المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل السادس [مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية - جـ ١٦

[عبد الرحمن بن قاسم]

الفصل: ‌الفصل السادس [مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين]

‌الفصل السادس [مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين]

مطالعة الصحف التي تسربت إلى بلاد المسلمين، فهي من الوسائل العظمى لنقض عرى الإسلام، من الدول المجاورة المنحلة، أفراخ الإفرنج، عباد الأولياء والصالحين، العكّف عند المشاهد، الباذلين عندها نفائس الأموال، بقصد التبرك والنذور لها، التاركين لإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وغيرهما من شعائر الإسلام، المشتهرة بينهم شعائر الكفر، واستحلال المحرمات، والخلاعة، وينتسبون إلى الإسلام، جرأة على الله {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [سورة النساء آية: 142] .

وقد تسربوا إلى بلد الإسلام، فأخذ كثير من الشباب أخلاقهم المزيفة، وبثوا بعض علومهم المحرمة؛ وسرت إلى المسلمين صحفهم الخليعة، وسار على سبيلهم كثير من الشباب الزائغ، فنشروا في بلد الإسلام على الصحف تلك: الإلحاد، والزندقة، والخلاعة.

وتعلق بها من لا بصيرة له، ومستحسن ما يتلوه من تلك الصحف، ومن الصحف الخارجية؛ وفسدت أخلاق الكثير، واعتنقوا الباطل، وأعرضوا عن الحق، وتركوا كثيرا مما أمر الله به، وارتكبوا كثيرا من المنكرات، مما سلف وغيره.

ص: 100

[إكباب الجهال والشباب على مطالعة كتب الزيغ والإلحاد والزندقة]

قال الشيخ: محمد بن إبراهيم آل الشيخ، رحمه الله: ومن المنكرات: إكباب الجهال والشباب، على مطالعة كتب الزيغ، والإلحاد والزندقة، والصحف المشتملة على ذلك، وعلى الصور الخليعة مما أحرى من أدمن النظر فيها من الشباب ونحوهم أن يصبح أسيرا للشيطان، إن لم يقتله بالكلية، ويسلبه جميع الإيمان.

[التشبه بالكفار]

ومن المنكرات: التشبه بالكفار، ولا فرق بين الأمور الدينية، والعادية، كالزي ونحوه، وروى أبو داود بسند جيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"من تشبه بقوم فهو منهم"1.

وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد، سنة 1384?:

ويل للإسلام من أهله

إن الإسلام بدأ يضعف في بلادنا، وتخف سطوته في القلوب، وتضعف عظمته في النفوس بما أصيب به من الويلات والمصائب، التي جرها بعض المنتسبين إلى الإسلام نحو الإسلام.

فقد علم الناس أن تغيرا عقليا، وانحرافا غريبا طرأ على أفكارهم، وتدفق عليهم سيل المدنية الجارف؛ فاستقبلوا ذلك البلاء العظيم بارتياح، وقبول وصفاء بال، وبادروا إلى إتقانه، والدعوة إليه، وذهلوا عن كل شيء سواه،

1 أبو داود: اللباس (4031) .

ص: 101

فكأنهم في سكرة من أمرهم. وهذا مما جعل كل واحد من علماء المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، يشعر بالخطر المحدق به، وبدينه، وبأمته، لأن الباطل في نمو وازدياد، والحق في ضعف واختفاء. والكثير من العلماء أو الأكثر يتأففون من الحالة الراهنة، ويظهرون التضجر والسخط، ويبدون التأثر والانفعال؛ ولكن هذا لا يكفي لتلافي الأخطار المحدقة بالإسلام - وهي في نمو وازدياد - بل لا بد لدفع ذلك، من اجتماعات إسلامية صادقة، لتدارك ما فات، وإصلاح ما فسد، وإقامة ما اعوج.

إن الأمة الإسلامية لا تكون ذات كيان، عزيزة الجانب، إلا إذا اجتمعت، وتناصرت على جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرها، في أمر دينها ودنياها، كما قال تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [سورة المائدة آية: 2] .

وإليك بعض ما قاله أعداء الإسلام في وصفهم للمسلمين، حين عدلوا عن دينهم الإسلامي إلى ما سواه: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، فشا فيهم فساد الأخلاق; فكثر الكذب والنفاق والخيانة، والتحاقد والتباغض، وتفرقت كلمتهم.

وجهلوا أحوالهم الحاضرة والمستقبلة، وغفلوا عما

ص: 102

يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون وينامون؛ ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة؛ ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه لا يقصر في إلحاق الضرر به؛ فجعلوا بأسهم بينهم، والأمم من ورائهم تبتلعهم لقمة بعد أخرى. رضوا بكل عارض، واستعدوا لقبول كل حادث، وركنوا إلى السكون في كور بيوتهم، يسرحون في مرعاهم، ثم يعودون إلى مأواهم. هذا وصفهم لحالة المسلمين حين جهلوا تعاليم هذا الدين القويم، ورضوا منه بمجرد الانتساب إليه؛ في حين أن الإسلام، هو أجلّ دين على وجه الأرض، لم ينزل على نبي من الأنبياء مثله، ولا كان لأمة من الأمم نظيره. فإنه دين الفطرة، دين الرقي، دين العدالة، دين المدنية الفاضلة، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم، والصنائع، والحرف، غير قاصر على أحكام العبادات والمعاملات، بل شامل لجميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة; والله الموفق الهادي إلى سواء السبيل، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.

ص: 103

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله: 1

المولد النبوي الشريف

اعتاد كثير من الناس، في مثل هذا الشهر، شهر ربيع الأول من كل سنة، إقامة الحفلات الرائعة، لذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك ليلة الثانية عشر منه، قائلين: إنه عبارة عن إظهار الشكر لله عز وجل على وجود خاتم النبيين وأفضل المرسلين، بإظهار السرور بمثل اليوم الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم، وبما يكون فيه من الصدقات والأذكار.

فنقول: لا شك أنه سيد الخلق وأعظمهم، وأفضل من طلعت عليه الشمس; ولكن لماذا لم يقم بهذا الشكر أحد من الصحابة، والتابعين؟ ولا الأئمة المجتهدين، ولا أهل القرون الثلاثة الذين شهد لهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخير؟ مع أنهم أعظم محبة له منا، وهم على الخير أحرص، وعلى اتباعه أشد.

بل كمال محبته وتعظيمه، في متابعته وطاعته، واتباع أمره، واجتناب نهيه، وإحياء سنته ظاهرا وباطنا، ونشر ما بعث به، والجهاد على ذلك، بالقلب واليد واللسان؛ فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار،

1 في رسالة نشرت في مجلة الحج في ربيع الأول سنة 1376 هـ.

ص: 104

والذين اتبعوهم بإحسان، لا في إقامة تلك الحفلات المبتدعة، التي هي من سنن النصارى. فإنه إذا جاء الشتاء في أثناء كانون الأول، لأربع وعشرين خلت منه، بزعمهم أنه ميلاد عيسى، عليه الصلاة والسلام، أضاؤوا في ذلك الكهرباء، وصنعوا الطعام، وصار يوم سرور وفرح عندهم. وليس في الإسلام أصل لهذا؛ بل الإسلام ينهى عن مشابهتهم، ويأمر بمخالفتهم.

فقد قيل: إن أول من احتفل بالمولد النبوي، هو: كوكبوري أبو سعيد بن أبي الحسن علي بن يكتكين التركماني، صاحب "إرْبَلْ"، أحدث ذلك في أواخر القرن السادس، أو أوائل القرن السابع؛ فإنه يقيم ذلك الاحتفال ليلة التاسعة، على ما اختاره المحدثون من ولادته صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، وتارة ليلة الثانية عشر، على ما قاله الجمهور.

فهل كان التركماني ومن تبعه أعلم وأهدى سبيلا من خيار هذه الأمة وفضلائها من الصحابة ومن بعدهم؟ في حين أنه لو قيل: إن يوم البعث أولى بهذا الشكر من يوم الولادة، لكان أحرى، لأن النعمة، والرحمة، والخير والبركة، إنما حصلت برسالته، بنص قوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [سورة الأنبياء آية: 107] .

ومعلوم أن كل بدعة يتعبد بها أصحابها، أو تجعل من شعائر الدين، فهي محرمة، ممنوعة، لأن الله عز وجل

ص: 105

أكمل الدين، وأجمعت الأمة على أن الصدر الأول أكمل الناس إيمانا وإسلاما.

فالمقيمون لتلك الحفلات، وإن قصدوا بها تعظيمه صلى الله عليه وسلم فهم مخالفون لهديه، مخطئون في ذلك؛ إذ ليس من تعظيمه أن يبتدع في دينه بزيادة أو نقص أو تغيير، أو تبديل؛ وحسن النية، وصحة القصد لا يبيحان الابتداع في الدين. فإن جلّ ما أحدثه من كان قبلنا من التغيير في دينهم، عن حسن نية وقصد؛ وما زالوا يزيدون وينقصون بقصد التعظيم وحسن النية، حتى صارت أديانهم خلاف ما جاءتهم به رسلهم.

وقال الشيخ: عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله:

ليس هذا ما يقوله ابن تيمية رحمه الله

قرأت في صحيفة الندوة بتأريخ 16/4/1382?، كلمة بعنوان:"هذا ما يقوله ابن تيمية" حول الاحتفال بذكرى المولد النبوي، باسم الشيخ: محمد المصطفى الشنقيطي، ومقاله يتضمن أنه اطلع على جواب فضيلة الشيخ: يحيى عثمان المكي، وعلى جوابنا، حول إحداث بدعة ذكرى المولد النبوي.

ص: 106

أما نحن، فهذا ما نعتقده، وندين الله به، مستدلين بما ستراه إن شاء الله، وكما هو معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وأما الشيخ يحيى، فكلامه لا شك أنه عين الصواب، وهو عين كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، لمن يعقل ويفهم كلام المحققين.

وأما دعواكم بأنه بتر كلام الشيخ فهذا غير صحيح، بل ساق منه ما هو المقصود، وما يدل على الموضوع؛ وكلام الشيخ صريح بكون ذكرى المولد بدعة، لا يجوز بما نقله الشيخ يحيى، وبما نقلتم أنتم أيضا.

فإنكم نقلتم عنه، إلى أن قلتم: قال رحمه الله: فتعظيم المولد، واتخاذه موسما، قد يفعله بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد.

فهذا كلام الشيخ رحمه الله، الذي تزعم أن الشيخ يحيى بتره; والواقع أن هذا هو معنى كلام الشيخ السابق، وهو يؤيد ما نقله الشيخ يحيى.

وبيان ذلك: أن الشيخ ابن تيمية قال فيما نقله عنه يحيى: والله يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا.

فتأمل كلام الشيخ تجده قد فرق بين المحبة

ص: 107

والاجتهاد، وبين إحداث البدعة، فرجا لهم المثوبة على المحبة والاجتهاد، وأثبت عليهم حكم الابتداع، بفعل ما لم يشرع.

فالمحبة للرسول مشروعة، بل واجبة، بل يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس؛ وهذا أيضا هو: معنى ما نقلتم; فإن الشيخ رحمه الله يقول: قد يفعله - أي المولد - بعض الناس، ويكون له فيه أجر عظيم، لحسن قصده، وتعظيمه للرسول صلى الله عليه وسلم كما قدمته لك: أنه يحسن من بعض الناس، ما يستقبح من المؤمن المسدد. فكلام الشيخ رحمه الله، صريح بأن هذا الفعل: يستقبح من المؤمن المسدد، فهل يستقبح ما هو مشروع؟!، وهل نختار فعل المؤمن المسدد، أو نختار فعل بعض الناس الذي حسن قصده، ولكنه أخطأ الطريق بفعله؟!.

وأما ما نقله شيخ الإسلام عن الإمام أحمد، أنه قال في حق الأمير الذي أنفق على تحلية المصحف ألف دينار: هذا خير ما أنفق فيه الذهب، أو كما قال، مع أن مذهبه: إن زخرفة المصاحف مكروهة، ا?.

فنقول: لا شك أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها على البغايا، والخمور، والمعازف، ونحو ذلك، وإنه لمن الإنصاف، لو أكمل الشيخ المصطفى

ص: 108

الشنقيطي، كلام شيخ الإسلام على هذه العبارة ولم يبترها. وهو قوله: وقد تأول بعض الأصحاب انه أنفقها في تجويد الورق، والخط، وليس مقصود أحمد هذا، وإنما قصده: أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضا مفسدة كره لأجلها.

فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا، وإلا اعتاضوا بها الفساد، الذي لا صلاح فيه، مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور، ككتب الأسمار والأشعار، أو حكمة فارس والروم. هذا كلام ابن تيمية يبين أن تحلية المصحف بألف دينار، خير من إنفاقها في كتب الفجور، ونحوها.

ونحن نقول: إن ذكرى المولد النبوي مع اعتقادنا أنه بدعة، خير من تعطيل حكم الشريعة، وإباحة الزنى، والخمور، فمن فعل هذه الأشياء، فبدعة ذكرى المولد أسهل منها - وهي محرمة - إلا أنها خير من سواها، مما هو أشد تحريما منها؛ حنانيك إن بعض الشر أهون من بعض.

وأما قولكم: إن الاستدلال بكلام الشيخ ابن تيمية مقلوب، وأنه صريح في جواز عمل المولد، فهذا افتراء على شيخ الإسلام، وإلزام له بما لم يقل، ولا يتحمله كلامه البتة، ولم يفهمه أحد من المسلمين عنه.

ص: 109

ولكنه على حد فهمكم الخاطئ، الذي لم يستطع التفرقة بين حسن القصد وبين سوء الفعل، كما سبق توضيح كلام الشيخ رحمه الله.

ألم تر أنه صلى الله عليه وسلم لما صنع خالد رضي الله عنه ما صنع في بني جذيمة، لم يرض فعله صلى الله عليه وسلم وقال:"اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" 1 مرتين.

فتبرأ من صنيع خالد، ولم يتبرأ من خالد نفسه، لحسن قصده ونيته; فاتضح: أن المقلوب في الحقيقة هو: استدلالكم، وإذا خفي كلام الشيخ عليكم فهو لا يخفى على القراء.

وأما نقلكم عن شيخ الإسلام: أن مرتكب البدعة لا ينهى عنها، إذاً كان نهيه يحمله إلى ما هو شر منها، فهذا حق، ولكنك أردت قياسه على مسألتنا، وهو قياس مع الفارق، وليس له في بحثنا صلة.

هل إذا منعنا بدعة المولد سيحدث ما هو أعظم منكرا منها؟!.

ما هو الذي سيحدث بمنعها؟! هل سيحدث سفك دماء؟! أو شركيات؟! أو بدع أشد منها؟! لا - ولله الحمد -.

وهل إحداث المولد في ليلة أو ليلتين من السنة يمنع الناس من استعمال أغاني أم كلثوم - على حسب

1 البخاري: المغازي (4339)، والنسائي: آداب القضاة (5405) ، وأحمد (2/150) .

ص: 110

زعمكم - ماذا تفعل تلك الليلة في جانب ليالي السنة كلها؟!

ولا شك أن سماع سيرة الرسولصلى الله عليه وسلم خير من استماع غيرها من الأشياء المباحة، فضلا عن الأشياء المنكرة، ولكن تخصيصها بليلة واحدة معينة من ليالي السنة، واتخاذها عيدا يتكرر، كالأعياد التي شرعها لنا الإسلام، لا شك أنه بدعة؛ بل ينبغي أن تكون سيرته صلى الله عليه وسلم في أغلب أيام السنة تقرأ، من غير تخصيص لوقت معين. ومما يدل على أنه بدعة، ما يأتي: أولا: أنه لم يرد في كتاب ولا سنة، والعبادات مبناها على الأمر.

ثانيا: قد ورد النهي عنها بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"1.

ثالثا: لم يفعله أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا غيرهم من الصحابة والتابعين، ولا من بعدهم من أئمة المسلمين. رابعا: هذا فيه المشابهة للنصارى بأعيادهم، وقد نهينا عن التشبه بهم في عدة أحاديث، كما لا يخفى على من عرف شيئا من الشريعة الإسلامية.

ومن المستغرب أنكم قلتم في مقالكم السابق،

1 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/180 ،6/256) .

ص: 111

تأريخ 7/4/1382? في صحيفة الندوة: إن بدعة المولد تلقتة الأمة الإسلامية بالقبول، فكأنكم جعلتم فعل الناس دليلا على الجواز، وهل هذا حجة؟ والسنة تردّه؟! وهل ما يفعله العوام أو المنحرفون يحتج به على الشريعة؟! هل أجمع علماء الإسلام المحققون على جوازه؟ مع أن الأمة التي تشير إليها، قد أجمعت على وضع القانون بدلا من الشريعة، فهل يكون دليلا على جواز إباحة الخمور، والزنى عند التراضي، والبناء على القبور، والصلاة عندها؟! هل يكون فعلهم دليلا على جواز هذه الأشياء؟!

وأما قولكم: إننا اذا لم نفعل ذلك - أي إحداث المولد - نكون موضعا للوقوع في أعراضنا، واتهامنا بعدم محبته صلى الله عليه وسلم.

فنقول: كيف نتهم بذلك، ونحن نعتقد أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم ركن من أركان الصلاة، وأن من صلى ولم يصل على النبي فصلاته غير صحيحة، فريضة كانت أو نافلة؛ وهذا مذهبنا معشر الحنابلة دون غيرنا.

وأيضا: وقوع مثل هذا لا يكون مسوغا لنا على ترك الحق وعدم التمسك به، فإن صاحب الحق قد يلقب بألقاب شنيعة تنفر عنه؛ فالمشركون قالوا في حقه صلى الله عليه وسلم إنه قطع أرحامنا، وسفه أحلامنا، وإنه كاهن،

ص: 112

ومجنون، وساحر، إلى غير ذلك من الألقاب، ولم يزده ذلك إلا تمسكا بالحق، وكذلك أتباعه من الأئمة وغيرهم من المحققين، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب.

وأيضا: هناك ألقاب في هذا الزمن لكل متمسك بدينه، فتراه يرمى بأنه رجعي، وأنه متزمت، وضيق العطن، إلى أمثال هذه الكلمات، فهل ندع أوامر الشريعة للسلامة من هذه الألقاب؟!

ثم إنكم أيضا قلتم عن شيخ الإسلام، إنه ابتدع مؤلفات كثيرة في حماية جانب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا في الحقيقة اتهام للشيخ خاطئ، وجهل وقصور متناه منكم. فشيخ الإسلام لم يبتدع، وإنما ينقل الآيات، والأحاديث، وكلام العلماء ويوضحها، ويبين المراد منها، وينفي عنها تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. وهو من أحرص الناس على الاتباع وترك الابتداع، وكذا تلميذه العلامة ابن القيم على طريقته رحمه الله.

والواقع أن بحث هذا الموضوع يستدعي كلاما أبسط من هذا، ولكن هذه إشارة; وسنكتب - إن شاء الله - كلاما أوسع، وأجمع للأدلة من هذا; وصلى الله على خير خلقه محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.

ص: 113

[الجن هل لوجودهم حقيقة أم لا وما حكم من أنكر وجودهم]

وسئل الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله: 1 ما قولكم دام فضلكم وكثر النفع بعلومكم عن الجن، هل لوجودهم حقيقة؟ أم لا؟ وما حكم من أنكر وجودهم؟ وهل لهم نفوذ في أجسام البشر أم لا؟ لأن بعضهم أنكروا ذلك، قائلين: إنما يحدث في بعض الناس هو من أخلاط في العقل، وهذيان كلام لا معنى له. إنما هو علة تمنع الأعضاء النفسية عن الأفعال والحركة والانتصاب في عملها منعا غير تام، وسببه أخلاط غليظة لزجة، تسد منافذ بطون الدماغ سدا غير تام، فيمتنع نفوذ الحس والحركة فيه، وربما كان لأسباب أخرى من شأنها تشنج بعض الأعضاء، أو خلل في الأعصاب.

وإن الصرع داء عصبي يعتري المصابين به، فيفقدهم حسهم وشعورهم، ويصرعهم إلى الأرض، ويجعلهم يتخبطون؛ في بدء حصوله يكون الجسم متوترا، والوجه شاحبا، ثم تحدث إرجافات شديدة، وانطباقات في الفكين، وخروج ماء الفم ممزوج بدم، وتنضم اليدان إحداهما إلى الأخرى؛ وبعد مضي بضع دقائق، يعود المريض إلى حالته الأولى، فيميل للنوم، فينام، ثم يستيقظ كأنه لم يطرأ عليه شيء.

1 نشر هذا المقال في مجلة الحج بتاريخ 16/12/1377هـ.

ص: 114

فأجاب رحمه الله: دلّت الكتب السماوية على وجود الجن حقيقة، وأجمع المسلمون عليه، بل وعقلاء النصارى، والمجوس، والصابئون؛ وهذا أمر معلوم حتى عند جاهلية العرب، ولم ينكر وجودهم إلا جهلة الأطباء. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن، وكذا جمهور الكفار، لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء، تواترا معلوما بالاضطرار، يعرفه الخاصة والعامة; قال: ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهلة الفلاسفة ونحوهم.

وقال: ليس الجن كالإنس في الحد، والحقيقة; فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويا لما على الإنس في الحد، والحقيقة؛ لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر والنهي، والتحليل والتحريم، بلا نزاع أعلمه بين العلماء. وقال ابن حزم في كتاب "الفيصل": ووجود الجن جاءت به النصوص، وأنهم: أمة عاقلة مميزة، متعبدة، موعودة متوعدة متناسلة، يموتون، وأجمع المسلمون على ذلك، بل النصارى والمجوس، والصابئون، وأكثر اليهود؛ وهم يروننا ولا نراهم.

وقال الإمام الماوردي: الجن من العالم الناطق المميز، يتناسلون، ويموتون، وأشخاصهم محجوبة عن

ص: 115

الأبصار، وإن تميزوا بأفعال وآثار، إلا أن الله يخص برؤيتهم من يشاء.

وإنما عرفهم الإنس من الكتب الإلهية، وما تخيلوه من آثارهم الخفية

إلى أن قال: فإن أنكر قوم خلق الجن، ولم يؤمنوا بالكتب الإلهية، قهرتهم براهين العقول، وحجج القياس. وقال أبو البقاء في كلياته: وجمهور أرباب الملل، المصدقين بالأنبياء، قد اعترفوا بوجود الجن، واعترف جمع عظيم من قدماء الفلاسفة.

وقال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" في علاج الصرع ما مثاله: الصرع صرعان، صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية; وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه. وأما صرع الأرواح: فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرية العلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة، فتدفع آثارها، وتعارض أفعالها، وتبطلها. وقد نص على ذلك بقراط في كتبه، فذكر بعض علاج الصرع، وقال: هذا إنما ينفع من الصرع الذي سببه الاختلاط، والمادة; وأما الصرع الذي يكون من الأرواح، فلا ينفع فيه هذا العلاج.

ص: 116

وأما جهلة الأطباء، فينكرون صرع الأرواح، ولا يقرون بأنها تؤثر في بدن المصروع، وليس معهم إلا الجهل، وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك، والحسد والوجود شاهدان به، وإحالتهم ذلك على علية بعض الأخلاط، هو صدق في بعض أقسامه لا في كلها. وقدماء الأطباء يسمون هذا الصرع:"المرض الإلهي" وقالوا من الأروح.

وقال في الإقناع وشرحه: والمشهور أن للجن قدرة على النفوذ في بواطن البشر، لقوله عليه الصلاة والسلام:"إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"1.

وكان الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله إذا أوتي بالمصروع وعظ من صرعه، وأمره ونهاه؛ فإن انتهى وفارق المصروع، أخذ عليه العهد أن لا يعود، وإن لم يأتمر، ولم ينته، ولم يفارقه، ضربه حتى يفارقه. والضرب في الظاهر يقع على المصروع، وإنما يقع في الحقيقة على من صرعه؛ ولهذا يتألم من صرعه به ويصيح، ويخبر المصروع إذا أفاق بأنه لم يشعر بشيء من ذلك. ولو تتبعنا أقوال العلماء في هذا لكثر جدا.

أما حكم منكر الجن فإنهم مكذبون للقرآن العزيز والسنة النبوية، ومخالفون لما أجمع عليه المسلمون، كما قال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ

1 البخاري: الاعتكاف (2039)، ومسلم: السلام (2175)، وأبو داود: الصوم (2470) والأدب (4994)، وابن ماجه: الصيام (1779) ، وأحمد (6/337) .

ص: 117

الْقُرْآنَ} [سورة الأحقاف آية: 29]، {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [سورة الجن آية: 1] ، وكما في خبر جن نصيبين الذين جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستمعوا قراءته، وآمنوا به، وصدقوه. فظهر مما تقدم إثبات وجود الجن حقيقة، وكفر من أنكر وجودهم، وأن لهم قدرة على النفوذ من بواطن البشر؛ وأن الصرع صرعان: صرع من الأرواح الشريرة الأرضية، وصرع من الأخلاط الرديئة، لما نص عليه كثير من محققي العلماء، رحمهم الله، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل؛ وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

وقال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد: تعقيب وتنبيه 1 حول مقال [الحج بين التعسير والتيسير]

نشرت جريدة البلاد بعدديها الصادرين في 6 محرم، وفي 12 منه، سنة 1385?، كلمتين للأستاذين الفاضلين: صالح محمد جمال، وأخيه أحمد محمد جمال؛ ومع شكري لهما وتقديري لمواقفهما الإسلامية، بارك الله فيهما، وفي علومهما، غير أنه لا بد من إيضاح ما ورد من الخطأ في كلمتيهما.

قال الأخ الفاضل صالح في كلمته بعنوان: "الحج بين

1 كتب هذا التعقيب والتنبيه، في آخر محرم سنة 1385 هـ.

ص: 118

التعسير والتيسير": ذكرني هذا الاقتراح، بما يعمد إليه خطباء المساجد عندنا، في كل عام في موسم الحج، من إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وحث الحجاج أن يحجوا كما حج تماما

إلخ.

أقول: ناهيك بهذا شرفا وفضلا، من أن المسلمين يحجون كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم وأن فيهم من يأمر بذلك، ويحث عليه، ويرغب فيه; فإن الله أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه. فقال تعالى:{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21]، وقال:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [سورة الحشر آية: 7] ، فهل يجوز لنا أن نغير في شرع الله ودينه؟ وفي صفة الحج وهيئته؟ بحجة الفروق الزمنية، واختلاف الوسائل العصرية؟! فيختص الشرع في أناس كانوا فبانوا؟!. لا أظن أن أحدا من المسلمين يقول بهذا، أو يعيب على من حث بالاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الحج، أو الصلاة، أو الزكاة، والصوم، وغيرها من شرائع الإسلام، فقد قال عبد الله بن مسعود:"اتبعوا، ولا تبتدعوا، فقد كفيتم"، وقال:"إنكم اليوم على الفطرة، وإنكم ستحدثون، ويحدث لكم، فإذا رأيتم ذلك، فعليكم بالهدي الأول"

مع أن الحث هو الحض، والترغيب وليس الإلزام

ص: 119

والإيجاب، فهل يريد الأخ أن لا يذكر شيء أبدا مما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة الحج؟!. ثم قال الأخ: ويحذروهم من الذبح بمكة، لأنه غير جائز، ووجوب الذبح بمنى! لا أظن هذا صحيحا، فإن الذبح بمنى وبمكة جائز، لما روى أبو داود، وابن ماجة وغيرهما، عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"منى منحر وفجاج مكة كلها منحر" 1 ثم قال الأستاذ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يأخذوا بدعوة هؤلاء الخطباء لدقّت الأعناق

إلخ.

أقول: لو تمسك الناس بحج رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجدوا فيه الخير والبركة والهدوء، والراحة التامة؛ فهذا الحجيج ينصرفون من عرفات إلى مزدلفة دفعة واحدة، وما دقّت الأعناق، ولا كسّرت الرواحل، ولا تعطلت الحركة، وما حصل إلا الخير. ثم هم ينفرون من منى دفعة واحدة إلى مكة، ولا يبقى إلا القليل على كثرتهم. وهؤلاء الخطباء لم يأتوا بشيء من عندياتهم، أو استحساناتهم، حتى نترك أقوالهم، أو يمنعون من صيغ الخطب، التي يلقونها، وهي إيراد صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم كما تفضلتم بذلك.

وبعد أن فرض الحج، أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن ينادي في الناس، بأنه سيحج هذا العام، ليقتدوا بأفعاله، وليعلمهم

1 أبو داود: الصوم (2324) .

ص: 120

طريقة أداء المناسك، فهل الرسول صلى الله عليه وسلم أراد من هذا العمل، ومن قوله صلى الله عليه وسلم "خذوا عني مناسككم" 1 تكليف أمته والشق عليهم؟! لا والله. {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [سورة التوبة آية: 128] . وإذا لم نتبع هدي الرسول ونقتدي به، فمن نتبع؟ وكيف نعلم الجاهل، إذا كان حج الرسول صلى الله عليه وسلم فيه تكليف؟!

ثم قال الأخ صالح: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة لكان الحج عملية جد شاقة. أقول: أصحاب المذاهب الأربعة لم يقصدوا مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم لغرض التوسعة على الناس، وليست أقوالهم شرعا يتبع، إذا خالفت النص، بل كل منهم يتحرى ما أمر به الرسول صلى الله عليه وسلم أو فعله، أو أقره، لا أنهم يأتون بأحكام جديدة لم تستند على دليل.

وهذا الاختلاف إنما نشأ عن حسن نية وتطلب للحق، وإلا فكلهم مجمعون على أن أي قول يقولونه مخالف لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يضرب به عرض الحائط، قال هذا المعنى أبو حنيفة، ومالك، والشافعي وأحمد.

والخلاف: ليس رحمة، بل هو مذموم؛ ذمه القرآن والسنة:{إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 159] ، {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ

1 مسلم: الحج (1297) ، وأحمد (3/318) .

ص: 121

رَحِمَ رَبُّكَ} [سورة هود آية: 119-118]، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عمران آية: 103] ، {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [سورة آل عمران آية: 105] ، {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [سورة النساء آية: 115] . ولو كان الخلاف رحمة لما كان الإجماع - الذي هو الأصل الثالث - حجة.

وفي حديث العرباض بن سارية: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة" 1، وجاء في صحيح مسلم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: هَجَّرْتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما، فسمع أصوات رجلين اختلفا في آية، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى في وجهه الغضب، قال:"إنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم في الكتاب" 2 وفي حديث آخر: "أبهذا أمرتكم؟ أم بهذا أرسلت إليكم؟! وإنما أهلك من كان قبلكم كثرة التنازع في أمر دينهم، واختلافهم على أنبيائهم"3.

وبالجملة: فهذه الآيات، والأحاديث، والآثار، كلها تذم الاختلاف، وتعيبه، وتمنع منه، وما يروى: "اختلاف

1 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .

2 البخاري: الخصومات (2410) ، وأحمد (1/419) .

3 الترمذي: القدر (2133) .

ص: 122

أمتي رحمة" لا أصل له، كما قاله السيوطي، وابن الديبع، والسخاوي في المقاصد الحسنة. بل الرحمة والخير في الاجتماع; والشر والبلاء في الفرقة والاختلاف، ومعناه ليس بصحيح، لأن المعنى: يكون الحث على الاختلاف، والتفرق، وعدم الاتفاق، طلبا لتوسعة الرحمة. والذي تعطيه عبارة الأخ في قوله: ولولا رحمة الله التي تمثلت في اختلاف المذاهب الأربعة،

إلخ، ما يدل على أن الرحمة لم تتمثل وتحصل إلا بعد وجود هذه المذاهب الأربعة، وكثرة الخلاف؛ وأعتقد أن الأخ لا يقصد هذا، وإنما هي سبقة قلم.

قال الأخ: ولو أراد الحجيج كلهم أن يخرجوا دفعة واحدة من مكة فيخرجوا يوم التروية، متجهين إلى منى، ليصلوا بها الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، وفجر اليوم التاسع، ثم يتحرك كل الحجيج دفعة واحدة أيضا إلى عرفات، لو وقع هذا فعلا، لما تحركت سيارة واحدة من مكة

إلى أن قال: ولو تحركوا من منى كلهم في صبيحة اليوم التاسع، لانتهى وقت الوقوف قبل أن يصل كل الحجيج إلى عرفات.

أقول: لو خرجوا دفعة واحدة لتيسر أمرهم، ما داموا متبعين لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم ولوجدوا فيه الراحة،

ص: 123

والطمأنينة، وهذا يحصل فعلا بدفعهم من عرفات إلى مزدلفة، وكالنفر الأول من منى إلى مكة، ولا يحصل إلا الخير. ومع هذا، فإن الخطباء لم يقرروا وجوب الخروج في اليوم الثامن؛ بل لو خرج الحجيج قبله أو بعده إلى عرفات، جاز. والمبيت بمنى الليلة التاسعة، سنّة بغير خلاف. ثم لو لم يأت عرفة إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر، صح حجه.

ثم قال الأخ صالح: ولم يكن الحج عند إصدار هذه التشريعات، بهذه الكثرة، وبهذه الوسائل؛ فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج، بأن يحجوا كما حج الرسول صلى الله عليه وسلم أمرا يكاد يكون مستحيلا. فهل الكثرة وتلك الوسائل المريحة، تكون سببا لتغيير الأحكام الشرعية؟! بل إن هذه الأزمنة، أسهل وأيسر في حق الحجاج من الزمن الأول، لعدم توفر المياه في ذلك الوقت، ولصعوبة المسالك، ولحاجتهم الشديدة إلى نقل كل ما يحتاجونه من ماء وغيره، لبعد المسافات على الرواحل، ولعدم وجود ما يحتاجونه من الأطعمة في عرفات ومزدلفة ومنى؛ والذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم بلغ عددهم مائة وأربعة وعشرين ألفا.

ص: 124

وقد ذكر بعض المؤرخين أن عدد الحجاج في أواخر خلافة بني العباس، قد بلغ ستمائة ألف; فقارن نسبتهم مع نسبة عدد الحجاج في هذا الزمن، مع اعتبار وسائل النقل؛ وفي زمننا كل شيء متيسر - ولله الحمد- من المياه، والمطاعم، ووسائل النقل، وغيرها.

وأحب أن أذكر الأخ أن الحج ليس مجرد نزهة فقط، لا يتحمل الإنسان منه أدنى مشقة أو تعب؛ لا، بل أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن الحج من الجهاد؛ والجهاد معروف ما يتحمله الإنسان في سبيله، وكما يدل عليه قوله تعالى:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} [سورة النحل آية: 7] .

وقول الأخ صالح: فكيف لو شاهد واحد منهم هذا الذي يلقاه الحجاج الآن؟ مما يجعل إلزام الحاج أن يحج كما حج النبي صلى الله عليه وسلم أمرا، يكاد يكون مستحيلا.

هذه عبارة لا ينبغي أن تصدر من عاقل، فضلا عمن عنده أدنى علم. فهل يسوغ لنا أن نغير في العبادات الشرعية بحجة الكثرة؟ أيشرع للناس وقوفا في اليوم الثامن وفي اليوم التاسع؟ أيشرع للناس ترك رمي الجمار نظرا للكلفة والمشقة؟!، أيشرع للناس اختصار الطواف والسعي خمسة أشواط بدلا من سبعة؟! نظرا للكثرة والمشقة!!.

وقوله: يكاد يكون الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم أمرا مستحيلا

ص: 125

ليس هو- والحمد لله- بالمستحيل، بل هو متيسر سهل، فلا نزيد ولا ننقص "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد"1. وإذا كان الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم مستحيلا، فمن الذي يجب أن يقتدى به، وتكون طريقته أسهل وأيسر من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم نقول للناس تخبطوا في متاهات الجهل، وحجوا كما أردتم، بدون الاقتداء بأحد؟!.

وقوله: لم أسمع خطيبا يحاول التيسير على الحجاج، فيقول لهم مثلا: إن الإمام مالك أجاز المكث في مزدلفة، بقدر حط الرحال. أقول: ليس التيسير من جهة الخطباء، ولا من غيرهم، بل هي السنة; والإمام مالك إذا كان يرى إجزاء المكث بمزدلفة بقدر حط الرحال، فإن من الصحابة من قال: إن الوقوف بمزدلفة والمبيت بها ركن كعرفة؛ قال بهذا ابن عباس، وابن الزبير رضي الله عنهما.

وقال به من التابعين: إبراهيم النخعي، والشعبي، وعلقمة، والحسن البصري، والأوزاعي، وحماد ابن أبي سليمان، وداود الظاهري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وابن جرير، وابن خزيمة، وهو أحد الوجوه للشافعية، وأكثر العلماء يقولون بوجوبه. والمسلمون مأمورون باتباع نبيهم صلى الله عليه وسلم لا باتباع مالك، ولا أحمد، ولا غيرهما.

1 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/180 ،6/256) .

ص: 126

قال شيخ الإسلام: وأجمع العلماء على تحريم الحكم والفتيا بالهوى، وبقول، أو وجه من غير نظر في الترجيح، والإمام مالك يقول: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: لم أسمع واحدا منهم قط، قال لهم: إمضاء يوم الثامن بمنى إلى فجر يوم التاسع مجرد سنة، أنفي سمعك يدل على أنهم لم يقولوه؟ بل كلهم مجمعون فيما علمت على أن الخروج في اليوم الثامن، والمبيت بمنى تلك الليلة سنة، وأنه لو لم يخرج إلى عرفات، إلا ليلة النحر قبل طلوع الفجر صح حجه.

وقوله: أما وجوب ذبح الهدي بمنى فإني ألاحظ عليهم، وعلى أكثرية خطباء المسجد الحرام تحذير الحجاج من الذبح بمكة، والفتوى بعدم إجزائه!! لا يقول بهذا أحد منهم، بل الذي عليه أكثر العلماء، من الشافعية، والحنابلة، جواز الذبح بمكة، وعدم وجوبه بمنى، لحديث جابر السابق.

قوله: وأسلوب الرسول صلى الله عليه وسلم في توجيه الحجيج الذي كان يقوله لكل سائل: افعل ولا حرج!! لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم لكل سائل افعل ولا حرج، إلا فيما يحصل به التحلل، فهذا عروة بن مضرس، جاء يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقل له: افعل ولا حرج.

ص: 127

قال عروة: جئت من جبل طيء أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي، فما من جبل إلا وقفت عنده، فهل لي من حج؟ قال صلى الله عليه وسلم "من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع، وقد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا، فقد تم حجه، وقضى تفثه" 1، فراعى الرسول صلى الله عليه وسلم الترتيب، ولم يقل له: افعل ولا حرج، مع أن السائل، قال: أتعبت نفسي، وأكللت راحلتي؛ فهل: لو رمى الجمار يوم عرفة- بأن قدمه على يوم النحر- هل يجزئه بحجة: افعل ولا حرج؟! أو طاف طواف الإفاضة في اليوم التاسع، فهل يكفيه بحجة: افعل ولا حرج؟! وإنما "قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن سأله يوم النحر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: رميت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج; فما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر، إلا قال: افعل ولا حرج" 2، والمراد به هو: ما يحصل به التحلل يوم العيد; لقوله: فما سئل يومئذ، ولم يقل لكل سائل: افعل ولا حرج; وقصة كعب بن عجرة أيضا معروفة معلومة. انتهى المراد من كلمة الأخ صالح.

ولي على كلمة الأخ أحمد محمد جمال، المنشورة في جريدة البلاد، في العدد الصادر بتأريخ اثني عشر منه خمس ملاحظات:

1 الترمذي: الحج (891) .

2 البخاري: الحج (1736)، ومسلم: الحج (1306)، والترمذي: الحج (916)، وأبو داود: المناسك (2014)، وابن ماجه: المناسك (3051) ، وأحمد (2/159 ،2/192)، ومالك: الحج (959)، والدارمي: المناسك (1907) .

ص: 128

أولا: قوله: وأردف الفقيه العربي، أن مذهب الشافعي: جواز الذبح طيلة العام. أقول: لم يكن هذا هو مذهب الشافعي الصحيح، بل قوله موافق لقول الجمهور، كما دلت عليه النصوص النبوية، من تخصيص الذبح في أيام التشريق كما قاله الحافظ ابن كثير وغيره، ونقله عنه الموفق ابن قدامة في المغني، وكما في الأم له رحمه الله. ثانيا: نقله عن الفقيه العربي قوله، ويمنع في الوقت نفسه الخطباء والوعاظ الذين يحرمون الذبح في غير منى; لو تفضل الأخ الفقيه، وأعلن بأسماء الذين يمنعون من ذلك لكان أليق; فإن الجمهور من العلماء يجوزون الذبح بمكة، كمنى، لحديث جابر السابق. ثالثا: نقله استنكار الفقيه العربي أن يجمد الخطباء والوعاظ على الحث للحجاج باقتفاء سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في حجه من حيث المبيت بمنى ليلة التاسع، وفي المزدلفة ليلة العاشر، مع أنهم يعلمون علم اليقين أن ذلك مستحيل على كافة الحجاج

إلخ. أعظم بها من منقبة وأكرم بها من طريقة سامية! كيف لا يقتدى بسيد الخلق، وإمام المرسلين الذي أمرنا باتباعه، والتمسك بهديه، والاقتداء بأفعاله؟ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [سورة الأحزاب آية: 21] ، {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [سورة النور آية: 54] ،

ص: 129

وقال صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني مناسككم" في حين أن المبيت بمنى ليلة التاسع سنة إجماعا، لأحاديث دلت على ذلك؛ والمبيت بمزدلفة واجب عند كثير من أهل العلم. وآخرون قالوا إنها ركن من أركان الحج، لا يتم الحج بدون المبيت بمزدلفة، كما تقدم، لحديث عروة بن مضرس:"من شهد صلاتنا هذه، ووقف معنا حتى ندفع" 1 الحديث. رابعا: قوله: وإن الفقهاء قبلهم قد أوضحوا السنة من الواجب، من مناسك الحج، وبذلك يسروا على الحجاج. فهل التيسير من الفقهاء؟!، أهم مشرعون من عندياتهم؟! أم مجتهدون، يتحرون الدليل، ويلتمسون الصواب، ويتطلبون الاقتداء بنبيهم صلى الله عليه وسلم في صفة الحج وغيره. وكلهم يعلمون، أن التيسير ليس من قبلهم، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" 2، ويعلمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:"عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، وإياكم ومحدثات الأمور"3. نقل الأستاذ أحمد، عن الفقيه العربي، بأنه سيصدر فتوى لحجاج بلاده بجواز التصدق بثمن الهدي عند الحاجة إليه، فهلا يتكرم بإصدار فتوى بجواز التصدق، بتكاليف الحج، بدلا من الحج؟! ويسقط عنهم حجة الإسلام، فمتى جاز في البعض جاز في الكل.

1 الترمذي: الحج (891) .

2 مسلم: الأقضية (1718) ، وأحمد (6/180 ،6/256) .

3 أبو داود: السنة (4607)، والدارمي: المقدمة (95) .

ص: 130

وقل للعيون الرمد للشمس أعين

سواك تراها في مغيب ومطلع

وسامح نفوسا أطفأ الله نورها

بأهوائها لا تستفيق ولا تعِي

ففتواه هو وغيره ما لم تستند على دليل شرعي غير معتبرة.

وليس كل خلاف جاء معتبرا إلا خلافا له حظ من النظر

وختاما: أشكر للأستاذين الجليلين، أن أتاحا لي الفرصة للاشتراك بإبداء رأيي في الموضوع، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.

[رد الشيخ عبد العزيز بن باز على عبد الله السعد حين أساء الظن بالإخوة المتطوعين في الدعوة إلى الله]

وقال الشيخ: عبد العزيز بن باز1 في ردّه على عبد الله السعد:2 فألفيت الكاتب قد أساء الظن بالإخوان المتطوعين، القائمين بالدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في "الرياض" وملحقاتها، ووصفهم بأنهم مخدوعون، ومتشددون، ومحاربون للجديد، إلى غير ذلك مما وقع في كلامه من الأخطاء.

وقد رأيت أن أنبه في هذه الكلمة، على ما وقع في مقاله، من الأخطاء ذات الأهمية، نصحا له ولسائر الأمة،

1 في رسالته: "الأدلة الكاشفة" لأخطاء بعض الكتاب.

2 الذي نشر مقاله في صحيفة البلاد، تحت عنوان "احذروا الغلو" بتاريخ 12/2/1385?.

ص: 131

ودفاعا عن الإخوان، فيما نعلم براءتهم منه، وتحريضا له ولغيره من الكتاب، على التثبت في القول، ولزوم الاعتدال في الحكم، والحذر من سوء الظن الذي لا ينبني على أساس مستقيم.

وإلى القارئ تفصيل القول فيما وقع في مقال الكاتب: عبد الله السعد، من الأخطاء التي تستحق التنبيه عليها، والإنكار على قائلها؛ فنقول، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به: أما ما ذكره الكاتب: عن مضار الغلو والتشديد فصحيح؛ ولا شك أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت بالتحذير من الغلو في الدين، وأمرت بالدعوة إلى سبيل الحق بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن. ولكنها مع ذلك لم تهمل جانب الغلظة والشدة في محلها، حيث لا ينفع اللين، والجدال بالتي هي أحسن، كما قال سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [سورة التوبة آية: 73]، وقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [سورة التوبة آية: 123]، وقال تعالى:{وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [سورة العنكبوت آية: 46] الآية.

ص: 132

فشرع الله سبحانه لعباده المؤمنين، الغلظة على الكفار، والمنافقين، حين لم تؤثر فيهم الدعوة بالحكمة واللين؛ والآيات وإن كانت في معاملة الكفار، دالة على أن الشريعة إنما جاءت باللين في محله حين يرجى نفعه. أما إذا لم ينفع، واستمر صاحب الظلم، أو الكفر، أو الفسق في عمله، ولم يبال بالواعظ والناصح، فإن الواجب الأخذ على يديه، ومعاملته بالشدة، وإجراء ما يستحقه، من إقامة حد، أو تعزير، أو تهديد، أو توبيخ، حتى يقف عند حده، وينْزجر عن باطله.

ولا ينبغي للكاتب وغيره: أن ينسى ما ورد في هذا من النصوص، والوقائع من حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى عصرنا هذا، وما أحسن ما قاله الشاعر في هذا المعنى:

دعا المصطفى دهرا بمكة لم يجب وقد لان منه جانب وخطاب

فلما دعا والسيف صلت بكفه له أسلموا واستسلموا وأنابوا

والخلاصة: أن الشريعة الكاملة جاءت باللين في محله، والشدة في محلها. فلا يجوز للمسلم أن يتجاهل ذلك; ولا يجوز أيضا أن يوضع اللين في محل الشدة، ولا الشدة في محل اللين. ولا ينبغي أيضا أن ينسب إلى الشريعة أنها جاءت

ص: 133

باللين فقط، ولا أنها جاءت بالشدة فقط؛ بل هي شريعة حكيمة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، ولإصلاح كل أمة؛ ولذلك جاءت بالأمرين معا، واتسمت بالعدل والحكمة والسماح. فهي شريعة سمحة، ليسر أحكامها، وعدم تكليفها ما لا يطاق، ولأنها تبدأ في دعوتها باللين، والحكمة، والرفق؛ فإذا لم يؤثر ذلك، وتجاوز الإنسان حده، وطغى، وبغى، أخذته بالقوة والشدة، وعاملته بما يردعه، ويعرفه سوء عمله.

ومن تأمل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرة خلفائه الراشدين، وصحابته المرضيين، وأئمة الهدى بعدهم، عرف صحة ما ذكرناه. 1

ومما ورد في اللين قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ

1 من ذلك: ما أرشد إليه نبيه صلى الله عليه وسلم في معاملة من أراد التحاكم إلى الطاغوت مع دعواه الإسلام، فقال تعالى، في حقه في سورة النساء [63] : وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وكل من دعا إلى نبذ مبادئ الإسلام، وهو في صف المسلمين، فينبغي أن يعامل معاملة تردعه هو وأمثاله، وإلا تجرأ الفسقة والمارقون; والمسئول عن هذا المقام: الإمام الأعظم ونوابه.

ص: 134

لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [سورة آل عمران آية: 159] الآية، وقوله تعالى في قصة موسى وهارون لما بعثهما إلى فرعون:{فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [سورة طه آية: 44]، وقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] الآية. ومما ورد في الشدة: الآيات المتقدم ذكرها 1، ومن الأحاديث: ما رواه أحمد، وأبو داود وغيرهما، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تلا قوله تعالى:{لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة المائدة آية: 79-78] قال: "والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه وفي لفظ آخر: على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو لتقصرنه على الحق قصرا، أو ليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم"2.

1 في صفحة 132.

2 الترمذي: الفتن (2169) .

ص: 135

وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلا يصلي بالناس، ثم أنطلق برجال معهم حزم من حطب، إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم" 1، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقتها عليهم" 2، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما بعث الله من نبي في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويهتدون بأمره. ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل". وقصة الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من غير عذر، معلومة لدى أهل العلم، وقد هجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم خمسين ليلة، حتى تابوا، فتاب الله عليهم، وأنزل في ذلك قوله تعالى:{لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [سورة التوبة آية: 117]

1 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420) والأحكام (7224)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651)، والنسائي: الإمامة (848)، وأبو داود: الصلاة (548)، وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) ، وأحمد (2/314 ،2/377)، ومالك: النداء للصلاة (292)، والدارمي: الصلاة (1274) .

2 البخاري: الأذان (644) والخصومات (2420)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (651)، والترمذي: الصلاة (217)، وأبو داود: الصلاة (548 ،549)، وابن ماجه: المساجد والجماعات (791) ، وأحمد (2/367) .

ص: 136

إلى قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [سورة التوبة آية: 118] الآية.

فمما تقدم من الآيات والأحاديث، يعلم الكاتب وغيره من القراء أن الشريعة الإسلامية الكاملة جاءت باللين في محله، والغلظة والشدة في محلها.

وأن المشروع للداعية إلى الله أن يتصف باللين والرفق، والحلم والصبر، حتى يكون ذلك أكمل في نفع دعوته والتأثر بها، كما أمره الله بذلك، وأرشد إليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون على علم وبصيرة فيما يدعو إليه، وفيما ينهى عنه، لقول الله سبحانه:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [سورة يوسف آية: 108] . ولا ينبغي للداعية أن يلجأ إلى الشدة والغلظة، إلا عند الحاجة والضرورة، وعدم حصول المقصود بالطريقة الأولى؛ وبذلك يكون الداعي إلى الله سبحانه قد أعطى المقامين حقهما، وترسم هدي الشريعة في الجانبين; والله الموفق. ونحن في هذا لا نقصد موافقة الكاتب على ما نسبه للإخوان من التشديد، فالذي عرفنا عنهم خلاف ذلك، فهم - بحمد الله- على بينة وبصيرة، ويعاملون الناس بالتي هي أحسن، ويوجهونهم إلى الخير، تحت إرشادات علماء البلاد، والمسؤولين فيها.

ولو فرضنا أنه وقع من بعضهم خطأ، أو تشديد في غير محله، فليسوا معصومين، والواجب تنبيههم،

ص: 137

وإرشادهم إلى ما قد يقع منهم من الخطأ، حتى يحذروه مستقبلا. وكان الواجب على الكاتب، حين بلغه عنهم ما يعتقده خلاف الشرع، أن يتصل بأعيانهم مشافهة أو كتابة، ويناصحهم فيما أخذ عليهم، أو يتصل بسماحة المفتي، أو رئيس الهيئات، ويبدي ما لديه حول الإخوان من النقد، حتى يوجههم المشايخ إلى الطريق السوي. أما أن يكتب في صحيفة سيارة ما يتضمن التشنيع عليهم، والحط من شأنهم، ووصفهم بما هم برآء منه، فهذا لا يجوز من مؤمن يخاف الله ويتقيه، لما فيه من كسر شوكة الحق، والتثبيط عن الدعوة إليه، والتلبيس على القراء، ومساعدة السفهاء والفساق على باطلهم، وعلى النيل من دعاة الحق.

والله المسؤول أن يسامحنا وإياه، وأن يوفر الجميع للتوبة النصوح، والاستقامة على الحق، ومناصرة الداعين إليه، إنه خير مسؤول.

وأما قوله: وأنا لا أنكر على كل مؤمن أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد، ويستنكر الشر، ويلفت النظر إليه بأخلاق القرآن والسنة; وهي: اللطف واللين، والروية; أما إذا اتسمت أقواله أو أفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه،

ص: 138

لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر، وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول. قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة. فهذا الكلام فيه حق وباطل وإيهام، وإليك أيها القارئ بيان ذلك بالتفصيل.

أما قوله: إنه لا ينكر على كل مؤمن، أن يرشد إلى الخير، ويوجه إلى الرشد

إلخ، فهذا حق، والواجب على كل من لديه بصيرة، أن يقوم بذلك؛ وهو سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل أتباعه على بصيرة، كما قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [سورة يوسف آية: 108] : فهذه الآية الكريمة ترشد إلى أن أتباع النبي صلى الله عليه وسلم على الكمال هم أهل البصيرة والدعوة إلى الحق. وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [سورة النحل آية: 125] : وهذه الآية العظيمة، وإن كان الخطاب فيها موجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمراد بها جميع الأمة، وقد أوضح الله فيها سبيل الدعوة ومراتبها.

ص: 139

فالواجب على الدعاة: أن يسيروا في دعوتهم إلى الله سبحانه على ضوئها، وعلى الطريقة التي رسمها الله فيها، سواء كان المدعو كافرا، أو مسلما، إلا من ظلم وعاند، فقد تقدم في الأدلة السابقة، ما يدل على شرعية الغلظة عليه، ومعاملته بما يستحق، في حدود الشريعة الكاملة.

وأما قول الكاتب: أما إذا اتّسمت أقواله وأفعاله بالقسوة والشدة، فإن ذلك ليس من حقه، لأنه غير مأذون، ولا مكلف من جهة أسند إليها هذا الأمر؛ وغاية ما في الأمر أن يستنكر ما يراه منكرا بقلبه، وهو أضعف الإيمان لغير المسؤول.

فهذا فيه إجمال وخطأ ظاهر، يتضح مما تقدم; وذلك لأن المطلوب من جميع الدعاة، سواء كانوا مسؤولين من جهة الحكومة، أو متطوعين، أن يكونوا في دعوتهم على المنهج الشرعي، وأن لا تتسم أقوالهم وأفعالهم، بالقسوة والشدة، إلا عند الضرورة إليها، كما سبق؛ وكلام الكاتب يوهم خلاف ذلك.

وقوله: وغاية الأمر

إلخ. هذا خطأ واضح.

والصواب: أن مراتب الإنكار الثلاث، مشروعة للمسؤول وغيره؛ وإنما يختلفان في القدرة، فالمسؤول من جهة الحكومة أقدر من غيره، والإنكار بالقلب هو

ص: 140

أضعف الإيمان، في حق العاجز عن الإنكار، باليد واللسان، سواء كان مسئولا، أو متطوعا؛ وهو صريح الحديث الشريف، ومقتضى القواعد الشرعية.

وأما قول الكاتب قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا، في جماعة أو أمة ليس فيها أجهزة حكومية خصصت لهذا الواجب، ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، ففيه نظر ظاهر أيضا. وهذا الأسلوب الذي أطلقه الكاتب، ليس أسلوبا علميا، ولا منسجما مع الأدلة الشرعية; لأن الدعوة إلى الله سبحانه، وتعليم الناس ما يجهلونه من شرع الله، لا ينبغي أن يعبر عنه بمثل هذا الأسلوب. بل ينبغي أن يعبر عنه بأسلوب الحث والترغيب، ولا سيما في الأمم والجماعات المحتاجة إلى ذلك، فإن دعوتهم، وإرشادهم إلى ما يجب عليه من شرع الله، من الأمور المتعينة على ولاة الأمر، وعلى أهل العلم حسب القدرة؛ فكيف يعبر عن مثل هذا الأمر العظيم، يقول الكاتب: قد يكون هذا الأمر مستساغا ومقبولا

إلخ؟! وأما قوله: ولكنه غير لازم ولا مقبول إلى جانب السلطات الحكومية المكلفة، فهذا خطأ ظاهر أيضا؛ لأن الأجهزة والسلطات الحكومية، إن كانت قد قامت بواجب

ص: 141

الدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فمشاركة غيرها لها في ذلك من المتطوعين حسن جدا، ومطلوب شرعا؛ لأنه من باب التعاون على البر والتقوى، والمشاركة في جهاد شرعي، وتوجيه صالح. قصارى ما هنالك أن الأجهزة والسلطات الحكومية قد أدت فرض الكفاية، وصار القيام من غيرهم لمشاركتهم من باب السنن والتطوع، وذلك من أفضل العبادات وأحبها إلى الله سبحانه. وأما إن كانت الأجهزة والسلطات الحكومية، لم تقم بالواجب على الوجه الأكمل، كما هو الواقع، فإن مشاركة غيرهم لهم في ذلك متعينة، لأن فرض الكفاية لم يسقط بهم.

وقد تقرر في الأدلة الشرعية أن الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفاية، إذا قام بها من يكفي سقط الفرض عن الباقين، وصارت المشاركة فيها في حق الباقين سنة؛ وإن لم يقم بها من يكفي أثم الجميع. وقد يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فرض عين، وذلك في حق من يرى المنكر، وليس هناك من ينكره، وهو قادر على إنكاره، فإنه يتعين عليه إنكاره، لقيام الأدلة الكثيرة على ذلك.

ص: 142

ومن أصرحها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1 أخرجه مسلم في صحيحه. والإنكار بالقلب: فرض على كل واحد، لأنه مستطاع للجميع، وهو بغض المنكر، وكراهيته، ومفارقة أهله عند العجز عن إنكاره باليد، واللسان، لقول الله سبحانه:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [سورة الأنعام آية: 68] .

وقال تعالى في سورة النساء: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ} [سورة النساء آية: 140] الآية. وقال تعالى: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [سورة الفرقان آية: 72]، ومعنى لا يشهدون الزور: لا يحضرونه; والزور: يشمل كل منكر. ويدخل في ذلك الشرك، والكفر، وأعياد المشركين، والاجتماع على شرب الخمور، والتدخين، والأغاني، وآلات الطرب، وأفلام السينما، وأشباه ذلك من المنكرات؛ ذكر معنى ذلك الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية.

1 مسلم: الإيمان (49)، والترمذي: الفتن (2172)، والنسائي: الإيمان وشرائعه (5008)، وأبو داود: الصلاة (1140)، وابن ماجه: الفتن (4013) ، وأحمد (3/20 ،3/49) .

ص: 143

وذكر البغوي رحمه الله، عند تفسيرها قريبا من ذلك، وقال: أصل الزور تحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق، وهذا هو الواقع من أهل الباطل.

فإنهم يحسّنون المنكرات، بوصفها بغير حقيقتها، حتى يرغب فيها الناس، وحتى لا ينفروا منها؛ فيكون على فاعل ذلك إثم ما عمل، وإثم الدعوة إليه، وأعظم من ذلك، الدعوة إليها بالقول.

وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا"1. والأدلة في هذا المعنى كثيرة.

وقول الكاتب: وقد سرني أن علماءنا الأفاضل قد استنكروا هذا التجاوز منهم، ونهوهم عنه

إلخ. فيه نظر.

وقد سبق لك أن الإخوان كانوا في دعوتهم، وإنكارهم للمنكر، يتحرون الطريقة الشرعية، ويعاملون الناس بالرفق والحكمة، ولا نعلم أنهم تعاطوا من الشدة والقسوة ما يوجب إنكار العلماء عليهم.

فلا أدري عن أي مصدر وصل هذا الخبر إلى الكاتب.

1 مسلم: العلم (2674)، والترمذي: العلم (2674)، وأبو داود: السنة (4609) ، وأحمد (2/397)، والدارمي: المقدمة (513) .

ص: 144

ومعلوم أن على الناقل أن يتثبت في النقل، وأن ينظر فيما ينقل وينشر بين الناس، وإذا صح لديه الخبر، نظر هل إعلانه أصلح، أم تركه أحسن في العاقبة.

ولا شك أن هذا الخبر لو صح، فليس من المصلحة نشره بين الناس، وإعلانه في الصحف، لما في ذلك من التنقص للدعاة إلى الحق، وتثبيط عزائمهم، وتشجيع أهل الفسق ضدهم، في وقت يتكاتف فيه دعاة الباطل، والمذاهب الهدامة، على نشر باطلهم، وإعلان مذاهبهم، فالله المستعان.

وأما ما ذكره الكاتب عن الفتنة، التي وقعت في صدر الإسلام، وتمخض عنها قتل عثمان رضي الله عنه، وما جرى من الخلاف بعد ذلك بين أهل الشام والعراق

إلخ. فتلك أمور قد عنى بها التأريخ، وعرفها علماء الإسلام وغيرهم. ولا شك أن لأعداء الإسلام والجهال به فيها دورا فعّالا؛ وقول أهل السنة والجماعة، في هذه الفتنة معلوم، وهو الكف عما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم، والترضي عنهم جميعا، واعتقاد أنهم مجتهدون فيما فعلوا، طالبون للحق؛ والمصيب منهم له أجران، والمخطئ له أجر واحد، كما صح بذلك الحديث الشريف.

وإنما يهمنا هنا أمران: أحدهما: تخوف الكاتب من

ص: 145

أن يكون هؤلاء الإخوان، قاموا بما قاموا به، عن تأثير جماعة سرية إجرامية تخريبية. والجواب عن هذا، أن يقال: من عرف الإخوان وسبر حالتهم، يعلم يقينا أنهم بعيدون كل البعد عن هذه التهمة الشنيعة، وعن هذا الظن السيئ؛ والواجب على المسلم، حمل أحوال إخوانه على أحسن المحامل، وعلاج ما قد يقع من الخطأ بالطرق الشرعية، التي تبني ولا تهدم، وتشجع الحق ولا تخذله، وتنصر الحق وتدمغ الباطل، لا أن يظن بهم السوء، ويشجع على إماتة دعوتهم، وتشويه سمعتهم وتشجيع أهل الباطل ضدهم، وتحريض ولاة الأمر على إيقاف حركتهم، عملا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [سورة الحجرات آية: 12] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"1. والأمر الثاني: وصفه كعب الأحبار، تقليدا لبعض المتأخرين، بأنه يهودي أظهر الإسلام، من أجل الكيد للإسلام وإفساد أهله.

والجواب: أن هذا خلاف المعروف عن علماء الإسلام، ونقلة الأخبار؛ فقد روى عنه علماء الحديث، وأثنى عليه معاوية رضي الله عنه وكثير من السلف; وروى عنه مسلم في صحيحه، وذكره البخاري في كتابه

1 البخاري: النكاح (5144)، ومسلم: البر والصلة والآداب (2563)، والترمذي: البر والصلة (1988) ، وأحمد (2/245)، ومالك: الجامع (1684) .

ص: 146

"الجامع الصحيح" ولم يزنه بريبة، وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، والتهذيب، وابن الأثير في أسد الغابة، ولم يتهموه بهذه التهمة. وقال الحافظ ابن حجر في التقريب، ما نصه: كعب بن مانع الحميري، أبو إسحاق، المعروف بكعب الأحبار، ثقة، من الثانية، مخضرم، كان من أهل اليمن، فسكن الشام، مات في خلافة عثمان رضي الله عنه. فكيف يجوز لمن يخاف الله ويتقيه: أن يرمي شخصا أظهر الإسلام، والدعوة إليه، وشارك الصحابة في أعمالهم، بأنه يهودي، بدون حجة ولا برهان يسوغ ذلك. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم التحذير من رمي المسلم لأخيه، بالصفات الذميمة، وأن من رمى أخاه بما هو بريء منه، كان الرامي أولى بذلك الوصف، الذي رمى به أخاه. وكونه: يروي بعض الأخبار الإسرائيلية الغريبة، لا يوجب رميه باليهودية، والكيد للإسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"1. وقد قام علماء الإسلام بنقد أخبار بني إسرائيل، وتزييف ما خالف الحق منها، وإبطاله؛ فكعب في ذلك يشبه عبد الله بن عمرو، وعبد الله بن سلام، ووهبا، وغيرهم ممن نقل أخبار بني إسرائيل.

1 البخاري: أحاديث الأنبياء (3461)، والترمذي: العلم (2669) ، وأحمد (2/159 ،2/202)، والدارمي: المقدمة (542) .

ص: 147

فكما أن عبد الله بن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما، لا يجوز أن يتهم باليهودية، لكونه نقل كثيرا من أخبار بني إسرائيل، من الزاملتين اللتين أصابهما يوم اليرموك من كتبهم، فهكذا كعب، لا يجوز أن يرمى باليهودية والكيد للإسلام من أجل ذلك؛ ولا يجوز أن يجعل في صف عبد الله بن سبأ وأشباهه، من المعروفين بالكفر والإلحاد، والكيد للإسلام. وفي الصحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من دعا رجلا بالكفر، أو قال: يا عدو الله، وليس كذلك، إلا حار عليه 1") هذا الحديث، وما جاء في معناه: يوجب على المسلم التثبت في الحكم على الناس، والحذر من رمي أخيه بصفة ذميمة، وهو بريء منها، بمجرد الظن، أو تقليد من لا يعتمد عليه، والله المستعان.

ثم قال الكاتب أقول: إن من جهل شيئا عاداه، كما في المثل، وقد كنا قبل وعينا الجديد، وقبل معرفتنا بحقيقة المستحدثات العلمية الجديدة نكره استعمالها، ونستعيبه; ثم ذكر استعمال السيارات، والطائرات، والصواريخ، إلى أن قال:

1 أي: رجع إليه ما نسب إليه; اه، لسان.

ص: 148

ما دمنا قد عرفنا هذا كله، ولمسناه، وتأكدنا فوائده، وعدم معارضته للدين، فلماذا يحاربه هؤلاء الطيبون المخدوعون؟ ولماذا يسافرون من بلد إلى آخر، لاستنكاره ومحاولة عدم استعماله؟

إلخ. لا ريب أن من قرأ هذا الكلام، وضم بعضه إلى بعض، يفهم منه أن الإخوان الذين انتصب الكاتب لنقدهم، ينكرون هذه المستحدثات الجديدة، من السيارات، والطائرات، واللاسلكي، وأشباه ذلك.

ومعلوم قطعا أن الإخوان الذين أشرنا إليهم، لا ينكرون شيئا من ذلك، ولا يعيبونه، بل هم أنفسهم يستعملون ذلك، فينتقلون في السيارات، ويركبون الطائرات، ويستعملون اللاسلكي، فما الذي دعا الكاتب إلى الوقوع في هذه الفرية الكبيرة؟ والزلة الشنيعة؟!! أترك الجواب للقراء وأسأل الله سبحانه وتعالى: أن يعصمنا من الهوى، وخطوات الشيطان. وأما سفرهم إلى البلدان للدعوة والتوجيه، فهو أمر يستحقون عليه الثناء والشكر، وليس محلا للاستنكار والاستغراب; نعم هو حقيق بالاستغراب، بالنسبة إلى تخلف أكثر الناس عن هذه المهمة الشريفة، التي هي طريقة الرسل وأتباعهم، وليس هو محلا للاستغراب الذي ينتج عنه الاستنكار، والتشنيع والظن السيئ.

ص: 149

وأما قوله: المخدوعون; فهي عبارة لا تليق من الكاتب، وليس الإخوان محلا لها، وقائلها أولى بها; لأن الإخوان - بحمد الله - على بينة من أمرهم، وليسوا مخدوعين، ولا متأثرين بحركة هدامة، ولا عاملين لغرض دنيء، بل غايتهم شريفة، وعملهم مشكور، ودافعهم هو الحق، والغيرة له، والخوف على المسلمين من عواقب ظهور المنكرات وعدم تغييرها; وإنما المخدوع حقا من ظن بهم خلاف ذلك. وأما قوله: الطيبون، وقوله - فيما تقدم - عن المغرضين، والطامعين، وأعداء الإسلام: إنهم استغلوا طيبة الصحابة; أرجو أن لا يكون قصد بهذا الوصف، التنقص لمن وصفهم بالطيب؛ لأن سياق الكلام، ووصف الصحابة، والإخوان بالطيب، في جانب كونهم مخدوعين، يشير إلى أن المراد بوصف الطيب: الغفلة، والغباوة، وعدم التنبه لعواقب الأمور، هذا هو المعروف من بعض كتّاب العصر. أرجو أن لا يكون الكاتب قصد هذا المقصد، وإن كان كلامه يقتضيه، أو يحوم حوله، ونسأل الله أن يعفو عنا وعنه، وأن يمن علينا جميعا بالتوبة النصوح من أخطائنا، وسيئات أعمالنا، إنه خير مسؤول.

وأما قول الكاتب - بعدما تقدم -: ليس لي بالطبع

ص: 150

الإفتاء، ولا أحمل مؤهلاته!! فهذا من اختصاص علمائنا الأفاضل، الذين استنكروا عمل هؤلاء المخدوعين الطيبين!! فيقال له، أولا: ما دمت تعرف أنك غير أهل للفتوى، فما بالك أفتيت أولا، وآخرا؟! ولو تأملت كلمتك، لعلمت أنك أفتيت فيها عدة فتاوى، على غير هدى. ومن أعظم الجرائم: الفتوى بغير علم، فكم ضل بها من ضل، وهلك بها من هلك، ولا سيما إذا كانت الفتوى معلنة على رؤوس الأشهاد، وممن قد يغتر به بعض الناس؛ فإن الخطر عظيم، والعواقب وخيمة. وعلى المفتي بغير علم مثل آثام من تبعه، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من أفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه"1.

وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا" 2 وقد أعظم الله سبحانه وتعالى، شأن الفتوى بغير علم، وحذر عباده منها، وبيّن أنها من أمر الشيطان، قال تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف آية: 33] .

1 أبو داود: العلم (3657)، وابن ماجه: المقدمة (53) ، وأحمد (2/321 ،2/365)، والدارمي: المقدمة (159) .

2 مسلم: العلم (2674)، والترمذي: العلم (2674)، وأبو داود: السنة (4609) ، وأحمد (2/397)، والدارمي: المقدمة (513) .

ص: 151

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 169-168] . ثم يقال للكاتب ثانيا: من هو الذي استنكر من العلماء الأفاضل على الإخوان عملهم؟!. وقد سبق في صدر هذه الكلمة: أنا لا نعلم أحدا من العلماء المعروفين بالغيرة والتحقيق، استنكر عملهم; بل المعروف من العلماء الأفاضل تأييدهم، ومساعدتهم، وشكرهم على أعمالهم الطيبة، والدعاء لهم بالتوفيق والسداد. وكيف يستنكر العلماء الأفاضل الدعوة إلى الله، وإرشاد العباد إلى طاعته، وتحريضهم على الصلاة في الجماعة، والإنكار على من تخلف عن ذلك؟! فلا يستنكر هذه الأعمال الجليلة مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، ويعرف شيئا مما ورد في الدعوة إلى الله سبحانه، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فضلا عن العالم الفاضل. فعياذا بالله من القول عليه، وعلى عباده بغير علم، وعياذا بالله من خطل اللسان، وسيئات العمل. فما أعظم ما جناه الكاتب على نفسه، وعلى غيره، ممن قد يغتر بقوله! وما أعظمها من جريمة!!

ص: 152

ثم قال الكاتب بعد ذلك: ولكني أقول: إذا كان الدين يحرم التماثيل المجسمة وما في حكمها سدا للذريعة، وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية، وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة أن نحارب الصور الماجنة الخليعة، خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا، فما هي حجة بعضنا في إنكار الصور الظلية العاكسة، التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة التي يستعملها شبابنا وشيوخنا، ونساؤنا وبناتنا؟.

وما الفرق بين هذه الصورة الظلّية العاكسة كالمرآة، التي تشتمل عليها الجريدة والمجلة والمعرض والبيت والسينما، وبين أختها المعروضة لاسلكيا في التلفزيون؟ وكما قلت في كلمة سابقة: إن التلفزيون لا يسجل إلا ما يعرض على شاشته من خير أو شر، ونحن في هذه البلاد المقدسة قادرون على اختيار الخير والنافع، وعرضه على شاشة التلفزيون، كعلم وكدرس، وكتأريخ، وكتسلية بريئة نحول فيها بين المجتمع وبين الفراغ والنميمة وسفاسف الأقوال والأفعال. انتهى المقصود.

والجواب عن هذا أن يقال: لقد أحسن الكاتب في اعترافه بأن الدين الإسلامي يحرم التماثيل المجسمة، وما في حكمها، سدا للذريعة،

ص: 153

وخوفا من العودة إلى عبادتها، كما كان في الجاهلية الأولى، وكما هو الحال اليوم في الأمم الوثنية.

فقد جاءت الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يدل على ما ذكر الكاتب من تحريم التماثيل، والزجر عنها، ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، وأنهم يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم. وقد جاء في القرآن الكريم، وثبت في الأحاديث والآثار أن أسباب ضلال قوم نوح هو التماثيل، كما قال تعالى:{وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَاراً} [سورة نوح آية: 25-23] . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض أزواجه، ذكرت له كنيسة رأتها بأرض الحبشة، وما فيها من الصور، فقال:"أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح، بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله"1. والأحاديث في هذا المعنى كثيرة. فتبين مما تقدم أن التساهل ببيعها في الأسواق، ونصبها في المكاتب والدوائر ونحوها، من أعظم أسباب الشرك، ومن أعمال الجاهلية، ومن أخلاق شرار الخلق عند الله. فالواجب على المسؤولين جميعا في حكومتنا السنية

1 البخاري: الصلاة (434)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (528)، والنسائي: المساجد (704) ، وأحمد (6/51) .

ص: 154

القضاء على هذه التماثيل، والزجر عنها، ومنع توريدها، وإتلاف ما يوجد منها في كل مكان، طاعة لله ولرسوله، وحذرا من عواقبها الوخيمة.

ولقد أحسن الكاتب أيضا في قوله: وإذا كان من واجبنا كأمة مسلمة محافظة، أن نحارب الصور الماجنة الخليعة خوفا على أخلاقنا وتقاليدنا. نعم والله قد أحسن الكاتب في هذا، فالواجب علينا، وعلى المسؤولين في حكومتنا محاربة هذه الصور الخليعة، التي غزت بلادنا من كل مكان، وعرضت بين شبابنا وفتياتنا في كل بقعة، إلا ما شاء الله. فالواجب على أولي الأمر أن يحاربوها، ويحاربوا الصحف والكتب التي تحملها إلى هذه البلاد، كما يجب أن تحارب جميع الصحف والكتب التي تحمل إلى بلادنا أنواع الإلحاد والتخريب، والدعوة إلى التفسخ من الأخلاق الفاضلة والسجايا الكريمة. ويجب على أولي الأمر أيضا تكليف الحكام الإداريين، وموظفي الأمن، بالتعاون مع هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على القضاء على هذه المعاول الهدامة، والوسائل الفتاكة بديننا وأخلاقنا وفقهم الله لنصر دينه، وحماية شريعته، ومساعدة من قام بذلك، إنه على كل شيء قدير.

ص: 155

وأما قول الكاتب - بعد ذلك -: فما هي حجة بعضنا في إنكار الصورة الظلية العاكسة التي لا فرق بينها مطلقا وبين ما تعكسه المرآة

إلخ؟! فالجواب أن يقال: هذه فتوى من الكاتب بالتسوية بين الصورة الشمسية وبين الصورة في المرآة!! ومعلوم: أن الفتوى تفتقر إلى علم بالأدلة الشرعية، وقد سبق اعتراف الكاتب بأنه ليست فيه صفتها، ولا يحمل مؤهلاتها، فما باله- هداه الله- أفتى هنا، وجزم بالحكم بغير علم؟!. ويقال له أيضا: لقد أخطأت في التسوية والقياس، من وجهين: أحدهما: أن الصورة الشمسية لا تشبه الصورة في المرآة، لأن الصورة الشمسية لا تزول عن محلها، والفتنة بها قائمة. وأما الصورة في المرآة فهي غير ثابتة، تزول بزوال المقابل لها، وهذا فرق واضح لا يمترى فيه عاقل.

والثاني: أن النص عن المعصوم صلى الله عليه وسلم جاء بتحريم الصور مطلقا، ونص على تحريم ما هو من جنس الصورة الشمسية، كالصورة في الثياب والحيطان.

فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم في عدة أحاديث: أنه لما رأى عند عائشة سترا فيه تماثيل، غضب وهتكه، وقال:"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون" 1، وقال في حديث آخر: "إن أصحاب هذه الصور - يشير إلى الصور التي في الثياب

1 البخاري: الأدب (6109) .

ص: 156

- يعذبون يوم القيامة، ويقال لهم: أحيوا ما خلقتم" 1، وثبت عنه عليه الصلاة والسلام: "أنه محا الصور التي في جدران الكعبة يوم الفتح"، وهي في حكم الصور الشمسية. فلو سلمنا مشابهة الصورة الشمسية للصورة في المرآة، لم يجز القياس، لما قد تقرر في الشرع المطهر: أنه لا قياس مع النص، وإنما محل القياس إذا فقد النص، كما هو معلوم عند أهل الأصول، وعند جميع أهل العلم.

وأما ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة، إلا رقما في ثوب" 2 فهذا الحديث لا شك في صحته، وقد تعلق به بعض من أجاز الصور الشمسية. والجواب عنه من وجوه: منها: أن الأحاديث الواردة في تحريم التصوير ولعن المصورين، والتصريح بأنهم أشد الناس عذابا يوم القيامة، مطلقة عامة، ليس فيها تقييد ولا استثناء، فوجب الأخذ بها، والتمسك بعمومها وإطلاقها.

ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى الصور المشبهة للشمسية، وهي الصور الموجودة في الستور والحيطان، غضب، وتلون وجهه، وأمر بهتك الستور التي فيها الصور، ومحو الصور التي في الجدران؛ وباشر محوها بنفسه، لما رآها في جدران الكعبة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومنها: أن الاستثناء المذكور، إنما ورد في سياق

1 البخاري: النكاح (5181)، ومسلم: اللباس والزينة (2107) ، وأحمد (6/246)، ومالك: الجامع (1803) .

2 البخاري: بدء الخلق (3226)، ومسلم: اللباس والزينة (2106)، والترمذي: الأدب (2804)، والنسائي: الزينة (5350)، وأبو داود: اللباس (4155)، وابن ماجه: اللباس (3649) ، وأحمد (4/28) .

ص: 157

الأحاديث الدالة على امتناع الملائكة، من دخول البيت الذي فيه تصاوير، ولم يرد في سياق الأحاديث المانعة من التصوير، وفرق عظيم بين الأمرين. ومنها: أن قوله: "إلا رقما في ثوب" 1 يجب أن يحمل على الصور التي قطع رأسها، أو طمس; أو التي في الثياب التي تمتهن باتخاذها وسائد وبُسُطا، ونحو ذلك، لا فيما ينصب ويرفع كالستور على الأبواب، والجدران، والملابس; فإن الأحاديث الصحيحة صريحة في تحريم ذلك، وأنه يمنع من دخول الملائكة، كما ورد ذلك في حديث عائشة، وأبي هريرة، وغيرهما. وبما ذكرناه يتضح الجمع بين الأحاديث، وأن الاستثناء إنما ورد في سياق الأحاديث الدالة على امتناع دخول الملائكة البيت الذي فيه الصور، وأن المراد بها الصور الممتهنة في الوسائد، والبسط، ونحوها، أو مقطوعة الرأس، والله ولي التوفيق.

وقد جمع الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح، والنووي في شرح مسلم، بين الأحاديث بما ذكرته آنفا؛ وأنا أنقل لك أيها القارئ كلامهما، وبعض كلام غيرهما في هذه المسألة، ليتضح لك الصواب، ويزول عنك الإشكال، والله الهادي إلى إصابة الحق، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال الحافظ في الفتح، قال الخطابي: والصورة التي

1 البخاري: اللباس (5958)، والنسائي: الزينة (5349)، ومالك: الجامع (1802) .

ص: 158

لا تدخل الملائكة البيت الذي هي فيه: ما يحرم اقتناؤها، وهو ما يكون من الصور التي فيها الروح، مما لم يقطع رأسه، أو لم يمتهن، ا?. وقال الخطابي رحمه الله أيضا: إنما عظمت عقوبة المصور، لأن الصور كانت تعبد من دون الله، ولأن النظر إليها يفتن، وبعض النفوس إليها تميل. اهـ.

وقال النووي رحمه الله في شرح مسلم: باب تحريم تصوير صورة الحيوان، وتحريم اتخاذ ما فيه صورة غير ممتهنة بالفرش، ونحوه، وأن الملائكة عليهم السلام لا يدخلون بيتا فيه صورة أو كلب. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صورة الحيوان حرام شديد التحريم، وهو من الكبائر، لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث؛ وسواء صنعه بما يمتهن، أو بغيره، فصنعته حرام بكل حال، لأن فيه مضاهاة لخلق الله؛ وسواء ما كان في ثوب، أو بساط، أو درهم، أو دينار، أو فلس، أو إناء، أو حائط، أو غيرها. وأما تصوير صورة الشجرة، ورحال الإبل، وغير ذلك مما ليس صورة حيوان، فليس بحرام؛ هذا حكم نفس التصوير.

وأما اتخاذ المصور فيه صورة حيوان فإن كان معلقا على حائط، أو ثوبا ملبوسا، أو عمامة، ونحو ذلك مما

ص: 159

لا يعد ممتهنا فهو حرام; وإن كان في بساط يداس، ومخدة، ووسادة، ونحوهما مما يمتهن فليس بحرام

إلى أن قال: لا فرق في هذا كله بين ما له ظل، وما لا ظل له. هذا تلخيص مذهبنا في المسألة. وبمعناه قال جماهير العلماء من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم، وهو مذهب الثوري ومالك، وأبي حنيفة، وغيرهم. وقال بعض السلف: إنما ينهى عما كان له ظل، ولا بأس بالصور التي ليس لها ظل؛ وهذا مذهب باطل، فإن الستر الذي أنكر النبي صلى الله عليه وسلم الصورة فيه، لا يشك أحد أنه مذموم، وليس لصورته ظل، مع باقي الأحاديث المطلقة في كل صورة، ا?.

قال الحافظ- بعد ذكره لملخص كلام النووي هذا- قلت: ويؤيد التعميم فيما له ظل، وما لا ظل له ما أخرجه أحمد من حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أيكم ينطلق إلى المدينة، فلا يدع بها وثنا إلا كسره، ولا صورة إلا لطخها" 1 أي، طمسها، الحديث; وفيه:"من عاد إلى صنعة شيء من هذا، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" 2 ا?.

قلت: وقد سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم محا الصور التي في جدران الكعبة، وهي لا ظل لها، وخرج مسلم في

1 أحمد (1/87) .

2 أحمد (1/87) .

ص: 160

صحيحه عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "لا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبرا مشرفا إلا سويته" 1 وهذا يعم الصور التي لها ظل، والتي لا ظل لها، والأمر في ذلك واضح لا غبار عليه، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا به. ونسأله تعالى لنا ولجميع المسلمين التوفيق لما يرضيه، والسلامة من أسباب غضبه، إنه سميع الدعاء.

وأما التلفزيون فهو آلة خطيرة، وأضرارها عظيمة، كالسينما، أو أشد، وقد علمنا عنه من الوسائل المؤلفة في شأنه، ومن كلام العارفين به في البلاد العربية وغيرها، ما يدل على خطورته، وكثرة أضراره بالعقيدة، والأخلاق، وأحوال المجتمع.

وما ذلك إلا لما يثبت فيه، من تمثيل الأخلاق السافلة، والمرائي الفاتنة، والصور الخليعة، وشبه العاريات، والخطب الهدامة، والمقالات الكفرية، والترغيب في مشابهة الكفار في أخلاقهم وأزيائهم، وتعظيم كبرائهم، وزعمائهم، والزهد في أخلاق المسلمين وأزيائهم، والاحتقار لعلماء المسلمين، وأبطال الإسلام، وتمثيلهم بالصور المنفرة منهم، والمقتضية لاحتقارهم، والإعراض عن سيرتهم، وبيان طرق المكر، والاحتيال، والسلب، والنهب، والسرقة، وحياكة المؤامرات والعدوان على الناس.

1 مسلم: الجنائز (969)، والترمذي: الجنائز (1049)، والنسائي: الجنائز (2031)، وأبو داود: الجنائز (3218) ، وأحمد (1/96 ،1/128) .

ص: 161

ولا شك: أن ما كان بهذه المثابة، وترتب عليه هذه المفاسد: يجب منعه، والحذر منه، وسد الأبواب المفضية إليه؛ فإذا أنكره الإخوان المتطوعون، وحذروا منه، فلا لوم عليهم في ذلك، لأن ذلك من النصح لله ولعباده.

ومن ظن أن هذه الآلة تسلم من هذه الشرور، ولا يبث فيها إلا الصالح العام إذا روقبت، فقد أبعد النجعة وغلط غلطا كبيرا، لأن الرقيب يغفل، ولأن الغالب على الناس اليوم هو التقليد للخارج، والتأسي بما يفعل فيه؛ ولأنه قل أن توجد رقابة تؤدي ما أسند إليها، ولا سيما في هذا العصر الذي مال فيه أكثر الناس إلى اللهو والباطل، وإلى ما يصد عن الهدى؛ والواقع يشهد بذلك، كما في الإذاعة، والتلفزيون في المنطقة الشرقية; فكلاهما لم يراقب الرقابة الكافية المانعة من أضرارهما، ونسأل الله أن يوفق حكومتنا لما فيه صلاح الأمة ونجاتها، وسعادتها في الدنيا والآخرة، وأن يصلح لها البطانة، إنه جواد كريم.

وهذا آخر ما أردنا التنبيه عليه، من أخطاء الكاتب عبد الله السعد، نصحا لله ولعباده؛ ونسأل الله سبحانه أن يوفقنا والكاتب، وسائر المسلمين، للتفقه في الدين، ولكل ما فيه صلاح أمر ديننا ودنيانا، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه.

ص: 162

وقال الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز: 1

احذروا الصحف الخليعة

لقد أصيب العالم الإسلامي عامة، وسكان الجزيرة خاصة، بسيل من الصحف التي تحمل بين طياتها أشكالا كثيرة من الصور الخليعة المثيرة للشهوات، الجالبة للفساد، الداعية للدعارة، الفاتنة للشباب، والشابات.

وكم حصل في ضمن ذلك من أنواع الفساد، لكل من يطالع تلك الصور العارية، وأشباهها، وكم شغف بها من الشباب من لا يحصى كثرة، وكم هلك بسمومها من شباب وفتيات، استحسنوها، ومالوا إليها، وقلدوا أهلها.

وكم في طيات تلك الصحف من مقالات إلحادية، تنشر الأفكار المسمومة، والقصائد الباطلة، وتدعو إلى إنكار الأديان، ومحاربة الإسلام. وإن من أقبح تلك الصحف، وأكثرها ضررا:"المصور" و"آخر ساعة" و"الجيل" و "روزاليوسف" و "صباح الخير" و "مجلة العربي".

فالواجب على حكومتنا - وفقها الله - منع هذه الصحف منعا باتا، لما فيها من الضرر الكبير، على

1 في مقال نشر في مجلة راية الإسلام سنة 1380 هـ، وللشيخ محمد بن عثيمين أيضا: خطبة جيدة في فتن المجلات طبعت مفردة وانتشرت سنة 1407هـ.

ص: 163

المسلمين في عقائدهم، وأخلاقهم، ودينهم، ودنياهم؛ ولا ريب: أن ولاة الأمر، أول مسئول عن حفظ دين الرعية وأخلاقهم.

ولا شك أن هذه الصحف مما يفسد الدين والأخلاق، ويضر المسلمين ضررا ظاهرا في الدين والدنيا، ويزلزل عقائدهم، ويحدث الشكوك والمشاكل الكثيرة بينهم، والله سبحانه وتعالى يقول:{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [سورة الحج آية: 41-40]، ويقول تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [سورة محمد آية: 7] .

ولا ريب أن القضاء على هذه الصحف، ومنع دخولها البلاد، من أعظم نصر الله وحماية دينه.

وفي الحديث الصحيح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم "كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام راع ومسؤول عن رعيته. والرجل راع في أهل بيته، ومسؤول عن رعيته. والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها. والعبد راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته"1.

وقال صلى الله عليه وسلم: "ما من أمير يلي أمر المسلمين، ثم لا يجهد لهم وينصح، إلا لم يدخل معهم الجنة" 2 رواه مسلم.

فيا ولاة أمر المسلمين، اتقوا الله في المسلمين،

1 البخاري: الجمعة (893)، ومسلم: الإمارة (1829)، والترمذي: الجهاد (1705)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (2928) ، وأحمد (2/5 ،2/54 ،2/121) .

2 مسلم: الإيمان (142) .

ص: 164

وحاربوا هذه الصحف الهدامة، وخذوا على أيدي السفهاء، وأغلقوا أبواب الفساد، تفوزوا بالنجاة والسعادة، وتنشلوا بذلك جمعا غفيرا من الفتيان والفتيات من وهدة هذا التيار الجارف، وحمأة هذه الصحف الخبيثة المدمرة.

ويا معشر المسلمين، حاربوا هذه الصحف الخبيثة المدمرة، ولا تشتروها بقليل ولا كثير; فإن بيعها وثمنها حرام، وإنما الواجب إتلافها أينما وجدت، دفعا لضررها، وحماية للمسلمين من شرها. أراح الله منها العباد والبلاد؛ ووفق ولاة أمر المسلمين، لما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وسلامة عقائدهم، وأخلاقهم، إنه على كل شيء قدير.

[أنجح الوسائل وأقرب الطرق في الدعوة والتوجيه والإرشاد]

وقال الشيخ: صالح بن علي بن غصون: 1

الحمد لله: إن كل فرد منا يدرك أثر الدعوة والتوجيه والإرشاد في الجماهير والأسر والأفراد، كما يدرك أن أنجح الوسائل، وأقرب الطرق في هذا الوقت لهذا الغرض، طريق الإذاعة، والصحف، والمجلات، والمنابر، والنوادي، مما جعل أعداء الإسلام يستغلون هذه الثغور استغلالا فظيعا، دجلا، وتضليلا، وخلاعة، ودعارة، وتشبيها، وزندقة، وإلحادا، بكل جرأة وإقدام؛ دأبوا على ذلك ليل نهار، وضحوا في هذا السبيل، بكل

1 في مجلة راية الإسلام، سنة 1380 هـ.

ص: 165

غال ورخيص، فانخدع ببريق دعاياتهم، وترويجاتهم خلق كثير، وجم غفير.

ونحن، يا للأسف، بين غافل ومتغافل، عن تلك الأخطار المحدقة، والدعايات المغرضة التي زعزعت العقائد، وحطمت الكرامات، ودنست الأخلاق; فالبعض منا يتعلل عن المساهمة في هذا الواجب بمشاغله وأعماله الرسمية، بينما يتخلف قسم آخر عن المساهمة في هذا الواجب مستترا بالخمول وعدم اعتباره لدى الكثيرين، على حد تعبيره.

وقسم آخر حظهم التألم، وإظهار الحزن والأسى، وشن الحملات النكراء على المسؤولين، والأشخاص البارزين، كأن المسؤولية عليهم دونهم، وكأن النصوص الشرعية القاضية بالأمر والنهي لم تتناولهم، فنصيبهم منها التخلي والعيب على إخوانهم.

ولا شك أن واجب الأمر والنهي، والدعوة والإرشاد على كل فرد منا بحسب حاله، وعلمه، ومقدرته، ونفوذه، إذا لم يقم بهذا الأمر العظيم، من تحصل بهم الكفاية في هذا الزمن.

فعلينا أن نفرغ أنفسنا للدعوة والإرشاد، والكفاح، والنضال عن طريق الوسائل المجدية، كالإذاعة، والمنابر، والنوادي، والصحف، والمجلات؛ وأن نساند الدعاة إلى

ص: 166

خير أين كانوا، وأن نشجع الصحف والمجلات التي تحتضن الدعوة إلى التمسك بهذا الدين، وآدابه، وأخلاقه، ماديا، وأدبيا.

فواقعنا اليوم يحتم علينا أن نكرس الجهود، ونستهين المشقات، والصعوبات في سبيل نشر هذا الدين، ومقاومة المبادئ الهدامة، التي لعبت أدوارا في ميادين الدجل والتضليل؛ سيما وقد أفسح لها المجال، فوجدت آذانا صاغية، وقلوبا واعية، انساقت وراء تلك الدعايات، بدون تفكير ولا روية.

وإن لم يتدارك الأمر قبل فواته، فالواقع أليم، والخطب جسيم، ولن يسلم من معرة ذلك وعواقبه، إلا من قام بواجبه تجاه نفسه وولده وذويه، وإخوانه المسلمين، مهما كثرت مشاغله، وتعللاته؛ وفقنا الله لصالح القول والعمل.

[الحث على نشر الدعوة الإسلامية بكل الوسائل]

وقال الشيخ: صالح بن محمد بن لحيدان، في كلمة افتتاحية: 1

بحمدك اللهم نبدأ، وعلى هدى منك نسير، ورجاؤنا بك عظيم، أن تسدد خطانا، وتكتب لنا النجاح والتوفيق فيما نحن فيه.

في السنوات الأخيرة انتشرت الحياة الثقافية في بلادنا

1 نشرت في مجلة راية الإسلام سنة 1380 هـ، وكان رئيس تحريرها.

ص: 167

انتشارا سريعا، يحمل معه طابع السرعة في كل شيء؛ وفي السرعة من الأخطار والأخطاء الشيء الكثير. انتشرت هذه الحياة، وانتشر معها الأفكار المختلفة، والمبادئ المتباينة، ترد من الشرق والغرب، وتحمل الناس على نبذ دينهم، والسير في ركابها.

تحملها الجرائد والمجلات في صفحاتها، والإذاعات على أمواج الأثير، في أثواب مختلفة تخدع العيون، وتميت القلوب؛ ففتن بها الشباب، وارتاع منها الشيوخ وبهتوا، وجعلت مبادئ الشر تلوح من كل جانب.

وأقبل المتعلمون من أبناء الأمة الإسلامية على اعتناق هذه الأفكار، والدعوة لها، لجهلهم بالدين وتعاليمه؛ يساعد على ذلك واقع المسلمين، وما هم عليه. وقليل منهم وقف منها موقف الناقد الممحص، المدقق، ليسبر غورها، ويطلع على ما تنطوي عليه، وتنتهي إليه من شرور وفساد في الأخلاق، والعقائد والعادات والتقاليد.

فأفضى بهم موقفهم هذا إلى نتائج أفزعتهم، وأقضت مضاجعهم، وأقلقت بالهم؛ وجعلوا يرسمون الخطط، ويخطون السبل لصد هذا السيل الجارف، وحماية أمتهم وملتهم من ويله ووباله.

وكانت الجزيرة العربية مصدر النور والإشعاع، ومهبط الوحي والفلاح، منها انتشر الإسلام في ابتداء رسالته، كما كانت منار هدى عند اندراس ملته، فمن قِبَلها

ص: 168

ظهرت الدعوة التجديدية للملة الإسلامية، على يد حاملها وباعث نهضتها، في قلب الجزيرة.

لهذا أصبح من المتحتم على أبنائها أن يستعدّوا لنشر الدعوة الإسلامية، والوقوف موقف المدافع عن دينه ومقدساته، وأن يردوا ما تقوله الكتب، وتنشره الصحف من سخف القول، ورذيل الأفكار.

وأقرب وسيلة لهذا الميدان هي: الصحافة، لاشتراك العامة والخاصة في الاطلاع عليها، والوقوف على ما يقال فيها. وكان إنشاء مجلة تلزم نفسها السير مع الدين، وتقف نشاطها لحمايته، ونفي ما يلصق به وبأهله من باطل فكرة تداعب مخيلات كثير من العلماء والمتعلمين، ولكن إخراجها إلى حيز الوجود هو الصخرة التي تتكسر عليها أفكارهم، وتذوب عندها آمالهم.

ذلك لما يرونه من إعراض الناس مما يكتب في هذا الميدان، وخوفا من المستقبل المظلم، فالقراء يسعون وراء الصحف التي تنشر هجر القول، ووضيع الكلام، والتي تخدم المادة، وتسير في ركاب الفكر الشرقي والغربي، الذي هدفه: رفع الدنيا بهدم الدين!!.

ولكن الله يسر لهذه الفكرة من ذوي الغيرة الإسلامية، فقاموا لها على قدم وساق، وتولى إخراجها إلى ميدان العمل والظهور على مسرح الحياة، من لهم مسابقة في

ص: 169

ميدان الدعوة ونشر الدين، فعملوا على إبرازها، وليس غريبا منهم:

وهل ينبت الخطِّيّ إلا وشيجه وتغرس إلا في منابتها النخل 1

وهذه المجلة التي نتشرف بزفها إلى القراء، وعرضها عليهم هدفها واضح من اسمها، وغايتها مرتسمة في الراية التي تحملها، رائدها الخير والدعوة إليه، ونفي الشر والتحذير منه، وإرشاد المسلمين إلى ما فيه صلاحهم.

فهي مجلة كل مسلم غيور، حريص على بعث أمته وهدايتها، ومنها يستطيع أن يعبر عن رأيه ويرشد؛ فهي منار إرشاد، ومصدر تثقيف، تعالج المشاكل الإسلامية، وتحاول حلها، وترسم الخطط السليمة التي ترفع من شأن المسلمين، وينبني عليها نظام الإسلام في العبادات والعادات، وفي السياسة والاقتصاد، وفي علاقة الناس بربهم، وفيما بينهم.

وتشرح أحوال المسلمين وواقعهم، وتبين مصادر الفلاح، وأن مكانها في الإسلام، وتحذر من انتهاج السبل المؤدية إلى الهلاك والدمار; فيها تقرأ عن أسلوب الدعوة في الإسلام، وعن الأدب والأدباء، وعن التأريخ، وما

1 وانظر الشاهد رقم 218 من أوضح المسالك لفهم معناه.

ص: 170