الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: {و
العاديات} :
جمعُ «عادِيَة» وهي الجاريَةُ بسُرعةٍ، من العَدْوِ، وهو المَشْيُ بسُرْعةٍ. والياءُ عن واوٍ لكَسْرِ ما قبلها نحو: الغازِيات من الغَزْوِ. يُقال: عَدا يَعْدُوا عَدْواً، فهو عادٍ وهي عادِيَةٌ، وقد تقدَّمَ هذا في المؤمنين.
قوله: {ضَبْحاً} فيه أوجهٌ. أحدُها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ؛ فإنَّ الضَّبْحَ نوعٌ من السيرِ والعَدْوِ كالضَّبْع. يقال: ضَبَحَ الفَرَسُ وضَبَعَ، إذا عدا بشدةٍ، أَخْذاً مِن الضَّبْع، وهو الذِّرَاع لأنه يَمُدُّه عند العَدْوِ، وكأنَّ الحاءَ بدلٌ من العين. وإلى هذا ذهب أبو عبيدةَ. والمبردُ. قالا الضَّبْحُ مِنْ إضباعِها في السَّيْرِ. وقال عنترةُ:
46
1
7 - والخيلُ تعلَمُ حين تَضْ
…
بَحُ في حِياضِ المَوْتِ ضَبْحاً
الثاني: أنه مصدرٌ في موضعِ الحالِ، أي: ضابحاتٍ، أو ذوي ضَبْح. والضَّبْحُ: صوتٌ يُسْمَعُ مِنْ صدورِ الخيلِ عند العَدْوِ، ليس بصَهيلٍ. وعن ابن عباس: انه حكاه فقال: أحْ أحْ. ونُقل عنه: أنه لم يَضْبَحْ من الحيوان غيرُ الخيلِ والكَلْبِ والثعلبِ. وهذا يَنْبغي أَنْ لا يَصِحَّ عنه، فإنه رُوي أنه قال: سُئِلْتُ عنها ففَسَّرْتُها بالخيل. وكان عليٌّ رضي الله عنه تحت سِقايةِ زمزم فسأله، وذَكَر له ما قلتُ. فدعاني فلمَّا وقفْتُ على رأسِه قال:«تُفْتي الناسَ بغيرِ علمٍ، إنَّها لأولُ غزوةٍ في الإِسلام وهي بدرٌ، ولم يكنْ معنا إلَاّ فَرَسان: فرسٌ للمِقْداد، وفرسٌ للزُّبَيْر، والعادياتِ ضَبحْاً: الإِبلُ مِنْ عرفَةَ إلى المزدلفةِ، ومن المزدلفةِ إلى مِنى» إلَاّ أنَّ الزمخشريَّ قال بعد ذلك: «فإنْ صَحَّتِ الروايةُ فقد اسْتُعير الضَّبْحُ للإِبِل، كما اسْتُعير المَشافِرُ والحافِرُ للإِنسان، والشَّفتان للمُهْر» ونَقَل غيرُه أن الضَّبْحَ يكونُ في الإِبلِ والأسْوَدِ من الحَيَّاتِ والبُومِ والصدى والأرنبِ والثعلبِ والقوسِ. وأنشد أبو حنيفةَ في صفةِ قَوْس.
4618 -
حَنَّانَةٌ مِنْ نَشَمٍ أو تالبِ
…
تَضْبَحُ في الكَفِّ ضُباحَ الثعلبِ
وعندي أنَّ هذا مِن الاستعارةِ. ونَقَلَ أهلُ اللغةِ أنَّ أصلَ الضَّبْحِ في
الثعلبِ فاسْتُعير للخيلِ، وهو مِنْ ضَبَحَتْه النارُ: أي غَيَّرت لونَه ولم تُبالغْ فيه. والضَّبْحُ لونٌ يُغَيِّرُ إلى السواد قليلاً.
الثالث: من الأوجه: أَنْ يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، أي: تَضْبَحُ ضَبْحاً. وهذا الفعلُ حالٌ من «العاديات» .
الرابع: أنَّه منصوبٌ بالعادِيات، وإنْ كان المرادُ به الصوتَ. قال الزمخشري:«كأنَّه قيل: والضَّابحاتِ لأنَّ الضَّبْحَ يكون مع العَدْوِ» . قال الشيخ: «وإذا كان الضَّبْحُ مع العَدْوِ فلا يكون معنى» والعادياتِ «: والضَّابحاتِ فلا ينبغي أن يُفَسَّرَ به» . قلت: لم يَقُلْ الزمشخريُّ أنه بمعناه، وإنما جعله منصوباً به؛ لأنه لازمٌ له لا يُفارِقُه فكأنَّه ملفوظٌ به. وقوله:«كأنه قيل» تفسيرٌ للتلازُمِ، لا أنه هو هو.
قوله: {قَدْحاً} : يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ الإِيراء من القَدْح يقال: قَدَحَ فَأَوْرَى وقَدَح فأَصْلَدَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً فالمعنى: قادحاتٍ، أي: صاكَّاتٍ بحوافِرها ما يُوْرِي النارَ يُقال: «قَدَحْتُ الحجرَ بالحجرِ» أي: صَكَكْتُه به. وقال الزمخشري: «انتصَبَ بما انتصَبَ به ضَبْحاً» . وكان جَوَّزَ في نَصْبِه ثلاثةَ أوجهٍ: النصبَ بإضمارِ فعلٍ، والنصبَ باسمِ الفاعلِ قبلَه، لأنه مُلازِمُه، والنصبَ على الحال. وتُسَمَى تلك النارُ التي تَخْرُج من الحوافرِ نارَ الحُباحِب. قال:
4619 -
تَقُدُّ السُّلُوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجُهُ
…
وتُوْقِدُ بالصُّفَّاحِ نارَ الحُباحِبِ
قوله: {فالمغيرات صُبْحاً} : صُبْحاً: ظرفٌ، أي: التي تُغير وقتَ الصبح يقال: أغارَ يُغير إغارةً باغَتَ عَدُوَّه لنَهْبٍ أو قَتْلٍ أو أَسْرٍ قال:
4620 -
فلَيْتَ لي بهمُ قوماً إذا رَكِبوا
…
شَنُّوا الإِغارةَ فُرْساناً ورُكْبانا
و «غار» لُغَيَّةٌ، وأغار وغارَ أيضاً: نَزَل الغَوْرَ وهو المُنْهَبَطُ من الأرض. واختلف الناسُ في موصوفاتِ هذه الصفاتِ أعني العاديات وما بعدها فقيل: الخيلُ، أي والخيلِ العادياتِ، فالمُورياتِ، فالمُغيراتِ. ونظيرُ العطفِ هنا كالعطفِ في قولِه:
4621 -
يا لَهْفَ زيَّابةَ لِلحارِث ال
…
صابحِ فالغانِمِ فالآئِبِ
وتقدَّم تقريرُه أولَ البقرة. وقيل: التقديرُ: والإِبلِ العادياتِ مِنْ عرفةَ إلى مزدلفةَ، ومِنْ مزدلفةَ إلى مِنى، كما تقدَّم عن أمير المؤمنين. ويَدُلُّ له قولُ صفيَّةَ بنتِ عبد المطلب:
4622 -
أمَا والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ
…
بأَيْديها إذا سَطَع الغُبارُ
وقيل: «فالموريات» أي: الجماعةُ التي تَمْكُرُ في الحرب. تقول العرب: لأُوْرِيَنَّ لك، لأَمْكُرَنَّ بك.
قوله: {فَأَثَرْنَ} : عَطَفَ الفعلَ على الاسمِ؛ لأنَّ الاسمَ في تأويل الفعلِ لوقوعِه صلةً ل أل. قال الزمخشري: «معطوفٌ على الفعلِ الذي وُضِعَ اسمُ الفاعلِ موضعَه» يعني في الأصل، إذ الأصلُ: واللاتي عَدَوْنَ فأَوْرَيْنَ فأغَرْنَ فَأَثَرْنَ.
قوله: {بِهِ} : في الهاء أوجهٌ. أحدُهما: أنها ضميرُ الصُّبح، أي: فَأَثَرْنَ في وقتِ الصُّبح غُباراً. وهذا حَسَنٌّ؛ لأنه مذكورٌ بالصَّريح. الثاني: أنه عائدٌ على المكانِ، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الإِثارةَ لا بُدَّ لها من مكان، فالسِّياقُ والفعلُ يَدُلَاّن عليه. وفي عبارةِ الزمخشريِّ:«وقيل: الضمير لمكان الغارة» هذا على تلك اللُّغَيَّةِ، وإلَاّ فالفصيحُ أَنْ يقولَ: الإِغارة الثالث: أنَّه ضميرُ العَدْوِ الذي دَلَّ عليه «والعادياتِ» .
وقرأ العامَّةُ بتخفيفِ الثاءِ، مِنْ أثار كذا: إذا نَشَره وفَرَّقه مع ارتفاعٍ. وقرأ أبو حَيْوَةَ وابن أبي عبلة بتشديدها، وخَرَّجه الزمخشريُّ
على وجهَيْن: الأولُ بمعنى فأَظْهَرْنَ به غباراً؛ لأنَّ التأثيرَ فيه معنى الإِظهارِ. والثاني: أنه قَلَبَ «ثَوَّرْنَ» إلى «وَثَّرْنَ» وقَلَبَ الواوَ همزةً. انتهى. قلت: يعني أنَّ الأصلَ: ثَوَّرْنَ، مِنْ ثَوَّر يُثَوِّرُ بالتشديد عَدَّاه بالتضعيف كما يُعَدَّى بالهمزة في قولِك: أثاره، ثم قَلَبَ الكلمةَ: بأنْ جَعَلَ العينَ وهي الواوُ موضعَ الفاء، وهي الثاءُ، فصارت وَثَّرْنَ، ووزنُها حينئذٍ عَفَّلْنَ، ثم قَلَبَ الواوَ همزةً، فصار «أَثَرْنَ» وهذا بعيدٌ جداً. وعلى تقديرِ التسليمِ فَقَلْبُ الواوِ المفتوحةِ همزةً لا يَنْقاس إنما جاءت منه أُلَيْفاظٌ كأَحَدٍ وأَناةٍ. والنَّقْعُ: الغبار وأُنْشِد:
4623 -
يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتطارِ النَّقْعِ داميةً
…
كأنَّ آذانَها أطرافُ أَقْلامِ
وقال ابن رَواحة:
4624 -
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَرَوْها
…
تُثير النَّقْعَ مِنْ كَنَفَيْ كَداءِ
وقال أبو عبيد: «النَّقْعُ رَفْعُ الصوتِ» وأَنْشَد:
4625 -
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ
…
يُحْلِبُوْها ذاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
قال الزمخشري: «ويجوزُ أَنْ يُرادَ بالنَّقْع الصياحُ، من قولِه عليه السلام:» ما لم يكن نَقْعٌ ولا لَقْلَقَةٌ «وقولُ لبيد:
فمتى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أي: هَيَّجْنَ في المَغارِ عليهم صَباحاً» انتهى. فعلى هذا تكون الباءُ بمعنى «في» ويعودُ الضمير على المكانِ الذي فيه الإِغارةُ كما تقدَّمَ.
قوله: {فَوَسَطْنَ} : العامَّةُ على تخفيفِ السينِ، أي: تَوَسَّطْنَ. وفي الهاءِ في «به» أوجهٌ، أحدُها: أنها للصبح، كما تقدَّم. والثاني: أنها للنَّقْعِ، أي: وَسَطْنَ بالنَّقْعِ الجَمْعَ، أي: جَعَلْنَ الغبارَ وَسْطَ الجمع، فالباءُ للتعدية، وعلى الأولِ هي ظرفيةٌ، الثالث: أنَّ الباءَ للحاليةِ، أي: فتوَسَّطْن مُلْتبساتٍ بالنقع، أي: بالغبار جمعاً من جموع الأعداء. وقيل: الباءُ مزيدةٌ، نقله أبو البقاء و «جَمْعاً» على هذه الأوجهِ مفعولٌ به. الرابع: أنَّ المرادَ ب جَمْع المزدلفةُ وهي تُسَمَّى جَمْعاً. والمرادُ أنَّ الإِبلَ تتوسَّطُ جَمْعاً الذي هو المزدلفةُ، كما مرَّ عن أميرِ
المؤمنين رضي الله عنه، فالمرادُ بالجَمْعِ مكانٌ لا جماعةُ الناسِ، كقولِ صفية:
4626 -
. . . . . . . . . . . والعادياتِ غَداةَ جَمْعٍ
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقولِ بشرِ بنِ أبي خازم:
4627 -
فَوَسَطْنَ جَمْعَهُمُ وأَفْلَتَ حاجبٌ
…
تحت العَجابةِ في الغُبارِ الأَقْتَمِ
و «جَمْعاً» على هذا منصوبٌ على الظرف، وعلى هذا فيكونُ الضميرُ في «به» :«إمَّا للوقتِ، أي: في وقت الصبح، وإمَّا للنَّقْع، وتكونُ الباءُ للحال، أي: مُلْتبساتٍ بالنَّقْع. إلَاّ أنه يُشْكِلُ نَصْبُ الظرفِ المختصِّ إذ كان حَقُّه أَنْ يتعدى إليه ب» في «وقال أبو البقاء:» إنَّ جَمْعاً حالٌ «وسبقه إليه مكي. وفيه بُعْدٌ؛ إذ المعنى: على أنَّ الخيلَ توسَّطَتْ جَمْعٌ الناسِ.
وقرأ علي وزيد بن علي وقتادة وابن أبي ليلى بتشديد السين، وهما لغتان بمعنىً واحدٍ أعني التثقيلَ والتخفيفَ. وقال الزمخشري:»