المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[الفصل الأول القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌[الفصل الأول القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده]

سجله لأهل الجهاد من أعمال البطولات والنصر.

تجد فيها ما تحب من فتاوى تهم المسلمين، ولها مساس بحياتهم، يكتبها أكابر العلماء في هذه البلاد؛ وهي مصدر حياة، ومنار علم، تجيب على أسئلة القراء، واستفتاءاتهم، وتحل ما يصعب حله من مسائل الاقتصاد التي ضل فيها الشرق والغرب، ومن سار في ركابهم.

إنها مجلتك أيها المسلم أين كنت، وحيث تكون، فهي بك ولك، ومنك تصدر، وعنك تنطق؛ هي ميدانك الفسيح الذي تجد فيه ما يروقك من علم وأدب، فتنقلك من مقالة إلى قصيدة، إلى قصة هادفة، إلى فتوى مفصلة.

فهي روضتك المحببة، تضم أنواع النباتات النافعة، تغذيها أفكار حية، أشربت حب الإسلام، والدفاع عنه، ويتولى إخراجها كوكبة من العلماء، والشباب المثقف، ممن ستقرأ لهم في هذا، والأعداد المقبلة.

إنها مجلتك، ونجاحها متوقف على وقوفك بجانبها، فجاهد بمساندتها، وستساير بإذن الله العصر وتطوره، وستربط بين المسلمين في شرق بلادهم وغربها، حتى يكونوا جسما واحدا، يحيا حياة حرة كاملة، وهي بعون الله بالغة ما تصبو إليه، وما ذلك على الله بعزيز.

ص: 171

‌الباب العاشر "النظم

"

[الفصل الأول القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده]

سميته بها لكثرتها في هذا العصر، ولم تكن في عصر الشيخ عبد الله، ولا في عصر النبوة، ولا الأئمة المهديين; وإنما سرت إلينا من أفراخ الإفرنج المنحلين، المعرضين عن شرع رب العالمين، فجاؤوا بنظمهم يطبقونها على المسلمين.

وفي الباب فصول; الأول منها: القضاء الشرعي الذي أوجبه الله على عباده، وقد أجمعوا على أن ينصب في كل إقليم قاضيا، لحفظ حقوق المسلمين، عملا بقوله تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [سورة المائدة آية: 49]، وقوله:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [سورة الأعراف آية: 3] .

وقد تكفل الله لعباده جميع ما يحتاجون إليه إلى قيام الساعة، قال تعالى:{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} [سورة الأنعام آية: 115] الآية، وقال:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [سورة المائدة آية: 3] . والقضاء، وفضله، وآدابه، قد أفرد بالمؤلفات؛ وفي أثناء كتب الحديث والفقه ما يشفي ويكفي، ويغني عن أفكار المعرضين عن شرع رب العالمين.

ص: 171

قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله:

من محاسن الإسلام 1:

لا شك أن الدين الإسلامي، دين سماوي، لم يكن لأمة من الأمم مثله، ولا نزل على نبي من الأنبياء نظيره، إذ هو دين عام، مبين لأحوال المجتمع الإسلامي، بل البشر عامة؛ وبه كمل نظام العالم، فهو جامع شامل للمصالح الاجتماعية، والأخلاقية.

فإنه يبين الأحوال الشخصية التي بين العبد وبين ربه، من صلاة، وزكاة، وصوم، وحج؛ وشرع نظافة البدن، فأمر بغسل الجنابة، والجمعة، والعيد، أو بعضا كالوضوء عند أداء كل فريضة من الفرائض الخمس.

وشرع أمور الفطرة، من ختان، وقص شارب، وتقليم أظفار، ونتف الإبط، والسواك، وحلق العانة. كما أرشدنا الإسلام إلى تجميل الثياب، وأن تكون على أحسن هيئة وأكملها، كما سن ذلك في الجمعة، والعيدين.

وهذب الأخلاق: فأمر بالصدق في المعاملات، والوفاء بالعقود، والعهود، والمواعيد، وأوجب ترك الذنوب، من زنى، وخمر، وغيبة، وقذف، وسعاية، وشهادة زور، وانحراف في الأحكام، وتحريف لما أباح الله

1 نشر في جريدة القصيم.

ص: 173

وحرم، بتغيير له عن وجهه، وما أريد به إلى غير ذلك.

وبالجملة: إن الدين الإسلامي جامع، ورابط للأمة الإسلامية؛ بل هو حياتها، وتدوم ما دام، وتنعدم، وتسقط إذا انعدم. وهو مفخرة من مفاخرها العظيمة، ومن خصائصها، حيث لم يكن لأمة من الأمم قبلنا مثله.

فلو أن المسلمين تمسكوا بأحكام الإسلام وتعاليم دينهم، كما كان آباؤهم الأماجد، لكانوا أرقى الأمم، وأسعد الناس؛ ولكن لما حرفوا تعاليم دينهم، انحرفوا عن الصراط السوي.

وقد جعل الإسلام للفقراء حظا في مال الأغنياء، بالزكوات، والكفارات، لطفا بهم وإحسانا إليهم، ورحمة بالأغنياء، وتكرمة لهم، وتحصينا لأموالهم؛ هذا أساس المبادئ الاشتراكية المعتدلة، والأعمال الخيرية، التي تأسست لها الجمعيات الكبرى في بعض أقطار العالم.

وشرع الإسلام الحج ليحصل اجتماع عام لسائر الأمم التي تدين به، لينتفع بعضهم من بعض علومهم، وأحوالهم، ويحصل بذلك التعارف، والتعاون، والتآخي، ولما في ذلك من إعانة أهل الحرمين الشريفين ليكونا مركزين عظيمين للإسلام؛ وهذا بعض من مقاصد الحج، كما قد شرع الإسلام: اجتماعات أخرى أصغر وأيسر، في الجمع، والأعياد.

ص: 174

وبين أحكام المعاملات، من بيع وشراء، ورهن، وقرض، وإباحة شركات ووكالة، وحوالة، وعارية، وغيرها من المعاملات المالية، التي تقتضيها القاعدة التي عليها مبني علم الاجتماع البشري.

وبيّن الإسلام كيف تقام البيوتات، وتتأسس العائلات; فندب إلى الزواج، وحث عليه ورغب فيه، وبيّن العقود التي تعتبر زواجا، ووضح شروطها، من رضى وولي وشهود، وغيرها؛ وما خالف ذلك فهو سفاح أو قريب منه; وأمر بسدل الحجاب للنساء صيانة للنسل، وإبعادا للمظنة وراحة لكل ضمير.

وبيّن أحكام الجنايات، كالقصاص في النفس والطرف، وما يشرط لذلك؛ كما بين أحكام فصل الخصومات، في الدماء والأموال، والأعراض.

وبيّن ما يلزم لحفظ المجتمع العام، من نصب الإمام، وشروط استحقاقه للإمامة، وما يجب له من الطاعة، وما يجب عليه من المشورة، والعمل بالشريعة، وإقامة العدل بين أصناف الرعية.

ثم إن الإسلام قسم السلطة فجعلها خططا منها القضاء، فحدد للقاضي خطته، من فصل الخصومات، والنظر في أموال غير المرشدين، والحجر على من يستوجبه، والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها، وتنفيذ الوصايا، وإقامة الحدود، إلى غير ذلك.

ص: 175

وبيّن خطة الشاهد: كيف تحمل الشهادة وأدائها، ومن تقبل شهادته، ومن لا تقبل; وأمر بإثباتها وعدم كتمانها؛ كما بيّن خطة المحتسب، ثم بقية الخطط.

وبيّن حكم من خرج عن طاعة الإمام، بأن يقاتل حتى يفيء إلى أمر الله؛ وبين كيف تعامل الأمم الأجنبية فيما إذا وقع حرب معها، وفي حالة مسالمتها. وأمر بحسن الجوار، وإقامة الحدود على من أخاف السبيل، أو خالف ما أمرت به الشريعة.

وبالجملة: فقد استقصى هذا الدين الإسلامي العظيم جميع الشؤون الاجتماعية، وبيّنها أحسن بيان، مما يعجز عن مثله عقلاء البشر؛ حتى دخل مع الرجل في بيته وحكم بينه وبين امرأته، فبين ما له عليها من الحقوق، وبيّن ما لها عليه من مثل ذلك، وبيّن ما عسى أن يقع بينهما من خلاف في المستقبل. كما حكم الإسلام بين الرجل وبين ولده، وبينه وبين نفسه في حياته وبعد وفاته، كأوقافه ووصاياه، وما يصح منها وما لا يصح، وقسّم مواريثه، وبين أحكام تغسيله وتكفينه ودفنه. كل هذا لأجل أن تنتظم الحياة انتظاما كاملا، ويعيش المسلم عيشة هنيئة منتظمة، ليتمكن معها لإعداد الزاد ليوم المعاد، والتأهب لما بعد الموت.

ص: 176

فالدين الإسلامي: نظام عام للمجتمع البشري الإسلامي؛ فإنه تام الأحكام، ثابت المباني، دين سماوي، لم يدع شاذة ولا فاذة إلا بينها أحسن بيان، ووضحها أتم إيضاح.

وما دخلت الأمم الكثيرة في الإسلام أفواجا أفواجا، واتسعت دائرة الإسلام، فانتشرت الأمة الإسلامية مادة جناحها من نهر القانج من الهند شرقا إلى إفريقيا، ثم إلى أواسط أوروبا، في زمن قليل، إلا باحترام الحقوق والعمل بقواعد الإسلام، والتسوية بين طبقات المسلمين، ملكهم، وصعلوكهم، وصغيرهم وكبيرهم فيه على السواء.

فالأمة الإسلامية لا حياة لها ولا استقامة بدون التمسك بدينها، والعمل بأوامره ونواهيه؛ فهي دائمة بدوام دينها، مضمحلة باضمحلاله، ساقطة إذا أهملت تعاليم دينها القويم.

كما قال بعض أعداء المسلمين: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمته وأحكامه، نشأ فيهم فساد الأخلاق، والتباغض، وتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم.

وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به، فجعلوا بأسهم

ص: 177

بينهم، والأمم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم ثم يعودون إلى مأواهم.

هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه، وهو دين سماوي عام، شامل لمصالح الدنيا والآخرة، ثابت المباني، تام الأركان.

قال كثير من منصفي عقلاء المستشرقين، ممن يكتب لبيان الحق، لا للسياسة: إن نشأة مدنية أوروبا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب.

وقال القس لميلوان: الإسلام يمتد في إفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم، والعفاف، والنجدة من آثاره، والشجاعة، والإقدام من نتائجه; ومن الأسف أن السكر والفحش والقمار تنتشر بين السكان بانتشار دعوة المبشرين.

وقال كونتنسن: يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعت في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن، بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك.

ص: 178

وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة النفس فهو سواء في حالة بؤسه ونعيمه، لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع لها إلى التسابق إلى غاية المدنية الصحيحة، ورقيات الكمال.

وقال: هانوتو، وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا; وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل، إلى اعتناق دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق.

وأقوالهم في هذا كثيرة جدا، يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح، ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوه فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون.

مناقب شهد العدو بفضلها

والفضل ما شهدت به الأعداء

ويؤسفنا كثيرا بأن البعض من أولادنا لم يعرفوا عن

ص: 179

الإسلام وعظمته ما عرفه هؤلاء المعادون له، بل صاروا يعظمون هذه المدنية الزائفة، ويتقبلون كل ما يكتب نحو الإسلام وأهله، من غير تعقل وتفهم.

ولم يدروا أن معظم كتاباتهم على اختلاف أساليبها يريدون بها غمط الإسلام، وتشكيك المسلمين في إسلامهم، بما يبذرونه من الشك والشبه، المؤدية إلى الحيرة والتردد، لمن لا خبرة له بمقاصدهم، ولا علم عنده بالإسلام وحكمه; والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

وقال رحمه الله: مكانة القضاء في الإسلام 1

إن مركز القضاء له الأهمية الكبرى في هذه الشريعة، حيث كان القاضي يفصل في الخصومات، ويقضي في الدعاوى بين الناس، لا فرق بين ملك وأمير، وصغير وكبير، وغني وفقير؛ والذي هذا شأنه، وهذه مهمته، يجب عليه أن يتخلق بخلق القرآن، ويقتدي بالنبي الكريم، والسلف الصالح.

فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولى القضاء بنفسه، فكان إذا جلس له يتمثل العدل في أسمى وأجمل المظاهر، وكان خلفاؤه من بعده يتولون هذا المنصب بأنفسهم؛ قام به أبو

1 نشر في جريدة الندوة في 29/6/1380 هـ.

ص: 180

بكر وضي الله عنه، جامعا بين السلطة الدينية والسياسية، فكان يحكم بكتاب الله، فإن لم يجد فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتوقف في بعض القضايا، فيجمع لها المهاجرين والأنصار، رضي الله عنهم، فيستشيرهم في حكمها.

وجرى على هذا من بعده، الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلما اتسعت الفتوحات الإسلامية، واشتغل بالأعمال السياسية، ولّى أبا الدرداء قضاء المدينة; وكان أكابر الصحابة وحفاظ القرآن، يقومون بهذا المنصب، فأبو موسى تولى قضاء الكوفة، وشريح في البصرة، وغيرهما، فساروا وأمثالهم في القضاء، سيرة بهرت العقول.

هذا صعلوك من صعاليك اليهود، ادعى عليه علي رضي الله عنه في رمح كان بيد اليهودي، على أنه رمحه، فطلب شريح من علي البينة بأنه رمحه، فشهد ابنه الحسن، فقال: ائتني بشاهد غيره، لأنه ابنك، ولا تقبل شهادة الابن لأبيه، فقضى به شريح لليهودي، فسبح اليهودي، وهلل، وحمد وكبر، فأسلم، وقال: الرمح لعلي، وإني لكاذب عليه، فقال علي: الرمح لك، وأعطاه فرسا لتكمل عنده آلة الجهاد.

فالشريعة الإسلامية عنت بالعدل في القضاء عنايتها بكل ما من شأنه دعامة لسعادة الحياة، فأتت فيه بالعظات

ص: 181

البالغة، تبشر من أقامه وعدل فيه، بعلو المنْزلة، وحسن العاقبة؛ وتنذر من قصر أو جار، بسوء المنقلب، وعذاب الهون.

فمن الآيات المنبهة لما في العدل والاستقامة من الكرامة والفضل، قوله تعالى:{وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [سورة المائدة آية: 42] أي: بالعدل {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42] .

فدلت الآية الكريمة على الأمر بالعدل، وأن خيرا عظيما يحصل للحاكم بالقسط، هو محبة الله له؛ وناهيك بها من محبة، فما بعد محبة الله إلا الحياة الطيبة في الدنيا، والعيشة الراضية في الآخرة.

ومن الأحاديث الدالة على ما يورثه العدل، من المنْزلة، وعلو المكانة ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين: الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا" 1 وشدة قربهم من الله جل شأنه، وفوزهم برضوانه، حاصل لهم بسبب عدالتهم.

وإن ترد مثلا من آيات الوعيد، فتأمل قوله وتعالى:{يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [سورة ص آية: 26] .

1 مسلم: الإمارة (1827)، والنسائي: آداب القضاة (5379) ، وأحمد (2/160) .

ص: 182

تجد الآية تنادي بأن الفصل في القضاء جريا مع الأهواء، ضلال عن سبيل الله الذى هو صراطه المستقيم، والضلال عن سبيل الله، ملق صاحبه في العذاب الشديد؛ فما ظنك بعذاب وصفه الكبير المتعال بالشدة، ويشتريه بمتاع في هذه الدنيا؟ إن هذا لسفه، ودلالة على عدم نفوذ الإيمان إلى سويداء قلبه؛ فلهذه الآية أثر عظيم في النفوس المطمئنة بالإيمان، البعيدة عن الأهواء.

يحدثنا التاريخ أن أحمد بن سهل، جار لقاضي مصر، بكار بن قتيبة، فاتفق أنه مر على بيت بكار أول الليل، فسمعه يقرأ هذه الآية، ويرددها ويبكى {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [سورة ص آية: 26] ثم قمت آخر الليل، فإذا هو يقرؤها مرددا لها، وإن بكارا هذا من أعدل القضاة حكما، وأشرفهم أمام أولي الأمر موقفا.

والأحاديث الواردة في الوعيد على الجور كثيرة جدا، كحديث بريدة:"القضاة ثلاثة: اثنان في النار، وواحد في الجنة، رجل عرف الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق وقضى بخلافه، فهو في النار"1.

فإن كان حظه من القضاء بخسا، أو يكون خلُق العفاف في نفسه واهيا، كمن كان متبعا لهواه، جاريا على غير السنن، فهذا جزاؤه.

1 أبو داود: الأقضية (3573)، وابن ماجه: الأحكام (2315) .

ص: 183

وصف الإسلام ما في العدل، من فوز، ورضى، وخير، واستقامة وما في الحيف من شقاء، وبلاء وشر؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسم العدل في القضاء رسما مستقيما ليس بذي عوج، وزاده بسيرته العملية بيانا واستنارة.

انظر إلى قصة المخزومية التي سرقت، وأمر بقطع يدها، وشفاعة أسامة بذلك; وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله: لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها"1.

فاستبانت قضيته عليه الصلاة والسلام لأصحابه في أجلى مظهر، فاقتدوا بهديه الحكيم، وأيدوا للناس القضاء، الذي يزن بالقسطاس المستقيم، كما في كتاب عمر لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه؛ فإن للإسلام في سيرة رجاله الذين أوتوا العلم، والإيمان أثرا كبيرا في إصلاح القضاء، والسير به على المنهج القويم.

والمحاكم لا تشرق بنور العدل، إلا أن يمسك بأزمتها رشيد العقل، وقوي الإيمان بيوم المعاد؛ فالخوف من الله ومراقبته تحمل القاضي على تحقيق النظر في كل واقعة، بحيث يتطلب معرفة الحق، ويبلغ في تطلبه منتهى استطاعته.

ولا يتعجل بما يلوح له من أول فهم يبدو له، بل

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3475)، ومسلم: الحدود (1688)، والترمذي: الحدود (1430)، والنسائي: قطع السارق (4899)، وأبو داود: الحدود (4373)، وابن ماجه: الحدود (2547) ، وأحمد (6/162)، والدارمي: الحدود (2302) .

ص: 184

يتأنى، ويبحث عما تستدعيه مجريات القضية، حتى ولو علم أن قضاءه نافذ المفعول، وما له فيه معقبا. فمن ملوك الأندلس من يعزل القاضي إذا رأى منه التعجل في فصل الأحكام التي تستدعي بطبيعتها شيئا من التروي والتعقل، إذ يبدو من تعجله عدم تحرجه، من إثم الخطأ في الحكم.

فإن التقوى هي التي توقف القاضي عند حدود العدل، لا يخرج عنها قيد شعرة؛ وانظر إلى خبر عقبة بن يزيد، قاضي بغداد، وتخوفه على دينه، حيث قدمت له هدية فردها، واستقال من أجلها.

فقد روي أن عقبة بن يزيد، قاضي بغداد في أيام الخليفة المهدي، جاء إليه في بعض الأيام وقت الظهيرة، وهو منفرد، فلما دخل عليه استأذنه فيمن يسلم إليه القمطر الذي فيه قضايا مجلس الحكم، واستعفاه من القضاء، وطلب منه أن يقيله من ولايته.

فظن الخليفة المهدي أن بعض الأمراء من البيت المالك قد عارضه في حكمه; فقال له في ذلك: إن كان عارضك أحد لننكرنّ عليه; فقال القاضي: لم يكن شيء من ذلك; قال: فما سبب استعفائك من القضاء؟

قال يا أمير المؤمنين، كان قد تقدم إلي خصمان منذ شهر في قضية مشكلة، وكل يدعي بينة وشهودا، ويدلي

ص: 185

بحجج تحتاج إلى تأمل وتثبت، فرددت الخصوم رجاء أن يصطلحوا، وأن يظهروا الفصل بينهما; فسمع أحد الخصوم أني أحب الرطب، فعمد في وقتنا هذا، وهو أول أوقات الرطب، لا يتهيأ في وقتنا هذا جمع مثله لأمير المؤمنين، وما رأيت أحسن منه، ورشا خادمي بدراهم، على أن يدخل الطبق، ولا يبالي عاقبة ذلك.

فلما أدخله علي أنكرت ذلك، وطردت خادمي، وأمرت برد الطبق إليه. فلما كان اليوم، تقدم الخصمان إلي فما تساويا في عيني، ولا في قلبي، فهذا يا أمير المؤمنين وأنا لم أقبل الهدية، فكيف يكون حالي لو قبلت؟ ولا آمن أن تقع علي حيلة في ديني فأهلك، وقد فسد الناس؛ فأقلني يا أمير المؤمنين أقالك الله، وأعفني أعفاك الله. فشدد في هذا الطلب، فلم يسع الخليفة إلا إقالته من القضاء، إجابة لطلبه وإلحاحه في ذلك.

ويروى أن منذر بن سعيد البلوطي، كان قاضيا بقرطبة، في أيام زهرة الإسلام، في تلك البلاد التي أخنى عليها الدهر، وأصبحت أثرا بعد عين. وفي عصره احتاج الخليفة الناصر إلى شراء دار في قرطبة، فوقع استحسانه على دار كانت لأولاد أيتام، قصّر؛ وكانت قريبة لبعض أملاكه، وهذه الدار يتصل بها حمام له غلة واسعة.

وكان الأولاد الأيتام القصّر في حجر القاضي، فأرسل

ص: 186

الخليفة من قوّم الدار بقدر ما طابت نفسه به، وأرسل أناسا أمرهم بمداخلة وصي الأيتام في بيعها عليهم; فقال: إنه لا يجوز ذلك إلا بأمر القاضي.

وأرسل الخليفة إلى القاضي منذر، ليبيع هذه الدار، فقال القاضي لرسوله: البيع على الأيتام لا يصح إلا بوجوه; منها: الحاجة، ومنها: الوهي الشديد; ومنها: الغبطة. فأما الحاجة بهذه الأيتام إلى البيع فلا; وأما الوهي فليس فيها؛ وأما الغبطة فهذا مكانها، فإن أعطاهم أمير المؤمنين فيها ما تستديم به الغبطة فأمر وصيهم بالبيع، وإلا فلا.

فنقل جوابه إلى الخليفة، فأظهر الزهد في شراء الدار، طمعا في أن يتوخى رغبته فيها، وخاف القاضي أن تنبعث منه عزيمة تلحق الأيتام ثورتها، فأمر وصي الأيتام بنقض الدار، وبيع أنقاضها. ففعل ذلك، وباع الأنقاض، فكانت لها قيمة أكسب مما قومت به للخليفة الناصر، فاتصل الخبر بالخليفة، فعز عليه خرابها، وأمر بتوقيف الوصي على ما أحدثه فيها، فأحال الوصي على القاضي أنه أمر بذلك.

فأرسل عند ذلك إلى القاضي منذر، وقال له: أنت أمرت بنقض دار أخي نجدة؟ فقال له: نعم. فقال: وما دعاك إلى ذلك؟ قال: أخذت فيها بقوله تعالى: {أَمَّا

ص: 187

السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [سورة الكهف آية: 79] . مقوموك لم يقوموها إلا بكذا، وبذلك تعلق وهمك، فقد قبض في أنقاضها أكثر من ذلك، وبقيت القاعة والحمام، فضل، وقد نظر الله تعالى للأيتام القصّر، فصبر الخليفة عبد الرحمن على ما أوتي من ذلك، وقال: نحن أولى من أنفذ الحق، فجزاك الله عنا وعن أمانتك خيرا.

ونقل بعضهم أنه لما تولى الشيخ عز الدين بن عبد السلام القضاء في مصر، تصدى لبيع أمراء الدولة من الأتراك، وذكر أنه لم يثبت عنده أنهم أحرارا، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، وعظم الخطب عندهم؛ والشيخ مصمم على فكرته، لا يصحح لهم بيعا، ولا شراء، ولا نكاحا، وتعطلت مصالحهم لذلك.

وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاشتاط غضبا، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلسا، وننادي عليكم لبيت مال المسلمين، فرفع الأمراء إلى السلطان، فبعث إليه فلم يرجع، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة فلم يفد فيه.

فانزعج النائب، وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ

ص: 188

ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟! والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعة، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف مسلول في يده.

فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، وشرح لوالده الحالة، فما اكترث لذلك، وقال: يا ولدي أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج. فحين أن وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وارتعدت مفاصله، فبكى، وسأل أن يدعو له.

وقال: يا سيدي: ماذا تعمل؟! قال: أنادي عليكم، وأبيعكم، وقال: فيما تصرفون ثمننا؟! قال: في مصالح المسلمين، قال: من يقبضه؟ قال: أنا; فتم ما أراد، ونادى على الأمراء واحدا واحدا، وغالى في ثمنهم، ولم يبعهم إلا بالثمن الوافي، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير التي يعود نفعها على الأمة الإسلامية.

ويروى: أن القاضي بكار بن قتيبة، كان عالما، ورعا، محدثا، ثقة، ويبتعد عن الشبهات، خوفا من الوقوع في المحرمات، وقد تولى القضاء في مصر في زمن الملك بن طولون، وكان أحمد بن طولون يعظمه ويحترمه.

ويظهر أن ابن طولون لما رأى نفسه ملكا مستقلا في مصر، أراد أن يضيف إلى ذلك الخلافة الإسلامية،

ص: 189

فأرسل للقاضي بكار رسولا، وطلب منه خلع الخليفة الموفق بن المتوكل، فامتنع القاضي بكار من ذلك، وقال: هذا مخالف لكتاب الله وسنة رسوله.

فغضب أحمد بن طولون على القاضي بكار; ويقال إنه أحضره أمامه، ومزق ثيابه، وبعد ذلك أصر بسجنه. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل حرض عليه بعض بطانته، فادعى عليه بمظالم كذبا وزورا، وكان يحضره أمامه من السجن في حالة لا تناسب الأدب، حتى إذا انتهى التحقيق من المظالم المزعومة، أعاده إلى السجن مرة ثانية، وقد منعه من أداء صلاة الجمعة. فيقول القاضي بكار: اللهم اشهد.

فأرسل إليه ابن طولون من يقول له: كيف رأيت المغلوب المقهور، لا أمر له ولا نهي، ولا تصرف له في نفسه؟! ومع كل هذه المحن التي رآها القاضي بكار، لم يمنعه من قراءته الحديث الشريف، وهو في السجن، على تلاميذه الذين يستمعون من خارج السجن.

ومكث القاضي بكار في السجن على هذه الحالة، حتى مرض ابن طولون مرض الموت، فأرسل إليه يستسمحه، فقال للرسول: قل له: أنا شيخ كبير، وأنت عليل مدنف، والملتقى قريب، والله يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ولم تمض أيام حتى مات ابن طولون، وخرج

ص: 190

القاضي بكار من السجن، وقد رأى ما رأى من البلايا والمحن، ولم يغير عقيدته ويوافق ابن طولون.

فهذا شيء يسير من سير بعض قضاة الإسلام؛ وأخبارهم كثيرة جدا، كما في كتب التراجم والتواريخ، ساروا فيها سيرا يمثل العدل، في أجلى مظهر وأسمى منْزلة، فقارن بين القضاء في العصور الخالية، وبين القضاء في هذا الزمان، واحكم بما ترى، فأنت العاقل اللبيب; والله الموفق، الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على نبينا محمد.

[الحث على العناية بالقضاء]

وله أيضا رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، سماحة الشيخ: محمد بن إبراهيم، رئيس القضاة؛ أدام الباري عليه إحسانه، وأجرى بالصواب قلمه ولسانه، آمين.

سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويوفقكم لما فيه رضاه، وأن يسدد خطاكم، ويجعلكم من صالح عبيده وأوليائه.

سلمك الله، بما أني أعتبر نفسي كواحد من أبنائكم، وأن الواجب علينا جميعا التناصح، والتساعد على ما فيه الخير والصلاح العام، والتعاون على البر والتقوى، والمؤمن مرآة أخيه المؤمن.

ص: 191

لذا أحب أن أبدي لكم ما في نفسي، نصحا ومحبة، وحرصا على هذه الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، أن تنتهك حرمتها، أو تنال بسوء، أو أن يخفف وقعها في النفوس، وذلك بما هو معلوم لديكم، ولدى الناس عامة، وهو ما أصيب القضاء من ضعف، وما حصل به من خلل.

وغير خاف عليكم حفظكم الله، مكانة القضاء من الإسلام وما عليه الناس اليوم، فإعطاؤه العناية الكاملة من كل الوجوه، وبذل النفس والنفيس في تركيزه على الطريقة المثلى التي ركزها الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، والتناصح في ذلك من أوجب الواجبات.

فتحكيم الشريعة الإسلامية مفقود من جميع نواحي المعمورة، سوى هذه المملكة الإسلامية أيدها الله، وأدام تمسكها بهذا الدين الحنيف.

لذا ولما تقدم: رأيت من المتعين علي أن أبين لسماحتكم بعض ما لاحظته على القضاء في هذه المملكة، والله يعلم أني لا أريد إلا النصح، والسعي فيما فيه حفظ حقوق المسلمين، واحترام الشريعة الإسلامية بأن لا تكون في نفوس بعض العامة وغيرهم غير كافلة لمصالحهم، بحيث يرون أن غيرها أحفظ لحقوقهم منها، وأعوذ بالله أن يكون ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

ص: 192

سبق أن شافهتكم كثيرا، وكاتبتكم مرارا في هذا الموضوع; وهو: أن الحالة القضائية انحط شأنها، وضعف في نفوس الكثيرين مكانتها، وذلك لأمور:

منها تولية غير الأكفاء، كبعض الطلاب المتخرجين من الكليات وغيرهم، ممن لا يعرف دينه وعقله وعلمه وأمانته، فيما ولي مثل هذه الأعمال الهامة؛ والتحقق عن جميع ما ذكر واجب.

والأولى أن تتولى ذلك بنفسك، ولا تعتمد على أحد، لأهمية هذا العمل؛ وذلك بأن يكون القاضي ممن اشتهر بالعلم والورع والديانة والأخلاق الفاضلة، وإن كان ممن مارس هذا العمل فهو أولى.

ثانيا: تهاون بعض القضاة بالأخلاق الفاضلة، وبشعائر الإسلام الظاهرة، وعدم تخلقهم بها، مما يسقط مكانة القضاء والقضاة من نفوس العامة.

ثالثا: إدخال بعض الأنظمة على القضاء التي من شأنها تعقيد المسائل، وتطويل المعاملات، بكثرة السؤال والجواب، وطول الأخذ والرد، وتكليف الخصوم بما يحصل المقصود بدونه، مما يجعل أحدهم يسب القضاء والقضاة والحكومة، بسبب ما تحمله من التكاليف في بدنه وماله.

رابعا: قصور علم بعض القضاة، وفقد غالب الشروط التي ذكرها العلماء في القاضي، كما لا يخفى وكما هو

ص: 193

مشاهد، فإن بعضا من القضاة لم يعرفوا أحكام صلاتهم، فضلا عن أن يحكموا بين الناس باسم الشريعة الإسلامية، وقد بلغنا كثيرا من فتاويهم وأحكامهم، ومع هذا يحكم في الأموال والحدود، والفروج، والأوقاف وغيرها بلا خجل ولا حياء.

خامسا: تكثير المحاكم في كل هجرة وقرية، من غير تحقق في كثرة السكان وبعد المسافة، بل بمجرد الطلب يوافق على ذلك، والأولى التقليل من ذلك لقلة وجود الأهل لهذا العمل الهام.

سادسا: إلزام بعض أهل البلاد على قضاتهم، إذا كان بينهم وبينه خلاف واقعي صحيح، وهذا يخالف المصلحة. فالمستحسن، نقل كل من تظلم أهل بلده منه، أو رمي بتهم لا تليق به، حفظا لكرامته، وصونا لسمعته، ونقله- والحالة هذه- أولى من إلزامهم به، لما يترتب على ذلك من الأمور التي هي غير محمودة.

ولما تقدم يترتب عليه أمور:

منها: أن في وجود ما ذكر في القضاء والقضاة، تكثيرا للمشاكل، وإتعابا للناس وللحكومة ولكم، في كثرة المراجعات، وإبداء التظلمات، وإطلاق ألسنتهم في المنتسبين، مما يجعل القاضي كأقل موظف، بل وأحط رتبة منه في نفوس الناس؛ في حين أن القاضي يجب

ص: 194

احترامه وتوقيره وتقديره، لأجل المنصب الذي يشغله، لا لشخصيته.

ثانيا: إن كثيرا ممن يحكم عليه يرى أنه مظلوم، وأن الحكم ليس بصحيح، لعدم ثقته بقاضيه وارتياحه منه; لأنه يرى ويسمع منه، ما يصيره معتقدا أن قاضيه ليس على حق في حكمه، فيعتقد أن الحكومة ظلمته بتولية مثل هذا، ولم تراع له حقا.

ثالثا: إن في ترك الناس على هذه الحالة، سببا إلى ميول العامة إلى القوانين الوضعية، وأنها هي التي تضمن لهم حقوقهم؛ ولا شك أن هذه بلية عظمى، متى رأى الناس هذا الرأي، وإن لم يتفوهوا به. هذا بعض ما دار في النفس، أحببت أن أكتب لكم به، نصحا وبراءة للذمة، وحرصا على هذه الشريعة الإسلامية، ومحبة لهذه الحكومة ولكم، وثقة بعقلكم وبعد نظركم، ولعل الله أن يقدر الاجتماع بكم، فأبين لكم جميع ما في نفسي حول ذلك مما لا تنبغي كتابته. والله أسأل أن يوفقكم ويكلل أعمالكم بالنجاح، ويبارك في علومكم ومساعيكم والإسلام، في 30 / 12 / 1382?.

ص: 195

[رسالة الشيخ صالح بن أحمد إلى القضاة يذكرهم بالله ويرشدهم إلى ما يستعان به في أداء هذه الأمانة]

وقال الشيخ صالح بن أحمد الخريصي رحمه الله:

بسم الله الرحمن الرحيم

من صالح بن أحمد الخريصي، إلى من يراه من إخواننا القضاة، وفقني الله وإياهم لأسباب النجاة، وعصمني وإياهم من سلوك طرق الغي والضلالات، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد: تعلمون أيها الإخوان، أنكم قد حملتم حملا ثقيلا، وطوقت برقابكم أمانة عظيمة، وإنكم موقوفون بين يدي الله سبحانه، ومسؤولون عن أدائها، فأعدوا للسؤال جوابا، وللجواب صوابا.

ومن أعظم ما يستعان به، على أداء هذه الأمانة أسباب; أولها: تقوى الله عز وجل ومراقبته في السر والعلانية، فإن بتقوى الله يتبين وجه الصواب، قال الله عز وجل:{إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} [سورة الأنفال آية: 29]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [سورة الطلاق آية: 2]، وقال تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [سورة الطلاق آية: 4]، وقال تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ} [سورة الحديد آية: 28] .

والآيات في هذا المعنى كثيرة، ولهذا لما قيل للإمام أحمد، رحمه الله: من نسأل بعدك؟ قال: سلوا

ص: 196

عبد الوهاب الوراق، فإنه رجل صالح مثله يوفق للصواب.

واستدل الإمام أحمد، رحمه الله بقول عمر رضي الله عنه:"اقتربوا من أفواه المطيعين، واسمعوا منهم ما يقولون؛ فإنهم تجلى لهم أمور صادقة، وذلك لقرب قلوبهم من الله"

وكلما قرب القلب من الله، زالت عنه معارضات السوء، وكان كشفه للحق أتم وأقوى، وكلما بعد عن الله كثرت عليه المعاوضات، وضعف نور كشفه للصواب، فإن العلم نور يقذفه الله بالقلب، يفرق به العبد بين الخطأ والصواب.

ومن ذلك: أن يتأدب بالآداب التي ذكر العلماء، رحمهم الله في هذا الباب، منها: أن يكون قويا على حمل ما كلف به، ومن غير عنف يمنع صاحب الحق من استيفاء حقه، ومن غير ضعف يجترئ به صاحب الباطل عليه وعلى خصمه.

قال عمر بن عبد العزيز، رحمه الله:"لا يصلح القاضي إلا أن تكون فيه خصال; أن يكون صليبا نزها عفيفا حليما، عليما بما كان قبله من القضاء والسنن"

ومن ذلك: أن يكون ذا بصيرة، وبصر بأهل زمانه، لا سيما أهل هذه الأزمان؛ فإن أكثرهم أروغ من الثعالب، وليحذر حلاوة ألسن أكثرهم، فإن لهم في ذلك أهدافا

ص: 197

وأغراضا، وحوائج يحومون حول تحصيلها بكل ممكن.

ومنها: أن يكون ذا أناة، يتثبت، وفطنة فيما يحكم به. ومنها: أن لا يعجل في البت بالحكم، حتى يتبين له وجه الصواب، من غير تأخير يخل بالمقصود، ويوجب للضعيف ترك حقه.

كما قال عمر رضي الله عنه في كتابه لمعاوية: "وتعاهد الغريب، فإنه إن طال حبسه ترك حقه، وانطلق إلى أهله، وإنما أبطل حقه من لم يرفع به رأسا"

ومنها: الحرص على لزوم العمل، والمبادرة إليه في أوقاته، لإنجاز مهمات المسلمين، وقضاء حوائجهم، فإن كثيرا من إخواننا- هداهم الله- يرددون الخصوم أكثر من الحاجة، من غير سبب يدعو إلى ذلك.

ومنها: ما ينبغي للقاضي أن يتخلق ويتأدب ويتزيّا به، من الآداب الشرعية التي لا ينبغي له أن يخل بتركها، لأنه منظور إليه، ترمقه العيون بلحظاتها، وتقتدي به الأرواح والنفوس في صفاتها.

فإذا أكمل نفسه وأصلحها، فينبغي له، بل يتعين عليه أن يكمل غيره، بالدعوة إلى الله، والإرشاد، والأمر والنهي، والتعليم؛ ويكون قدوة في ذلك، يقتدى به ويؤتم به، وهذا من أجلّ المقاصد في نصب القضاة.

وبعض إخواننا من القضاة، قد أهمل هذا المقام

ص: 198

العظيم، ولم يرفع به رأسا، فتجده في أخلاقه وأعماله وآدابه، إلى الانحراف أقرب، عافانا الله وإياهم، وألهمنا وإياهم رشده.

ومنها: أن يعلم القاضي أن الخصومات ستعاد يوم القيامة، ويحكم فيها العدل الذي لا يجور، وإنما القضاء في الدنيا للفصل بين الناس، فليتَّئِد عند ذلك.

وليتلمّح وجه الصواب في القضية مهما أمكنه، من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين لهم بإحسان، وعلماء الأمة الذين لهم لسان صدق في الأمة.

فإذا اجتهد وبذل وسعه وطاقته حسب الإمكان، رجي له أن يوفق لإصابة الحق، وأن لا يفوته أجران مع الصواب، أو أجر مع الخطأ.

ولا ينظر إلى كثرة الأساليب التي استعملها بعض القضاة، خشية أن يقال في حكمه، أو يعترض عليه; بل إذا تبين له الحق، حكم به ولا يبالي بمن اعترض عليه، أو قال في حكمه، كما قيل:

إذا رضي الحبيب فلا أبالي

أقام الحي أم جد الرحيل

ومنها: أنه ينبغي منه إذا خفي عليه وجه الصواب، وأعيته الأمور بإغلاق الأبواب، أن يستغيث بمعلم

ص: 199

إبراهيم؛ فإن هذا من أنجح الأسباب الموصلة إلى المقصود، كما ذكر الأصحاب، أنه ينبغي للقاضي أن يدعو بدعاء الاستفتاح:

"اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم"1.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه، ونور ضريحه، كثير الدعاء بذلك، وكان إذا أشكلت عليه المسائل، يقول: يا معلم إبراهيم علمني; وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم. وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان مالك رحمه الله يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله العلي العظيم; وكان بعضهم يقول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري، واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي. وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني واهدني وسددني، واجمع لي بين الصواب والثواب، وأعذني من الخطأ والحرمان; وكان بعضهم يقرأ الفاتحة; قال العلامة ابن القيم، رحمه الله: جربنا ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.

1 مسلم: صلاة المسافرين وقصرها (770)، والترمذي: الدعوات (3420)، والنسائي: قيام الليل وتطوع النهار (1625)، وأبو داود: الصلاة (767)، وابن ماجه: إقامة الصلاة والسنة فيها (1357) ، وأحمد (6/156) .

ص: 200

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه:"قل: اللهم إني أسالك الهدى والسداد"1. والمعول في ذلك كله على حسن النية وخلوص المقصد، وصدق التوجه في الاستمداد من المعلم الأول، معلم الرسل والأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فإنه لا يرد من صدق في التوجه إليه، لتبليغ دينه وإرشاد عبيده، ونصيحتهم والتخلص من القول عليه بلا علم. ومما ينبغي لمن عين للقضاء: أن يعرض نفسه على الأمور المتقدم ذكرها، ويحاسبها ويبحث معها بحثا دقيقا، هل هذه الخصال موجودة فيها أم لا؟ وهل هو أهل لذلك أم لا؟.

وقد كتب سلمان رضي الله عنه إلى أبي الدرداء، لما ولي القضاء، وقال:"بلغني أنك جعلت طبيبا، فإن كنت تبرئ فنعماء، وإن كنت متطببا، فاحذر أن تقتل إنسانا فتدخل النار"

فكان أبو الدرداء رضي الله عنه إذا قضى بين اثنين وأدبرا عنه نظر إليهما، وقال:"متطبب والله، ارجعا أعيد قضيتكما"، فهذه حال أهل المعرفة بالله.

كما أنه ينبغي للجهات المختصة- المسؤولين- أن لا يعينوا إلا من يصلح، وتكون فيه كفاءة لذلك، وأخلاق دينية على حسب الطاقة، لأن الولاية أمانة. وإذا كان تقديم

1 النسائي: الزينة (5210) ، وأحمد (1/138) .

ص: 201

الرجل في الجماعة، وفيهم من هو أفضل منه، يوجب أن لا يزالوا في سفال، فكيف بالقاضي الذي يقتدي به فئات من الناس؟ !.

فيجب عليهم: أن يولوا أفضل من يجدوا، علما وورعا، لأنهم ناظرون للمسلمين، فيجب أن يختاروا الأصلح لهم، واختيار الأفضل علما من لازم القضاء، لأنه إنما يمكنه القضاء بين المترافعين بالعلم، لأن القضاء بالشيء فرع العلم به.

والأفضل أولى من المفضول، لأنه أثبت وأمكن، وكذا كل من كان ورعه أكثر، كان سكون النفس فيما يحكم به أعظم، وكان من ترك التجري والميل في جانب أبعد. قال الإمام أحمد رحمه الله: لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه، حتى يكون فيه خمس خصال،

أولها: أن يكون له نية، فإن لم يكن له نية لم يكن له نور، ولا على كلامه نور.

الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.

الثالثة: أن يكون قويا على ما هو فيه، وعلى معرفته.

الرابعة: الكفاية، وإلا مضغه الناس، فإنه إن لم يكن له كفاية احتاج إلى الناس، وإلى الأخذ مما في أيديهم.

الخامسة: معرفة الناس.

فهذه نبذة ينبغي للعاقل تأملها، لأنها تطلع على ما

ص: 202

وراءها. وقد ذكر العلماء، رحمهم الله ما يكفي ويشفي، ولكن لعلك لا تجد كلاما مجموعا لهذه الكلمات اليسيرات. وأسأل الله الكريم أن ينفع بها كل طالب للحق، ومستفيد، ومراقب لله فيما يبدي ويعيد، والله يوفق الجميع للقول السديد، والأمر الرشيد، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. حرر في 11 / 4 / 1382 ?.

ص: 203