المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس: حلق اللحى - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٥

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌الباب السادس: حلق اللحى

النفوس إليها تميل. وذكر حديث: "من صور صورة كلف يوم القيامة، أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ" 1، وحديث:"لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب"2.

وقال: لا فرق بين الصور المجسدة، وغير المجسدة، فكل منها مانع من دخول الملائكة، كما تدل على ذلك عمومات الأحاديث.

وقال: والصحيح أن المحذور في الصورة الرأس وحده، نص عليه أحمد، لاشتماله على الوجه الذي هو أشرف الأعضاء.

1 البخاري: اللباس (5963)، ومسلم: اللباس والزينة (2110)، والترمذي: اللباس (1751)، والنسائي: الزينة (5358) ، وأحمد (1/246 ،1/350) .

2 البخاري: بدء الخلق (3225)، ومسلم: اللباس والزينة (2106)، والترمذي: الأدب (2804)، والنسائي: الصيد والذبائح (4282) والزينة (5347 ،5348)، وابن ماجه: اللباس (3649) ، وأحمد (4/29 ،4/30) .

ص: 334

‌الباب السادس: حلق اللحى

وهو محرم بالسنة والإجماع، مخالف للعقل والفطرة والنظر؛ جعلها الله جمال الرجال، تحتفظ بها العرب في الجاهلية والإسلام، وتعتز بها، حتى إن من رؤسائهم من لم ينبت له لحية إلا شعيرات قليلة، فقالت بعض قبيلته: وددنا أن لو اشترينا لك لحية بألفي دينار.

وقد جرى من طائفة ما يوجب التعزير، فسودوا وجوههم، وأرادوا حلق لحاهم تعزيرا، فقال أهل العلم: لا يجوز التعزير بحلقها، لأنه معصية.

ص: 334

وبسبب الاختلاط بالمنحلين: كثر حلقها رغبة في التخنث، والتشبه بالنساء، مع ما في ذلك من النهي عن حلقها.

فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما وغيرهما، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "خالفوا المشركين وفروا اللحى واحفوا الشوارب" 1 ولهما عنه أيضا:"احفوا الشوارب واعفوا اللحى".

وفي رواية: "أنهكوا الشوارب واعفوا اللحى" واللحية اسم للشعر النابت على الخدين والذقن، قال ابن حجر: وفِّروا بتشديد الفاء، من التوفير، وهو: الإبقاء، أي: اتركوها وافرة، وإعفاء اللحية تركها على حالها.

ومخالفة المشركين يفسره: حديث أبي هريرة رضي الله عنه "أن أهل الشرك يعفون شواربهم، ويحفون لحاهم، فخالفوهم، فاعفوا اللحى واحفوا الشوارب" رواه البزار بسند حسن.

ولمسلم عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خالفوا المجوس، لأنهم كانوا يقصرون لحاهم، ويطولون الشوارب"، ولابن حبان عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم المجوس فقال: "إنهم يوفرون سبالهم، ويحلقون لحاهم، فخالفوهم" فكان يحفي سباله.

وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فطرة

1 البخاري: اللباس (5892)، ومسلم: الطهارة (259) .

ص: 335

الإسلام أخذ الشارب، وإعفاء اللحى، فإن المجوس تعفي شواربها، وتحفي لحاها، فخالفوهم: خذوا شواربكم واعفوا لحاكم".

وفي صحيح مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرنا بإحفاء الشوارب وإعفاء اللحية" 1، وله عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى" 2 ومعنى جزّوا: قصّوا، وأرخوا أي: أطيلوا.

ورواه بعضهم بلفظ: (أرجوا) أي: اتركوا; وما روي بلفظ: قصّوا، لا ينافي الإحفاء، لأن رواية الإحفاء في الصحيحين معينة للمراد; وفي رواية "أوفوا اللحى" أي: اتركوها وافية.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: يحرم حلق اللحية ; وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها، وحكى أبو محمد بن حزم الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.

واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3 وبحديث زيد بن أرقم المرفوع: "من لم يأخذ شاربه فليس منا" 4 صححه الترمذي، وبأدلة أخرى.

قال في الفروع: هذه الصيغة عند أصحابنا تقتضي التحريم، وقال في الإقناع: ويحرم حلقها، وروى الطبراني

1 مسلم: الطهارة (259)، والترمذي: الأدب (2764)، وأبو داود: الترجل (4199)، ومالك: الجامع (1764) .

2 مسلم: الطهارة (260) ، وأحمد (2/365 ،2/366) .

3 البخاري: اللباس (5892)، ومسلم: الطهارة (259) .

4 الترمذي: الأدب (2761)، والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) .

ص: 336

عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مثل بالشعر ليس له عند الله خلاق ".

قال الزمخشري معناه: صيره مثلة، بأن نتفه أو حلقه من الخدود، أو غيَّره بسواد، وقال في النهاية: مثّل بالشعر، حلقه من الخدود، وقيل نتفه أو تغييره بسواد.

وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"1.

وللبزار عن ابن عباس مرفوعا: "لا تشبهوا بالأعاجم اعفوا اللحى" وروى أبو داود عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم"2.

وله عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود، ولا بالنصارى"3.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع، والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر؛ وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة.

قال: ومشابهتهم فيما ليس من شرعنا، يبلغ التحريم في بعضه إلى أن يكون من الكبائر؛ وقد يصير كفرا بحسب الأدلة الشرعية.

1 أحمد (2/356) .

2 أبو داود: اللباس (4031) .

3 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) .

ص: 337

وقال: وقد دل الكتاب والسنة والإجماع على الأمر بمخالفة الكفار، والنهي عن مشابهتهم في الجملة، وما كان مظنة لفساد خفي غير منضبط، علق الحكم به، ودار التحريم عليه.

فمشابهتهم في الظاهر سبب لمشابهتهم في الأخلاق والأفعال المذمومة، بل في نفس الاعتقادات؛ وتأثير ذلك لا ينضبط.

ونفس الفساد الحاصل من المشابهة قد لا يظهر، وقد يتعسر أو يتعذر زواله، وكل ما كان سببا إلى الفساد، فالشارع يحرمه; اهـ.

وروي عن ابن عمر: "من تشبه بهم حتى يموت حشر معهم"، وروى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ليس منا من تشبه بغيرنا، لا تشبهوا باليهود ولا بالنصارى، فإن تسليم اليهود الإشارة بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالأكف"1.

زاد الطبراني: "ولا تقصوا النواصي، واحفوا الشوارب، واعفوا اللحى". وفي شروط عمر على أهل الذمة: أن يحلقوا مقادم رؤوسهم ليتميزوا من المسلمين، فمن فعل ذلك فقد تشبه بهم.

وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: "نهى عن القزع" 2 وهو: حلق بعض الرأس وترك بعضه.

1 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) .

2 البخاري: اللباس (5921)، ومسلم: اللباس والزينة (2120)، والنسائي: الزينة (5051 ،5228 ،5230 ،5231)، وأبو داود: الترجل (4194)، وابن ماجه: اللباس (3637 ،3638) ، وأحمد (2/4 ،2/39 ،2/55 ،2/67 ،2/82 ،2/83 ،2/101 ،2/118 ،2/137 ،2/143 ،2/154) .

ص: 338

وعن ابن عمر في الرأس: "احلقه كله، أو دعه كله" رواه أبو داود.

وحلق القفا لا يجوز لمن لم يحلق رأسه كله، ولم يحتج إليه، لأنه من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم; وروى ابن عساكر عن عمر رضي الله عنه "حلق القفا من غير حجامة مجوسية".

وأيضا: نهى الله تبارك وتعالى عن اتباع أهوائهم، فقال:{وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [سورة المائدة آية: 77] .

وقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [سورة البقرة آية: 145] : قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومتابعتهم فيما يختصون به من دينهم، وتوابع دينهم اتباع لأهوائهم.

وروى ابن أبي شيبة: "أن رجلا من المجوس جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد حلق لحيته، وأطال شاربه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ما هذا؟ قال: هذا ديننا; قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكن في ديننا أن نحفي الشوارب، وأن نعفي اللحية".

وأخرج الحارث بن أبي أسامة عن يحيى بن كثير، قال: "أتى رجل من العجم المسجد، وقد وفر شاربه وجزَّ لحيته; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على هذا؟ فقال: إن ربي أمرني بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله أمرني

ص: 339

أن أوفر لحيتي، وأحفي شاربي".

وروى ابن جرير عن زيد بن حبيب قصة رسول كسرى، قال:"ودخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حلقا لحاهما، وأعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما وقال: ويلكما من أمركما بهذا؟ قالا: أمرنا ربنا، يعنيان كسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولكن ربي أمرني بإعفاء لحيتي، وقصّ شاربي".

وروى مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير شعر اللحية"1. وللترمذي عن عمر: (كث اللحية) ; وفي رواية: (كثيف اللحية) ، وفي أخرى: (عظيم اللحية) ; وعن أنس: (كانت لحيته قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ يده على عارضيه) .

ورخص بعض أهل العلم في أخذ ما زاد على القبضة لفعل ابن عمر 2 وأكثر العلماء يكرهه، وهو الأظهر لما تقدم، قال النووي: والمختار تركها على حالها، وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلا.

وأخرج الطيب عن أبي سعيد قال قال رسول الله: "لا يأخذ أحدكم من طول لحيته" وقال في الدر المختار:

1 مسلم: الفضائل (2344) .

2 الحجة في روايته، لا في رأيه، ولا شك أن قول الرسول وفعله أحق وأولى بالاتباع من قول غيره أو فعله كائنا ما كان.

ص: 340

وأما الأخذ منها وهي دون القبضة، كما يفعله بعض المغاربة ومخنثة الرجال فلم يبحه أحد; اهـ.

وقال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .

وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [سورة الأنفال آية: 20-21]، وقال:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .

وقال: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [سورة النساء آية: 115] .

والله تبارك وتعالى جمَّل الرجال باللحى، ويروى: ومن تسبيح الملائكة: "سبحان من زين الرجال باللحى" ; وقال في التمهيد: ويحرم حلق اللحية، ولا يفعله إلا المخنثون من الرجال اهـ.

فاللحية زينة الرجال، ومن تمام الخلق، وبها ميز الله الرجال من النساء، ومن علامات الكمال; ونتفها في أول

ص: 341

نباتها تشبه بالمرد، ومن المنكرات الكبار 1.

وكذلك حلقها أو قصها أو إزالتها بالنورة من أشد المنكرات، ومعصية ظاهرة، ومخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقوع فيما نهى عنه.

وذكر الغزالي في الإحياء: أن نتف الفنيكين بدعة، وهما جانبا العنفقة، قال:"وشهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه، فرد شهادته"، "ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته".

قال الإمام أبو شامة: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصونها; وهذا في زمانه رحمه الله، فكيف لو رأى كثرة من يفعله اليوم؟!

وما لهم؟ قاتلهم الله أنى يؤفكون؟ أمرهم الله بالتأسي برسوله صلى الله عليه وسلم فخالفوه وعصوه، وتأسوا بالمجوس، والكفرة؟!

وأمرهم الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اعفوا اللحى، أوفوا اللحى، أرخوا اللحى، أرجوا اللحى، وفروا اللحى" فعصوه وعمدوا إلى لحاهم فحلقوها؟!

وأمرهم بحلق الشوارب فأطالوها، فعكسوا القضية،

1 قاله النووي والغزالي وغيرهما.

ص: 342

وعصوا الله جهارا، بتشويه ما جمّل الله به أشرف شيء من ابن آدم وأجمله.

{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8] .

اللهم: إنا نعوذ بك من عمى القلوب، ورين الذنوب، وخزي الدنيا، وعذاب الآخرة. {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [سورة الأنفال آية: 22-23] .

وفي هذا كفاية {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [سورة ق آية: 37]، و {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً} [سورة الكهف آية: 17] . 1 والله أعلم وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 343

[قول الشيخ عبد الله بن حميد فيما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى]

وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد، رحمه الله 1:

ومن المنكرات الظاهرة: ما ابتلي به بعض الناس من حلق اللحى؛ وحلقها من تغيير خلق الله ومخالف لهدى رسوله الله؛ فإن الله سبحانه وتعالى تفضل بها على الرجال جمالا لهم، وميزة فارقة بينهم وبين النساء، وأهل الفضل جاهلية وإسلاما يحتفظون بها، ويفتخرون، ويعدونها شرفا لهم.

وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذا لحية كثيرة الشعر، وكان يأمر بتركها مخالفة للمشركين، وقال صلى الله عليه وسلم:"خالفوا المشركين، وفروا اللحى، واحفوا الشوارب" 2، وعن ابن عمر أنه قال:"أمرنا بإحفاء الشوارب، وإعفاء اللحى"3.

وكانت عائشة رضي الله عنها كثيرا ما تقول: "لا والذي جمل الرجال باللحى". ومن صفته صلى الله عليه وسلم أنه كان كثير شعر اللحية; فهذا رسول الله كان يترك شعر لحيته، ويأمر أمته بأن تخالف المشركين بحف الشوارب، وإعفاء اللحى.

ومخالفتهم أمر مقصود للشارع، فمشابهتهم في الظاهر مظنة مودتهم في الباطن؛ ومن تشبه بقوم فهو منهم، والله يقول:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21] .

1 في الأربع الرسائل المفيدة، صفحة 123-125.

2 البخاري: اللباس (5892)، ومسلم: الطهارة (259) .

3 الترمذي: الأدب (2764)، ومالك: الجامع (1764) .

ص: 344

فاللحية شريفة، ولها أهمية كبيرة؛ ولشرفها وعظم شأنها، قرر الفقهاء على من جنى عليها، وأذهب جمالها ومنفعتها، الدية كاملة; وشعر العوارض من اللحية.

وقد حدث في هذا الزمان أناس عادوا اللحية وقلوها، 1 وبالأمواس أو النتف أزالوها، فوجوههم خالية من الشعر، جرد مرد كوجوه النساء، قد استحوذ عليهم الشيطان، فهم يميلون إلى الرقة والليونة في الأخلاق والملابس، مخالفون لهدى نبيهم.

أيها المسلمون، اعلموا أن اللحية زينة الرجال، وأن اللحية شرف الرجال، وأن اللحية ميزة الرجال، وأن اللحية فارقة بين الرجال والنساء، وأن اللحية خشونة ووقار.

وحلقها نوع من التخنث، وكفر لهذه النعمة؛ ولا يرضى بحلقها إلا من سفه نفسه، وعميت بصيرته عن مصالحه، وأضاع شرفه، وخالف هدى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.

ومما يحرم، أو يكره كراهة شديدة: تغيير شيب اللحية بالسواد، لقوله صلى الله عليه وسلم في والد أبي بكر:"غيروا شعره وجنِّبوه السواد" 2، وفي حديث ابن عباس، أنه صلى الله عليه وسلم قال:"يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام، لا يريحون رائحة الجنة" 3 نسأل الله العافية.

1 أي: أبغضوها.

2 مسلم: اللباس والزينة (2102)، والنسائي: الزينة (5076)، وأبو داود: الترجل (4204)، وابن ماجه: اللباس (3624) ، وأحمد (3/316 ،3/322) .

3 النسائي: الزينة (5075)، وأبو داود: الترجل (4212) ، وأحمد (1/273) .

ص: 345

[قول الشيخ حمود التويجري في تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه]

وقال الشيخ: حمود التويجري، رحمه الله 1:

ومن التشبه بأعداء الله تعالى: تقزيع شعر الرأس بحلق جوانبه أو قفاه، أو مواضع منه، وهو من فعل اليهود، والنصارى، والمجوس; وكثير من السفهاء في زماننا: يجزون شعر الرأس، ويتركون في مقدمه قنزعة تشبه عرف الديك، وقد قيل: إن هذا من فعل اليهود في زماننا، وليس ذلك ببعيد.

وبالجملة: فهذا الفعل القبيح من التمثيل بالشعر، وفيه تشويه للخلق، وقد روى أبو داود في سننه، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه "أنه رأى غلاما له قرنان، أو قصتان، فقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زي اليهود".

وفي مسند الإمام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد، قالت:"رأى ابن عمر رضي الله عنهما، صبيا في رأسه قنازع، فقال: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تحلق الصبيان القزع".

وروى الإمام أحمد أيضا، والشيخان، وأهل السنن إلا الترمذي، عن ابن عمر، رضي الله عنهما، قال:"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع" 2، والقزع: أن يحلق رأس الصبي، فيترك بعض شعره.

1 في كتابه الإيضاح والتبيين، صفحة 76.

2 البخاري: اللباس (5921)، ومسلم: اللباس والزينة (2120)، والنسائي: الزينة (5051 ،5228 ،5230 ،5231)، وأبو داود: الترجل (4194)، وابن ماجه: اللباس (3637 ،3638) ، وأحمد (2/4 ،2/39 ،2/55 ،2/67 ،2/82 ،2/83 ،2/101 ،2/118 ،2/137 ،2/143 ،2/154) .

ص: 346

وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى صبيا قد حلق بعض شعره، وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك، وقال: احلقوه كله، أو اتركوه كله"1.

قال النووي، رحمه الله تعالى: أجمع العلماء على كراهة القزع، قال العلماء: والحكمة في كراهته أنه تشويه للخلق; وقيل: لأنه زي اليهود. انتهى.

وروى الطبراني وغيره، عن عمر رضي الله عنه مرفوعا:"حلق القفا من غير حجامة، مجوسية" قال المروزي: سألت أبا عبد الله - يعني: أحمد بن حنبل - عن حلق القفا، قال: هو من فعل المجوس، ومن تشبه بقوم فهو منهم.

قال: وكان أبو عبد الله لا يحلق قفاه، إلا في وقت الحجامة; وقال المروزي أيضا: قلت لأبي عبد الله: يكره للرجل أن يحلق قفاه، أو وجهه؟ قال: أما أنا فلا أحلق قفاي.

1 أبو داود: الترجل (4195) ، وأحمد (2/88) .

ص: 347

[قول الشيخ صالح الخريصي فيما اشتهرت من كثير من الناس من حلق اللحى]

وقال الشيخ: صالح الخريصي، في أثناء نصيحة له: 1

ومن المنكرات التي ظهرت واشتهرت من كثير من الناس في كثير من البلاد: حلق اللحى، وهو أمر محرم، نهى الشارع صلى الله عليه وسلم عنه، في أحاديث صحيحة صريحة، كقوله صلى الله عليه وسلم "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس" 2 وقوله: "احفوا الشوارب واعفوا اللحى خالفوا المشركين".

وكثير من الناس - والعياذ بالله - يرتكب هذا المحرم جهارا، ويخالف أمر نبيه صلى الله عليه وسلم؛ وهذا في الحقيقة لم يحقق شهادة أن محمدا رسول الله معنًى، وإن حققها لفظا، لأن حقيقة شهادة أن محمدا رسول الله: طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما نهى عنه وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع.

قال شيخ الإسلام، رحمه الله: يحرم حلق اللحية. وقال القرطبي: لا يجوز حلقها ولا نتفها ولا قصها; وحكى ابن حزم رحمه الله الإجماع على أن قص الشارب وإعفاء اللحية فرض.

واستدل بحديث ابن عمر: "خالفوا المشركين: احفوا الشوارب، واعفوا اللحى" 3، وبحديث زيد بن أرقم، رضي الله

1 طبعت مفردة سنة 1380 هـ.

2 مسلم: الطهارة (260) ، وأحمد (2/365 ،2/366) .

3 البخاري: اللباس (5892)، ومسلم: الطهارة (259) .

ص: 348

عنه، المرفوع:"من لم يأخذ من شاربه فليس منا" 1، وبأدلة أخرى.

وكثير من الناس، بل ومن المنتسبين، يغلط في مسمى اللحية؛ فيأخذ ما على الخدود وما تحت اللحية وما فوقها، وهو من مسمى اللحية; وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من مثّل بالشعر فليس له عند الله خلاق".

وقال الزمخشري: معناه: صيره مثلة، بأن نتفه من الخدود، أو غيره بالسواد; وقال في النهاية: مثل بالشعر: حلقه من الخدود، وقيل نتفه، وتغييره بسواد.

وكثير من الناس - والعياذ بالله - يجمع هذه الأشياء: ينتف بعضه، ويحلق بعضه، ويغير بعضه; "وكان ابن عمر رضي الله عنه إذا حلق يقول للحلاق: ابلغ العظم، افصل الرأس من اللحية".

فبين رضي الله عنه أن ما فوق العظم فهو من الرأس، وما تحته من مسمى اللحية; والعظم المشار إليه، هو: المسامت، المحاذي للأذن; فيا عباد الله: توبوا إلى ربكم، وارجعوا لأمر نبيكم، واحذروا هذه المشابهة، التي تورث مودة أعداء الله.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: فمخالفتهم أمر مقصود للشارع؛ والمشابهة في الظاهر تورث مودة ومحبة، وموالاة في الباطن، كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر; وهذا أمر يشهد به الحس والتجربة: إلى آخر كلامه.

وروي عن ابن عمر، رضي الله عنه قال: "من تشبه

1 الترمذي: الأدب (2761)، والنسائي: الطهارة (13) والزينة (5047) .

ص: 349

بقوم حتى يموت، حشر معهم". فتوبوا رحمكم الله قبل الممات، ما دامت التوبة مقبولة، وبابها مفتوح، مع أن اللحية هي: زينة الرجال، ومن تمام الخلق؛ فبها ميز الله بين الرجال والنساء، ومن علامات الكمال.

ولولا كمالها، وزينتها، ومحلها من الشريعة لما كان فيها الدية كاملة؛ إذ فقدها من الرجل مثلة عظيمة; ومعلوم أن لحيته صلى الله عليه وسلم قد ملأت من هاهنا إلى هاهنا، وأمرّ أنس يده على عارضيه.

ولكن من أدمن حلقها، لم يتحقق تشويه خلقته، لأنه عكس القضية، وعصى الله جهارا، بإزالة ما جمل الله به أشرف شيء من ابن آدم، وأجمله، وهو: الوجه؛ ولكن زين له سوء عمله، كما في الآية الكريمة:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8] .

ص: 350

[حث الشيخ عبد الستار الدهلوي في رسالته شمس الضحى الناس على طاعة الله]

وقال الشيخ: عبد الستار الدهلوي الباكستاني 1:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد: فهذه نصيحة أقدمها إلى العالم الإسلامي، ليعم نفعها لإخواني المسلمين، أسأل الله رب العرش العظيم، أن يجعلها خالصة لوجهه الكريم، وينفع بها جميع المؤمنين، آمين.

اعلموا يا إخواني الكرام، أن الهدى ودين الحق الذي افترضه الله على عباده هو: معرفة الحق والعمل به، لكونه عز وجل لم يخلقهم عبثا سدى لا ينهون، بل خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئا، كما قال تعالى في كتابه العزيز:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [سورة الذاريات آية: 56] .

والعبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، من الأقوال، والعقائد، والأعمال الظاهرة والباطنة.

ومنها: النصح لكل مسلم كما جاء في حديث جرير رضي الله عنه لما بايعه عليه الصلاة والسلام على إقام

1 في رسالته شمس الضحى، ولأجل أنه قام بتقاريظها، جماعة من علماء الحرمين، وغيرهم، ومنهم الشيخ: عبد العزيز بن باز، في بعض طبعاتها، وضعنا المناسب منها هنا.

ص: 351

الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، رواه البخاري في صحيحه.

وقد أوجب الله علينا طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 3-4]، فقال:{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة المائدة آية: 92]، {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الحشر آية: 7] .

فعلم من هذه الآيات، وغيرها أنه تجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أوامره ونواهيه، لأن طاعته صادرة عن طاعة الله تعالى.

فمن خالف أوامره، وارتكب نواهيه، فقد عرض نفسه للوعيد الشديد، كما قال جل وعلا:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63] .

قال الإمام أحمد، رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك، ثم تلا قوله تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .

ص: 352

وقال شيخ الإسلام: إمام أهل التوحيد ابن تيمية، رحمه الله عليه، مستدلا بهذه الآية: إن الله فرض طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل أحد في كل حال.

فمن حيث أن النصح واجب على كل مسلم لأخيه المسلم، رأيت أن أكتب البعض مما ورد عن المصطفى صلى الله عليه وسلم في حلق اللحية وتوفير الشارب.

{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [سورة هود آية: 88]{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [سورة البقرة آية: 127] .

{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [سورة الأحقاف آية: 15] .

اعلم وفقني الله وإياك أن اللحية هي اسم لجميع الشعر النابت على الوجه والذقن، ما خلا الشارب، في اللغة العربية.

يوضحه: ما نص بتاج العروس بالجزء العاشر، قال: اللِّحية بالكسر، شعر الخدين والذقن، وهما اللحيان، وهما العظمان اللذان فيهما الأسنان، ثم تكلم إلى أن قال: اللحيان اللذان هما جانبا الفم.

وما نص بالمصباح، قال: واللحي عظم الحنك، وهو

ص: 353

الذي عليه الأسنان، وهو من الإنسان حيث ينبت الشعر، وهو أعلى وأسفل.

وما نص بالقاموس بالجزء الرابع، قال: اللحية بالكسر، شعر الخدين والذقن.

فإذا فهمت ما جاء بكتب اللغة العربية، عرفت حينئذ أن جميع شعر الوجه مما ينبت على الذقن وتحت اللحيين، وما على الخدين والعارضين، يقال له لحية، ما عدا الشارب كما تقدم بيانه.

وفي عون المعبود شرح أبي داود: اللحية بكسر اللام وسكون الحاء، لجميع الشعر الذي ينبت على الخدين والذقن.

وذكر صاحب هذه الرسالة: الأحاديث الواردة، وكلام أهل العلم 1 وحالة أهل زماننا اليوم وأن عادتهم إذا رأوا محلوق لحية ذا مال ولباس محتشم، عظموه ووقروه، وفرحوا به فرحا شديدا، وإذا لاقوا ذا لحية متشرعا، موحدا، ومتبعا لسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حقروه، ونظروا إليه {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ} [سورة محمد آية: 20] .

وقال أيضا: وسمعت كثيرا من هؤلاء يقولون: إن الله لا ينظر إلى الصور والأجساد، ولكن ينظر إلى القلوب

1 كما تقدم في رسالة الوالد رحمه الله "تحريم حلق اللحى".

ص: 354

والنيات، وفي قلوبنا الإيمان، ومحبة الله ورسوله، فلسنا نؤاخذ بحلق اللحية.

والجواب على ذلك: نعم، ينظر الله إلى قلبك، فيدرك أشياء تتعلق بلحيتك، ولا يمكنك أن تُخْلِي قلبك منها; يدرك في قلبك الكراهية لما أحبه الله ورسوله، وهو: إعفاء اللحية.

ويدرك في قلبك الحب لما كرهه الله ورسوله، وهو: حلق اللحية. ويدرك في قلبك الكراهية لما خلقه الله أو الاعتراض عليه، وهو: إنبات الشعر على وجهك.

ويدرك فيك الهم والغم، إذا لم يتحصل لك الحلق في ميعاده، والغضب على الحلاق إذا لم يأتك في وقته، فأين محبة الله ورسوله في قلبك؟!

إذا: كنت تبغض سنة رسولك، وتحلق لحيتك، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"من أحب سنتي فقد أحبني، ومن أحبني كان معي في الجنة" 1 ولنعم ما قيل:

تعصى الإله وأنت تظهر حبه

لو كان حبك صادقا لأطعته

هذا محال في القياس بديع

إن المحب لمن يحب مطيع

وأيضا سمعت بعض هؤلاء يقول: وجدنا كثيرا من أصحاب اللحى يرتكبون الفواحش، ويتخذون لحاهم سترا وجنة، فظننا أن الخير في ترك مثل هذه المظاهر.

أقول مجيبا عن هذا: وهذه أيضا فكرة خاطئة، لأن

1 الترمذي: العلم (2678) .

ص: 355

العمل الطيب إذا عمله الخبيثون لا يصير خبيثا، كما أن العمل الخبيث إذا ارتكبه الطيبون لا يصير طيبا.

ولو اتخذنا هذه الفكرة أساساً لأعمالنا، لما بقي لنا شيء؛ فكم من الناس تعلموا القرآن والحديث، نجدهم انحرفوا عن الصراط المستقيم، وباعوا دينهم بدنياهم، وأصبحوا أضر على الدين من أعدائه، فهل يجوز لنا أن نترك دراسة القرآن الكريم والحديث؟!

وكم من الناس يقيمون الصلاة، ويحجون، ويصومون; ومع ذلك هم أخبث الناس، وأشرهم، وأجرؤهم على ارتكاب الجرائم للحصول على بعض الدراهم والدنانير، فهل يمكننا أن نترك الصيام والصلاة، ونترك الحج لأجل هؤلاء؟! حاشا وكلا.

وقد سمعت كثيرا من الناس الذين يحلقون لحاهم، يقولون: ماذا في اللحية؟ وهل الإسلام في اللحية؟ وهم مستهينون بشأنها مستهزئون بمن يعفيها.

فأقول: قد ثبت من كلام الأنبياء: إذا لم تستح فاصنع ما شئت {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [سورة التوبة آية: 65] ألا تخافون الله؟ تخالفون أمره وأمر رسوله; وتقولون: ماذا في اللحية..؟!

استحوا، وتوبوا إليه، واعلموا أن في اللحية امتثالا لأمر الله، واتّباعاً لسنته صلى الله عليه وسلم، وقد قال عليه الصلاة والسلام:

ص: 356

"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به"، نعم: ليس الإسلام كله في اللحية; ولكن: اللحية في الإسلام، وإنها من سنن الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم.

وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة، قص الشارب، وإعفاء اللحية.." 1 الحديت.

قال صاحب مجمع البحار، أي: من سنن الأنبياء عليهم السلام، الذين أمرنا بالاقتداء بهم فيها، أي: من السنن القديمة التي اختارها الأنبياء، واتفقت عليها الشرائع، فكأنها أمر جبلي فطروا عليه؛ فكيف بكم إذا أنتم تقفون بين يدي الجبار القهار؟ وماذا تكون الحجة والجواب؟!

ومن أقبح ما جاهروا به: حلق اللحية، وتشويهها بالقصر أو نحوه، وأخذ العارض أو توقيفه، فتشبهوا بالنساء بنعومة الخدود، وتشبهوا بالكفرة والمشركين بحلقها، وبالمجوس بتقصيرها.

والذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس منا من تشبه بغيرنا" 2، ومع ذلك يشربون الخمور، ويلعبون الميسر، ويشتغلون بالملاهي، والسينما، وحضور أماكن الرقص، متختمين بالذهب، لا حياء عندهم، ولا خجل، ولا مروءة.

وقد اتبعوا غير سبيل المؤمنين، وسلكوا مسلك

1 مسلم: الطهارة (261)، والترمذي: الأدب (2757)، والنسائي: الزينة (5040 ،5042)، وأبو داود: الطهارة (53)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (293) ، وأحمد (6/137) .

2 الترمذي: الاستئذان والآداب (2695) .

ص: 357

الغربيين، ونهجوا على منوالهم، وساروا مقلدين لهم حذو النعل، قد غرتهم الحياة الدنيا وغرهم بالله الغرور.

عباد الله، هل نسينا ما قص الله علينا من قصة بني إسرائيل، كي لا نقع فيما وقعوا فيه؟ بأنه لعنهم {عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 78-79] .

ومن الناس من يقول: عصرنا اليوم ليس كالأمس، نحن نريد أن نتقدم، وأنتم يا أصحاب اللحى تريدون تأخيرنا; والصديق أصبح يعيب صديقه بعدم إحفاء اللحية، وحتى ناقصات العقول - يعني النساء - لا يرتضينها.

ومع هذا ينتهكون محارم الله، ويجاهرون بمعصية الله ورسوله في الطرقات، وفي الشوارع والأسواق، وعلى الأسطح والشرفات، وفي كل مكان.

يقرؤون المجلات الخليعة، المليئة بصور النساء العاريات، ولا يقرؤون مجلتنا - صحيفة أهل الحديث - التي تصدر في كل شهر مرتين، وفيها شرح لأحاديث البخاري، وتفسير لآيات الله البينات.

لا شك أن هؤلاء شاقوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ومن يشاق الرسول ويتبع غير سبيل المؤمنين فهو مهان عند الله، ومن يهن الله فما له من مكرم.

ص: 358

يحلقون لحاهم، ويبتغون بذلك مرضاة أزواجهم، ونسائهم، وأصدقائهم؛ والله تعالى يقول:{وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [سورة التوبة آية: 62] .

والظاهر أن الشيطان زين لهم أعمالهم، وقد قال تعالى:{أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [سورة فاطر آية: 8]، وقال تعالى:{وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [سورة الأعراف آية: 146] .

ومن المعلوم أن ما جاء به، وما أمرنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم هو الرشد والهداية، وما يعاكسه فهو سبيل الغي والضلالة.

فيروى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جزوا الشوارب وأرخوا اللحى، خالفوا المجوس"1.

والأحاديث المذكورة، وغيرها مما لم تذكر هنا، موجودة في الصحاح الستة، التي هي أمهات الكتب، كالبخاري ومسلم وغيرهما، والسنن، والمسانيد، من كتب الحديث المشهورة المقبولة، المتداولة بين أهل العلم.

فكيف يسوغ لمسلم أن يرتكب هذه المنهيات، ويترك العمل بالأوامر الشرعية، وهو يتلو أو يتلى عليه قوله الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ

1 مسلم: الطهارة (260) ، وأحمد (2/365 ،2/366) .

ص: 359

أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [سورة الأحزاب آية: 36] .

وكيف تطمئن نفس مسلم بعد وقوفه على قوله عليه الصلاة والسلام: "اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب، ولا تشبهوا باليهود والنصارى"، وعلى قوله:"لا تشبهوا بالأعاجم، اعفوا اللحى، وجزوا الشوارب" وعلى قوله: "ليس منا من تشبه بغيرنا "؟

ويعلم أيضا علم اليقين أن لحيته صلى الله عليه وسلم كثيفة عظيمة، كثيرة الشعر، قد ملأت عارضيه وذقنه الشريفة، ومع علمه بذلك لا يقبل صورة الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ولا يفرح بها، ولا يستحسنها؟

بل يمثل بصورة المجوس، والمشركين، والوثنيين، ويختارها لنفسه، ويعمد إلى لحيته فيقص، أو يحلق، أو ينتف من أطرافها، من النابت على الخدين وتحت الذقن، أو مما ينبت على العارضين؟!

ولا يلتفت إلى قوله عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [سورة الأحزاب آية: 21]، ولا إلى قوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [سورة الحشر آية: 7] .

فلم يتأس برسوله، ويترك لحيته وافرة، كما كانت لحيته صلى الله عليه وسلم بل يعاكسه فيحلق لحيته، أو ينتف، أو يقص،

ص: 360

فإذا به يخالف الأوامر ويرتكب النواهي.

فالعجب كل العجب، والرزية كل الرزية، ممن ينتسب إلى العلم والدين كيف يتعود بحلق لحيته، أو قصها، أو نتفها، أو أخذ ما على الخدين والعارضين، أو ما تحت الذقن مما نبت، بلا مبالاة بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الخصوص، من الأحاديث القاضية بإعفاء اللحية، وحلق الشارب أو نهكه، على غير الصفة المذكورة بالأحاديث الصحيحة الصريحة، الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم أمرا ونهيا.

ولم نجد في رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولا عن أصحابه الكرام، والتابعين العظام، ولا عن أحد من الأئمة الأربعة، ولا عن أحد من المحدثين، رضوان الله عليهم أجمعين، ما يدلنا على خلاف هذا الأمر.

فكيف يجوز لنا السماح بتبديل الشرع المنصوص، بعادة اسمية نتبعها، ونترك السنة؟ كما قال أهل العلم: إن الحق فيما قضى به إمام الأنبياء، خاتم الرسل صلوات الله وسلامه عليه، ولو خالفه عامة من في الأرض عالمهم وجاهلهم، لقوله تعالى:{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .

ص: 361

قال شيخ الإسلام إمام الموحدين ابن تيمية، قدس الله روحه: إن مخالفة الكفرة غاية مقصودة للشريعة، لأن التشبه بهم في الظاهر يورث مودة في الباطن؛ كما أن المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر.

وأيضا: قال الشيخ - في المجلد الثاني من فتاويه -: فكل من عدل عن اتباع الكتاب والسنة وإطاعة الله ورسوله إلى عادته وعادة أبيه وقومه، فهو من أهل الجاهلية المستحقين للوعيد. انتهى.

وذكر أقوال الأئمة في النهي عن التقليد إذا خالف الكتاب والسنة، وما قيل: في النهي عن الإفساد في الأرض بعد إصلاحها، وأن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهو من المفسدين، وذكر أيضا قول أبي العالية: من عصى الله في الأرض، أو أمر بمعصية الله، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء إنما هو بطاعة الله ورسوله.

وقال أيضا في رسالته: ومما يناسب هذا المقام، قول الحافظ ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [سورة النور آية: 63] قال: عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: سبيله ومنهاجه، وطريقته وسنته، وشريعته.

فتوزن الأقوال والأعمال، بأقواله وأعماله؛ فما وافق ذلك فهو مقبول، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائنا من كان، بدليل ما ثبت في البخاري ومسلم

ص: 362