الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: [الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور وبالحقوق والقانون]
الحكم الوضعي التشريعي ويسمى بالدستور، وبالحقوق، والقانون، وغير ذلك، ولكل دوله قانون، وقد يغير كل عام، ورغّب في تعليمه، فلمتوليه أضعاف ما للشرعي، فرغب فيه، ومن سنين وهو يدرس في الخارج، في الجامعات والمعاهد، باسم الحقوق.
وأملنا عظيم في ولاة أمورنا، في الحذر منه، أيدهم الله بروح منه، وجعلهم هداة مهتدين، ناصرين لشرع الله القويم، ولم يزالوا في محافلهم وخطبهم، يعتزون بتحكيم الكتاب والسنة، وينفذونها على الرعية. 1.
ومما قالوه على رؤوس وفود حجاج بيت الله الحرام، ونشر في الصحف والمجلات:
حيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحق الحق، فإن كتاب الله بين أيدينا، ولم يحرف ولم يبدل، وإن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا، ولم يدخلها تغيير ولا تبديل.
فحيث كنا مسلمين حقا، فيجب أن نعود إليهما ونحكمهما
1 ومن ذلك ما تقدم في الجزء 14 من كلمات للملك عبد العزيز رحمه الله وعزمه على القيام بها.
في أمورنا، ونخضع للحكم بطواعية وبنفوس طيبة:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .
ومما قالوه أيضا: القرآن هو دستورنا، ولا دستور لنا سواه، الإسلام هو الذي شرف العرب وهداهم لرفع شأنهم، كما رفع شأن كل من اهتدى بهديه.
الشريعة الإسلامية هي مصدر تشريعنا في العبادات والمعاملات. الإسلام هو الذي جاءنا بأعلى وأرفع أنواع العدل، وأرقى النظم الاجتماعية.
مبادئنا الاجتماعية نستمدها من القرآن، ومن سنة نبينا، وما كان عليه السلف الصالح؛ ولا يمكن أن نستورد هذه المبادئ من أي نظام في العالم.
نحن سننفذ نظمنا الدينية، والقضائية، والاجتماعية، طبقا لأحكام ديننا، في بلادنا بكل شدة وحزم، وندعو لذلك في خارج بلادنا، بالحكمة والموعظة الحسنة. فلو ذهبنا نتتبع خطاباتهم البليغة، وغيرها، لخرج بنا عن المقصود.
وتقدم في الجزء التاسع فتوى المشائخ بهدم مسجد حمزة، وأبا رشيد على الفور. وأما القوانين؛ فإن كان شيء منها موجودا في الحجاز، فيزال فورا، ولا يحكم إلا بالشرع المطهر.
[تحكيم القوانين]
وللشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله رسالة في تحكيم القوانين وهذا نصها: 1
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من الكفر الأكبر المستبين، تنْزيل القانون اللعين منْزلة ما نزل به الروح الأمين، على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم بين العالمين؛ والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
وقد نفى الله سبحانه وتعالى الإيمان عمن لم يحكموا النبي صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، نفيا مؤكدا بتكرار أداة النفي وبالقسم، قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .
ولم يكتف تعالى وتقدس منهم بمجرد التحكيم للرسول صلى الله عليه وسلم، حتى يضيفوا إلى ذلك عدم وجود شيء من
1 طبعت في غرة رجب سنة 1380 هـ، وهي موجودة وغيرها في مجموع فتاويه الجزء 12 وسبق أن نشرت في مجلة راية الإسلام في 4/1380 هـ، وغيرها.
الحرج في نفوسهم، وبقوله جل شأنه:{ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ} [سورة النساء آية: 65] والحرج: الضيق، بل لا بد من اتساع صدورهم لذلك، وسلامتها من القلق والاضطراب.
ولم يكتف تعالى أيضا هنا بهذين الأمرين، حتى يضموا إليهما التسليم، وهو: كمال الانقياد لحكمه صلى الله عليه وسلم، بحيث يتخلون ها هنا من أي تسليم للنفس بهذا الشيء، ويسلموا ذلك إلى الحكم الحق أتم تسليم؛ ولهذا أكد ذلك بالمصدر المؤكد، وهو قوله جل جل شأنه:{تسليما} المبين أنه لا يكتفي ها هنا بالتسليم، بل لا بد من التسليم المطلق.
وتأمل ما في الآية الأولى، وهي قوله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] ، كيف ذكر النكرة، وهي قوله:{شيء} في سياق الشرط، وهو قوله جل شأنه:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ} المفيد العموم فيما يتصور التنازع فيه، جنسا وقدرا. ثم تأمل كيف جعل ذلك شرطا في حصول الإيمان بالله واليوم الآخر، بقوله:{إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
ثم قال جل شأنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} ، فشيء يطلق الله عليه أنه خير، لا يتطرق إليه شر أبدا، بل هو خير محض، عاجلا وآجلا.
ثم قال سبحانه: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} أي: عاقبة في الدنيا والآخرة، فيفيد أن الرد إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع شر محض، وأسوأ عاقبة في الدنيا والآخرة، عكس ما يقوله المنافقون:{إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [سورة النساء آية: 62]، وقولهم:{إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [سورة البقرة آية: 11] ؛ ولهذا رد الله قائلا: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12] ، وعكس ما عليه القانونيون، من حكمهم على القانون بحاجة العالم، بل ضرورتهم إلى التحاكم إليه، وهذا سوء ظن صرف، بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ومحض استنقاص لبيان الله ورسوله، والحكم عليه بعدم الكفاية للناس عند التنازع، وسوء العاقبة في الدنيا والآخرة، إن هذا لازم لهم.
وتأمل أيضا ما في الآية الثانية من العموم، وذلك في قوله تعالى:{فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} فإن اسم الموصول مع صلته، من صيغ العموم، عند الأصوليين وغيرهم؛ وذلك العموم والشمول هو من ناحية الأجناس والأنواع، كما أنه من ناحية القدر، فلا فرق هنا بين نوع ونوع، كما أنه لا فرق بين القليل والكثير.
وقد نفى الله الإيمان عمن أراد التحاكم إلى غير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من المنافقين، كما قال تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60] .
فإن قوله عز وجل: {يزعمون} تكذيب لهم فيما ادعوه من الإيمان، فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلا، بل أحدهما ينافي الآخر.
والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو: مجاوزة الحد، فكل من حكم بغير ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أو حاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقد حكم بالطاغوت وحاكم إليه.
وذلك أنه من حق كل أحد، أن يكون حاكما بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فقط، لا بخلافه؛ كما أن من حق كل أحد أن يحاكم إلى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم. فمن حكم بخلافه، أو حاكم إلى خلافه، فقد طغى وجاوز حده، حكما، أو تحكيما؛ فصار بذلك طاغوتا لتجاوزه حده.
وتأمل قوله عز وجل: {وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] تعرف منه معاندة القانونيين، وإرادتهم خلاف مراد الله منهم حول هذا الصدد؛ فالمراد منهم شرعا، والذي تعبدوا به، هو: الكفر بالطاغوت، لا تحكيمه {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [سورة البقرة آية: 59] .
ثم تأمل قوله: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ} [سورة النساء آية: 60] كيف دل على أن ذلك ضلال؛ وهؤلاء القانونيون يرونه من الهدى، كما دلت الآية على أنه من إرادة الشيطان، عكس ما يتصور القانونيون، من بعدهم من الشيطان، وأنه مصلحة الإنسان.
فتكون على زعمهم مرادات الشيطان هي صلاح الإنسان، ومراد الرحمن وما بعث به سيد ولد عدنان معزولا من هذا الوصف، ومنحى عن هذا الشان؛ وقد قال تعالى منكرا على هذا الضرب من الناس، ومقررا ابتغاءهم أحكام الجاهلية، وموضحا أنه لا حكم أحسن من حكمه:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] .
فتأمل هذه الآية الكريمة، وكيف دلت على أن قسمة الحكم ثنائية، وأنه ليس بعد حكم الله تعالى إلا حكم الجاهلية، الموضح أن القانونيين من زمرة أهل الجاهلية، شاؤوا أم أبوا؛ بل هم أسوأ منهم حالا، وأكذب منهم مقالا، ذلك أن أهل الجاهلية لا تناقض لديهم حول هذا الصدد.
وأما القانونيون فمتناقضون، حيث يزعمون الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ويناقضون ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، وقد قال الله تعالى في أمثال هؤلاء:{أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً} [سورة النساء آية: 151] .
ثم انظر كيف ردت هذه الآية الكريمة على القانونيين ما زعموه من حسن زبالة أذهانهم، ونحاتة أفكارهم، بقوله عز وجل:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] .
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية: ينكر تعالى على من خرج من حكم الله المحكم، المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم "جنكيزخان" الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام، قد اقتبسها من شرائع شتى من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وغيرها، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. فال تعالى:
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] ويريدون، وعن حكم الله يعدلون، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] . أي: ومن أعدل من الله في حكمه؟ لمن عقل من الله شرعا وآمن به، وأيقن وعلم أن الله أحكم الحاكمين، وأرحم من الوالدة بولدها؛ فإنه تعالى هو العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، العادل في كل شيء.
وقد قال عز شأنه- قبل ذلك- مخاطبا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [سورة المائدة آية: 48]، وقال تعالى:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] .
وقال تعالى مخيرا نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بين الحكم بين اليهود والإعراض عنهم، إن جاؤوه لذلك:{فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [سورة المائدة آية: 42]، والقسط هو: العدل، ولا عدل حقا إلا حكم الله ورسوله.
والحكم بخلافه هو الجور والظلم والضلال والكفر والفسوق، ولهذا قال تعالى بعد ذلك:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47] .
فانظر كيف سجل تعالى على الحاكمين بغير ما أنزل الله، بالكفر والظلم والفسوق؛ ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ولا يكون كافرا، بل هو كافر مطلقا، إما كفر عمل، وإما كفر اعتقاد.
وما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، في تفسير هذه الآية، من رواية طاووس وغيره، يدل أن الحاكم بغير ما أنزل الله كافر، إما كفر اعتقاد ناقل عن الملة، وإما كفر عمل، لا ينقل عن الملة.
أما الأول: وهو كفر الاعتقاد، فهو أنواع: أحدها: أن يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله أحقية حكم الله ورسوله، وهو معنى ما روي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير، أن ذلك هو جحود ما أنزل الله من الحكم الشرعي، وهذا ما لا نزاع فيه بين أهل العلم.
فإن الأصول المتقررة المتفق عليها بينهم أن من جحد أصلا من أصول الدين، أو فرعا مجمعا عليه، أو أنكر حرفا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم قطعيا، فإنه كافر الكفر الناقل عن الملة.
الثاني: أن لا يجحد الحاكم بغير ما أنزل الله كون
حكم الله ورسوله حقا، لكن اعتقد أن حكم غير الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن من حكمه وأتم وأشمل، لما يحتاجه الناس، من الحكم بينهم عند التنازع، إما مطلقا، أو بالنسبة إلى ما استجد من الحوادث التي نشأت عن تطور الزمان، وتغير الأحوال؛ وهذا أيضا لا ريب أنه كفر، لتفضيله أحكام المخلوقين، التي هي محض زبالة الأذهان، وصرف حثالة الأفكار، على حكم الحكيم الحميد.
وحكم الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطور الأحوال، وتجدد الحوادث؛ فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصا أو ظاهرا أو استنباطا، أو غير ذلك، علم ذلك من علمه، وجهله من جهله.
وليس معنى ما ذكره العلماء من تغير الفتوى بتغير الأحوال، ما ظنه من قل نصيبهم أو عدم من معرفة مدارك الأحكام وعللها، حيث ظنوا أن معنى ذلك بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوبية.
ولهذا تجدهم يحامون عليها، ويجعلون النصوص تابعة لها، منقادة إليها مهما أمكنهم؛ فيحرفون لذلك الكلم عن مواضعه؛ وحينئذ معنى تغير الفتوى بتغير الأحوال والأزمان، مراد العلماء منه ما كان مستصحبه فيه الأصول
الشرعية، والعلل المرعية، والمصالح التي جنسها مراد لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن المعلوم أن أرباب القوانين الوضعية عن ذلك بمعزل، وأنهم لا يقولون إلا على ما يلائم مراداتهم كائنة ما كانت؛ والواقع أصدق شاهد.
الثالث: أن لا يعتقد كونه أحسن من حكم الله ورسوله، لكن اعتقد أنه مثله؛ فهذا كالنوعين اللذين قبله، في كونه كافرا الكفر الناقل عن الملة، لما يقتضيه ذلك من تسوية المخلوق بالخالق، والمناقضة والمعاندة لقوله عز وجل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [سورة الشورى آية: 11] ونحوها من الآيات الكريمة، الدالة على تفرد الرب بالكمال، وتنْزيهه عن مماثلة المخلوقين في الذات والصفات والأفعال، والحكم بين الناس فيما يتنازعون فيه.
الرابع: أن لا يعتقد كون حكم الحاكم بغير ما أنزل الله مماثلا لحكم الله ورسوله، فضلا عن أن يعتقد كونه أحسن منه؛ لكن اعتقد جواز الحكم بما يخالف حكم الله ورسوله؛ فهذا كالذي قبله، يصدق عليه ما يصدق عليه، لاعتقاده جواز ما علم بالنصوص الصحيحة الصريحة القاطعة تحريمه.
الخامس: وهو أعظمهما وأشملهما وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقة لله ولرسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا، وإرصادا
وتأصيلا وتفريعا، وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع مستمدات. فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع مستمدات مرجعها كلها إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجع هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام، مهيأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم، فأي كفر فوق هذا؟ وأي مناقضة للشهادة بأن محمدا رسول الله بعد هذه المناقضة؟ وذكر أدلة جميع ما قدمنا على وجه البسط، معلومة معروفة، لا يحتمل ذكرها هذا الموضع. فيا معشر العقلاء، ويا جماعات الأذكياء وأولي النهى، كيف ترضون أن تجري عليكم أحكام أمثالكم، وأفكار أشباهكم، أو من هم دونكم ممن يجوز عليهم الخطأ، بل خطؤهم أكثر من صوابهم، بل لا صواب في حكمهم، إلا ما هو مستمد من حكم الله ورسوله نصا أو استنباطا؟
تدعونهم يحكمون في أنفسكم، ودمائكم وأبشاركم وأعراضكم، وفي أهاليكم من أزواجكم وذراريكم، وفي أموالكم وسائر حقوقكم، ويتركون ويرفضون أن يحكموا فيكم بحكم الله ورسوله الذي لا يتطرق إليه الخطأ، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنْزيل من حكيم حميد. وخضوع الناس ورضوخهم لحكم ربهم، خضوع ورضوخ لحكم من خلقهم تعالى ليعبدوه، فكما لا يسجد الخلق إلا لله، ولا يعبدون إلا إياه، ولا يعبدون المخلوق، فكذلك يجب أن لا يرضخوا، ولا يخضعوا، أو ينقادوا، إلا لحكم الحكيم، العليم الحميد، الرؤوف الرحيم، دون حكم المخلوق الظلوم الجهول، الذي أهلكته الشكوك والشهوات والشبهات، واستولت على قلوبهم الغفلة والقسوة، والظلمات. فيجب على العقلاء أن يربؤوا بنفوسهم عنه، لما فيه من الاستعباد لهم، والتحكم فيهم بالأهواء والأغراض، والأغلاط والأخطاء، فضلا عن كونه كفرا بنص قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] .
السادس: ما يحكم به كثير من رؤساء العشائر والقبائل، من البوادي ونحوهم، من حكايات آبائهم
وأجدادهم، وعاداتهم التي يسمونها "سلومهم" يتوارثون ذلك منهم، ويحكمون به، ويحصلون على التحاكم إليه عند النّزاع، بقاء على أحكام الجاهلية، وإعراضا ورغبة عن حكم الله ورسوله، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما القسم الثاني: من قسمي كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، وهو الذي لا يخرج من الملة، فقد تقدم أن تفسير ابن عباس رضي الله عنهما، لقول الله عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44] قد شمل ذلك القسم، وذلك في قوله رضي الله عنه في الآية:"كفر دون كفر"، وقوله أيضا:"ليست بالكفر الذي تذهبون إليه".ا?.
وذلك أن تحمله شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله، مع اعتقاده أن حكم الله ورسوله هو الحق، واعترافه على نفسه بالخطأ ومجانبة الهدى.
وهذا وإن لم يخرجه كفره عن الملة، فإنه معصية عظمى أكبر من الكبائر، كالزنا وشرب الخمر، والسرقة، واليمين الغموس وغيرها؛ فإن معصية سماها الله في كتابه كفرا، أعظم من معصية لم يسمها كفرا. نسأل الله أن يجمع المسلمين على التحاكم إلى كتابه، انقيادا ورضاء، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
[الوصية بتقوى الله والتمسك بدينه وتعظيم كتاب الله وسنة نبيه]
وله أيضا وغيره من المشائخ، رحمهم الله 1.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن إبراهيم، وعبد العزيز الشثري، وعبد اللطيف بن ابراهيم، وعمر بن حسن، وعبد العزيز بن باز، وعبد الله بن حميد، وعبد الله بن عقيل، وعبد العزيز بن رشيد، وعبد اللطيف بن محمد، ومحمد بن عودة، ومحمد بن مهيزع.
إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بنا وبهم سبيل عباده المؤمنين، وأعاذنا وإياهم من طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فالموجب لهذا هو نصيحتكم، ووصيتكم بتقوى الله، وترغيبكم فيما ينفعكم في الدنيا والآخرة، وتحذيركم مما يضركم من الدنيا والآخرة، عملا بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة المائدة آية: 2] .
وقوله عز وجل (بسم الله الرحمن الر حيم) {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
1 وهي موجودة أيضا في مجموع فتاوى ورسائل الشيخ محمد، رحمه الله، ج 12.
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [سورة العصر آية: 3-1] . فأمر سبحانه بالتعاون على البر والتقوى، وحذر من التعاون على الإثم والعدوان، وتوعد من خالف ذلك بشديد العقاب. وأخبر عز وجل في هذه السورة القصيرة العظيمة أن الناس قسمان، خاسرين، ورابحين. وبين أن الرابحين هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر؛ فمن اكتمل هذه الصفات الأربع، فهو من الفائزين بالربح الكامل، والسعادة الأبدية، والعز والنجاة في الدنيا والآخرة؛ ومن فاته شيء من هذه الصفات، فاته من الربح بقدر ما فاته منها؛ وأصابه من الغبن والفساد، بقدر ما معه من التقصير والغفلة والإعراض عن ما يجب عليه. فاتقوا الله عباد الله، وتخلقوا بأخلاق الرابحين، وتواصوا بها بينكم، واحذروا صفات الخاسرين، وأعمال المفسدين، وتعاونوا على تركها وتحذير الناس منها، تفوزوا بالنجاة، والسلامة والعاقبة الحميدة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم"1.
فمن أهم الأمور التي يجب فيها التناصح والتواصي، تعظيم كتاب الله وسنة رسوله علية الصلاة والسلام
1 مسلم: الإيمان (55)، والنسائي: البيعة (4197 ،4198)، وأبو داود: الأدب (4944) ، وأحمد (4/102) .
والتمسك بهما ودعوة الناس إلى ذلك في جميع الأحوال; لأنه لا سعادة للعباد ولا هداية، ولا نجاة في الدنيا والآخرة، إلا بتعظيم كتاب الله وسنة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم اعتقادا وقولا وعملا، والاستقامة على ذلك والصبر عليه حتى الوفاة؛ لأن الله سبحانه أمر عباده بطاعته وطاعة رسوله، وعلق كل خير بذلك، وتهدد من عصى الله ورسوله بأنواع العذاب، والخزي في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [سورة النور آية: 54]، وقال تعالى:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [سورة الأنعام آية: 155]، وقال تعالى:{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النور آية: 63]، وقال عز وجل:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [سورة النساء آية: 14-13] .
ففي هذه الآيات المحكمات: الأمر بطاعة الله
ورسوله، والحث على اتباع كتابه، وتعليق الهداية والرحمة ودخول الجنات، بطاعة الله واتباع كتابه العظيم، وتعليق الفتنة والعذاب المهين بمعصية الله ورسوله. فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وبادروا إلى ما أمركم به، بإخلاص وصدق، ورغبة ورهبة، تفوزوا بكل خير، وتسلموا من كل شر في الدنيا والآخرة.
ومن أعظم طاعة الله ورسوله عليه الصلاة والسلام: التحاكم إلى شريعته، والرضى بحكمها، والتواصي بذلك، والحذر كل الحذر مما خالفها، عملا بقول الله عز وجل:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] : أقسم الله سبحانه في هذه الآية الكريمة أن العباد لا يؤمنون، حتى يحكموا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، وينقادوا لحكمه راغبين مسلمين، من غير كراهية ولا حرج؛ وهذا يعم مشاكل الدين والدنيا. فهو صلى الله عليه وسلم هو الذي يحكم فيها بنفسه في حياته، وبسنته بعد وفاته، ولا إيمان لمن أعرض عن ذلك أو لم يرض به.
وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [سورة الشورى آية: 10] ، فهو سبحانه الذي يحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه في هذه الدار، وذلك بما أوحى إلى
رسوله صلى الله عليه وسلم من القرآن والسنة؛ وفي يوم القيامة يحكم بين الناس بنفسه عز وجل. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] .
يأمر الله سبحانه في هذه الآية بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم لأن في ذلك خير الدنيا والآخرة، وعز الدنيا والآخرة، والنجاة من عذاب الله يوم القيامة؛ ويأمر بطاعة أولي الأمر، عطفا على طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم من غير أن يعيد العامل، لأن أولي الأمر إنما تجب طاعتهم فيما هو طاعة لله ولرسوله؛ وأما ما كان معصية لله ورسوله، فلا تجوز طاعة أحد من الناس فيه كائنا من كان، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما الطاعة في المعروف" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق"2. ثم أمر الله سبحانه عباده أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، فقال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [سورة النساء آية: 59] ، والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه الكريم، والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام، وإلى سنته بعد وفاته.
1 البخاري: الأحكام (7145)، ومسلم: الإمارة (1840)، والنسائي: البيعة (4205)، وأبو داود: الجهاد (2625) ، وأحمد (1/82 ،1/94) .
2 أحمد (1/409) .
ثم قال سبحانه وتعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] يرشد عباده إلى أن رد مشاكلهم كلها إلى الله والرسول، خير لهم وأحسن عاقبة في العاجل والآجل.
فانتبهوا رحمكم الله، واعتصموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، تفوزوا بالحياة الطيبة، والسعادة الأبدية، كما قال الله سبحانه:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة النحل آية: 97] .
وإن من أقبح السيئات وأعظم المنكرات: التحاكم إلى غير شريعة الله، من القوانين الوضعية، والنظم البشرية وعادات الأسلاف والأجداد، التي قد وقع فيها الكثير من الناس اليوم، وارتضاها بدلا من شريعة الله التي بعث بها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم. ولا ريب أن ذلك من أعظم النفاق، ومن أكبر شعائر الكفر والظلم والفسوق، وأحكام الجاهلية التي أبطلها القرآن، وحذر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60] .
وقال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50-49]، وقال عز وجل:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47] : وهذا تحذير شديد من الله سبحانه لجميع العباد، من الإعراض عن كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتحاكم إلى غيرهما، وحكم صريح من الرب عز وجل على من حكم بغير شريعته، بأنه كافر وظالم وفاسق، ومتخلق بأخلاق المنافقين وأهل الجاهلية.
فاحذروا أيها المسلمون ما حذركم الله منه، وحكموا شريعته في كل شيء، واحذروا ما خالفها، وتواصوا بذلك فيما بينكم، وعادوا، وأبغضوا من أعرض عن شريعة الله أو تنقصها، أو استهزأ بها، أو سهل في التحاكم إلى غيرها، لتفوزوا بكرامة الله، وتسلموا من عقاب الله؛ وتؤدوا بذلك ما أوجب الله عليكم، من موالاة أوليائه الحاكمين بشريعته، الراضين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والله المسؤول أن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يعيذنا وإياكم من مشابهة الكفار، والمنافقين، وأن ينصر دينه ويخذل أعداءه، إنه على كل شيء قدير، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسلميا كثيرا إلى يوم الدين، حرر في 12/11/1380 هـ.
وقال الشيخ حمود بن عبد الله التويجري رحمه الله: 1
فصل [اطراح الأحكام الشرعية والاعتياض عنها بحكم الطاغوت من القوانين والنظامات الإفرنجية]
النوع الثاني من المشابهة، وهو من أعظمها شرا، وأسوئها عاقبة: ما ابتلي به كثيرون، من اطراح الأحكام الشرعية، والاعتياض عنها بحكم الطاغوت، من القوانين، والنظامات الإفرنجية، أو الشبيهة بالإفرنجية، المخالف كل منها للشريعة المحمدية. وقد قال الله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]، وقال تعالى:{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة الشورى آية: 21] . وقد انحرف عن الدين بسبب هذه المشابهة فئام من
1 في كتابه "الإيضاح والتبيين".
الناس، فمستقل من الانحراف ومستكثر؛ وآل بكثير منهم إلى الردة، والخروج من دين الإسلام بالكلية، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
والتحاكم إلى غير الشريعة المحمدية من الضلال البعيد، والنفاق الأكبر، قال الله تعالى:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61-60] ، ثم نفى تبارك وتعالى الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم عند التنازع، ويرضى بحكمه ويطمئن إليه قلبه، ولا يبقى لديه شك أن ما حكم به هو الحق الذي يجب المصير إليه؛ فيذعن لذلك وينقاد له ظاهرا وباطنا.
وأقسم سبحانه وتعالى على هذا النفي بنفسه الكريمة المقدسة، فقال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .
وما أكثر المعرضين عن أحكام الشريعة المحمدية من أهل زماننا! ولا سيما أهل الأمصار، الذين غلبت عليهم الحرية الإفرنجية، وهان لديهم ما أنزل الله على رسوله
محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة؛ فاعتاضوا عن التحاكم إليهما بالتحاكم إلى القوانين والسياسات، والنظامات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وإنما هي متلقاة عن الدول الكافرة بالله ورسوله، أو ممن يتشبه بهم ويحذو حذوهم، من الطواغيت الذين ينتسبون إلى الإسلام، وهم عنه بمعزل. وأقبح من فعل المنافقين ما يذكر عن بعض أهل زماننا أنهم قالوا. إن العمل بالشريعة المحمدية يؤخرهم عن اللحاق بأمم الإفرنج، وأضرابهم من أعداء الله تعالى: وهذه ردة صريحة. والله المسؤول أن يقيض لأهلها، ولكل من لم يرض بأحكام الشريعة المحمدية، من يعاملهم معاملة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه لإخوانهم من قبل.
وقال أيضا، رحمه الله: فصل [إبدال الحدود والتعزيرات بالحبس]
ومن اطراح الأحكام الشرعية: ما يفعله كثير من المنتسبين إلى الإسلام، من إبداله الحدود والتعزيرات بالحبس، موافقة للإفرنج وأشباههم من أعداء الله تعالى. وهذا مصداق ما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لتنتقض عرى الإسلام عروة عروة، وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها؛ فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة" رواه الإمام أحمد
وابنه عبد الله، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركة.
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حماد العمر، في رسالته في سبيل الحق:
ولما سبق، فأنا أقول لكم، يا دعاة الحق: أبشروا فأنتم الأعلون، فاعملوا الخير في أنفسكم، وانشروا الإسلام في الآفاق، فأنتم المستحفظون عليه والوارثون له. وأزيلوا المنكرات من مجتمعكم، في صبر وحكمة وإلحاح وعدم يأس، ولا تعبؤوا بلغو اللاغين. واعلموا أنهم الزبد، وأنتم الماكثون في الأرض، وكونوا عودا طيبا كلما أحرق زاده الإحراق طيبا.
يا دعاة الحق، إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، ولا بد لكل إنسان من بلوى، فمبتلى في سبيل الشيطان، ومبتلى في سبيل الله {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [سورة النساء آية: 104] .
أجل، ترجون من الله ما لا يرجوه هؤلاء، الذين يتكلمون بلسان الشيطان، من تلامذة الغربيين وأفراخهم، ممن يرون عبادة الله تخلفا ورجعية، ويرون السفور والعهارة رقيا وسموا.
ويرون كتاب الله العظيم، وهدى رسوله الكريم
قاصرين عن تنظيم الحياة، فينادون باستبدالهما بالقوانين الوضعية، وبالقانون الفلاني، وهم في الوقت نفسه لا يرون أنهم أخسر الناس صفقة في هذا المجال. فقد خسروا دينهم ودنياهم، ذلك لأنهم خالفوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا أبدا: كتاب الله وسنة نبيه" 1 ولكن: إن تأس يا أخي المجاهد على هؤلاء الذين يدعون المعرفة، ممن يتشدقون بأنهم يحملون الشهادات القانونية، وشهادات السياسة، والآداب، والتجارة وغيرها، وممن جهلوا منازلهم، وظنوا أنهم تسنموا أفراد المجتمع إلى الفكر والفهم، وأن كلمة الفصل هي كلمتهم فحسب، فلأنهم ممن حسبوا في عداد المسلمين، وصار بعض من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من غير المسلمين، يمقت الإسلام والمسلمين، ويكره الإسلام الذي هذه أخلاق أهله؛ فصاروا أداة هدم وتخريب وتنفير عن دين الله الذي أوجب الله عليهم أن يتخلقوا بأخلاقه، وينقادوا لتعاليمه، ويدعوا الناس إليه. وصار من يشاهد أفعالهم، ويسمع مقالهم من جهال المسلمين، يقلدهم وينحرف بانحرافهم، وخاصة الذين يجلسون ويعملون معهم، فجمعوا بين الجريمتين: جريمة تشويه الإسلام بأفعالهم والانحراف عن مبادئه، وجريمة
1 مسلم: الحج (1218)، وأبو داود: المناسك (1905) .
تضليل جهلة المسلمين وإدخال الزيغ إلى نفوسهم.
إن تأس يا أخي، فمأساتك عليهم، لأنهم مسلمون فسقوا عن الإسلام، في الداخل والخارج. أما تأسفنا عليهم لأنهم من أقطاب الدين، فالحمد لله أنهم أبعد من كثير من اليهود والنصارى معرفة بكتاب الله وسنة رسوله. ولا أدل على جهلهم هذا، من رميهم الدين الإسلامي بالعجز عن تنظيم الحياة، ومطالبتهم باستبداله بالقوانين، والأنظمة، ولو لم يبق من مطالبتهم إلا تشجيعهم ورضاهم به لكفى. والدافع الذي دفع أولئك، إلى إقرار بعض القوانين والنظم في بلادهم، والتي أخذوا يشتركون في وضع مخططاتها، متحدين بذلك فاطر السماوات والأرض الذي لا حكم لأحد سواه، في الأرض ولا في السماء، الدافع لهم على ذلك، هو أنهم في الواقع لا يعرفون عن كتاب الله، وسنة رسوله شيئا، ويظنون أن القصور فيهما، ولا يدرون أن القصور في الحقيقة كامن في عقولهم، ومداركهم السخيفة؛ لأنها لا تعرف غير قوانين الغرب، وقوانين الاشتراكية والشيوعية الملحدة فقط.
ولو أن هؤلاء المارقين عن دين الله رجعوا إلى أهل العلم، العارفين بكتاب الله وسنة نبيه، وما فيهما من أحكام ومقاصد سامية وشاملة لما ظهر من الأحداث وما لم يظهر بعد،
لو رجعوا إليهم واستشاروهم، لوجدوا منهم فتح المجالات الرحبة، في تنظيم شؤون الحياة، والسياسة والحرب، على ضوء الكتاب والسنة، ولوجدوا صورا حية من صور البطولة المعنوية، وتنظيما ساميا في الاقتصاد والتجارة، والعلم، على اختلاف أشكاله، تنظيما محكما صالحا لكل عصر، لا يتطرق إليه الفشل، لأنه مستمد من وحي الله الذي يعلم ما كان وما سيكون، وليس مستمدا من رأي مخلوق، لأن رأي البشر قاصر، ومعرض للخطأ. وكان الصحابة رضي الله عنهم يناقشون الآراء، لأنهم يعرفون أنها قد تصيب وقد تكون خاطئة، ولكنهم لا يناقشون الوحي الذي يأتي من السماء، كما لا يناقشون حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كما قال تعالى:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [سورة النجم آية: 4-3] ؛ وكانوا: لا يناقشون الوحي، لأنهم يعرفون يقينا إصابته ولا بد، وإن لم يوافق ما يرون، لأن العقول لا تدرك إلا ما تراه، وإدراكها لما ترى إدراك ناقص أيضا. وبفضل تمسك الصحابة بكتاب الله وسنة رسوله، تمت لهم ولمن سار على هديهم السيادة على العالم، وبلوغ الذروة في العلم والمجد