المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌الفصل الثالث: السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام

‌المجلد السادس عشر: (القسم الثاني من البيان الواضح، وتراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة)

‌الباب التاسع (تابع)

‌الفصل الثالث: السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

القسم الثاني من البيان الواضح

الفصل الثالث من الباب التاسع [السبب الأعظم لضعف العلم والإسلام]

والسبب الأعظم لضعف العلم والإسلام، والكسر الذي لا ينجبر، والطامة الكبرى: استجلاب معلمين ملحدين من البلدان المنحلة، لنشر الثقافة - يعني الغربية - ورفع الأمية.

ويحملون معهم برنامج التعليم الذي يشتمل على فنون محظورة، من تصوير، وغيرها مما له معاهد في تلك الأوطان في بلادهم، التي أعرضت عن دين الله وشرعه، واشتهرت فيها شعائر الكفر، ليجتثوا الإسلام من أصله، بسبب ما هم عليه من عداء، وما في قلوبهم من حقد، قال تعالى:{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [سورة الممتحنة آية: 2] .

وقد أخذ عنهم أكثر الشباب مواد تعليمهم وتخلقوا بأخلاقهم، فيا ليتنا تلقيناهم بنحورنا نصرة لدين الله فمنعناهم، أو نلنا الشهادة؛ وعذرنا غدا بين يدي رب

ص: 5

العالمين; وفضل الجهاد في سبيل الله قد أفرد بالمصنفات، وفي أثناء كتب الحديث وغيرها.

وقد حدثني من لا أتهم: أن فلانا قال للشيخ عبد الرحمن بن حسن: يا شيخ عبد الرحمن، جدك الشيخ محمد جاء بشجرة لا إله إلا الله، فغرسها في بلدة العيينة، فصارت الأرض صلدة سبخة، فحملها إلى الدرعية، فصارت الأرض خصبة، فسقاها بالدعوة، وحماها محمد بن سعود بالسيف، فأينعت، وأراها في عصركم خوت; هذا والشيخ عبد الرحمن بن حسن يقول: لو ظهر علينا أهل الدرعية لقاتلونا.

وفي عصر الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف وطبقته صارت أشد خويانا، لأن المحتسبين في عصر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أمسكوا كاتب الإمام فيصل، خرج من بيت فيه عزب، وطلبوا من الإمام ضربه في السوق، فقال: اضربوه في الحوشة.

فأتوا إلى الشيخ عبد الرحمن بن حسن، فقال للإمام فيصل: يضرب الرجل في السوق; فقال الإمام: يضرب في الحوشة، فقال الشيخ: نسلم عليك، وخرج من الرياض إلى بلدة الحوطة.

فتبعه الإمام فيصل، وطلب منه أن يرجع; فقال: عاهدناك على دين الله ورسوله، ولا أرجع حتى تعاهدني

ص: 6

الآن على ذلك، والرجل يضرب في السوق، فعاهده، وضرب في السوق.

وفي عصر الشيخ عبد الله: كنت أسير معه من المسجد إلى بيته في بعض الأيام، وذات يوم تبعه رجل من الإخوان، فأدركه في أثناء الطريق، فقال: يا شيخ عبد الله، هذا الكافر "فلبى" يدخل المسجد، أفلا نقتله؟ قال: لا يا ولدي، قال: أفلا نخرجه منه؟ ولم أحفظ ما قاله، فالتفت الشيخ إليه، فإذا هو قد ولى مدبرا، فالتفت إلي ودموعه على خديه، وقال بحزن: إيه سوف يعلمون. وأخبرني الشيخ عبد العزيز بن صالح بن مرشد باسم الرجل، وقال: إنه قال: أخرجوه أخرجوه، سوف يعلمون، سوف يعلمون، فلا أدري هل ما قاله مرة أخرى، أو تلك المرة، لأنه يقيم في البلد، ومن أخص الناس بالشيخ عبد الله.

وكان الشيخ سعد بن عتيق يذكر الناس في السوق، ولما مر بقوله صلى الله عليه وسلم "طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله" 1 وأنهى الكلام عليه، قام على قدميه ورفع صوته وهو يبكي فقال: ينزل النصراني في بيت أرفع من بيوت المسلمين التي حوله؟! وأزعج الناس. وكان عنده من رجال الملك عبد العزيز، فأخبروه،

1 البخاري: الجهاد والسير (2887) .

ص: 7

ثم توجه الملك إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، وذكر له ما قال الشيخ سعد في السوق، فقال الشيخ عبد الله: نحن سكتنا، وتكلم الشيخ سعد بالواجب.

وفي هذا العصر ضعفت الغيرة الدينية من الأكثر، بسبب القادمين من بلاد الخارج، والتابعين لهم، فجاؤوا إلى شجرة لا إله إلا الله، التي جاء بها وغذاها المصلح، وأيدها بسيفه الناصر للدين، ليقتلعوها من وطن ازدهرت فيه برهة من الزمن.

إن لم تدارك بتكاتف العلماء، ومساعدة الرؤساء، فلسوف تزال، كما زالت من تلك الأمصار، التي كانت هي مقر الإسلام وولاته، ومجتمع العلماء، وتبليغ العلم; وفي انحرافهم لنا عبرة ألا نسلك مسالكهم، وألا يتسرب إلينا باطلهم.

وجدير بولاة الأمر والعلماء الاقتفاء بآثار آبائهم وسلفهم الصالح، وأن يبنوا ما تهدم من بنائهم الرفيع، ليفوزوا بحسن الثناء في الدنيا، والأجر الجزيل في الآخرة، وألا يذهب العلم والإسلام من وطنه الذي بناه سلفهم الصالح، وأن يقتفوا آثارهم في تعليم العلم وحماية الإسلام، وأن يزيلوا بدع ما جاء به أذناب المنحلين من صفة تعلمهم المضعف للعلم.

ص: 8

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: العلوم المفضولة إذا أضعفت العلم، حرمت، فكيف بالعلوم المحظورة، ثم بترقب شهادات لمقدار الأجر؟! وفي الحديث:"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" 1 يعني: ريحها.

وذكر لنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد عن العاصمي، فقال ما معناه: إن أول مدرسة نظامية بنيت ببغداد، وطلب لها العلماء، وأجري لهم ولطلاب العلم مرتبات، والتحق بها كثير؛ ولما علم علماء بخارى بكوا بكاء شديدا، متأسفين على العلوم الإسلامية. فقيل لهم: ما هذا البكاء؟ وما هذا الجزع؟ ما هي إلا مدرسة دينية للعلم، كالتفسير، والحديث، والفقه، وغيرها; فقال العلماء: إن العلم شريف في نفسه سام، لا يحمله إلا النفوس السامية الزكية الشريفة، ويشرفون بشرف العلم. أما إذا أجريت المرتبات لطلابه، أقبل إليه من لا خير فيه، من السقطة والأراذل الذين يريدون بتعلمهم العلم لنيل المناصب، والوظائف، وأخذ المرتبات، فيزول العلم ويسقط بسقوط وإزالة حملته، فيصبح العلم الشريف لا قيمة له.

1 أبو داود: العلم (3664)، وابن ماجه: المقدمة (252) ، وأحمد (2/338) .

ص: 9

ثم قال العاصمي: أما اليوم فلا طالب ولا مطلوب، ولا راغب فيه ولا مرغوب، لفساد الزمان. انتهى. وذلك في تلك العصور المعروف عن أهلها الجد في العلم النافع، واتساعه في أقطار الأرض؛ وفي هذا العصر، في العقد التاسع من القرن الرابع عشر، خلت المساجد، وبنيت المدارس، وأجريت الأجور، وأثبتت الشهادات لكل فصل، لمقادير الأجور والرتب. فيا حسرتاه! واحزناه! وارباه! واحر قلباه! لقد غزانا في هذه البقعة المباركة، التي ازدهرت فيها هذه الدعوة المباركة، وفيها مهابط الوحي: الألوف من أهل الخارج، ذكورا وإناثا، باسم التعليم والتربية، والتمريض، وغيرها. وفي برنامجهم: الحقوق، والطبيعة، والتصوير، والمادة وغيرها مما يزيد على ثلاثين فنا لإضعاف العلم النافع، أمنية أعداء الإسلام ليملكوا المسلمين. فيا لله! يا للمسلمين! وفيما ذكره علماؤنا الذين لهم غيرة لله كفاية.

ص: 10

[رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة معالي وزير المعارف يوصيه بتقوى الله، ويظهر تأسفه الشديد بشأن بث الأخلاق السيئة]

قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله تعالى:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة معالي وزير المعارف، حفظه الله. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، على الدوام، أدام المولى على الجميع نعمه.

وبعد: فإني أوصيك ونفسي بتقوى الله تعالى، ومراقبته في السر والعلانية؛ فإنها سبيل السلامة والنجاة في الدنيا والآخرة. وإني أسطر لكم هذه الأحرف، حينما بلغني ما يسوؤني ويسوؤكم، ويسوء كل مسلم غيور على دينه، وعلى الأمة الإسلامية والأخلاق الحسنة.

فإن هذه الوزارة التي هي وزارة المعارف، والتي أنتم تديرونها وأنتم الرائد الأول لها، قد أصبحت الآن مصدرا كبيرا لبث الأخلاق السيئة، وتبلبل الأذهان، واضمحلال العقيدة السلفية التي غرسها أوائلكم الأفاضل، في هذه الجزيرة.

وإنا والله نأسف أشد الأسف أن يحصل مثل هذا مع وجودكم، وأنتم الآن بأيديكم زمام هذا النشء، وتستطيعون قيادته إلى المكان الأعلى، ومع ذلك تهملون هذا الإهمال المتناهي.

ص: 11

بل لم تقتصروا على ذلك، حتى كنتم سببا لإدخال من أراد أن يهدم عقيدتكم، وعقيدة آبائكم، وعزكم وعز آبائكم، وما ذاك إلا باجتلابكم هؤلاء الزنادقة، وبثهم في كل صقع من المملكة، وإغرائهم وتشجيعهم بكثرة المرتبات، وعدم المراقبة عليهم فيما يبثون بين النشء، من هذه السموم القتالة، من أخلاق منحرفة، ودعايات سيئة، دعايات المجون والخلاعة، دعايات الزندقة والإلحاد، دعايات التهكم بهذا الدين ورجاله.

ولقد بلغني أنه يوجد في كلية الشريعة بمكة، التي أسست لتكون مركزا لنشر العلم الصحيح، والدين القويم، وتعتبر أرقى مرحلة من مراحل التعليم، والتي تخرج رجال القضاء والتعليم الديني، يوجد فيها شخص يسمى "الدكتور فوزي بشبيشي" قد تجاوز الحد، وتمادى في الطغيان، وبلبلة أذهان الطلاب.

ومع انحلاله من الدين، أصبح أكبر داعية للإلحاد والزندقة، والتهكم بالدين وحملته، وتلقيبهم بالتغفيل والرجعية، ومع ذلك له سنوات في هذه الكلية مكرما ومعززا.

وإليكم شيئا مما ثبت لدينا عنه، فمنها: رميه أسئلة التفسير - مع ما اشتملت عليه من الآيات القرآنية - على

ص: 12

الأرض، ودوسها بقدميه، وعندما قيل له: هذا حرام; قال: لا حلال ولا حرام، إنما هذه عقيدة أمهاتكم، التي ورثتم عنهن.

ومنها: حينما سأله أحد الطلاب عن مسألة، يقول له: اذهب احلق ذقنك، وتعال أعلمك. ومنها: حثه على حلق اللحى، وشرب الدخان، وقوله: إن فعل هذه الأشياء تحرر من القيود; فما أشبه هذه الدعوة بدعوة: صاحب الأغلال.

ومنها: إملاؤه على الطلاب في دفاترهم، ما يبعث في نفوسهم حب اللهو والغناء والميول إلى المجون، كقوله: ولو أنكم قرأتم الشعر الغنائي، أو سمعتموه من شادي العرب عبد الوهاب، ومطربة الجيل أم كلثوم، لرأيتم أو سمعتم أن معظم الأغنيات تدور معانيها حول العذرية، التي تسعى إليك، وعن يمينها نار الشوق، وعن يسارها روح الحرمان، وبين خطاها آهات وأنات، كأنما فيها كبد حرّى، وقلب مقتل، وروح مهمومة مهيمة. ومنها: ترديده دائما هذه العبارة: لولا مصر لذهب الدين من الوجود

إلى غير ذلك، كإلقائه التفرقة بين الطلاب الحجازيين والنجديين، وقوله: أنا أريد أن أبلبل أذهانكم، وأشككم، لتصلوا إلى اليقين، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ص: 13

فإذا كان هذا يوجد من شخص واحد، ومع ذلك أقام سنوات يبث هذه الأشياء ولا يلغى انتدابه؛ بل ولا يشعر به، فكيف تكون الحالة إذاً، وأضرابه يعدون بالآلاف؟ أليس هذا مؤذنا بهلاك عاجل، أي هلاك؟!

إذا ما السور هدمه أناس وسيبهم ذووه فقد أعانوا

والله لذهاب الأرواح وفناء الأشباح، أيسر وأخف من هذه الأمور، التي تزيل العقيدة، وتذهب الأخلاق الحميدة، هذا ما حصل من ناحية واحدة من نواحي التعليم، وإن كانت هي أعظم مصيبة.

ولكن أضف إلى ذلك ما حصل في مناهج التعليم من التغيير والتبديل، وإضعاف العلوم الدينية والعربية؛ حتى أصبحت الآن هذه المواد قسمتها قسمة ضيزى بالنسبة لسائر الفنون المحدثة.

ولا شك أن فقد هذه العلوم مصيبة كبرى ورزية عظمى; إن التعليم بدونها يعتبر خطراً عظيماً على هذا النشء، وهذه النابتة; وإنه لمما يخجل أن يسمع الطالب الذي يحمل الشهادة الابتدائية، يحاول أن يقرا شيئا من القرآن، فلا يستطيع من الخجل، لعدم معرفته له.

ومع ذلك تعتبر هذه السنة آخر مراحل التعليم بالنسبة للقرآن، فلا يدرس في المراحل المتوسطة، ولا في

ص: 14

الثانوية; فليت شعري متى يستطيع أن يقرأ القرآن، من هذه حاله؟! وهذا من أعظم الأسباب للابتعاد عنه، وعدم تأمله ومحبته، لأن من جهل شيئا أنكره.

وإذا كان هذا القرآن - وهو إنما يدرس عندهم نظرا مع ضبطه بالشكل - فكيف ببقية علوم الدين؟! وما ذاك إلا بسبب هذه الفنون المعوقة، كالرسوم، والأشغال، والرياضة البدنية، والألعاب الأخرى، مع وجود عوامل أخرى، كضعف المواد التي تمت إلى الدين والأخلاق بصلة، وعدم وجود المدرسين الأكفاء؛ بل الأغلبية من أولئك المشار إليهم سابقا، مما كان سببا في استياء أخلاق الشباب، وفساد طرايقهم وتغير فطرهم، كما هو مشاهد، يدخل أحدهم المدرسة سليم الفطرة، محبا للخير، آلفا للطاعة؛ ثم يخرج منها قد زال كل ذلك منه، لتغير فطرته وانحراف عقيدته، مبتعدا عن الله، وعن أهل الخير من خلقه، حتى من أبيه الأدنى المربي له، القائم بشؤونه ومهماته؛ وما هذا إلا لعدم تمكن أوامر الإسلام ونواهيه من قلبه. ومما لا شك فيه أن للمدرس أثرا كبيرا في هذه الناحية؛ فإن الأستاذ بالنسبة إلى الطالب كالقلب بالنسبة إلى سائر الأعضاء في البدن; فإن الأعضاء تقول له: اتق الله فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا.

ص: 15

فيجب اختيار الأكفاء من المدرسين، الذين ظاهرهم العدالة والصلاح، والابتعاد عن كل رذيلة، المتمسكين بالأخلاق الحسنة والصفات الجميلة:

يشقى رجال ويشقى آخرون بهم ويسعد الله أقواما بأقوام

هذا وقد أشيع بأن وزارة المعارف قد أزمعت على استجلاب أفلام سينمائية، لبثها في عدد من المدارس؛ وأنا لا أصدق ولا أكذب في هذا أن يوجد، لكني أحذر وأنذر عن نشرها وفشوها في المدارس. بل يجب إبعادها وطردها، مقرونة بالذل والصغار، لمن يريد إدخالها في هذه البلاد، ليضلل بها النشء إضلالا فوق إضلاله، لما احتوت عليه من الضرر الكبير والفساد العريض، حتى ولو قيل فيها ما قيل من التأويلات البعيدة؛ إذ الوسائل لها حكم الغايات، والداء إذا تمكن صعب علاجه، والدفع أسهل من الرفع، والعاقل النابه الحكيم، متى عرض مضارها على عقله السليم، لم يغتر بمن حاد عن الصراط المستقيم.

والواقع أن هذه وأمثالها من العلوم الحديثة، إما أن تكون مفضولة، أو مباحة على الأقل، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن العلوم المفضولة إذا زاحمت العلوم الفاضلة صارت مكروهة؛ وإن أضعفتها

ص: 16

صارت محرمة. وإني أكتب لكم هذا الكتاب لما أجده لكم من النصح والشفقة، فالمحب الصادق هو من يجرع صديقه المر، ليقيه من الوقوع في الضر.

ما ناصحتك خبايا الود من أحد

ما لم ينلك بمكروه من العذل

مودتي لك تأبى أن تسامحني

بأن أراك على شيء من الزلل

وختاما؛ أسأل الله تعالى أن يمن بالتوفيق علينا وعليكم، وعلى كافة المسلمين، وأن يأخذ بنواصينا إلى أقوم طريق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على محمد، وآله وصحبه.

[مقال للشيخ عبد الله بن محمد بن حميد في التربية والتعليم]

وقال رحمه الله:

التربية والتعليم 1.

إن مما لا شك فيه ولا امتراء أن فساد الأمة وصلاحها، ناشئ عن حسن تربيتها لأولادها، وتعليمها لهم التربية الحسنة، والتعليم النافع، والعكس بالعكس، كما اتفق العقلاء على هذا.

فمتى كانت التربية حسنة جارية على السنن المستقيمة، والآداب الشرعية، والتعليم نافعا، حسب أوامر الدين

1 نشر هذه المقال في جريدة اليمامة، بعددها 130 وتاريخ 3/1/1378هـ قبل أن تكون مجلة.

ص: 17

وتعاليمه، أمرا ونهيا واعتقادا، أنبتت تلك التربية والتعليم رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة. بهم تستقيم الأمة، وتنتظم أمورها الدينية والدنيوية، وأعادوا بمساعيهم السامية، كل خير ونفع للبلاد والأمة، فأجدر بهم أن يكونوا غررا في جبين التأريخ، لأن فلاح الأمة في صلاح أعمالها، وصلاح أعمالها في صحة علومها، وصحة علومها منتج لرجال أمناء مخلصين فيما يعملون.

وإن كانت التربية والتعليم بعكس ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وفقر وحالة سيئة، كمن مس العلم بقرحه، ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة يعرفه كل عاقل.

لأنه أمر معلوم، لا يحتاج إلى دليل من أن الصبي إذا بلغ مبلغ الرجال، صارت أعماله وأحواله على مثل ما نشأ عليه وتربى به، وتعلمه في الصغر؛ فهو إنما ينسج على المنوال الذي عرفه في صباه.

وقد علم أن أول شيء يقع عليه نظر حديث السن، يأخذ من قلبه المكان الأول، ويصادف منه قلبا خاليا من الشواغل، فينطبع في ذاكرته ويتمكن منه، ولا يتحول منه إلى غيره غالبا.

ص: 18

ولهذا كان للتعليم سن محدود غالبا، إذا تجاوزه الصبي مهملا، غير متعاهد بالتربية الحسنة والتعليم النافع صار تأديب المؤدب له مما لا فائدة فيه، ومن العبث الذي لا ينجح، ولا يأتي بطائل.

قد ينفع الأدب الأحداث في صغر وليس ينفعهم من بعده الأدب

فإن تعليم الولد في صغره، عبارة عن تغذية روحه، بما تتهذب به أخلاقه، وتزكو بشمائله، وتحسن مقاصده؛ بحيث يكون ميله إلى الخير ومحبته له، ونفرته من الشر وبغضه له، ملكة في نفسه. وهذه التغذية النافعة، إن لم تكن أنفع وأجل من تغذية البدن، بما يقوى بها البدن، وتنمو بها الأعضاء، فليست دونها؛ مع أن الكمال الإنساني لا يتوقف على بسطة واعتدال البدن، التي هي ربما أنها نتيجة التربية الجسدية. فإن من الناس من قوته الأسودان التمر والماء، وشيء من خبز وشعير ونحوه، ولم يكونوا ممن يتهيأ لهم نفيس المطاعم والمشارب، بل على شظف من العيش وقلة من الدنيا، ومع هذا دانت لهم أعناق الملوك الصيد، وذلت لهيبتهم الأعزة.

أتظن أنهم نالوا ذلك بحسنهم وجمالهم ونفيس

ص: 19

أطعمتهم؟ أم بوفرة أموالهم وكثرة عددهم؟ أم بمتانة عددهم، أو تفننهم في أساليب السياسة؟ لا والله، ما نالوا ذلك إلا بدين وعلم، وآداب وأخلاق فاضلة، أخذوها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فبالدين يصلح كل شيء، ويستقيم كل معوج.

بغير الدين لا نرجو صلاحا

بغير الدين لا يحلو البقاء

إذا ما الدين ضيعه بنوه

على الدنيا على الدنيا العفاء

فيا أيها الآباء والمعلمون، ويا أيها العلماء والمسؤولون، خذوا بأيدي هذه الشبيبة واهدوهم إلى محاسن الدين، بغرس محبته في قلوبهم، وتعظيمه في نفوسهم، بشرح محاسنه وفضائله، وما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصرف بني الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة التي معظمها فساد وبلاء.

يا قوم ضعنا وضاع الدين من يدنا

لما جعلنا بوجه الدين تشويها

والله المسؤول أن يأخذ بأيدي المسلمين جميعا، إلى ما فيه هدايتهم وفلاحهم، وأن يؤيد بهم دينه وشرعه؛ وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ص: 20

[رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى كافة العلماء من أساتذة الكليات والمعاهد في الحث على التربية الصحية]

وقال رحمه الله: 1.

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى كافة العلماء، من أساتذة الكليات، والمعاهد وغيرها من مدارس الحكومة، حفظهم الله ونفع بعلومهم، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: تعلمون وفقكم الله ونفع بكم، أن هذه النابتة المتربية في المدارس على تنوعها، هي أمانة تحت أيديكم، أوجب الله عليكم رعايتها وصيانتها، بتعليمها العلوم النافعة، وتربيتها التربية الصحيحة؛ فمتى صحت علومهم واستقامت، أنتجت رجالا مخلصين لدينهم وبلادهم، والعكس بالعكس.

فإن العقيدة متى اعتراها شيء من الانحراف، صارت مصدرا للأخلاق المرذولة؛ ومعالجة مثل هذه أصعب بكثير من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة وحدها; لأن الأول يستهين ببعض محاسن الأدب، بدعوى أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم، بزعم أن هذه الحدود لم تكن على حكمه. والمغلوب للشهوة وحدها، قد ينصرف عن الحسنة

1 ونشر في جريدة حراء في 27 -5 - 1378هـ.

ص: 21

إلى السيئة معترف بخطئه، وينتهك حرمة الحق بدون شك منه على أنه ارتكب جريمة. ونصيحة هذا وموعظته والتأثير عليه، أيسر وأبلغ من منحرف العقيدة، لأن مثل هذا يصير الحق باطلا والباطل حقا، فلا حيلة فيه. وصلاح الأمة وفلاحها ناتج عن صحة أعمالها، وصحة أعمالها ناتج عن صحة علومها؛ فمتى كانت التربية والتعليم جرت على السنن المستقيمة، آداب وأخلاق فاضلة، أنتجت رجالا ذوي نصح وأمانة، وخبرة ووفاء، وصدق وإخاء، واتحاد في الكلمة، وإذا كان بخلاف ذلك، خابت الآمال، وفسد الدين والدنيا، وأصبحوا في جهل وبلاء، وحالة سيئة؛ فبالعلوم النافعة الصحيحة يصلح كل شيء وينتظم كل أمر.

فيا أيها العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، خذوا بأيدي هذه الناشئة، واهدوهم إلى محاسن الإسلام، وغرس محبته في قلوبهم، بشرح محاسنه وفضائله، وبيان ما امتاز به على غيره؛ فقد رسم أعداء الإسلام خططا، ووضعوا مناهج لصد بني الإسلام عن الإسلام، وإغرائهم بهذه المدنية الزائفة، التي معظمها شر وبلاء.

فقد ألفوا في ذلك المؤلفات العديدة، والرسائل الكثيرة، بأساليب مختلفة؛ فإنهم قالوا في تربية النشء

ص: 22

الجديد: يجب

أن تكون تربيته على العصبية الجنسية، وإحلال خيالها محل الوجدان الديني، وجعلها بدلا من الأخوة الإيمانية، في قوله تعالى:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات آية: 10] وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" 1، وقوله:"المؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا" 2؛ تكون بدلا من هذه الأخوة الإسلامية: العصبية الجنسية والوطنية، وإن تباينت دياناتهم، ليحل مكان الوجدان الديني: العصبية الجنسية، ولجعلها في المثل الأعلى للأمة، والفخر برجالها المعروفين في التأريخ، وإن كانوا المفسدين المخربين، بدلا من الفخر برجال الإسلام مثل الخلفاء الراشدين وغيرهم من أبطال الإسلام الذين شهد لهم التأريخ بالفضل والدين، والشجاعة والبطولة والسياسة والحكمة.

وما زال أعداء الإسلام مجدين في هدمه، وتغيير عقائد أهله، كما قال "مسيو أتني الأمن الفرنسي": إن مقاومة الإسلام بالقوة، لا يزيده إلا انتشارا؛ فالواسطة الفعالة لهدمه، وتقويض بنيانه، هي: تربية بنيه في المدارس بإلقاء بذور الشك في نفوسهم، من عند النشأة،

1 البخاري: الأدب (6011)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2586) ، وأحمد (4/270) .

2 البخاري: الصلاة (481)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2585)، والترمذي: البر والصلة (1928)، والنسائي: الزكاة (2560) ، وأحمد (4/404) .

ص: 23

لتفسد عقائدهم من حيث لا يشعرون. انتهى.

فهذا لعلمه قابلية الصغير لما يلقى إليه من العلوم الضارة وغيرها، ولعدم تمييزه بين الصحيح وغيره، ولأن الضرر الذي يصعب معالجته هو زيغ العقيدة، فإن زيغها مصدر كل شر وبلاء، ومصدر كل الأخلاق الرذيلة.

وانظر إلى ما قاله وزير رئيس إرساليات التبشير، فقد عقد مؤتمرا في القرن الماضي، حضره دعاة التبشير، وهذا نص خطابه، ليعرف منه مقاصده ومراميه. قال: أيها الإخوان الأبطال، والزملاء الذين كتب الله لهم الجهاد في سبيل المسيحية واستعمارها لبلاد الإسلام؛ فأحاطتهم عناية الرب بالتوفيق الجليل المقدس، لقد أديتم الرسالة التي أنيطت بكم أحسن الأداء، ووفقتم لها أسمى التوفيق، وإن كان إنه يخيل إلي أنه مع إتمامكم العمل على أكمل الوجوه، لم يفطن بعضكم إلى الغاية الأساسية منه. إني أخبركم على أن الذين دخلوا من المسلمين في حظيرة المسيحية لم يكونوا مسلمين حقيقيين؛ لقد كانوا كما قلتم أحد ثلاثة: إما صغير لم يكن له من أهله من يعرفه ما هو الإسلام، أو رجل مستخف بالأديان لا يبغى غير الحصول على قوته، وقد اشتد به الفقر، وعزت عليه لقمة العيش; وآخر: يبغي الوصول إلى غاية من الغايات الشخصية.

ص: 24

ولكن مهمة التبشير التي ندبتكم لها دول المسيحية، للقيام بها في البلاد المحمدية، ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية؛ فإن في هذه هداية لهم وتكريما. وإن مهمتكم: أن تخرجوا المسلم من الإسلام، ليصبح مخلوقا لا صلة له بالله؛ وبالتالي لا صلة له تربطه بالأخلاق، التي تعتمد عليها الأمم في حياتها. وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا، طليعة الفتح الاستعماري، في الممالك الإسلامية؛ وهذا ما قمتم به من خلال الأعوام الماضية السالفة خير قيام؛ وهذا ما هنأتكم عليه وتهنئكم دول المسيحية والمسيحيون جميعا كل التهنئة

إلى أن قال: إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نشءا في ديار المسلمين، لا يعرفون الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية. وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده له الاستعمار المسيحي، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همه في دنياه إلا في الشهوات؛ فإن تعلم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء.

ص: 25

إن مهمتكم تمت على أكمل الوجوه، وانتهيتم إلى خير النتائج، وباركتكم المسيحية، ورضي عنكم الاستعمار؛ فاستمروا في أداء رسالتكم، فقد أصبحتم بفضل جهادكم المبارك موضع بركات الرب. انتهى.

يشير هذا الخبيث: إلى الحث على تشكيك المسلمين، وبقائهم حيارى، خصوصا النشء الجديد، وأنهم إن تعلموا، أو جمعوا مالا، أو تبوَّؤوا مركزا ما، ففي سبيل شهواتهم؛ ويكونون بعيدين عن معرفة خالقهم ومعبودهم، وإذا تم لهم ذلك أصبح النشء لا يهتم بأي عظيمة في دينه وأمته، وهذا مما يمهد الطريق إلى أغراض المستعمرين، لاستحلال الممالك الإسلامية. وقد قال زويمل أيضا في كتابه "العالم الإسلامي اليوم": يجب تبشير المسلمين بواسطة من أنفسهم ومن بين صفوفهم; لأن الشجرة يجب قطعها بأغصانها; وإن من المحقق أن المسلمين قد نما في قلوبهم الميل الشديد إلى علوم الأوربيين، وأن هذه العلوم ستزاحم العلوم الإسلامية، وتضعفها من نفوسهم. انتهى.

إن غرض هذا القس وأمثاله، كسر هنري جونستون، والمستر بلس، وشاتليه، وأشباههم، الذين كتبوا في هذا المعنى، إنما غرضهم تربية العقول في عهد نشأتها طبق ما يريدون من إدخال العلوم الأوربية على العلوم

ص: 26

الإسلامية، وتنميتها في قلوبهم لينجذبوا بها إليهم، بتعظيمهم، وتعظيم آرائهم، وإخراج المسلم من الإسلام، أو جعله في حيرة من دينه، إلى غير ذلك من الأغراض الفاسدة.

فيجب على العلماء الأجلاء، والأساتذة الفضلاء، أن يعتنوا بهذا النشء، بتحذيرهم من قراءة بعض الكتب والمقالات، التي يكتبها بعض تلامذة أوربا، المنتسبين إلى الإسلام، وأن يبينوا لهم عظمة الدين الإسلامي، وما هو عليه من المحاسن والمزايا التي لا يوجد نظيرها في غيره. كما أن الطلاب النجباء، إذا لاحت لهم شبهة، أو أمر ارتابوا فيه، يسألون العلماء، من الأساتذة وغيرهم، ليكشفوا ما بهم من شبهة، ويوضحوا ما فيه من إشكال; وإني معتقد أن الأساتذة الأجلاء، قائمون بواجبهم نحو هذه الناشئة، فيما يعود عليهم خيره ونفعه في علومهم وأخلاقهم. بارك الله فيهم ونفع بعلومهم الإسلام والمسلمين؛ والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

ص: 27

[رد الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد على ما كتب في صحيفة القصيم تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة"]

وقال أيضا رحمه الله: 1

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن محمد بن حميد إلى حضرة

حفظه الله، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وبعد: اطلعت على كلمتكم في صحيفة القصيم، في عددها 95 وتأريخ 8/5/1381? تحت عنوان "مبادؤنا الأصيلة" ولعلمي بأن هدفكم الحق، ورائدكم الإصلاح، لاحظت على بعض فقرات فيها، أحببت تنبيهكم عليها.

فمنها: أنكم ذكرتم أن من الواجب الطبيعي الخوض في هذه الأمور الهامة

إلى آخره. فنفيدكم: أن الطبيعة لا توجب شيئا، ولا واجب إلا ما أوجبه الشرع فقط؟ ثم إنكم علقتم أملكم بأصحاب الفكر والتوجيه، ولو قيدتم ذلك بما تقتضيه الشريعة الإسلامية، أو على الأقل بما لا يخالف الدين الإسلامي، لكان هو الواجب. ثم إنكم وضحتم هذا الأمر المهم الذي توجبه الطبيعة - على حد تعبيركم - وهو النظام السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، لبلادنا، ويلاحظ من هذا: حصر الأهمية وشدة الحاجة إلى هذه الثلاث فقط، ولم تذكروا معها

1 نشر في جريدة القصيم 6 1381?.

ص: 28

أهمية هذا الدين، وشدة الحاجة إلى التمسك به، وإلى فهمه فهما صحيحا، وتطبيقه تطبيقا شاملا. فإنه متى فهم وطبق بجميع تعاليمه، فإنه كاف، بل هو الغاية في حل جميع المشاكل، ومن جملتها: النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

ومنها: قولكم: الكل يعلم أن باب الاجتهاد مقفول أمام الجميع، باستثناء القلة، التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، التي كتبت من مئات السنين. فنقول: إن أريد بالاجتهاد هنا مجاوزة الشريعة وتخطيهما إلى غيرها، ووضع النظم المستمدة من سواها، المأخوذة من الأفكار والعقول التي لا تمشي على الأسس الشرعية، فنعم، هذا مقفول عن كل إنسان يدين بالشريعة المحمدية، ويلتزم بأحكامها، لكمالها واستيفائها لكل ما يحتاج إليه، قال الله تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38] . وإن أريد بذلك الاجتهاد: استنباط الأحكام الشرعية، والنظم السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، وتطبيقها على ما يقتضيه الكتاب والسنة، وأقوال السلف الصالح، فهذا خلاف الواقع.

فإنه لم يحصر على بعض القلة القليلة، كما قلتم

ص: 29

ولله الحمد - بل ولا على طائفة مهما كثرت، ولا على جيل معين، ولا في زمن مخصوص، من حين وفاته صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا. بل أجمع علماء الشريعة على وجوب العمل بما يقتضيه الكتاب والسنة، وقبوله ممن أتى به كائنا من كان. وأما قولكم: باستثناء بعض القلة القليلة، فقد وضحنا أن هذا خلاف الواقع، وأنه لم يحصر على طائفة معينة، وإن كان جمهور الناس أعرضوا عن تعاليم دينهم، والعمل به، ولكن لم يحل بينهم وبينه أحد سوى أنفسهم والشيطان.

قال الله تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [سورة الأنعام آية: 116] . نعم يوجد طوائف وأشخاص تمسكوا بهذا الدين أشد من غيرهم، وهيأهم الله لنصرة دينه، والذب عنه بحسب استطاعتهم، امتثالا لقوله تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة آل عمران آية: 104] ، ولما جاء من أنه يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وفي الحديث:"لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى"1.

1 مسلم: الإمارة (1920)، والترمذي: الفتن (2229)، وابن ماجه: المقدمة (10) ، وأحمد (5/279) .

ص: 30

وأما قولكم في هذه القلة التي هي نفسها لا تفعل شيئا سوى نقل النصوص الفقهية، فاعلم أن النصوص الفقهية المستمدة من الكتاب والسنة، هي من أفضل ما اشتغل بها، وصرفت الأنفاس في تفهمها. والتفقه أمر مفروض على هذه الأمة، كما قال تعالى:{فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [سورة التوبة آية: 122]، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين"1.

وأما قولكم: إن هذه القلة لا تأتي بجديد، فهذا الوصف هو الذي جعلهم بهذه المنْزلة الرفيعة، وهو الذي جبل القلوب على مودتهم، واعتماد أقوالهم؛ ولو كانوا يأتون بجديد لم تأت به الشريعة، لضرب بأقوالهم عرض الحائط، ووجب الرد عليهم، ودخلوا تحت قوله صلى الله عليه وسلم "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" 2. وأما قولكم: بأن هذه النصوص الفقهية مضى عليها مئات السنين، فيفهم منه: أن هذا نقص فيها، وهذا في الحقيقة يدل على الكمال التام; فإن مرور مئات السنين عليها، دليل على صلاحيتها وحسنها، وأنه لا يستطيع أحد نقضها، ولا الاعتراض عليها جملة؛ وإن قدر وجود أخطاء قليلة، فهذا شيء لا يقدح فيها، ولا في أهلها، لأن العصمة لا تكون إلا للأنبياء.

1 البخاري: العلم (71)، ومسلم: الزكاة (1037)، وابن ماجه: المقدمة (221) ، وأحمد (4/93 ،4/98)، ومالك: الجامع (1667)، والدارمي: المقدمة (224 ،226) .

2 البخاري: الصلح (2697)، ومسلم: الأقضية (1718)، وأبو داود: السنة (4606)، وابن ماجه: المقدمة (14) ، وأحمد (6/240 ،6/270) .

ص: 31

ولكن العلماء لا يتفقون على خطأ، لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم:"أن أمته لا تجتمع على ضلالة" 1؛ فلو قدر وجود خطأ ما من شخص أو طائفة، فإن هناك من يبين ذلك الخطأ، ويوضح الصواب، ويرده إلى الكتاب والسنة، لقول الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] .

وأما قولكم: لا بد أن يكون لنا كلمة في شؤون ديننا، وأن الدين للجميع وليست وقفا على أحد دون الآخر، فهو كما تفضلتم، ولكن لم يقل أحد بذلك، ولا أظن أن يقال هذا.

وأما قولكم: هل إذا تركت شؤون غيري لغيري، سوف يهتم بدراسة أحوالي الاجتماعية والاقتصادية، وغير ذلك من الشؤون، إلى آخره؟!.

فنقول: إن جميع ما أشرتم إليه قد أتت به الشريعة الإسلامية، ووضحه علماؤها، ولم يبق شيء مشكل في جميع ما ذكرتم؛ وقد بينت لنا الأحوال الاجتماعية داخل المنْزل وخارجه، فبينت حق الوالد وابنه، وما لكل واحد على الآخر; وبينت ما يجب على كل فرد من أفراد الأسرة، وما يجب له.

وبينت ما للجار وما عليه، وما للقريب وما عليه، وما للغني وما عليه، وما للفقير وما عليه، وما للوالي وما

1 ابن ماجه: الفتن (3950) .

ص: 32

عليه، وما للشعب وما عليه، وما للمسلم وما عليه، وما للكافر وما عليه; ولم تترك شيئا، حتى بينت حد كل واحد من الزوجين على الآخر، وبينت ما عسى أن يقع من خلاف بينهما في المستقبل؛ ولو حشدنا ما ورد في الأحوال الاجتماعية من الشريعة لبلغ منتهى الكثرة.

وكذلك الأحوال الاقتصادية لم تقصر في شيء منها، بل أتت بجميع ما يحتاج إليه; فأمرت بالاكتساب، وأمرت بالضرب في الأرض للتجارة، والسعي في مناكبها، والبيع والشراء، والمداينات، والحراثة، والمعاملات. وبينت الحقوق الواجبة في المال، والواجبة له من الحفظ والصيانة؛ فنهت عن التبذير، ونهت عن التقتير، وأمرت بالاعتدال في ذلك كله، إلى غير ذلك مما يطول تعداده.

وكذلك الأحوال السياسية، فبينت حالات السلم، وحالات الحرب، وحالات المعاهدة، وأحكام الجزية، وبيان من تؤخذ منه، ومن لا تؤخذ منه، ومتى يجوز القتال، ومتى يمتنع، ومتى يستحب، إلى غير ذلك من الأمور التي لم تأت شريعة بما أتت به هذه الشريعة المحمدية؛ ولم يبق شأن من الشؤون إلا وأعطاه علماء الشريعة العناية الكاملة، وجميع ما يستحق من البحث، مستمدين ذلك من تعاليم الإسلام.

ص: 33

لكن يبقى مسألة قد تكون هي المشكلة الوحيدة، وهي: عدم سؤال الجاهل للعالم، والله يقول:{فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [سورة النحل آية: 43] ، أو عدم الرضى والانقياد لما جاءت به الشريعة، والله يقول:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .

وإلا فلو كان من وجد في نفسه شيئا من الإشكالات، سأل العلماء عنه، لوجد عندهم ما يشفي ويكفي، سواء كانت المسألة اجتماعية، أو اقتصادية، أو سياسية.

وأما قولكم: إن التطور والأحداث التي تقع تحتم المبادرة إلى إعادة النظر في جميع أوضاعنا

إلى آخره. فيقال: ما المراد بالأوضاع؟ هل هو الوضع الديني؟ أو الوضع الاجتماعي؟ أو السياسي؟ أو الاقتصادي؟ أو يشمل الكل، كما يعطيه مدلول كلمة "جميع"؟ فإنه يفهم منها معنى الإحاطة والشمول، لا سيما حينما وضحتم بالعبارة التالية، وهي قولكم: إن النظام الأساسي للدولة كفيل بتحديد كل المعاني التي ننشدها جميعا; وأنا أعلم أن هناك من يعتقد أن النظام المذكور إذا وجد، فسوف يخالف تعاليم الإسلام وروحه.

ص: 34

فيا لله العجب، أنحن في شك من ديننا؟! أنحن في أمر مختلط من وضعنا؟! أنحن في حيرة من أمرنا؟! أنحن فقدنا كل المعاني من أنفسنا، فننشدها كما تنشد الضالة من الحيوان؟!. كلا، والله، فإن لدينا شريعة سماوية لم يكن مثلها، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيرها، وقد أرشدتنا إلى ما فيه صلاح ديننا ودنيانا، وما نحتاجه في جميع أمورنا.

وأما علمكم بأن هناك من يعتقد أن النظام المذكور يخالف تعاليم الإسلام، فهو كذلك كما علمتم، ولا شك أنه يخالفه، بل الدين الإسلامي يحارب مثل هذا، ولا يشك في ذلك مسلم ملتزم بمبادئه الشريفة.

وأما دعوتكم إلى تشكيل هيئة من بلادنا، والبلاد الإسلامية الأخرى، ورجال آخرين

إلى آخره. فيقال: إننا لسنا في حاجة إلى هذا، وقد حصل الاتفاق - ولله الحمد - من جميع علماء الإسلام من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى وقتنا هذا، وهم متفقون كلهم على أن نظامهم ودستورهم، هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنهما كفيلان بكل ما فيه مصلحة البشر من أمر الدنيا والآخرة.

وأما الرجال الآخرون، فكأنه يراد بهم الغير مسلمين، فيا للمصيبة! ويا لعدم الثقة بالمبدأ الشريف! أن نأتي

ص: 35

بأعدائنا،?كي يرسموا لنا خطة سياسية اقتصادية اجتماعية، طالما حاولوا ونصبوا لنا من أجلها الشباك، وبذلوا فيها الأموال الطائلة، وأتعبوا الأبدان الكثيرة في محاولتها، فنهبها لهم وهبا بلا مقابل، ونقر أعينهم بها عفوا بلا تعب!! ومن أين لآراء هؤلاء والاتفاق مع الشريعة الإسلامية، إلا كما يجتمع الماء والنار؟! وقد تكررت عبارتكم بالدعوة إلى القومية العربية. فنقول: إنه لا دعوة إلا إسلامية، وأن القومية العربية أو سواها من القوميات، متى فارقت الدين، ولم تلتزم بما يجب له، أنه ينبغي محاربتها، أو الابتعاد عنها حتى ترضخ للإسلام وتدين به. وقد قطع الله العلائق والمودة بين المسلم والكافر، ولو كان أقرب قريب، كما قال تعالى:{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [سورة المجادلة آية: 22] الآية.

وأما قولكم: ولا يكفي أن ننتقد الغير في مبادئهم وأنظمتهم، بدون أن يكون لدينا أنظمة أفضل منها نواجههم بها.

فيقال: أليس عندنا من النظم والمبادئ ما هو أفضل وأعلى وأكمل وأشمل، من كل نظام على الوجود؟ أليس

ص: 36

نظامنا كتاب الله وسنة رسوله؟ أيستوي نظام من نحاتة الأفكار، وزبالة الأذهان، ونظام من حكيم خبير؟! أيستوي نظام في كل عصر يلغى ويبدل، ويضلل واضعه، ونظام مضت عليه القرون العديدة وهو يتجدد بذاته؟! أليس عقلاء المستشرقين وبحاثتهم قد أقروا أنه لا يوجد نظام على وجه الأرض أجمع وأكمل من نظام الإسلام؟ ولو سقنا ما بلغنا عنهم لاحتاج إلى صفحات.

ومناقب شهد العدو بفضلها والفضل ما شهدت به الأعداء

وأما قولكم: نواجههم بها، فنقول: لو واجهنا جميع أنظمة العالم بنظامنا، وجلس الكل مجلس الإنصاف والتجرد من الشهوات النفسانية، لأقروا بفضله، وظهرت لهم عيوب أنظمتهم وتناقضها، ولصارت أنظمة العالم بأسره كشمعة وقفت أمام الشمس في نحر الظهيرة؛ وهذا التنزل للمواجهة على سبيل الفرض والتقدير، وإلا فالنظام السماوي أعلى وأرفع، وأعز من أن يقارن به غيره.

ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

وأما هذه الصنائع والعلوم، فلم يدركوها بفضل أنظمتهم، ولكن باجتهادهم في العمل، فلو أن المسلمين اتبعوا جميع نظامهم، وعملوا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [سورة النساء آية: 71]، وبقوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ

ص: 37

مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [سورة الأنفال آية: 60]، وبقوله عليه السلام:"استعن بالله ولا تعجز" 1، لأدركوا مرادهم، وعملوا كغيرهم، وفاقوهم في العمل. ولكن لم يعملوا بقدر استطاعتهم، وأخلدوا إلى العجز والكسل؛ وهذا شيء ينهى عنه الشرع، وإلا فما المانع من أن نطبق مدلول هذه الكلمة: اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدأ، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا.

وأما ما ذكرتم من أن هذا العصر وقت التنظيم الحديث، ليكون الرخاء والتقدم من نصيبنا، فنقول: إن أريد التنظيم الحديث بمعنى المحدث في نظامنا الإسلامي، فلسنا في حاجة إليه. فالدين كامل لا يحتاج إلى تجديد، وبكماله كمل لنا كل معنى من المعاني التي نحتاجها؛ وقد حصل لنا من الرخاء والطمأنينة التي لا توجد في غير بلادنا، على حسب ما طبقنا من النظم الشرعية. وأما التقدم، فإن أريد به الصناعي، فهذا لا يحتاج إلا إلى عمل وجد، وعدم انهماك في الشهوات، ولم يحصل تقدم لأحد كما حصل لأوائلنا الذين تمسكوا بدينهم حق التمسك، وطبقوا تعاليمه على الوجه الأكمل، فقد سادوا العالم أجمع؛ فلو طبقناه كتطبيقهم، لوصلنا إلى ما وصلوا إليه.

ومبادؤنا لا تحتاج إلى صقل وتركيز - كما قلتم إنها

1 مسلم: القدر (2664)، وابن ماجه: المقدمة (79) .

ص: 38

تحتاج إلى ذلك - فهي الغاية في التركيز، والغاية في الوضوح والبيان; وقد قال صلى الله عليه وسلم:"تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك" 1 والله نسأل أن يهدينا وإياكم إلى صراطه المستقيم، وصلى الله على من بلغ البلاغ المبين، وآله وصحبة وسلم.

[نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام]

وقال أيضا رحمه الله، في نقد مساواة المرأة بالرجل على ضوء الإسلام2: بيننا اليوم أناس كثير، يعتقدون مساواة النساء بالرجال؛ وأنه يجب لهن ما لهم، وعليهن ما عليهم، ولا فرق بين الصنفين في جميع الأحكام، لأن النساء شقائق الرجال; ولم يقفوا عند هذا الحد؛ بل أخذوا ينصرون هذا الرأي ويتعصبون له، مسفهين رأي من خالفهم من أهل الإسلام، كأن القوم لم يعرفوا أوامر الإسلام، ولا قرع آذانهم حكم من أحكامه؟! فالدين الإسلامي في ناحية، وهؤلاء المنتمون إليه في ناحية أخرى. ولا شك أن هذا الرأي رأي خبيث، بعيد عن مدلولات الكتاب والسنة؛ فاسمع الأدلة من الكتاب والسنة، على بعض الفوارق بين الرجال والنساء، ومفاضلة الصنف الأول على الثاني:

1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .

2 نشر في عدد من الصحف المحلية.

ص: 39

الأول: قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [سورة النساء آية: 34] : دلت الآية الكريمة بوضوح على أن الرجل هو القائم على أمر المرأة، والمحافظة على حمايتها ورعايتها، لما للرجل من قوة المزاج، والكمال في الخلقة، ولقوة عقله وصحة نظره في مبادئ الأمور وغاياتها، ولقدرته على التكسب والتصرف في الشؤون كلها; ومن ثم كلف الرجال بالإنفاق على النساء، والقيام برئاسة المنْزل، والمرأة تقوم بوظيفتها الفطرية، وهي: الحمل والولادة، وتربية الأطفال، وهي آمنة في سربها مكفية ما يهمها من نفقتها ونفقة أولادها. الثاني: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [سورة النساء آية: 3] : ومن هذه الآية يتضح أن الله سبحانه وتعالى أباح للرجل أن يجمع أربع نسوة، إذا عرف من نفسه العدل بينهن. ولا يجوز للمرأة أن يتزوجها أكثر من واحد، لما في ذلك من اختلاط الأنساب، والفساد العريض، وعدم تمكن المرأة من القيام برغبات رجال متعددين في آن واحد، إلى غير ذلك مما لا يستقيم معه قيام البيوتات، وانتظام العوائل. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟!

ص: 40

الثالث: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 11]، وقوله:{وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [سورة النساء آية: 176] : اتضح من هاتين الآيتين أن للذكر من تركة مورثه مثل ما للأنثيين من أخواته، والحكمة في ذلك - والله أعلم - أن الرجل يأتي عليه وقت يتزوج فيه، فيولد له الأولاد، ونفقة هذه الزوجة وأولئك الأولاد ملزم بها، ومطلوبة منه، في حين أن منْزله مقصد للزائرين.

بخلاف الأنثى فإنه يأتي يوم يضمها إليه رجل يتزوجها، فيقوم بشؤونها، والإنفاق عليها، وعلى أولادها، من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، لا تكلف هي هللة واحدة من مالها الخاص؛ ولا يخطر ببال أحد بأن يجعل منْزلها مقصده، لما في ذلك من مثار ظنون، ومهب ريب وشكوك. فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل والحالة هذه؟!.

الرابع: قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [سورة البقرة آية: 282] : دلت الآية الكريمة أن الشهادة متى وجد لها رجلان، كان أكمل وأحفظ وأضبط؛ فإذا لم يكن إلا

ص: 41

رجل واحد، فلا يقوم مقام الرجل الآخر إلا امرأتان، لضعف حفظ المرأة، وعدم كمال ضبطها، أو لأن الرجل أقوى عقلا من المرأة، كما تدل له الآية، وكما يؤيده الواقع، ويشهد له الحس، في حين أن كثيرا من الأحكام، لا تقبل فيه شهادة النساء، كالحدود، والقصاص وغيرها. فكيف مع هذا يقال بمساواة النساء بالرجال؟!.

الخامس: من السنة ما رواه البخاري، وغيره، من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث: "ما رأيت من ناقصات عقل ودين، أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن

" 1 الحديث. فهذا نص صريح في نقصان المرأة في عقلها ودينها عن الرجل، لضرورة أنه لا يتساوى من يصلي بعض حياته، بمن يصلي كل حياته، ولا من يصوم شهر رمضان من أوله إلى آخره، بمن لا يصوم إلا البعض. كما لا تتساوى شهادة الرجل، لكمال عقله وقوة ضبطه، بمن شهادتها نصف شهادته، لضعف عقلها وعدم كمال حفظها. فمن ساوى بين الرجل والمرأة، فقد جنى على الإسلام، وسلك سبيل الاعوجاج.

السادس: روى أحمد والبخاري وغيرهما، من حديث أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: "لما هلك كسرى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: من استخلفت فارس عليها؟

1 البخاري: الحيض (304)، ومسلم: الإيمان (80) .

ص: 42

قالوا: ابنته; قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" 1.

فهذا الحديث ينص على أنه لا يجوز أن تكون المرأة في مركز الخلافة، وأن الفلاح منفي عنهم بتولية المرأة؛ ومتى تخلف الفلاح عنهم، قارنهم الخذلان والخيبة; فاتضح أن هذا المنصب الهام مخصوص بالرجال. بل صرح أهل العلم أن المرأة لا يجوز توليتها القضاء، ولا أن تكون إمامة في الصلاة، ولا مؤذنة، ولا خطيبة، وأخذ هذا المعنى الشاعر فقال:

ما للنساء وللكتابة والإمامة والخطابة هذا لنا ولهن منا أن يبتن على جنابة

السابع: روى الشيخان وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها ذو محرم" 2: دل الحديث على منع خلوة الرجل بالمرأة، إلا إذا كان معها محرم، من زوج وغيره؛ والرجل لا خوف عليه إذا خلا به رجل آخر، لأنه ليس موضعا للمعنى الذي من أجله يميل إليه الرجل.

بخلاف المرأة، فإنه لا يؤمن عليها، لقوة الداعي منه ومنها، كما في الحديث الآخرة:"لا يخلون رجل بامرأة، إلا وثالثهما الشيطان" 3

فكيف يقال بمساواة المرأة للرجل؟! هذا دعاية أوربية، قام بها أعداء الإسلام، حتى استفحل أمرها،

1 البخاري: الفتن (7099)، والترمذي: الفتن (2262)، والنسائي: آداب القضاة (5388) ، وأحمد (5/38 ،5/50) .

2 مسلم: الحج (1341) ، وأحمد (1/222) .

3 البخاري: النكاح (5232)، ومسلم: السلام (2172)، والترمذي: الرضاع (1171) ، وأحمد (4/149 ،4/153)، والدارمي: الاستئذان (2642) .

ص: 43

وعظم خطرها، فدعا إليها الكثيرون ممن أظلمت قلوبهم، ولم يشموا رائحة الإيمان، من المنتمين إلى الدين الإسلامي.

الثامن: روى أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها حاضر إلا بإذنه" 1 أي: أنه لا يجوز للمرأة أن تصوم تطوعا، وزوجها حاضر، إلا بإذنه، لأن صومها نفل، وطاعتها له في مقصوده منها فريضة عليها، إذاً يكون صومها جريمة ارتكبتها، لا طاعة مثابة عليها.

التاسع: جاء في حديث معاذ، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"دية المرأة نصف من دية الرجل" 2 وهو مجمع عليه بين المسلمين. فاتضح مما تقدم بطلان قول من قال: بأن النساء يساوين الرجال في سائر الأحكام، وهذه الدعاية الشنيعة، المخالفة للكتاب والسنة، يعرف كل فسادها ببداهة العقل.

والنصوص الدالة على الفوارق بين النساء والرجال، وعدم مساواة الصنفين كثيرة جدا، كحديث:"التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" 3، وحديث:"ليس على النساء حلق، وإنما يقصرن" 4، وحديث:"لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد، لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"

وحديث: "عليكن بحافات الطريق" 6، وحديث: "لا

1 البخاري: النكاح (5195)، ومسلم: الزكاة (1026) ، وأحمد (2/316) .

2 مالك: العقول (1607) .

3 البخاري: الجمعة (1203)، ومسلم: الصلاة (422)، والترمذي: الصلاة (369)، والنسائي: السهو (1208 ،1209)، وأبو داود: الصلاة (939)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1034) ، وأحمد (2/241 ،2/261)، والدارمي: الصلاة (1363) .

4 أبو داود: المناسك (1984)، والدارمي: المناسك (1905) .

5 الترمذي: الرضاع (1159) .

6 أبو داود: الأدب (5272) .

ص: 44

تسافر المرأة إلا مع ذي محرم" 1، وحديث: "خير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها" 2، وحديث: "صلاة المرأة في بيتها خير من صلاتها معي" 3، وحديث: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعته، إلا على أربعة" 4 ذكر منهم المرأة، وحديث: "العقيقة عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة" 5، وحديث: "عتق المرأتين في الفضل، يعادل عتق الذكر"، إلى غير ذلك من النصوص التي لا تحصى.

فهل تساوي المرأة الرجل فيما تقدم بيانه، في الأحاديث السابقة؟ أم يضرب بهذه النصوص عرض الحائط؟ ويقال: نحن في القرن العشرين، نسير مع العصر، ويكفينا مجرد الانتساب إلى الإسلام، مع نبذ أوامره ونواهيه، كما عليه دعاة هذه المذاهب الهدامة؛ وقى الله شرهم، وأراح الإسلام والمسلمين منهم.

هذا، وأسأل الله أن ينصر دينه ويعلي كلمته، ويوفق الأمة الإسلامية للتمسك بتعاليم دينها الحنيف؛ وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

1 البخاري: الحج (1862)، ومسلم: الحج (1341) ، وأحمد (1/222 ،1/346) .

2 مسلم: الصلاة (440)، والترمذي: الصلاة (224)، والنسائي: الإمامة (820)، وأبو داود: الصلاة (678)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1000) ، وأحمد (2/247 ،2/340)، والدارمي: الصلاة (1268) .

3 أبو داود: الصلاة (570) .

4 أبو داود: الصلاة (1067) .

5 الترمذي: الأضاحي (1516)، والنسائي: العقيقة (4218)، وأبو داود: الضحايا (2834 ،2835 ،2836)، وابن ماجه: الذبائح (3162)، والدارمي: الأضاحي (1966) .

ص: 45

[عزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون]

وقال الشيخ: عبد الله بن سليمان بن حميد:

وعزكم وعز بلادكم في الإسلام يا مسلمون 1.

من كان يريد العزة فلله العزة جميعا، فالتمسوا العزة يا مسلمون من هذا السبيل، وابتغوها من هذا الوجه; واعلموا أنه هو السبيل المستقيم، والمنهاج القويم، الذي سلكه أوائلكم السالفون، وعض عليه بالنواجذ الصالحون، واستغنوا به عما سواه من سبيل. واكتفوا به عن كل نظام أجنبي دخيل، فدانت لهم أمم العالم، وذلت أمامهم الدنيا، وملكوا أطراف المعمورة، وسيقت لهم خيرات الأرض؛ حتى قال بعض ملوكهم، وقد رأى يوما سحابة: سيري كيف شئت، وأمطري أنى شئت، فسيأتيني خراجك. وهكذا كانت نتيجة التمسك بالدين، والعمل على إعلاء كلمة الله؛ فهم طبقوا الإسلام في أنفسهم قولا وعملا، وارتضوه عقيدة ودينا، وجاهدوا في سبيله أعظم الجهاد، ودعوا إليه في الحاضر والباد؛ يطلبون بذلك كله رضى الله، ويلتمسون من وراء ذلك ثواب الآخرة، فأعطاهم الله تعالى الملك العظيم الواسع، جزاء لهم في الدنيا منه وفضلا؛ وما أعده لهم في الآخرة خير وأبقى.

1 في مجلة راية الإسلام.

ص: 46

فانهلوا أيها المسلمون من حياض الإسلام، وتمسكوا بتعاليمه، وتأدبوا بآدابه، وتخلقوا بأخلاقه، واعملوا بشرائعه، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم في هديه تسعدوا وتسعد بلادكم، وتكونوا كأسلافكم سادة وقادة.

فالتمسك بالدين هو الرقي والفلاح، ولا تشرقوا ولا تغربوا، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، فتدمروا أنفسكم وبلادكم، وتخسروا دنياكم وأخراكم، واحذروا - يا مسلمون - دعاة السوء، وشياطين الإنس والجن، الذين لا يقصرون في العمل على تدميركم.

ولا يفتؤون يواصلون الحرب الخبيثة لاجتثاث أخلاقكم، بإرسال المجلات الداعرة، والصحف الفاجرة، والإذاعات الملحدة الممتلئة بالنيل من الدين ورجاله، والطعن في الإسلام ونظامه؛ ويوهمون الشباب أن التمسك بالدين جمود ورجعية، وأن الانحلال والإلحاد تقدم ومدنية. وقد تعس هؤلاء الشياطين ومن سلك سبيلهم، وانتكسوا، وإذا شيكوا فلا انتقشوا؛ فهذه بلادهم مسرح للجرائم الخلقية، وميادين الشرور الدينية والدنيوية، فلا يأمن الإنسان منهم على نفسه ولا يطمئن على ماله وعرضه.

وبلادنا بحمد الله تعالى آمنة مطمئنة بسبب تنفيذ تعاليم الدين، والتمسك بشرائع الإسلام. فيجب على شبابنا

ص: 47

العقلاء أن يعضوا بالنواجذ على تعاليم الإسلام، ويعرفوا قدره وفضله، فلا يغيروا فيغير الله عليهم:{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [سورة الرعد آية: 11] ولا تظنوا أيها المسلمون: أن تقليد الأجانب في زيهم وأحوالهم المخالفة للإسلام يرفع قدركم، ولا أن اتخاذ الكفار أولياء من دون المؤمنين يعظم شأنكم، فإن الله الآخذ بنواصيكم، يقول:{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [سورة النساء آية: 139-138] .

وقال الشيخ صالح بن محمد اللحيدان: التعليم ودروس الدين1

إن مما لا شك فيه لعاقل انتشار التعليم في شتى بقاع المملكة، حتى شمل القرى النائية والبادية، وقد يندر أن تجد شابا لا يحسن القراءة والكتابة، إلا أنه مع هذا التقدم الشامل، قد سرت في الناس موجة شر، تنذر بخطر كبير، إن لم يتدارك أمرها؛ ويُقضَى على بذور السوء في مهدها، ويحسن المنهج الذي يدرس.

ويعتنى بالمادة التي طرأ عليها التهذيب والتشذيب،

1 في مجلة راية الإسلام، جمادى الأولى سنة 1381 هـ.

ص: 48

وهي مادة الدين، من قرآن وحديث، وفقه وتوحيد وتفسير، وما يتبع تلك العلوم ويخدمها من علوم العربية؛ إذ إن التعليم في البلاد، يتسع في رقعته ومواده، إلا أن اتساع المواد، سيكون في أغلب الأحوال على حساب دروس الدين. فكلما اخترع درس، نقصت دروس الدين لإيجاد محل لذلك الدرس الجديد، حتى صار الطالب يتخرج من المرحلة الإعدادية، وهو لا يعرف إلا أسماء المواد، فدراسته لمواد الدين سطحية.

ودرس الدين ثقيل على نفوس الطلاب، وذلك لما يكتنفه من مزاحمة، من دروس يحسنها أصحابها ويمجدونها، ويسبغون عليها من صفات الكمال، ما يجعلها ذات الفائدة الكبرى والمهمة العظمى في الحياة. إننا في بلد يحق له أن يسمى بالبلد الإسلامي الأول؛ إذ إن تعاليم الإسلام لا تطبق في بلد كما تطبق فيه، وإلى الآن والدستور الشامل في هذا البلد - والحمد لله - دستور الإسلام. فينبغي لنا الاعتناء بالتربية الإسلامية، وتحسين الإسلام وأحكامه في نفوس الناشئة، إذ قلوبهم خالية يمتلكها ما سبق إليها؛ فإن كان السبق للتعاليم المنافسة لعلوم الدين، امتلكت قلوب الشباب ونفوسهم، حتى يصبح ما عداها

ص: 49

مستهجنا عتيقا، لا يليق بالشباب المثقف المتحرر، بل هو من صفات عتقاء التفكير والأخلاق.

وينتج عن ذلك انحلال في العقيدة، وفساد في الأخلاق، وفوضى في التفكير، ثم تصبح الكلمة لهؤلاء الجنس من الناس؛ إذ هم المتعلمون التعليم العصري الحر؛ ويكون بيدهم نتيجة لذلك القول والفصل، فتضيع البلاد، ويختل نظام الإسلام فيها؛ والسعيد من وعظ بغيره.

ونظرة واحدة إلى كثير من البلاد الإسلامية تعطينا صورة لما يمكن أن يحدث إن لم يعالج بحكمة وحزم; إن الروح الإسلامية تكاد تكون معدومة في شتى مواضيع الدراسة، ويندر أن نجد من يعتني بهذه الناحية، أو يوليها جانبا من الاهتمام. حتى من يناط بهم تدريس المواد الدينية، لا يشغلون أنفسهم إلا بتلقين الطلاب تلك المواد جافة صلبة، ولا يجهدون أنفسهم بالدعوة إليها، وتبيين محاسن الإسلام، وكمال نظامه، واعتنائه بجميع شؤون الحياة، وسمو تشريعه على كل نظام.

ففي بلادنا وغيرها تضعف روح الإسلام ويخف سلطانه على النفوس عند المتعلمين؛ ويتسع هذا الضعف ويخف ذلك السلطان بقدر ما يتسع التعليم وتنتشر المدارس، وما

ص: 50

ذلك إلا بسبب إهمال رجال التعليم لتربية الإسلام، وترك الروح المعنوية تذبل وتجف، وزيادة ما يزاحم الدروس الدينية مما أضعفها وأضعف نتائجها، وجعل الطلاب ينظرون إليها شزرا، ويحسون بثقل درس الدين وصعوبة الاستماع إليه؛ حتى إن بعضهم يتحين الفرص للخروج عن الفصل إذا أتت هذه الدروس الثقيلة على نفسه؛ مما جعل مدرسي المواد الدينية يجدون مشقة كبيرة، ويلاقون صعوبات كثيرة في إنجاح مهمتهم.

فلابد من عمل حاسم، يقضي على الشر قبل استفحاله - وقد بدأ يستفحل -، ويعالج الأمر بعلاجه النافع؛ وذلك بتحسين وضع التعليم الديني، وتقوية جانبه، والاهتمام بأمره، باختيار المدرس الصالح، الذي يؤمن بما يلقي من دروس؛ فإن من لا يؤمن بالمبادئ التي يدرسها، لا يرجى لتدريسه ثمرة، وكذلك من يخالف فعله ما يحمله من علم.

فإن الأخلاق يجب أن يهتم بها قبل غزارة المادة؛ فإن من يدرس الصلاة وواجباتها ووجوبها، ثم يتهاون بها، فإن الطلاب على أثره يعملون. ولقد اهتمت وزارة المعارف، وجعلت دروس الدين ولغته، مادة أساسية من لم ينجح فيها فلا نجاح له، إلا أن هناك جوانب يحسن الاعتناء بها، وهي:

ص: 51

اختيار من يدرس هذه المواد، وجعل مواد الدين تحسب نمرها في المجموع الكلي لمن يراد ابتعاثهم، كما ينبغي ألا ينظر لقوة الطالب المبتعث للخارج، إلا إذا كان معروفا بالمحافظة الشديدة على شعائر الإسلام وآدابه.

وأن يشعر الطلاب أن من يحفظ عنه إخلال ببعض النواحي الدينية، فسيكون لهذا دخل في عدم نجاحه؛ وسينظر إليه بأنه قاصر عن زملائه وإن تفوق في المعلومات.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

إن اعتناءنا بالقرآن، وعلومه وآدابه، كدولة مسلمة، ضعيف جدا؛ فالقرآن الذي هو أقوى شيء وأقدره على تكوين العقول الحية، وتهذيب النفوس والأخلاق، لا يقرأ إلا في المدارس الابتدائية، قراءة مهلهلة.

ثم يخرج الطالب إلى القسم الثانوي، ويخرج منه، وقراءة كتاب لأحد الأدباء العصريين أسهل عليه من قراءة جزء من القرآن، لبعد العهد به، وعدم تمكنه منه، ولأن ذلك الكتاب وجد من يدعو له، ويمجده ويحسنه، حتى يظن البعض أن ما بينه وبين الاتصاف بالأديب، إلا أن يكرر ذلك الكتاب مرات، حتى يصبح منشئا بليغيا.

ولو كتب موضوعا، وعرضت له بعض الآيات،

ص: 52

لأخطأ في كتابتها; وهذا يدل على مبلغ العناية بهذا الكتاب المعجز. أما السنة المطهرة التي تفسر القرآن، وتبين مراميه، وتدل على كنوزه، فيمرون عليها مر الكرام، لا يثقلون عليها بالدرس والتمحيص، ولا يغوصون على كنوزها، ولا يلتمسون منها العون على حل مشاكل الحياة؛ حتى صارت أقوال طه حسين وأضرابه، متداولة بين الشباب; بينما أقوال سيد البشر لا تنبس بها شفة بين هذا الصنف من الناس، الذين هم يرجون لكل خير.

أما سيرة رسولهم، وتأريخ حياة أصحابه، وحياة رجال الإسلام، فهي لا تقاس بشيء أمام ما تقدم من القرآن والسنة؛ بل الذكر لنابليون وأشباهه، ولمفكري بني جلدته ممن دأبوا على تحطيم كيان المسلمين.

ولقد بلغ الأمر إلى درجة أنك إذا سمعت بين الشباب ثناء على شخص ما، بأدبه وأخلاقه، وحسن ذوقه، تيقنت أنة خال من الأخلاق الإسلامية، قليل المعرفة بمعاني كتاب ربه، جاهل حتى بأسماء كتب السنة، التي تحوي أقوال هادي البشرية، بالهداية الإلهية، منحرف في تفكيره، ومعطل لشعائر دينه، فلا حول ولا قوة إلا بالله.

إن رجال التعليم عليهم واجب كبير، وحمل ثقيل، ومسؤولية عظمى؛ فبيدهم زمام الأمر، وهم الذين يستطيعون بتوفيق الله أن يحفظوا على الأمة أخلاقها

ص: 53

وآدابها، بتشجيعهم لأهل الخير، واحترامهم وتقديرهم، وإشعار الآخرين أنه لا كرامة ولا تقدير لمن لم يحافظ على كرامة هذا الدين، ولم يقدر شعائره.

ويجابهوهم بذلك، ويصارحوهم به، وأعني بذلك المشائخ الذين لهم السلطة التامة على التعليم والمتعلمين: رئيس المعاهد والكليات، ونائبه، ووزير المعارف الذي هو أوسع دائرة وأكبر مسؤولية، وأعظم خطرا؛ إذ التعليم الشامل هو تابع لوزارته. فلا بد من عمل الحيطة، وتقريب أهل الخير والصلاح وإكرامهم، وإشعار الآخرين بأننا لا نحترم، إلا من يجتهد في احترام هذا الدين، ويعمل على غرس حبه في نفوس الآخرين؛ كما يراد من الجميع العناية التامة، في إسناد وظائف التدريس إلى من يخدمها بأمانة المسلم ونصح المسلم.

ويشعر من يستقدم للتدريس إلى أن من ضبط عليه إخلال بالسلوك وإظهار لما يتنافى مع الإسلام، فإن مصيره الإبعاد، إن كان من خارج البلاد، أو الفصل من الوظيفة إن لم يكن كذلك.

فإن المدرسين قد غيروا أخلاق الناشئة، إما بالدعوة السيئة باللسان، وإما بدعوة التقليد بأعمالهم،

نسأل الله أن يوفق رجال التعليم، في بلادنا، وجميع البلاد الإسلامية،

ص: 54