل: «العُنُقُ لارتفاعِه. وقيل: الطريقُ العالي، كقولِ امرئِ القيس:

4575 -

فريقانِ منهمْ قاطعٌ بَطْنَ نَخْلَةٍ

وآخرُ منهمْ جازعٌ نَجْدَ كَبْكَبِ

ومنه» نَجْدٌ «لارتفاعِها عن تِهامةَ.

ص: 8

وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.

وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلَاّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل

ص: 9

المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم:«ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.

والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر» .

ص: 10

قوله: {ثُمَّ كَانَ} : لتراخي الإِيمان وتباعُدِه في الرتبةِ والفضيلةِ عن العِتْقِ والصدقةِ، لا في الوقتِ، لأنَّ الإِيمانَ هو السَّابقُ ولا يَثْبُتُ عَمَلٌ إلَاّ به، قاله الزمخشري. وقيل: المعنى على: ثم كان في عاقبةِ أَمْرِه من الذين وافَوْا الموتَ على الإِيمان لأنَّ الموافاةَ عليه شرطٌ في الانتفاعِ بالطاعاتِ. وقيل: التراخي في الذِّكْرِ وتقدَّم تفسيرُه.

ص: 10

قوله: {مُّؤْصَدَةُ} : قرأ أبو عمروٍ وحمزة وحفص بالهمز، والباقون بالواو، وكذا في «الهُمْزة» فالقراءةُ الأولى من آصَدْتُ البابَ، أي: أَغْلَقْته أُوْصِدُه فهو مُؤْصَدٌ. قيل: ويُحتمل أَنْ يكونَ مِنْ أَوْصَدْتُ، ولكنه هَمَزَ الواوَ الساكنةَ لضمةِ ما قبلَها كما هَمَزَ {بالسوق والأعناق} [ص: 33] كما تقدَّم. والقراءةُ الثانيةُ ايضاً تحتمل المادتَيْن، ويكون قد خُفِّفَتِ الهمزةُ لسكونها بعد ضمة. وقد نَقَل الفراء عن السوسيِّ الذي قاعدتُه إبدالُ مثلِ هذه الهمزةِ أنه لا يُبْدِلُ هذه بعد ضمةٍ، وعَلَّلوا ذلك بالالتباسِ. واتفق أنه قد قَرَأ «مُوْصَدة» بالواوِ مَنْ قاعدتُه تحقيقُ الهمزةِ، والظاهر أنَّ القراءتَين من مادتين: الأولى مِنْ آصَدَ يُؤْصِد كأَكْرَم يُكْرِم، والثانية مِنْ أَوْصَدَ يُوصِدُ، مثل أَوْصَلَ يُوْصِلُ. قال الشاعر:

4576 -

تَحِنُّ إلى أجْبِالِ مكةَ ناقتي

ومِنْ دونِها أبوابُ صنعاءَ مُوْصَدَهْ

أي: مُغْلَقة وقال آخر:

4577 -

قوماً يُعالِجُ قُمَّلاً أبناؤُهمْ

وسلاسِلاً حِلَقاً وباباً مُؤْصَدا

ص: 11

وكان أبو بكرٍ راوي عاصمٍ يكره الهمزةَ في هذا الحرفِ، وقال رحمه الله:«لنا إمامٌ يَهْمز» مؤصدة «فأشتهي أن أَسُدَّ أذُني إذا سمعتُه» قلت: وكأنه لم يَحْفَظْ عن شيخِه إلَاّ تَرْكَ الهمزِ مع حِفْظ حفصٍ إياه عنه، وهو أَضْبَطُ لحرِفه من أبي بكر على ما نقله القُراء، وإن كان أبو بكرٍ أكبرَ وأتقنَ وأوثقَ عند أهل الحديث.

وقوله: {عَلَيْهِمْ نَارٌ} يجوزُ أَنْ تكونَ جملةً مستأنفةً، وأَنْ تكونَ خبراً ثانياً، وأن يكونَ الخبرُ وحده «عليهم» و «نار» فاعلٌ به، وهو الأحسنُ.

ص: 12

قوله: {وَضُحَاهَا} : قد تقدَّم في «طه» الكلامُ على هذه المادةِ وقال المبرد: «إن الضُّحى والضَّحْوةَ مشتقان من الضَّحِّ وهو النورُ، فأُبْدلت الألفُ والواوُ من الحاءِ» هذا يكادُ يكونُ اختلاقاً على مثلِ أبي العباس لجلالتِه.

ص: 13

قوله: {جَلَاّهَا} : الفاعلُ ضميرُ النهارِ، وقيل: عائدٌ على الله تعالى. والضميرُ المنصوبُ: إمَّا للشمسِ، وإمَّا للظُّلمةِ، وإمَّا للدنيا، وإمَّا للأرضِ.

قوله: {إِذَا تَلَاهَا} وما بعدَه فيه إشكالٌ؛ لأنه إنْ جُعِل شرطاً اقتضى جواباً، ولا جوابَ لفظاً، وتقديرُه غيرُ صالحٍ، وإنْ جُعِلَ ظرفاً مَحْضاً استدعى عاملاً، وليس هنا عاملٌ إلَاّ فعلُ القسم، وإعمالُه مُشْكِلٌ؛ لأنَّ فعلَ القسمِ حالٌ لأنه إنشاءٌ، و «إذا» ظرفٌ مستقبلٌ، والحال لا يعملُ

ص: 13

في المستقبلِ. وسيأتي جوابُ هذا وتحقيقُه عند ذِكْري سَبْرَه وتقسيمَه قريباً إن شاء الله تعالى.

ويَخُصُّ «إذا» الثانيةَ وما بعدها إشكالٌ آخرُ ذكره الزمخشري فيه غموضٌ فتنبَّهْ له قال: «فإن قلتَ: الأمرُ في نصبِ» إذا «مُعْضِلٌ؛ لأنك لا تخلو: إمَّا أَنْ تجعلَ الواواتِ عاطفةً فتنصِبَ بها وتَجُرَّ فتقعَ في العطفِ على عاملَيْن، وفي نحو قولك:» مررتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ «وإمَّا أَنْ تجعلَهُنَّ للقسم فتقعَ فيما اتَّفق الخليلُ وسيبويه على استكراهِه. قلت: الجوابُ فيه أن واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ أطِّراحاً كلياً، فكان لها شأنٌ خلافَ شأنِ الباء حيث أُبْرِزَ معَها الفعلُ وأُضْمِرَ، فكانت الواوُ قائمةً مَقامَ الفعلِ، والباءُ سادَّةٌ مَسَدَّهما معاً، والواواتُ العواطفُ نوائبُ عن هذه الواوِ فحققن أَنْ يَكُنَّ عواملَ عملَ الفعلِ والجارِّ جميعاً كما تقول:» ضربَ زيدٌ عمراً وبكرٌ خالداً «فترفعُ بالواوِ وتنصِبُ، لقيامِها مَقامَ» ضرب «الذي هو عامِلُهما» انتهى.

قال الشيخ: «إمَّا قولُه:» في واوات العطف: فَتَنْصِبَ بها وتجرَّ «فليس هذا بالمختار، أعني أَنْ يكونَ حرفُ العطفِ عاملاً لقيامِه مَقامَ العاملِ، بل المختارُ أنَّ العملَ إنما هو للعاملِ في المعطوفِ عليه، ثم إنا لا نُشاحُّه في ذلك. وقوله:» فتقع / في العطفِ على عاملَيْن «ليس

ص: 14

ما في الآيةِ من العطفِ على عاملَيْن، وإنما هو مِنْ بابِ عطفِ اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ على اسمَيْن: مجرورٍ ومنصوبٍ، فحرفُ العطفِ لم يَنُبْ مَنابَ عامِلَيْنِ، وذلك نحوُ قولِك:» امرُرْ بزيدٍ قائماً وعمروٍ جالساً «وأنشدَ سيبويهِ في كتابه:

4578 -

وليس بمعروفٍ لنا أَنْ نَرُدَّها

صِحاحاً ولا مُسْتَنْكرٍ أن تُعَقَّرا

فهذا مِنْ عَطْفِ مجرورٍ ومرفوعٍ، على مجرورٍ ومرفوعٍ، والعطفُ على عاملَيْن فيه أربعةُ مذاهبَ، ونُسِب الجوازُ إلى سيبويهِ. وقوله: وفي قولِك:» مررْتُ أمسِ بزيدٍ واليومَ عمروٍ «هذا المثالُ مُخالِفٌ لما في الآيةِ، بل وِزانُ ما في الآية:» مررْتُ بزيدٍ أمسٍ وعمروٍ اليومَ «ونحن نُجيز هذا وأمَّا قولُه» على استكراه «فليس كما ذَكَر، بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المَنْعِ قال الخليلُ في قولِه عزَّو جلّ:

{والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 13] . الواوان الأخيرتان ليستا بمنزلةِ الأولى، ولكنهما الواوانِ اللتان تَضُمَّان الأسماءَ إلى الأسماء في قولِك:«مررتُ بزيدٍ وعمرو» والأولى بمنزلةِ التاء والباء. وأمَّا قولُه: إنَّ واوَ القسم مُطَّرَحٌ معها إبرازُ الفعلِ اطِّراحاً كلياً «فليس هذا الحكمُ

ص: 15

مُجْمَعاً عليه؛ بل أجازَ ابنُ كَيْسانَ التصريحَ بفعلِ القسمِ مع الواوِ، فتقول: أُقْسِم - أو أَحْلِفُ - واللَّهِ لَزيدٌ قائمٌ، وأمَّا قَولُه:» والواوات العواطفُ نوائبُ عن هذه «إلى أخره فمبنيُّ على أَنْ حرفَ العطفِ عاملٌ لنيابتِهِ منابَ العاملِ وليس هذا بالمختار» قال: «والذي نقوله: إنَّ المُعْضِلَ هو تقديرُ العاملِ في» إذا «بعد الأقسام، كقوله: {والنجم إِذَا هوى} [النجم: 1] {والليل إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] {والصبح إِذَآ أَسْفَرَ} [المدثر: 34] {والقمر إِذَا تَلَاهَا} {والليل إِذَا يغشى} [الليل: 1] وما أَشْبهها، فإذا ظرفٌ مستقبلٌ، لا جائزٌ أَنْ يكونَ العاملُ فيه فعلَ القسمِ المحذوفِ لأنه فعل إنشائيُّ فهو في الحال ينافي أَنْ يَعْمَلَ في المستقبلِ لاختلافِ زمانِ العاملِ وزمانِ المعمولِ. ولا جائز أَنْ يكونَ ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أُقيم المُقْسَمُ به مُقامه، أي: وطلوعِ النجمِ ومجيءِ الليلِ، لأنه معمولٌ لذلك الفعلِ، فالطلوعُ حالٌ ولا يعملُ في المستقبل ضرورةَ أنَّ زمان العاملِ زمانُ المعمول. ولا جائزٌ أَنْ يعملَ فيه نفسُ المُقْسَمِ به؛ لأَنه ليس من قبيلِ ما يَعْمل، لا سيما إنْ كان جُرْماً. ولا جائزٌ أنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ فيكونُ قد عملَ فيه، ويكون ذلك العاملُ في موضعِ الحال وتقديرُه: والنجمِ كائناً إذا هوى، والليلِ كائناً إذا يَغْشى؛ لأنه يَلْزَمُ» كائناً «أنْ لا يكونَ منصوباً بعاملٍ، ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ معمولاً لشيء مِمَّا فَرَضْناه أن يكونَ عاملاً. وأيضاً فقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً وظروفُ

ص: 16

الزمانِ لا تكون أحوالاً عن الجثثِ، كما لا تكونُ أخباراً» انتهى ما رَدَّ به الشيخُ وما استشكلَه مِنْ أمرِ العاملِ في «إذا» وأنا بحمدِ اللَّهِ أتتبَّعُ قولَه وأبيِّنُ ما فيه.

فقوله: «إن المختارَ أن حرفَ العطفِ لا يعملُ لقيامِه مَقامَ العاملِ فلا يَلْزَمُ أبا القاسم، لأنه يختارُ القولَ الآخَرَ. وقوله:» ليس ما في هذه الآية مِنْ العطفِ على عاملَيْن «ممنوعٌ بل فيه العطفُ على عاملَيْن ولكنْ فيه غموضٌ، وبيانُ أنه مِنْ العطفِ على عاملَيْن: أنَّ قولَه: {والنهار إِذَا جَلَاّهَا} هنا معمولان أحدُهما مجرورٌ وهو» النهار «والآخرُ منصوبٌ وهو الظرفُ، عطفاً على معمولَيْ عاملَيْن، والعاملان هما: فعلُ القسمِ الناصبُ ل» إذا «الأولى، وواوُ القسمِ الجارَّةُ، فقد تحقَّق معك عاملانِ لهما معمولان، فإذا عَطَفْتَ مجروراً على مجرور، وظرفاً على ظرف، معمولَيْن لعاملَين لَزم ما قاله أبو القاسم. وكيف يُجْهَلُ هذا ما التأمَّلِ والتحقيق؟

وأمَّا قولُه:» وأنشد سيبويهِ إلى آخره «فهو اعترافٌ منه بأنَّه من العطفِ على عاملَيْن، غايةُ ما في الباب أنه استندَ إلى جاهِ سيبويهِ.

وأمَّا قولُه «أجازَ ابنُ كَيْسان / فلا يَلْزَمُه مذهبُه. وأمَّا قولُه:» فالمثالُ كالآيةِ، بل وزانها إلى آخره «فصحيحٌ لما فيه مِنْ تقديمِ الظرفِ الثاني على المجرورِ المعطوفِ، والآيةُ الظرفُ فيها متأخرٌ، وإنما مرادُ الزمخشريِّ وجودُ معمولَيْ عاملَيْنِ، وهو موجودٌ في المثالِ المذكورِ، إلَاّ أنَّ فيه إشكالاً آخر: وهو أنَّه كالتكريرِ للمسألةِ.

وأمَّا قولُه» بل كلامُ الخليلِ يَدُلُّ على المنعِ إلى آخره «فليس فيه رَدٌّ عليه بالنسبةِ إلى ما قصدَه، بل فيه تقويةٌ لِما قالَه. غايةُ ما في البابِ أنه عَبَّر بالاستكراهِ عن المنعِ، أو لم يَفْهَمِ المَنْعَ. وقوله:» ولا جائزٌ أَنْ يكونَ

ص: 17

ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ «إلى آخره، فأقول: بل يجوزُ تقديرُه: وهو العاملُ، ولا يَلْزَمُ ما قال مِنْ اختلاف الزمانَيْن؛ لأنه يجوزُ أَنْ يُقْسِمَ الآن بطلوع النجمِ في المستقبل، فالقَسَمُ في الحالِ والطُّلوعُ في المستقبلِ، ويجوزُ أَنْ يُقْسِمَ بالشيء الذي سيوجَدُ. وقوله:» ولا جائزٌ أَنْ يُقدَّرَ محذوفٌ قبل الظرفِ، فيكون قد عَمِل فيه «إلى آخره ليس بممنوع بل يجوزُ ذلك، وتكون حالاً مقدرةً. قوله:» يَلْزَم أَنْ لا يكونَ له عاملٌ «ليس كذلك بل له عاملٌ وهو فعلُ القسم، ولا يَضُرُّ كونُه إنشائياً؛ لأنَّ الحالَ مقدرةٌ كما تقدَّم. قوله:» وقد يكونُ المُقْسَمُ به جثةً «جوابُه: يُقَدَّرُ حينئذٍ حَدَثٌ يكون الظرفُ الزمانيُّ حالاً عنه، وهذه المسألةُ سُئِلَ عنها الشيخُ أبو عمروٍ ابنُ الحاجبِ ونَقَّحَ فيها السؤالَ وأجابَ بنحوِ ما ذكَرْتُه واللَّهُ أعلمُ، ولا يخلُو الكلامُ فيها مِنْ نزاعٍ وبحثٍ طويلٍ معه.

ص: 18

قوله: {يَغْشَاهَا} المفعولُ للشمسِ. وقيل: للأرض، وجيء ب «يَغْشاها» مضارعاً دونَ ما قبلَه وما بعدَه مراعاةً للفواصلِ؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيبُ «إذا غَشِيَها» فتفوتُ المناسبةُ اللفظيةُ بين الفواصلِ والمقاطع.

ص: 18

قوله: {وَمَا بَنَاهَا} : وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ

ص: 18

السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلَاّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.

وقال الزمخشري: «جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه» فأَلْهمها «وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على» مَنْ «لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم:» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا «انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في» فألهمها «عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في» بناها «كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ» ما «فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.

وقال الشيخ:» أمَّا قولُه: «وليس بالوجهِ لقولِه» فَأَلْهمها «يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في» فَأَلْهمها «على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو» ما «المرادُ به الذي. قال:» ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي «بناها» ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد

ص: 19

ضرب عَمْراً فتقول: «عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً» تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله:«وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم» ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله:«وإنما أُوْثِرَتْ» إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف «الذي» فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به «ما» دون «مَنْ» وقوله:: وفي كلامِهم «إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ» سبحان «عَلَم و» ما «مصدريةٌ ظرفيةٌ» انتهى.

أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به «ما» دونَ «مَنْ» فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله:{فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3]، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به «ما» دون مَنْ. والتنكيرُ في «نفس» : إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه:{عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5] .

ص: 20

قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} : فيه وجهان، أحدُهما: أنه جوابُ القسم، والأصل: لقد، وإنما حُذِفَتْ لطولِ الكلامِ. والثاني: أنه ليس

ص: 20

بجوابٍ وإنما جيْءَ به تابعاً لقولِه {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} على سبيل الاستطرادِ، وليس مِنْ جوابِ القسم في شيءٍ، فالجوابُ محذوفٌ تقديرُه: ليُدَمْدِمَنَّ اللَّهُ عليهم، أي: على أهلِ مكةَ لتكذيبِهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، كما دَمْدَم على ثمودَ لتكذيبِهم صالحاً صلى الله عليه وسلم، قال معناه الزمخشري، وقدَّره غيرُه: لتُبْعَثُنَّ.

وقوله: {طَحَاهَا} [الشمس: 3]، أي: دَحاها، وقد تقدَّم معناه. وفيه لغتان، يقال: طحا يَطْحوا وطحى يَطْحي. ويجيءُ طحا بمعنى ذهب، قال علقمة:

4579 -

طحابك قَلْبٌ في الحِسانِ طَروبُ

بُعَيْدَ الشبابِ عَصْرَ حان مَشيبُ

ويقال: طحا بمعنى ارتفعَ. وفي أقسامِهم: «ولا والقمرِ الطَّاحي» ، أي: المرتفعُ. وفاعلُ «زكَّاها» و «دَسَّاها» الظاهرُ أنه ضميرُ «مَنْ» وقيل: ضميرُ الباري تعالى، أي: مَنْ زكاهَّا اللَّهُ، ومَنْ دَسَّاها اللَّهُ، أي: مَنْ زَكَّى اللَّهُ نفسَه. وأنحى الزمخشريُّ على صاحبِ هذا القولِ لمنافرتِة مذهبَه، والحقُّ أنَّه خلافُ الظاهرِ، لا لما قال الزمخشريُّ، بل لمنافرةِ نظمِه للاحتياجِ إلى عَوْدِ الضميرِ على النفسِ مقيدةً بإضافتِها إلى ضمير «مَنْ»

ص: 21

قوله: {دَسَّاهَا} : أصلُه دسَّسَهَا فَكَثُرَتْ الأمثالُ فأُبْدِل مِنْ ثالِثها حرفَ علةٍ كما قالوا: قَصَّيْتُ [أَظْفاري] و [قولِه] :

4580 -

تَقَضِّيَ البازِي. . . . . . . . . . . . . .

والتَّدْسِيَةُ: الإِخفاءُ بمعنى أخفاها بالفجورِ، وقد نَطَق بالأصل مَنْ قال:

4581 -

وأنت الذي دَسَّسْتَ عمراً فأصبحَتْ

حَلائلُه منه أراملَ ضُيَّعاً

ومن قال:

4582 -

ودَسَّسْت عَمْراً في التراب فأصبحَتْ

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

البيت.

ص: 22

قوله: {بِطَغْوَاهَآ} : في هذه الباء ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها للاستعانةِ مجازاً، كقولِه:«كتبتُ بالقلمِ» وبه بدأ الزمخشري ويعني فَعَلَتِ التكذيبَ بطُغْيانها، كقولك: «ظلمَني بجُرْأتِه

ص: 22

على الله تعالى» الثاني: أنها للتعدية، أي: كَذَبَتْ بما أُوْعِدَتْ به مِنْ عذابها ذي الطُّغيان، كقولِه تعالى {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] . والثالث: أنها للسببية، أي: بسبب طُغْيانِها.

وقرأ العامَّةُ «طَغْواها» بفتح الطاءِ وهو مصدرٌ بمعنى الطُّغيان، وإنما قُلِبَتْ الياءُ واواً فَرْقاً بين الاسمِ والصفةِ، يعني، أنهم يُقِرُّون ياءَ فَعْلى بالفتح صفةً نحو: خَزْيا وصَدْيا، ويَقْلبونها في الاسم نحو: تَقْوى وشَرْوى، وكان الإِقرارُ في الوصفِ لأنه أثقلُ مِنْ الاسمِ، والياءُ أخفُّ من الواوِ، فلذلك جُعِلت في الأثقل.

وقرأ الحسن ومحمد بن كعب وحماد بضم الطاء، وهو أيضاً مصدرٌ كالرُّجْعى والحُسْنى، إلَاّ أنَّ هذا شاذ إذ كان مِنْ حَقِّه بقاءُ الياءِ على حالِها كالسُّقْيا وبابها، هذا كلُّه عند مَنْ يقول: طَغَيْتُ طُغْياناً بالياءِ، فأمَّا مَنْ يقول: طَغَوْت بالواو فالواوُ أصلٌ عنده، قاله ابو البقاء، وقد تقدَّم الكلامُ على اللغتين في البقرة والله الحمدُ.

ص: 23

قوله: {إِذِ انبعث} : «إذِ» يجوزُ فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ ظرفاً ل «كذَّبَتْ» والثاني: أَنْ يكونَ ظرفاً للطَّغْوى.

ص: 23

و «أشْقاها» فاعلُ «انبعَث» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يُراد به شخصٌ واحد بعينه. وفي التفسيرِ أنه رجل يُسَمَّى قُدار بن سالف. والثاني: أن يُراد به جماعةٌ، قال الزمخشري:«ويجوز أن يكونوا جماعةً [والتوحيد] / لتَسْوِيَتِك في أفعلِ التفضيل إذا اضفْتَه، بين الواحدِ والجمع والمذكرِ والمؤنثِ، وكان يجوزُ أَنْ يقول: أشْقَوْها» انتهى. وكان ينْبغي أَنْ يُقَيِّد فيقول: إذا أضَفْتَه إلى معرفةٍ؛ لأن المضافَ إلى النكرةِ حُكْمُه الإِفرادُ والتذكيرُ مطلقاً كالمقترنِ ب «مِنْ» .

ص: 24

قوله: {فَقَالَ لَهُمْ} : إنْ كان المرادُ ب «أَشْقاها» جماعةً فعَوْدُ الضميرِ مِنْ «لهم» عليهم واضحٌ، وإنْ كان المرادُ به عَلَماً بعينِه فالضميرُ مِنْ «لهم» يعودُ على ثمود.

قوله: {نَاقَةَ الله} منصوبٌ على التحذير، أي: احْذَروا ناقةَ اللَّهِ فلا تَقْرَبُوها، وإضمارُ الناصبِ هنا واجبٌ لمكانِ العطف، فإنَّ إضمارَ الناصبِ يجبُ في ثلاثةِ مواضعَ، أحدُها: أن يكونَ المحذَّرُ نحو: «إياك» وبابه. الثاني: أن يُوجدَ فيه عطفٌ. الثالث: أَنْ يوجَدَ فيه تَكْرارٌ نحو: «الأسدَ الأسدَ» وقرأ زيد بن علي «ناقةُ الله» رفعاً على خبرِ ابتداء مضمرٍ، أي: هذه ناقةُ اللَّهِ فلا تتعرَّضوا لها.

ص: 24

قوله: {فَدَمْدَمَ} : الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإِلزاقُ بالأرض. وقيل:

ص: 24

الإِهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في «بذَنْبهم» للسببية.

قوله: {فَسَوَّاهَا} الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه «بَطَغْواها» ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير «فَدَهْدَمَ» بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.

ص: 25

قوله: {وَلَا يَخَافُ} : قرأ نافعٌ وابنُ عامر «فلا» بالفاء، والباقون بالواو، ورُسِمَتْ في مصاحفِ المدينة والشام بالفاء وفي غيرِها بالواوِ، فقد قرأ كلُّ بما يوافقُ رَسْمَ مُصْحَفِه. ورُوِيَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأُ «ولم يَخَفْ» وهي مُؤَيَّدَةٌ لقراءةِ الواوِ، ذكره الزمخشري، فالفاءُ تقتضي التعقيبَ، وهو ظاهرٌ. والواوُ يجوزُ أَنْ تكونَ للحالِ، وأنْ تكونَ لاستئنافِ الأخبارِ، وضميرُ الفاعل في «يَخاف» يحتملُ عَوْدُه على الرَّبِّ، وهو الأظهرُ، لكونِه أقربَ مذكورٍ. والثاني: أنه يعودُ على رسولِ الله، أي: ولا يخاف عقبى هذه العقوبةِ لإِنذاره إياهم. والثالث: أنه يعودُ على «أشقاها» أي: انبعَثَ لعَقْرها، والحالُ أنه غيرُ خائفٍ عاقبةَ هذه الفَعْلَةِ الشنعاءِ. وعقبى الشيء خاتمتُه.

ص: 25

قوله: {وَمَا خَلَقَ} : يجوزُ في «ما» أَنْ تكونَ بمعنى «مَنْ» وهو رأيُ جماعةٍ تقدَّم ذِكْرُهمْ في السورةِ قبلَها. وقيل: هي مصدريةٌ. وقال الزمخشري: «والقادرُ: العظيمُ القدرةِ الذي قَدَرَ على خَلْقِ الذكَرِ والأنثى من ماءٍ واحدٍ» قلت: قد تقدَّم تقريرُ قولِه هذا وما اعْتُرِضَ به عليه، وما أُجيب عنه، في السورةِ قبلها. وقرأ أبو الدرداء «والذَّكرِ والأنثى» وقرأ عبد الله «والذي خَلَق» ، والكسائيُّ ونَقَلها ثعلبٌ عن بعض السَّلَف «وما خَلَقَ الذَّكَرِ» بجرِّ «الذكَرِ» قال الزمخشري:«على أنه بدلٌ من محلِّ» ما خَلَقَ «بمعنى» وما خَلَقَه «أي: ومخلوقِ اللَّهِ الذكَرِ، وجاز إضمارُ» الله «لأنه معلومٌ بانفرادِه بالخَلْق» . وقال الشيخ: «وقد يُخَرَّجُ على تَوَهُّم المصدرِ، أي: وخَلْقِ الذَّكرِ،

ص: 27

كقوله:

4583 -

تَطُوفُ العُفاةُ بأبوابِه

كما طاف بالبَيْعَةِ الراهبِ

بجرِّ» الراهب «على توهُّمِ النطقِ بالمصدر، أي: كطَوافِ الراهبِ» انتهى. والذي يَظْهَرُ في تخريجِ البيت أنَّ اصلَه «الراهبيّ» بياءِ النسَبِ، نسبةً إلى الصفةِ، ثم خُفِّف، وهو قليلٌ كقولِهم: أَحْمري ودَوَّاري، وهذا التخريجُ بعينِه في قولِ امرئ القيس:

4584 -

. . . . . . . . . . . . . . . .

فَقِلْ في مَقيلٍ نَحْسُه مُتَغَيِّبِ

استشهد به الكوفيون على تقديمِ الفاعلِ. وقرأ العامَّةُ {تجلى} فعلاً ماضياً، وفاعلُه ضميرٌ عائدٌ على النهار. وعبد الله بن عبيد بن عمير «تتجلى» بتاءَيْن، أي: الشمس. وقُرئ «تُجْلي» بضمِّ التاءِ وسكونِ

ص: 28

الجيم، أي: الشمسُ ايضاً، ولا بُدَّ من عائدٍ على النهارِ محذوفٍ، أي: تتجلى أو تُجْلِي فيه.

ص: 29

قوله: {إِنَّ سَعْيَكُمْ} : هذا جوابُ القسمِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ محذوفاً، كما قيلَ في نظائرِه المتقدمةِ.

ص: 29

قوله: {أعطى} : حَذَفَ مفعولَيْ «أعطى» ومفعولَ «اتقى» ومفعولَ «صَدَّقَ» المجرور ب «على» ؛ لأنَّ الغرضَ ذِكْرُ هذه الأحداثِ دونَ متعلَّقاتها، وكذلك مُتَعَلَّقا البخل والاستغناءِ. وقوله:{فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} إمَّا من بابِ المقابلةِ لقولِه: {فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} ، وإمَّا لأنَّ نيسِّره بمعنى نُهَيِّئُه، والتهيئةُ تكونُ في اليُسْر والعُسْر.

ص: 29

قوله: {وَمَا يُغْنِي} : يجوز أَنْ تكونَ «ما» نفياً، وأَنْ تكونَ استفهاماً إنكارياً.

قوله: {تردى} إمَّا من الهلاكِ، أو مِنْ تردى بأكفانِه، وهو كنايةٌ عن الموت كقولِه:

4585 -

وخُطَّا بأَطْرافِ الأسِنَّةِ مَضْجَعي

ورُدَّا على عَيْنَيَّ فَضْلَ رِدائيا

وقول الآخر:

ص: 29

4586 -

نَصيبُك مِمَّا تَجْمَعُ الدهرَ كلَّه

رِداءان تلوى فيهما وحَنُوطُ

ص: 30

قوله: {نَاراً تلظى} : قد تقدَّم في البقرة أن البزيَّ يُشَدِّد مثلَ التاء، والتشديدُ فيها عَسِرٌ لالتقاءِ الساكنين فيها على غير حَدِّهما، وهو نظيرُ قولِه:{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] وقد تقدَّم. وقال أبو البقاء: يُقرأ بكسر التنوين وتشديد التاءِ، وقد ذُكِرَ وَجْهُه عند {وَلَا تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] انتهى. وهذه قراءةٌ غريبةٌ، ولكنها موافقةٌ للقياس من حيث إنه لم يلتقِ فيها ساكنان. وقوله:«وقد ذُكِر وجهُه الذي قاله في البقرة لا يُفيد هنا شيئاً البتة، فإنه قال هناك:» ويُقْرأُ بتشديدِ التاءِ، وقبلَه ألفٌ، وهو جْمعٌ بين ساكنَيْن، وإنما سَوَّغَ ذلك المدُّ الذي في الألفِ «.

وقرأ ابن الزُّبير وسفيان وزيد بن علي وطلحة» تتلظى «بتاءَيْن وهو الأصلُ.

ص: 30

قوله: {إِلَاّ الأشقى} : قيل: الأشقى والأَتْقى بمعنى الشقيّ والتقيّ ولا تفضيلَ فيهما؛ لأنَّ النارَ ليسَتْ مختصةً بالأكثرِ

ص: 30

شقاءً، وتجنُّبها ليس مختصاً بالأكثرِ تَقْوى. وقيل: بل هما على بابِهما، وإليه ذهب الزمخشريُّ قال:«فإنْ قلتَ: كيف قال:» لا يَصْلاها إلَاّ الأشقى « {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} وقد عُلِمَ أنَّ كلَّ شقيّ يَصْلاها، وكلَّ تقيّ يُجَنَّبُها، لا يَخْتَصُّ بالصَّلْي أشقى الأشقياءِ، ولا بالنجاةِ أتقى الأتقياءِ، وإنْ زَعَمْتَ أنه نكَّر النار فأراد ناراً بعينِها مخصوصةً بالأشقى، فما تصنع بقولِه {وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى} ؟ فقد عُلِمَ أنَّ أَفْسَقَ المسلمين يُجَنَّبُ تلك النارَ المخصوصةَ لا الأتقى منهم خاصة. قلت: الآية واردةٌ في لموازنةِ بين حالتَيْ عظيمٍ من المشركين وعظيمٍ من المؤمنين، فأُريد أَنْ يُبالَغَ في صفتَيْهما المتناقضتَيْن فقيل: الأشقَى، وجُعِل مختصَّاً بالصَّلْي، كأن النارَ لم تُخْلَقْ إلَاّ له. وقيل: الأتقى. وجُعل مختصَّاً بالنجاةِ، كأنَّ الجنةَ لم تُخْلَقْ إلَاّ له. وقيل: هما أبو جهل أو أمية بن خلف وأبو بكر الصديق رضي الله عنه» انتهى. فآل جوابُه إلى أنَّ المرادَ بهما شخصان معيَّنان.

ص: 31

قوله: {يتزكى} : قرأ العامَّةُ {يتزكى} مضارعَ تَزَكَّى، والحسن بن علي بن الحسن بن علي أمير المؤمنين يزكى بإدغامِ التاءِ في الزاي. وفي هذه الجملةِ وجهان، أحدُهما: أنها في موضعِ الحالِ من فاعلِ «يُؤْتي» أي: يُؤتيه مُتَزَكِّياً به. والثاني: أنها لا موضعَ لها من الإِعراب، على أنها بدلٌ مِنْ صلة «الذي» ذكرهما الزمخشري. وجعل الشيخُ متكلَّفاً.

ص: 31

قوله: {تجزى} : صفةٌ لنعمةٍ، أي: تُجْزِي الإِنسانَ، وإنما جيء به مضارعاً مبنياً للمفعولِ لأجلِ الفواصل؛ إذ الأصلُ يُجْزيها إياه أو يُجْزِيه إياها.

ص: 32

قوله: {إِلَاّ ابتغآء} : في نصبِه وجهان، أحدهما: أنه مفعولٌ له. قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يكونَ مفعولاً له على المعنى؛ لأنَّ المعنى: لا يُؤْتي مالَه إلَاّ ابتغاءَ وَجْهِ ربه لا لمكافأةِ نعمةٍ» وهذا أَخَذَه مِنْ قولِ الفَرَّاء فإنه قال: «ونُصِبَ على تأويل: ما أعْطَيْتُك ابتغاءَ جزائِك، بل ابتغاءَ وجهِ اللَّهِ تعالى. والثاني: أنَّه منصوبٌ على الاستثناء المنقطع، إذ لم يندَرِجْ تحت جنسِ» مِنْ نعمة «وهذه قراءة العامَّةِ، أعني النصبَ والمدَّ. وقرأ يحيى برفعِه ممدوداً على البدل مِنْ محلِّ» مِنْ نعمة «لأنَّ محلَّها الرفعُ: إمَّا على الفاعليَّةِ، وإمَّا على الابتداءِ، و» مِنْ «مزيدةٌ في الوجهَيْن، والبدلُ لغة تميمٍ، لأنهم يُجْرُون المنقطعَ في غيرِ الإِيجاب مجرى المتصل. وأنشد الزمخشريُّ بالوجهَيْن: النصبِ والبدلِ قولَ بشرِ بنِ أبي خازم:

458 -

7- أَضْحَتْ خَلاءً قِفاراً أَنيسَ بها

إلَاّ الجآذِرُ والظِّلْمانَُِ تَخْتَلِفُ

ص: 32

وقولَ القائلِ في الرفع:

458 -

8- وبَلْدَةٍ ليس بها أنيسُ

إلَاّ اليَعافيرُ وإلَاّ العِيْسُ

وقال مكي:» وأجاز الفراء الرفعَ في «ابتغاء» على البدل مِنْ موضع «نِعْمَةٍ» وهو بعيدٌ «قلت: كأنَّه لم يَطِّلِعْ عليها، قراءةً، واستبعادُه هو البعيدُ، فإنَّها لغةٌ فاشيةٌ. وقرأ ابنُ ابي عبلة» ابْتِغا «بالقصر.

ص: 33

قوله: {وَلَسَوْفَ يرضى} : هذا جوابُ قَسَمٍ مضمرٍ. والعامَّةُ على «يرضى» مبنياً للفاعلِ. وقُرِئ ببنائِه للمفعول مِنْ أَرْضاه الله، وهو قريبٌ مِنْ قولِه في آخرِ سورةِ طه {لَعَلَّكَ ترضى} و {ترضى} [طه: 130] .

ص: 33

قوله: {سجى} : قيل: معناه سَكَن، ومنه: سجا البحر يَسْجُو سَجْواً، أي: سَكَنَتْ أمواجُه، وطَرْفٌ ساجٍ، أي: فاتر، ومنه اسْتُعِير تَسْجِيَةُ الميتِ، أي: تَغْطِيَتُه بالثوبِ، قاله الراغب وقال الأعشى:

4589 -

وما ذَنْبُنا إنْ جاش بَحْرُ ابنِ عَمِّكُمْ

وبَحْرُكَ ساجٍ لا يُوارِي الدَّعامِصا

وقيل: سجا، أي: أَدْبَرَ وقيل بعكسِه. وقال الفراء: «أظلم» . وقال ابن الأعرابي: «اشتدَّ ظلامُه» وقال الشاعر:

ص: 35

4590 -

يا حَبَّذا القَمْراءُ والليلُ السَّاجْ

وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النِّسَّاجْ

وهو من ذواتِ الواوِ، وإنما أُميل لموافقةِ رؤوسِ الآيِ، كالضُّحى فإنه من ذواتِ الواوِ ايضاً.

ص: 36

قوله: {مَا وَدَّعَكَ} : هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب «تَرَكَ» وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر:

4591 -

سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ

عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ

وقال الشاعر:

4592 -

وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ

فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ

قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.

قوله: {وَمَا قلى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في

ص: 36

المضارع، وطيِّىء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر:

4593 -

أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه

ولا واللَّهِ أَقْلاه

لكَ اللَّهُ على ذاكَ

لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ]

وحُذِفَ مفعولُ «قَلَى» مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ «فآوى» وما بعدَه.

ص: 37

قوله: {وَلَلآخِرَةُ} : الظاهرُ في هذه اللامِ أنَّها جوابُ القسم، وكذلك في «ولَسَوْفَ» أَقْسم تعالى على أربعةِ أشياءَ: اثنان منفيَّان وهما توديعُه وقِلاه، واثنان مُثْبَتان مؤكَّدان، وهما كونُ الآخرةِ خيراً له من الدنيا، وأنه سوف يُعْطيه ما يُرضيه. وقال الزمخشري:«فإنْ قلتَ: ما هذه اللامُ الداخلةُ على» سَوْف «؟ قلت: هي لامُ الابتداءِ المؤكِّدةُ لمضمون الجملة، والمبتدأُ محذوفٌ تقديرُه: ولأنت سَوْفَ يُعْطيك، كما ذَكَرْنا في {لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1] أن المعنى: لأَنا أُقْسِمُ. وذلك أنها لا تَخْلو: مِنْ أَنْ تكونَ لامَ قسمٍ أو ابتداء. فلامُ القسم لا تدخلُ على المضارع إلَاّ مع نونِ التوكيد، فبقي أن تكونَ لامَ ابتداءِ، ولامُ الابتداء لا تدخل إلَاّ على الجملة من المبتدأ والخبرِ فلا بُدَّ من تقدير [مبتدأ] وخبره، وأصله:

ص: 37

ولأنت سوف يعطيك» ونقل الشيخ عنه أنه قال: «وخُلِع من اللامِ دلالتُها على الحال» انتهى. وهذا الذي رَدَّده الزمخشري يُختار منه أنها لامُ القسم.

قوله: «لا تَدْخُلُ على المضارع إلَاّ مع نونِ التوكيد» هذا استثنى النحاة منه صورتَيْنِ، إحداهما: أَنْ لا يُفْصَلَ بينها وبين الفعل حرفُ تنفيسٍ كهذه الآيةِ، كقولِك: واللَّهِ لَسَأُعْطيك. والثانية: أن لا يُفْصَلَ بينهما بمعمولِ الفعل كقولِه تعالى: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} [آل عمران: 158] . ويَدُلُّ لِما قُلْتُه ما قال الفارسيُّ: «ليسَتْ هذه اللامُ هي التي في قولك:» إنَّ زيداً لَقائمٌ، بل هي التي في قولِك:«لأَقومَنَّ» ونابَتْ «سوفَ» عن إحدى نونَيْ التوكيدِ، فكأنه قال: ولَيُعْطِيَنَّك.

وقوله: «خُلِع منها دلالتُها على الحال» يعني أنَّ لامَ الابتداءِ الداخلةَ على المضارع تُخَلِّصُه للحال، وهنا لا يُمْكِنُ ذلك لأجلِ حَرْفِ التنفيسِ، فلذلك خُلِعَتِ الحاليةُ منها.

وقال الشيخ: «واللامُ في» ولَلآخرةُ «لامُ ابتداء وَكَّدَتْ مضمونَ الجملةِ» ثم حكى بعضَ ما ذكَرْتُه عن الزمخشري وأبي علي ثم قال: «ويجوز عندي أَنْ تكونَ اللامُ في» وللآخرةُ خيرٌ «وفي» ولَسَوْفَ يُعْطيك «

ص: 38

اللامَ التي يُتَلَقَّى بها القسمُ، عَطَفَها على جوابِ القسم، وهو قولُه:{مَا وَدَّعَكَ} فيكون قد أقسم على هذه الثلاثة» انتهى. فظاهرُه أنَّ اللامَ في «ولَلآخرةُ» لامُ ابتداء غيرُ مُتَلَقَّى بها القسمُ، بدليلِ قولِه ثانياً:«ويجوز عندي» ولا يظهرُ انقطاعُ هذه الجملةِ عن جواب القسم البتةَ، وكذلك في {ولَسَوْفَ} وتقديرُ الزمخشري مبتدأً بعدها لا يُنافي كونَها جواباً للقسم، وإنما مَنَعَ أن تكونَ جواباً داخلةً على المضارع لفظاً وتقديراً.

ص: 39

قوله: {فآوى} : العامَّة على «آوى» بألفٍ بعد الهمزة رباعياً، مِنْ آواه يُؤْوِيْهِ. وأبو الأشهب «فأوى» ثلاثياً. قال الزمخشري:«وهو على معنيين: إمَّا مِنْ» أواه «بمعنى آواه. سُمع بعضُ الرعاة يقول:» أين آوي هذه «، وإمَّا مِنْ أوى له إذا رحمه» انتهى. وعلى الثاني قولُه:

459 -

4- أراني - ولا كفرانَ لله - أيَّةُ

لنفسي لقد طالَبْتُ غيرَ مُنيلِ

أي: رحمةً لنفسي. ووجهُ الدلالةِ مِنْ قولِه: «يقول: أين آوي هذه» ؟ أنه لو كان من الرباعي لقال: «أُؤْوي» بضم الهمزةِ الأولى وسكونِ الثانيةِ؛ لأنه مضارعُ «آوى» مثل أَكْرَمَ، وهذه الهمزةُ المضمومةُ هي حرفُ المضارعةِ، والثانيةُ هي فاءُ الكلمةِ، وأمَّا همزةُ أَفْعَل فمحذوفةٌ على القاعدةِ، ولم تُبْدَلْ هذه الهمزةُ كما أُبْدِلَتْ في «أُوْمِنُ أنا» لئلا تثقلَ

ص: 39

بالإِدغام، ولذلك نصَّ القراءُ على أنَّ «تُؤْويه» من قوله «وفَصيلتِه التي تُؤْويه» لا يجوزُ إبْدالُها للثِّقَلِ.

ص: 40

قوله: {عَآئِلاً} : أي: فقيراً. وهذه قراءةُ العامَّةِ. يقال: عال زيدٌ أي: افتقر. قال جرير:

4595 -

اللهُ نَزَّل في الكتابِ فريضةً

لابنِ السبيل وللفقيرِ العائلِ

وأعال: كَثُرَ عيالُه قال:

4596 -

ومايَدْري الفقيرُ متى غِناه

وما يَدْري الغَنِيُّ متى يُعيلُ

وقرأ اليماني «عَيِّلاً» بكسر الياء المشددة كسَيِّد.

ص: 40

قوله: {فَأَمَّا اليتيم} : منصوبٌ ب تَقْهَرْ. وبه استدل الشيخ ابن مالك رحمه الله على أنه لا يَلْزَمُ من تقديمِ المعمولِ تقديمُ العامل. ألا ترى أن «اليتيمَ» منصوبٌ بالمجزوم، وقد تقدَّم على الجازمِ، ولو قَدَّمْتَ «تَقْهَرْ» على «لا» لامتنع؛ لأنَّ المجزومَ لا يتقدَّمُ على جازِمِه، كالمجرورِ لا يتقدَّمُ على جارِّه، وتقدَّم ذلك في سورة هود عند

ص: 40

قولِه تعالى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . وقراءةُ العامَّةِ «تَقْهَرْ» بالقاف من الغلبةِ. وابن مسعود والشعبي وإبراهيم التيمي بالكاف. يقال: كَهَرَ في وجهه، أي: عَبَسَ. وفلان ذو كُهْرُوْرة، أي عابسُ الوجه. ومنه الحديث «فبأبي وأمي هو ما كَهَرني» قاله الزمخشري. وقال الشيخ:«وهي لغةٌ بمعنى قراءةِ الجمهور» انتهى. والكَهْرُ في الأصل: ارتفاعُ النهارِ مع شدَّةِ الحَرِّ

ص: 41

قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} : متعلقٌ ب حَدِّثْ، والفاء غيرُ مانعةٍ من ذلك. وقد تقدَّم هذا.

ص: 41