الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: {لإِيلَافِ
قُرَيْشٍ} :
في متعلَّقِ هذه اللامِ، أوجهٌ، أحدُها: أنه ما في السورةِ قبلَها مِنْ قولِه {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ} [قريش: 5] . قال الزمخشري: «وهذا بمنزلةِ التَّضْمينِ في الشِّعْرِ» وهو أَنْ يتعلَّقَ معنى البيتِ بالذي قبلَه تَعَلُّقاً لا يَصِحُ إلَاّ به، وهما في مصحفِ أُبَي سورةٌ واحدٍ بلا فَصْلٍ. وعن عُمَرَ أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب وفي الأولى بسورةِ «والتين» انتهى. وإلى هذا ذهبَ أبو الحسنِ الأخفشُ إلَاّ أنَّ الحوفيَّ قال:«ورَدَّ هذا القولَ جماعةٌ: بأنَّه لو كان كذا لكان» لإِيلافِ «بعضَ سورةِ» ألم تَرَ «وفي إجماعِ الجميعِ على الفَصْلِ بينهما ما يدلُّ على عَدَمِ ذلك»
الثاني: أنَّه مضمرٌ تقديرُه: فَعَلْنا ذلك، أي: إهلاكَ أصحابِ الفيل لإِيلافِ قريش. وقيل: تقديرُه اعْجَبوا. الثالث: أنه قولُه «فَلْيَعْبُدوا» .
وإنما دَخَلَتْ الفاءُ لِما في الكلامِ مِنْ معنى الشرطِ، أي: فإنْ لم يَعْبُدوه لسائرِ نِعَمِه فَلْيَعْبدوه لإِيلافِهم فإنَّها أَظْهَرُ نعمِهِ عليهم، قاله الزمخشري وهو قولُ الخليلِ قبلَه.
وقرأ ابن عامر «لإِلافِ» دونَ ياءٍ قبل اللامِ الثانيةِ، والباقون «لإِيلافِ» بياءٍ قبلَها، وأَجْمَعَ الكلُّ على إثبات الياءِ في الثاني، وهو «إيلافِهِمْ» ومِنْ غريبِ ما اتَّفَق في هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القرَّاءَ اختلفوا في سقوطِ الياءِ وثبوتِها في الأولِ، مع اتفاقِ المصاحفِ على إثباتِها خَطَّاً، واتفقوا على إثباتِ الياءِ في الثاني مع اتفاقِ المصاحفِ على سقوطِها فيه خَطَّاً، فهو أَدَلُّ دليلٍ على أنَّ القُرَّاءَ مُتَّبِعون الأثَر والروايةَ لا مجرَّدَ الخطِّ.
فأمَّا قراءةُ ابنِ عامرٍ ففيها وجهان، أحدُهما: أنه مصدرٌ ل أَلِف ثلاثياً يُقال: أَلِفْتُه إلافاً، نحو: كتبتُه كِتاباً، يُقال: أَلِفْتُه إلْفاً وإلافاً. وقد جَمَعَ الشاعرُ بينَهما في قولِه:
4647 -
زَعَمْتُمْ أنَّ إخْوَتَكُمْ قُرَيْشٌ
…
لهم إلْفٌ وليس لكُمْ إلافُ
والثاني: أنَّه مصدرُ آلَفَ رباعياً نحو: قاتَلَ قِتالاً. وقال
الزمخشري: «أي: لمُؤالَفَةِ قريشٍ» .
وأمَّا قراءةُ الباقين فمصدرُ آلَفَ رباعياً بزنةِ أَكْرَم يقال: آلَفْتُه أُوْلِفُه إيْلافاً. قال الشاعر:
4648 -
مِنَ المُؤْلِفاتِ الرَّمْلِ أَدْماءُ حُرَّةٍ
…
شعاعُ الضُّحى في مَتْنِها يَتَوضَّحُ
وقرأ عاصمٌ في روايةٍ «إإْلافِهم» بمهزتين: الأولى مسكورةٌ والثانية ساكنةٌ، وهي شاذَّةٌ، لأنه يجب في مثلِه إبدالُ الثانية حرفاً مجانساً كإِيمان. ورُويَ عنه أيضاً بِهَمْزَتين مَكْسورَتَيِن بعدهما ياءٌ ساكنةٌ. وخُرِّجَتْ على أنه أَشْبَعَ كسرةً الهمزةِ الثانية فتولَّد منها ياءٌ، وهذه أَشَذُ مِنْ الأولى ونَقَلَ أبو البقاء أشَذَّ منها فقال: «بهمزةٍ مكسورةٍ بعدها ياءٌ ساكنةٌ، بعدها همزةٌ مسكورةٌ، وهو بعيدٌ. ووَجْهُها أنه أشبعَ الكسرةَ فنشَأَتْ الياءُ، وقَصَد بذلك الفصلَ بين الهمزتَيْن كالألفِ في
{أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] .
وقرأ أبو جعفر «لإِلْفِ قُرَيْشٍ» بزنة قِرْد. وقد تقدَم أنه مصدرٌ لأَلِفَ كقوله:
4649 -
. . . . . . . . . . . . . . . . .
…
لهم إلْفٌ وليس لكم إلافُ
وعنه أيضاً وعن ابن كثير «إلْفِهم» وعنه أيضاً وعن ابن عامر «إلا فِهِمْ» مثل: كِتابهم. وعنه أيضاً «لِيْلافِ» بياءٍ ساكنةٍ بعد اللامِ؛ وذلك أنه لَمَّا أبدل الثانيةَ حَذَفَ الأولى على غير قياسٍ. وقرأ عكرمةُ «لِتَأْلَفْ قُرَيْش» فعلاً مضارعاً وعنه «لِيَأْلَفْ على الأمر، واللامُ مكسورةٌ، وعنه فَتْحُها مع الأمرِ وهي لُغَيَّةٌ.
وقُرَيْش اسمٌ لقبيلةٍ. قيل: هم وَلَدُ النَّضْرِ بنِ كِنانَةَ، وكلُّ مَنْ وَلَدُه النَّضْرُ فهو قُرَشِيٌّ دونَ كِنانةَ، وهو الصحيحُ وقيل: هم وَلَدُ فِهْرِ بن مالك ابن النَّضْر بنِ كِنانةَ. فَمَنْ لم يَلِدْه فِهْرٌ فليس بقُرَشيٍّ، فوقع الوِفاقُ على أنَّ بني فِهْرٍ قرشيُّون. وعلى أنًَّ كنانةَ ليسوا بقرشيين. ووقع الخلافُ في النَّضْر ومالكٍ.
واخْتُلِفَ في اشتقاقِه على أوجه، أحدها: أنه من التَّقَرُّشِ وهو التجمُّعُ سُمُّوا بذلك لاجتماعِهم بعد افتراقِهم. قال الشاعر:
4650 -
أبونا قُصَيُّ كان يدعى مُجَمِّعاً
…
به جَمَّعَ اللَّهُ القبائلَ مِنْ فِهْرِ
والثاني: أنه من القَرْشِ وهو الكَسْبُ. وكانت قريشٌ تُجَّاراً. يقال: قَرَشَ يَقْرِشُ أي: اكتسب. والثالث: أنه مِنْ التفتيش. يقال قَرَّشَ يُقَرِّشُ عني، أي: فَتَّش. وكانت قريشٌ يُفَتِّشون على ذوي الخُلَاّنِ ليَسُدُّوا خُلَّتَهم. قال الشاعر:
4651 -
أيُّها الشامِتُ المُقَرِّشُ عنا
…
عند عمروٍ فهَلْ له إبْقاءُ
وقد سأل معاويةُ ابنَ عباس. فقال: سُمِّيَتْ بدابةٍ في البحرِ يقال لها: القِرْش، تأكلُ ولا تُؤكَل، وتَعْلو ولا تعلى وأنشد قولَ تُبَّعٍ:
4652 -
وَقُرَيْشٌ هي التي تَسْكُنُ البَحْ
…
رَ سُمِّيَتْ قُرَيْشٌ قُرَيْشَا
تأكلُ الغَثَّ والسَّمينَ ولا تَتْ
…
رُكُ فيها لذي جناحَيْنِ رِيشا
هكذا في البلادِ حَيُّ قُرَيْشٍ
…
يأكلونَ البلادَ أكْلاً كَميشا
ولهم آخِرَ الزمان نَبيٌّ
…
يُكْثِرُ القَتْلَ فيهمُ والخُموشا
ثم قريشٌ: إمَّا أَنْ يكونَ مصغراً مِنْ مزيدٍ على الثلاثةِ، فيكونَ تصغيرُه تصغيرَ ترخيمٍ. فقيل: الأصلُ: مُقْرِش. وقيل: قارِش، وإمَّا أَنْ يكونَ مُصَغَّراً مِنْ ثلاثيٍّ نحوَ القَرْشِ. وأجمعوا على صَرْفِه هنا مُراداً به الحيُّ ولو أُريد به القبيلةُ لا متنعَتْ مِنْ الصرفِ كقولِ الشاعر:
465 -
3- غَلَبَ المَساميحَ الوليدُ سَماحةً
…
وكفى قُرَيْشَ المُعْضِلاتِ وسادَها
قال سيبويه في مَعَدّ وقُرَيْش وثَقِيْف وكِنانةَ:» هذه للأحياءِ «وإنْ جعلَتها اسماً للقبائلِ فهو جائزٌ حَسَنٌ» .
قوله: {إِيلَافِهِمْ} مُؤَكِّدٌ للأولِ تأكيداً لفظياً؛ ولذلك اتّصَلَ بضميرِ ما أُضيف إليه الأولُ كما تقولَ: لِقيامِ زيدٍ لقيامِه أكرمْتُه «وأعربه أبو البقاء بدلاً والأول أولى.
قوله: {رِحْلَةَ} معفولٌ به بالمصدرِ، والمصدرُ مضافٌ لفاعِله، أي: لأَنْ أَلِفوا رحلةَ. والأصلُ: رحلَتْي الشتاءِ والصيفِ، ولكنه أُفْرِدَ لأَمْنِ اللَّبْسِ كقولِه:
4654 -
كُلوا في بَعْضِ بطنِكُمُ تَعِفُّوا
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قاله الزمخشري وفيه نظرٌ؛ لأنَّ سيبويهِ يجعلُ هذا ضرورةً كقولِه:
4655 -
حَمامةً بَطْنِ الوادِيَيْنِ تَرَنَّمي
…
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقيل:» رِحْلة «اسمُ جنسٍ. وكانت لهم أربعُ رِحَلٍ. وجعلَه بعضُهم غَلَطاً وليس كذلكَ. وقرأ العامَّةُ بكسرِ الراءِ وهي مصدرٌ. وأبو السَّمَّال بضمِّها وهي الجهةُ التي يُرْحَلُ إليها.
والشتاءُ لامُه واوٌ لقولِهم: الشَّتْوَةُ وشتا يَشْتُو. وشَذُّوا في النسبِ إليه فقالوا فيه: شَتَوِيّ. والقياس: شِتائيّ أو شِتاويّ ككِسائيّ وكِساوِيّ.
قوله: {مِّن جُوعٍ} : و {مِّنْ خَوْفٍ} : للتعليلِ، أي: مِنْ أجلِ جوعٍ وخوفٍ، والتنكيرُ للتعظيمِ. أي: مِنْ جوعٍ عظيمٍ وخوفٍ عظيمٍ. وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ الحالِ مِنْ
مفعولِ أَطْعَمهم» وأخفى نونَ «مِنْ» في الخاء نافعٌ في روايةٍ، وكذلك في الغينِ، وهي لغةٌ حكاها سيبويه.
قرأ الكسائي {أرَيْتَ} بسقوطِ الهمزةِ. وقد تقدَّم تحقيقُه في سورة الأنعام. وقال الزمخشري: «وليس بالاختيارِ؛ لأنَّ حَذْفَها مختصٌّ بالمضارعِ، ولم يَصِحَّ عن العرب» رَيْتَ «. والذي سَهَّلَ مِنْ أمرِها وقوعُ حرفِ الاستفهامِ في أولِ الكلامِ ونحوُه:
4656 -
صاحِ هل رَيْتَ أو سَمِعْتَ براعٍ
…
رَدَّ في الضَّرْعِ ما قرى في العِلابِ
وفي» أَرَأَيْتَ «هذه وجهان، أحدهما: أنَّها بَصَرِيَّةُ فتتعدى لواحدٍ
وهو الموصولُ، كأنه [قال] : أبْصَرْتَ المكذِّبَ. والثاني: أنَّها بمعنى: أَخْبِرْني، فتتعدى لاثنينِ، فقدَّره الحوفيُّ:» أليس مُسْتَحِقَّاً للعذابِ «. والزمخشريُّ» مَنْ هو «. ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبدِ الله» أَرَأَيْتَك «بكافِ الخطابِ والكافُ لا تَلْحْقُ البَصَريَّةَ.
قوله: {فَذَلِكَ} : فيه وجهان، أحدهما: أنَّ الفاءَ جوابُ ُشرطٍ مقدرٍ، أي: إن تأمَّلْتَه، أو إنْ طَلَبْتَ عِلْمَه فذلك. والثاني: أنَّها عاطفةٌ «فذلك» على «الذي يَكَذِّبُ» إمَّا عَطْفَ ذاتٍ على ذاتٍ، أو صفةٍ على صفةٍ. ويكونُ جوابُ أَرَأَيْتَ «محذوفاً لدلالةِ ما بعدَه عليه. كأنه قيل: أَخْبِرْني، وما تقولُ فيمَنْ يُكَذِّبُ بالجزاءِ وفيمَنْ يُؤْذِي اليتيمَ ولا يُطْعِمُ المسكينَ أنِعْمَ ما يصنعُ؟ فعلى الأولِ يكونُ اسمُ الإِشارةِ في محلِّ رَفْعٍ بالابتداءِ، والخبرُ الموصولُ بعده، وإمَّا على أنه خبرٌ لمبتدأ مضمرٍ، أي: فهو ذاك والموصولُ نعتُه. وعلى الثاني يكونُ منصوباً لِنَسَقِه على ما هو منصوبٌ.
إلَاّ أنَّ الشيخَ رَدَّ الثاني فقال:» فجعل ذلك «في موضعِ نصبٍ عطفاً على المفعولِ، وهو تركيبٌ غريبٌ كقولِك:» أَكرَمْتُ الذي يَزورُنا فذلك الذي يُحْسِنُ إلينا «فالمتبادَرُ إلى الذهنِ أنَّ» فذلك «مرفوعٌ بالابتداء. وعلى تقديرِ النصبِ يكونُ التقديرُ: أَكرمْتُ الذي يزورُنا فأكرَمْتُ ذلك الذي يُحْسِنُ إلينا. فاسمُ الإِشارةِ في هذا التقديرِ غيرُ متمكِّنٍ
تَمَكُّنَ ما هو فصيحٌ؛ إذ لا حاجةَ أَنْ يُشارَ إلى الذي يزورُنا؛ بل الفصيحُ: أَكرَمْتُ الذي يزورُنا، فالذي يُحْسِن إلينا، أو أكَرَمْتُ الذي يزورُنا فيُحْسِنُ إلينا. وأمَّا قولُه» إمَّا عَطْفُ ذاتٍ على ذاتٍ «فلا يَصِحُّ لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى الذي يُكَذِّبُ فليسا بذاتَيْنِ؛ لأنَّ المشارَ إليه ب» ذلك «واحدٌ. وأمَّا قولُه:» ويكونُ جوابُ أرأيتَ محذوفاً «فهذا لا يُسَمَّى جواباً بل هو في موضع المفعولِ الثاني ل» أرَأيْتَ «وأمَّا تقديرُه» أنِعْمَ ما يصنعُ «؟ فهمزةُ الاستفهام لا نعلُم دخولَها على نِعْم ولا بئسَ؛ لأنهما إنشاءٌ، والاستفهامٌ لا يدخلُ إلَاّ على الخبر» انتهى.
والجوابُ عن قولِه: «فاسمُ الإِشارةِ غيرُ ممتكِّنٍ» إلى آخره: أنَّ الفرقَ بينهما أنَّ في الآيةِ الكريمةِ استفهاماً وهو «أرأيْتَ» فحَسُنَ أَنْ يُفَسِّرَ ذلك المُسْتَفْهَمَ عنه، بخلافِ المثالِ الذي مَثَّل به، فمِنْ ثَمَّ حَسُنَ التركيبُ المذكورُ وعن قولِه:«لأنَّ» فذلك «إشارةٌ إلى» الذي يُكَذِّب «بالمنعِ» بل مُشارٌ به إلى ما بعدَه كقولِك: «اضْرِبْ زيداً، فذلك القائمُ» إشارةٌ إلى القائمِ لا إلى زيد، وإنْ كان يجوزُ أَنْ يكونَ إشارةً إليه. وعن قولِه «فلا يسمى جواباً» أنَّ النحاةَ يقولون: جوابُ الاستفهام، وهذا قد تَقَدَّمه استفهامٌ فَحَسُنَ ذلك. وعن قولِه:«والاستفهامُ لا يَدْخُلُ إلَاّ على الخبر» ؛ بالمعارضةِ بقولِه تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فإنَّ «عسى» إنشاءٌ، فما كان جواباً له فهو جوابٌ لنا.
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الدال وتشديد العينِ مِنْ دَعَّه، أي: دَفَعه وأمير المؤمنين والحسن وأبو رجاء «يَدَعُ» بفتحِ الدالِ وتخفيفِ العين،
أي: يَتْرُكُ ويُهْمِلُ وزيدُ بن علي «ولا يُحاضُّ» مِن المَحَاضَّةُ وتقدَّم في الفجر.
قوله: {لِّلْمُصَلِّينَ} خبرٌ لقولِه: «فوَيْلٌ» والفاءُ للتسَبُّبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه الصِّفاتِ الذَّميمةِ الدعاءُ عليهم بالوَيْلِ لهم. قال الزمخشري بعد قولِه: «كأنَّه قيل: أخْبِرْني، وما تقول فيمَنْ يُكذِّبُ بالدين إلى قوله: أنِعْمَ ما يصنعُ» ثم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ} ، أي: إذا عُلِمَ أنَّه مُسِيْءٌ فوَيْلٌ للمُصَلِّيْنَ على معنى فوَيْلٌ لهم، إلَاّ أنَّه وَضَعَ صفتَهم موضعَ ضميرِهم، لأنهم كانوا مع التكذيب وما أُضيفَ إليه ساهين عن الصلاة مُرائين غيرَ مُزكِّيْنَ أموالَهم. فإنْ قلتَ: كيف جَعَلْتَ المُصَلِّين قائماً مَقامَ ضميرِ الذي يُكَذِّبُ وهو واحدٌ؟ قلت: لأنَّ معناه الجمعُ، لأنَّ المرادَ به الجنسُ «.
قال الشيخ:» وأمَّا وَضْعُه المُصَلِّين موضعَ الضميرِ، وأنَّ المُصَلِّيْنَ جمعٌ؛ لأنَّ ضميرَ الذي يُكذِّبُ معناه الجمعُ فتكلُّفٌ واضحٌ. ولا يَنْبغي أَنْ يُحْمَلَ القرآنُ إلَاّ على ما عليه الظاهرُ، وعادةُ هذا الرجلِ تكلُّفُ اشياءَ في فَهْمِ القرآنِ ليسَتْ بواضحةٍ «انتهى. قلت: وعادةُ شيخِنا رحمه الله التَّحامُل على الزمخشري حتى يَجْعلَ حسَنَه قبيحاً. وكيف يُرَدُّ ما قاله وفيه ارتباطُ الكلامِ بعضِه ببعضٍ، وجَعْلُه شيئاً واحداً، وما تضمَّنه من المبالغةِ في الوعيدِ في إبرازِ وَصْفِهم الشَّنيعِ؟ ولا يُشَكُّ أنَّ الظاهرَ من الكلامِ أن
السورةَ كلَّها في وصفِ قومٍ جَمَعوا بين هذه الأوصافِ كلِّها: من التكذيبِ بالدِّين ودَفْعِ اليتيمِ وعَدَمِ الحَضِّ على طعامِه، والسَّهْوِ في الصلاة، والمُراءاةِ ومَنْعِ الخيرِ.
قوله: {الذين هُمْ} : يجوزُ أَنْ يكونَ مرفوعَ المَحَلِّ، وأَنْ يكونَ منصوبَه، وأَنْ يكونَ مجرورَه تابعاً. نعتاً أو بدلاً أو بياناً، وكذلك الموصولُ الثاني، إلَاّ أنَّه يُحْتمل أَنْ يكونَ تابعاً للمُصَلِّيْنَ، وأَنْ يكونَ تابعاً للموصولِ الأولِ. وقوله:«يُراؤُون» أصلُه يُرائِيُوْنَ كيُقاتِلون. ومعنى المُراءاة، أنَّ المُرائيَ يُري الناسَ عملَه، وهم يُرُونَه الثناءَ عليه، فالمفاعَلَةُ فيها واضحةٌ. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك.
قوله: {الماعون} : أوجهٌ، أحدُها: أنه فاعُول من المَعْنِ وهو الشيءُ القليل. يُقال: «مالُه مَعْنَةٌ» أي: قليلٌ، قاله قطرب. الثاني: أنَّه اسمُ مفعولٍ مِنْ أعانه يُعينه. والأصلُ: مَعْوُوْن. وكان مِنْ حَقِّه على هذا أَنْ يقال: مَعُوْن كمَقُوْل ومَصُون اسمَيْ مفعول مِنْ قال وصان، ولكنه قُلِبَتِ الكلمةُ: بأنْ قُدِّمَتْ عينُها قبل فائِها فصار مَوْعُوْن، ثم قُلِبَتِ الواوُ الأولى ألفاً كقولِهم «تابَةٌ» و «صامَةٌ» في تَوْبة وصَوْمَة، فوزنُه الآن مَعْفُوْل. وفي هذا الوجه شذوذٌ من ثلاثةِ أوجهٍ، أوَّلُها: كَوْنُ
مَفْعول جاء من أَفْعَل وحقُّه أَنْ يكونَ على مُفْعَل كمُكْرَم فيقال: مُعان كمُقام. وإمَّا مَفْعول فاسمُ مفعولِ الثلاثي. الثاني: القَلْبُ وهو خلافُ الأصلِ: الثالث: قَلْبُ حرفِ العلةِ ألفاً، وإنْ لم يتحرَّكْ، وقياسُه على تابة وصامة بعيدٌ لشذوذِ المَقيسِ عليه. وقد يُجاب عن الثالث: بأنَّ الواوَ متحركةٌ في الأصل قبل القلبِ فإنه بزنةِ مَعْوُوْن.
الثالث: من الأوجه الأُوَل: أنَّ أصله مَعُوْنَة والألفُ عوضٌ من الهاء، ووزنُه مَفُعْل كمَلُوْم ووزنُه بعد الزيادة: ما فُعْل. واختلفَتْ عباراتُ أهلِ التفسير فيه، وأحسنُها: أنَّه كلُّ ما يُستعان به ويُنتفع به كالفَأْس والدَّلْوِ والمِقْدحة وأُنْشِد قولُ الأعشى:
4657 -
بأَجْوَدَ مِنْه بماعُوْنِه
…
إذا ما سماؤُهمُ لم تَغِمّْ
ولم يَذْكُرِ المفعولَ الأولَ للمَنْع: إمَّا للعِلْمِ به، أي: يَمْنعون الناسَ أو الطالبين، وإمَّا لأنَّ الغَرَضَ ذِكْرُ ما يمنعونه لا مَنْ يمنعون، تنبيهاً على خساسَتِهم وضَنِّهم بالأشياءِ التافهةِ المُسْتَقْبَحِ مَنْعُها عند كلِّ أحدٍ.
قوله: {أَعْطَيْنَاكَ} : قرأ الحسن وابنُ محيصن وطلحة والزعفراني «اَنْطَيْناك» قال الرازيُّ والتبريزيُ: «أبدلَ من العين نوناً، فإنْ عَنَيا البدلَ الصناعيَّ فليس بمُسَلَّمٍ؛ لأنَّ كلاً من المادتَيْنِ مستقلةٌ بنفسِها بدليلِ كمال تَصْريفِهما، وإنْ عَنَيا بالبدلِ أنَّ هذه وقعَتْ موقعَ هذه لغةً فقريبٌ، ولا شك أنها لغةٌ ثابتةٌ. قال التبريزي:» هي لغةُ العربِ العاربةِ مِنْ أُوْلي قُرَيْشٍ «وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم:» اليدُ العليا المُنْطِيَةُ، واليدُ السفلى المُنْطاة «وقال الشاعر - هو الأعشى-:
4658 -
جِيادُك خيرُ جيادِ الملُوك
…
تُصان الجِلالَ وتُنْطِي الشَّعيرا
والكَوْثر: فَوْعَل من الكَثْرَةِ، وصفُ مبالغةٍ في المُفْرِطِ الكثرةِ. قال الشاعر:
4659 -
وأنت كثيرُ با بنَ مروانَ طَيِّبٌ
…
وكان ابوكَ ابنَ العَقائلِ كَوْثَرا
وسُئِلَتْ أعرابيَّةٌ عن ابنها: بمَ آبَ ابْنُكِ؟ فقالت:» آب بكَوْثَرٍ «أي: بخيرٍ كثيرٍ.
قوله: {وانحر} : أمرٌ من النَّحْر وهو الإِبِلِ بمنزلة الذَّبْحِ في البقر والغنم. وقيل: اجعَلْ يديك عند نَحْرِك أو تحت نَحْرِك في الصلاة والشانِئُ: المُبْغِضُ. يُقال: شَنَأه يَشْنَؤُه، أي: أَبْغَضَه. وقد تقدَّم في المائدة.
قوله: {هُوَ الأبتر} : يجوزُ أَنْ يكونَ «هو» مبتدأً، و «الأبترُ» خبرُه والجملةُ خبرُ «إنَّ» ، وأَنْ يكون فصلاً وقال أبو البقاء:«أو توكيدٌ» وهو غَلَطٌ منه لأنَّ المُظْهَرَ لا يُؤَكِّدُ بالمضمر. والأبترُ: الذي لا عَقِبَ له، وهو في الأصلِ الشيءُ المقطوع، مِنْ بَتَرَه،
أي: قطعه. وحمارٌ ابترُ: لا ذَنَبَ له. ورجلٌ أُباتِرٌ بضم الهمزة: قاطعُ رَحِمِه قال:
4660 -
لَئيمٌ نَزَتْ في أَنْفِه خُنْزُوانَةٌ
…
على قَطْعِ ذي القربى أَحَدُّ أُباتِرُ
وبَتِر هو بالكسرِ: انقطعَ ذَنَبُه.
وقرأ العامة «شانِئَك» بالألفِ اسمُ فاعل بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ أو الماضي. وقرأ ابن عباس «شَنِئَك» بغيرِ ألفٍ. فقيل: يجوزُ أَنْ يكونَ بناءَ مبالغةٍ كفَعَّال ومِفْعال. وقد أثبته سيبويهِ، وأنشد:
4661 -
حَذِرٌ أُموراً لا تَضِيرُ وآمِنُ
…
ما ليسَ مُنْجِيَه من الأقْدارِ
وقال زيد الخيل:
4662 -
أتاني أنهم مَزِقون عِرْضي
…
جِحاشٌ الكِرْمَلَيْنِ لها فَديدُ
فإنْ كانَ بمعنى الحالِ أو الاستقبالِ فإضافتُه لمفعولِه مِنْ نصبٍ.
وإن كان بمعنى المُضِيِّ فهي لا مِنْ نصبٍ. وقيل: يجوزُ أن يكونَ مقصوراً مِنْ فاعِل كقولِهم: «بَرُّ وبارٌّ، وبَرِدٌ وبارِدٌ.
قوله: {فَصَلِّ} الفاء للتعقيب والتسبيبِ، أي: تَسَبَّبَ عن هذه المِنَّةِ العظيمة وعَقَبها أَمْرُك بالتخَلِّي لعبادةِ المُنْعِمِ عليكَ وقَصْدِك إليه بالنَّحْرِ، لا كما تفعلُ قُرَيْشٌ مِنْ صَلاتِها ونَحْرِها لأصنامِها.
وقال أهل العلم: قد احتوَتْ هذه السورةُ، على كونِها أَقْصَرَ سورةٍ في القرآن، على معانٍ بليغةٍ وأساليبَ بديعةٍ وهي اثنان وعشرون. الأول: دلالةُ استهلالِ السورةِ على أنه إعطاءٌ كثيرٌ من كثير. الثاني: إسنادُ الفعل للمتكلم المعظِّم نفسَه. الثالث: إيرادُه بصيغةِ الماضي تحقيقاً لوقوعِه ك {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . الرابع: تأكيدُ الجملةِ ب إنَّ. الخامس: بناءُ الفعلِ على الاسمِ ليُفيدَ الإِسنادَ مرتين. السادس: الإِتيانُ بصيغةٍ تَدُلُّ على مبالغةِ الكثرةِ. السابع: حَذْفُ الموصوفِ بالكَوْثَر؛ لأنَّ في حَذْفِه مِنْ فَرْطِ الشِّياعِ والإِبهامِ ما ليس في إثباتِه. الثامن: تعريفُه بأل الجنسيةِ الدالَّةِ على الاستغراق. التاسع: فاءُ التَّعْقيب، فإنَّها كما تقدَّم دالَّةٌ على التَّسْبيب، فإنَّ الإِنعامَ سببٌ للشُّكر والعبادةِ. العاشر: التَّعْريضُ بمَنْ كانَتْ صلاتُه ونَحْرُه لغيرِ اللَّهِ تعالى. الحادي عشر: أنَّ الأمرَ بالصَّلاةِ إشارةٌ إلى الأعمالِ الدينية التي الصلاةُ قِوامُها وأفضلُها، والأمرُ بالنَّحْرِ إشارةٌ إلى الأعمالِ البدنيةِ التي النَّحْرُ أَسْناها. الثاني عشر: حَذْفُ متعلَّقِ» انحَرْ «إذ التقديرُ:
فَصَلِّ لربِّك وانْحَرْ له. الثالثَ عشرَ: مراعاةُ السَّجْعِ فإنَّه من صناعةِ البديعِ العاري عن التَّكلُّفِ. الرابعَ عشرَ قوله: {رَبِّك} في الإِتْيان بهذه الصفةِ دونَ سائرِ صفاتِه الحسنى دلالةُ على أنَّه هو المُصْلحُ له المُرَبِّي لنِعَمِه فلا تلتمِسْ كلَّ خيرٍ إلَاّ منه. الخامسَ عشرَ: الالتفاتُ من ضميرِ المتكلمِ إلى الغائب في قولِه:» لربِّك «السادسَ عشرَ: جَعْلُ الأمْرِ بتَرْكِ الاهتبالِ بشانِئيه للاستئناف، وجَعْلُه خاتمةً للإِعراضِ عن الشانىءِ، ولم يُسَمِّه ليشملَ كلَّ مَنْ اتَّصَفَ - والعياذُ بالله - بهذه الصفةِ القبيحة، وإن كان المرادُ به شخصاً مَعْنِيَّاً.
السابعَ عشرَ: التنبيُه بذِكْرِ هذه الصفةِ القبيحةِ على أنه لم يَتَّصِفْ إلَاّ بمجرَّدِ قيامِ الصفةِ به، مِنْ غير أَنْ يُؤَثِّرَ في مَنْ يَشْنَؤُه شيئاً البتةَ؛ لأنَّ مَنْ يَشْنَأُ شخصاً قد يُؤَثِّر فيه شَنَآنُه شيئاً. الثامنَ عشرَ: تأكيدُ الجملةِ ب «إنَّ» المُؤْذِنَةِ بتأكيدِ الخبرِ، ولذلك يتلقى بها القسمُ، وتقديرُ القسمِ يَصْلُح هنا، التاسعَ عشرَ: الإِتيانُ بضميرِ الفَصْلِ المؤْذِنِ بالاختصاصِ والتأكيدِ إنْ جَعَلْنا «هو» فصلاً، وإنْ جَعَلْناه مبتدأً فكذلك يُفيد التأكيدَ إذ يصيرُ الإِسنادُ مَرَّتَيْن العشرون: تعريفُ الأبترِ ب أل المُؤْذِنَةِ بالخصوصيَّةِ بهذه الصفةِ، كأنه قيل: الكامِلُ في هذه الصفةِ الحادي والعشرون: الإِتيانُ بصيغة أَفْعَل الدالَّةِ على التناهي في هذه الصفةِ. الثاني والعشرون: إقبالُه على رسولِه عليه السلام بالخطاب مِنْ أول السورةِ إلى آخرها.
[قوله] : {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} : «ما» في هذه السورةِ يجوزُ فيها وجهان، أحدُهما: أنها بمعنى الذي. فإنْ كان المرادُ الأصنامَ - كما في الأولى والثالثة - فالأمرُ واضحٌ لأنهم غيرُ عقلاءَ. و «ما» أصلُها أَنْ تكونَ لغيرِ العقلاءِ. وإذا أُريد بها الباري تعالى، كما في الثانيةِ والرابعةِ، فاسْتَدَلَّ به مَنْ جوَّز وقوعَها على أولي العلمِ. ومَنْ مَنَعَ جَعَلَها مصدريةً. والتقديرُ: ولا أنتم عابدون عبادتي، أي: مثلَ عبادتي. وقال أبو مسلم: «ما» في الأَوَّلَيْن بمعنى الذي، والمقصودُ المعبودُ و «ما» في الأخيرَيْن مصدريةٌ، أي: لا أَعْبُدُ عبادتَكم المبنيَّةَ على الشكِّ وتَرْكِ النظرِ، ولا أنتم تعبدون مثلَ عبادتي المبنيةِ على اليقين. فتحصَّل مِنْ مجموعِ ذلك ثلاثةُ أقوالٍ: أنها كلَّها بمعنى الذي أو مصدريةٌ، أو الأُوْلَيان بمعنى الذي، والأَخيرتان مصدريَّتان ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: لو قيل: بأنَّ الأولى والثالثةَ بمعنى الذي، والثانيةَ والرابعةَ مصدريةٌ، لكان
حسناً حتى لا يَلْزَمَ وقوعُ «ما» على أولي العلمِ، وهو مقتضى قولِ مَنْ يمنعُ وقوعَها على أولي العلمِ كما تقدَّم.
واختلف الناسُ: هل التَّكرارُ في هذه السورةِ للتأكيد أم لا؟ وإذا لم يكنْ للتأكيدِ فبأيِّ طريقٍ حَصَلَتِ المغايرةُ حتى انتفى التأكيدُ؟ ولا بُدَّ مِنْ إيرادِ أقوالِهم في ذلك فقال جماعة: هو للتوكيدِ. فقولُه {وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} تأكيدٌ لقولِه {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} وقوله: {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} ثانياً توكيدٌ لقولِه {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أولاً، ومثلُه قولُه {فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] و {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] في سورتَيْهما، و {كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 34] و {كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَاّ سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 45] . وفي الحديث: «فلا آذَنُ ثم لا آذَنُ، إنما فاطمةُ بَضْعَةٌ مني» قال الشاعر:
4663 -
هَلَاّ سَأَلْتَ جنودَ كِنْ
…
دَةَ يومَ وَلَّوْا أين أَيْنا
وقال آخر:
4664 -
يا علقمَهْ يا عَلْقَمَهْ يا علقَمَهْ
…
خيرَ تميمٍ كلِّها وأكرمَهْ
وقال آخر:
4665 -
يا أقرعُ بنَ حابسٍ يا أقرعُ
…
إنك إن يُصْرَعْ أخوكَ تُصْرَعُ
وقال آخر:
4666 -
ألا يا اسْلَمي ثُمَّ اسْلَمي ثُمَّتَ اسْلَمي
…
ثلاثُ تحيَّاتٍ وإن لم تَكَلَّمِ
وقال آخر:
4667 -
يا لَبَكْرٍ أَنْشِرُوا لي كُلَيْباً
…
يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ
قالوا: والقرآنُ جاء على أساليبِ كلامِ العربِ. وفائدةُ التوكيد هنا قَطْعُ أَطْماعِ الكفارِ وتحقيقُ الإِخبارِ بموافاتِهم على الكفرِ، وأنّهم لا يُسْلِمون إبداً.
وقال جماعةٌ: ليس للتوكيدِ فقال الأخفش: «لا أعبد الساعةَ ما تعبدون، ولا أنتم عابِدون السنةَ ما أعبدُ، ولا أنا عابدٌ في المستقبلِ
ما عَبَدْتُمْ، ولا أنتم عابدون في المستقبلِ ما أعبد، فزال التوكيدُ، إذ قد تقيَّدَتْ كلُّ جملةٍ بزمانٍ غيرِ الزمانِ الآخر» انتهى.
وفيه نظرٌ كيف يُقَيِّدُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نَفْيَ عبادتِه لِما يَعْبُدون بزمانٍ، هذا لا يَصِحُّ. وفي الأسبابِ: أنهم سَأَلوه أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُم سنةً ويَعْبُدون إلهَه سنةً، فنزَلَتْ فكيف يَسْتقيم هذا؟ وجعل أبو مسلمٍ التغايُرَ بما قَدَّمْتُه عنه: وهو كونُ «ما» في الأوَّلَيْن بمعنى الذي، وفي الآخِرَيْنِ مصدريةً. وفيه نظرٌ أيضاً: مِنْ حيث إنَّ التكرارَ إنما هو مِنْ حيث المعنى وهذا موجودٌ كيف قَدَّرَتْ «ما» وقال ابن عطية: «لَمَّا كان قولُه» لا أَعْبُدُ «محتمِلاً أَنْ يُرادَ به الآن ويبقى المستقبلُ منتظراً ما يكونُ فيه جاء البيانُ بقولِه {وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: أبداً وما حَيِيْتُ، ثم جاء قولُه {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} الثاني حَتْماً عليهم أنهم لا يُؤمنون أبداً كالذي كَشَف الغيبَ، كما قيل لنوح عليه السلام: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فهذا معنى الترديدِ في هذه السورةِ وهو بارعُ الفصاحةِ، وليس بتَكْرارٍ فقط، بل فيه ما ذكْرَتُه» .
وقال الزمخشريُّ: «لا أعبدُ أُريد به العبادةُ فيما يُسْتقبل؛ لأنَّ» لا «لا تدخُلُ إلَاّ على مضارع في معنى الاستقبال، كما أنَّ» ما «لا تدخُلُ إلَاّ على مضارعٍ في معنى الحال. والمعنى: لا أفعلُ في المستقبل
ما تَطْلبونه مني مِنْ عبادةِ آلهتِكم، ولا أنتم فاعلونَ فيه ما أَطْلُبُه منكم مِنْ عبادةِ إلهي، ولا أنا عابدٌ ما عبَدُتُمْ، أي: وما كنتُ قطُّ عابداً فيما سَلَفَ ما عبدتُمْ فيه، يعني ما عُهِدَ مني قَطُّ عبادةُ صنم في الجاهلية. فكيف ترجى مني في الإِسلامِ؟ ولا أنتم عبادون ما أعبدُ، أي: وما عبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه. فإنْ قلتَ: فهلَاّ قيل: ما عَبَدْتُ كما قيل ما عبدتُمْ. قلت: لأنهم كانوا يَعْبُدون الأصنامَ قبل المَبْعَثِ، وهو لم يَكُنْ يعبدُ اللَّهَ تعالى في ذلك الوقتِ. فإن قلت: فلِمَ جاء على» ما «دونَ مَنْ؟ قلت: لأنَّ المرادَ الصفةُ كأنه قيل: لا أعبدُ الباطلَ، ولا تعبدون الحقَّ. وقيل: إن» ما «مصدريةٌ، أي: لا أعبد عبادتَكم ولا تعبُدون عبادتي» انتهى. يعني بقولِه «لأن المرادَ الصفةُ» يعني أنه أريدُ ب «ما» الوصفُ، وقد قَدَّمْتُ تحقيقَ هذا قريباً في سورةِ والشمس وضحاها، واعتراضَ الشيخِ عليه، والجوابَ عنه، وأصلُه في سورة النساء عند قوله:{فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] .
وناقشه الشيخ هنا فقال: «أمَّا حَصْرُه في قولِه:» لأن «لا» لا تَدْخُل «إلى آخره. وفي قوله:» كما أن «ما» لا تَدْخُلُ «إلى آخرِه؛ فليس بصحيحٍ، بل ذلك غالِبٌ فيها لا مُتحتِّمٌ.
وقد ذكر النحاةُ دخولَ «لا» على المضارع يُرادُ به الحالُ، ودخول «ما» على المضارع يُراد به الاستقبالُ. وذلك مذكورٌ في المبسوطات مِنْ كتب النحوِ، ولذلك لم يَذْكُرْ سيبويه ذلك بأداة الحصرِ إنما قال:«وتَكونُ» لا «نفياً لقولِه
يَفْعَلُ ولم يقع الفعلُ» وقال: «وأمَّا» ما «فهي نفيٌ لقولِه: هو يفعلُ إذا كان في حالِ الفعل» فذكر الغالبَ فيهما. وأمَّا قولُه، في قولِه:{وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: وما كنت قَطُّ عابداً فيما سلفَ ما عبدتُمْ فيه، فلا يَسْتقيم لأنَّ عباداً اسمُ فاعلٍ قد عَمِلَ في «ما عَبَدْتُمْ» فلا يُفَسَّر بالماضي إنما يُفَسَّر بالحالِ أو الاستقبالِ، وليس مذهبُه في اسمِ الفاعلِ مذهبَ الكسائي وهشام مِنْ جوازِ إعمالِه ماضياً. وأمَّا قولُه:«ولا أنتم عابدون ما أعبدُ» ، أي: وما عَبَدْتُمْ في وقتٍ ما أنا على عبادتِه فعابِدون قد أعملَه في «ما أعبد» فلا يُفَسَّر بالماضي.
وأمَّا قولُه «وهو لم يكن» إلى آخره فسوءُ أدبٍ على منصبِ النبوةِ، وغيرُ صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم لم يَزْلَ مُوَحِّداً لله تعالى، مُنَزِّهاً عن كلِّ ما لا يليق بجلالِه، مُجْتنباً لأصنامِهم، يقفُ على مشاعر أبيه إبراهيمَ عليه السلام ويَحُجُّ البيتَ، وهذه عبادةٌ، وأيُّ عبادةٍ أعظمُ مِنْ توحيدِ اللَّهِ تعالى ونَبْذِ أصنامِهم؟ ومعرفةُ اللَّهِ تعالى أعظمُ العباداتِ. قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قال المفسِّرون: إلَاّ ليَعْرِفونِ، فسمى المَعْرِفَةَ بالله تعالى عبادةً «انتهى ما ناقَشَه به ورَدُّه عليه.
ويُجابُ عن الأولِ: أنه بنى أمرَه على الغالبِ فلذلك أتى بالحَصْرِ وأمَّا ما حكاه عن سيبويهِ فظاهرُه معه حتى يقومَ دليلٌ على غيرِه. وعن إعمالِه اسمَ الفاعل مُفَسِّراً له بالماضي بأنه على حكايةِ الحالِ كقوله
تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وقوله: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} [البقرة: 72] نحوهُ.
وأمَّا قولُه:» كان مُوَحِّداً مُنَزِّهاً «فمُسَلَّمٌ. وقوله:» وهذه أعظمُ العباداتِ «مُسَلَّم أيضاً. ولكنَّ المرادَ في الآية عبادةٌ مخصوصةٌ، وهي الصلاةُ المخصوصةُ؛ لأنَّها يُقابِلُ بها ما كان المشركون يَفْعَلونه من سجودِهم لأصنامِهم وصلاتِهم لها، فقابَلَ هذا صلى الله عليه وسلم بصَلاتِه للهِ تباركَ تعالى. ولكنَّ نَفْيَ كلامِ الزمخشريِّ يُفْهِمُ أنه صلى الله عليه وسلم لم يكُنْ مُتعبِّداً قبل المبعَثِ، وهو مذهبٌ مرجوحٌ جداً ساقطُ الاعتبارِ؛ لأنَّ الأحاديث الصحيحة تَرُدُّه وهي: كان يتحنَّث، كان يتعبَّدُ، كان يصومُ، كان يطوفُ كان يَقفُ، ولم يقُلْ بخلافه إلَاّ شذوذٌ مِنْ الناسِ. وفي الجملةِ فالمسألةٌ خلافيةٌ. وإذا كان متعبِّداً فبأيِّ شَرْعٍ كان يتعبَّد؟ قيل: بشرعِ نوحٍ: وقيل: إبراهيم. وقيل: موسى. وقيل: عيسى، ودلائلُ هذه في الأصولِ فلا نتعرَّضُ لها.
ثم قال الشيخ: «والذي أَختارُ في هذه الجملِ أنه نفى عبادتَه في المستقبل؛ لأن الغالِبَ في» لا «أَنْ تنفي المستقبلَ، ثم عَطَفَ عليه {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للمستقبلِ، على سبيل المقابلةِ. ثم قال:{وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} نَفْياً للحال؛ لأنَّ اسمَ الفاعلِ العاملَ الحقيقةُ فيه دلالتُه على الحالِ، ثم عَطَفَ عليه {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} نَفْياً للحال على سبيل المقابلةِ، فانتظم المعنى أنَّه عليه السلام لا يَعْبُدُ ما يعبدون
حالاً ولا مستقبلاً. وهم كذلك إذ حَتَم الله تعالى موافاتَهم على الكفر. ولَمَّا قال:» لا أعبدُ ما تبعدون «فأطلق» ما «على الأصنامِ قابلَ الكلام ب» ما «في قولِه» ما أعبد «وإنْ كان المرادُ بها اللَّهَ تعالى؛ لأنَّ المقابلةَ يسوغُ فيها ما لا يَسُوغ في الانفرادِ. وهذا على مذهبِ مَنْ يقول: إنَّ» ما «لا تقع على آحادِ أولي العلمِ. أمَّا مَنْ يُجَوِّزُ ذلك - وهو مذهبُ سيبويهِ - فلا يَحْتاج إلى الاستعذارِ بالتقابلِ» .
قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} أتى بهاتَيْنِ الجملتين الإِثباتِيَّتَيْن بعد جملٍ منفيةٍ؛ لأنه لَمَّا كان الأهمُّ انتفاءَه عليه السلام مِنْ دينهم بدأ بالنفي في الجملِ السابقةِ بالمنسوبِ إليه، فلمَّا تحقَّقَ النفيُ رَجَعَ إلى خطابِهم بقولِه {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} مهادنةً لهم، ثم نَسَخَ ذلك بالأمرِ بالقتال.
وفتح الياءَ مِنْ «لي» نافعٌ وهشامٌ وحفصٌ والبزيُّ بخلافٍ عنه، وأسكنها الباقون، وحَذَفَ ياءَ الإِضافةِ مِنْ «ديني» وقفاً ووَصْلاً السبعةُ وجمهور القراء، وأثبتها في الحالَيْن سلامٌ ويعقوب، وأمرُها واضحٌ ممَّا تقدَّم.
قوله: {نَصْرُ الله} : مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، ومفعولُه محذوفٌ لفَهْمِ المعنى، أي: نَصْرُ اللَّهِ إياك والمؤمنين. وكذلك مفعولَيْ «الفتح» ومُتَعَلَّقَهُ. والفتح، أي: فَتْحُ البلادِ عليك وعلى أمتِك. أو المقصود: إذ جاء هذان الفعلان، مِنْ غير نظرٍ إلى متعلَّقَيْهما كقوله:{أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . وأل في الفتح عِوَضٌ مِنْ الإِضافة، أي: وفَتْحُه، عند الكوفيين، والعائدُ محذوفٌ عند البصريين، أي: والفتحُ مِنْه، للدلالةِ على ذلك. والعاملُ في «إذا» : إمَّا «جاء» وهو قولُ مكي، وإليه نحا الشيخ ونَضَرَه في مواضعَ وقد تقدَّم ذلك كما نَقَلْتُه عن مكيّ وعنه. والثاني: أنه «فَسَبِّحْ» وإليه نحا الزمخشريُّ والحوفيُّ. وقد رَدَّ الشيخُ عليهما: بأنَّ ما بعد فاءِ الجواب لا يعملُ فيما قبلَها. وفيه بحثٌ تقدَّم بعضُه في سورةِ «والضُّحى» .
قوله: {يَدْخُلُونَ} إمَّا حالٌ إنْ كان «رَأَيْتَ» بَصَريةً وفي عبارة الزمخشري: «إنْ كانَتْ بمعنى أبَصَرْتَ أو عَرَفْتَ» وناقشه الشيخُ: بأنَّ رَأَيْتَ لا يُعْرَفُ كونُها بمعنى عَرَفْتَ. قال: «فيَحْتاج في ذلك إلى استثباتٍ. وإمَّا مفعولٌ ثانٍ إن كانت بمعنى عَلِمْتَ المتعدية لاثنين. وهذه قراءةُ العامَّةِ أعني: يَدْخُلون مبنياً للفاعل. وابن كثير في روايةٍ» يُدْخَلون «مبنياً للمفعول و» في دين «ظرفٌ مجازيٌّ، وهو مجازٌ فصيحٌ بليغٌ هنا.
قوله: {أَفْوَاجاً} حالٌ مِنْ فاعل» يَدْخُلون «قال مكي:» وقياسُه أفْوُج. إلَاّ أنَّ الضمةَ تُسْتثقلُ في الواوِ، فشَبَّهوا فَعْلاً يعني بالسكون بفَعَل يعني بالفتح، فجمعوه جَمْعَه «انتهى. أي: إنَّ فَعْلاً بالسكون قياسُه أَفْعُل كفَلْس وأَفْلُس، إلَاّ أنه اسْتُثْقِلت الضمةُ على الواو فجمعوه جَمْعَ فَعَل بالتحريكِ نحو: جَمَل وأَجْمال؛ لأنَّ فَعْلاً بالسُّكون على أَفْعال ليس بقياسٍ إذا كان فَعْلٌ صحيحاً نحو: فَرْخ وأفراخ، وزَنْد وأزناد، ووردَتْ منه ألفاظٌ كثيرةٌ، ومع ذلك فلم يَقيسوه، وقد قال الحوفيُّ شيئاً مِنْ هذا.
قوله: {بِحَمْدِ رَبِّكَ} حالٌ، أي: مُلْتبساً بحمده، وتقدَّم تحقيقُ هذا في البقرة عند قوله:{وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ} [البقرة: 30] .
قوله: {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} : أي: خَسِرَتْ، وتقدَّم تفسيرُ هذه المادةِ في سورة غافر في قولِه:{إِلَاّ فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] ، وأسند الفعلَ إلى اليدَيْنِ مجازاً لأنَّ أكثرَ الأفعالِ تُزاوَلُ بهما، وإنْ كانَ المرادُ جملةَ المَدْعُوِّ عليه. وقوله:«تَبَّتْ» دعاءٌ، و «تَبَّ» إخبارٌ، أي: قد وقع ما دُعِيَ به عليه. كقول الشاعر:
4668 -
جَزاني جَزاه اللَّهُ شرَّ جَزائِه
…
جزاءَ الكِلابِ العاوياتِ وقد فَعَلْ
ويؤيِّده قراءةُ عبد الله «وقد تَبَّ» والظاهرُ أنَّ كليهما دعاءٌ، ويكونُ في هذا شَبَهٌ مِنْ مجيءِ العامِّ بعد الخاصِّ؛ لأنَّ اليَدَيْن بعضٌ، وإن كان حقيقةُ اليدَيْن غيرَ مرادٍ، وإنما عَبَّر باليدَيْنِ؛ لأن الأعمال غالِباً تُزاوَلُ بهما.
وقرأ العامة «لَهَبٍ» بفتح الهاء. وابنُ كثيرٍ بإسكانِها. فقيل: لغتان بمعنىً، نحو النَّهْر والنَّهَر، والشَّعْر والشَّعَر، والنَّفَر والنَّفْر، والضَّجَر والضَّجْر. وقال الزمخشري:«وهو مِنْ تغييرِ الأعلامِ كقوله:» شُمْس ابن مالك «بالضم، يعني أنَّ الأصلَ شَمْسِ بفتح الشين فَغُيِّرَتْ إلى الضَمِّ، ويُشير بذلك لقولِ الشاعر:
4669 -
وإنِّي لَمُهْدٍ مِنْ ثَنَائِي فَقاصِدٌ بِهِ
…
لابنِ عَمِّ الصِّدْقِ شُمْسِ بنِ مالكِ
وجَوَّزَ الشيخُ في» شُمْس «أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ» شُمْس «الجمع مِنْ قولِه:» أذنابُ خيلٍ شُمْسٍ «فلا يكونُ من التغيير في شيءٍ. وكنى
بذلك: إمَّا لالتهابِ وجنَتَيْه، وكان مُشْرِقَ الوجهِ أحمرَه، وإمَّا لِما يَؤُول إليه مِنْ لَهَبِ جنهمَ، كقولِهم: أبو الخيرِ وأبو الشَّرِّ لصُدورِهما منه. وإمَّا لأنَّ الكُنيةَ أغلبُ من الاسم، أو لأنَّها أَنْقصُ منه، ولذلك ذكرَ الأنبياءَ بأسمائِهم دون كُناهم، أو لُقْبحْ اسمِه، فإنَّ اسمَهِ» عبد العزى «فعَدَلَ إلى الكُنْية، وقال الزمخشري:» فإنْ قلتَ: لِمَ كَناه والكُنيةُ تَكْرُمَةٌ؟ ثم ذكَرَ ثلاثةَ أجوبةٍ: إمَّا لشُهْرَتِه بكُنْيته، وإمَّا لقُبْحِ اسمِه كما تقدَّم، وإمَّا لأنَّ مآلَه إلى لهبِ جهنمِ «. انتهى. وهذا يقتضي أنَّ الكنيةَ أشرفُ وأكملُ لا أنقصُ، وهو عكسُ قولٍ تقدَّمَ آنفاً.
وقُرئ:» يدا أبو لَهَبٍ «بالواوِ في مكانِ الجرِّ. قال الزمخشري:» كما قيل: عليُّ بن أبو طالب، ومعاويةُ بنُ أبو سفيان، لئلا يتغيَّرَ منه شيءٌ فيُشْكِلَ على السامعِ ول فَلِيْتَةَ بنِ قاسمٍ أميرِ مكة ابنان، أحدُهما: عبدِ الله بالجرِّ، والآخرُ عبدَ الله بالنصب «ولم يَختلف القُرَّاءُ في قولِه:{ذاتَ لَهَب} أنها بالفتح. والفرقُ أنها فاصلةٌ فلو سَكَنَتْ زال التَّشاكلُ.
قوله: {مَآ أغنى} : يجوزُ في «ما» النفيُ والاستفهامُ، وعلى الثاني تكون منصوبةَ المحلِّ بما بعدَها التقدير: أيُّ شيء أغنى المالُ؟ وقُدِّم لكونِه له صَدْرُ الكلامِ.
قوله: {وَمَا كَسَبَ} يجوز في «ما» هذه أَنْ تكونَ بمعنى الذي، فالعائد محذوفٌ، وأَنْ تكونَ مصدريةً، أي: وكَسْبُه، وأَنْ تكونَ استفهاميةً يعني: وأيَّ شيءٍ كَسَبَ؟ أي: لم يَكْسَبْ شيئاً، قاله الشيخُ، فجعل الاستفهامَ بمعنى النفيِ، فعلى هذا يجوزُ أَنْ تكونَ نافيةً، ويكونَ المعنى على ما ذَكَرَ، وهو غيرُ ظاهرٍ وقرأ عبد الله:«وما اكْتَسَبَ» .
قوله: {سيصلى} العامَّةُ على فتحِ الياءِ وإسكانِ الصادِ وتخفيفِ اللامِ، أي: يصلى هو بنفسِه. وأبو حيوةَ وابنُ مقسمٍ وعباسٌ في اختيارِه بالضمِّ والفتحِ والتشديدِ. والحسن وأبن أبي إسحاق بالضمِّ والسكون.
قوله: {وامرأته حَمَّالَةَ الحطب} : قراءةُ العامَّةِ بالرفع على أنهما جملةٌ مِنْ مبتدأ وخبرٍ سِيْقَتْ للإِخبار بذلك. وقيل: «وامرأتُه» عطفٌ على الضميرِ في «سَيَصْلى» ، سَوَّغَه الفصلُ بالمفعولِ. و «حَمَّالةُ الحطبِ» على هذا فيه أوجهٌ: كونُها نعتاً ل «امرأتهُ» . وجاز ذلك لأن الإِضافةَ حقيقيةٌ؛ إذا المرادُ المضيُّ، أو كونُها بياناً أو كونُها بدلاً لأنها قريبٌ مِنْ الجوامدِ لِتَمَحُّضِ إضافتِها، أو كونُها خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: هي حَمَّالةُ. وقرأ ابنُ عباس «ومُرَيَّتُهُ» و «مْرَيْئَتُهُ» على التصغير، إلَاّ أنَّه
أقَرَّ الهمزةَ تارةً وأبدلَها ياءً، وأدغم فيها أخرى.
وقرأ العامةُ {حَمَّالَةُ} بالرفع. وعاصمٌ بالنصبِ فقيل: على الشَّتْم، وقد أتى بجميلٍ مَنْ سَبَّ أمَّ جميل. قاله الزمخشري، وكانت تُكْنَى بأمِّ جميل. وقيل: نصبٌ على الحالِ مِنْ «أمرأتُه» إذا جَعَلْناها مرفوعةً بالعطفِ على الضَّميرِ. ويَضْعُفُ جَعْلُها حالاً عند الجمهور من الضميرِ في الجارِّ بعدها إذا جَعَلْناه خبراً ل «امرأتُه» لتقدُّمها على العاملِ المعنويِّ. واستشكل بعضُهم الحاليةَ لِما تقدَّم من أنَّ المرادَ به المُضِيُّ، فيتعرَّفُ بالإِضافةِ، فكيف يكونُ حالاً عند الجمهور؟ ثم أجابَ بأنَّ المرادَ الاستقبالُ لأنَّه وَرَدَ في التفسير: أنها تحملُ يومَ القيامةِ حُزْمَةً مِنْ حَطَبِ النار، كما كانت تحملُ الحطبَ في الدنيا.
وفي قوله: {حَمَّالَةَ الحطب} قولان. أحدُهما: هو حقيقةُ. والثاني: أنه مجازٌ عن المَشْيِِ بالنميمةِ ورَمْيِ الفِتَنِ بين الناس. قال الشاعر:
4670 -
إنَّ بني الأَدْرَمِ حَمَّالو الحَطَبْ
…
هُمُ الوشاةُ في الرِّضا وفي الغضبْ
وقال آخر:
4671 -
مِنْ البِيْضِ لم تُصْطَدْ على ظَهْرِ لأْمَةٍ
…
ولم تَمْشِ بين الحَيِِّ بالحطبِ الرَّطْبِ
جَعَلَه رَطْباً تنبيهاً على تَدْخينه، وهو قريبٌ مِنْ ترشيحِ المجازِ. وقرأ أبو قلابة {حاملةَ الحطبِ} على وزن فاعِلَة. وهي محتملةُ لقراةِ العامَّةِ. وعباس «حَمَّالة للحطَبِ» بالتنوين وجَرِّ المفعولِ بلامٍ زائدةٍ تقويةً للعاملِ، كقولِه تعالى:{فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] وأبو عمروٍ في روايةٍ «وامرأتُه» باختلاسِ الهاءِ دونَ إشباعٍ.
قوله: {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ} : يجوزُ أَنْ يكونَ «في جيدِها» خبراً ل «امرأتُه» و «حبلٌ» فاعلٌ به، وأَنْ يكونَ حالاً مِنْ «امرأتُه» على كونِها فاعلة. و «حبلٌ» مرفوعٌ به أيضاً، وأَنْ يكونَ خبراً مقدَّماً. و «حَبْلٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. والجملةُ حاليةٌ أو خبر ثانٍ، والجِيْدُ:
العُنُق، ويُجْمع على أجيادُ. قال امرؤ القيس:
4672 -
وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحِشٍ
…
إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعْطَّلِ
و {مِّن مَّسَدٍ} صفةٌ ل «حَبْل» والمَسَدُ: لِيْفُ المُقْلِ: وقيل: اللِّيفُ مطلقاً. وقيل: هو لِحاءُ شَجَرٍ باليمن. قال النابغة:
4673 -
مَقْذُوْفَةٌ بِدَخِيْسِ النَّحْضِ بَازِلُها
…
له صريفٌ صَريفُ القَعْوِ بالمَسَدِ
وقد يكونُ مِنْ جلود الإِبل وأَوْبارِها. وأنشد:
4647 -
ومَسَدٍ أُمِرَّ مِنْ أَيانِقِ
…
ويقال: رجلٌ مَمْسود الخَلْق، أي: شديدُه.
قوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} : في «هو» وجهان، أحدهما: أنه ضميرٌ عائدٌ على ما يفْهَمُ من السياقِ، فإنه يُرْوى في الأسباب: أنَّهم قالوا لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربَّك وانْسُبْه. وقيل: قالوا له: أمِنْ نُحاس هو أم مِنْ حديدٍ؟ فنَزَلَتْ. وحينئذٍ يجوزُ أَنْ يكونَ «الله» مبتدأً، و «أَحَدٌ» خبرُه. والجملةُ خبرُ الأولُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» بدلاً، و «أحدٌ» الخبرَ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «اللَّهُ» خبراً أوَّلَ، و «أحدٌ» خبراً ثانياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ «أحدٌ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو أحدٌ. والثاني: أنَّه ضميرُ الشأنِ لأنه موضعُ تعظيمٍ، والجلمةُ بعدَه خبرُه مفسِّرِةٌ.
وهمزةُ «أحد» بدلٌ من واوٍ، لأنَّه من الوَحْدة، وإبدالُ الهمزةِ من الواوِ المفتوحةِ. وقيل: منه «امرأةٌ أناة» من الونى وهو الفُتورُ. وتقدَّم الفرقُ بين «أحد» هذا و «أحد» المرادِ به العمومُ، فإنَّ همزةُ ذاك أصلٌ
بنفسِها. ونَقَل أبو البقاءِ أنَّ همزةَ «أحد» هذا غيرُ مقلوبةٍ، بل أصلٌ بنفسِها كالمرادِ به العمومُ، والمعروفُ الأولُ. وفَرَّق ثعلب بين «واحد» وبين «أحد» بأنَّ الواحدَ يدخُلُه العَدُّ والجمعُ والاثنان، و «أحَد» لا يَدْخُلُه ذلك. ويقال: اللَّهُ أحدٌ، ولا يقال: زيدٌ أحدٌ؛ لأنَّ للَّهِ تعالى هذه الخصوصيةَ، وزَيْدٌ له حالاتٌ شتى. ورَدَّ عليه الشيخُ: بأنَّه يُقال: أحد وعشرونَ ونحوه فقد دخلَه العددُ «أنتهى. وقال مكي:» إنَّ أَحَدَاً أصلُه وَأَحَد، فأُبْدِلَتِ الواوُ همزةً فاجتمع ألفان، لأنَّ الهمزةَ تُشْبه الألفَ، فحُذِفَتْ إحداهما تخفيفاً «.
وقرأ عبد الله وأُبَيُّ {اللَّهُ أحدٌ} دونَ» قُلْ «وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم» أحدٌ «بغيرِ» قل هو «وقرأ الأعمش:» قل هو اللَّهُ الواحد «.
وقرأ العامَّةُ بتنوين» أحدٌ «وهو الأصلُ. وزيد بن علي وأبان ابن عثمان وابن أبي إسحاق والحسن وأبو السَّمَّال وأبو عمروٍ في روايةٍ في عددٍ كثيرٍ بحذف التنوين لالتقاء الساكنين كقولِه:
4675 -
عمرُو الذي هَشَمَ الثَّريدَ لقومِه
…
ورجالُ مكةَ مُسْنِتُون عِجافُ
وقال آخر:
4676 -
فأَلْفَيْتُه غيرَ مُسْتَعْتِبٍ
…
ولا ذاكرَ اللَّهَ إلَاّ قليلا
قوله: {الصمد} : فَعَل بمعنى مَفْعُول كالقَبَضِ والنَّقَضِ. وهو السَّيِّدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الحوائجِ، أي: يُقْصَدُ ولا يَقْدِرُ على قضائِها إلَاّ هو. وأنشد:
4677 -
ألا بَكَّرَ النَّاعي بخَيْرِ بني أسدْ
…
بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّد الصَّمَدْ
وقال الآخر:
4678 -
عَلَوْتُه بحُسامٍ ثم قُلْتُ له
…
خُذْها حُذَيْفُ فأنتَ السَّيِّدُ الصَّمَدُ
وقيل: الصَّمَدُ: هو الذي لا جَوْفَ له، ومنه قوله:
4679 -
شِهابُ حُروبٍ لا تَزال جيادُه
…
عوابِسَ يَعْلُكْنَ الشَّكِيْمَ المُصَمَّدا
وقال ابن كعب: تفسيرُه ما بعده مِنْ قولِه: «لم يَلِدْ ولم يُوْلَدُ» وهذا يُشْبِهُ ما قالوه في تفسير الهَلوع. والأحسنُ في هذه الجملة أَنْ تكون مستقلةً بفائدةِ هذا الخبرِ. ويجوز أنْ يكونَ «الصَّمَدُ» صفةً. والخبرُ في الجملةِ بعده، كذا قيل: وهو ضعيفٌ، من حيث السِّياقُ، فإنَّ السِّياقَ يَقْتضي الاستقلالَ بأخبارِ كلِّ جملةٍ.
قوله: {كُفُواً أَحَدٌ} : في نصبِه وجهان، أحدُهما: أنه خبرُ «يكنْ» و «أحدٌ» اسمُها و «له» متعلِّقٌ بالخبر، اي: ولم يكُنْ أحدٌ كُفُواً له. وقد رَدَّ المبردُ على سيبويهِ بهذه الآيةِ، من حيث إنه يزعمُ أنه إذا تَقَدَّم الظرفُ كان هو الخبرَ، وهنا لم يَجْعَلْه خبراً مع تقدُّمِه.
وقد رُدَّ على المبردِ بوجهَيْن، أحدُهما: أنَّ سيبويهِ لم يُحَتِّمْ ذلك بل جَوَّزه. والثاني: أنَّا لا نُسَلِّم أن الظرفَ هنا ليس بخبرٍ بل هو خبرٌ، ونصبُ «كُفُواً» على الحال على ما سيأتي بيانُه. وقال الزمخشري:«الكلامُ العربيُّ الفصيحُ أَنْ يؤخَّرَ الظرفُ الذي هو لَغْوٌ غيرُ مستقِرِّ ولا يُقَدَّمَ. وقد نَصَّ سيبويه في» كتابِه «على ذلك، فما بالُه مُقَدَّماً في أَفْصَحِ كلامٍ وأَعْرَبِه؟ قلت: هذا الكلامُ إنما سِيْقَ لنَفْيِ المكافأةِ عن ذاتِ
الباري تعالى، وهذا المعنى مَصَبُّه ومَرْكَزُه هو هذا الظرفُ، فكان لذلك أهمَّ شيءٍ وأَعْناه وأحقَّه بالتقديمِ وأَحْراه» .
والثاني: أَنْ يُنْصَبَ على الحال مِنْ «أحد» لأنَّه كان صفتَه فلمَّا تقدَّم عليه نُصِب حالاً، و «له» هو الخبر. قاله مكي وأبو البقاء وغيرُهما. ويجوز أَنْ يكونَ حالاً من الضمير المستكِنِّ في الجارِّ لوقوعِه خبراً. قال الشيخ بعد أَنْ حكى كلامَ الزمخشري ومكي:«وهذه الجملةُ ليسَتْ من هذا البابِ وذلك أنَّ قولَه: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} ليس الجارُّ والمجرورُ فيه تامَّاً، إنما ناقصٌ لا يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً ل» كان «بل هو متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وقُدِّمَ عليه. التقدير: ولم يكنْ أحدٌ مكافِئاً له، فهو في معنى المفعولِ متعلِّقٌ ب» كُفُواً «وتَقَدَّم على» كُفُواً «للاهتمامِ به، إذ فيه ضميرُ الباري تعالى، وتوسَّطَ الخبرُ وإنْ كان الأصلُ التأخيرَ؛ لأنَّ تأخيرَ الاسمِ هو فاصلةٌ فحَسُنَ ذلك.
وعلى هذا الذي قَرَّرْناه يَبْطُل إعرابُ مكي وغيرِه أنَّ» له «الخبرُ، و» كُفُواً «حالٌ مِنْ» أحد «لأنه ظرفٌ ناقصٌ لا يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. وبذلك يَبْطُل سؤالُ الزمخشريِّ وجوابُه. وسيبويه إنما تكلَّم في الظرفِ الذي يَصْلُحُ أَنْ يكونَ خبراً وأنْ لا يكون. قال سيبويه:» وتقول: ما كان فيها أحدٌ خيرٌ منك، وما كان [أحدٌ] مثلُك فيها، وليس أحدٌ
فيها خيرٌ منك، إذا جعلت «فيها» : مستقراً، ولم تجعَلْه على قولك: فيها زيدٌ قائمٌ أَجْرَيْتَ الصفةَ على الاسم. فإن جَعَلْتَه على «فيها زيدٌ قائمٌ» نَصَبْتَ فتقول: ما كان فيها أحدٌ خيراً منك، وما كان أحدٌ خيراً منك فيها، إلَاّ أنَّكَ إذا أرَدْتَ الإِلْغاءَ فلكما أَخَّرْتَ المُلْغَى فهو أَحْسَنُ، وإذا أرَدْتَ أَنْ يكونَ مستقرَّاً فكلما قَدَّمْته كان أحسنَ، والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاءُ والاستقرارُ عربيٌُّ جيدٌ كثيرٌ قال تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} وقال الشاعر:
4680 -
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيْلٌ حَيَّاً
…
انتهى كلامُ سيبويه. قال الشيخ: «فأنت ترى كلامَه وتمثيلَه بالظرف الذي يَصْلُح أَنْ يكونَ خبراً. ومعنى قولِه» مستقرَّاً «أي: خبراً للمبتدأ أو لكان. فإن قلتَ: فقد مَثَّل بالآية. قلت: هذا أوقَع مكيَّاً والزمخشريَّ وغيرَهما فيما وقعوا فيه، وإنما أراد سيبويه أنَّ الظرفَ التامَّ وهو في قولِه:
ما دامَ فيهِنَّ فَصِيلٌ حَيَّاً
…
أُجْري فَضْلةً لا خبراً كما أنَّ» له «في الآية أُجْرِي فَضْلَةً فجعلَ الظرفَ القابلَ أن يكونَ خبراً كالظرفِ الناقصِ في كونِه لم يُستعمل خبراً. ولا يَشُكُّ مَنْ له ذِهْنٌ صحيحٌ أنه لا ينعقدُ كلامٌ مِنْ» له أحد «بل لو تأخَّرَ»
كُفُو «وارتفع على الصفةِ وقد جَعَل» له «خبراً لم ينعقِدْ منه كلامٌ. بل أنت ترى أنَّ النفيَ لم يتسلَّطْ إلَاّ على الخبرِ الذي هو» كُفُواً «والمعنى: لم يكنْ أحدٌ مكافِئَه» انتهى ما قاله الشيخ.
وقوله: «ولا يَشُكُّ أحدٌ» إلى آخره تَهْوِيلٌ على الناظرِ. وإلَاّ فقولُه: «هذا الظرفُ ناقصٌ» ممنوعٌ؛ لأنَّ الظرفَ الناقصَ عبارةٌ عَمَّا لم يكُنْ في الإِخبارِ به فائدةٌ، كالمقطوعِ عن الإِضافة، ونحوِ «في دارٍ رجلٌ» وقد نَقَلَ عن سيبويه الأمثلَةَ المتقدمةَ نحو:«ما كان فيها أحدٌ خيراً منك» ، وما الفرق بين هذا وبين الآيةِ الكريمة؟ وكيف يقول هذا وقد قال سيبويهِ في آخرِ كلامهِ:«والتقديمُ والتأخيرُ والإِلغاء والاستقرارُ عربيٌّ جيدٌ كثيرٌ» ؟
وقرأ العامَّةُ بضمِّ الكافِ والفاء. وسَهَّل الهمزةَ الأعرجُ وشيبةُ ونافعٌ في روايةٍ. وأسكنَ الفاءَ حمزةُ، وأبدل الهمزةَ واواً وقفاً خاصة. وأبدلها حفصٌ واواً مطلقاً. والباقون بالهمزِ مطلقاً. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا في أوائِل البقرةِ في قوله:{هُزُواً} [البقرة: 67] .
وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس «كِفاءٌ» بالكسر والمدِّ، أي: لا مِثْلَ له. وأُنْشِدَ للنابغة:
4681 -
لا تَقْذِفَنِّي برُكْنٍ لا كِفاءَ له
…
. . . . . . . . . . . . . . . . .
ونافعٌ في رواية «كِفا» بالكسر وفتح الفاء مِنْ غير مَدّ، كأنه نَقَلَ حركةَ الهمزةِ وحَذَفَها. والكُفْءُ: النظيرُ. وهذا كفْءٌ لك، أي: نظيرُكَ والاسم الكَفاءة بالفتح.