المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث: كثرة الملاهي في هذا العصر - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٥

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌الباب الثالث: كثرة الملاهي في هذا العصر

لمن لا دين له ولا علم، أولئك {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [سورة الكهف آية: 104] .

ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، حتى رؤي بعضهم يمسح وجهه ببوله، ويقول: اللهم اجعلني من التوابين إليك، واجعلني من المتطهرين. ورؤي بعضهم والكلب يلحس وجهه، وهو يقول: أكرمك الله. فانظر إلى مطابقة ما قاله الغربيون، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أن الخمر ضرر ومفاسد بقوله:(إنها داء) ، والله الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد، وقد نشر هذا المقال في جريدة اليمامة في 12/9/1375 هـ.

ص: 102

‌الباب الثالث: كثرة الملاهي في هذا العصر

ومن أعظم أسبابها: السياحة في بلاد الخارج، ولم تكن توجد في عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته، ولا في هذه الدعوه المباركة، ولا في زمن النبوة والخلفاء، وأئمة الدين المقتدى بهم.

قال ابن القيم رحمه الله: والذي شاهدناه نحن وغيرنا، وعرفناه بالتجارب، أنه ما ظهرت المعازف وآلات اللهو في قوم، وفشت فيهم، واشتغلوا بها، إلا سلط عليهم العدو، وابتلوا بالقحط والجدب، وولاة السوء.

ص: 102

[رسالة الشيخ محمد بن إبراهيم في تعزيز ما طلب منعه وإزالته]

وقال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده. وبعد:

فنظرا لما حدث مؤخرا في هذه البلاد، من الأمور التي توجب غضب الرب، وفساد المجتمع، والتحلل من الأخلاق الفاضلة، ولما أوجبه الله على أهل العلم من النصح لولاة الأمور، وبيان حكم كل حادثة وما أوجبه الله على ولاة الأمور من حماية الدين وتعزيزه، والقضاء على الفساد، وسد أبوابه وطرقة، وحسم مواده، والوسائل المفضية إليه، رأينا تعزيز الكتب السابقة بهذا الكتاب، موضحين أدلة ما طلبنا من سموكم منعه وإزالته. وفي ما يلي ذكر بعض الأدلة. تظاهرت أدلة الكتاب والسنة على تحريمه في الجملة، وحكى غير واحد من العلماء، إجماع العلماء على تحريمه، منهم القرطبي في تفسيره المشهور.

وقد بسط ابن القيم رحمه الله أدلة المنع في كتابه: "إغاثة اللهفان" ونقل الأدئة من الكتاب والسنة، وكلام أهل العلم، في ذمه وتحريمه، وبيان ما يترتب عليه من المفاسد

ص: 103

الكثيرة، والعواقب الوخيمة، هذا كله إذا كان غناء مجردا من آلات العزف والطرب.

فأما إذا اقترن به شيء من ذلك، صار التحريم أشد، والإثم أكبر، والمفاسد أكثر. وقد حكى العلامة ابن الصلاح: إجماع العلماء على تحريم الغناء، إذا اقترن به شيء من آلات اللهو والطرب، نقله عنه العلامة ابن القيم وغيره.

ومن أدلة الكتاب على ذلك، قوله سبحانه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6] حكى غير واحد من المفسرين عن أكثر العلماء، تفسير اللهو هنا بالغناء، وبذلك فسره عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر، وكان عبد الله بن مسعود يحلف على ذلك.

وهؤلاء الثلاثة، من خيرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهم أعلم الناس بتفسير كتاب الله؛ وقد تبعهم على ذلك أكثر العلماء.

وقال ابن جرير، رحمه الله، في تفسيره، وجماعة من العلماء: إن الآية الكريمة شاملة للغناء وغيره من آلات اللهو، وأخبار الكفرة، وغير ذلك مما يصد عن ذكر الله.

والآية الكريمة تدل على أن الاشتغال بلهو الحديث، يفضي بأهله إلى الضلال عن سبيل الله، واتخاذ آيات الله

ص: 104

هزوا، وكفى بذلك قبحا وشناعة وذما للغناء وما يقترن به من آلات اللهو والطرب.

ومن ذلك قوله: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] فسر كثير من السلف الصوت بالغناء، وآلات الطرب، وكل صوت يدعو إلى باطل. ومن ذلك قوله سبحانه:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] فسر كثير من العلماء: الزور، بالغناء وآلات اللهو، ولا شك أنه داخل في ذلك، والزور يشمله وغيره من أنواع الباطل.

وهذه الآيات الكريمات تدل دلالة واضحة على ذم الغناء، والتحذير منه، سواء كان المغني رجلا أو امرأة. ولا شك أن الغناء إذا كان من الأنثى، كانت الفتنة به أعظم، والفساد الناتج منه أكثر.

وقد دل القرآن الكريم على تحريم خضوع المرأة بالقول في قوله سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [سورة الأحزاب آية: 32] .

وإذا كانت أمهات المؤمنين ينهين عن الخضوع في القول، مع طهارتهن وتقواهن، فكيف بغيرهن من النساء اللاتي لا نسبة بينهن وبين أمهات المؤمنين، في كمال التقوى

ص: 105

والطهارة؟ فكيف بنساء العصر الفاتنات المفتونات، إلا ما شاء الله منهن؟ !

وإذا كان الله ينهى عن الخضوع في القول. فالغناء من باب أولى وأحرى، لأن الفتنة فيه أشد من مجرد القول، ولا يخفى على كل من له أدنى بصيرة، ما في صوت المرأة بالغناء، ومخاطبتها الناس في الإذاعة ونحوها، من الفتنة وإثارة الغرائز.

لا سيما مع ترخيم الصوت وتحسينه، وعلاوة على ذلك ما يترتب على ذلك من اختلاطها بالرجال، وخلوتهم بها، والتساهل بالحجاب، أو تركه بالكلية، كما هو الواقع من نساء العصر الضالات للرجال، وتحريم هذا معلوم من الدين بالضرورة.

ومن الأدلة على ذلك قوله عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [سورة الأحزاب آية: 53]، وقوله عز وجل {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [سورة النور آية: 31] الآية.

وأصح ما قيل في تفسير قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [سورة النور آية: 31] أنه الملابس الظاهرة، قاله ابن مسعود وغيره؛ ومن فسره بالوجه

ص: 106

والكفين فمراده مع أمن الفتنة، والمحافظة على العفة، وستر ما سوى ذلك.

والواقع من نساء العصر خلاف ذلك، لضعف إيمانهن، وقلة حيائهن؟ ومعلوم أن سد الذرائع المفضية للمحرمات، من أهم أبواب الشريعة الكاملة. وقال تعالى:{وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ} [سورة النور آية: 60] الآية.

فإذا كانت القواعد- وهن العجائز- يمنعن من وضع الثياب عن محاسنهن كالوجه والكفين، ونحو ذلك، فكيف بالشابات الجميلات الفاتنات؟ وإذا كانت العجائز يمنعن من التبرج بالزينة، فهو في الشابات أشد منعا، والفتنة بسببهن أكبر.

ولما ذكر ابن القيم رحمة الله: الغناء وما ورد فيه عن ابن عباس وغيره من الذم، وأنه من الباطل الذي لا يرضاه الله، قال ما نصه:

فهذا جواب ابن عباس رضي الله عنهما، عن غناء الأعراب، الذي ليس فيه مدح الخمر، والزنى، واللواط، والتشبيب بالأجنبيات، وأصوات المعازف، والآلات المطربة، فإن غناء القوم لم يكن فيه شيء من ذلك، ولو سمعوا هذا الغناء، لقالوا فيه أعظم قول؛ فإن مضرته وفتنته فوق مضرة شرب الخمر بكثير، وأعظم منه فتنة؛ فمن أبطل

ص: 107

الباطل أن تأتي الشريعة بإباحته.

فمن قاس هذا على غناء القوم، فقياسه من جنس قياس الربا على البيع، والميتة على المذكاة، والتحليل الملعون فاعله، على النكاح الذي هو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان هذا كلام ابن القيم في غناء أهل عصره، فكيف بغناء هذا العصر الذي يذاع، ويسمع الرجال والنساء، والخاص والعام فيما شاء الله من البلاد؟ ! فتعم مضرتة، وتنتشر الفتنة به، ولا شك أن هذا أشد إثما وأعظم مضرة.

وأما الأحاديث: فمنها، ما رواه الترمذي وحسنه، عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين، صوت عند نغمة لهو ولعب، ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة، خمش وجوه، وشق جيوب، ورنة"1.

قال ابن القيم رحمه الله، بعد هذا الحديث: فانظر إلى هذا النهي المؤكد، بتسمية صوت الغناء صوتا أحمق، ولم يقتصر على ذلك حتى وصفه بالفجور، ولم يقتصر على ذلك، حتى سماه من مزامير الشيطان.

وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر على تسميته الغناء مزمور الشيطان، في الحديث الصحيح؛ فإن لم يستفد التحريم من هذا، لم نستفده من نهي أبدا.

ثم قال: فكيف يستجيز العارف إباحة ما نهى عنه

1 الترمذي: الجنائز (1005) .

ص: 108

رسول الله صلى الله عليه وسلم وسماه صوتا، أحمق فاجرا، ومزمور الشيطان، وجعله والنياحة التي لعن فاعلها أخوين، وأخرج النهي عنهما مخرجا واحدا، ووصفهما بالحمق والفجور وصفا واحدا. وقال "ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل".

وفي صحيح البخاري، عن "أبي مالك الأشعري، رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكوننّ من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".

وأخرج ابن ماجه عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر، يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف، والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير"1.

قال ابن القيم رحمه الله، في هذا الحديث: إسناده صحيح. قال: وقد توعد مستحلي المعازف فيه بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير، قال: والمعازف، هي: آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك. قال: ولو كانت حلالا، لما ذمهم على استحلالها، وإنما قرن باستحلال الخمر، اهـ.

1 أبو داود: الأشربة (3688)، وابن ماجه: الفتن (4020) .

ص: 109

ولقد وقع مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من استحلال بعض أمته المعازف، وصوت المغنيات؛ ولا شك أن هذا من تزيين الشيطان، وخداعه للناس، حتى يفعلوا هذه المعاصي، ولا يتوبون منها، لاستحلالهم لها.

وفيما ذكرناه من الآيات، والأحاديث، وكلام أهل العلم، الدلالة الصريحة، والبرهان القاطع على تحريم الأغاني، وآلات الملاهي، من الرجال والنساء، لما يترتب على ذلك من المفاسد العظيمة التي تقدم بيان بعضها.

ومما يؤكد تحريم ذلك، ويوجب مضاعفة الإثم: كون ذلك يلقى في مهبط الوحي، ومطلع شمس الرسالة، لما يترتب على ذلك، من إضلال الناس وفتنتهم، ولبس الأمور عليهم، حتى يعتقدوا ذلك من الحق، لكونه صدر من مهبط الوحي وحماة الحرمين الشريفين، الذين هما محط أنظار العالم وأمل المسلمين.

ومما يزيد الإثم أيضا، ويضاعف الفتنة: أن يشارك في ذلك النساء؟ بأصواتهن الفاتنة، المثيرة للغرائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" 1 رواه البخاري.

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للنساء:"ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم منكن" 2 هذا مع تحجبهن وتأدبهن بالآداب

1 البخاري: النكاح (5096)، ومسلم: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار (2740 ،2741)، والترمذي: الأدب (2780)، وابن ماجه: الفتن (3998) ، وأحمد (5/200 ،5/210) .

2 البخاري: الحيض (304) .

ص: 110

الشرعية، فكيف بحال نسائنا اليوم؟ ! 1.

[رد الشيخ عبد الله بن محمد على أبي تراب القائل بإباحة الغناء وآلات اللهو]

وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

"تعقيب وجواب". نشرت مجلة الرائد، في عددها 67 وتأريخ 6/8/1381هـ، مقالا للأستاذ أبي تراب الظاهري، قال فيه بإباحة الغناء، وآلات اللهو من المزامير والمعازف، والاستماع إليها، وأن الكتاب والسنة لم يحرما ذلك، كما نشرت أيضا جريدة عكاظ، في عددها 55، وتأريخ 4/ 1/ 81 كلمة للأستاذ المقنع أورد فيها أحاديث في الغناء، ويطلب الجواب عنها، وإني أشكر الأخ الأستاذ المقنع، على اجتهاده وتطلبه للحق.

لا شك أن الغناء حرام، دل عليه الكتاب والسنة، لما فيه من الضرر البين، والفساد العريض، فإنه يلهب النفوس، ويوقدها فيقيمها ويقعدها، لأنه وضع ليفعل أقصى ما يتصور من التأثير على السامعين والسامعات.

1 ويأتي إن شاء الله باقي هذه النصيحة، في الباب التاسع، لمناسبته هناك; وقد قدمها رحمه الله إلى المسئولين، عنه، وعن مجموعة من المخلصين.

ص: 111

لا يمكن أن تحمل سماعه شاب أو شابة، دون أن يعمل فيهما عمله، لاسيما ما يخرج من تلك النغمات الرخيمة، لما فيه من التألم والاشتياق، والتلهف على اللقاء؛ إن مثل هذا ليذهب الغيرة الدينية، ويثير من القلوب كأمنها، ويحرك ساكنها.

وإن "الراديو" الذي لم يبق بلد، ولا بيت، ولا قطر، إلا وقد وصل إليه، تجلس المغنية أمام الآلات المبلغة، فترفع صوتها الرخيم المهيج للنفوس، الباعث للوجد والتوجع، تشكو وتهيج، وتستعطف، فتؤثر على النفوس أعظم تأثير.

فهل هؤلاء الصحابة والتابعون رضي الله عنهم، مثل عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن المسيب، ومالك بن أنس، وغيرهم، ممن نقل الأستاذ أبو تراب عنهم أنهم يسمعون الغناء، هل يسمعون مثل هذا الذي يذيعه "الراديو"؟ كغناء أم كلثوم، وفريد الأطرش، وأمثالهما؟ !.

فلو تفضل الأستاذ بنقل مسموعهم من الغناء المزعوم، أهو كهذا الغناء الذي نحن بصدده؟ ! هذا لم يكن، ولا يكون أبدا إن شاء الله.

ثم هؤلاء المغنون من الرجال، يجلس الواحد منهم أمام الآلة المؤدية للصوت، يفعل بصوته الطنان مع النساء، مما

ص: 112

يجعل الواحدة منهن تكاد تهيم على وجهها، باحثة منقبة عمن يبادلها الآهات والأنات، والمغازلات، وما وراء ذلك، والعياذ بالله.

أقول هذا- ولم تسمع أذني غناء قط والحمد لله، كفى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء- وأعوذ بالله أن يقول مسلم بإباحة ما يحرض على الزنى ويدعو إليه، وأعتقد أن سماع صوت المغنيات، الباعث إلى هذا الفحش، لا يجرُؤ مسلم على أي مذهب، بأن يقول بإباحته.

فلا يجوز لمن يتولى الحكم على أفعال المكلفين، بالإباحة والحرمة، إلا أن ينظر في ذلك، نظر تأنٍ وحكمة، لينفذ بثاقب فكره إلى الأعماق منها، بتأمل الأدلة الشرعية، المفيدة حكم التحريم والإباحة، ثم بعد ذلك يحكم.

أما ما أورده أبو تراب من الأحاديث الدالة على منع الغناء، وطعنه في أسانيدها، وأنها غير صالحة للاحتجاج بها، فقد سلك في هذا مسلك ابن حزم، ورد عليه أئمة هذا الشأن وخطؤوه.

كقوله فيما رواه الإمام البخاري في صحيحه، حيث قال: قال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، وساق بسنده إلى أبي عامر، وأبي مالك رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليكونن أقوام من أمتي، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" بأن هذا حديث منقطع، لا يصح الاحتجاج به.

ص: 113

وغلط الأستاذ في هذا، فإن البخاري علقه جازما به، وقد تقرر عند الحفاظ أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها، بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، لا سيما في مقام الاحتجاج، كهذا الحديث.

والبخاري قد لقي هشام بن عمار، وقد أخرج أبو داود هذا الحديث، في كتاب اللباس من سننه، بسند متصل. وقد ثبت هذا الحديث من طرق كثيرة، لم يكن لقائل معها مقال.

والأحاديث الأخرى الدالة على تحريم الغناء والمعازف، كثيرة جدا، روى بعضها أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وأبو داود الطيالسي، والطبراني، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وغيرهم ممن لا يحصى كثرة، فإنها وإن كان بعضها فيه مقال، فهي صالحة للاحتجاج بها في تحريم الغناء، لكثرتها وتعدد طرقها.

وهؤلاء حماة الإسلام، والأئمة الأعلام، ينهون عن الغناء والمعازف، ويبينون مضارها ومفاسدها بما لا مزيد عليه، مستدلين بهذه الأحاديث وغيرها.

بل نقل الإمام القرطبي إجماع أهل العلم على تحريم الغناء، لأنه من اللهو واللعب المذموم، لما اشتمل عليه من وصف محاسن الصبيان والنساء.

أما ما نقل أبو تراب عن الإمام أبي حنيفة: أن من سرق

ص: 114

مزمارا أو عودا، قطعت يده، ومن كسرهما ضمنهما، فالمنصوص في كتب أصحابه الذين هم أعرف الناس بمذهبه، وأعرفهم بأقواله، بأنه لا قطع ولا ضمان على من أتلف آلات اللهو؛ وهو المفتى به عندهم، وعند غيرهم، رحمة الله عليهم، وحكاه بعض الحنفية إجماعا.

وقول الأستاذ أبي تراب في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] بأنه الغناء فلا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ثبت عن أحد من الصحابة، وإنما هو قول من لا تقوم به الحجة.

هلا وقف الأستاذ، وتثبت فيما يقول؟ من نفي ثبوت ذلك عن الصحابة، رضي الله عنهم، فالقول بأن لهو الحديث هو: الغناء، قال به أكثر المفسرين، وصح عن عبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وغيرهم رضي الله عنهم.

وقول الأستاذ أبي تراب: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع مزمارا، فوضع أصبعيه في أذنيه، وكان معه ابن عمر، انتهى، ما كان للرسول صلى الله عليه وسلم ليسد أذنيه عن سماع المباح، ولا أنه يأمر بذلك.

مع أن المعروف في هذا ما رواه أبو داود، وابن ماجه، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه سمع مزمار راع، فجعل أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق، فقال: هل تسمع يا نافع؟ فيقول نعم، فمضى حتى قال نافع:

ص: 115

لا أسمع شيئا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل الذي فعلت" أو كما قال رضي الله عنه.

لعل الأستاذ يريد هذا، فيما أشار إليه بقوله: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف عند الحفاظ، بل قال أبو داود: هو منكر لا تقوم به حجة، ونافع صغير، لم يبلغ على تقدير ثبوته.

وهذه أقوال الأئمة الأربعة في ذلك:

أما أبو حنيفة، فمذهبه أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، فقد نقل أئمة مذهبه: بأن استماعه فسق، والتلذذ به كفر، وليس بعد الكفر غاية.

ومالك رحمه الله، سئل عن الغناء، فقال: إنما يفعله عندنا الفساق، وفي كتب أصحابه: إذا اشترى جارية، وتبين أنها مغنية، فلمشتريها ردها بالعيب.

والإمام أحمد، فقد سأله ابنه عبد الله عنه، فقال. يا بني الغناء ينبت النفاق في القلب. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.

والشافعي رحمه الله، فقد قال في كتابه:"أدب القضاء": إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل. وقال لأصحابه بمصر: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمى "التغبير" يصدون به الناس عن القرآن.

ص: 116

فإذا كان قوله هذا في التغبير، الذي هو عبارة عن شعر مزهد في الدنيا، إذا غنى المغني به، ضرب الحاضرون بقضيب على نطع، أو مخدة، ضربا موافقا للأوزان الشعرية.

فليت شعري ماذا يقول في هذا الغناء الماجن، الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان؟ فمن قال بإباحة هذا النوع، فقد أحدث في دين الله ما ليس منه.

أما ما نشرت جريدة عكاظ من الأحاديث التي يطلب الأستاذ المقنع إيضاح معناها، كخبر الجاريتين اللتين كانتا تغنيان عند عائشة يوم العيد، وحديث محمد بن حاطب:"فصل ما بين الحلال والحرام، الدف، والصوت، في النكاح" 1، وخبر:"أتيناكم أتيناكم، فحيانا وحياكم" 2، وحديث الربيع بنت معوذ، وأمثال هذه الأحاديث.

لم يكن في هذا ما يدل على إباحة الغناء الماجن، الذي نحن بصدده، فهل في غناء جاريتين صغيرتين، غير مكلفتين، عند صبية، تغنيان يوم عيد، بما تقاولته الأنصار يوم بعاث، من وصف الحرب والشجاعة والبطولة، ما يدل على إباحة غناء تلك المغنيات المستهترات الذي تنقله الإذاعات إلى كل مكان من وصف محاسن النساء المهيج للشرور، والباعث في النفوس الفتن والفجور؟!.

والأحاديث الأخرى هي في النكاح وأمثاله، في أوقات مخصوصة، بمثل هذا الغناء الذي لم يشتمل على

1 الترمذي: النكاح (1088)، والنسائي: النكاح (3369)، وابن ماجه: النكاح (1896) .

2 ابن ماجه: النكاح (1900) .

ص: 117

فحش، ولا ذكر محرم؛ فإذا كان الغناء على نحو ما اعتاد الناس استعماله، لمحاولة عمل، وحمل ثقيل، وقطع مفاوز سفر، وسرور بعرس، ونحوه، ترويحا للنفوس وتنشيطا لها، كحداء الأعراب بإبلهم، وغناء النساء في بيوتهن لتسكين صغارهن، ولعب الجواري الصغار بلعبهن، فهذا إذا سلم المغني من فحش، وذكر محظور، فهو المباح؛ وهو الذي جاء ذكره في الأحاديث التي أشار إلى بعضها الأستاذ المقنع.

أما ما انتحله الكثيرون من المغنين والمغنيات، العارفين بصنعة الغناء، مما يحرك الساكن، ويهيج الكامن، والمشتمل على أوصاف محاسن الصبيان والنساء، من ذكر الجمال، والهجر، والوصال، والصبابة، والمعانقة، وما أشبه ذلك، فهو الممنوع.

وأعتقد أنه لا يقول مسلم بإباحة مثل هذا الغناء الفاتن؛ وقى الله العباد والبلاد شر هذا الغناء، ووفقهم جميعا إلى ما فيه رضاه، ومن عليهم باتباع كتاب ربهم، والتمسك بهدى نبيهم، في أمورهم كلها. والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.

ص: 118

[رد الشيخ ابن باز على ماكتب في الصحف من الدعوة إلى تزويد الإذاعة بالأغاني]

وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وفقه الله: لقد اطلعت على ما كتبته بعض الصحف المحلية عن بعض الكتاب، من الدعوة إلى تزويد الإذاعة السعودية بالأغاني، والمطربين المشهورين، والمطربات المشهورات، تأسيا باليهود وأشباههم في ذلك، ورغبة في جذب أسماع المشغوفين بالغناء، والراغبين في سماعه من الإذاعات الأخرى، إلى سماعه من الإذاعة السعودية 1.

وقرأت أيضا ما كتبه، فضيلة الشيخ عبد الملك بن إبراهيم، والشيخ حسن بن عبد الله، وكاتب آخر لم يفصح باسمه، من الرد على هذه الدعوة الحمقاء، والفكرة النكراء، والرغبة المنحرفة، إلى أسباب الردى؛ فجزى الله أنصار الحق كل خير، وهدى الله من حاد عنه إلى رشده، وكفى المسلمين شره وفتنته.

أيها القارئ الكريم إن الإذاعة في حد ذاتها أداة ذات حدين، إن أحسنت استعمالها فهي لك، وإن أسأت استعمالها فهي عليك. ولا شك أن الواجب في نفس الأمر، شرعا وعقلا، إما أن تكون هذه الأداة أداة تعمير وتوجيه وإرشاد، إلى ما ينفع الأمة في الدين والدنيا، ولا يجوز بوجه من الوجوه، أن تكون أداة تخريب وإفساد،

1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام، في ربيع الثاني سنة 1381 هـ.

ص: 119

وإشغال للأمة بما يضرهم ولا ينفعهم.

ولا ريب أيضا عند ذوي العقول الصحيحة والفطر السليمة أن تزويد الإذاعة بالأغاني، والمطربين والمطربات، من سبل الفساد والتخريب، لا من سبل الإصلاح والتعمير.

ويا ليت هؤلاء الذين دعوا إلى التأسي باليهود وأشباههم في الأغاني، ارتفعت همتهم، فدعوا إلى التأسي بهم في إيجاد المصانع النافعة، والأعمال المثمرة.

ولكن ويا للأسف انحطت أخلاق هؤلاء، ونزلت همتهم، حتى دعوا إلى التأسي بأعداء الله، وأعداء رسوله، وأعداء المسلمين عموما، والعرب خصوصا، في خصلة دنيئة من سفاسف الأخلاق، وسيئ الأعمال.

بل من الأمراض المخدرة للشعوب، والسالبة لحريتها وأفكارها، والصارفة لها عن معالي الأمور، ومكارم الأخلاق، عن النشاط في ميادين الإصلاح إلى ضد ذلك. ومن أراد أن يعرف مثالا لسقوط الهمم، وضعف التفكير، وانحطاط الأخلاق، فهذا مثاله: دعوة من بلاد إسلامية إلى خلق من أحط الأخلاق، بتأس فيه بأمة من أحط الأمم، وأشدها عداوة للإسلام والعرب، وقد غضب الله عليها، ولعنها، فالمتأسي بها له نصيب من ذلك.

ولا شك أن هذا من آيات الله التي ميز بها بين عباده، وجعلهم أصنافا متباينين، هذا همته فوق الثريا ينشد

ص: 120

الإصلاح أينما كان، ويدعو إلى مكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، ويدعو إلى الأعمال المثمرة، والمصانع النافعة للأمة، في دينها ودنياها، في عصر العلم المادي، والجموح الفكري، والتيارات الجارفة المتنوعة.

وشخص آخر قد انحطت همته إلى الثرى، يدعو إلى سفاسف الأمور وخبيث الأخلاق؛ يدعو إلى ما يضعف الأمة، ويشغلها عن طرق الإصلاح، وكسب القوة، وعمارة البلاد بكل عمل جدي مثمر.

يدعو إلى التأسي بالأمة العاملة في الخسيس لا في الحسن، وفي الفساد لا في الإصلاح، وفي الشر لا في الخير، وفيما يضر لا ما ينفع. هذه والله العبر التي لا يزال الله سبحانه يوجدها بين عباده {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [سورة الأنفال آية: 42] . سبحان الله، ما أعظم شأنه، وسبحان الله ما أحكمه وأجله.

أيها القارئ الكريم، إن تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب، وآلات الملاهي، فساد وحرام، بإجماع من يعتد به من أهل العلم؛ وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو، فهو: حرام عند أكثر العلماء.

وقد علم بالأدلة المتكاثرة أن سماع الأغاني، والعكوف عليها، ولا سيما بآلات اللهو، كالعود،

ص: 121

والموسيقى ونحوهما، من أعظم مكائد الشيطان ومصائده، التي صاد بها قلوب الجاهلين، وصدهم بها عن سماع القرآن، وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان.

والغناء هو قرآن الشيطان، ومزماره، ورقية الزنى واللواط، والجالب لأنواع الشر والفساد.

وقد حكى أبو بكر الطرطوشي، وغير واحد من أهل العلم، عن أئمة الإسلام: ذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك. وحكى الحافظ العلامة: أبو عمرو بن الصلاح، عن جميع العلماء: تحريم الغناء، المشتمل على شيء من آلات الملاهي، كالعود ونحوه. وما ذلك إلا لما في الغناء وآلات الطرب، من إمراض القلوب، وإفساد الأخلاق، والصد عن ذكر الله، وعن الصلاة.

ولا شك أن الغناء من اللهو الذي ذمه الله وعابه، وهو مما ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء البقل، ولا سيما إذا كان من مطربين ومطربات قد اشتهروا بذلك؛ فإن ضرره يكون أعظم، وتأثيره في إفساد القلوب أشد.

قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7] : قال

ص: 122

الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث: الغناء; انتهى.

وكان ابن مسعود رضي الله عنه وهو أحد كبار الصحابة وعلمائهم- يحلف بالله الذي لا إله إلا هو: أن لهو الحديث، هو الغناء، وقال رضي الله عنه:"الغناء ينبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء الزرع".

وقد ورد عن السلف من الصحابة والتابعين آثار كثيرة بذم الغناء، وآلات الملاهي، والتحذير من ذلك، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"يكون من أمتي أقوام، يستحلون الحر، والحرير، والخمر، والمعازف" رواه البخاري. و "الحر" هو: الفرج الحرام، والمراد بذلك: الزنا.

وأما المعازف، فهي: آلات الملاهي كلها، كالموسيقى، والطبل، والعود، والرباب، والأوتار، وغير ذلك.

قال العلامة ابن القيم، رحمه الله، في كتاب الإغاثة: لا خلاف بين أهل اللغة، في تفسير المعازف، بآلات اللهو كلها.

وخرج الترمذي، عن عمران بن حصين، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يكون في أمتي قذف وخسف ومسخ، فقال رجل من المسلمين: متى ذلك

ص: 123

يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت القيان والمعازف، وشربت الخمور" 1.

وخرج أحمد في مسنده بإسناد جيد، عن ابن عباس، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله حرم الخمر والميسر، والكوبة، وكل مسكر" 2 والكوبة، هي: الطبل، قاله سفيان، أحد رواة الحديث.

وقد روي في ذم الغناء والملاهي، أحاديث وآثار كثيرة، لا تحتمل هذه الكلمة ذكرها، وفيما ذكر كفاية، ومقنع لطالب الحق.

ولا شك أن الداعين إلى تزويد الإذاعة بالأغاني وآلات الملاهي قد أصيبوا في تفكيرهم، حتى استحسنوا القبيح، واستقبحوا الحسن، ودعوا إلى ما يضرهم، ويضر غيرهم، ولم ينتبهوا للأضرار، والمفاسد، والشرور الناتجة عن ذلك.

وما أحسن قول الله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [سورة فاطر آية: 8] وصدق الشاعر حيث يقول:

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

وقد دلت الأحاديث الصحيحة، على أن من دعا إلى

1 الترمذي: الفتن (2212) .

2 أبو داود: الأشربة (3696) ، وأحمد (1/274) .

ص: 124

ضلالة فعليه إثمها، ومثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا.

ومن ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى، كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا"1.

فيا له من خطر عظيم، ووعيد شديد، لمن حبذ الباطل ودعا إليه! وإن نصيحتي لهؤلاء، الداعين إلى الغناء والملاهي، أن يتوبوا إلى الله من معصيتهم، وأن يراجعوا الحق، ويدعوا الله، فهو خير لهم من التمادي في الباطل.

والله سبحانه يتوب على من تاب، ويحلم على من عصى، ويملى ولا يغفل. نسأل الله لنا ولهم ولسائر المسلمين الهداية، والعافية من نزغات الشيطان.

ومما تقدم من الأدلة، والآثار، وكلام أهل العلم يعلم كل من له أدنى بصيرة، أن تطهير الإذاعات مما يضر الأمم، واجب متحتم، لا يسوغ الإخلال به، سواء كانت الإذاعات شرقية أو غربية، إذا كانت مما تحت ولاية المسلمين. فكيف إذا كانت الإذاعة في مهبط الوحي، ومنبع النور، ومحل القبلة التي يوجه المسلمون إليها وجوههم أينما كانوا، في اليوم والليلة خمس مرات؟!.

1 مسلم: العلم (2674)، والترمذي: العلم (2674)، وأبو داود: السنة (4609) ، وأحمد (2/397)، والدارمي: المقدمة (513) .

ص: 125

لا شك أنها أولى وأحق بالتطهير والصيانة من كل ما يضر المسلمين في دينهم أو دنياهم؛ ولا ريب أن تزويدها بالأغاني وآلات الملاهي، مما يضر بالمسلمين ضررا ظاهرا في دينهم ودنياهم.

فوجب أن تصان إذاعتنا من ذلك، وأن تكون إذاعة إسلامية محضة، تنشر الحق، وتدعو إليه، وتحذر من الباطل وتنفر منه، تزود الناس ما ينفعهم، ويرضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، وتكون نبراسا يهتدي به المسلمون أينما كانوا.

فتارة تزودهم من العلوم النافعة، والتوجيهات السديدة، وتلاوة القرآن الكريم، وتفسيره بما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، ونشر محاسن الإسلام، وبيانه لهم، سليما من شوائب الشرك والبدع.

وطورا تسمعهم أحاديث طيبة، وأحاديث زراعية، وتوجيهات تجارية، وتعليمات تربوية، وإرشادات منزلية، إلى غير ذلك من أوجه النفع، وطرق الإصلاح الديني والدنيوي.

هكذا يجب أن تكون إذاعتنا، وهكذا يجب على المسؤولين أن يوجهوها، ويطهروها مما لا يليق بها، وإنهم والله مسؤولون عن ذلك يوم القيامة أمام العزيز الجبار، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

ص: 126

وإني أتوجه بهذه الكلمة بالأصالة عن نفسي، وبالنيابة عن جميع العلماء، وعن جميع المسلمين الذين يغارون لله، ويغضبون إذا انتهكت محارمه، أتوجه بذلك إلى إمامنا وولي أمرنا جلالة الملك سعود بن عبد العزيز، وفقه الله، أول مسؤول، وأعظم مسؤول عن هذه الإذاعة، وما فيها من البرامج الهدامة، أن يصونها ويطهرها من كل ما يضر المسلمين، وأن لا يولي على شؤونها إلا من يخاف الله ويتقيه؛ وذلك مما أوجب الله عليه، وهو الراعي الأول لهذه البلاد، وكل راع مسؤول عن رعيته; وقد بذل الكثير من الإصلاح والتسهيلات للمسلمين، فنرجو أن يوفق لإصلاح هذه الإذاعة، كما وفق لإصلاحات كثيرة.

والله المسؤول بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقه لكل خير، وأن ينصر به الحق، وأن يصون به الشريعة، ويحمي به حماها، عن جميع البدع والمنكرات، وأن يصلح له البطانة، ويمنحه التوفيق في كل ما يأتي ويذر، وأن يوفق جميع المسؤولين في حكومته للتمسك بالشرع، والتعظيم لحرماته، والحذر مما خالفه، إنه على كل شيء قدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

ص: 127

[قول الشيخ التويجري في كتابه الشهب المرمية عن فشو المعازف واستحلالها]

وقال الشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري، في كتابه "الشهب المرمية": بعد حمد الله، والثناء عليه، وذكر بعث محمد صلى الله عليه وسلم، وتزييف الشيطان وفشو المعازف، واستحلال الكثير لها.....إلخ 1.

وبلغ الشيطان منهم أمنيته وأمله، واستفزهم بصوته وخيله، وأجلب عليهم برجله وخيله، وخز في صدورهم وخزا، وأزهم إلى ضرب الأرض بالأقدام أزا.

فطورا يجعلهم كالحمير حول المدار، وتارة كالذباب ترقص وسيط الديار، فيا رحمتا للسقوف والأرض، من دك تلك الأقدام، ويا سوأتا من أشباه الحمير والأنعام.

ويا شماتة أعداء الإسلام بالذين يزعمون أنهم خواص الإسلام، قضوا حياتهم لذة وطربا، واتخذوا دينهم لهوا ولعبا، مزامير الشيطان أحب إليهم من استماع سور القرآن.

لو سمع أحدهم القرآن من أوله إلى آخره، لما حرك له ساكنا، ولا أزعج له قاطنا، ولا أثار فيه وجدا، ولا قدح فيه من لواعج الشوق إلى الله زندا.

حتى إذا تلي عليهم قرآن الشيطان، وولج مزموره سمعه، تفجرت ينابيع الوجد من قلبه على عينيه فجرت، وعلى أقدامه فرقصت، وعلى يديه فصفقت، وعلى سائر

1 أي: مما قاله أو نقله أو استدل به إلخ، كما سيأتي.

ص: 128

أعضائه فاهتزت وطربت، وعلى أنفاسه فتصاعدت، وعلى زفراته فتزايدت، وعلى نيران أشواقه فاشتعلت. ولقد أحسن القائل:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة

لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا والله

ما رقصوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن

فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا

تقييده بأوامر ونواهي

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى

زجرا وتخويفا بفعل مناهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس عن

شهواتها يا ذبحها المتناهي

وأتى السماع موافقا أغراضها

فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

أين المساعد للهوى من قاطع

أسبابه عند الجهول الساهي

إن لم يكن خمر الجسوم فإنه

خمر العقول مماثل ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه

وانظر إلى النشوان عند ملاهي

وانظر إلى تخريق ذا أثوابه

من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي

واحكم بأي الخمرتين أحق بالـ

تحريم والتأثيم عند الله

وذكر ما في المجلات والصحف، وأنها داخلة في جملة الملاهي، وأنه سمع عن كثير من أهل العلم المقتدى بهم تحريمه.

ومنها: دخوله تحت قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وقد فسر لهو الحديث كثير من السلف، من

ص: 129

الصحابة والتابعين، بالغناء والمزامير، وفسره بعضهم بالأساطير والقصص، من أخبار ملوك الأعاجم والروم، وبعضهم فسر لهو الحديث بكل باطل يلهي، ويشغل عن الخير.

وقريب من ذلك، قول الإمام: محمد بن إسماعيل البخاري، رحمه الله، في صحيحه:"باب كل لهو باطل إذا شغله عن طاعة الله عز وجل" واستدل بهذه الآية؛ فإن فسرت الآية بالغناء والمزامير، فهو رأس الملاهي كلها، من الغناء والمزامير لمن قصدها، ووسيلة موصلة إليها لمن لم يقصدها، بل قصد غيرها؛ والوسائل لها حكم المقاصد.

وإن فسرت بالأساطير والقصص، والأضاحيك المهزولة، فهي غاية أخباره، وكثير من محاضراته التي يتعلل المفتونون به، باتخاذه لها؛ وإن فسرت بما يجمع ذلك من كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، فهو فوق ذلك الوصف، يعرف ذلك من عرفه.

قال: وهكذا الراديو، إن أحب صاحبه أن يفتحه على الأخبار فعل، وإن أحب أن يفتحه على القراءة فعل، وإن أحب أن يفتحه على اللهو والطرب فعل، ومنها: أنه أعظم ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة ولو لم يفتح على المعازف.

وقال، ومنها: أن إذاعته لا تخلو من هذه الأصوات الموسيقية المطربة، التي يؤتى بها للانتقال من فن إلى آخر لآلة النشر، كالتي يسمونها موسيقى الجيش، وغيرها من

ص: 130

الأصوات المطربة، وهي من المزامير التي هي صوت الشيطان؛ بل هي أعظمها وأدعاها إلى الطرب.

قال الله عز وجل {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] : فسره مجاهد بالغناء والمزامير، وقد روى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله بعثني رحمة وهدى للعالمين، وأمرني أن أمحق المزامير والكبارات" 1 يعني البرابط، والمعازف، والأوثان التي كانت تعبد في الجاهلية.

وقال: فإذا عرفت ما ذكرنا من الأحاديث، عرفت أنها محرمة، لا يجوز الاستماع إليها، كما نص على ذلك العلماء، من أتباع أحمد، والشافعي، ومالك، وأبي حنيفة.

وقال أيضا: وقال ابن حجر الهيتمي في "الزواجر": وحرم العراقيون من أتباع الشافعي المزامير كلها من غير تفصيل.

وقد أطنب الإمام الزولقي في دليل تحريمها، وقال: العجب كل العجب ممن هو من أهل العلم، يزعم أن الشبابة حلال، ويحكيه بوجه لا مستند له، وينسبه إلى مذهب الشافعي؛ ومعاذ الله أن يكون ذلك مذهبا له، أو لأحد من أصحابه، الذين يقع عليهم التعويل في علم مذهبه والانتماء إليه.

وقد علم من غير شك أن الشافعي رضي الله عنه حرم سائر أنواع الزمر، والشبابة من جملة الزمر، وأحد

1 أحمد (5/257) .

ص: 131

أنواعه. وما حرمت هذه الأشياء لأسمائها وألقابها، بل: لما فيها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، ومفارقة التقوى، والميل إلى الهوى، والانغماس في المعاصي.

وقال الإمام أبو العباس القطبي: أما المزامير والأوتار، والكوبة، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف، من يبيح ذلك. وكيف لا يحرم وهو شعار أهل الخمور، والفسوق، ومن يبيح الشهوات، والفساد، والمجون؟! وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا في تفسيق فاعله وتأثيمه.

وقال ابن القيم، رحمه الله: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال ; وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب؛ وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق، وترد به الشهادة. انتهى.

وقال أيضا 1: ومنها: فشو المعازف، واستحلالها في أكثر البلاد الإسلامية؛ وقد ورد الوعيد الشديد لمتخذها ومستحلها، مع استحلال الخمر والزنى والحرير، وغير ذلك من المحرمات، بالخسف والمسخ، وغير ذلك من العقوبات، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع ذلك في آخر الزمان.

1 في كتابه الشهب المرمية.

ص: 132

وبالجملة: فقد جمعت هذه الآلة لأهل الفسوق، من آلات المعازف، ما كان شاردا، وقربت لهم من الفسوق والمجون ما كان متباعدا، فأصبحوا في غنية عن كل ما سواه من الآلات، ومن المغنين والمغنيات، وتغيرت به الأحوال والأخلاق في أقصر الأوقات.

فقد كانت أحوال الناس في دينهم، من نحو عشر سنين، على الاستقامة، يجتمعون لدرس العلوم الدينية التي هي مجالس الذكر في المساجد، وبعد طلوع الشمس، وبين العشاءين في البيوت، لكل واحد من أهل الدين والصلاح، نوبة تخصه، ويقرأ عليهم بعض طلبة العلم في بعض الكتب الدينية من كتب الحديث والتفسير، ويحضر تلك المجالس الجم الغفير من الناس، من قاصي البلد ودانيه؛ فانعكست الحال وتغيرت، فصار الفساق يجتمعون في بيت واحد منهم، للاستماع إلى هذا الملهى، ضد ما كان أولا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

ومن العجب أن كثيرا من السفلة يفتحه على الغناء والطرب، بحضرة بناته، وزوجاته، وغيرهن من محارمه; وبعضهم يخصص زوجته، أو بنته بواحد، تفتحه متى شاءت على ما شاءت.

وهل هذه إلا نوع من الدياثة؟ عياذا بالله؟ لأنها إذا اعتادت سماع الغناء وأصوات الملاهي، قل حياؤها، وربما

ص: 133

انتزع منها جلباب الحياء بالكلية؛ فكان الفساد أسرع من السيل إلى منحدره.

قال ابن القيم، رحمه الله في:"إغاثة اللهفان": ولا ريب أن كل غيور يجنب أهله سماع الغناء، كما يجنبهن أسباب الريب ومن طرق أهله إلى سماع رقية الزنى، فهو أعلم بالإثم الذي يستحقه.

ومن الأمر المعلوم عند القوم أن المرأة إذ استعصت على الرجل، اجتهد أن يسمعها صوت الغناء، فحينئذ تعطي الليان، وهذا لأن المرأة سريعة الانفعال للأصوات جدا. فإذا كان الصوت بالغناء، صار انفعالها من وجهين، من جهة الصوت، ومن جهة معناه.

فأما إذا اجتمع إلى هذه الرقية، الدف والشبابة، والرقص بالتخنث والتكسر، فلو حبلت المرأة من غناء لحبلت من هذا الغناء; فلعمر الله، كم من حرة صارت بالغناء من البغايا! وكم من حر أصبح به عبدا للصبيان والصبايا! وكم من غيور تبدل به اسما قبيحا بين البرايا!

وقال يزيد بن الوليد: يا بني أمية، إياكم والغناء، فإنه ينقص الحياء ويزيد في الشهوة، ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر، ويفعل ما يفعل السكر. فإن كنتم لابد فاعلين، فجنبوه النساء، فإن الغناء داعية الزنى.

وقال في الرد على المفتي بحل اقتناء الراديو لغير

ص: 134

الغناء: وبيان ذلك: أن صاحبها إذا فتحها قرب وقت صلاة من الصلوات، لا تزال نفسه تترقب من كل إذاعة ما فيها من أخبار، وقراءات، ومحاضرات، وغيرها، فلا تزال به نفسه وشيطانه، حتى تفوته الصلاة مع الجماعة، وهذا يشهد له الواقع، ويعترف به كل منصف.

وقد منع بعض القضاة القائلين بالإباحة، تقليدا لهذا المفتي، من فتح الراديو مطلقا، وقت التراويح، وقيام رمضان، وتوعد فاعل ذلك بالعقوبة. وهذا القاضي قد أتى في صنيعه بالعجب العجاب.

فإذا كان يرى إباحته، فما المسوغ لمنع مباح تفوت بسببه سنة لا يعاقب تاركها؟ وما ذلك إلا أنه يرى أنه من أكبر العوامل في الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما كان هذا سبيله، فهل يشك أحد في تحريمه؟ لمشاركته الخمر والميسر في جزء علة التحريم.

ولهذا قل أن تجد مفتونا به، إلا وفيه من الكسل عن حضور الصلاة في جماعته ما ليس في غيره، وخصوصا صلاة العشاء، وصلاة الفجر، وهذا عين النفاق. وذلك أن ما بين العشاءين وقتا يفرغ فيه الناس من أعمالهم الدنيوية، فيجتمع بعضهم ببعض، كل بخليله وشكله، وإذا كان اجتماعهم في بيت فيه هذه الآلة، لا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها.

فيستمعون القراءات الملحنة المطربة، التي تستلذها

ص: 135

النفوس، لا تدينا وتفهما لكتاب الله عز وجل بل لما فيها من التلحينات الأنيقة، والنغمات الرقيقة، التي تهيج الطباع، وتلهي عن التدين، الذي هو المقصود بالاستماع، وقد افتتن باستماع هذه التلحينات خلق كثير، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

وبعضهم يفتحها لاستماع المعازف والمجون والفسوق، فيفوتهم بسبب ذلك صلاة العشاء مع الجماعة.

وأما صلاة الفجر، فإن كثيرا من متخذيه يسمرون عنده بعد العشاء الآخرة، فلا يزالون يستمعون من كل إذاعة ما فيها من أخبار وغيرها، على اختلافها من محرم ومكروه ومباح، فلا يزال ذلك دأب الأكثرين منهم إلى شطر الليل، فيغلبهم النوم عن القيام لصلاة الفجر، كما يشهد بذلك الواقع من حال الأكثرين منهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

وقد جاء في المتفق عليه عن أبي برزة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء، والحديث بعدها.

وذكر قول ابن القيم رحمه الله: إذا تدبرت الشريعة وجدتها قد أتت بسد الذرائع إلى المحرمات؛ والشارع، حرم الذرائع وإن لم يقصد بها المحرم، لإفضائها إليه، فكيف إذا قصد بها المحرم نفسه؟! قال: ومن قواعد الشرع العظيمة، قاعدة سد الذرائع، قال: والمحرمات قسمان: مفاسد، وذرائع موصلة إليها، مطلوبة الإعدام، كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام.

ص: 136

وذكر قول شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: ومن يحدث بأحاديث مفتعلة، ليضحك الناس، أو لغرض آخر، فهو عاص لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، مستحق للعقوبة التي تردعه.

وقال أيضا، وقال رحمه الله: وما كان مباحا في غير حال القراءة، مثل المزاح الذي جاءت به الآثار، وهو أن يمزح ولا يقول إلا صدقا، لا يكون في مزاحه كذب ولا عدوان، فهذا لا يفعل حال قراءة القرآن، بل ينزه عنه مجلس القرآن.

فليس كل ما يباح في حال غير القراءة يباح فيها، كما أن ليس كل ما يباح خارج الصلاة يباح فيها، لا سيما ما يشغل القارئ والمستمع عن التدبر والتفهم، مثل كونه يخايل ويضحك، فكيف واللغو والضحك حال القراءة من أعمال المشركين، كما قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [سورة فصلت آية: 26]، وقال تعالى:{وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً} [سورة الجاثية آية: 9]، وقال تعالى:{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [سورة النجم آية: 59-60-61] ، ووصف المؤمنين بأنهم يبكون ويخشعون حال القراءة، فمن كان يضحك حال القراءة، فقد تشبه بالمشركين لا بالمؤمنين.

وقال رحمه الله: لم تأت الشريعة إلا بالمصلحة

ص: 137

الخالصة أو الراجحة، أما ما غلبت مفسدته، فلم تأت به شريعة من الله.

وقال أيضا، في الشهب المرمية: ولما كان الراديو، والآلة الفونوغرافية 1 أعظم وسيلة وذريعة إلى المعازف والملاهي والطرب، بل إن أكثر المفتونين بهما يتخذهما لذلك، أحببنا أن نذكر بعض ما ورد من النهي الأكيد، والوعيد الشديد، في اتخاذ المعازف والملاهي، فنقول:

قال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، قال صديق حسن رحمه الله، في تفسيره على هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} 2 قال: وهو كل باطل يلهي، ويشغل عن الخير، من الغناء، والملاهي، والأحاديث المكذوبة، والأضاحيك، والسمر بالأساطير التي لا أصل لها، والخرافات، والقصص المختلفة، والمعازف والمزامير، وكل ما هو منكر، والإضافة بيانية، أي: اللهو من الحديث، لأن اللهو يكون حديثا وغيره، فهو: كثوب خز، وهذا أبلغ من حذف المضاف.

وقيل المراد: شراء القينات المغنيات والمغنين، فيكون التقدير: من يشتري أهل لهو الحديث، قال الحسن، لهو الحديث: المعازف والغناء، وروي عنه أنه قال: الكفر

1 المعروفة بالصندوق وهي الآلة ذات الاسطوانات.

2 سورة لقمان آية: 6.

ص: 138

والشرك، وفيه بعد; والمعنى: يختارون حديث الباطل على حديث الحق.

قال القرطبي: إن أولى ما قيل في هذا الباب، هو: تفسير لهو الحديث بالغناء، قال: وهو قول الصحابة والتابعين، قال ابن عباس:?"لهو الحديث: باطله".

وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: لا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وملوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك.

وقال أيضا، في الشهب المرمية: حرمة الغناء قطعية، قد قدمنا من الأحاديث الكثيرة التي فيها التصريح بتحريم الغناء، والآية، ما فيه كفاية.. إلخ.

وذكر رواية الإمام أحمد: سؤال إسحاق، مالك بن أنس، عما يرخص فيه أهل المدينة من الغناء؟ فقال: إنما يفعله عندنا الفساق.

وذكر قول ابن القيم رحمه الله: وأما سماع الغناء من المرأة الأجنبية، أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين.

وقال أيضا: قال ابن رجب رحمه الله: وقول الشافعي رحمه الله، إن الزنادقة وضعت التغبير تصد به الناس عن القرآن، يدل على أن الإصرار على سماع الشعر الملحن، مع الضرب بقضيب ونحوه، يقتضي شغف النفوس بذلك،

ص: 139

وتعلقها به ونفرتها عن سماع القرآن

إلخ.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه:"الغناء خطبة الزنا" وقال "مكحول: الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت السيل البقل".

وقال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: الأقوال التي ترغب في الفجور، وتهيج القلوب إليه، وكل ما فيه إعانة على الفاحشة، وترغيب فيها، حرام، أعظم من تحريم الندب والنياحة، لأن ذلك يثير الحزن، وهذا يثير الفسق، بل هذا من جنس القيادة.

وفي اللعب بالنرد والشطرنج، قال شيخ الإسلام تقي الدين رحمه الله: سائر ما يتلهى به البطالون من أنواع اللهو، وضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام. وأما اللعب بالورق، فقال فيه بعض الشافعية: أظهر الترك أوراقا مزوقة بنقوش، سموها كنجفة، يلعبون بها؛ فإن كان بعوض فقمار، وإلا فهي كالنرد ونحوه، آخر المراد منه 1.

1 أي من كتاب الشهب المرمية للشيخ عبد الرحمن بن عبد الله التويجري، رحمه الله.

ص: 140

[قول الشيخ صالح الخريصي فيما ارتكبه كثير من الناس من العكوف على الراديو]

وقال الشيخ: صالح بن أحمد الخريصي، في أثناء نصيحة له:

ومن المنكرات: ما ارتكبه كثير من الناس، ممن قل نصيبه من العلم الموروث عن سيد المرسلين، وهو: العكوف على هده الآلة المطربة، المسماة بالراديو.

فتراه- والعياذ بالله- يشتريها بالقيمة الغالية، ويعكف عليها ليلا ونهارا، على استماع الأصوات الفاجرة، والمحطات الماجنة، والحكايات الخالعة، التي تعمل في القلوب أعظم من السم في الأبدان. فيا لها من مصيبة ما أعظمها بلي بها كثير من أهل الإسلام، وصاد بها الشيطان الخلق الكثير، والجم الغفير، من أشباه الأنعام.

وقد وردت أحاديث كثيرة عنه صلى الله عليه وسلم بالنهي الشديد، والوعيد الأكيد، على من اتخذ القينات، والمعازف، والدفوف، والمزامير، والكبارات- يعني الطبول- مع أن القينة فيها خير كثير، من صلاة وعبادة، وخدمة، واستمتاع، وغير ذلك من مصالحها.

وأما هذه الآلة، فهي مشتملة على مفاسد عديدة، وليس فيها أي مصلحة، إلا أن الشيطان كاد بها بني آدم؛ وليرتقب صاحبها المصر عليها، والعاكف عندها، ما وردت به الأحاديث، من خسف، ومسخ، وغير ذلك من العقوبات التي أصابت أمثاله.

ص: 141

كما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يسمخ قوم من هذه الأمة، قردة وخنازير، قيل يا رسول الله: أليس يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ قال: بلى، ويصلون ويحجون، قيل: فما بالهم؟ قال: اتخذوا المعازف والدفوف، فباتوا على شربهم ولهوهم، فأصبحوا: قردة وخنازير.

وليصيبنهم قذف وخسف، حتى يصبح الناس، فيقولون: خسف الليلة بدار بني فلان، وخسف الليلة ببني فلان، وليرسلن عليهم حجارة من السماء، كما أرسلت على قوم لوط على قبائل فيها. ولترسلن عليهم الريح العقيم، التي أهلكت عادا، لشربهم الخمر، وأكلهم الربا، وضربهم الدفوف، واتخاذهم القيان، وقطيعتهم الرحم".

[قول الشيخ عبد الله بن سليمان في استماع الغناء وضرب العود واستماعه]

وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1:

ومن المنكرات المحرمة: الغناء واستماعه، وضرب العود واستماعه، والزمر بالمزامير، وضرب الآلات المطربة، قال الله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6] .

فسرها ابن عباس، والحسن، وغير واحد بالملاهي، وقال تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ

1 نقلت من الأربع الرسائل المفيدة صفحة 53 ، 54.

ص: 142

بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64] .

قال مجاهد: بالغناء والمزامير.

وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف، والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1 وقال صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير".

وعن ابن مسعود رضي الله عنه: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل"، وقال صلى الله عليه وسلم:"صوتان ملعونان في الدنيا والآخرة، صوت عند نغمة، وصوت عند مصيبة".

وبالجملة: فكل لهو محرم يحرم فعله واستماعه، ومن ذلك: الصندوق الجامع لجملة من الملاهي، فهي حرام، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من استمع إلى صوت لهو، صب في أذنيه الآنك يوم القيامة" وهو الرصاص المذاب.

والمستمع للهو الحرام فاسق ساقط العدالة، وقيل. مباشر آلات اللهو إذا مات لا يصلى عليه. وكثير من الناس- والعياذ بالله- يتكاسلون عن الطاعات، وينشطون عند الملاهي، وذلك من علامات النفاق، نسأل الله العافية.

[قول الشيخ عبد الله بن سليمان في فتح الراديو على الغناء وسائر الملاهي]

وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد أيضا 2 ومن المنكرات الظاهرة: فتح الراديو على الغناء وسائر

1 أحمد (5/268) .

2 نقلت من الأربع المسائل المفيدة صفحة 119 ، 120.

ص: 143

الملاهي، وهي محرمة إسماعا وسماعا وصنعة، وهي من شعائر الفساق لا يتوقف في تحريمها من شم رائحة العلم الصحيح؟ والملاهي جميعها بدؤها من الشيطان وعاقبتها غضب الرحمن، فالمزمار مؤذن الشيطان.

قال ابن القيم رحمه الله: وكونه مؤذن الشيطان، في غاية المناسبة، فإن الغناء قرآنه، والرقص والتصفيق اللذين هما المكاء والتصدية؛ صلاته، فلا بد لهذه الصلاة من مؤذن، وإمام، ومأموم: فالمؤذن المزمار، والإمام المغني، والمأموم الحاضرون والمستمعون.

والملاهي تنبت النفاق في القلب، كما ينبت الماء العشب، وهي من الحديث الذي قال الله تعالى فيه:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة لقمان آية: 6]، وقال تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [سورة الإسراء آية: 64]، قال مجاهد وغيره: بالغناء والمزامير.

وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله بعثني هدى ورحمة للمؤمنين، وأمرني بمحق المعازف والمزامير، والأوتار، والصليب، وأمر الجاهلية" 1، وقال أيضا صلى الله عليه وسلم "أمرت بهدم الطبل والمزامير"، وقال:"من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة".

وقال بعض العلماء: إن استماع الملاهي، والتلذذ بها، معصية، توجب الفسق، وترد بها الشهادة. وأبلغ من ذلك

1 أحمد (5/268) .

ص: 144

في الزجر، قول أصحاب أبي حنيفة رحمهما الله: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر.

وقالوا في دار يسمع منها صوت الملاهي والمعازف، يدخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهى عن المنكر فرض، فلو لم يجز الدخول لغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفروض. وما ورد في الملاهي من التحريم، والوعيد الشديد على استعمالها، أكثر من أن تحصر.

إذا عرف هذا، فإن الراديو الحادث في هذه الأزمان، قد جمع آلات الملاهي كلها.

وكلام العلماء ينطبق عليه، في التحريم، وفسق المستعملين للملاهي فيه، وعدم الضمان والغرم على من كسر وأتلف آلات الملاهي. والراديو، من أكبر الفتن التي أدخلها الغربيون على المسلمين، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[قول الشيخ محمد بن مهيزع في رده لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي]

وقال الشيخ: محمد بن مهيزع، رحمه الله، ردا لأوهام الظاهري في أحكام الملاهي 1:

1 وقد نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.

ص: 145

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، أرسل محمدا رحمة للعالمين، وأمره بمحق المزامير، والمعازف، والأوتار، صلى الله عليه وآله وصحبة، ومن تمسك بهديه في السر والعلانية، وسلم تسليما، وبعد:

فقد قابلتنا مجلة الرائد في عدديها 67، 68 بمقال للأستاذ أبي تراب الظاهري، عنوانه: الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع لها.

فلما تأملته وجدت فيه أشياء مخالفة لما جاء به الشرع المطهر، في ذم الملاهي والأغاني، بالنغمات الموسيقية المهيجة للعواطف والفساد؛ ولا يسوغ لمن لديه مسكة من العلم الموروث عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أن يشك في تحريم ذلك. ولقد قرر تحريمه علماء الإسلام المحققون، من أئمة المذاهب الأربعة، وفقهاء الحديث وغيرهم؛ بل حكى ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع الذي جمع بين الدف والشبابة، قال: ولم ينقل عن أحد ممن يعتد به، أنه أباح هذا السماع. انتهى.

وإذا أمعنت النظر، وسبرت أحوال من مضى، تبين لك ما جرت المعازف والأغاني المطربة على أربابها، من الشر والفساد، وما جنت على المجتمع من الضرر والكساد؛ فإن

ص: 146

حياته تنقلب من القوة إلى الضعف، والوهن، ومن الجد إلى اللعب والحزن، ومن النشاط إلى الكسل والبطالة.

فلا تزال الدولة في سفال، وتفكك في عناصرها المعنوية، حتى يتحلل النشاط العلمي والعملي، فيتدهور كيان الأمة صناعيا واقتصاديا، وأخلاقيا وأدبيا، فيكون أمرها فرطا؛ أو لم يكف هؤلاء المغرورين أن الغناء قرآن الشيطان، والمزامير صوته.

ولهذا جاء عن الصحابة: أن الغناء ينبت النفاق في القلب، وأنه بريد الزنى، ورقية الشيطان، ومزمور إبليس، ولو تتبعنا أقوال علماء الإسلام، في ذم الأغاني والملاهي، والنهي عن استماعها، والتحذير منها، وتعداد ما اشتملت عليه من المفاسد والأضرار، لطال الكلام جدا، وليس هذا من غرضنا في هذه العجالة.

إنما المقصود هنا: التنبيه على ما سنح لنا من أوهام الظاهري، والإشارة إلى تحريم المعازف، وسائر أنواع الملاهي والأغاني بالنغمات الرخيمة، إسماعا واستماعا، محبة ومدحا، دعاية وتحسينا، لأن الوسائل لها حكم الغايات.

والتجربة شاهدة بأن استعمال ذلك، واستماع أصوات القينات بالنشيد، داعية الفجور، ومعاقرة الخمور، موصلة إلى الهلاك؛ فلا يجوز لعاقل أن يتعاطى شيئا ضرره متحتم بمنفعة متوهمة، كتسلية وترويح عن النفس، فإن

ص: 147

عاقبتها قلق النفس، واشتغال القلب، عند فقد مألوفه وما يهواه.

ولو أن الكاتب- عافانا الله وإياه- تثبت في كلام ابن حزم، وعرضه على أقوال السلف الصالح وعلماء الأمة، لتبين له الحق بدليله، فوسعه ما وسع القوم؛ لكن صادف قلبه فارغا فتمكن منه، وطار مع ابن حزم في ظاهريته، وتجرأ على النصوص المخالفة لمذهبه، تجريحا وتضعيفا، وتأويلا بما يوافق مأخذه، بلا بصيرة ولا تحقيق؛ وهذا جناية التقليد، والهوى يعمي ويصم.

أما قول أبي تراب: إن الغناء والآلة والاستماع لهما مباح لم يرد في الشريعة نص ثابت في تحريمه.

والرد عليه ظاهر في التحريم، بقوله تعالى:{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [سورة الحج آية: 30] : فسره محمد بن الحنفية: بالغناء، وقوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، ونحيل القارئ الكريم إلى تفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، والواحدي.

وقد صح عن ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر، وغيرهم، في هذه الآية، من سورة لقمان أن الغناء هو لهو الحديث. ثم وازن بين هذا، وبين قول أبي تراب: وما ذم الله من اشترى لهو الحديث ليتلهى ويروح به عن نفسه، لا

ص: 148

ليضل عن سبيل الله، يتضح لك الخطأ، وتعلم أن الله قد ذمه وعابه في الآية الكريمة، فإن اللهو عام للغناء والملاهي، ومدعى التخصيص يحتاج إلى دليل.

وأيضا تفسير الصحابة أولى من تفسير من بعدهم، لأنهم تلقوا القرآن وتفسيره من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جعله طائفة من المحدثين في حكم المرفوع، لأنهم إذا تعلموا عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا معانيها، والعمل بها.

قال البغوي، في قوله تعالى:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الحج آية: 9] يعني: يفعله عن جهل; قال قتادة: "بحسب امرئ من الضلالة، أن يختار الباطل على الحق" واللام في قوله: (ليضل) لام عاقبة، على قراءة من فتح الياء، أو تعليل للأمر القدرى: أن قيضوا له، ليكونوا ضالين أو مضلين.

وفي صحيح البخاري ما نصه: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثنا عبد الرحمن بن غنم، حدثنا أبو مالك، أو أبو عامر الأشعري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليكونن من أمتي قوم يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف".

ولا يضره قدح ابن حزم بأنه منقطع، فإن البخاري علقه بصيغة الجزم، وهشام بن عمار من شيوخ البخاري، لقيه وسمع منه، وقد وصله أبو داود، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر عن عبد الرحمن

ص: 149

ابن يزيد، به; ورواه الإسماعيلي في صحيحه مسندا، وقال أبو عامر ولم يشك.

ووجه الدلالة من الحديث: أن المعازف، وهي آلات اللهو كلها، لو كانت حلالا لما ذمهم على فعلها واستحلالها، ولما قرنها بالحر- أي: الزنى- والخمر والحرير.

وفي الباب أحاديث كثيرة، وآثار عن جماعة من الصحابة ومن بعدهم، صالحة للاحتجاج والاعتضاد، لكثرتها وتباين مخارجها، وتعدد طرقها.

وقول الظاهري: فإذا كان الغناء محرما بالعموم، لأنه يلهي عن ذكر الله، فكذلك كل مُلْه حرام، ولو كان من قبيل المباح، حتى قراءة القرآن.. إلخ.

والرد عليه من طريقين، أولا: أننا لا نقول بتحريم الغناء على العموم، فقد جاء في الحديث إباحته في العرس حيث لا محذور، وكذلك للجواري الصغار، في عيد ونحوه، كما هو مقرر في كتب السنة؛ إنما المحرم ما اتخذ صناعة يجتمع الناس لها، أو كان بآلة لهو، أو بألحان مطربة، ونحو ذلك.

ثانيا: جعل قراءة القرآن من قسم المباح خطأ سافر، فإنه معلوم بالضرورة أن قراءة القرآن من أفضل العبادات، وأعظم القربات، وأن قراءة الفاتحة ركن في كل ركعة،

ص: 150

وتجب قراءة القرآن على من خاف نسيان، وتسن في غير ذلك، إلا مع جنابة ونحوها.

فقياس الغناء عليها من أفسد القياس؛ فإن الغناء تارة يكون حراما، وآونة يكون مكروها، ومرة يكون مباحا، على حسب ما اقترن به.

وقول أبي تراب: إنه صح عن ابن عمر، وعبد الله بن جعفر، ومن بعدهم

إلخ.

يقال له: أما سماع ابن عمر، فإن أبا داود، روى عن نافع: أن "ابن عمر سمع صوت مزمار، فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال: يا نافع، هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا، فرفع أصبعيه عن أذنيه، وقال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصنع مثل ما صنعت" 1 قال أبو داود. حديث منكر.

وعلى تقدير ثبوته، يقال: إنه لم يقع من ابن عمر إلا مجرد السماع لمصلحة، وهي حاجة النبي صلى الله عليه وسلم إلى معرفة انقطاع الصوت، ليرجع إلى الطريق، ويرفع أصبعيه عن أذنيه، وهذا نقض لقول الظاهري: لو كان حراما لما أباحه لابن عمر، وأقل ما يدل عليه الحديث: كراهة سماع المزامير، فكيف يكون حكم الاستماع قصدا؟

وأما ابن جعفر: فقد كان يتعاطاه، مع بعض جواريه، فأنكر عليه أكابر الصحابة، كابن عمر، وأما من بعدهم، فإن

1 أبو داود: الأدب (4924) .

ص: 151

ثبت ما نسب إليهم فليسوا بحجة، فإن السنة إذا ثبتت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم لم يحل لأحد أن يتجاوزها لقول أحد من الخلق، كائنا من كان.

ويقال أيضا: هب أنهم سمعوا الغناء والملاهي مرة أو مرات لعذر، أو لتأويل ونحوه، فإن مجرد السماع أخف من الاستماع واستحلاله، كيف وقد خالفهم الجمع الغفير من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، من سلف الأمة وأئمتها؟ فلا يعول على القول الشاذ.

وقول أبي تراب: لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم على الجاريتين، لما كانتا تغنيان بغناء بعاث

إلخ.

والجواب: أنهما كانتا صغيرتين غير معنيتين، وكان في يوم العيد، وغناؤهما بما تقاولت به الأنصار، في الشجاعة والفروسية، وليس هناك رقص ولا ملهيات.

والحديث حجة لنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكر على أن الغناء مزمار الشيطان، فكيف يستدل به على إباحة غناء القينات، والأجنبيات، بألحان الفن الخليع؟ والاستماع إلى تلك النغمات المعسولة، عند أهل الدعارة، والانحلال من الأخلاق الشريفة؟ فهل يجتمع في قلب المؤمن حب سماع القرآن، وحب سماع هذا الغناء؟ اللهم لا.

والواقع أن كثيرا من الناس يفتحون المذياع، على تلك الأغاني، وما في معناها، من لهو وطرب، فإذا وجدوا قراءة

ص: 152

القرآن أو كلمة دينية أو أدبية، أغلقوا المذياع، أو قلبوا موجاته، طلبا للفن الخليع، وتهالكا في طلب الملاهي والأغاني السامجة، والمهيجة للشر والفساد.

وصاحب الغناء والملاهي بين خطرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، وإما أن يتنسك، فيكون منافقا، ففتش نفسك، هل أنت سالم؟

وقول الظاهري: وقد شغب قوم بأحاديث وردت بالمنع من ذلك، وهي واهية مردودة.

ويقال: الله أكبر، ما أعظم جرأة الظاهري على سلف الأمة، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم؟! ممن رووا تلك الأحاديث من حملة الشريعة المشهود بهدايتهم، ودرايتهم، وورعهم {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة الحشر آية: 10] .

إن من الرعونة وسوء الأدب، وقلة الورع: نسبة هؤلاء العلماء إلى الشغب والتموية، وهذا هو جوابنا على قوله: وأما الآثار التي موهوا بها في الآية، أي قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] . 1 ويقال أيضا: التمويه والشغب بكم ألصق، وقد قال الله تعالى:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}

1. سورة لقمان آية: 6

ص: 153

ونحيل القارئ إلى كتاب "إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان" للعلامة: ابن القيم، فلقد أجاد وأفاد، وأحسن النقد في ذم الملاهي والغناء؛ فساق جملة من الأحاديث المرفوعة، والآثار الموقوفة، بأسانيدها، مبرهنا عن صحتها أو حسنها بكثرة طرقها، ففيه كفاية لطالب الحق.

وقول أبي تراب: ومن لم يُضع شيئا من الفرائض اشتغالا بما ذكر، فهو محسن.

يقال له: أي إحسان في الاشتغال بالأغاني والملاهي لو كانوا يعقلون؟ !.

وفي السنن عن عقبة بن عامر مرفوعا: "كل لهو يلهوه الرجل فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه بقوسه، أو تأديبه لفرسه، وملاعبته لزوجته" حديث حسن، له طرق يشد بعضها بعضا، وهل في الباطل إحسان؟ !

وأما حديث عائشة في لعب الحبشة بحرابهم في المسجد، فلا حجة فيه لمبيحي الغناء والملاهي، لأنه مجرد لعب بآلات الحرب، وليس هناك غناء، ولا آلة لهو، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة بقوله:"لتعلم يهود أن في ديننا فسحة" 1؛ وأين تقع مفسدة لعبهم، من مصلحة العلم، بيسر الدين وسماحته، والترغيب في الدخول فيه؟ !

وأما توهين أبي تراب للآثار المروية عن الصحابة ومن بعدهم، في ذم الملاهي والغناء، فهو توهين ساقط، لأن

1 أحمد (6/116) .

ص: 154

تلك الأقوال مأخوذة من معاني النصوص، وفيها الصحيح والحسن، فلا يجوز العدول عنها إلى مجرد الرأي، والتعصب للمذهب، وأقوال الشيوخ، فإنها أقوال يحتج لها ولا يحتج بها.

ولقد حرص الكاتب على تدعيم مذهب ابن حزم، في إباحة الأغاني والملاهي، فلم يصنع شيئا، وباء بالفشل؛ فإن قولهم هذا مردود باطل، لمخالفته لطريقة رسول الله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان؛ فمن نكص عن منهاجهم وسلك غير سبيلهم، ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.

ولقد أنكر السلف على من تتبع الرخص، وأخذ بالأقوال الشاذة؛ قال سليمان التيمي:"لو أخذت برخصة كل عالم لاجتمع فيك الشر كله" وقال يحيى بن سعيد الأنصاري:?"لو أن رجلا عمل بكل رخصة: بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة لكان فاسقا" وقال بعض السلف: من تتبع الرخص تزندق.

فأسأل الله أن يرينا الحق حقا، ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا، ويزرقنا اجتنابه، ولا يجعله ملتبسا علينا فنضل، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

ص: 155

[رد الشيخ ابن باز على ما نشر في مجلة الرائد بقلم أبي تراب من قوله بحل الغناء]

وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز حفظه الله 1: لقد اطلعت على ما نشرته مجلة الرائد في عدديها: السابع والستين، والثامن والستين، بقلم أبي تراب الظاهري، تحت عنوان:"الكتاب والسنة لم يحرما الغناء، ولا استعمال المعازف والمزامير، والاستماع إليها".

وتأملت ما ذكره في هذا المقال، من الأحاديث والآثار، وما اعتمده في القول بحل الغناء وآلات الملاهي تبعا لإمامه أبي محمد بن حزم الظاهري، فتعجبت كثيرا من جرأته الشديدة، تبعا لإمامه أبي محمد، على القول بتضعيف جميع ما ورد من الأحاديث، في تحريم الغناء، وآلات الملاهي، بل على ما هو أشنع من ذلك، وهو القول: بأن الأحاديث الواردة في ذلك موضوعة.

وعجبت أيضا من جرأتهما الشديدة الغريبة، على القول بحل الغناء وجميع آلات الملاهي، مع كثرة ما ورد في النهي عن ذلك، من الآيات والأحاديث والآثار عن السلف الصالح رضي الله عنهم، فنسأل الله العافية والسلامة من القول عليه بغير علم، والجرأة على تحليل ما حرمه الله من غير برهان.

ولقد أنكر أهل العلم قديما، على أبي محمد هذه الجرأة الشديدة، وعابوه بها، وجرى عليه بسببها محن كثيرة، فنسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وعن سائر المسلمين.

1 وقد نشر هذا المقال في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.

ص: 156

ولقد حذر الله عباده من القول عليه بغير علم، ونهاهم سبحانه أن يحرموا أو يحللوا بغير برهان، وأخبر عز وجل أن ذلك من أمر الشيطان وتزيينه، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .

وقال تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 116-117] . وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِين ٌإِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 168-169] . فحذر الله سبحانه عباده في هذه الآيات الكريمات، من التحليل والتحريم بغير علم، وبين سبحانه: أن القول عليه بغير علم، في رتبة رهيبة فوق الشرك، ونبه عباده على أن الشيطان يحب منهم القول على الله بغير علم، ويأمرهم به ليفسد عليهم بذلك دينهم وأخلاقهم ومجتمعهم.

فالواجب على كل مسلم أن يحذر القول على الله بغير علم، وأن يخاف الله سبحانه ويراقبه فيما يحلل ويحرم، وأن

ص: 157

يتجرد من الهوى والتقليد الأعمى، وأن يقصد إيضاح حكم الله لعباد الله، على الوجه الذي بينه الله في كتابه، أو أرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته، نصحا لله ولعباده، وحذرا من كتمان العلم، ورغبة في ثواب الله على ذلك.

فنسأل الله لنا ولسائر إخواننا التوفيق لهذا المسلك، الذي سلكه أهل العلم والإيمان، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، إنه على كل شيء قدير.

وأنا ذاكر لك أيها القارئ- إن شاء الله- ما وقع في كلام أبي تراب وإمامه أبي محمد، من الأخطاء، وموضح لك ما ورد من الآيات والآحاديث الصحيحة والآثار، في تحريم الغناء وآلات الملاهي، وذاكر من كلام أهل العلم في هذا الباب ما يشفي ويكفي.

حتى تكون من ذلك على صراط مستقيم وحتى يزول عن قلبك- إن شاء الله- ما قد علق به من الشبه والشكوك، التي قد يبتلى بها من سمع مقالة أبي تراب وأضرابه من الكتاب. وبالله نستعين، وعليه نتوكل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

قال أبو تراب، وتحقيق المسألة: أن الغناء وآلاته والاستماع إليها مباح، لم ير في الشريعة التي جاء بها صلى الله عليه وسلم نص ثابت في تحريمة البتة، والأدلة تؤخذ من الأصلين هما: الكتاب، والسنة; وما لسواهما فهو شغب وباطل مردود،

ص: 158

ولا يحل لمؤمن أن يعدو حدود الله قطعا، إلى أن قال في أثناء مقاله:

قال الحافظ أبو محمد بن حزم: بيع الشطرنج، والمزامير، والعيدان، والمعازف، والطنابير، حلال كله؛ من كسر شيئا من ذلك ضمنه، إلا أن يكون صورة مصورة، فلا ضمان على كسرها، لما ذكرنا من قبل، لأنها مال من مال مالكها.

أقول: لقد أخطأ أبو محمد، وأخطأ بعده أبو تراب، في تحليل ما حرم الله من الأغاني وآلات الملاهي وفتحا على الناس أبواب شر عظيم، وخالفا بذلك سبيل أهل الإيمان، وحملة السنة والقرآن، من الصحابة وأتباعهم بإحسان، وإن ذلك لعظيم وخطره جسيم؛ فنسأل الله لنا وللمسلمين العافية، من زيغ القلوب، ورين الذنوب، وهمزات الشيطان، إنه جواد كريم.

ولقد ذهب أكثر علماء الإسلام، وجمهور أئمة الهدى، إلى تحريم الأغاني، وجميع المعازف- وهي آلات اللهو كلها- وأوجبوا كسر آلات المعازف، وقالوا: لا ضمان على متلفها.

وقالوا: إن الغناء إذا انضم إليه آلات المعازف، كالطبل، والمزمار، والعود، وأشباه ذلك، حرم بالإجماع، إلا ما يستثنى من ذلك، من دف النساء في العرس ونحوه، على ما يأتي بيانه إن شاء الله.

ص: 159

وقد حكى أبو عمرو بن الصلاح إجماع علماء المسلمين، على ما ذكرنا من تحريم الأغاني والمعازف إذا اجتمعا، كما سيأتي نص كلامه فيما نقله عنه العلامة ابن القيم رحمه الله.

وما ذلك إلا لما يترتب على الغناء وآلات اللهو من قسوة القلوب ومرضها، وصدها عن القرآن الكريم، واستماع العلوم النافعة، ولا شك أن ذلك من مكائد الشيطان التي كاد بها الناس، وصاد بها من نقص علمه ودينه؛ حتى استحسن سماع قرآن الشيطان ومزموره، بدلا من سماع كتاب الله، وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولقد اشتد نكير السلف على من اشتغل بالأغاني والملاهي، ووصفوه بالسفة والفسق، وقالوا: لا تقبل شهادته، كما سيأتي بعض كلامهم في ذلك إن شاء الله، وما ذاك إلا لما ينشأ عن الاشتغال بالغناء والمعازف من ضعف الإيمان، وقلة الحياء والورع، والاستخفاف بأوامر الله ونواهيه، ولما يبتلى به أرباب الغناء والمعازف من شدة الغفلة، والارتياح إلى الباطل، والتثاقل عن الصلاة وأفعال الخير، والنشاط فيما يدعو إليه الغناء والمعازف من الزنى واللواط، وشرب الخمور، ومعاشرة النسوان والمردان، إلا من عصم الله من ذلك.

ص: 160

ومعلوم عند ذوي الألباب، ما يترتب على هذه الصفات من أنواع الشر والفساد، وما في ضمنها من وسائل الضلال والإضلال.

وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما ورد في تحريم الأغاني والمعازف، من آيات القرآن الكريم، وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال الله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [سورة لقمان آية: 6-7] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هاتين الآيتين، ما نصه: لما ذكر حال السعداء وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعه، كما قال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [سورة الزمر آية: 23]، عطف: بذكر حال الأشقياء الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء، والألحان وآلات الطرب، كما قال ابن مسعود، في قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: هو والله الغناء".

ص: 161

روى ابن جرير: حدثني يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يزيد بن يونس، عن أبي صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير، عن أبي الصهباء البكري:?"أنه سمع عبد الله بن مسعود، وهو يسئل عن هذه الآية: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] ، فقال عبد الله بن مسعود: (الغناء، والله الذي لا إله إلا هو، يرددها ثلاث مرات".

حدثنا عمرو بن علي، حدثنا صفوان بن عيسى، أخبرنا حميد الخراط، عن عمار عن سعيد بن جبير عن "أبي الصهباء، أنه سأل ابن مسعود عن قول الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: الغناء"، وكذا قال ابن عباس وجابر، وعكرمة وسعيد بن جبير، ومجاهد ومكحول، وعمرو بن شعيب وعلي بن بذيمة.

وقال الحسن البصري: "نزلت هذه الآية {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] في الغناء والمزامير"؟ وقال قتادة، قوله:{"وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] والله لعله لا ينفق فيه مالا، ولكن شراؤه: استحبابه، بحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق وما يضر على ما ينفع" انتهى كلامه.

فتأمل: أيها القارئ الكريم، هاتين الآيتين الكريمتين، وكلام هذا الإمام في تفسيرهما، وما كان عن أئمة السلف في

ص: 162

ذلك، يتضح لك ما وقع فيه أرباب الأغاني والملاهي؛ فإن الخطر العظيم؛ وتعلم بذلك صراحة الآية الكريمة في ذمهم وعيبهم، وأن شراءهم للهو الحديث، واختيارهم له، من وسائل الضلال والإضلال، وإن لم يقصدوا ذلك أو يعلموه.

وذلك لأن الله سبحانه مدح أهل القرآن في أول السورة وأثنى عليهم بالصفات الحميدة، وأخبر أنهم أهل الهدى والفلاح، حيث قال عز وجل:(بسم الله الرحمن الر حيم)، {الم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة لقمان آية: 1-2-3-4-5] .

ثم قال سبحانه بعد هذا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، وذلك يدل على ذم هؤلاء المشترين، وتعرضهم للضلال بعد الهدى، وما كان وسيلة للضلال والإضلال، فهو مذموم يجب أن يحذر ويبتعد عنه.

وهذا الذي قاله الحافظ بن كثير في تفسير الآية، قاله غيره من أهل التفسير، كابن جرير، والبغوي، والقرطبي، وغير واحد، حتى قال الواحدي في تفسيره: أكثر المفسرين على أن لهو الحديث، هو: الغناء، وفسره آخرون بالشرك، وفسره جماعة بأخبار الأعاجم، وبالأحاديث الباطلة، التي تصد عن الحق؛ وكلها تفاسير صحيحة لا منافاة بينها.

ص: 163

والآية الكريمة تذم من اعتاض ما يصد عن سبيل الله ويلهيه عن كتابه؛ ولا شك أن الأغاني وآلات الملاهي، من أقبح لهو الحديث، الصاد عن كتاب الله وعن سبيله.

قال أبو جعفر بن جرير رحمه الله في تفسيره- لما ذكر أقوال المفسرين في لهو الحديث- ما نصه: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: عنى به كل ما كان من الحديث ملهيا عن سبيل الله، مما نهى الله عن استماعه أو رسوله، لأن الله تعالى عم بقوله لهو الحديث، ولم يخصص بعضا دون بعض، فذلك على عمومه، حتى يأتي ما يدل على خصوصه؛ والغناء والشرك، من ذلك. انتهى كلامه.

وقال القرطبي في تفسير قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] : (من) : في موضع رفع بالابتداء، و (ولهو الحديث) : الغناء، في قول ابن مسعود وابن عباس وغيرهما، ثم بسط الكلام في تفسير هذه الآية.

ثم قال: المسألة الثانية، وهو: الغناء المعتاد عند المشتهرين به، الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل والمجون، الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبب فيه بذكر النساء، ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات، لا يختلف في تحريمه، لأنه اللهو والغناء المذموم بالاتفاق.

فأما ما سلم من ذلك، فيجوز القليل منه في أوقات

ص: 164

الفرح، كالعرس والعيد، وعند التنشيط على الأعمال الشاقة، كما كان في حفر الخندق، وحدو الحبشة، وسلمة بن الأكوع.

فأما ما ابتدعته الصوفية اليوم، من الإدمان على سماع الأغاني بالآلات المطربة من الشبابات، والطار، والمعازف، والأوتار، فحرام. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله القرطبي كلام حسن، وبه تجتمع الآثار الواردة في هذا الباب.

ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، قالت:"دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه، ودخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرني، وقال: مزمار الشيطان عند النبي صلى الله عليه وسلم، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعهما. فلما غفل غمزتهما فخرجتا"1.

وفي رواية لمسلم: فقال رسول الله: "يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا، وهذا عيدنا" 2، وفي رواية له أخرى، فقال صلى الله عليه وسلم "دعهما يا أبا بكر، فإنها أيام عيد" 3، وفي بعض رواياته أيضا:"جاريتان تلعبان بدف"4.

فهذا الحديث الجليل يستفاد منه: أن كراهة الغناء وإنكاره، وتسميته مزمار الشيطان: أمر معروف مستقر عند الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا أنكر الصديق على عائشة غناء الجاريتين عندها، وسماه مزمار الشيطان.

ولم ينكر عليه النبي فيه تلك التسمية، ولم يقل له إن

1 البخاري: الجمعة (950)، ومسلم: صلاة العيدين (892) .

2 البخاري: الجمعة (952)، ومسلم: صلاة العيدين (892)، وابن ماجه: النكاح (1898) ، وأحمد (6/99 ،6/134 ،6/186) .

3 البخاري: الجمعة (988)، ومسلم: صلاة العيدين (892)، والنسائي: صلاة العيدين (1597) ، وأحمد (6/84) .

4 مسلم: صلاة العيدين (892) .

ص: 165

الغناء والدف لا حرج فيهما، وإنما أمره أن يترك الجاريتين، وعلل ذلك بأنها أيام عيد.

فدل ذلك على أنه ينبغي التسامح في مثل هذه الجواري الصغار في أيام العيد، لأنها أيام فرح وسرور، ولأن الجاريتين إنما أنشدتا غناء الأنصار الذي تقاولوا به يوم بعاث، فيما يتعلق بالشجاعة والحرب.

بخلاف أكثر غناء المغنين والمغنيات اليوم، فإنه يثير الغرائز الجنسية، ويدعو إلى عشق الصور، وإلى كثير من الفتن الصادة للقلوب عن تعظيم الله ومراعاة حقه، فكيف يجوز لعاقل أن يقيس هذا على هذا؟ !

ومن تأمل هذا الحديث، علم أن ما زاد على ما فعلته الجاريتان منكر، يجب التحذير منه، حسما لمادة الفساد، وحفظا للقلوب عمّا يصدها عن الحق، ويشغلها عن كتاب الله وأداء حقه.

وأما دعوى أبي تراب أن هذا الحديث حجة على جواز الغناء مطلقا، فدعوى باطلة، لما تقدم بيانه؛ والآيات، والأحاديث، والآثار الواردة في هذا الباب، كلها تدل على بطلان دعواه.

وهكذا الحديث الذي رواه سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي، عن عامر بن سعد البجلي، "أنه رأى أبا مسعود البدري وقرظة بن كعب، وثابت بن يزيد، وهم في

ص: 166

عرس، وعندهم غناء، فقلت لهم: هذا وأنتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنه رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء على الميت من غير نوح".

فهذا الحديث ليس فيه حجة على جواز الغناء مطلقا، وإنما يدل على جوازه في العرس لإعلان النكاح؛ ومن تأمل هذا الحديث عرف أنه دليل على منع الغناء لا على جوازه.

فإنه صلى الله عليه وسلم لما رخص لهم فيه في العرس لحكمة معلومة، دل على منعه فيما سواه، إلا بدليل خاص، كما أن الرخصة للمسافر في قصر الرباعية، يدل على منع غيره من ذلك، وهكذا الرخصة للحائض والنفساء، في ترك طواف الوداع، يدل على منع غيرها من ذلك، والأمثلة لهذا كثيرة.

وأيضا: فإنكار عامر بن سعد، على هؤلاء الصحابة الغناء، وإقرارهم له على ذلك، دليل على أن كراهة الغناء، والمنع منه، أمر قد استقر عند الصحابة والتابعين، وعرفوه عن النبي صلى الله عليه وسلم والله المستعان.

قال العلامة بن القيم، رحمة الله عليه، في كتابه. "إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان" ما نصه:

ومن مكائد عدو الله ومصائده، التي كاد بها من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين: سماع المكاء والتصدية والغناء بالآلات المحرمة

ص: 167

ليصد القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.

فهو قرآن الشيطان، والحجاب الكثيف عن القرآن، وهو رقية: اللواط والزنى، وبه ينال الفاسق من معشوقة غاية المنى، كاد به الشيطان النفوس المبطلة، وحسنه لها، مكرا وغرورا، وأوحى إليها الشبه الباطلة على حسنه، فقبلت وحيه، واتخذت لأجله القرآن مهجورا، إلى أن قال. ولقد أحسن القائل:

تلي الكتاب فأطرقوا لا خيفة

لكنه إطراق ساه لاهي

وأتى الغناء فكالحمير تناهقوا

والله ما رقصوا لأجل الله

دف ومزمار ونغمة شادن

فمتى رأيت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لما رأوا

تقييده بأوامر ونواهي

سمعوا له رعدا وبرقا إذ حوى

زجرا وتخويفا بفعل مناهي

ورأوه أعظم قاطع للنفس عن

شهواتها يا ذبحها المتناهي

وأتى السماع موافقا أغراضها

فلأجل ذاك غدا عظيم الجاه

أين المساعد للهوى من قاطع

أسبابه عند الجهول الساهي

إن لم يكن خمر الجسوم فإنه

خمر العقول مماثل ومضاهي

فانظر إلى النشوان عند شرابه

وانظر إلى النشوان عند ملاهي

وانظر إلى تمزيق ذا أثوابه

من بعد تمزيق الفؤاد اللاهي

واحكم فأي الخمرتين أحق بالتـ

حريم والتأثيم عند الله

وقال آخر:

برئنا إلى الله في معشر

بهم مرض من سماع الغناء

ص: 168

وكم قلت يا قوم أنتم على

شفا جرف ما به من بنا

شفا جرف تحته هوة

إلى درك كم به من عنا

وتكرار ذا النصح منا لهم

لنعذر فيهم إلى ربنا

فلما استهانوا بتنبيهنا

رجعنا إلى الله في أمرنا

فعشنا على سنة المصطفى

وماتوا على تنتنا تنتنا

ولم يزل أنصار الإسلام، وأئمة الهدى تصيح بهؤلاء من أقطار الأرض، وتحذر من سلوك سبلهم، واقتفاء آثارهم، من جميع طوائف الملة.

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز، أيضا في رده على أبي تراب 1: شبهة يجب أن تكشف:

زعم أبو تراب تبعا لابن حزم، أن قوله سبحانه:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً} [سورة لقمان آية: 6] الآية، دليل على أن مشتري لهو الحديث من الأغاني والملاهي لا يستحق الذم إلا إذا اشتراها لقصد الضلال، أو الإضلال أما من اشتراها للترفيه والترويح عن نفسه، فلا بأس في ذلك.

والجواب أن يقال: هذه شبهة باطلة من وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن ذلك خلاف ما فهمه السلف الصالح، من الصحابة والتابعين من الآية الكريمة، فإنهم احتجوا بها على ذم الأغاني والملاهي والتحذير منها، ولم يقيدوا ذلك بهذا

1 وهو من المنشور أيضا في مجلة راية الإسلام سنة 1381 هـ.

ص: 169

الشرط الذي قاله أبو تراب؛ وهم أعلم الناس بمعاني كلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أعرف بمراد الله من كلامه ممن بعدهم.

الوجه الثاني: أن ذلك خلاف ظاهر الآية لمن تأملها، لأن الله سبحانه قال:{لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] ، فدل ذلك على أن هذا الصنف المذموم من الناس قد اشترى لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله بغير علم ولا شعور بالغاية، ولا قصد للإضلال أو الضلال.

ولو كان اشترى لهو الحديث، وهو يعلم أنه يضل به، أو يقصد ذلك لم يقل الله عز وجل {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [سورة لقمان آية: 6] ، لأن من علم أنه اشترى لهو الحديث، ليضل به عن سبيل الله، لا يقال له: إنه لا يعلم.

وهكذا من قصد ذلك، لا يقال إنه اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم، لأن من علم أن غايته الضلال، أو قصد ذلك، قد اشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بعلم وقصد، لا ليضل بغير علم.

فتأمل وتنبه أيها القارئ الكريم، يتضح لك الحق، وعليه تكون اللام في قوله ليضل عن سبيل الله لام العاقبة، أو لام التعليل، أي: تعليل الأمر القدري، ذكر ذلك الحافظ ابن كثير وغيره.

وعلى كونها للعاقبة، يكون المعنى: أن من اشترى لهو

ص: 170

الحديث، من الغناء والمعازف، تكون عاقبته الضلال عن سبيل الله والإضلال، واتخاذ سبيل الله هزوا، والإعراض عن آيات الله استكبارا، واحتقارا، وإن لم يشعر بذلك ولم يقصده.

وعلى المعنى الثاني: وهو كونها لتعليل الأمر القدري، يكون المعنى: أن الله سبحانه قضى وقدر على بعض الناس، أن يشتري لهو الحديث ليضل به عن سبيل الله.

وعلى كلا التقديرين، فالآية الكريمة تفيد ذم من اشترى لهو الحديث، ووعيده، بأن مصيره إلى الضلال، والاستهزاء بسبيل الله، والتولي عن كتاب الله؛ وهذا هو الواقع الكثير والمشاهد، ممن اشتغل بلهو الحديث، من الأغاني والمعازف، واستحسنها وشغف بها، يكون مآله إلى: قسوة القلب، والضلال عن الحق، إلا من عصم الله.

وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة في مصادرها ومواردها، على وجوب الحذر من وسائل الضلال والفساد، والتحذير منها، حذرا من الوقوع في غاياتها؛ كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن شرب القليل الذي لا يسكر، حذرا من الوقوع في المسكر، حيث قال عليه الصلاة والسلام:"ما أسكر كثيره فقليله حرام"1.

ونهى عن الصلاة بعد الصبح، وبعد العصر، لئلا يكون ذلك وسيلة إلى الوقوع فيما وقع فيه بعض المشركين، من عبادة الشمس عند طلوعها وغروبها؛ ونظائر ذلك كثيرة،

1 الترمذي: الأشربة (1865)، وأبو داود: الأشربة (3681)، وابن ماجه: الأشربة (3393) ، وأحمد (3/343) .

ص: 171

يعرفها من له أدنى علم بالشريعة المطهرة، والله المستعان.

الوجه الثالث: أنه لو كان الذم مختصا بمن اشترى لهو الحديث، لقصد الضلال أو الإضلال، لم يكن في تنصيص الرب عز وجل على لهو الحديث فائدة، لأن الذم حينئذ لا يختص به، بل يعم كل من فعل شيئا يقصد به الضلالة أو الإضلال، حتى ولو كان ذلك الشيء محبوبا إلى الله سبحانه وتعالى.

كمن اشترى مصحفا يقصد به التلبيس على الناس وإضلالهم، فإن المصحف محبوب إلى الله لاشتماله على كلامه عز وجل، ولكنه سبحانه لا يحب من عباده أن يشتروه للتلبيس والإضلال، وإنما يشترى للاهتداء والتوجيه إلى الخير.

وقد اعترف ابن حزم وأبو تراب بهذا الوجه، وزعما أن الآية تختص بهذا الصنف، وهو خطأ بين، وعدول بالآية عن معناها الصحيح، وإضاعة لمعناها الأكمل.

فعرفت أيها القارئ الكريم، من هذه الأوجه الثلاثة، كشف شبهة أبي تراب وبطلانها، واتضح لك أن الآية الكريمة حجة ظاهرة على ذم الأغاني والملاهي وتحريمها، وأنها وسيلة للضلالة والإضلال، والسخرية بسبيل الله، والإعراض عن كتابه، وإن لم يشعر مشتريها بذلك؛ وهذا هو

ص: 172

الذي فهمه السلف الصالح من الآية الكريمة، وهم أولى بالاتباع رضي الله عنهم.

وسبق لك كشف شبهة أبي تراب، في تعلقه بحديث الجاريتين، وكشف شبهته الأخرى، في تعلقه بحديث أبي مسعود البدري وصاحبيه، في الرخصة لهم في الغناء وقت العرس.

وأوضحنا فيما تقدم أن الحديثين المذكورين حجة ظاهرة على أبي تراب وإمامه ابن حزم، في النهي عن الأغاني، والمنع منها، لا على جوازها. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

وقد تكلم العلامة ابن القيم رحمه الله، على الآية المتقدمة، وهي قوله تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] الآية، بكلام حسن يؤيد ما تقدم، وهدا نصه:

قال رحمه الله: قال الواحدي وغيره: أكثر المفسرين على أن المراد بلهو الحديث الغناء، قاله ابن عباس في رواية سعيد بن جبير ومقسم عنه، وقاله عبد الله بن مسعود في رواية أبي الصهباء عنه، وهو قول مجاهد وعكرمة. وروى ثوير بن أبي فاختة عن أبيه عن ابن عباس، في قوله تعالى: ?" {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] قال: (هو الرجل يشتري الجارية تغنيه ليلا ونهارا".

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو: اشتراء المغني

ص: 173

والمغنية بالمال الكثير، والاستماع إليه وإلى مثله من الباطل، وهذا قول مكحول، وهذا اختيار أبي إسحاق أيضا، وقال: أكثر ما جاء في التفسير، أن لهو الحديث ههنا، هو: الغناء، لأنه يلهي عن ذكر الله تعالى.

قال الواحدي: قال أهل المعاني: ويدخل في هذا كل من اختار اللهو، والغناء، والمزامير، والمعازف، على القرآن، وإن كان اللفظ قد ورد بالشراء، فلفظ الشراء يذكر في الاستبدال والاختيار، وهو كثير في القرآن.

قال: ويدل على هذا ما قاله قتادة في هذه الآية: لعله أن لا يكون أنفق مالا. قال: وبحسب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحق، قال الواحدي: وهذه الآية على هذا التفسير تدل على تحريم الغناء.

قال: وأما غناء القينات، فذلك أشد ما في الباب، وذلك لكثرة الوعيد الوارد فيه، وهو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من استمع إلى قينة، صب في أذنه الآنك يوم القيامة" والآنك: الرصاص المذاب.

وقد جاء تفسير لهو الحديث بالغناء، مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ ففي مسند الإمام أحمد ومسند عبد الله بن الزبير الحميدي، وجامع الترمذي، من حديث أبي أمامة والسياق للترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبيعوا القينات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام"1.

1 الترمذي: البيوع (1282)، وابن ماجه: التجارات (2168) .

ص: 174

وفي مثل هذا، نزلت هذه الآية:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة لقمان آية: 6] . وهذا الحديث، وإن كان مداره على عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد الألهاني عن القاسم، فعبيد الله بن زحر ثقة، والقاسم ثقة، وعلي ضعيف، إلا أن للحديث شواهد ومتابعات، سنذكرها إن شاء الله تعالى.

ويكفي تفسير الصحابة والتابعين للهو الحديث بأنه: الغناء؛ فقد صح ذلك عن ابن عباس وابن مسعود، قال أبو الصهباء: سألت ابن مسعود عن قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [سورة لقمان آية: 6] فقال: (والله الذي لا إله إلا هو، هو: الغناء) ، يرددها ثلاث مرات.

وصح عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضا أنه الغناء، قال الحاكم أبو عبد الله، في التفسير في كتاب المستدرك: ليعلم طالب هذا العلم، أن تفسير الصحابي، الذي شهد الوحي والتنزيل، عند الشيخين مسند.

وقال في موضع آخر من كتابه: هو عندنا في حكم المرفوع، وهذا وإن كان فيه نظر، فلا ريب أنه أولى بالقبول من تفسير من بعدهم، فهم أعلم الأمة بمراد الله عز وجل في كتابه؛ فعليهم نزل، وهم أول من خوطب به من الأمة؛ وقد شاهدوا تفسيره من الرسول صلى الله عليه وسلم علما وعملا؛ وهم العرب الفصحاء على الحقيقة، فلا يعدل عن تفسيرهم ما وجد إليه سبيل.

ص: 175

ولا تعارض بين تفسير لهو الحديث بالغناء، وتفسيره بأخبار الأعاجم وسلوكها، وملوك الروم، ونحو ذلك، مما كان النضر بن الحارث يحدث به أهل مكة يشغلهم به عن القرآن، فكلاهما: لهو الحديث.

ولهذا قال "ابن عباس: لهو الحديث: الباطل والغناء"، فمن الصحابة من ذكر هذا، ومنهم من ذكر الآخر، ومنهم من جمعهما. والغناء أشد لهوا، وأعظم ضررا، من أحاديث الملوك وأخبارهم، فإنه رقية الزنى، ومثبت النفاق، وشرك الشيطان، وخمرة العقل، وصده عن القرآن أعظم من صد غيره من الكلام الباطل، لشدة ميل النفوس إليه، ورغبتها فيه.

إذا عرف هذا، فأهل الغناء ومستمعوه لهم نصيب من هذا الذم، بحسب اشتغالهم بالغناء عن القرآن، وإن لم ينالوا جميعه، فإن الآيات تضمنت ذم من استبدل لهو الحديث كما بالقرآن، ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزوا.

وإذا يتلى عليه القرآن، ولى مستكبرا كأن لم يسمعه، كأن في أذنيه وقرا، وهو الثقل والصمم، وإذا علم منه شيئا استهزأ به، فمجموع هذا لا يقع إلا من أعظم الناس كفرا؛ وإن وقع بعضه للمغنين ومستمعيهم، فلهم حصة ونصيب من هذا الذم.

يوضحه: أنك لا تجد أحدا، عني بالغناء وسماع

ص: 176

آلاته، إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى، علما وعملا؛ وفيه رغبة عن استماع القرآن، إلى استماع الغناء، بحيث إذا عرض له سماع الغناء، وسماع القرآن، عدل عن هذا إلى ذاك، وثقل عليه سماع القرآن.

وربما حمله الحال، على أن يسكت القارئ، ويستطيل قراءته، ويستزيد المغني، ويستقصر نوبته، وأقل ما في هذا: أن يناله نصيب وافر من هذا الذم، إن لم يحظ به جميعه.

والكلام في هذا، مع من في قلبه بعض حياة يحس بها، فأما من مات قلبه، وعظمت فتنته، فقد سد على نفسه طريق النصيحة، {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [سورة المائدة آية: 41] انتهى كلامه رحمه الله.

ومن الآيات الدالة على ذم الأغاني والمعازف وهي: آلات الملاهي، قوله تعالى:{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً} [سورة الإسراء آية: 64]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72] .

وقد فسر الصوت والزور بالغناء وآلات الملاهي؛ وفسر الصوت أيضا بكل صوت يدعو إلى باطل؛ وفسر

ص: 177

الزور، بكل منكر؛ ولا منافاة بين التفاسير، ومدلول الآيتين يعم ذلك كله.

ولا ريب أن الأغاني والملاهي من أقبح الزور، ومن أخبث أصوات الشيطان، لما يترتب عليها من قسوة القلوب، وصدها عن ذكر الله وعن القرآن، بل وعن جميع الطاعات إلا من عصم الله، كما سلف بيان ذلك.

وأما الأحاديث الواردة في ذم الأغاني والملاهي، فكثيرة؛ وأصحها ما رواه البخاري في صحيحه، حيث قال: وقال هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري، قال حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني، سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف".

وهو صريح في ذم مستحلي المعازف، حيث قرنهم مع مستحلي الزنى والخمر والحرير، وحجة ظاهرة في تحريم استعمال المعازف، وهي آلات الملاهي، كالطنبور، والعود، والطبل، وغير ذلك من آلات الملاهي.

وقد أجمع أهل اللغة على تفسير المعازف بآلات الملاهي، وما ذاك إلا لما يترتب عليها من قسوة القلوب ومرضها، واشتغالها عن الصلاة والقرآن، وإذا انضم إليه الغناء، صار الإثم أكبر، والفساد أعظم، كما سيأتي كلام

ص: 178

أهل العلم في ذلك، وقد تقدم لك بعضه.

وأما "الحر" فيروى بالحاء المهملة والراء، وهو الفرج، والمراد به الزنى، ويروى بالخاء المعجمة والزاي، وهو نوع من الحرير.

وقد أخذ علماء الإسلام بهذا الحديث، وتلقوه بالقبول، واحتجوا به على تحريم المعازف كلها. وقد أعله ابن حزم وأبو تراب بعده، تعليلا له: بأنه منقطع بين البخاري رحمه الله، وبين شيخه هشام بن عمار، لكونه لم يصرح بسماعه منه، وإنما علقه عنه تعليقا.

وقد أخطأ ابن حزم في ذلك، وأنكر عليه أهل العلم هذا القول، وخطؤوه فيه، لأن هشاما من شيوخ البخاري، وقد علقه عنه جازما به، وما كان كذلك فهو صحيح عنده؛ وقد قبل منه أهل العلم ذلك، وصححوا ما علقه جازما به إلى من علقه عنه.

وهذا الحديث من جملة الأحاديث المعلقة الصحيحة، ولعل البخاري لم يصرح بسماعه منه، لكونه رواه عنه بالإجازة، أو في معرض المذاكرة، أو لكونه رواه عنه بواسطة بعض شيوخه الثقات، فحذفه اختصارا، أو لغير ذلك من الأسباب المقتضية للحذف.

وعلى فرض انقطاعه بين البخاري وهشام، فقد رواه عنه غيره متصلا عن هشام بن عمار

الخ، بأسانيد صحيحة؛

ص: 179

وبذلك بطلت شبهة ابن حزم، ومقلده أبي تراب، واتضح الحق لطالب الحق، والله المستعان.

وإليك أيها القارئ كلام أهل العلم في هذا الحديث، وتصريحهم بخطأ ابن حزم في تضعيفه، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري، رحمه الله، لما ذكر هذا الحديث، وذكر كلام الزركشي وتخطئته ابن حزم في تضعيفه، قال ما نصه:

وأما دعوى ابن حزم التي أشار إليها- يعني الزركشي- فقد سبقه إليها ابن الصلاح في علوم الحديث، فقال: التعليق في أحاديث من صحيح البخاري قطع إسنادها، وصورته صورة الانقطاع، وليس حكمه حكمه، ولا خارجا ما وجد ذلك فيه من قبيل الصحيح إلى قبيل الضعيف.

ولا التفات إلى أبي محمد بن حزم الظاهري الحافظ في رد ما أخرجه البخاري من حديث أبي عامر، أو أبي مالك الأشعري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليكونن في أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف" الحديث، من جهة أن البخاري أورده قائلا: قال هشام بن عمار، وساقه بإسناده، فزعم ابن حزم أنه منقطع فيما بين البخاري وهشام، وجعله جوابا عن الاحتجاج به على تحريم المعازف، وأخطأ في ذلك من وجوه.

والحديث صحيح معروف الاتصال بشرط الصحيح، والبخاري قد يفعل مثل ذلك، لكونه قد ذكر ذلك الحديث في

ص: 180

موضع آخر من كتابه مسندا متصلا، وقد يفعل ذلك لغير ذلك من الأسباب، التي لا يصحبها خلل الانقطاع. انتهى.

ثم قال الحافظ بعدما نقل كلام ابن الصلاح المذكور بأسطر، ما نصه: وقد تقرر عند الحافظ، أن الذي يأتي به البخاري من التعاليق كلها بصيغة الجزم، يكون صحيحا إلى من علق عنه، ولو لم يكن من شيوخه؛ لكن إذا وجد الحديث المعلق من رواية بعض الحفاظ، موصولا إلى من علق عنه، بشرط الصحة، أزال الإشكال.

ولهذا عنيت في ابتداء الأمر بهذا النوع، وصنفت كتاب تعليق التعليق. وقد ذكر شيخنا في شرح الترمذي، وفي كلامه على علوم الحديث: أن حديت هشام بن عمار جاء عنه موصولا في مستخرج الإسماعيلي، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا هشام بن عمار.

وأخرجه الطبراني في مسند الشاميين، فقال: حدثنا محمد بن يزيد بن عبد الصمد، حدثنا هشام بن عمار، قال: وأخرجه أبو داود في سننه، فقال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر بسنده. انتهى.

وقال العلامة: ابن القيم رحمة الله عليه، في الإغاثة، لما ذكر هذا الحديث، ما نصه: هذا حديث أخرجه البخاري في صحيحه محتجا به، وعلقه تعليقا مجزوما به، فقال: باب فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه.

ص: 181

وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس الكلابي، حدثني عبد الرحمن بن غنم الأشعري.

قال: حدثني أبو عامر، أو أبو مالك الأشعري، والله ما كذبني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليكونن من أمتي أقوام، يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام، إلى جنب علم، يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم لحاجة، فيقولوا: ارجع إلينا غدا، فيبيتهم الله تعالى ويضع العلم، ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة".

ولم يصنع من قدح في صحة هدا الحديث شيئا كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنه منقطع، لأن البخاري لم يصل سنده به، وجواب هذا الوهم من وجوه:

أحدها: أن البخاري قد لقي هشام بن عمار وسمع منه، فإذا قال: قال هشام فهو بمنزلة قوله عن هشام.

الثاني: أنه لو لم يسمع منه، فهو لم يستجز الجزم به عنه، إلا وقد صح عنه أنه حدث به؛ وهذا كثيرا ما يكون لكثرة من رواه عنه عن ذلك الشيخ وشهرته؛ فالبخاري أبعد خلق الله من التدليس.

الثالث: أنه أدخله في كتابه المسمى بالصحيح محتجا به، فلولا صحته عنده لما فعل ذلك.

ص: 182

الرابع: أنه علقه بصيغة الجزم، دون صيغة التمريض، فإنه إذا توقف في الحديث، أو لم يكن على شرطه، يقول: ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويذكر عنه، ونحو ذلك، فإذا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد جزم وقطع بإضافته إليه.

الخامس: أنا لو أضربنا عن هذا كله صفحا، فالحديث صحيح متصل عند غيره، قال أبو داود في كتاب اللباس: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة، حدثنا بشر بن بكر، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثنا عطية بن قيس، قال سمعت: عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثنا أبو عامر، أو أبو مالك، فذكره مختصرا. ورواه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه الصحيح مسندا، فقال أبو عامر ولم يشك.

ووجه الدلالة منه: أن المعازف هي آلات اللهو كلها، لا خلاف بين أهل اللغة في ذلك، ولو كانت حلالا لما ذمهم على استحلالها، ولما قرن استحلالها باستحلال الخمر.

و"الحر" فإن كان بالحاء والراء المهملتين، فهو استحلال الفروج الحرام، وإن كان بالخاء والزاي المعجمتين، فهو نوع من الحرير، غير الذي صح عن الصحابة رضي الله عنهم لبسه؛ إذ الخز نوعان: أحدهما من حرير، والثاني من صوف، وقد روي هذا الحديث من وجهين.

ص: 183

وقال ابن ماجه في سننه: حدثنا عبد الله بن سعيد، عن معاوية بن صالح، عن حاتم بن حريث، عن ابن أبي مريم، عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري، عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليشربن ناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها، يعزف على رؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف الله بهم الأرض، ويجعل منهم قردة وخنازير" 1 وهذا إسناد صحيح.

وقد توعد مستحلي المعازف فيه، بأن يخسف الله بهم الأرض، ويمسخهم قردة وخنازير؛ وإن كان الوعيد على جميع هذه الأفعال، فلكل واحد قسط في الذم والوعيد.

وفي الباب عن سهل بن سعد الساعدي، وعمران بن حصين، وعبد الله بن عمرو، وعبد الله بن عباس، وأبي هريرة، وأبي أمامة الباهلي، وعائشة أم المؤمنين؛ وعلي بن أبي طالب، وأنس بن مالك، وعبد الرحمن بن سابط، والغازي بن ربيعة، ونحن نسوقها لتقر بها عيون أهل القرآن، وتشجى بها حلوق أهل سماع الشيطان، ثم ساقها كلها.

ولولا طلب الاختصار، لنقلتها لك أيها القارئ الكريم، ولكني أحيل الراغب في الاطلاع عليها على كتاب الإغاثة، حتى يرى ويسمع ما تقر به عينه، ويشفي به قلبه، وهو على كثرتها وتعدد مخارجها، حجة ظاهرة، وبرهان قاطع، على تحريم الأغاني والملاهي، والتنفير منها، تضاف

1 أبو داود: الأشربة (3688)، وابن ماجه: الفتن (4020) .

ص: 184

إلى ما تقدم من الآيات والأحاديث، الدالة على تحريم الأغاني والمعازف.

ويدل الجميع على أن استعمالها، والاشتغال بها من وسائل غضب الله، وحلول عقوبته، والضلال والإضلال عن سبيله؛ نسأل الله لنا وللمسلمين العافية من ذلك، والسلامة من مضلات الفتن، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وأما كلام العلماء في الأغاني والمعازف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فهو كثير جدا، وقد سبق لك بعضه. وإليك جملة من كلامهم، على سبيل التكملة والتأييد لما تقدم، والله ولي التوفيق.

روى علي بن الجعد وغيره، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:"الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء الزرع" وقد روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعا والمحفوظ أنه من كلام ابن مسعود رضي الله عنه.

قال العلامة بن القيم، رحمه الله، في كتاب:"الإغاثة" لما ذكر هذا الأثر، ما نصه: فإن قيل فما وجه إنباته للنفاق في القلب، من بين سائر المعاصي؟

قيل: هذا من أدل شيء على فقه الصحابة، في أحوال القلوب وأعمالها، ومعرفتهم بأدويتها، وأدوائها، وأنهم: هم أطباء القلوب، دون المنحرفين عن طريقتهم الذين داووا

ص: 185

أمراض القلوب بأعظم أدوائها، فكانوا كالمداوي من السقم بالسم القاتل.

وهكذا والله فعلوا بكثير من الأدوية التي ركبوها أو بأكثرها، فاتفق قلة الأطباء وكثرة المرضى، وحدوث أمراض مزمنة لم تكن في السلف، والعدول عن الدواء النافع الذي ركبه الشارع، وميل المريض إلى ما يقوى مادة المرض، فاشتد البلاء وتفاقم الأمر، وامتلأت الدور والطرقات والأسواق من المرضى، وقام كل جهول يطبب الناس.

فاعلم أن للغناء خواص لها تأثير في صبغ القلب بالنفاق، ونباته فيه كنبات الزرع بالماء. فمن خواصه: أنه يلهي القلب ويصده عن فهم القرآن وتدبره والعمل بما فيه.

فإن القرآن والغناء لا يجتمعان في القلب أبدا، لما بينهما من التضاد؛ فإن القرآن ينهى عن اتباع الهوى، ويأمر بالعفة ومجانبة شهوات النفوس وأسباب الغي، وينهى عن اتباع خطوات الشيطان.

والغناء يأمر بذلك كله ويحسنة، ويهيج النفوس إلى شهوات الغي، فيثير كامنها، ويزعج قاطنها، ويحركها إلى كل قبيح، ويسوقها إلى وصل كل مليحة ومليح؛ فهو والخمر رضيعا لبان، وفي تهييجهما على القبائح فرسا- رهان؛ فإنه صنو الخمر ورضيعه، ونائبه وحليفه، وخدينه وصديقه، عقد الشيطان بينهما شريعة الوفاء التي لا تفسخ.

ص: 186

وهو جاسوس القلب، وسارق المروءة، وسوس العقل، يتغلغل في مكامن القلب، ويطلع على سرائر الأفئدة، ويدب على محل التخيل، فيثير ما فيه من الهوى والشهوة، والسخافة والرقاعة، والرعونة والحماقة.

فبينا الرجل وعليه سمة الوقار، وبهاء العقل وبهجة الإيمان، ووقار الإسلام، وحلاوة القرآن، فإذا استمع الغناء ومال إليه، نقص عقله وقل حياؤه، وذهبت مروءته، وفارقه بهاؤه، وتخلى عنه وقاره، وفرح به شيطانه، وشكا إلى الله تعالى إيمانه، وثقل عليه قرآنه، وقال: يا رب لا تجمع بيني وبين قرآن عدوك في صدر واحد.

فاستحسن ما كان قبل السماع يستقبحه، وأبدى من سره ما كان يكتمه، وانتقل من الوقار والسكينة، إلى كثرة الكلام والكذب، والهزهزة، والفرقعة بالأصابع، فيميل برأسه، ويهز منكبيه، ويضرب الأرض برجليه، ويدق على أم رأسه بيديه، ويثب وثبات الذباب، ويدور دوران الحمار في الدولاب، ويصفق بيديه تصفيق النسوان، ويخور من الوجد كخوران الثيران، وتارة يتأوه تأوه الحزين، وتارة يزعق زعقات المجانين. ولقد صدق الخبير به من أهله، حيث يقول:

أتذكر ليلة وقد اجتمعنا

على طيب السماع إلى الصباح

ودارت بيننا كأس الأغاني

فأسكرت النفوس بغير راح

فلم تر فيهم إلا النشاوى

سرورا والسرور هناك صاحي

ص: 187

إذا نادى أخو اللذات فيه

ولم نملك سوى المهجات شيئا

أجاب اللهو حي على السماح

أرقناها لألحاظ الملاح

وقال بعض العارفين: السماع يورث النفاق في قوم، والعناد في قوم، والكذب في قوم، والفجور في قوم، والرعونة في قوم، وأكثر ما يورث عشق الصور، واستحسان الفواحش؛ وإدمانه يثقل القرآن على القلب، ويكرهه إلى سماعه بالخاصية؛ وإن لم يكن هذا نفاقا فما للنفاق حقيقة.

وسر المسألة: أنه قرآن الشيطان كما سيأتي، فلا يجتمع هو وقرآن الرحمن في قلب أبدا، وأيضا: فإن أساس النفاق، أن يخالف الظاهر الباطنوصاحب الغناء بين أمرين: إما أن يتهتك فيكون فاجرا، أو يظهر النسك فيكون منافقا.

فإنه يظهر الرغبة في الله والدار الآخرة، وقلبه يغلي بالشهوات، ومحبة ما يكرهه الله ورسوله، من أصوات المعازف، وآلات اللهو، وما يدعو إليه الغناء ويهيجه، فقلبه بذلك معمور، وهو من محبة ما يحبه الله ورسوله، وكراهة ما يكره، قفر؛ وهذا محض النفاق.

وأيضا، فمن علامات النفاق: قلة ذكر الله، والكسل عند القيام إلى الصلاة، ونقر الصلاة، وقل أن تجد مفتونا بالغناء إلا وهذا وصفه.

وأيضا: فإن النفاق مؤسس على الكذب، والغناء من أكذب الشعر، فإنه يحسن القبيح ويزينه ويأمر به، ويقبح

ص: 188

الحسن ويزهد فيه، وذلك عين النفاق.

وأيضا: فإن النفاق غش ومكر وخداع، والغناء مؤسس على ذلك. وأيضا: فإن النفاق يفسد من حيث يظن أنه يصلح، كما أخبر الله سبحانه بذلك عن المنافقين.

وصاحب السماع يفسد قلبه وحاله من حيث يظن أنه يصلحه، والمغني يدعو القلوب إلى فتنه الشهوات، والمنافق يدعوها إلى فتنة الشبهات.

قال الضحاك: "الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب" وكتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدب ولده:?"ليكن أول ما يعتقدون من أدبك، بغض الملاهي التي بدؤها من الشيطان، وعاقبتها سخط الرحمن".

فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم أن صوت المعازف، واستماع الأغاني، واللهج بها، ينبت النفاق في القلب، كما ينبت العشب على الماء فالغناء يفسد القلب، وإذا فسد القلب هاج فيه النفاق.

وبالجملة: فإذا تأمل البصير حال أهل الغناء، وحال أهل القرآن، تبين له حذق الصحابة، ومعرفتهم بأدواء القلوب وأدويتها، وبالله التوفيق.

وقال ابن القيم، في موضع آخر من الإغاثة: قال الإمام أبو بكر الطرطوشي- وهو من أئمة المالكية- في خطبة كتابه، في تحريم السماع: الحمد لله رب العالمين، والعاقبة

ص: 189

للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ونسأله أن يرينا الحق حقا فنتبعه، والباطل باطلا فنجتنبه.

وقد كان الناس فيما مضى يستر أحدهم بالمعصية إذا واقعها، ثم يستغفر الله ويتوب إليه منها، ثم كثر الجهل، وقل العلم، وتناقص الأمر، حتى صار أحدهم يأتي المعصية جهارا.

ثم ازداد الأمر إدبارا حتى بلغنا أن طائفة من إخواننا المسلمين- وفقنا الله وإياهم- استزلهم الشيطان، واستغوى عقولهم، في حب الأغاني واللهو، وسماع الطقطقة، والنقير، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله.

وجاهرت به جماعة المسلمين، وشاقت سبيل المؤمنين، وخالفت الفقهاء وحملة الدين {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

فرأيت أن أوضح الحق، وأكشف عن شبهة أهل الباطل، بالحجج التي تضمنها كتاب الله وسنة رسوله. وأبدأ بذكر أقاويل العلماء الذين تدور الفتيا عليهم، في أقاصي الأرض ودانيها، حتى تعلم هذه الطائفة، أنها قد خالفت علماء المسلمين في بدعتها، والله ولي التوفيق.

تم قال أما مالك، فإنه ينهى عن الغناء وعن

ص: 190

استماعه، وقال: إذا اشترى جارية فوجدها مغنية، كان له أن يردها بالعيب.

وسئل مالك رحمه الله عما رخص فيه أهل المدينه من الغناء؟ فقال: إنما يفعله الفساق. قال: وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء، ويجعله من الذنوب.

وكذلك مذهب أهل الكوفة: سفيان، وحماد، وإبراهيم، والشعبي، وغيرهم، لاختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافا أيضا بين أهل البصرة في المنع منه. انتهى كلام الطرطوشي.

قلت: ومراده بالطائفة التي أحبت الغناء، واعتقدته من الدين الذي يقربهم إلى الله: جماعة من الصوفية، أحدثوا بدعة سماع الغناء، وزعموا أنه ينشطهم على العبادة والتقرب إلى الله بأنواع القربات.

فأنكر علماء زمانهم عليهم ذلك، وصاحوا بهم من كل جانب. وأجمع علماء الحق على أن ما أحدثته هذه الطائفة، بدعة منكرة. وألف الطرطوشي: كتابه المشار إليه في الرد عليهم، وبيان بطلان مذهبهم.

ومن هنا، يعلم القارئ أن المفتونين بسماع الغناء والملاهي طائفتان: الطائفة الأولى: اتخذته دينا وعبادة، وهم شر الطائفتين وأشدهما إثما وخطرا، لكونهم ابتدعوا في الدين ما لم يأذن به الله، وجعلوا الغناء والملاهي اللذين

ص: 191

هما أداة الفسق والعصيان دينا يتقربون به إلى الملك الديان.

والطائفة الثانية: اتخذوا الغناء والملاهي لهوا ولعبا، وترويحا عن النفوس، وتسليا بذلك عن مشاغل الدنيا وأتعابها؛ وهم مخطئون في ذلك، وعلى خطر عظيم من الضلال والإضلال.

ولكنهم أخف من الطائفة الأولى، لكونهم لم يتخذوا ذلك دينا وعبادة؛ وإنما اتخذوه لهوا ولعبا وتجميما للنفوس. وقد صرح أهل العلم بتحريم هذا وهذا، وإنكار هذا وهذا.

ثم قال العلامة ابن القيم، رحمة الله عليه، بعدما نقل كلام الطرطوشي المتقدم، ما نصه:

قلت: مذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب، وقوله فيه أغلظ الأقوال، وقد صرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها، كالمزمار، والدف، حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية توجب الفسق وترد به الشهادة.

وأبلغ من ذلك: أنهم قالوا إن السماع فسق، والتلذذ به كفر. هذا لفظهم، ورووا في ذلك حديثا لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به، أو كان في جواره.

وقال أبو يوسف في دار يسمع منها صوت المعازف والملاهي: ادخل عليهم بغير إذنهم، لأن النهي عن المنكر

ص: 192

فرض، فلو لم يجز الدخول بغير إذن، لامتنع الناس من إقامة الفرض. قالوا: ويتقدم إليه الإمام إذا سمع ذلك من داره، فإن أصر حبسه أو ضربه سياطا، وإن شاء أزعجه عن داره.

وأما الشافعي فقال في كتاب أدب القضاء: إن الغناء لهو مكروه، يشبه الباطل والمحال؛ ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته؛ وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حله، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق، وابن الصباغ.

قال الشيخ أبو إسحاق في التنبيه: ولا تصح، يعني- الإجارة- على منفعة محرمة، كالغناء، والزمر، وحمل الخمر، ولم يذكر فيه خلافا. وقال في المهذب: ولا يجوز على المنافع المحرمة، كالغناء، لأنه محرم، فلا يجوز أخذ العوض عنه، كالميتة والدم.

فقد تضمن كلام الشيخ أمورا; أحدها: أن منفعة الغناء بمجرده منفعة محرمة.

الثاني: أن الاستئجار عليها باطل.

الثالث: أن أكل المال به أكل مال بالباطل، بمنْزلة أكله عوضا عن الميتة والدم.

الرابع: أنه لا يجوز لرجل بذل ماله للمغني، ويحرم عليه ذلك، فإنه بذل ماله في مقابلة محرم؛ وأن بذله في ذلك، كبذله في مقابلة الدم والميتة.

الخامس: أن الزمر حرام، وإذا كان الزمر الذي هو

ص: 193

أخف آلات اللهو حراما، فكيف بما هو أشد منه، كالعود، والطنبور، واليراع. ولا ينبغي لمن شم رائحة العلم، أن يتوقف في تحريم ذلك، فأقل ما فيه أنه من شعار العشاق، وشاربي الخمور.

وكذلك قال أبو زكريا النووي، في روضته.

القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء، بما هو من شعار شاربي الخمر، وهو مطرب، كالطنبور، والعود، والصنج، وسائر المعازف، والأوتار، يحرم استعماله واستماعه.

قال: وفي اليراع وجهان، صحح البغوي التحريم، ثم ذكر عن الغزالي الجواز. قال: والصحيح تحريم اليراع، وهو: الشبابة، وقد صنف أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع.

وقد حكى أبو عمرو ابن الصلاح الإجماع على تحريم السماع، الذي جمع الدف، والشبابة، والغناء، فقال في فتاويه:

وأما إباحة هذا السماع وتحليله، فليعلم أن الدف والشبابة والغناء، إذا اجتمعت، فاستماع ذلك حرام عند أئمة المذاهب وغيرهم من علماء المسلمين؛ ولم يثبت عن أحد ممن يعتبر بقوله إلى الإجماع والاختلاف، أنه أباح هذا السماع.

ص: 194

والخلاف المنقول عن بعض أصحاب الشافعي، إنما نقل في الشبابة المنفردة، والدف منفردا، فمن لا يحصل أو لا يتأمل، ربما اعتقد اختلافا بين الشافعيين في هذا السماع الجامع هذه الملاهي، وذلك وهم بيّن من الصائر إليه، تنادي عليه أدلة الشرع والعقل، مع أنه ليس كل خلاف يستروح إليه ويعتمد عليه.

ومن تتبع ما اختلف فيه العلماء، وأخذ بالرخص من أقاويلهم، تزندق، أو كاد، قال: وقولهم في السماع المذكور أنه من القربات والطاعات، قول مخالف لإجماع المسلمين.

ومن خالف إجماعهم، فعليه ما في قوله تعالى:{وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

وأطال الكلام في الرد على هاتين الطائفتين اللتين بلاء المسلمين منهما، المحللون لما حرم الله، والمتقربون إلى الله بما يباعدهم عنه.

والشافعي وقدماء أصحابه، والعارفون بمذهبه، من أغلظ الناس قولا في ذلك، وقد تواترت عن الشافعي، أنه قال: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة، يسمونه: التغبير، يصدون به الناس عن القرآن.

ص: 195

فإذا كان هذا قوله في التغبير، وتعليله أنه يصد عن القرآن، وهو شعر يزهد في الدنيا، يغني به مغن، فيضرب بعض الحاضرين بقضيب على نطع أو مخدة، على توقيع غنائه، فليت شعري ما يقول فيمن سماع التغبير عنده كتفلة في بحر؟ قد اشتمل على كل مفسدة، وجمع كل محرم، فالله بين دينه، وبين كل متعلم مفتون، وعابد جاهل.

قال سفيان بن عيينة: كان يقال: احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون، ومن تأمل الفساد الداخل على الأمة، وجده من هذين المفتونين.

وأما مذهب الإمام أحمد، فقال عبد الله ابنه: سألت أبي عن الغناء؟ قال: الغناء ينبت النفاق في القلب، لا يعجبني. ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق.

قال عبد الله: وسمعت أبي يقول، سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلا عمل بكل رخصة، بقول أهل الكوفه في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، لكان فاسقا.

قال أحمد: وقال سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله"، ونص على كسر آلات اللهو، كالطنبور وغيره، إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها; وعنه في كسرها إذا كانت مغطاة تحت ثيابه وعلم بها روايتان منصوصتان.

ونص في أيتام ورثوا جارية مغنية، وأرادوا بيعها

ص: 196

فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة، فقالوا: إذا بيعت مغنية ساوت عشرين ألفا أو نحوها، وإذا بيعت ساذجة لا تساوي ألفين، فقال: لا تباع إلا على أنها ساذجة.

ولو كانت منفعة الغناء مباحة لما فوت هذا المال على الأيتام. وأما سماعه من المرأة الأجنبية أو الأمرد، فمن أعظم المحرمات، وأشدها فسادا للدين.

قال الشافعي رحمه الله: وصاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها، فهو سفيه ترد شهادته؛ وأغلظ القول فيه وقال: هو دياثة، فمن فعل ذلك كان ديوثا.

قال القاضي أبو الطيب: وإنما جعل صاحبها سفيها، لأنه دعا الناس إلى الباطل، ومن دعا الناس إلى الباطل كان سفيها فاسقا، قال: وكان الشافعي يكره التغبير وهو الطقطقة بالقضيب ويقول: وضعته الزنادقة ليشغلوا به عن القرآن.

قال: وأما العود، والطنبور وسائر الملاهي فحرام، ومستمعه فاسق، واتباع الجماعة أولى من اتباع رجلين مطعون عليهما، قلت: يريد بهما: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن.

فإنه قال: وما خالف في الغناء إلا رجلان: إبراهيم بن سعد، فإن الساجي حكى عنه أنه كان لا يرى به بأسا، والثاني: عبيد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة، وهو مطعون فيه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

ص: 197

ونقل القرطبي في تفسيره عن الطبري ما نصه:

فقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه، وإنما فارق الجماعة: إبراهيم بن سعد، وعبيد الله العنبري. انتهى.

قلت: وإبراهيم بن سعد، وعبيد الله بن الحسن العنبري، من ثقات أتباع التابعين، ولعل ما نقل عنهما من سماع الغناء، إنما هو في الشيء القليل الذي يزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة؛ وحملهما على أحسن المحامل أولى من حملهما على سماع الغناء المحرم.

وهكذا يروى عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من سماع الغناء وشراء الجواري المغنيات، يجب أن يحمل على الشيء اليسير الذي لا يصد عن الحق، ولا يوقع في الباطل، مع أن ابن عمر والحسن البصري، قد أنكر عليه ذلك.

ومعلوم عند أهل العلم والإيمان أن الحق أولى بالاتباع، وأنه لا يجوز مخالفة الجماعة، والأخذ بالأقوال الشاذة من غير برهان؛ بل يجب حمل أهلها على أحسن المحامل، مهما وجد إلى ذلك سبيل، إذا كانوا أهلا لإحسان الظن بهم، لما عرف من تقواهم وإيمانهم.

وسبق لك أيها القارئ قول سليمان التيمي: "لو أخذت برخصة كل عالم، أو زلة كل عالم، اجتمع فيك الشر كله".

وذكر القرطبي في تفسيره ما نصه:

ص: 198

قال أبو الفرج، وقال القفال من أصحابنا: لا تقبل شهادة المغني والرقاص.

قلت: وإذ قد ثبت أن هذا الأمر لا يجوز، فأخذ الأجرة لا يجوز. وقد ادعى ابن عبد البر الإجماع على تحريم الأجرة على ذلك. انتهى ما نقله القرطبي.

وهذا آخر ما تيسر إملاؤه في هذه المسألة- أعني: مسألة الأغاني والمعازف- ولو ذهبنا نتتبع ما جاء في ذلك من الأحاديث والآثار، وكلام أهل العلم، لطال بنا الكلام; وفيما تقدم كفاية ومقنع لطالب الحق، وأما صاحب الهوى فلا حيلة فيه.

ونسأل الله لنا ولسائر المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه وموجبات نقمه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

ونصيحتي لأبي تراب وغيره، من المشغوفين بالغناء والمعازف، أن يراقبوا الله، ويتوبوا إليه، وأن ينيبوا إلى الحق، لأن الرجوع إلى الحق فضيلة، والتمادي في الباطل رذيلة، ولولا طلب الاختصار، لنبهنا على جميع ما وقع في مقال أبي تراب من الأخطاء.

وصاحب البصيرة يعرف ذلك مما تقدم، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حوله ولا قوة إلا بالله، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على عبده ورسوله محمد، وآله وصحبه وسلم.

ص: 199

[فصل في اللعب بالكرة وممارسة الألعاب الرياضية]

فصل: ومن الملاهي ما يسمونه: "لعب الكرة" لم يكن في عهد الخلفاء، ولا ملوك المسلمين، ولا في هذه الدعوة المباركة، إلى وفاة الشيخ عبد الله.

وإنما سرت إلى هذه المملكة، من تلاميذ الغرب، حيث تلقتها بعض الدول المنحلة، عن الترك وغيرهم؛ فقد رغب فيها من قل نصيبه من العلم والدين، ليصدوا بها عن ذكر الله وعن الصلاة، وحتى يترك بعضهم صلاة العصر والمغرب، وحتى قال من لا نصيب له من الإسلام: إن الصلاة رياضة، وهذه بدلها.

وقد أنكر ذلك من له غيرة على دين الإسلام، من معلمين وغيرهم، فعسى الله أن يوفق ولاة أمورنا لمنعهم، ويقيموا مكانها، التعليم على آلات الحرب، ليدفعوا عدوهم عن بلادهم، وعسى الله أن يؤيدهم بروح منه، فيقيموا علم الجهاد، مقتفين بذلك آثار آبائهم، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، والله الموفق.

ص: 200

[جواب الشيخ محمد بن إبراهيم عن ممارسة الألعاب الرياضية]

وقد سئل الشيخ: محمد بن إبراهيم، رحمه الله تعالى، عن ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، هل هي جائزة أم لا؟ وعن حكم الرياضة في الإسلام؟

فأجاب رحمه الله تعالى بما يلي:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فالجواب على السؤال الأولى، الخاص بطلب حكم ممارسة الألعاب الرياضية، بالقرب من المسجد، لا يخلو الحال من أمرين، إما أن يكون اللعب بأنواع الرياضات، في وقت الصلاة المكتوبة، أو ما يقارب وقتها قبل دخوله، فهذا لا يجوز بحال؛ وهو من المنكرات الواجب إنكارها، حكمه حكم غيره مما يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة.

وإما أن تكون ممارسة الألعاب الرياضية في غير أوقات الصلاة، فما كان منها مباحا، كالسباق، والسباحة، والمصارعة، ونضال السهام، وما يشبهه، ونحو هذه الأمور، فإذا لم يكن في ممارستها قرب المسجد، ما يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، فلا نرى مانعا يمنع جوازه. لما في ممارسة هذه الألعاب، من تنشيط للأبدان، وقلع الأمراض المزمنة فيها، وتقوية لها على الأعمال الخيرية، كالجهاد، والتدريب على الكر والفر.

فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن عائشة

ص: 201

رضي الله عنها، أنها قالت:"لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما على باب حجرتي، والحبشة يلعبون فى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه، أنظر إلى لعبهم" 1 وفي رواية لهما: "رأيت النبي صلى الله عليه وسلم والحبشة يلعبون بحرابهم"2.

وفي رواية عند أحمد عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لتعلم يهود أن في ديننا فسحة، إني أرسلت بحنيفية سمحة" 3 ففي هذا الحديث دليل على جواز اللعب بالحراب في المسجد، لا سيما إذا كان اللعب من أناس يشبهون الحبشة في التأثر بهذه الألعاب.

قال المهلب في فتح الباري، في شرح "باب أصحاب الحراب في المسجد": المسجد موضوع لأمر جماعة من المسلمين، فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله، جاز فيه.

وقال النووي في شرح صحيح مسلم: وفيه- أي: في هذا الحديث- جواز اللعب بالسلاح ونحوه، من آلات الحرب، ويقاس عليه ما في معناه، من الأشياء المعينة على الجهاد، وأنواع البر.

فما دام الأمر هكذا في نفس المسجد، فما كان بالقرب منه أولى بالجواز، بشرط أن يكون اللعب في غير أوقات الصلوات، وألا يشوش على من في المسجد، من قراء ومصلين ونحوهم، وأن يكون مثمرا منفعة الدين وأهله.

1 البخاري: الصلاة (455)، ومسلم: صلاة العيدين (892)، والنسائي: صلاة العيدين (1594 ،1595) ، وأحمد (6/56 ،6/166 ،6/186 ،6/247 ،6/270) .

2 البخاري: الصلاة (455) .

3 أحمد (6/116) .

ص: 202

[حكم الرياضة في الإسلام]

أما السؤال: عن حكم الرياضة في الإسلام، فلا شك في جواز، أو استحباب، ما كان منها بريئا هادفا، مما فيه تدريب على الجهاد، وتنشيط للأبدان، وقلع للأمراض، وتقوية للأرواح.

فلقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سابق بالأقدام وسابق بين الإبل، وسابق بين الخيل، وحضر نضال السهام، وصارع مع إحدى الطائفتين، وطعن بالرمح، وركب الخيل مسرجة ومعراة، وصارع ركانة فصرعه.

وقد بسط الإمام ابن القيم رحمه الله بحث هذا في كتابه: "الفروسية" كما أشار رحمه الله في كتاب زاد المعاد، إلى أن ركوب الخيل، ورمي النشاب، والمصارعة، والمسابقة بالأقدام، كل ذلك رياضة للبدن، قالعة للأمراض المزمنة، كالاستسقاء، والقولنج.

ونص شيخه، شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، على حكم الشرع في الكرة نفسها 1 فقال في باب السبق، في مختصر فتاواه: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر،

1 الكرة: كثبة، معروفة; وهي: ما أدرت من شيء; وفي الصحاح، هي: التي تضرب بالصولجان; وفي التهذيب: الصولجان عصا يعطف طرفها، يضرب بها الكرة على الدواب. وانظر ما ذكره ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية ج/12 عن سيرة الملك نور الدين محمود زنكي بأنه كان يكثر اللعب بها

إلخ.

ص: 203

والدخول والخروج، ونحوه، في الجهاد، وغرض الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن كان في ذلك مضرة بالخيل أو الرجال، فإنه ينهى عنه.

وبمناسبة الحديث عن الألعاب الرياضية، وتعريجنا على اللعب بالكرة، وإيرادنا ما ذكره الشيخ من النهي عن اللعب بها، إذا كان فيه مضرة بالخيل أو الرجال. يحسن أن نغتنم هذه الفرصة لنقول بأن اللعب بالكرة الآن 1 يصاحبه من الأمور المنكرة، ما يقضي بالنهي عن لعبها، هذه الأمور، نلخصها فيما يأتي:

أولا: ثبت لدينا مزاولة لعبها في أوقات الصلاة، مما ترتب عليه ترك اللاعبين ومشاهديهم للصلاة، أو الصلاة جماعة، أو تأخيرهم أدائها عن وقتها؛ ولا شك في تحريم أي عمل يحول دون أداء الصلاة في وقتها، أو يفوت فعلها جماعة، ما لم يكن ثم عذر شرعي.

ثانيا: ما عن طبيعة هذه اللعبة من التحزبات، أو إثارة الفتن، وتنمية الأحقاد، وهذه النتائج عكس ما يدعو إليه الإسلام من وجوب التسامح، والتآلف والتآخي، وتطهير النفوس والضمائر من الأحقاد، والضغائن والتنافر.

ثالثا: ما يصاحب اللعب بها من الأخطار على أبدان اللاعبين بها، نتيجة التصادم والتلاكم، مع ما سبق ذكره،

1 يريد الآلة الحادثة المعبأة بالهواء.

ص: 204

فلا ينتهي اللاعبون بها من لعبتهم في الغالب، دون أن يسقط بعضهم في ميدان اللعب مغمى عليه، أو مكسورة رجله أو يده، وليس أدل على صدق هذا، من ضرورة وجود سيارة إسعاف طبية تقف بجانبهم وقت اللعب بها.

رابعا: عرفنا مما تقدم، أن الغرض من إباحة الألعاب الرياضية، تنشيط الأبدان، والتدريب على القتال، وقلع الأمراض المزمنة، ولكن اللعب بالكرة الآن لا يهدف إلى شيء من مبررات إباحة الألعاب الرياضية.

وإن هدف إلى شيء من ذلك، فقد اقترن به- مع ما سبق ذكره- ابتزاز المال بالباطل، فضلا عن أنه يعرض الأبدان للإصابات، وينمي في نفوس اللاعبين والمشاهدين الأحقاد وإثارة الفتن.

بل قد يتجاوز أمر تحيز بعض المشاهدين لبعض اللاعبين، إلى الاعتداء والقتل، كما حدث في إحدى مباريات جرت في إحدى المدن منذ أشهر، ويكفي هذا بمفرده لمنعها، وبالله التوفيق. انتهى 1.

1 من مجموع: الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله ج/8 ، وأضفناه هنا للحاجة إليه.

ص: 205

[قول الشيخ حمود التويجري من التشبه بأعداء الله، اللعب بالكرة]

وقال الشيخ: حمود بن عبد الله التويجري، رحمه الله 1:

ومن التشبه بأعداء الله تعالى: اللعب بالكرة على الوجه المعمول به عند السفهاء في هذه الأزمان، وذلك: لأن اللعب بها على هذا الوجه، مأخوذ عن الإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وقد رأيت عمل الأمريكان في أخشاب الكرة، ومواضع اللعب بها، ورأيت عمل سفهاء المسلمين في ذلك، فرأيته مطابقا لعمل الأمريكان أتم المطابقة.

وقد تقدم حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تشبه بقوم فهو منهم" 2، وتقدم أيضا حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من تشبة بغيرنا"3.

إذا علم هذا، فاللعب بالكرة على الوجه الذي أشرنا إليه، من جملة المنكر الذي ينبغي تغييره، وبيان ذلك من وجوه:

أحدها: ما فيه من التشبه بالإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى، وأقل الأحوال في حديث عبد الله بن عمر، وحديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهم، أنهما يقتضيان تحريم التشبه بأعداء الله تعالى، في كل شيء من زيهم

1 في كتابه: "الإيضاح والتبيين لما وقع فيه الأكثرون من مشابهة المشركين" طبع سنة 1384 هـ.

2 أبو داود: اللباس (4031) .

3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) .

ص: 206

وأفعالهم، ففيها دليل على المنع من اللعب بالكرة.

ويدل على المنع من اللعب بها أيضا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المشركين" 1 متفق عليه، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، ويدل على المنع منه أيضا، قول النبي صلى الله عليه وسلم:"هدينا مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك" رواه الشافعي مرسلا، والحاكم موصولا، من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنهما.

الوجه الثاني: ما في اللعب بها من الصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذا أمر معروف عند الناس عامتهم وخاصتهم، وربما أوقعت الحقد بين اللاعبين، حتى يؤول بهم ذلك إلى العداوة والبغضاء.

وتعاطي ما يصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وما يوقع العداوة والبغضاء بين المسلمين حرام، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 90-91-92] .

واللعب بالكرة نوع من الميسر، لأنه يلهي عن ذكر الله وعن الصلاة، وقد روى ابن جرير في تفسيره، من طريق عبيد الله بن عمر، أنه سمع عمر بن عبيد الله، يقول

1 البخاري: اللباس (5892)، ومسلم: الطهارة (259) .

ص: 207

للقاسم بن محمد: النرد ميسر، أرأيت الشطرنج: ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة، فهو ميسر، وإذا كان اللعب بالكرة على عوض، فهو من الميسر بلا شك.

قال الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني: كل لعب فيه قمار، فهو محرم، أي لعب كان، وهو من الميسر الذي أمر الله تعالى باجتنابه، ومن تكرر منه ذلك ردت شهادته. انتهى.

وقد روى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، أنهما قالا:"الميسر القمار"، وروى أيضا عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وطاووس، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة والسدي، ومكحول، وعطاء بن ميسرة نحو ذلك.

وفي رواية له عن مجاهد، وسعيد بن جبير، أنهما قالا:"الميسر: القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان"، وفي رواية له عن طاووس وعطاء قالا:"كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز".

وذكر ابن كثير في تفسيره، عن راشد بن سعد، وضمرة بن حبيب، أنهما قالا:"حتى الكعاب والجوز والبيض، التي يلعب بها الصبيان".

وقال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله

ص: 208

تعالى: الميسر محرم بالنص والإجماع.

إذا علم هذا، فمن استحل العوض على اللعب بالكرة، فقد استحل ما هو محرم بالنص والإجماع، من الميسر، وأكل المال بالباطل، وقد قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة النساء آية: 29] .

وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله أبى علي أن يدخل الجنة لحما نبت من سحت، فالنار أولى به" 1 رواه الحاكم في مستدركه من حديث عبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وفي المستدرك أيضا، من حديث جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا كعب بن عجرة، إنه لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به" 2 وفي المستدرك أيضا، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به"3.

وفي المستدرك أيضا، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"من نبت لحمه من السحت، فالنار أولى به"، وروى أبو نعيم في الحلية، من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به"4.

1 أحمد (3/321 ،3/399)، والدارمي: الرقاق (2776) .

2 أحمد (3/321)، والدارمي: الرقاق (2776) .

3 أحمد (3/399) .

4 أحمد (3/399) .

ص: 209

الوجه الثالث: أن في اللعب بالكرة ضررا على اللاعبين، فربما سقط أحدهم، فتخلعت أعضاؤه، وربما انكسرت رجل أحدهم، أو يده، أو بعض أضلاعه، وربما حصل فيه شجاج في وجهه، أو رأسه، وربما سقط أحدهم فغشي عليه ساعة، أو أكثر أو أقل، بل ربما آل الأمر ببعضهم إلى الهلاك، كما قد ذكر لنا عن غير واحد من اللاعبين بها، وما كان هذا شأنه، فاللعب به لا يجوز.

الوجه الرابع: أن اللعب بالكرة من الأشر والمرح، ومقابلة نعم الله تعالى بضد الشكر، وقد قال الله تعالى:{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [سورة الإسراء آية: 37] ، واللعب بالكرة نوع من المرح.

وروى البخاري في الأدب المفرد، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأشرة: شر" قال أبو معاوية أحد رواته، الأشرة: العبث، واللعب بالكرة نوع من العبث؛ فلا يجوز.

الوجه الخامس: ما في اللعب بها من اعتياد وقاحة الوجوه، وبذاءة الألسن، وهذا معروف عن اللاعبين بها.

وقد ألجأني الطريق مرة إلى المرور من عند اللاعبين بها، فسمعت منهم ما تستك منه الأسماع من كثرة الصخب والتخاطب بالفحش، ورديء الكلام، وسمعت بعضهم يقذف

ص: 210

بعضا، ويلعن بعضهم بعضا، وما أدى إلى هذا أو بعضه، فهو حرام بلا ريب.

الوجه السادس: ما في اللعب بها أيضا، من كشف الأفخاذ، ونظر بعضهم إلى فخذ بعض، ونظر الحاضرين إلى أفخاذ اللاعبين، وهذا لا يجوز، لأن الفخذ من العورة، وستر العورة واجب، إلا من الزوجات والسراري.

لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك" 1 رواه الإمام أحمد، وأهل السنن، والحاكم في مستدركه، من حديث بهز بن حكيم، عن أبيه عن جده رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

والدليل على أن الفخذ من العورة: ما رواه مالك، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن حبان، والحاكم عن جرهد الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم مر به وهو كاشف عن فخذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"غط فخذك، فإنها من العورة" 2 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد، والترمذي، والحاكم أيضا، عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الفخذ عورة" 3، هذا لفظ الترمذي.

ولفظ الحاكم: "مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل، فرأى

1 الترمذي: الأدب (2769)، وابن ماجه: النكاح (1920) .

2 الترمذي: الأدب (2796) .

3 الترمذي: الأدب (2798)، وأبو داود: الحمام (4014) .

ص: 211

فخذه مكشوفة، فقال: غط فخذك، فإن فخذ الرجل من عورته" 1.

قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.

وروى أبو داود، وابن ماجه، وعبد الله بن الإمام أحمد، والحاكم، عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تكشف فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" 2، وفي رواية للدارقطني:"لا تكشف عن فخذك، فإن الفخذ من العورة".

وروى الإمام أحمد والبخاري في التأريخ الكبير، والحاكم في مستدركه، عن محمد بن عبد الله بن جحش رضي الله عنه قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، على معمر، وفخذاه مكشوفتان، فقال: يا معمر، غط عليك فخذيك، فإن الفخذين عورة"3.

وروى الدارقطني في سننه، عن أبي أيوب رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما فوق الركبتين من العورة، وما أسفل من السرة من العورة"4.

وروى أيضا: من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما تحت السرة إلى الركبة من العورة".

إذا علم هذا، فالنظر إلى عورة الغير حرام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي رضي الله عنه:"ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت"5.

1 أحمد (1/275) .

2 أبو داود: الحمام (4015)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) ، وأحمد (1/146) .

3 أحمد (5/290) .

4 أحمد (2/187) .

5 أبو داود: الحمام (4015)، وابن ماجه: ما جاء في الجنائز (1460) ، وأحمد (1/146) .

ص: 212

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة" 1 رواه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

الوجه السابع: أن اللعب بالكرة من اللهو الباطل قطعا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 2 وفي رواية: "وتعليم السباحة" رواه الامام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

فدل هذا الحديث الصحيح على أن اللعب بالكرة من الضلال، لقول الله تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} 3، قال الخطابي، رحمه الله تعالى: في هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها إذا تأملتها، وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه، ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوهما، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو.

فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب

1 مسلم: الحيض (338) ، وأحمد (3/63) .

2 الترمذي: فضائل الجهاد (1637) .

3 سورة يونس آية: 32.

ص: 213

اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجب، فمحظور كله. انتهى.

وقوله: فيتوقح بذلك بدنه، معناه: يصلب بدنه، قال الجوهري: حافر وقاح، أي صلب، وتوقيح الحافر: تصليبه بالشحم المذاب.

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق شرعي، كله حرام.

قلت: ومن هذا الباب: اللعب بالكرة، لأنه مجرد لهو ولعب، ومرح وعبث، وأعظم من ذلك: أنه يصد عن ذكر الله، وعن الصلاة، ويوقع العداوة والبغضاء بين اللاعبين، وليس هو مما يستعان به في حق شرعي، ولا يستجم به لدرك واجب، فهو من اللعب المحظور بلا شك، والله أعلم.

ثم ذكر الخطابي رحمه الله تعالى: أن من لعب بالشطرنج وقامر به فهو فاسق، ومن لعب به على غير قمار، وحمله الولوع بذلك على تأخير الصلاة عن وقتها، أو جرى على لسانه الخنا والفحش، إذا عالج شيئا منه فهو ساقط المروءة، مردود الشهادة. انتهى.

وما قاله في اللاعبين بالشطرنج، يقال مثله في اللاعبين

ص: 214

بالكرة، ويزيد أهل الكرة على أهل الشطرنج، بالمرح والأشر، والتعرض لأنواع الضرر؛ فاللعب بها شر من اللعب بالشطرنج، وأعظم منها ضررا.

ومن العجب أن هذا اللعب الباطل، قد جعل في زماننا من الفنون التي تدرس في المدارس، ويعتنى بتعلمه وتعليمه، أعظم مما يعتني بتعلم القرآن، والعلم النافع، وتعليمهما.

وهذا دليل على اشتداد غربة الإسلام في هذا الزمان، ونقص العلم فيه، وظهور الجهل بما بعث الله به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم حتى عاد المعروف عند الأكثرين منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة.

وهذا من مصداق الحديث المتفق على صحته، عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل

" 1 الحديث.

واللعب بالكرة، والاعتناء بتعلمه وتعليمه في المدارس وغيرها، من ظهور الجهل بلا شك، عند من عقل عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وما أشبه المفتونين باللعب بالكرة، بالذين قال الله تعالى فيهم:{وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} 2.

1 البخاري: الحدود (6808)، ومسلم: العلم (2671)، والترمذي: الفتن (2205)، وابن ماجه: الفتن (4045) ، وأحمد (3/176 ،3/202 ،3/213) .

2 سورة الأنعام آية: 70.

ص: 215

وقد قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة، وأضعفتها، فإنها تحرم، انتهى.

وإذا كان الأمر هكذا في العلوم المفضولة مع العلوم الفاضلة، فكيف باللعب بالكرة، إذا زاحم العلوم الفاضلة وأضعفها، كما هو الواقع في زماننا؟!

مع أن اللعب بالكرة ليس بعلم، وإنما هو لهو ومرح، وأشر وبطر، فيجب المنع منه لما ذكرنا، ولما فيه من التشبه بأعداء الله تعالى، كما تقدم بيانه، والله أعلم.

وإذا علم هذا: فمن أهدى لبعض اللاعبين بالكرة شيئا، من أجل حذقه في اللعب بها، فقد أعان على الباطل، وكذلك من صنع لهم مأكولا، أو مشروبا، أو أحضره لهم، فهو معين لهم على الباطل.

وقد قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} 1.

وقال شيخ الإسلام: أبو العباس ابن تيمية، رحمه الله تعالى: ولعب الكرة إذا كان قصد صاحبه المنفعة للخيل والرجال، بحيث يستعان بها على الكر والفر، والدخول والخروج، ونحوه في الجهاد، وغرضه الاستعانة على الجهاد، الذي أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، فهو حسن؛ وإن

1 سورة المائدة آية: 2.

ص: 216

كان في ذلك مضرة بالخيل والرجال، فإنه ينهى عنه. انتهى.

وقال الشيخ: حمود: فصل، فإن ادعى المتشبهون بأعداء الله تعالى، أنهم إنما يريدون باللعب بالكرة: رياضة الأبدان، لتعتاد على النشاط والصلابة.

فالجواب أن يقال: إن الله تعالى قد جعل للمسلمين في الرياضات الشرعية غنية ومندوحة عن الرياضات الإفرنجية، فمن ذلك: المسابقة على الخيل؛ وقد سابق النبي صلى الله عليه وسلم بينها، وفعل ذلك أصحابه، والمسلمون بعدهم.

وفي الصحيحين، والموطأ، ومسند الإمام أحمد، والسنن الأربع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سابق بين الخيل التي ضمرت، من الحفياء، وأمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر، من الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، كان فيمن سابق بها"1.

وفي رواية لأحمد، والدارقطني، قال عبد الله: فكنت فارسا يومئذ، فسبقت الناس، طفف بي الفرس مسجد بني زريق، ورواه مسلم بنحوه. قال ابن الأثير: طفف بي الفرس مسجد بني زريق، أي: وثب بي حتى كاد يساوي المسجد، يقاله: طففت بفلان موضع كذا، أي: رفعته إليه، وحاذيته به. وقال النووي: طفف بي الفرس المسجد، أي: علا ووثب إلى المسجد، وكان جداره قصيرا.

1 البخاري: الصلاة (421)، ومسلم: الإمارة (1870)، والنسائي: الخيل (3583 ،3584)، وأبو داود: الجهاد (2575) ، وأحمد (2/55)، ومالك: الجهاد (1017)، والدارمي: الجهاد (2429) .

ص: 217

قلت: وقد جاء ذلك في رواية للدارقطني، ولفظه: قال عبد الله: فجئت سابقا، فطفف بي الفرس حائط المسجد، وكان قصيرا وفي رواية له، قال: فوثب بي الجدار.

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: في الحديث: مشروعية المسابقة، وأنه ليس من العبث، بل من الرياضة المحمودة، الموصلة إلى تحصيل المقاصد في الغزو، والانتفاع بها عند الحاجة؛ وهي دائرة بين الاستحباب، والإباحة، بحسب الباعث على ذلك. انتهى.

وروى الإمام أحمد أيضا، والدارمي والدارقطني، والبيهقي، عن أنس، رضي الله عنه أنه قيل له:"أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم، والله لقد راهن رسول الله صلى الله عليه وسلم على فرس له، يقال له "سبحة"، فجاءت سابقة، فبش لذلك وأعجبه"1.

وروى البيهقي أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سئل:"أكنتم تراهنون على عهد رسول الله؟ قال: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها "سبحة"، فجاءت سابقة"2.

قال ابن منظور في لسان العرب: المراهنة والرهان: المسابقة على الخيل، وغير ذلك، وكذا قال صاحب القاموس: المراهنة والرهان: المخاطرة والمسابقة على الخيل، وقوله: فبش لذلك، معناه: فرح به، وارتاح له.

1 أحمد (3/160)، والدارمي: الجهاد (2430) .

2 أحمد (3/160 ،3/256)، والدارمي: الجهاد (2430) .

ص: 218

وفي سنن الدارقطني، عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس. فخرج علي رضي الله عنه فدعا سراقة بن مالك، فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة.

فإذا أتيت الميطان- قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية- فصف الخيل، ثم ناد: هل من مصلح للجام، أو حامل لغلام، أو طارح لجل؟ فإذا لم يجبك أحد، فكبر ثلاثا، ثم خلها عند الثالثة، يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه".

فكان علي رضي الله عنه يقعد عند منتهى الغاية، ويخط خطا يقيم رجلين متقابلين عند طرف الخط، طرفه بين إبهامي أرجلهما، وتمر الخيل بين الرجلين، ويقول لهما:"إذا خرج أحد الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه، أو أذن، أو عذار، فاجعلوا السبقة له فإن شككتما، فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين، فاجعلوا الغاية من غاية أصغر الثنتين، ولا جلب، ولا جنب، ولا شغار في الإسلام".

وفي المسند، وصحيح ابن حبان، عن عياض الأشعري، قال: "قال أبو عبيدة رضي الله عنه من يراهنني؟ فقال شاب: أنا إن لم تغضب، قال: فسبقه، فرأيت

ص: 219

عقيصتي أبي عبيدة تنقزان، وهو خلفه على فرس عربي".

[من الرياضات الشرعية المسابقة على الإبل]

ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الإبل، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.

وفي صحيح البخاري، والمسند، وسنن أبي داود، والنسائي، عن حميد الطويل، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كان للنبي صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى "العضباء" لا تسبق، أو لا تكاد تسبق، فجاء أعرابي على قعود فسبقها، فشق ذلك على المسلمين حتى عرفه، فقال: حق على الله أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه"1.

وفي رواية للنسائي، عن حميد، عن أنس رضي الله عنه قال:"سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرابي فسبقه، فكأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا في أنفسهم من ذلك، فقيل له في ذلك، فقال: حق على الله أن لا يرفع شيء نفسه في الدنيا إلا وضعه الله" 2، وكذا رواه الدارقطني في سننه، من طريق النسائي.

وفي رواية لأبي داود، عن ثابت البناني، عن أنس رضي الله عنه قال:"كانت العضباء لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسابقها فسبقها الأعرابي، فكأن ذلك شق على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حق على الله عز وجل أن لا يرفع شيء إلا وضعه" 3، ورواه البخاري تعليقا.

1 البخاري: الجهاد والسير (2872)، والنسائي: الخيل (3588)، وأبو داود: الأدب (4802) ، وأحمد (3/103 ،3/253) .

2 النسائي: الخيل (3592) .

3 البخاري: الجهاد والسير (2872) والرقاق (6501)، والنسائي: الخيل (3588)، وأبو داود: الأدب (4802) ، وأحمد (3/103 ،3/253) .

ص: 220

وفي سنن الدارقطني عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كانت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم القصوى، لا تدفع في سباق إلا سبقت، قال سعيد بن المسيب: فجاء رجل فسابقها فسبقها، فوجد الناس من ذلك أن سبقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن الناس لم يرفعوا شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه الله عز وجل".

وفي رواية له، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:"كانت القصوى لا تسبق، فجاء أعرابي على بكر، فسابقه فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، سبقت العضباء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه حق على الله أن لا يرفع شيئا من الأرض إلا وضعه"1.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: تأمل قوله: "أن لا يرفع شيء" وفي اللفظ الثاني "أن لا يرتفع شيء من الدنيا إلا وضعه" فجعل الوضع لما رفع أو ارتفع، لا لما رفعه سبحانه، فإنه سبحانه إذا رفع عبده بطاعته وأعزه بها، لا يضعه بها. انتهى.

[من الرياضات الشرعية المسابقة على الأقدام]

ومن الرياضات الشرعية أيضا: المسابقة على الأقدام، وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه والمسلمون بعدهم.

وروى الشافعي، وأحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبان، والبيهقي، عن عائشة رضي الله عنها:

1 البخاري: الرقاق (6501)، والنسائي: الخيل (3588)، وأبو داود: الأدب (4802) ، وأحمد (3/103 ،3/253) .

ص: 221

أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته، فسبقني، فقال:"هذه بتلك السبقة".

وفي رواية: "أنهم كانوا في سفر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تقدموا، فتقدموا. ثم قال لعائشة: سابقيني، فسابقها، فسبقته، ثم سافرت معه مرة أخرى، فقال لأصحابه: تقدموا، ثم قال: سابقيني، فسبقته، ثم سابقني وسبقني فقال هذه بتلك"1.

وفي المسند وصحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه في حديثه الطويل، في غزوة ذي قرد، قال: "ثم أردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه على العضباء، راجعين إلى المدينة، قال: فبينما نحن نسير، قال: وكان رجل من الأنصار، لا يسبق شدا، قال فجعل يقول: ألا مسابق إلى المدينة؟ هل من سابق؟ فجعل يعيد ذلك.

قال: فلما سمعت كلامه، قلت: أما تكرم كريما، ولا تهاب شريفا؟ قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: قلت: يا رسول الله، بأبي وأمي ذرني فلأسابق الرجل، قال: إن شئت، قال: قلت: أذهب إليك، وثنيت رجلي، فطفرت فعدوت.

قال: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقي نفسي، ثم عدوت في أثره فربطت عليه شرفا أو شرفين، ثم إني رفعت حتى ألحقه، قال: فأصكه بين كتفيه، قال: قلت: قد سبقت

1 أبو داود: الجهاد (2578) ، وأحمد (6/39) .

ص: 222

والله، قال: أنا أظن، قال: فسبقته إلى المدينة" 1.

قال النووي: قوله: شدا، يعني: عدوا على الرجلين، وقوله: فطفرت، أي: وثبت وقفزت، وقوله: فربطت عليه شرفا أو شرفين أستبقى نفسي، معنى ربطت: حبست نفسي عن الجري الشديد.

والشرف: ما ارتفع من الأرض، وقوله: أستبقي نفسي بفتح الفاء، أي: لئلا يقطعني البهر.

وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام، وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض، فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف، الأصح عند أصحابنا: لا تصح، قلت: وهو مذهب مالك وأحمد.

[من الرياضات الشرعية المصارعة]

ومن الرياضات الشرعية أيضا: المصارعة، وقد روى أبو داود، والترمذي، والبخاري في التأريخ، من حديث أبي جعفر بن محمد بن ركانة، عن أبيه:"أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم" 2 قال الترمذي: هذا حديث غريب، وإسناده ليس بالقائم، قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة: وقصة الصراع مشهورة لركانة.

لكن جاء من وجه آخر: أنه يزيد بن ركانة، فأخرج الخطيب في المؤتلف من طريق أحمد بن عتاب العسكري، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما،

1 مسلم: الجهاد والسير (1807) ، وأحمد (4/52) .

2 أبو داود: اللباس (4078) .

ص: 223

قال: "جاء يزيد بن ركانة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثمائة من الغنم، فقال: يا محمد، هل لك أن تصارعني؟ قال: وما تجعل لي إن صرعتك؟ قال: مائة من الغنم، فصارعه فصرعه.

ثم قال: هل لك في العود؟ فقال: ما تجعل لي؟ قال مائة أخرى، فصارعه فصرعه. وذكر الثالثة، فقال: يا محمد، ما وضع جنبي في الأرض أحد قبلك، وما كان أحد أبغض إلي منك، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فقام عنه، ورد عليه غنمه".

وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: روى أبو بكر الشافعي بإسناد جيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن يزيد بن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل مرة على مائة من الغنم" 1 وذكر بقية القصة بمثل ما في رواية الخطيب.

وذكر ابن إسحاق: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض غلمان الأنصار، فمر به غلام فأجازه في البعث. وعرض عليه سمرة بن جندب رضي الله عنه فرده، فقال: لقد أجزت هذا، ورددتني، ولو صارعته لصرعته. قال: فدونكه، فصارعه فصرعه سمرة، فأجازه" ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب بنحوه.

[من الرياضات الشرعية الرمي]

ومن الرياضات الشرعية أيضا: الرمي ونحوه، مما فيه إعانة على الجهاد في سبيل الله عز وجل؛ وقد روى الإمام

1 الترمذي: اللباس (1784)، وأبو داود: اللباس (4078) .

ص: 224

أحمد، والبخاري، عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بني فلان. قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا: كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارموا وأنا معكم كلكم"1.

قال الجوهري: ناضله، أي: راماه، يقال: ناضلت فلانا فنضلته إذا غلبته، وانتضل القوم، وتناضلوا، أي: رموا للسبق، وفلان يناضل عن فلان، إذا تكلم عنه بعذره ودافع.

وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى، في مسنده: حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس، رضي الله عنهما، قال:"مر النبي صلى الله عليه وسلم بنفر يرمون، فقال رميا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا"2.

ورواه ابن ماجه في سننه، عن محمد بن يحيى، والحاكم في مستدركه، من طريق إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، وأحمد بن حنبل، كلهم عن عبد الرزاق به، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

1 البخاري: الجهاد والسير (2899) ، وأحمد (4/50) .

2 أحمد (1/364) .

ص: 225

وروى الحاكم أيضا: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم وقوم من أسلم يرمون، فقال: ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان راميا، وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم قسيهم، فقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، قال: أرموا وأنا معكم كلكم" 1 قال الحاكم صيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه. وروى الحاكم أيضا: عن محمد بن إياس بن سلمة، عن أبيه، عن جده، رضي الله عنه:"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ناس ينتضلون، فقال: حسن هذا اللهم، مرتين أو ثلاثا، ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فأمسك القوم بأيديهم، فقالوا: لا والله لا نرمي معه، وأنت معه يا رسول الله، إذاً ينضلنا، فقال: ارموا وأنا معكم جميعا. قال: فلقد رموا عامة يومهم ذلك، ثم تفرقوا على السواء، ما نضل بعضهم بعضا" قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وروى الإمام أحمد، وأهل السنن، من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي يحتسب في صنعته الخير، والذي يجهز به في سبيل الله، والذي يرمي به في سبيل الله. وقال: ارموا، واركبوا، وأن ترموا خير لكم من أن

1 البخاري: الجهاد والسير (2899) ، وأحمد (4/50) .

ص: 226

تركبوا. وقال: كل شيء يلهو به ابن آدم فهو باطل، إلا ثلاثا: رميه عن قوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله؛ فإنهن من الحق" 1 قال الترمذي: هذا حديث حسن، وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي في تلخيصه.

وعند الحاكم في أوله قصة، ولفظه عن خالد بن زيد الجهني، قال: "كنت راميا أرامي عقبة بن عامر رضي الله عنه، فمر بي ذات يوم، فقال: يا خالد اخرج بنا نرمي فأبطأت عليه.

فقال: يا خالد، تعال أحدثك ما حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقول لك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه الذي احتسب في صنعته الخير، ومنبله، والرامي.

ارموا واركبوا، وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا ثلاثة: تأديب الرجل فرسه، وملاعبته زوجته، ورميه بنبله عن قوسه، ومن علم الرمي ثم تركه، فهي نعمة كفرها" وقد رواه سعيد بن منصور، والنسائي بنحو هذا اللفظ.

وفي رواية أبي داود: "ومن ترك الرمي بعد ما علمه، رغبة عنه، فإنها نعمة تركها" 2 أو قال: "كفرها"، ورواه أبو داود الطيالسي، والدارمي في مسنديهما بنحو ما تقدم،

1 النسائي: الخيل (3578)، وأبو داود: الجهاد (2513) ، وأحمد (4/148)، والدارمي: الجهاد (2405) .

2 النسائي: الخيل (3578)، وأبو داود: الجهاد (2513) ، وأحمد (4/148)، والدارمي: الجهاد (2405) .

ص: 227

وعندهما في آخره وقال: "من ترك الرمي بعد ما علمه، فقد كفر الذي علمه"1.

وفي صحيح مسلم عن الحارث بن يعقوب، عن عبد الرحمن بن شماسة "أن فقيما اللخمي، قال لعقبة بن عامر رضي الله عنه: تختلف بين هذين الغرضين، وأنت كبير يشق عليك؟ قال عقبة: لولا كلام سمعته من رسوله الله صلى الله عليه وسلم لم أعانه، قال الحارث: فقلت لابن شماسة: وما ذاك؟ قال: إنه قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منا، أو قد عصى"2.

وفي المسند، وصحيح مسلم، وجامع الترمذي، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ستفتح عليكم أرضون، ويكفيكم الله، فلا يعجز أحدكم أن يلهو بسهمه"3.

وفي المسند أيضا: عن أبي أمامة بن سهل، قال: "كتب عمر رضي الله عنه إلى أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أن علموا غلمانكم العوم، ومقاتلتكم الرمي. فكانوا يختلفون إلى الأغراض

الحديث" قال أهل اللغة: العوم: السباحة.

وروى عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد، وأبو نعيم في الحلية عن بلال بن سعد رحمه الله تعالى قال:"أدركتهم يشتدون بين الأغراض، ويضحك بعضهم إلى بعض، فإذا كان الليل كانوا رهبانا".

1 أحمد (4/144)، والدارمي: الجهاد (2405) .

2 مسلم: الإمارة (1919)، وابن ماجه: الجهاد (2814) .

3 مسلم: الإمارة (1918) ، وأحمد (4/157) .

ص: 228

وذكر الشيخ: أبو محمد المقدسي في المغني، عن مجاهد قال:"رأيت ابن عمر رضي الله عنهما يشتد بين الهدفين، إذا أصاب خصلة، قال: أنا بها أنا بها" وعن حذيفة رضي الله عنه مثله، وذكر الطبراني عن مصعب بن سعد قال:"كان سعد رضي الله عنه يقول: أي بني تعلموا الرماية، فإنها خير لعبكم".

وذكر الشيخ أبو محمد المقدسي أيضا: عن مجاهد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الملائكة لا تحضر من لهوكم إلا الرهان، والنضال" قال الأزهري: النضال في الرمي، والرهان في الخيل، والسباق فيهما.

وذكر الشيخ أيضا: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقوم يربعون حجرا، يعني: يرفعونه، ليعرفوا الأشد منهم، فلم ينكر عليهم".

قال القرطبي: لا خلاف في جواز المسابقة على الخيل وغيرها من الدواب، وعلى الأقدام، وكذا الترامي بالسهام، واستعماله الأسلحة، لما في ذلك من التدريب على الحرب. انتهى. فهذا ما تيسر ذكره من رياضات المسلمين ولهوهم المباح، وفيها كفاية لكل مسلم.

ومن لم يكتف بالرياضات الشرعية، ولم يسعه ما وسع السلف الصالح، فلا كفاه الله، ولا وسع عليه في الدنيا والآخرة، ومن آثر الرياضات الإفرنجية على الرياضات

ص: 229

الشرعية، فذلك عنوان على زيغ قلبه، عياذا بالله من موجبات غضبه.

[فصل في أن من أعظم الملاهي وأشدها فسادا التلفزيون]

فصل: وأعظم من ذلك وأدهى وأمر، وأشد فسادا للأديان والأخلاق، وفساد العوائل: ما حدث في هذا العصر، وهو: ما يسمونه: "التلفزيون" وكلام الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، فيه كفاية عن التدليل على قبحه، وعظيم مفسدته.

قال رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستهديه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، ما همع وبل، وومض وبرق.

وبعد: فقد كثر التساؤل عن حكم هذه الآلة، المعروفة بالتلفزيون، هل يجوز اتخاذها واستعمالها؟ أم أن ذلك ممنوع شرعا؟

وقد تنوعت الأسئلة في ذلك، إلا أنها ترجع إلى شيء واحد، وهو: أن هذه الآلة، آلة تثقيف وتعليم تارة، وآلة شر وبلاء أخرى، لما يعرض على شاشتها، مما يضعه

ص: 230

المخططون لبرامجه، فأقول مستعينا بالله معتمدا عليه:

لا شك أن هذه الآلة المعروفة بالتلفزيون، التي انتشرت في كثير من البلاد، واستعملها الكثيرون من الناس في بيوتهم، وبين فتيانهم وفتياتهم، حتى عمت الأندية والمجالس العامة.

وقبل أن نتكلم على حكمها، ونبين مضارها ومفاسدها، لابد من مقدمة قبل ذلك، نبين فيها ما ينبغي للمسلم التنبه له، من بيان حكم اللهو الممنوع، وتقسيم القلوب، وإشراب بعضها بالفتن ومحبتها لها، وإنكار البعض لها، واستنارتها بنور الإيمان.

المقدمة

روى أبو داود والترمذي والنسائي، والحاكم، وقالت صحيح الإسناد عن عقبة بن عامر، رضي الله عنه أن رسوله الله صلى الله عليه وسلم قال:"كل ما يلهو به الرجل المسلم باطل، إلا رميه بقوسه، وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق"1.

في هذا الحديث دليل، على أن كل لهو يلهوه ابن آدم فهو باطل، أي: محرم ممنوع، ما عدا هذه الثلاثة، التي استثناها رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها من الحق، أو وسيلة إليه؛ قال الخطابي في معالم السنن، قوله:"ليس من اللهو إلا ثلاث" 2 يريد ليس من اللهو المباح إلا ثلاث؛ وقد جاء معنى ذلك

1 الترمذي: فضائل الجهاد (1637) .

2 النسائي: الخيل (3578)، وأبو داود: الجهاد (2513) ، وأحمد (4/146 ،4/148) .

ص: 231

مفسرا في الحديث من رواية أخرى.

قلت: وفي هذا بيان أن جميع أنواع اللهو محظورة، وإنما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلال، من جملة ما حرم منها، لأن كل واحدة منها، إذا تأملتها وجدتها معينة على حق، أو ذريعة إليه.

ويدخل في معناها: ما كان من المناقفة بالسلاح، والشد على الأقدام ونحوها، مما يرتاض به الإنسان، فيتوقح بذلك بدنه، ويتقوى به على مجالدة العدو.

فأما سائر ما يتلهى به البطالون، من أنواع اللهو كالنرد، والشطرنج، والمزاجلة بالحمام، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به في حق، ولا يستجم به لدرك واجبه، فمحظور كله.

وقال الشوكاني، فيه: أن ما صدق عليه مسمى اللهو، داخل في حيز البطلان، إلا تلك الثلاثة الأمور، فإنها وإن كانت في صورة اللهو، فهي طاعات مقربة إلى الله عز وجل، مع الالتفات إلى ما يترتب على ذلك الفعل من النفع الديني

إلخ.

وقال شيخ الإسلام ابن تيميه، رحمه الله، في الكلام على حديث عقبة: "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل

" 1 الحديث، ما معناه: الباطل ضد الحق، فكل ما لم يكن حقا، أو وسيلة إليه، ولم يكن نافعا، فإنه باطل، مشغل

1 أحمد (4/144)، والدارمي: الجهاد (2405) .

ص: 232

للوقت، مفوت على الإنسان ما ينفعه في دينه ودنياه، فيستحيل على الشرع إباحة مثل هذا.

فهذا كلام العلماء، رحمهم الله، في اللهو الباطل، من أنه محرم، في حين أنه مقصور على صاحبه، ولم يكن بصورة عامة فاتنة، للكثيرين من الناس في قعر بيوتهم، مما يعرض على شاشة التلفزيون، من المناظر الفاتنة، والحفلات الداعرة، والمراقص الماجنة، واختلاط الرجال بالنساء، ومعانقة كل منهم الآخر، بدون حياء ولا خجل.

وبانتشار فظيع في كل بيت، وفي كل مكان، ينظر إليه البطالون، فيفسد أخلاقهم، ويقتل غيرتهم الدينية، ومروءتهم العربية، أين هذا من اللهو الباطل، المقصور على صاحبه؟ مما لم يكن بهذا الشكل، ولا هذه الكيفية؟ فالله المستعان.

قال حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير، عودا عودا، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادا، كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من هواه، وقلب أبيض، فلا تضره فتنة، ما دامت السماوات والأرض".

قال ابن القيم: فشبه عرض الفتن على القلوب شيئا فشيئا، كعرض عيدان الحصير- وهي: طاقاتها- شيئا فشيئا، وقسم القلوب عند عرضها عليها إلى قسمين:

ص: 233

قلب إذا عرضت عليه فتنة أشربها، كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه نكتة سوداء؛ فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس، وهو معنى قوله: كالكوز مجخيا، أي: منكوسا.

فإذا اسود وانتكس، عرض له من هاتين الآفتين، خطران متراميان به إلى الهلاك:

أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا؛ وربما استحكم عليه هذا المرض، حتى يعتقد المعروف منكرا، والمنكر معروفا، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والحق باطلا، والباطل حقا.

الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وانقياده للهوى واتباعه له. وقلب أبيض قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردها، فازداد نوره وإشراقه وقوته.

والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي: فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، فتن المعاصي والبدع، فتن الظلم والجهل، فالأولى: توجب فساد القصد والإرادة، والثانية: توجب فساد العلم والاعتقاد. انتهى.

فالقلوب نوعان: قلب إذا عرضت عليه الفتنة، أشربها

ص: 234

وحبها، ومال إليها وأيدها، وقلب: ينكرها، ويبغضها، ويحذر منها، فذلك مثل ما يعرض على شاشة التلفزيون، من الفتن المهلكة، والمناظر الضارة، والمراقص والحفلات، والتمثيليات، وغيرها.

قلب يألفها ويحبها ويدعو إليها، فهذا القلب قد اسود وماتت غيرته، واستحكم مرضه. وقلب ينكرها وينفر منها ويحذر عنها، فذلك القلب الأبيض الذي أشرق بنور الإيمان، وهو معنى ما تقدم في خبر حذيفة.

وقال أيضا: ومن حيل الشيطان ومكايده: الكلام الباطل، والآراء المتهافتة، والخيالات المتناقضة، التي هي زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، والزبد الذي يقذف به القلوب المظلمة المتحيرة، التي تعدل الحق بالباطل، والخطأ بالصواب.

وقد تقاذفت بها أمواج الشبهات، ورانت عليها غيوم الخيالات، فمركبها القيل والقال، والشك والتشكيك، وكثرة الجدال، ليس لها حاصل من اليقين يعول عليه، ولا معتقد مطابق للحق يرجع إليه، يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.

وقد اتخذوا لأجل ذلك القرآن مهجورا، وقالوا من عند أنفسهم منكرا من القول وزورا، فهم في شكهم يعمهون، وفي حيرتهم يترددون.

ص: 235

نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون، واتبعوا ما تلته الشياطين على ألسنة أسلافهم من أهل الضلال، فهم إليه يحاكمون، وبه يتخاصمون، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

ولا شك، أن المؤيدين لهذه الآلة:"التلفزيون" من هذا القبيل، قذف الشيطان بزبده في تلك القلوب المظلمة، فرأوا أن التلفزيون أداة تعليم وتثقيف، وبها تتسع مدارك الإنسان، ويتسع أفقه.

وأن التلفزيون بمنْزلة النافذة، التي يطل معها الإنسان إلى العالم، فيعرف ما كانوا عليه، لما يعرض على شاشته، مما يضعه مخططو برامجه؛ هؤلاء وأمثالهم، فارقوا الدليل، واتبعوا أهواءهم، قوم قد ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا، وضلوا عن سواء السبيل، فلا عبرة بزخرف القول الباطل، والخيالات الفارغة، والتهافتات الساقطة.

فمن تأمل ما يعرض على شاشة التلفزيون من المضار، وقتل الغيرة الدينية، والميوعة، والانحراف الغريب، الذي طرأ على المسلمين في دينهم، وعقيدتهم، وتقاليدهم الحسنة، ومروءاتهم العربية، لم يشك أن هذا من مكايد الشيطان وحيله، ولم يتوقف في تحريمه، والمنع منه؛ ولا عبرة بمن استحسنه، واستعمله في بيته، واتبع هواه، وأعرض عن الحق وتولى عنه؛ ذلك مبلغهم من العلم.

ص: 236

فتجد الكثير من هؤلاء لا يرى من المصالح والمفاسد إلا ما عاد لمصلحة المال والبدن، دون المصلحة الحقيقية، وهي: مصلحة الأسر، وتربيتهم التربية الدينية النافعة، وصلاح الدين يتبعه صلاح المال والبدن، دون العكس، والله أعلم.

تحريمه:

أسلفنا حديث عقبة الذي رواه: أبو داود، والنسائي، والترمذي، وغيرهم "كل لهو يلهو به الرجل فهو باطل

" 1 الحديث، والباطل: ضد الحق، فكل ما ألهى عن أداء واجب، ولم يكن ذريعة إلى حق فهو حرام، كما تقدم في قول الإمام الخطابي والشوكاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم.

وقال ابن القيم رحمه الله: إذا أشكل حكم شيء، هل هو الإباحة، أو التحريم، فلينظر إلى مفسدته، وثمرته وغايته؛ فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة، فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته، بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي، ولا سيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله، موصلا إليه عن قرب.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: لا يجوز اللعب المعروف بالطابة والمنقلة، وكل ما أفضى كثيره إلى حرمة، وإذا لم يكن فيه مصلحة راجحة، لأنه يكون سببا للشر والفساد، وما ألهى أو شغل عما أمر الله به، فهو

1 أحمد (4/144)، والدارمي: الجهاد (2405) .

ص: 237

منهي عنه، وإن لم يحرم جنسه، كالبيع والتجارة، وسائر ما يلهى به البطالون، من أنواع اللهو، وسائر ضروب اللعب، مما لا يستعان به على حق شرعي، فكله حرام. انتهى.

فاتضح من كلام هذين الإمامين: أن الشيء إذا أشكل حكمه، ينظر في مفسدته وثمرته وغايته، فإن كانت مصلحته أرجح من مفسدته، فالشرع لا يحرمه، بل تغتفر المفاسد الجزئية، في جانب المصالح الكلية.

وإن رجحت مفسدته على مصلحته، بأن كانت مفسدته كلية، وإن اشتمل على مصالح جزئية، فيستحيل على الشارع إباحته، بل هو محرم قطعا. وكل ما يلهو به الإنسان من أنواع اللهو، فهو باطل، وإن لم يحرم جنسه، إذا أدى إلى ترك واجب، كالبيع، والزراعة، ونحوهما.

فهذه وإن كانت أعمالا مطلوبة، ومرغبا فيها، لكنها تكون محرمة إذا أفضت إلى ما يسخط الله ويغضبه، كترك صلاة في جماعة، أو إلى أن يخرج وقتها، وما لم يكن فيه مصلحة راجحة، فهو أيضا ممنوع، لأنه يكون سببا للشر والفساد.

أين هذا من آلة التلفزيون؟ مع قطع النظر عما يعرض على شاشته، من الخلاعة والدعارة، وتربية الأطفال على الرقص والمجون؛ فإنه مشغل للوقت، مذهب له بدون

ص: 238

فائدة، مؤد إلى ترك الصلاة في جماعة، أو إلى خروج وقتها، فهذا أولى بالتحريم.

مضار التلفزيون، ومفاسده:

نشرت جريدة الشهاب البيروتية، في عددها الثاني، الصادر في 17/11/1387هـ مقالا للأستاذ المحامي: محمد علي ضاوي، نقتطف منه ما يلي: قال: التلفزيون: سرطان في الروح والمجتمع; التلفزيون: سرطان في الجسم والمال؛ التلفزيون: مائدة للشيطان، تعرض عليها المفاسد.

قال: فالتلفزيون بما هو عليه الآن، وفي أكثر برامجه شر، ومائدة للشيطان، يعرض عليها أنواعا من المفاسد والمجون، وتحريفات في القيم، والأفكار، والعادات، وذلك بمختلف الوسائل الفنية: أغنية، صورة، تمثيلية، حفلة، دعاية.... إلخ.

وأكثر الناس، وخاصة الأخلاقيين، والمحافظين، والإسلاميين، يعرفون ذلك، ويدركون أنهم بشرائهم للجهاز، يمكنون للانحلال والتميع في عائلاتهم، ويعودون الأهل عليهما؛ ومع هذا فهم يبتاعونه، وربما يستدينون، أو يقطعون عن معداتهم، لأجل الشيطان وجهازه التلفزيون، وقال: اقتله قبل أن يقتلك.

ثانيا: ولا ريب أن التلفزيون ببرامجه الحالية، عمل

ص: 239

ويعمل على تخدير أعصاب الآباء، إن لم تقل: إنه جبههم في عقر ديارهم، وانتزع منهم السلطة الأبوية، وخاصة فيما يتعلق بالتوجيه.

فرب العائلة الأخلاقي، أو المحافظ، أو الإسلامي، يتردد بادئ ذي بدء في شراء الجهاز وفي اقتنائه، إلا أن ضغط الزوجة، ومن ورائها ضغوط الأولاد، يدفعه إلى الشراء، شريطة التقيد بمواعيد محددة لاستعماله، موطنا نفسه عند ابتياعه، على استخدام نفوذه للحد من مفاسده وإغلاقه في اللحظات المناسبة والحاسمة.

بيد أنه بعد وقوعه في الفخ، وبعد جلوسه مع زوجته وفتيانه وفتياته، تضعف إرادته، ثم تتراخى، ثم تتخدر؛ ونراه ونرى عائلته يتسابقون في النظر والاستماع، وهم يتبعون الصور والحركات، وينتقلون من برنامج إلى آخر؛ وإذا سألته بعد حين، عن توجيه الأولاد، تأوه، وأطلق زفرات حرى، وتمتم: لا حول ولا قوة إلا بالله.

لقد أطلق أحد الأخصائيين الاجتماعيين في ألمانيا منذ سنوات، عبارة تلخص بعمق مدى خطورة التلفزيون على النشء، وعلى المجتمع، وذلك بعد دراسة مباشرة أجراها في مدارس ومؤسسات مختلفة، فقال: اقتله قبل أن يقتلك. ولكن عندما يشتد التخدير، يغدو القتل البطيء لذة محببة للنفوس المخدرة.

ثم لو أراد مخططو البرامج والمشرفون عليها أن تنتشر

ص: 240

بين الناس عادة من العادات، أو تتأصل فيهم فكرة من الأفكار في أعلى الدرجات، أو أسلوب في الكلام والزينة في أدناها، لوجدنا أن البرامج تلاحمت في جهد مشترك للوصول إلى الغاية المحددة، سيئة كانت أو حسنة.

ودسا للدسم في السم، يعمل التلفزيون بين حين وآخر على تجميد غضب المعارضين للبرامج، فينقل عبر محطاته وقنواته التي سبق لها أن نقلت السم الزعاف، ومبيدات الأخلاق والقيم، نماذج من البرامج الدينية والوطنية، وربما الثقافية، فيسكت الغضب عند المغضبين، ويقولون عند هذا: له حسنات، وله سيئات!!

غير أن الكثيرين أو الأكثر يتعامون عن أضراره ومفاسده، وذلك لانتشاره بين مختلف العائلات والطبقات، واستعباده لقلوبهم، فقد تعامى الناس عما فيه من الأضرار الاجتماعية، والأخلاقية، والدينية والصحية.

فهم يتثاقلون عن استماع ما يقوله الطب، عن تأثير الأشعة النووية بأجسام الأطفال خاصة، وإذا استمعوها تغافلوا عنها، وربما لم يصدقوها، لأن التلفزة قد استعبدتهم، واستحوذت على قلوبهم، وفتنتهم ببرامجها الخليعة الضارة.

كالتدخين، يقول الطب والطبيب والناس بضرره، ومع هذا فهم مدمنون على استعماله، لا يستطيعون الانفكاك عنه، وهم يصطرخون فيه.

ص: 241

قال الأستاذ الضناوي: ولقد قرأت أن العالم الشهير في التصوير الشعاعي: الدكتور "أميل كروب" قد أكد بمرارة، وهو يحتضر في أحد مستشفيات شيكاغو، بأمريكا: أن أجهزة التلفزيون في البيوت، هي عبارة عن عدو لدود، وأخطبوط سرطاني خطير، يمتد إلى أجسام الأطفال.

وقد كان الدكتور نفسه، أحد ضحايا السرطان، الناتج عن إشعاعات التلفزيون؛ وقد أجريت له قبل وفاته، ست وتسعون عملية جراحية، لاستئصال الدرنات السرطانية دون جدوى، إذ إنه وصل إلى النهاية المؤلمة، بعد أن استؤصل قسم كبير من وجهه، وبترت ذراعه.

وأضاف الدكتور كروب قبل موته: أن شركات التلفزيون تكذب وتخدع الناس، عندما تزعم بأن هنالك حدا أدنى للطاقة الإشعاعية لا تضر، وتزود بها أجهزتها. فالعلم يقول- بعد التجارب العديدة- أن أية كمية من الإشعاع مضرة بالجسم، على درجات متفاوته، وذلك حسب نسبة التعرض والجلوس أمام التلفزيون؛ كما فند الطبيب المحتضر بالسرطان نفسه، مزاعم الشركة التي تدعي أنها توجه الأشعة في جهازها نحو الأرض، لا إلى المشاهد الذي يجلس بالقرب من جهاز التلفزيون.

واستغرب الدكتور كروب: كيف لا يهتم هؤلاء بالناس، الذين يقطنون في الطوابق السفلى، علما بأن الإشعاعات

ص: 242

الضوئية، والذرية، والنووية، المستعملة في التصوير الشعاعي، والتلفزيون تخترق جميع الحواجز، بما فيها الجدران السميكة؟ !

وأيد كل من الدكتور "هاسل" والدكتور "لامب" أقوال الدكتور "كروب" الذي يعاني آلام الاحتضار.

ولقد طالبت مجلة الاقتصاد، التي نقلت هذه المعلومات، والتي تصدر في بيروت، في نهاية مقترحاتها: أن على كل أب، وكل أم، أن يتناولوا مطرقة ضخمة، ويحطموا بها كل ما لديهم من أجهزة تلفزيونية؛ العدد 23 كانون الأول عام 1967 م.

ولا شك أنها آلة بلاء وشر، داعية إلى كل رذيلة ومجون، داعية إلى كل فساد وخراب للعائلات، مشغلة للوقت، مذهبة له بغير فائدة، بل ربما أدت إلى ترك الواجبات، من صلاة، وقيام بطاعة؛ هذا لو سلمت من الخلاعة والدعارة.

كيف وقد يعرض على شاشته مناظر مزرية، وصور داعرة لنساء خليعات، ورجال أراذل؟! فيتحدثان بكلمات عشق ووصال، وصد وهجران؛ مما يدعو إلى الفجور، وارتكاب الجريمة، بمشاهدة الخلق الكثير، من الرجال والنساء.

فتجد الرجل عندما يرى هذه الصورة أمامه، ويسمع ما

ص: 243

يقع بينهما، وبجانب الرجل أو الرجال امرأة أو نساء أجنبيات، وهم ينظرون ويسمعون، ما عرض على شاشة التلفزيون، من غرام وحب ومعانقة.

أليس هذا بأعظم دعوة إلى الفساد، وارتكاب الفاحشة؟! وقد وجد بمجتمعنا اليوم، من يكتب ويدعو إلى التلفزيون، وأنه مصلحة وأداة خير للتثقيف والتعليم؟ !

فقل للعيون الرمد للشمس أعين

وسامح نفوسا أطفأ الله نورها

سواك تراها في مغيب ومطلع

بأهوائها لا تستفيق ولا تعي

إنها لغفلة مخيفة، لم ينتبه أكثر الناس إلى ما وراء ذلك، من الفسق، والدعارة، وفساد البيوت، وخراب الأسر، واختلاط الحابل بالنابل.

بذلت لهم نصحي بمنعرج اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

وها هو التلفزيون الممنوع بالأمس، أصبح الآن بيننا في حكم المباح، إن لم يكن في حكم المستحب، أو الواجب; وكل ما نقوله أو نعتقده في الماضي، كنا فيه اليوم على غير هدى، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

كفى حزنا للدين أن حماته

متى يسلم الإسلام مما أصابه

إذا خذلوه قل لنا كيف ينصر

إذا كان من يرجى يخاف ويحذر

أيها المسلم لقد تكانفتنا الشرور من كل حدب وصوب، ونرقب إلى الله الخروج من هذه المآزق، ولا شك أن اجتماع الجنسين، عند هذه الآلة، وما يرونه على الشاشة، من الخلاعة العظيمة، والدعارة الفظيعة، لا شك أن

ص: 244

القلوب مع هذا ترقص طربا، وتذهب كل مذهب في هذه المناظرة الهائلة، ولا يعلم إلا عالم الجنسين وقتئذ بالغ منتهاه.

وإذا كانت المقدمات تدل على النتائج، فإن هذه المقدمات لا تنتج في الحالة، ولا في المآل، إلا بلاء وشقاء. وماذا ينتظر من نساء قطرة من الحياء، وهن كل ليلة ينسلن من كل حدب إلى حيث تمثل روايات الغرام المهيجة، على شاشة الآلة المسماة بالتلفزيون، حيث ترى المرأة بعينها، كيف يعمل العاشق مع معشوقته، وما يقع بينهما من الأنات والكلمات الغرامية، وتبادل كلمات التلاقي، والشوق المبرح، وما إلى ذلك مما لا أعرفه أنا.

ترى المرأة هذا وتسمعه بأذنها، فتقوم من هذا المجلس في حماس عظيم، وإلهاب هائل، فتكون في مثل هذا المنظر الذي تراه ألذ منظر في الوجود. ولو أنها لا ترى هذا إلا مرة واحدة في حياتها، لكفى في فسادها أبد الدهر؛ ولكنها ترى كل ليلة يتكرر على سمعها وبصرها، وهي امرأة ضعيفة في عقلها ودينها، وفي تفكيرها، ولا يهمها في الوجود شيء أكثر من إرضاء شهوتها البهيمية.

ليس ذلك فقط الذي تراه المرأة، وترى مع ذلك نساء برعن في الرقص بنوعيه، الخليع والإفرنجي; الخليع الذي

ص: 245

تكون فيه المرأة شبه عارية، وبعبارة أخرى عارية البدن كله، إلا مكانا مخصوصا منه.

ورؤية المرأة- وهي هكذا- شديد على النفس جدا، خصوصا إذا انضم إليه ما تفعله في رقصها من حركات في البطن والخصر، وما إلى ذلك، حركات تطرف الناظرين من الرجال.

وقد أجنبوا وهم ينظرون، كما يكون ذلك منهم حينما يرون المرأة مع الرجل، يرقصان ذلك الرقص الإفرنجي، الذي يتخاصران فيه، ويتلاصقان، وهو والحق يقال: منظر يثير الجماد، ويحرك من لا يتحرك، يرى النساء هذا المنظر، ويتكرر نظرهن له.

فما قولك في امرأة هذه حالتها؟! أيبقى فيها شيء من الحياء، أو العفة؟ ولماذا لا تكون هي كهذه التي تخاصر هذا؟ وتتمتع بمثل من تمتع، بالرقص معه، متعة فوق متعتها بآلاف المرات، والنفوس مولعة بالتقليد، خصوصا نفوس النساء.

أيها المسلمون: مالي أراكم تتحمسون وتقومون من أجل حطام قليل من حطام الدنيا، أو شبر من الأرض يتعدى عليه من بعضكم لبعض، أو من دولة مجاورة، تزأر الحكومة من أجله، وتقوم وتقعد، وتجند كل إمكانياتها حماية لهذا الشبر؟!

ص: 246

ولا أراكم تتحمسون لدينكم، ولا تغارون من أجل الشرف والعرض ديست كرامته! فأي الشيئين أهم وأقدس: أوامر دينكم والتمسك بتعاليم إسلامكم؟ أم حطام يسير من الدنيا، أو شبر من أرض أحدكم تعدى عليه الآخر؟ !

نرى منكم في الهين البسيط الحماس والتفاني، ولا نرى منكم نحو الأهم الخطير إلا التهاون والتواني؛ تتقون وتخشون عدوا من العباد، ولا تخشون عدوا في نفوسكم اسمه "الفساد"، يقتل النفوس ويستحي الأجساد؟ !

ألا ومنه التلفزيون المعروض على شاشته حفلة خليعة، مرقص، تمثيلية، مسرح، أغنية، غرام، التي هي: رقية زنا 1؟ !.

وقد شاهد الناس أنه ما غنى الغناء صبي إلا وفسد، ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا

ولا شيخ إلا وإلا

ألا فانتبهوا أيها المسلمون، وناصحوا بعضكم بعضا، ممن امتهن أوامر الإسلام، ونبهوا من خرج على الآداب والاحتشام، وحاربوا هذا الداء الوبيل، الذي يفتك ويهتك بالأعراض والأجسام! فلا تعتبروا نفوسا ألفت الفساد،

1 وقد جاء ما هو أوسع منه دائرة في الخزي والعار وكثرة اللهو، وهو البث الدولي المباشر في القنوات الفضائية ويروجه عباد المادة العفنة، فالله المستعان وسوف يعلمون.

ص: 247

فصارت عميا لا ترى للحق نورا، ولا تعرف للفضيلة جمالا، يظهر أمامها الحق واضحا جليا ساطعا نوره، فتراه باطلا مظلما، وتتجلى بين يديها الفضائل، فتراها رذائل، فهذه النفوس الدنيئة القذرة، هي بالحشرات أشبه، وبالديدان أقرب، يتعذر إقناعها، ويستعصي على الدعاة الناصحين علاجها؛ فمن العنا سياسة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذئب؛ لأن أمثال هؤلاء لا يميلون إلى الرشد، ولا إلى طلب الحق والفضائل.

وقد تستحسن بعض العقول استعمال هذه الآلة المسماة بالتلفزيون، ظنا منها أنها أداة تثقيف وتعليم، وأداة لنشر الفضائل، ولم تنتبه العقول لخطورتها، وما يعرض على شاشتها، من الخلاعة والدعارة، والمناظر الفاتنة، والحفلات المفسدة للبيوتات، والمخربة للأسر، ولم تعرف قواعد الشريعة الصحيحة.

بل كلما تجلى أمامها من نور مزيف مآله إلى الظلمة، وكلمات معسولة التي بها السم الزعاف، تلقته بالقبول والاستسلام، ونسيت ما يعرض على تلفزيونات البلاد الأخرى، من الشر والبلاء والفتنة؛ أضف إلى ذلك ضياع الوقت الذي هو من ذهب.

أيها المسلمون، لا تعتبروا عقولكم وما تستحسن في هذا السبيل اعتبروا بغيركم، وقيسوا الأشباه بالنظائر، وتثبتوا في أموركم حتى تروا الحق واضحا جليا؛ فإن العقول

ص: 248

البشرية، لا تستقل بإدراك المصالح الدنيوية، فكيف تستقل بمعرفة المصالح الأخروية؟ !

ولا تتمكن العقول وحدها إلى تمييز الخير من الشر، ولا إلى معرفة المعروف من المنكر، وليس في إمكانها أن تقف على حقائق الأمور، ولا أن تدير أمورها وحكمها على نظام تام، ومحكم مستقيم، لا خلل فيه ولا جور.

فإنها وإن وصلت إلى ما وصلت إليه من المعرفة والإدراك، فقد تميل إلى الباطل عن الحق، وتنحرف إلى الفساد عن الصلاح، ويخفى عليها وجه المصلحة، ولا تصل إلى الاهتداء لمغبة الأعمال؛ وكثيرا ما يبدو لها الشر في لباس الخير، فتظنه خيرا وهو شر محض، وبلاء مستطير، فتقع فيه؛ وكثيرا ما ظهر لها الخير فتظنه شرا، لعجزها عن إدراك الحقائق، فتقع فيه {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 216] . وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 249