الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثالث: [ما يسمى بالنظم وبالقانون لم يكن يعرف في عهد سلفنا]
ما يسمونه بالنظم، وقد يسمى بالقانون، وغير ذلك، ولكل دولة فيه اصطلاح، وقد يختم كل نظام بوجوب الحكم به، وللدولة نظم عديدة، كنظام الوزراء، والمحاكم، وكنظام البنوك، ونظام العمل والعمال، وسائر الدوائر، ولم تكن تلك تعرف في عهد سلفنا، ولا في عهد السلف الصالح، وعسى الله أن يوفق أئمة المسلمين أن يؤلفوا نبذا مختصرة مصحوبة بالنصوص الشرعية، كافلة بما تحتاجه ولاة الأمر في جميع أمور الرعية.
وإليك: ما كتبه الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد رحمه الله، لبيان ما في نظام العمل والعمال، من الأخطاء، والتناقض والضلال، فأجاد وأفاد.
قال الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، رحمه الله:[رسالة الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد إلى رئيس مجلس الوزراء وما كتبه الشيخ في نظام العمل والعمال]
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله بن محمد بن حميد، إلى حضرة المكرم الأحشم، رئيس مجلس الوزراء أدام الباري توفيقه، ومتع بحياته، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأرجو الله أن يحفظكم ويمتع بحياتكم، سلمك الله: نظام العمل
والعمال، طالما كنت أسمع عنه، وما فيه من الأحكام الباطلة، المخالفة للشريعة الكاملة، في مصادرها ومواردها. وأنا لا أصدق، ولا أكذب. ولعلمي أنكم- ولله الحمد- من أشد الناس حرصا على هذه الشريعة الإسلامية، والذود عنها، وحمايتها بكل ما أوتيتموه من حول وقوة، كما جاء ذلك في خطابات سموكم المتعددة، في بعض المناسبات، فقد قلتم: إن شريعة الإسلام كفيلة لكل مصلحة، وقامت هذه الدولة على أسسه، أولها الأساس الإسلامي، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقلتم: إننا لسنا في حاجة إلى نظام مستورد من الخارج. وقلتم: سنكون في خدمة هذا الدين إلى أن يتوفانا الله، جاهدين مجاهدين عن شريعة الإسلام، ومكافحة كل ما يعترض هذا الدين. وقلتم: كل ما لا يوافق الشريعة الإسلامية فهو رد، ولا قضاء غير الشرع، ولا نوافذ على نظام لا يكون له أساس من ديننا الذي استوعب كل ما فى الحياة. والحقيقة أنكم تشكرون على هذا، ونرجو الله أن يثبتكم ويحفظكم، ويجعلكم دائما محافظين على هذه الشريعة، مجاهدين دونها، كما نرجوه أن يتولى جزاءكم في الدارين، ويجزل لكم المثوبة.
وبناء على هذا، قرأت نظام العمل والعمال، فوجدته أفظع مما قيل فيه، وأعظم مما كنت أسمع عنه ; فمما جاء منه: أن الأجر يدفع للعامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم، مبلغ 18000 للعامل درجة أولى، و12000 للعامل درجة ثانية، و 8000 للعامل درجة ثالثة، وذلك مقابل فقدان البصر كليا، أو فقدان العينين معا. وهكذا درج على هذا المنوال، في حين أن هذا باطل، لعدة وجوه منها: أن الأجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به، ولم يقع بسببه، ولا بإهماله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:"كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"1.
ثانيا: تدل هذه المادة أنه لو تعدى على العامل أحد من العمال، لزم المؤجر تلك الغرامة، في حين أن الشرع والعقل يلزم بذلك الجاني، فهو الذي يلزمه بذل أرش تلك الجناية الصادرة منه. ثالثا: هذه التفرقة، وتقسيم العمال إلى ثلاث درجات، تقسيم في غير محله، فمن هو المبين أن هذا العامل من الدرجة الأولى، والآخر من الثانية، أو الثالثة، فقد يكون عند هذا من العمل ما ليس عند الآخر; وبكل حال هذا التفريق باطل، تأباه الشريعة السمحة، وينكره العقل السليم.
كما جاء أيضا في النظام نفسه: أن العامل إذا أصيب
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) ، وأحمد (2/277) .
بإصابة أقعدته عن عمله، يدفع له أجرة 75% من أجرته، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة، التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا، ويستمر دفع 75% إلى حين شفاء المصاب، وانتهاء مدة الإقعاد المؤقت
…
إلخ، والنظام على هذا المنوال. والشريعة حرمت أموال المسلمين، كما حرمت دماءهم، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة البيت الحرام، في الشهر الحرام، في البلد الحرام" 1 فكيف يلزم المؤجر بدفع ثلاثة أرباع أجور عماله، المصابين عنده، بدون مقابل؟ فالشريعة أمرت العامل إذا مرض أن يقيم مكانه من يقوم بعمله، وإلا فللمؤجر الفسخ. والحقيقة أن هذا النظام باطل من أساسه، إذ لم يستند في أحكامه على نص، لا من كتاب، ولا سنة، ولا إجماع، ولا قول أحد من أهل العلم، والعقل السليم يعرف بطلانه؛ بل تصوره كاف في قبحه. ولكن بكل حال: أنتم معذورون، لتقدم وضعه.
وأعتقد كما يعتقد غيري أنكم لم تطلعوا عليه، لسبب وضعه، فقد وضع بتاريخ 25/11/1366? ولهذا كتبت عليه هذه الملاحظات المشفوعة بكتابنا هذا.
1 البخاري: الحج (1739) ، وأحمد (1/230) .
إذا، أرجو الاطلاع عليه، والأمر بما ترون نحو هذا النظام الفاسد، الذي سيعتبر قدحا في تاريخ هذه الدولة السعودية المسلمة، التي لم يعرف عنها سوى تحكيم الكتاب والسنة فيما لها وعليها، وبين رعاياها، والله يثبتها عليه، ويحفظها من القوانين الوضعية المجانبة للكتاب والسنة. ولعل يد الإصلاح في عهد سموكم، تمتد إلى إماطة هذا الأذى عن طريق المسلمين، تولاكم الله ورعاكم: والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. في 7/6/ 1384?.
وقال رحمه الله في ملاحظاته:
بسم الله الرحمن الرحيم بيان ما في نظام العمل والعمال من الأخطاء والتناقض والضلال
الحمد لله الذي جعلنا من خير الأمم، ونجانا بنور الوحيين من حوالك الظلم، وخصنا بمحمد الذي أوتي جوامع الكلم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين حازوا بمتابعته العز في الدنيا وفي الآخرة، وسلم تسليما. أما بعد: فقد قرئ علي بعض من نظام العمل والعمال، الذي صدر الأمر والعمل به بتاريخ 25/ 11/ 1366?، والذي لم يزل العمل به مستمرا إلى هذا الوقت. ولما سمعت بعض مواده وفقراته، طال تعجبي من وجود مثل هذه الأنظمة يحكم بها بين ظهراني المسلمين، وتقررها وتنفذها دولة إسلامية، تحكم القرآن وتفخر به،
ويحق الفخر لمن تمسك به، وعمل بأحكامه، وكنت قبل اطلاعي عليه أسمع شيئا مما يتناقله الناس عنه، غير أني لا أصدق ولا أكذب بكل ما أسمع عنه. ولما اطلعت عليه وجدته فوقع ما أسمع، وأفظع مما يقال فيه، ورأيت أنه متحتم علي أن أبين ما علمته فيه من الأخطاء، على وجه النصيحة وبراءة الذمة، ورتبته على مقدمة، فملاحظة عامة، فبيان ما في كل فقرة من الأخطاء على وجه التفصيل. والله المسؤول أن يمن علينا بحسن القصد، والاتباع لهدى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه، إنه سميع مجيب.
المقدمة
قد بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم إلى البشر، رحمة منه وإحسانا، ليخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه، ويهديهم إلى صراط مستقيم. وكانت العرب قبل بعثته صلى الله عليه وسلم في جاهلية جهلاء، وشقاء لا بعده شقاء؛ يعبدون الأصنام، ويئدون البنات، ويسفكون الدماء بأدنى سبب، وبلا سبب، في ضيق من العيش، وفي نكد وجهد من الحياة، يعيشون عيشة الوحوش، ومع الوحوش، يتحاكمون إلى الكهان والطواغيت.
فلما جاء الله بهذا النبي الكريم، أخرجهم الله به من الظلمات إلى النور، أخرجهم من ظلمة الكفر والشرك إلى نور الإيمان والتوحيد، ومن ظلمة الجهل والطيش إلى نور العلم والحلم، ومن ظلمة الجور والبغي إلى نور العدل والإحسان. ومن ظلمة التفرق والاختلاف إلى نور الاتفاق والوئام، ومن ظلمة الأنانية والاستبداد إلى نور التواضع والتشاور، ومن ظلمة الفقر والجهد إلى نور الغنى والرخاء؛ بل أخرجهم من ظلمة الموت إلى نور الحياة السعيدة {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سورة الأنعام آية: 122] . أكمل الله به الدين، وتمم به مكارم الأخلاق. أمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وأمر ببر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والمعوزين، حتى قال صلى الله عليه وسلم:"إن الله كتب الإحسان على كل شيء"1. وأمر بالتحاكم فيما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله، لا خير إلا ودل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها عنه، أخبر بما كان وما يكون إلى يوم القيامة، كما قال حذيفة رضي الله عنه: "قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاما، ما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة، إلا حدث به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه"،
1 مسلم: الصيد والذبائح وما يؤكل من الحيوان (1955)، والترمذي: الديات (1409)، والنسائي: الضحايا (4405 ،4412)، وأبو داود: الضحايا (2815)، وابن ماجه: الذبائح (3170) ، وأحمد (4/123 ،4/124 ،4/125)، والدارمي: الأضاحي (1970) .
وقال أبو ذر رضي الله عنه "لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو قال: لقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما". رسم لأمته طرق السعادة في الدنيا والآخرة، في سياسته الشرعية، التي يعجز كل أحد أن يأتي بناحية من نواحيها، فرسم لهم طرق السياسة مع الأعداء، فبين لهم ما تعامل به الأمم الأجنبية، من الحرب ووجوبه، والسلم ووجوبه، والمعاهدات والصلح، وحفظ العهود. وأوجب عليهم الاستعداد بكل قوة يستطيعونها، ونهاهم عن الإخلاد إلى الكسل والعجز والدعة والراحة، وأخبرهم أن هذا سبب للذل ; بل أمرهم أن يكونوا أقوياء أشداء أعزاء، لا تلين قناتهم لأحد سوى الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. وأوضح لهم جميع الشؤون الاجتماعية أتم إيضاح؛ بين ما للحاكم، وما للمحكوم وما عليه؛ فأوجب للحاكم السمع والطاعة، وحرم الخروج عليه، وأوجب على المسلمين مناصرته وموالاته عندما يخرج عليه خارج؛ وأمرهم بقتال الباغين عليه؛ وأمرهم بالصبر على ما يأتيهم من ولاتهم، وأنهم مهما عملوا لا يجوز الخروج عليهم، ما أقاموا فينا الصلاة، إلا أن نرى كفرا بواحا،
فقال صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسمع والطاعة، وإن تأمر عليكم
عبد حبشي" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك" 2. وهذا يدل على كمال هذه الشريعة وتمام نضوجها في السياسة وغيرها؛ لأنه متى حصل منابذة للحاكم، لا بد أن ينجم عن ذلك القتل، وخلل في الأمن، وعدم الاستقرار، فيذهب بسبب ذلك الألوف من الأنفس، كما قيل: ملك ظلوم غشوم، خير من فتنة تدوم. وهذا شيء يشهد له التاريخ والواقع. وهناك أنفس شريرة لا يناسبها إلا هذا الوضع، ما لم يضرب عليها بيد من حديد.
أما الأنفس الخيرية التي زكت عقولها، وتنورت بنور الوحي المحمدي، فهذا أشق عليها، كما قال الإمام أحمد: لو كان لي دعوة مستجابة لصرفتها للسلطان، لأن بصلاحه صلاحا للرعية، وبفساده فسادا للرعية. ويروى عن سفيان والفضيل، رضي الله عنهما مثل ذلك. وكلما عظم قدر الدين في النفس، عظم عندها قدر الحاكم واحترامه وتوقيره؛ ولكن لا يكون هذا التوقير مانعا عن مناصحته، وتبيين أخطائه ليتلافاها، وإنكار ما يرتكبه من المنكر، والصدع بكلمة الحق بين يديه، بل يعد هذا من كمال محبته والشفقة عليه، كما قيل: من أحبك نهاك، ومن أبغضك أغراك، وقال الشاعر:
ما ناصحتك خبايا الود من أحد
…
ما لم ينلك بمكروه من العذل
1 البخاري: الأحكام (7142)، وابن ماجه: الجهاد (2860) ، وأحمد (3/114) .
2 مسلم: الإمارة (1847)، وأبو داود: الفتن والملاحم (4244) .
مودتي لك تأبى أن تسامحني بأن أراك على شيء من الزلل
فأوجبت الشريعة على الحاكم للمحكومين النصح لهم، وأن لا يدخر وسعا في الشفقة عليهم وحفظ مصالحهم، وحماية أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، وحماية جميع ما لهم من الحقوق، وقمع المعتدين عليهم، وإنفاذ الحدود التي أوجبها الله على المخالفين، والجد كل الجد في حفظ دينهم، وتعزيزه بكل ممكن، وتطبيق أحكامه عليهم بكل دقة، وأن لا يشاب بشيء من الآراء والاستحسانات، وأن يكون ذلك التطبيق جاريا على كل أحد، من شريف ووضيع، وحاكم ومحكوم، وغني وفقير لأن الولاية إنما شرعت لهذا وأمثاله. ثم إن هذه الشريعة لكمالها، لم تقتصر على هذا، بل أمرت بالضرب في الأرض، لطلب الكسب، وأمرت بحرث الأرض للمعاش، وأمرت بالبيع والشراء، وبينت أحكام الدين والاستدانة، ونهت عن البطالة والكسل في طلب المعاش.
وعلمت كيفية الاقتصاد، فنهت عن التبذير، وعن التقتير، وأمرت بالقوام بينهما، ورسمت أحكاما لكل من التجارة والزراعة والصناعة، وأوجبت حفظ الحقوق، فأمرت
بالكتابة والإشهاد، وحرمت كتمان الشهادة أشد تحريم، حماية للأموال، وسلامة للصدور عن التقاطع والتباغض. كما نهت أيضا عن الغش والخداع في المعاملات والربا بأنواعه، وبيع البعض على بيع البعض، وعن التدليس وبيغ الغرر؛ كل هذا حفظا للحقوق، وحرصا على تمام الروابط بين المسلمين.
نعم إنها لم تكتف بهذا، بل دخلت على الأسرة الواحدة في بيتها، فبينت ما لكل منهم وما عليه، من الوالد والولد، والزوج والزوجة، وجميع الأقارب كل بحسبه. ولم يمر بالإنسان طور من أطوار حياته، إلا بينت مشاكله، وجميع ما قد يعرض له في حياته، من حين رضاعه إلى إبان وفاته، بل إلى ما بعد ذلك. فبينت الأولى بتغسيله وتكفينه، وحمله والصلاة عليه ودفنه، وميراثه ووصيته، وحقوقه من قضاء دين وتنفيذ وصية وإنفاذ عهد. فلله ما أعظم هذه الشريعة، وأجلها وأسماها! وكلما ازداد المرء معرفة بها، ازداد لها احتراما وتعظيما وتوقيرا. فلذلك كان الصحابة رضي الله عنهم لكماله معرفتهم بها- أشد الناس تمسكا بها، وتمشيا مع تعاليمها بكل جليل ودقيق.
وإنه لمن العجب إعراض أكثر الناس في هذه الأزمنة عن تعاليم هذه الشريعة السامية الكاملة، واستبدالها أو شوبها بقوانين وضعية، ظاهرة التناقض، واضحة الجور، فاسدة المعنى. فلذا كثيرا ما يطرأ عليها التغيير والتبديل، كل يرى أنه أحسن ممن تقدمه، وأدرى بالمصالح والمفاسد ممن سبقه، ثم يجري فيها تغييرا وتبديلا، بحسب رأيه؛ وهكذا دواليك ما بقيت هذه النظم، المستمدة من نحاتة الأفكار وزبالة الأذهان.
أما الشريعة الإسلامية، فهي صالحة لكل زمان ومكان مضى عليها أربعة عشر قرنا وهي هي في كمالها ومناسبتها، وحفظها لكافة أنواع الحقوق لجميع الطبقات. وأهدأ الناس حالا، وأنعمهم بالا، وأقرهم عيشا، أشدهم تمسكا بها، سواء في ذلك الأفراد أو الشعوب، أو الحكومات؛ وهذا شيء يعرفه كل أحد إذا كان عاقلا منصفا، وإن لم يكن من أهلها، بل وإن كان من المناوئين لها.
وقد سمعنا وقرأنا كثيرا مما يدل على ذلك؛ فقد ذكر بعض عقلاء المستشرقين الذين يكتبون لبيان الحقيقة والواقع - لا للسياسة- أن نشأة أوربا الحديثة، إنما كانت رشاشا من نور الإسلام، فاض عليها من الأندلس، ومن صفحات
الكتب التي أخذوها في حروبهم مع المسلمين، في الشرق والغرب. وقال القس "طيلر": إن الإسلام ليمتد في أفريقيا، وتسير الفضائل معه حيث سار؛ فالكرم والعفاف والنجدة، من آثاره، والشجاعة والإقدام من نتائجه. وقال "كونتنس": يمتاز المسلمون على غيرهم برفعة في السجايا، وشرف في الأخلاق؛ قد طبعته في نفوسهم ونفوس آبائهم وصايا القرآن؛ بخلاف غيرهم، فإنهم في سقوط تام من حيث ذلك. وقال أيضا: إن من أهم النعوت التي يمتاز بها المسلم: عزة في النفس، فهو- سواء في حالة بؤسه ونعيمه- لا يرى العزة إلا لله ولرسوله وله، وهذه الصفة التي غرسها الإسلام في نفوسهم، إذا توفرت معها الوسائل، كانت أعظم دافع إلى التسابق إلى غايات المدنية الصحيحة ورقيات الكمال. وقال "هانوتو" وزير خارجية فرنسا في وقته: إن هذا الدين الإسلامي قائم الدعائم، ثابت الأركان، وهو الدين الوحيد الذي أمكن اعتناق الناس له زمرا وأفواجا.
وهو الدين الإسلامي العظيم، الذي تفوق شدة الميل إلى التدين به كل ميل إلى اعتناق أي دين سواه؛ فلا يوجد مكان على سطح المعمورة إلا واجتاز الإسلام فيه حدوده، فانتشر في الآفاق.
وقال بعضهم: لما رغب المسلمون عن تعاليم دينهم، وجهلوا حكمه وأحكامه، وعدلوا إلى القوانين الوضعية المتناقضة، المستمدة من آراء الرجال، فشا فيهم فساد الأخلاق، فكثر الكذب والنفاق، والتحاقد والتباغض، فتفرقت كلمتهم، وجهلوا أحوالهم الحاضرة، والمستقبلة. وغفلوا عما يضرهم وما ينفعهم، وقنعوا بحياة يأكلون فيها ويشربون، وينامون، ثم لا ينافسون غيرهم في فضيلة، ولكن متى أمكن لأحدهم أن يضر أخاه، لا يقصر في إلحاقه الضرر. وأقوالهم في هذا الموضوع كثيرة جدا. يعترفون فيها بعظمة الإسلام، وشموله لعموم المصالح ودرء المفاسد، وأن المسلمين لو تمسكوا بإسلامهم حقا، لصاروا أرقى الأمم وأسعد الناس، ولكن ضيعوا فضاعوا، واكتفوا منه بمجرد التسمي بأنهم مسلمون.
مناقب شهد العدو بفضلها وأفضل ما شهدت به الأعداء
ولسنا- والحمد لله- في حاجة إلى شهادة هؤلاء وأمثالهم، بفضل الإسلام وعلو مكانته، ولكن ذكرنا هذا لما قصر أهله في فهمه والعمل به، وعرف منه أعداؤه ما لم يعرفه بنوه؛ إذ جهلوا مصالحه، وتطلعوا إلى غيره من النظم الفاسدة المتناقضة، وأعداؤه يفضلونه ويشهدون له بالكمال وأنه فوق كل نظام.
ولا شك أنه الدين الصحيح، الكفيل بكل ما يحتاجه البشر على وجه يكفل لهم المصالح، ويدرأ عنهم المفاسد، دين الفطرة السليمة، دين الرقي الحقيقي، دين العدالة بأسمى معانيها، دين المدنية والحرية بمعناها الصحيح، دين العمل، دين الاجتماع، دين التوادد والتناصح والتحابب، دين رفع ألوية العلم والصنائع والحرف. لم يقتصر على أحكام العبادات، أو المعاملات، بل شمل جميع منافع العباد ومصالحهم، على ممر السنين وتعاقب الدهور، إلى أن تقوم الساعة. ولكن يا للأسف ويا للمصيبة! أن أبناء هذا الدين جهلوا قدره، وجهلوا حقيقته؛ بل كثير منهم عادوه وأصبحوا يدسون عليه معاولهم ليهدموه، وليفرقوا أهله، ويفضلون أهل الغرب على المسلمين، ظنا منهم بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة أن الدين هو الذي أخرهم، وهيهات هيهات أن يكون هو الذي أخرهم، ولكنهم أخروا أنفسهم بالإعراض عن تعاليم دينهم، وأخلدوا إلى الكسل، وقنعوا بالجهل، فأصبحوا في حيرة من أمرهم. إنهم لو عرفوا دينهم، وطبقوا تعاليمه لوصلوا فوق ما وصل إليه غيرهم، من التقدم الصناعي؛ ولكنهم تركوا دينهم، واقتنعوا بالترف والنعيم، وأهملوا العناية به.
فوالله لو أن أهله قاموا بما يجب عليهم، لحازوا
شرف الدنيا والآخرة. وإن الواجب على أهل الإسلام، خصوصا العلماء منهم، وولاة الأمور، أن يبثوا الدعوة له، وينشروا محاسنه لنشئهم، ليرغبوهم فيه، ويرشدوا الأمة لأحكامه وحكمه، كما فعل أوائلهم الأماجد.
فإنهم قاموا بالدعوة، فبينوا للأمم محاسنه وسماحته، شارحين لهم حِكمه، موضحين مزاياه، وبذلك امتد سلطانهم، واتسعت ممالكهم، وأخضعوا من سواهم لتعاليمه. ولكن ما لبث أبناؤهم أن حرفوا فانحرفوا، وتمزقوا بعدما اجتمعوا، واشتبه الحق عليهم والباطل، فتفرقت بهم السبل، وأصبحوا شيعا، متفرقين في آرائهم، متباينين في مقاصدهم. وكيف يحصل لهم الرقي، وأنى يتسنى لهم التقدم، وقد رضوا بقوانين وضعية، استمدوها من أعدائهم، يجرون وراءهم، وينهجون نهجهم تقليدا لهم، ومصادمة للشريعة الإسلامية، التي هي عزهم وفخرهم، وفيها راحتهم وطمأنينتهم.
والله سبحانه وتعالى يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50]، ويقول جل شأنه:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة آية: 44]، وقال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [سورة المائدة آية: 45]، وقال تعالى:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة المائدة آية: 47]، وقال سبحانه وتعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [سورة النساء آية: 59] . وقد تكفلت بحل جميع المشاكل وتبيينها وإيضاحها، قال تعالى:{مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]، وقال تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] : ففي هذه الآية: أن القرآن فيه البيان لكل شيء، وأن فيه الاهتداء التام، وأن فيه الرحمة الشاملة، وأن فيه البشارة الصادقة للمتمسكين به، الخاضعين لأحكامه.
وقال تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [سورة البقرة آية: 213]، وقال تعالى:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [سورة النحل آية: 44]، وقال صلى الله عليه وسلم:"تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك" 1، وقال صلى الله عليه وسلم "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله، فيه
1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .
نبأ من قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم؛ هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله....." 1 الحديث.
وقد قال الإمام ابن كثير رحمه الله، على قوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] الآية: ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء، والاصطلاحات التي وضعها الرجال، بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الجهالات والضلالات، كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن "جنكيزخان" الذي وضع لهم:"الياسق" وهو: عبارة عن كتاب أحكام، اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية، والنصرانية، والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام، أخذها عن مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا، يقدمونها على الحكم بالكتاب والسنة؛ فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم بسواه في قليل ولا كثير، ا?.
وقال ابن القيم: رحمه الله تعالى، على قوله عز وجل: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ
1 الترمذي: فضائل القرآن (2906)، والدارمي: فضائل القرآن (3331) .
رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [سورة النساء آية: 61] : هذا دليل على أن من دعي إلى تحكيم الكتاب والسنة فأبى، أنه من المنافقين، ا?. وقد قتل عمر رضي الله عنه رجلا طلب التحاكم إليه، ولم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنبي حي ولم ينكر على عمر قتله للرجل؛ فكيف يجترئ من يدعي الإيمان مع هذا البيان الواضح، والآيات البينات، والأحاديث الصحيحة، على الرضى بالتحاكم إلى الطاغوت، والإعراض عن شريعة الله؟ والله قد نفى الإيمان عمن لم يحكم الرسول فيما وقع بينهم من التشاجر، قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] . وإنه لمن أعظم الضلال، أن يعتقد من يدعي الإسلام، أن الشريعة لم تأت بما يكفل مصلحة الجميع، وأن الناس محتاجون إلى غيرها في شيء من شؤونهم ومشاكل حياتهم. أليس ذلك ظنا وتكذيبا لقوله تعالى:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3]، وإنكارا وردا لقوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [سورة النحل آية: 89] ؟
وإننا لنربأ بحكومتنا السنية، ورجالها المصلحين أن يفسدوا ما تمسكوا به من تعاليم هذا الدين الحنيف، بإدخال بعض هذه النظم، والقوانين المخالفة للشريعة على المسلمين، أو يلزموهم بها، فيبوؤوا بالإثم، وتتناولهم هذه الآية الكريمة:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] . فلما تقدم من الأدلة الشرعية على وجوب التمسك بحكم الله ورسوله، وأن لا يلتفت إلى ما سواهما، وبراءة للذمة، ورجاء للمثوبة من عند الله، رأيت أن أبين ما قد لاحظته على هذا النظام المهين.
ملاحظات عامة: تضمن هذا النظام أمورا كثيرة مما يخالف الشريعة المطهرة، ويلاحظ عليه على سبيل الإجمال: أن هذا النظام الذي وضعته الحكومة ضمنته أشياء غير سائغة شرعا، وشروطا في صالح المستأجر، وأخرى ليست في صالحه، بل هي ضرر عليه، ومثلها للعامل.
والواقع أن كلا يؤجر ويستأجر، وهو لا يعلم بوجود هذا النظام أصلا، ولم يعرف شيئا مما تضمنه من الشروط، سواء كانت له أو عليه، ثم إنه لو حدث تشاجر بينهما، أو خلاف وتكايس أحد الطرفين، وسمع بهذا
النظام، ثم بحث عنه ووجد أن له فيه مصلحة، أو قيل له: إن هناك نظاما يرى الحق لك، طالب به، وألزم الطرف الآخر بحسب ما يقضيه به هذا النظام؛ فهل هذا يقره عقل، أو عرف، فضلا عن الشريعة؟ !. كلا، بل هذا يعتبر من أظلم الظلم، وكيف يتحصل أو يقضى له بشيء لم يشترطه قبل إبرام العقد، ولم يلتزم الطرف الآخر به، ولم يعلم به أصلا؟ !. هذا شيء مناقض للشريعة، ومصادم للنصوص، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلمون على شروطهم، إلا شرطا أحل حراما، أو حرم حلالا" 1: فهذا الحديث ينص على أنه لا يلزم أحد، إلا بما التزم به هو بنفسه، لا باشتراط غيره عليه، وهو لا يعلم.
وقال عمر رضي الله عنه: "مقاطع الحقوق عند الشروط". ثم إن المتعاقدين لو اشترطا فيما بينهما ما يخالف الشريعة أيضا، لم يقرا عليه، وبطل الشرط وحده، أو أبطل العقد من أصله، بحسب ما هو مقرر في كتب أهل العلم، المستمدة من القرآن والسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من شرط شرطا ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط"2.
وكثير من مواد هذا النظام مخالف لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مع ما اشتمل عليه من الظلم والتناقض، ومع
1 الترمذي: الأحكام (1352) .
2 البخاري: البيوع (2168)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519) .
أن المتعاقدين لم يتفقا عليه، ولم يعلما بمضمونه، ولا ما دل عليه. ثم إنه لو قيل: إن النظام وضعته الحكومة، وهو خاص بأعمالها الحكومية، فهي التي التزمت بهذه الشروط على نفسها لعمالها، لقلنا: هذا ليس صحيحا من وجهين. أحدهما: أن جميع ما فيه من الشروط، سواء كانت للعامل أو عليه، يجب أن تفهم له قبل دخوله في العمل، حتى يفهمها جيدا، بمنطوقها ومفهومها، ليكون على بصيرة من أمره، في كل ما له وما عليه. الثاني: أن لا يتضمن شيئا مما يخالف الشرع؛ فإن تضمن شيئا مما يخالف الشريعة فهو باطل ولو رضي كلا الطرفين.
وقد يقال أيضا: إن هذا النظام وضع بين شركة كافرة وبين المسلمين، وغالبه في صالح العامل، والمقصود منه الاستيلاء على أموال هؤلاء الكفار، بأي وسيلة حصلت لنفع المسلمين وتقويتهم. فالجواب: أن هذا من التعليلات، غير مجدية شيئا في جواز تطبيقه، لأمور، منها: أنه ليس كله في صالح العامل، ثم لو فرض ثبوت هذا، فالشرع لا ينظر إلى مصلحة طرف دون الآخر؛ بل كل يرى ما له وما عليه من الحقوق، سواء كان الحق لمسلم أو لكافر، ما لم يكن الكافر حربيا، فليس له أي حق سوى دعوته للإسلام.
ومنها: أن أموال الكفار الذين دخلوا البلاد بأمان من المسلمين، ولم يكونوا حربيين، ولم يحصل منهم ما يخالف التعاليم الصحيحة التي أخذها المسلمون عليهم، لا يجوز الاستيلاء عليها بطريق الغصب، ولا بطريق الحيلة الممنوعة شرعا. فإن الله يقول في حق أهل الكتاب:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [سورة المائدة آية: 49] ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالحكم بينهم بما تقتضيه الشريعة الإسلامية؛ هذا بين الكفار بعضهم مع بعض، فكيف إذا كان بينهم وبين المسلمين؟ فيكون إذاً من باب أولى. ثم حصل التفريق في هذا النظام بين المسلمين في المواد الجنائية، ولم يرد في الشرع فرق بين المسلمين، إذا كانوا ذكورا أحرارا في الجنايات، سواء في ذلك الصغير والكبير، والغني والفقير، والعالم والجاهل؛ لأنه لا فرق بينهم إلا بالتقوى، والتقوى لا يعلمها إلا الله، ويظهر تفاوت الناس بها في الآخرة، أما في الدنيا فالحكم على الظاهر، فمن ظهر إسلامه عومل معاملة المسلمين كائنا من كان، ماهرا فنيا أو عكسه، فديتهما على السواء.
أما ما ذكر في هذا النظام، فهو تحكيم ما أنزل الله
به من سلطان، بل هو رد لنصوص القرآن والسنة. هذه ملاحظة عامة.
أما الملاحظات التفصيلية الخاصة لكل مادة وفقرة، فهي ما يلي:
1-
جاء في هذا النظام، في المادة السادسة، ما نصه: لا يجوز استخدام عمال دون العاشرة من العمر بصفة عامة ويجوز لوزارة المالية لما يأتي
…
إلخ. ويلاحظ عليها: أن عدم تجويز استخدام من بهذا السن، لم يرد به الشرع، ولا يجوز لأحد أن يبيح، أو يحرم شيئا بعقله، والله يقول:{وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل آية: 116] ، فإذا بلغ الصبي سن التمييز، جاز تصرفه بإذن وليه، بكل شيء، من عمل وبيع أو شراء، إذا كان في مقدوره، وفي حدود طاقته، وعلمت المصلحة وانتفت المفسدة. ثم يلاحظ عليها أيضا: التناقض، حيث جعل هذا النظام الحق لوزارة المالية في رفع هذا السن أو تخفيضه، بناء على ما ترتئيه هذه الوزارة؛ فما الذي منعه على المسلمين ولو رأوا المصلحة؟ وما الذي أباحه لوزارة المالية دون غيرها؟ !
2-
نصت فقرة (ب) من هذه المادة: أنه لا يجوز
تشغيل العامل، تشغيلا فعليا أكثر من ثماني ساعات في اليوم ولا شك أن هذا خطأ واضح لما يأتي: أولا: أنه متى استأجره المستأجر يوما، فيجب عليه العمل كل ذلك اليوم، إلا بشرط لفظي أو عرفي، ما عدا أوقات الصلوات الفرائض، وما تدعو إليه الحاجة من أكل وشرب وغيرهما. ثانيا: أن الأعمال تتفاوت، فمنها ما هو شاق، ولا يستطيع العامل أن يعمل ثماني ساعات، ومنها: ما هو سهل، فهو يستطيع العمل يومه وليلته، أكثرها بدون تكليف؛ لأنه لا يستوي العامل الذي يضرب بمرزبته صفائح الحديد، والعامل الذي هو عبارة عن حارس أو بواب، فتحديد العمل بشيء لم يتفقا عليه، ولم يكن مستثنى شرعا، أو عرفا، مع اختلاف تنوع الأعمال، لا يجوز.
3-
نصت فقرة (ج) من المادة المذكورة: أنه لا يجوز أن يشتغل العامل أكثر من خمس ساعات متوالية، وهذه كالفقرة السابقة، بل يلزم العمل حسب ما اتفقا عليه، ما لم يكن هناك شرط لفظي أو عرفي أو مستثنى شرعا، كأداء الفرائض، أو حاجة العامل إليه، وكذا لا يجوز تحديد زمن للراحة إلا على حسب الشرط بينهما.
4-
جاء في المادة السابعة ما نصه: يجب دفع أجر
العامل وكل مبلغ مستحق له في البلاد العربية السعودية، بالعملة السعودية، ويحصل الدفع للعامل نفسه ولو كان قاصرا، ما لم يكن ولي القاصر محتاجا لكده
…
إلخ. والجواب عن ذلك: أنه لا يلزم ما ذكر في هذه الفقرة، بل الواجب على المؤجر أن يدفع للعامل ما اتفقا عليه من نوع الأجرة، سواء كانت نقودا، أو عروضا، أو منفعة، لكن لو أجره بعدد من العملة، ولم تختص تلك العملة بعينها وقت العقد، فينصرف ذلك إلى العملة السعودية، لاقتضاء العرف لذلك، فينْزل منْزلة الشرط اللفظي.
وقوله في هذه الفقرة: وكل مبلغ مستحق له، أي: للعامل في البلاد العربية السعودية يكون الدفع بالعملة السعودية. أي: لو كان للعامل على آخر دين أو قرض بعملة أخرى، كذهب أو فضة، أو استرليني، يتعين الدفع له بالعملة السعودية، وهذا باطل، بل يندفع إليه نوع العملة التي له على غريمه أيا كانت، ولا يجبر على أخذ ما عداها، إلا برضاه، ما لم يفض إلى الربا. ومما يلاحظ على هذه المادة أيضا: أنها نصت على أنه يلزم دفع الأجرة للقاصر، ما لم يكن وليه محتاجا لكده، وهذا أيضا لا يجوز؛ فإن القاصر محجور عليه، ولا يجوز أن يسلم ماله إلا بيد وليه، سواء كان محتاجا إليه أو غير محتاج.
ولو أتلف القاصر ما دفع إليه من المال، لاعتبر الدافع له ضامنا، لأنها لا تبرأ ذمته إلا بتسليمه لوليه، لأن الله خاطب الأولياء الدفع إليهم عند بلوغهم، إذا آنسوا منهم الرشد. فقال تعالى:{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [سورة النساء آية: 6] وهذه الآية الكريمة، صريحة في أنه لا يجوز أن يدفع إليه ماله، إلا إذا علم رشده.
5-
جاء في فقرة (ج) من المادة السابعة، ما نصه: إذا كان العمل يؤدى بالقطعة، ويحتاج لمدة تزيد على أسبوعين فيجب أن يحصل العامل على دفعة كل أسبوع، تتناسب مع ما أتم من العمل، ويصرف الباقي كله خلال الأسبوع التالي لتسليم العمل
…
إلخ. وهذا شيء لا يجب على المؤجر، وإيجابه لم يستند على شيء من نصوص الشريعة، بل هو بعيد عنها، والواجب: أن العامل متى كان عمله على شيء معين، لا يستحق تسليم شيء من الأجرة حتى ينهي ما انبرم عليه العقد بينهما، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 وهذا كناية عن وجوب تسليمه حقه فور انتهائه، أما قبل الانتهاء، فلا يلزم إلا بشرط، أو تبرع من المؤجر.
1 ابن ماجه: الأحكام (2443) .
وجاء أيضا في الفقرة نفسها: أنه إذا انتهت خدمة العمل وجب دفع أجره فورا، إلا إذا كان خروجه من تلقاء نفسه، فيجوز دفع أجره في خلال سبعة أيام، وهذا تفريق بلا فارق، وتحكم بلا دليل. فإن الواجب شرعا أن العامل متى أكمل عمله المتفق عليه من قبله، وقبل المؤجر، وجب على المؤجر الدفع فورا، سواء خرج العامل من تلقاء نفسه، أو برغبة من المؤجر، للحديث السابق:"أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" 1 ولم يفرق صلى الله عليه وسلم بين الحالتين، فوجب اتباع الحديث، وطرح ما سواه.
6-
جاء في المادة الثامنة: إذا تسبب عامل في فقد، أو إتلاف مهمات، أو منتجات مما يملكه الآجر ويكون في عهدته بسبب رعونته، أو عدم احتياطه، أو إهماله، أو تفريطه، كان للآجر أن يقتطع المبلغ اللازم للإصلاح من أجر العامل، بشرط أن لا يزيد ما يقتطع لهذا الغرض، على أجر خمسة أيام في الشهر الواحد، على شرط أن يكون كل ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر.
ويلاحظ على هذه المادة عدة أمور، منها: قوله يقتطع المبلغ اللازم من العامل للآجر بشرط أن لا يزيد ما يقتطع على أجرة خمسة أيام في الشهر الواحد، وهذا
1 ابن ماجه: الأحكام (2443) .
الشرط فاسد، لا أصل له، فإن الواجب دفع المبلغ المستحق، كاملا فور ثبوته، إلا برضى منهما، أو في حالة إعسار المكلف بالدفع، كسائر الحقوق الثابتة في الذمم، فيكلف الملي بدفعها، وينظر المعسر حتى القدرة على الوفاء. ومنها قوله: على شرط أن يكون ذلك في حالة عجز العامل عن إثبات أن ما وقع كان نتيجة قضاء وقدر. وهذا والله موضع عجب، أيظن الكاتب: أن هناك أشياء تقع لا لنتيجة قضاء وقدر؟ ! بل تكون خارجة عن القضاء والقدر، وأن الرب لم يقدر وقوعها، ولم يقض بوجودها، وأنها خارجة عن مشيئته؟ ! وهذا مذهب باطل، أطبقت الصحابة والتابعون، وسائر أئمة الإسلام، على ذم هذا القول وبدعيته، وتضليل قائله. وأنه لم يؤمن بقوله:{وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [سورة البقرة آية: 284]، وقوله:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] سبحانه وتعالى أن يقع شيء لم يقدره الله ولم يقضه. بل ظن هذا الجاهل، أو المنحرف عن العقيدة الصحيحة أن الذي يقع بسبب من أحد خارج عن القضاء والقدر، وهذا مخالف للكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة، ومكذب لقوله تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [سورة القمر آية: 49] .
ومنها: أن العامل ليس عليه الإثبات بأن ما حصل لم يكن بسببه، بل الإثبات على المؤجر وغيره، ممن له الحق أن العامل هو الذي فرط، أو تسبب، لأن الأصل براءة الذمم، حتى تقوم البينة بإثبات الحق أن هذا عن نتيجة إهمال العامل، أو تفريطه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"1.
7-
جاء في المادة التاسعة: لا يجوز للآجر أن يقتطع من العامل أكثر من عشر أجره الشهري، لسداد ما يكون أقرضه إياه، وهذا خطأ بين؛ فإن الواجب على العامل دفع ما عليه من القرض، متى طلبه صاحبه، والمؤجر وغيره سواء، ما لم يكن من عليه الحق معسرا; أما لو فضل شيء من أجرة العامل عما يحتاجه، تعين عليه دفعه لغريمه. وهذه المادة نصت في الحكم على القرض خاصة، ومفهومه: أن غير القرض من الحقوق كثمن مبيع، وقيمة متلف ونحوهما ليس كالقرض، وهذا تفريق باطل، بل كل الحقوق على السواء. وهكذا سبيل النظم والقوانين الوضعية، لا بد لها من التناقض والتباين، صدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] .
8-
نصت المادة العاشرة، في الفقرة الأولى منها:
1 الترمذي: الأحكام (1341) .
أن الآجر يعيد العامل على نفقته إلى الجهة التي أبرم فيها العقد أو أخذ ورحل منها، إذا طلب العامل ذلك، في خلال خمسة عشر يوما من تأريخ انتهاء العقد إلى آخره.
وهذا شيء ليس بلازم شرعا، إلا باشتراطه عند العقد، أو كان معروفا عند أهل تلك الجهة، بحيث أن المؤجر يعرف ذلك، وعالم به وبتكاليف رد العامل إلى المكان الذي أبرم فيه العقد، سلامة من الجهالة المفسدة لعقد الإجارة، والتحديد بخمسة عشر يوما، تحكم بلا دليل.
9-
ذكر في الفقرة الرابعة من المادة العاشرة: أنه يجوز للآجر بصفة استثنائية، أو مؤقتة إذا دعت ضرورة ملحة، بسبب القوة القاهرة، أو وقوع حادث مفاجئ، أو إصلاح عاجل لا يتحمل التأخير، عدم التقيد بأحكام الفقرة الثالثة. وهي: أنه لا يجوز للآجر أن يكلف العامل عملا غير ما اتفق عليه أعلاه، وبالشروط الآتية: أن لا تزيد مدة العمل عن إحدى عشرة ساعة في اليوم، وأن لا يشتغل العامل أكثر من ست ساعات متواليات، وعلى أن يصرف للعامل عن ساعة إضافية مبلغ يوازي الأجر العادي الذي يستحقه في الساعة، مضافا إليه خمسة وعشرون في المائة على الأقل.
ويلاحظ: أن هذا الاستثناء غير معتبر شرعا، بل لا حق للآجر أن يلزم العامل بعمل لم يتفقا عليه، سواء كان بزيادة في الزمن المتفق عليه للعمل به، أو بنقله إلى عمل آخر ليس من جنس العمل الذي اتفقا عليه، وعلى أجرته الخاصة. لقوله صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم" 1، اللهم إلا إذا كان ترك العمل المفاجئ يؤدي إلى إصابة في الأنفس، أو ضرر في أبدان المعصومين، كالغرق والحرق والهدم ونحوها، فهذا يجب على العامل وجوبا استقلاليا، بدون أمر من الآجر. وهو ليس خاصا بالعامل وحده، بل يجب على كل من علم ذلك الخطر من المسلمين، وهو قادر على تخليصه. كما أن التحديد للعمل بإحدى عشرة ساعة، وأنه لا يعمل أكثر من ست ساعات متواليات، وأنه يصرف للعامل عن ساعة إضافية مثل ما صرف له في عمله المعتاد عن كل ساعة، مضافا إليه زيادة ربع على الأقل عما يستحقه: كل هذه أمور باطلة، لا أصل لها في الشريعة الإسلامية، بل يكون على حسب ما اتفق عليه المؤجر، والمستأجر، فلا يلزم أحد بما لم يلتزم به ويرضاه، إذ إن من شروط الإجارة معرفة العمل، ومعرفة مقدار الأجرة،
1 الترمذي: الأحكام (1352) .
ومقدار الزمن الذي يعمل فيه، فيكف يلزم العامل أو الآجر بما لم يعلم به أصلا، ولم يلتزم به؟ !.
10-
جاء في الفقرة السادسة من المادة العاشرة: أن الآجر يسهل للعمال الذين يعملون في أماكن بعيدة عن العمران المساكن الملائمة، وهذا أيضا ليس بلازم بدون شرط، أما إذا شرط في العقد، أو كان ذلك عرفا مطردا عند أهل تلك الجهة، فيكون لازما؛ لكن يشترط فيه معرفة المسكن، ونوعه في البناء، وسعته، وعدد حجره، وكل وصفه تختلف فيه الأجرة. وأما وصفه بكونه ملائما، فهذا وصف غير منضبط، فقد يكون العامل لا يلائمه إلا بيت من المسلح، يحتوي على شيء كثير من المزايا، وقد يكون العامل ممن يكتفي بأكواخ، وصنادق وخيام ونحوها، فينتج عن ذلك اختلاف بين المؤجر والعامل، فلذا يجب الاحتياط عند العقد، تفاديا للخلاف وحصول الضرر الناتجين عن جهالة المسكن ونوعه، وما يشترط لمعرفته من الشروط التي يصح معها عقد الإجارة.
11-
جاء في المادة الحادية عشر، ما نصه: إذا كان العقد مبرما لمدة محدودة، وانتهت المدة المحدودة، دون أن تنقطع خدمة العامل لدى الآجر اعتبر العقد ممددا لمدة غير محدودة.
ويلاحظ عليها: أن هذا الاعتبار، غير معتبر شرعا، بل متى انتهت المدة التي تم العقد عليها، فلا يبقى بينهما عقد آخر، إلا باتفاق جديد بينهما، هذا إذا آجره لمدة شهر فقط، أو أسبوع، أو يوم ونحوها. أما إذا قال: كل يوم تعمله عندي بكذا، أو كل شهر ونحوه، فإن العامل متى تلبسه بعمل اليوم، أو الشهر مثلا، يلزمه إتمامه، بمقدار الأجرة المخصصة لذلك العمل. وأما بدون ذلك، كأن استأجره لمدة شهر، ولم يقل كل شهر تعمله بكذا، فهذا لو تلبس بالعمل بدون اتفاق بينه وبين المؤجر، والمؤجر لم يكفه عن العمل، فإن ما عمله بهذه المدة، لا يستحق عليه الأجر المسمى، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت عن أجرة المتفق عليه بينهما أو نقصت، لأنه لم يحصل بينهما عقد شرعي، فيلزم كل منهما به.
12-
جاء في المادة الثانية عشر ما نصه: إذا كانت مدة العقد غير محدودة، كان لكل من الطرفين الحق في فسخه، وإعلان الطرف الآخر بذلك على أن يكون ذلك الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية:
1-
بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام
2-
بالنسبة للعمال ذوي الأجور
الأسبوعية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة أسبوع ; بالنسبة للعمال المعينين بأجور شهرية، يكون الإعلان سابقا للفسخ بمدة ثلاثين يوما.
وفي حالة مخالفة المدة المشار إليها، يلتزم الطرف الذي فسخ العقد بأن يدفع للطرف الآخر تعويضا مساويا لأجر العامل عن مدة المهلة، أو الجزء الباقي منها، ويتخذها أساسا لتقدير التعويض متوسط ما تناوله العامل إلى الثلاثة الأشهر الأخيرة من أجر ثابت ومرتبات إضافية. ويلاحظ على هذه المادة، وما تضمنته من فقرات عدة ملاحظات:
13-
جاء في أول المادة قوله: وإعلام الطرف الآخر بذلك، على أن يكون الإعلان سابقا للفسخ بالمدة الآتية. وهذا الشرط ليس لازما، وما على لزومه أثرة من علم؛ بل هذا تحكم وإلزام بغير ما ألزم به الشرع.
وليس للمؤجر حد على العامل أن يخبره، إلا وقت تركه العمل، فيما إذا كان العقد غير محدد، إلا إذا كان المؤجر شرط ذلك على العامل، فالشرط أملك. وأيضا: لا بد في الشرط من تعيين المدة من قبلهما، بحسب ما يتفقان عليه سواء زادت عن المدة المحددة في هذا النظام، أو نقصت؛ فإذا كان المؤجر قد يتضرر بترك العامل العمل بدون إشعاره، فالذي ينبغي له أن يحتاط
لنفسه، ويشترط في ابتداء العقد، تعيين المدة اللازمة لإعلامه. وفي غير هذا فالعامل لا يكلف بشيء لم يلتزم به، ولم يلزمه به الشرع، بل بمجرد التحكم والخرص. وكذلك أيضا ليس للعامل حق على المؤجر، أن يعلن له ذلك الإعلان، إلا وقت إتمامه المدة التي حصل الاتفاق عليها منهما، وهل يلزم المؤجر عندما يريد أن يعمل عملا لا يحتمل أكثر من يوم واحد، أن يعمل ثلاثة أيام معه، بناء على أنه لم يشعر العامل بذلك، أو يدفع له أجرة عمل ثلاثة أيام بدون مقابل؟ وهل ورد في الشرع نظير ذلك؟ أم هو مجرد ظن وخرص وزعم منهم أن هذا يكفل مصلحة الجميع؟ ! وهذا عين الضرر عليهم معا، ولو وقع شيء منه على واضع هذا النظام وألزم به لعلم فساده بنفسه.
14-
جاء في الفقرة من المادة نفسها قوله: بالنسبة لعمال اليومية، يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة ثلاثة أيام. سبحان الله! ما هذا التفريق بين العامل ذي اليوم وذي الأسبوع، وذي الشهر؟ ! وما هذا التحديد والإلزام الذي لم يشم رائحة العدل؟ متى وجد في الشرع نظيره، ومن قال به من العلماء؟ وأي مناسبة لثلاثة الأيام، مع اليوم الواحد، الذي استؤجر به العامل؟ !
كيف يستأجر ليوم واحد، ويلزم بثلاثة أيام تبعا لهذا اليوم، فإن ذلك من لازم هذه المادة؟ وهذا التحكيم ينتج عنه: أن من أجر نفسه يوما واحدا، لا يجوز له أن يترك العمل من تلقاء نفسه، إلا بعد ثلاثة أيام، وإلا فيغرم ثلاثة أضعاف أجرة ذلك اليوم الذي تحصل عليها. تأبى الشريعة أن تأتي بمثل هذه التحكمات البعيدة عن العدل، أو تقرها؛ بل تنهى عن مثل ذلك أشد النهي.
15-
جاء في فقرة من المادة نفسها، بالنسبة للعمال ذوي الأجور الأسبوعية يكون الإعلان سابقا للفسخ لمدة أسبوع ا?. وهذه الفقرة فيها من الملاحظة كما في الفقرة قبلها، ويلزم على قولهم هذا: أن العامل عندما يعقد لمدة أسبوع ليرى العمل ومناسبته له، يلزمه أحد أمرين: أما أن يعمل أسبوعا آخر من غير رضاه، وإما أن يخسر أجرة أسبوعه الذي عمله أجمع؛ وهذا غاية الجور والظلم والضرر عليه. وكذلك نفس الشيء يعود على المؤجر، هل إذا احتاج لعمل لا يدري ما يكفيه من المدة، واستأجر عمالا ليعملوا عنده أسبوعا واحدا، ثم تطلب العمل زيادة يوم أو يومين، هل يلزم أن يدفع لهم بقية الأسبوع؟ نعم على مقتضى هذه المادة، أليس هذا أكلا للمال بالباطل؟
16-
يلاحظ: على ما تضمنته فقرة (3) مع نفس
الشيء السابق في الفقرتين قبلها، وهل يلزم العامل بالعمل ثلاثين يوما بغير رضاه، ومن دون شرط، أو اتفقا بينهما، إذا لم يمكن الفسخ للمؤجر في المدة المعينة، وإلا فيغرم العامل جميع ما تحصل عليه من الأجرة في ذلك الشهر؟! وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامات التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ ! وهل هي في مقابل عمل أو نفع؟ ! ثم إن هذه الغرامات لم تأت على أساس من الدين، ولا من العقل، ولا من العرف، وذلك أن العامل إذ ترك العمل، وتسبب لضرر أو نقص على المؤجر، فإن الضرر اللاحق بالمؤجر، قد يكون سهلا جزئيا، وقد يكون ضرره جسيما، وقد لا يلحقه أي ضرر. فلم لم يقل: إن العامل يلزمه غرامة بقدر ما حصل من النقص بسببه؟ لأنه قد يقصد إدخال الضرر على المؤجر، فيتلف عليه شيء كبير، أو تفوته مصلحة كبرى لا يوازيها أجرة عمله مدة طويلة. وقد لا يحصل بسبب ذلك شيء من النقص، لا قليل ولا كثير، فهل تستوي هاتان الحالتان، وهذا النظام جعلها على السواء؟!
ولا شك أن هذا الإلزام هو عين الظلم على كل من الطرفين، مع ما فيه من التناقض الواضح؛ فلا يلزم واحد منهما الإعلان على حسب ما جاء في هذه الفقرات،
ولا يلزم دفع هذه الغرامة المذكورة فيه أيضا، وعلى أي أساس بنيت هذه الغرامة التي تنافي المصلحة العامة لكل من الطرفين، وهذا حكم مخالف لقواعد الشريعة السمحاء.
17-
يلاحظ ظهور التناقض لهذه الفقرات، حيث جعل للشهر ثلاثين يوما، وللأسبوع مثله، ولليوم ثلاثة أيام، أي ثلاثة أضعاف اليوم؟ لم لم يجعل لليوم يوما واحدا، نظيرا للشهر، والأسبوع، لو قدر صحة ذلك؟ !. صدق الله العظيم:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] . أما إذا كان العمل مستمرا، وتلبس به العامل، بأن استمر في اليوم الثاني، والأسبوع، والشهر، بعد انقضاء المدة المتفق عليها بينهما، ولم يحصل من جانب المؤجر إعلام بالفسخ له، حال التلبس بالعمل أو قبله، وكان دخول العامل على أنه يعمل كل يوم، أو كل أسبوع، أو كل شهر بكذا. فهذا يعتبر كعقد جديد، يلزم كلا من الطرفين إتمامه، وله من الأجرة مثل ما سبق؛ هذا قول لبعض العلماء، وطائفة منهم لا يرون صحة مثل هذا، بل يعتبرونه عقدا فاسدا، لا تلزم فيه الأخرة المعينة في العقد الأول، ولكن يستحق أجرة مثله، سواء زادت أو نقصت من المسمى.
18-
جاء في المادة (13) إذا كان الفسخ من جانب الآجر، وجب أن يدفع للعامل مكافأة عن مدة خدمته
…
إلى آخر الفقرتين منها.
ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، قوله: إذا كان الفسخ من جانب الآجر، فمفهومه، أن للآجر الفسخ، وقد سبق في مادة (12) أنه ليس لأحدهما الفسخ، إلا بعد إعلان الطرف الآخر، بالمدة الموضحة هناك، وإلا فيلزمه الغرامة المذكورة أيضا، وهنا ذكر: أن له الفسخ ولم يذكر سابق إعلان، فهذه تناقض تلك.
19-
إن المفهوم من كلمة "فسخ" أن يفسخ عقدا مبرما، قبل تمام أجله، لأنه بعد تمامه لا يسمى فسخا، وهذا غير صحيح، لأنه ليس لأحدهما فسخ العقد إلا بعد تمام المدة، سواء في ذلك المؤجر، أو العامل؟ وإن كان المراد من ذلك عدم تجديد عقد آخر، فلا مانع من ذلك لكل من الطرفين، ولا يلحق المؤجر شيء من التعويضات عن ذلك إلا تبرعا منه بغير إلزام.
20-
ما ذكر في فقرة (1) من هذه المادة، بالنسبة للعمال باليومية، والعمال ذوي الأجور الأسبوعية، والعمال الذين تحدد أجورهم بالقطعة أجر خمسة عشر يوما، يعني مكافأة
…
إلى آخر الفقرة.
ونقول: إن إلزام الأجر بذلك غير سائغ شرعا، ولا
يجوز هذا الإلزام، فإنه ظلم للمؤجر، وأخذ للمال بالباطل، وظلم للعامل، وإعانة له على الظلم. إلا إذا كان هذا عن شرط بينهما، ودخل المؤجر على بصيرة منه، أو كان ملتزما به لكل عامل عنده، وعرف ذلك منه عند معامليه.
21-
جاء في الفقرة (2) من المادة نفسها، وهي قوله: إلا إذا بلغت الخدمة مدة عشرين سنة، فيمكن أن تصل المكافأة إلى ما يعادل أجر سنة ونصف على الأكثر. ا?. والمفهوم من كلمة يمكن، أن هذا شيء قد يحصل للعامل، وقد لا يحصل، فهل هو حق ثابت له فيطالب به، أو لا؟ وهل هذا الإمكان سيتقرر من العامل، أو من جهة المؤجر، أو من جهة أخرى؟! ثم إنه أيضا لم يقف على حد بين، بل قال: على الأكثر، وهذا فيه إبهام، فالعامل مثلا يطالب بالأكثر، والمؤجر يمتنع من ذلك. فإذا كان هذا راجع للمؤجر، ولا حق للعامل في تحديد ما يدفع له، فلم منع من الزيادة على أجر سنة ونصف، إذا كان تبرعا منه؟ فإنه لا حجر على أحد في التبرع من ماله بشيء، إلا إن كان سفيها، أو محجورا عليه.
فهذا شيء لا بد أن يوقع في الخلاف، والشريعة تنهى عن كل ما يكون سببا للخلاف بين المسلمين; والحق أن هذه المكافأة لا يجوز إلزام الآجر بها ما لم يكن شرطا بينهما كما سبق موضحا.
22-
ذكر في المادة الرابعة عشر: أنه ينتهي العقد بوفاة العامل، أو عجزه عن تأدية العمل عجزا كاملا، بعد إثبات ذلك بشهادة طبية أو مرضية، مرضا أدى إلى انقطاعه عن العمل، مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، أو مدة تزيد في جملتها عن الثلاثة شهور، في خلال سنة واحدة
…
إلى آخر المادة، ويلاحظ عليها عدة أشياء.
23-
إن قوله: لا يجوز الفسخ من المؤجر إلا بعد انقطاعه عن العمل مدة لا تقل عن شهرين متتاليين، وهذا التوقيت لم يستند إلى شيء من الشرع، ولا يجوز الحجر على المؤجر، وإلزامه بانتظار العامل هذه المدة الطويلة. بل متى انقطع العامل عن العمل لمرضه، ولو يوما واحدا، لزمه أحد أمرين: إما الفسخ برضى منهما، وإما أن يقيم العامل من يعمل مكانه حتى يبرأ، أو تتم المدة المعقود عليها، إذا لم تشترط مباشرة العامل لذلك العمل. وليس للعامل البقاء على العقد بدون عمل منه، إلى مضي شهرين، فإن هذا التحديد لا أصل له في الشريعة الإسلامية، كما أن المؤجر ليس له الفسخ إذا أقام العامل
من يقوم بعمله، ما لم تشترط مباشرة العامل للعمل، ولو تجاوزت المدة الشهرين أو أكثر، ما دام العقد باقيا لم يتم.
24-
حصرهم اعتماد ذلك على الشهادة الطبية أو المرضية، وعدم الالتفات إلى ما سواهما، فلو أقعده المرض، أو أعجزه عن القيام بعمله قبل أن يأخذ شهادة مرضية، يعتبر متلاعبا، وكأن الإثباتات الشرعية منحصرة في تلك الشهادة المذكورة. فلو شهد رجلان مسلمان من أهل الخبرة والأمانة، بما قام بهذا العامل من العذر، لا يعبأ بهذه الشهادة ما لم تكن من طبيب، وهذا بعينه هو الظلم الذي تنهى عنه الشريعة الإسلامية؛ فإن طرق الإثباتات في الشريعة كثيرة، لا تنحصر فيما حصره هذا النظام، ويتفرع على هذا مسائل كثيرة، لا نطيل بذكرها، فالله المستعان.
25-
قوله: ويلزم في حال انتهاء العقد بالكيفية المبينة آنفا، بأن يدفع المكافأة المبينة بالمادة (13)، وقد سبق بيان مثل هذه; وهو: أن المكافأة ليست لازمة شرعا، ما لم تشترط حال العقد، وتكون معلومة بينهما، فلا يجوز إلزام المؤجر بما لم يلتزمه، ولم يشرط عليه في العقد، والله أعلم.
26-
جاء في الفقرة الثالثة من المادة (15) على كل
آجر يستخدم خمسين عاملا فأكثر أن يضع نظاما للإسعاف في المصنع، أو محل العمل، مع تخصيص طبيب لعيادة العمال، وعلاجهم مجانا، وإعداد وسائل الصرف للعلاج والأدوية بدون مقابل، سواء في ذلك وقت العمل أو غيره. ويلاحظ عليها: أن هذا الإلزام غير لازم شرعا؛ لأنه لا يمكن ضبطه؛ فالعامل قد يحتاج إليه، وقد لا يحتاج إليه؛ والمرض قد يستغرق علاجه مدة طويلة من الزمن، وكمية كثيرة من الأدوية والمصاريف، وقد يكون علاجه بسيطا في زمنه ومصاريفه. فهذه جهالة شديدة، والشريعة الإسلامية قواعدها تنهى عن كل عقد يكون فيه جهالة أو غرر، وهذا يعتبر كجزء من الأجرة المعلومة، وهذا الجزء المجهول يصير الأجرة كلها مجهولة، فيفسد العقد إذا.
27-
جاء في فقرة (4) من نفس المادة (15) : إن على كل آجر يستخدم خمسين فأكثر: أن يضع نظاما للتوفير والادخار. ويلاحظ على هذه الفقرة عدة أمور وهي: أن المؤجر لا يلزمه شيء لم يلتزم به في ابتداء العقد، كما سبق بيانه أكثر من مرة.
28-
إن نظام التوفير فيه عدة محاذير، منها: أن ربحه معروف مضمون مقدر بنسبة في مقابل التصرف بهذا المال المعين، وهو الربا الصريح الذي جاء الوعيد فيه
بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [سورة البقرة آية: 275] ، وهذا بعينه هو ربا الجاهلية، وهو ربا النسيئة الذي هو أشد أنواع الربا تحريما؛ وقد ذكره الله بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [سورة البقرة آية: 279-278] . فإن قصد بهذا الادخار غير معناه المفهوم، وهو حفظه كأمانة تبقى في صندوق التوفير، متى طلبها صاحبها دفعت إليه، كسائر الأمانات، فهذا لا بأس به؛ غير أن العامل يكون مخيرا في ذلك، إن شاء أمن ما لديه أو بعضه لدى صندوق التوفير أو غيره، وإن شاء غير ذلك، فالأمر إليه، لأنه جائز التصرف في ماله بما يرى فيه مصلحته، ما لم يفض إلى الربا.
29-
لا يلزم المؤجر أن يضع لهم هذا النظام، وإلزامه بذلك يعتبر ظلما، ومخلا بالعقد، زيادة على ما فيه من المحذور السابق.
30-
ما ذكر في الفقرة نفسها، في حالة استخدام ما دون الخمسين عاملا، يجب أن يكون في كل مشروع صناعي صندوق للإسعافات الطبية، وهذا الواجب، غير
واجب شرعا؛ ولا يجوز أن يلزم المؤجر به، ما لم يكن شرطا بينهما، أو ملتزما به المؤجر من قبل نفسه؛ مع أنه لا بد أن يكون معلوما مقدار ما التزم به من كل نوع مما يلزم لذلك.
31-
جاء في الفقرة (5) من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد إذا تغيب العامل دون سبب مشروع، أكثر من خمسة عشر يوما في خلال السنة الواحدة، أو أكثر من سبعة أيام متوالية. ويلاحظ عليها: أن هذا التحديد، لم يعتمد على شيء من قواعد الشريعة الإسلامية، بل هو تحكم لا يسوغ مثله؛ فالمؤجر له الحق في الفسخ، متى ترك العامل العمل، إلا إذا أقام العامل مكانه من يعمل مثله، أو أقامه الحاكم إذا لم يشترط فيه مباشرة العامل للعمل. وإذا لم يحصل شيء من ذلك، فإن للمؤجر الفسخ في الحال عندما يتغيب العامل.
32-
جاء في الفقرة الثامنة من المادة (16) أن للآجر أن يفسخ العقد، إذا ثبت أن العامل قد ارتكب عملا مخلا بالشرف، أو الأخلاق أو الآداب. ا?.
ويلاحظ: أن هذه الأشياء، لا تكون مسوغة للفسخ، لأن المؤجر إنما استأجر العامل لعمل مخصوص، ولا حق له أن يتدخل فيما هو خارج عن العمل المستأجر العامل لأجله، اللهم إلا إذا كان العامل قد أخل بشيء يعود بضرر
على المؤجر، بحيث يصير مانعا من موانع العمل، أو تكميله، أو غير ذلك من الضرر. ثم إنه يلاحظ: على هذه الفقرة، أنه ذكر فيها الإخلال بالشرف والأخلاق والآداب، ولم يذكر فيها الإخلال بالدين، وكأن الواضع لها، لا يرى أن الإخلال بالدين نقص، مع أن الإخلال به يكون موجبا للفسخ، إذا ارتكب ما يوجبه. والفاسق غير مؤتمن، فربما يخون في عمله، كما خان في دينه، وربما كان جواز الفسخ في مثل هذا له وجه. فمن العجب أن تكون تلك الأشياء مخلة، وارتكاب ما يخل بالدين ليس مخلا!!!.
33-
جاء في الفقرة التاسعة، من المادة (16) أن للآجر الفسخ إذا وقع من العامل اعتداء على الآجر، أو على أحد رؤسائه في العمل أو بسببه. ويلاحظ: على هذه الفقرة أشياء، منها: أن ما ذكر فيها ليس مسوغا لجواز الفسخ للإجارة، بل العقد باق على ما كان عليه، وللمؤجر أن يطالب بحقه الخاص، أو لمن هو متول عليه. وأما ما كان لغيره من رؤساء العمل، أو غيرهم، فإذا اعتدى عليهم أحد من العمال، فكل يطالب بحقه، ولا دخل للمؤجر، إلا بما يخصه بنفسه، إلا بوكالة شرعية ممن له الحق.
34-
خصص في هذه المادة الاعتداء على الرئيس، أو الآجر، فإذا ما الحكم إذا كان الاعتداء على غير الرئيس في العمل؟ ! وما الفرق بين الرئيس والمرؤوس في حفظ حقوقهم وكرامتهم وحمايتهم، إن كان هذا يعتبر حماية لهم؟ !
35-
جاء في الفقرة الأولى من المادة (17) : أنه يجوز للعامل أن يترك العمل قبل نهايته إذا كان الآجر، أو من يمثله قد أدخل الغش عليه وقت التعاقد، فيما يتعلق بشروط العمل، بشرط أن يتمسك بهذا السبب، قبل مضي شهر من تأريخ دخوله في العمل. والواقع أن هذا التحديد غير مبني على أصل شرعي، فهو تحديد باطل، بل يثبت الخيار وقت علمه بالغش، سواء مضى لذلك شهرٌ أو أكثر، غير أنه متى علم العامل بالغش ثم استمر على العمل بعد علمه به، فإنه ليس له الخيار، سواء كان ذلك بمدة طويلة أو قصيرة، لأن استمراره في العمل يدل على الرضى منه بذلك.
36-
جاء في الفقرة الثانية من المادة (17) أن للعامل أن يترك العمل إذا لم يقم الآجر بالتزاماته طبقا لأحكام هذا النظام
…
ا?. وبما أن هذا النظام غالب مواده وشروطه ليست موافقة للشريعة الإسلامية، بل كثير منها قد نصت الشريعة
على إبطاله، فلا ينبغي أن الآجر يلتزم به، فضلا عن أن يكون للعامل الفسخ بعد التزاماته؛ بل لو التزم به كله، بما فيه المخالف للشريعة، لكان العقد باطلا من أصله. وإنه لمن العجب أن يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مراعاة لأحكامه، فلو كان ذلك بالنسبة لأحكام الشريعة لكان هو الأولى، بل هو الأوجب، فالله المستعان.
37-
جاء في الفقرة الرابعة من المادة (17) : أن للعامل أن يترك العمل، إذا وقع من الآجر اعتداء عليه أو على أحد من أفراد أسرته، ا?. وقد سبق الكلام على نظيرة هذه المسألة في الملاحظة (33) ، والواقع أن هذه المادة ونظيرتها تعتبران مفتاح خلاف وخيانة، فإنه متى سئم العامل من العمل، أو المؤجر من العامل، تعرض وتسبب لمنازعة الطرف الآخر، لعله يحدث منه أي اعتداء، وإن قل، ليحصل له فسخ العقد المبرم بينهما.
38-
جاء في الفقرة الخامسة، من المادة (17) إلزام الآجر بدفع مكافأة مالية للعامل، إذا ترك العمل للأسباب المبينة في فقرة (أ) و (ب) و (ج) و (د) والكلام على هذه المادة وفقراتها قد سبق مفصلا في الملاحظة رقم (20) و (21) وبينا هناك وجه بطلانه، فليرجع إليه.
39-
جاء في المادة (18) : على صاحب العمل أن
يدفع للعامل الذي يثبت مرضه أثناء العمل نصف أجر أيام مدة انقطاعه عن العمل لهذا السبب وحده، دون أن يكون ناشئا عن إصابة وقعت أثناء العمل، بشرط أن لا تزيد المدة التي يدفع عنها نصف الأجر المذكور عن شهر في السنة، ا?. ويلاحظ على هذه المادة ملاحظات، منها: أن إلزام المؤجر بدفع هذا المبلغ غير سائغ، بل هو ظلم، وتعد عليه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام" 1؛ وأكل العامل لهذا المال، من مال المؤجر، من أكل المال بالباطل، حيث لم يرض مالكه بدفعه إليه عن طيب نفس، لأنه ليس في مقابلة عمل، وحرمة مال المسلم كحرمة دمه.
40-
ومنها: التحديد بنصف الأجرة، وفي مدة لا تزيد على شهر في السنة، هذا كالذي قبله، لم يستند على نص من كتاب ولا سنة، ولا قول صحابي، ولا تابعي، ولا أحد من أهل العلم. والشريعة الإسلامية احترمت أموال المسلمين، وبينت ما يجوز الأخذ منها، وما لا يجوز، وفيها مقنع وكفاية لطالب الحق، فنعوذ بالله من مخالفتها.
41-
التفريق بين ما إذا كان ناشئا عن أسباب أثناء العمل، أو كان غير ذلك، وهذا التفريق لا أصل له في الشريعة الإسلامية؛ بل هو تحكم بدون مستند، فإنه لا فرق بينهما إلا إذا كان ناشئا عن سبب من المؤجر، أو عن
1 البخاري: الحج (1739) ، وأحمد (1/230) .
عدم إخباره بخطورته، مع علمه به، والعامل لا يعلم ذلك. وأما إذا لم يقع من المؤجر أي سبب، فليس للعامل حق عليه، إذا كان العامل بالغا رشيدا، أو كان صبيا وقد أذن له وليه؛ وإذا كانت الإصابة نشأت عن سبب أحد، فالمتسبب هو الغارم، سواء كان المؤجر أو غيره.
42-
جاء في المادة (19) : يدخل في احتساب الأجور التي تقدر على أساس التعويض عن الإصابات طبقا لأحكام هذا النظام، سواء كانت يومية، أو أسبوعية، أو شهرية، كل ما كان يدفع مقابل العمل الزائد، والمدة الزائدة إلى العمال المصابين، كعلاوة إضافية، أو منفعة خاصة، ا?. وسبق أن لوحظ على مماثلتها رقم (20) فقرة (أ) من المادة (13) منه، وكذا في المادة قبل هذا، وقد بينا أن ليس للمصاب على المؤجر أي حق ما لم يكن بسببه أو تفريطه، أو عدم إشعار العامل بالخطر مع علمه، أي المؤجر بذلك. وكذلك المكافأة المشار إليها غير لازمة شرعا إلا بشرط، إلا إذا كان تبرعا من المؤجر؛ وإذا كانت تبرعا، فلا يترتب عليها ما يترتب على الأجرة من اللزوم ونحوه.
43-
جاء في الفقرة الرابعة من المادة (20) : أن
على الآجر أن يعد مساكن صحية متوفر فيها أسباب الراحة الكاملة، ويشترط على أصحاب المشاريع الصناعية أن لا يسكنوا أكثر من عاملين اثنين من العمال العرب في غرفة مساحتها 12 × 15 قدما
…
إلخ. وهذه الفقرة أيضا تقدم الكلام على مماثلتها في رقم (10) على الفقرة السادسة من المادة (10) وأوضحنا فيها أن هذا لا يلزم به المؤجر إلا بشرط؛ ثم إنه لا بد من وصف المسكن وصفا لا يختلف. وقد ذكر هنا: الراحة الكاملة، وهذا شيء لا ينضبط، لأن كمال الراحة قد يحصل لبعض الناس بمجرد الوقاية من الحر والبرد، وحفظ الأمتعة فقط، وبعضهم لا تكفل راحتهم إلا بإيجاد الماء فيه والكهرباء، والهاتف، ونحوها. فلهذا لو حصل الاتفاق من المؤجر والعامل على اشتراط المسكن الكافل للراحة فلا يكفي هذا الوصف، لما فيه من الإيهام والجهالة، لذا يبطل مضمون هذه المادة من جهتين: عدم اشتراطه في العقد، وعدم ضبط المراد منه.
44-
جاء في المادة (22) : يجب على العامل أن يقدم للآجر بيانا بأسماء وعناوين من يقوم بإعالتهم
…
إلخ، وهذا الذي عبر عنه بالوجوب، غير ظاهر الوجوب،
بل ليس ذلك بلازم على العامل. فإن المؤجر لا حق له على أحد سوى العامل الذي جرى بينه وبينه العقد؛ أما حقوق عائلته، فهي على العامل، ولا دخل للمؤجر في ذلك، ولا يلزم العامل الإخبار بذلك إذا امتنع منه.
45-
جاء في المادة (23) ما نصه: إذا أصيب العامل بإصابة أقعدته عن العمل، يدفع له أجرة 75% من الأجرة، وذلك بعد مضي سبعة أيام من تاريخ الإصابة التي يجب أن يستوفي فيها أجره كاملا. ويستمر الدفع للـ 75% إلى حين شفاء المصاب، أو انتهاء مدة الإقعاد المؤقت في المادة (3)
…
إلخ. ويلاحظ عليها ما يلي:
46-
منها: أن الإصابة التي تقع على العامل بدون سبب من المؤجر أو مباشرة، أو بسبب إهماله، فليس للعامل حق في مطالبة المؤجر بشيء من ذلك، وتغريم المؤجر غير سائغ شرعا، بل هو من الحكم بغير ما أنزل الله تعالى.
47-
إن التحديد بهذا المبلغ الموضح، تحديد مجانب للعدل؛ وذلك أن الإصابة تتفاوت، وهي هنا جعلت على حد سواء. ثم إنه نص على سبعة أيام، فإن زادت أو نقصت تغير الحكم؛ وهذا التحديد غير مبني على أساس من الشرع، ولا من العقل، ولا يوجد له نظير في معناه
من الأحكام الشرعية، بل هو ظلم وجور.
48-
نصت هذه المادة على أن للعامل استحقاق السبعة أيام التي قعد فيها عن العمل؛ وهذا أيضا لا يستحقه العامل، ولا يجب على المؤجر، ولا تجوز مطالبته بذلك، كما سبق نظيره أكثر من مرة.
49-
إلزام الأجر بدفع 75% من الأجرة ظلم وتعد، فلو كثر المصابون من العمال، فهل يلزم الأجر الدفع لهم 75% من أجورهم بدون مقابل، ولو أدى إلى ضرره ونفاد ماله، ويلزم بالاستدانة لهم مهما كثر عدد المصابين عنده؟ ! حاشا الشريعة الإسلامية، التي هي أساس في العدل والكمال، أن تأتي بمثل هذا، صدق الله العظيم:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [سورة المائدة آية: 50] .
50-
تحديد دفع هذا المبلغ إلى مدة شفاء المريض، هو تحديد مجهول، فقد يبرأ لمدة شهر أو أقل أو أكثر، غاية الأمر: أنه جعل نهايته لسنة، وهذا لا يجعله معلوما، لأنه إما أن تكون المدة بضعة أيام، أو شهور، أو سنة كاملة.
51-
ما ذكر من التعريف المشار إليه بمقتضى المادة (25) سيأتي الكلام عليه عند الكلام على المادة نفسها. وبالجملة: ما تضمنته هذه المادة، كله باطل لا أصل له؛ والشريعة الإسلامية تعطي العامل أجره المتفق عليه
بينه وبين المؤجر، ما دام قائما بعمله، وإذا تخلف عن العمل فلا شيء له، ما لم يكن يمنع من المؤجر مع بقاء مدة الإجارة، بدون سبب يقتضي ذلك.
52-
جاء في المادة (24) يدفع الآجر إلى العامل في حالة الإقعاد الجزئي الدائم المبلغ المندرج في الكشف المربوط; ويلاحظ على هذه المادة ما يلي:
53-
منهما: أن إلزام الآجر بشيء لم يلتزم به، جور وتعد، يتنافى مع العدل المأمور به في الكتاب والسنة.
54-
أنه لو التزم بما تضمنته هذه المادة لفسد العقد، للجهالة؛ ومن شرط صحة الإجارة العلم بالأجرة.
55-
إنه قد أطلق الكلام فيها ولم يفصل فيه أي تفصيل، مع أن الإصابة التي تكون حال العمل لا تخلو من حالات: إما أن تكون بسبب من المؤجر أو إهماله، أو بسبب غيره كأحد العمال، أو بدون سبب. ففي هذه الحالات، لا يلزم المؤجر شيء إلا ما حصل منه مباشرة أو تسببا.
والمفهوم من هذه المادة: أنه لو حصل اعتداء من أحد العمال على عامل آخر، فإن جميع ما يترتب أو ينتج من هذا الاعتداء، فغرامته على المؤجر؛ ولا شك أن هذا
خطأ، لا يقره الشرع الشريف، ولا العقل السليم، وتصوره كاف في قبحه.
56-
فرق هذا النظام بين المصابين، فجعلهم ثلاث درجات، لكل درجة حكم خاص، من حيث الدية للنفس، والمنافع، والأعضاء كما فصل ذلك في المادة الأولى، قسم ثلاثة، في فقرة (أ) و (ب) و (ج) حديث جاء التفريق فيها بين العامل بالشهر، والعامل باليومية، والعامل تحت التمرين، والعامل الفني، وغيره. إذ نوع الدية، فجعل دية عيني العامل درجة أولى (18.000) ودرجة ثانية (12.000) ودرجة ثالثة (8.000) كما جعل دية اللسان، أو الإصابة بالبكم الدائم، درجة أولى (12.000) وثانية (6.000) وثالثة (5330) ، وقس على هذا باقي الأعضاء، والمنافع. وهذا التفريق غير سائغ في الشريعة الإسلامية، بل هو مضاد لها أي مضادة، ومعارض أقبح معارضة; وكيف يتجرأ من يدعي الانتساب إليها، في وضعه أو إقراره أو الرضى به، وقد علم من له أدنى معرفة بالشريعة أنه لم يحصل بين المسلمين أي تفريق من حيث الدية؟ قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة آية: 45]، وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"المؤمنون تتكافأ دماؤهم" 1؛
وهذا النظام المفرق بين المسلمين في الديات مضاد
1 النسائي: القسامة (4746)، وأبو داود: الديات (4530) .
لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومخالف لما أجمعت عليه الأمة، فلا فرق بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والسيد والمسود، في الدية، لما تقدم. ومن تأمل أسرار الشريعة في مساواة المسلمين بتكافؤ دمائهم، على بطلان هذا النظام الخاطئ، لكن يستثنى من ذلك الفرق بين الحر والعبد، وبين الذكر والأنثى، والمسلم والكافر.
57-
فرق هذا النظام بين دية اليد اليمنى واليد اليسرى فجعل لليمين دية أكثر من اليسرى، ثم عكس عندما تكون اليسرى تعمل عمل اليمين. ثم جرى التفريق كذلك بين دية سلامى كل منهما، بناء على التفريق السابق في اليد؛ وهذا كما سبق تحكم، وخرص ما أنزل الله به من سلطان. بل بمجرد التصور الخاطئ، والرأي العازب عن الرشد؛ فإن هذا مع ما جمع من الجور والظلم، والتفريط الذي لم يبن على أساس من الشرع والعقل، فهو مباين لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الشرع لم يفرق بينهما، لا جملة ولا تفصيلا. ولا شك أن حكمة الله بالغة، وأن العقول قاصرة عن إدراك حكمة الله في شرعه؛ ولكن هؤلاء الذين استبدلوا بالشريعة النظم والقوانين، لما انحرفوا عن أصل الدين،
حسن الشيطان والهوى كل ما يخالف الشريعة، وتنقصوها، واستهزؤوا بأهلها، فبقوا متحيرين عقوبة لهم، قال تعالى:{اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [سورة البقرة آية: 15] فلا ينبغي للمسلم الركون إليهم، ولا العمل بشيء من نظمهم لحل المشاكل؛ فالله قد أغناهم بكتابه وهدى رسوله صلى الله عليه وسلم عن سواهما، بل فيهما ما ليس عند أحد من العالمين، من حل المشاكل، ودرء المفاسد، وحفظ المصالح.
58-
جعل دية اليدين المقطوعتين من مفصل الكتفين، أكثر من دية النفس وهذا أيضا خطأ؛ فإن الشارع لم يجعل فيها سوى دية واحدة، بدون زيادة، وفي الواحدة نصف الدية.
59-
فرق بين فقدان البصر من ذي العينين وذي العين الواحدة؛ فجعل لذي العين الواحدة مثل ما لإحدى العينين، مع سلامة الأخرى، ولم يفرق بين عين الأعور، وبين من بقيت إحدى عينيه، بأن جعل ديتهما درجة أولى (8000) ودرجة ثانية (5400) ودرجة ثالثة (3600) وهذا باطل شرعا وعقلا. فالشريعة سوت بينهما، لقيام العين الواحدة في النفع مقام العينين.
60-
إنهم لم يفرقوا بين العامل المسلم، والحر
والذكر، وضدهم؛ والواجب فيه التفريق، فإن الشرع فرق بينهم، في دية النفس والأعضاء، والمنافع وسائر الجراحات.
61-
إنه لم يفرق بين الإصابة إذا كانت عمدا، أو خطأ؛ والقرآن صريح في التفريق بينهما.
62-
إن ما ذكر في هذا الجدول، على سبيل العموم مخالف للشريعة، ومضاد للنصوص؛ فلا يحتاج مناقشة تفصيلية، بل هو باطل من أساسه؛ فلا يجوز العمل به، لأنه متناقض من أصله، حيث فرق بين متماثلين، وماثل بين المتفاوتين. فنجده فرق بين الأسنان والأنياب والأضراس، وما قطع من الكوع أو المرفق، كما فرق بين الأصابع كالسبابة والوسطى، والخنصر والبنصر، ونحو ذلك مما هو كثير. وهذا شأن كل ما لم يستمد من نصوص الكتاب والسنة، تجده متناقضا، بعيدا عن المصلحة، بعيدا عن العدل، بعيدا عن الصواب، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [سورة النساء آية: 82] .
63-
جاء في المادة (25) : أنه يدفع الآجر إلى العامل درجة أولى في حال الإقعاد الكلي (27.000) ريال، وللعامل درجة ثانية (18.000)، وللعامل درجة ثالثة (12.000) ا?. ويلاحظ ما يلي:
64-
إن هذا التفريق بين العمال تفريق ما أنزل الله به من سلطان؛ فيحرم العمل به، لأنه لا يستند على نص، بل هو محض الجور والظلم والتعدي، فيجب احترام أموال المسلمين. ثم لو أن هذا العامل لم يعمل عند الآجر إلا مدة يسيرة، لا تزيد أجرته على مائة ريال مثلا، فما المسوغ لإلزام الأجر بدفع (27.000) ؟ اللهم غفراً!.
65-
إن المؤجر لا يلزمه شيء، إلا ما ثبت عليه شرعا، بأنه هو المباشر، أو المتسبب. ثم إن الواجب عليه هو ما أوجبه الشرع، لا ما نص عليه هذا النظام الجائر.
66-
نصت المادة (26) على أن الآجر يقوم بمعالجة ومداواة المصابين، ونقلهم إلى المستشفيات، على نفقته مهما كان نوع الإصابة، ولو لم تحدث لهم أثناء العمل. ونصت المادة (27) أيضا: أن الأجر يقدم لعماله المعالجة الطبية، حتى في الأوقات التي لا تمنعهم إصاباتهم الجراحية عن مواصلة العمل. وقد سبق بيان أن هذا غير لازم، كما لوحظ على نظيرتهما، في الملاحظة رقم (45) ، وهو أنه لا يجوز إلزام الآجر بهذا إلا بشرط بينهما، فيما يمكن ضبطه؛ وما لا يمكن ضبطه لا يجوز ولو شرط.
67-
نصت المادة (28) على أن العامل إذا مات، بإصابة لحقته أثناء العمل، دفعت لورثته المبالغ المدرجة في المادة (25) وقد سبق أن بينا أن ذلك باطل شرعا، وأنه من التحاكم إلى الطاغوت، ولا يجوز مراعاة ما دلت عليه هذه المادة، لمخالفتها نصوص الكتاب والسنة.
68-
جاء في المادة (29) أن العامل المصاب بعجز سابق، أو بمرض جسماني سابق، إذا أصيب بإصابة من النوع المؤدي للعجز الدائم، لا يأخذ تعويضا عن الإصابة الأخيرة
…
إلخ. وهذه المادة قد تقدم الكلام على مثيلتها، في الملاحظتين رقم (52) و (63) وبيان أن الأجر لا يلزمه شيء، إلا ما كان منه مباشرة أو تسببا.
69-
نصت المادة رقم (33) على أن يعتبر تقدير تعويض الإصابات بهذا النظام، جزءا متمما له، ا?. وقد سبق الكلام على ذلك الجدول، وبيان تناقضه، ومباينته للشريعة بما يغني عن إعادته هنا، وذلك في الملاحظة رقم (63) .
70-
جاء في فقرة (أ) من المادة (34) : يجوز حرمان العامل من التعويض عن إصابته، إذا ثبت ثبوتا قطعيا: أن العامل كان متعديا في مشاجرة أو عراك.. ويلاحظ على هذه الفقرة أنه لا يجوز حرمان العامل لما يستحقه شرعا على من تشاجر معه، ولو
ثبت تعديه؛ غير أنه يؤاخذ بما عليه، ويعطى ما له من الحق، لأنه قد يتعدى، ثم المعتدى عليه يأخذ أكثر من حقه، وهذا لا يجوز. لأن الله يقول:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [سورة النحل آية: 126] ؛ فإذا زاد المعتدى عليه بالأخذ من حقه، وجب أخذ الحق منه بمقدار ما زاد عما يستحق.
71-
جاء فى الفقرة (2) من المادة نفسها: يجوز حرمان العامل من التعويض إذا قصر في إبلاغ الإصابة وظروفها، في مدة ثلاثين يوما من تأريخ الإصابة أو الحادث. ويلاحظ على هذه الفقرة أن تأخر إبلاغ المصاب بالإصابة، لا يضيع حقه على الجاني، متى ثبت شرعا؛ بل إذا كان مستحقا للتعويض، فإن تأخره لا يكون سببا في حرمانه من حقه. ومتى وجد هذا التحديد في كتاب أو سنة، أو كلام لأحد من العلماء؟ ! إن هذا تحديد ما أنزل الله به من سلطان، وجراءة على الله في أحكامه {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل آية: 117-116] .
72-
جاء في الفقرة الثالثة من المادة نفسها، فيما
يجوز به حرمان العامل، من التعويض إذا ألحق العامل الإصابة بنفسه عمدا، بشرط ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة. ويلاحظ على هذه الفقرة ما يلي:
73-
قوله: إذا ألحق العامل بنفسه عمدا، والمفهوم من قوله: عمدا، أن الحكم يتغير إذا أخطأ، وأنه يرجع الضمان على المؤجر في حالة الخطأ؛ وهذا كسابقه، من القول على الله بلا علم، ومناقضة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه"1.
74-
قوله: ألا يتسبب عن الإصابة وفاة، أو عاهة مستديمة، فظاهرها أنه إن حصل شيء من ذلك، فضمان الإصابة أيضا على المؤجر، وهذه كسابقتها، في جانب بعيد عن الصواب. فكيف يلزم المؤجر جناية العامل على نفسه، كما لو ضر العامل يد نفسه، فعابت وتعطل العمل بها؟! سبحان الله! ما أعجب هذا الجهل! فالعقل السليم يأبى هذا وينكره، وقد تقدمت الإشارة إلى مثل هذا.
75-
جاء في الفقرة الخامسة من المادة (34) فيما يجوز فيه حرمان العامل من التعويض، ما نصه: إذا امتنع العامل عن عرض نفسه على الطبيب، أو امتنع من قبول معالجة الطبيب المكلف بالمعالجة من قبل الآجر
…
إلخ.
وهذا كما سبق ليست مسقطا لحقه، إن كان له حق
1 مسلم: البر والصلة والآداب (2564) ، وأحمد (2/277) .
شرعي على من جنى عليه؛ فيجب بذل ما وجب له من حق، وإن امتنع، لأن امتناعه ذلك، لا يسقط حقه الواجب له شرعا، ولا يلزمه الشرع بالمعالجة من غير اختياره، لعدم وجوب التداوي. بل ربما كان تركه للمعالجة توكلا على الله، ورضى بأقداره، أو لعدم ثقته بالطبيب. ثم إنه ليس من المتيقن زوال الخطر عنه بالعلاج، هذا شيء مشكوك فيه، وإن كان الغالب فيه النجاح، فإنه أيضا ربما كان سببا للوفاة.
76-
جاء في المادة (38) يجوز للعامل، أو الآجر، أن يطلب إجراء التحكيم إذا قام نزاع بينهما؛ وذلك بتقديم طلب إلى الحكومة، وتتولى هيئة من عضوين، يعين أحدهما الآجر والآخر الحكومة. فإذا اختلف العضوان، عين وزير المالية حكما ثالثا في الفصل في النّزاع؟ ويلاحظ عليها أمور منها:
77-
أن طلب التحكيم إلى شخص ممن يعرف الأحكام الشرعية، لا يتوقف جواز التحكيم إليه إلى تقديم طلب للحكومة؛ بل متى رضيه الخصمان، وكان أهلا لذلك، فإنه ينفذ حكمه بدون تقديم طلب، أو علم من الحكومة، لأن "عمر وأبيا تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد منهما قاضيا".
78-
أنه لا يشترط كون التحاكم إلى هيئة مؤلفة من عضوين، يكفي واحد إذا رضيه الكل وهو أهل.
79-
أنه إذا اشتبه الحكم على الهيئة إن كانت، أو الواحد مثلا، ولم يحكم كل منهما، فالواجب الرجوع إلى المحكمة الشرعية، من قبل الحكومة، وليس من حق وزير المالية تعيين حكم بينهما بغير رضاهما، إلا إن كان ولي الأمر جعل له ذلك.
80-
إن هذه الفقرة فرقت بين الآجر والعامل، فجعلت الحق للآجر أن يختار حكما، ولم تجعل للعامل مثله، بل جعلت ذلك للحكومة؛ والعدل أن كلا منهما يختار لنفسه من يكون أهلا، وإلا فمرجعهما إلى المحكمة الشرعية.
81-
جاء في المادة (40) أن المحاكم المحلية أو الهيئات القضائية التي تنشأ خصيصا لذلك هي المرجع المختص لحل عموم القضايا المتنازع فيها، والتي لا يمكن حلها على مقتضى التحكيم المدرج في المادة (38) ا?. ويلاحظ عليها: أن هذه المحاكم المشار إليها في هذه المادة، إن كان يقصد بها المحاكم الشرعية التي تحكم بنصوص الكتاب والسنة، فنعم يلزم الرجوع إليها؛ وإن كان يقصد بها أي محكمة غير شرعية، فالرجوع إليها من التحاكم إلى الطاغوت المأمور بالكفر به في قوله
تعالى: {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ} [سورة النساء آية: 60] . ثم إنه قال: التي لا يمكن حلها على مقتضى المادة (38) ، وقد مر بيان فساد ما تضمنته تلك المادة المشار إليها في هذه، والله المستعان.
82-
جاء في المادة (41) مما نصه: يجري فصل الحوادث للإصابات التي وقعت سابقا على العامل على اختلاف درجاتهم، لدى شركات الاستثمار في المملكة، التي لم تفصل إلى تأريخ تصديق هذا النظام ونشره، بمقتضى مواد هذا النظام؛ كما يسري مفعوله على كل ما يقع بعد ذلك من حوادث وإصابات في المشاريع الاستثمارية الحالية والمقبلة، ا?. ويلاحظ عليها: أنه لا يجوز لأحد أن يتحاكم إلى غير ما أنزل الله، سواء هذا النظام أو غيره من النظم المستمدة من غير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذه القوانين الوضعية من جملة الحكم الطاغوتي، الذي نهى الله ورسوله عن التحاكم إليه؛ وإنما الواجب التحاكم إلى ما أنزل الله في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [سورة النساء آية: 65] ، لا سيما وقد لوحظ على
هذا النظام مباينته للشريعة، ومصادمته لها؛ فكيف يسوغ لأحد أن يدعو الناس إلى التحاكم إليه، ونبذ الأحكام الشرعية، وهو يدعي الإسلام؟ وقد سبق بيان بطلان هذه المواد التي تشير إليها هذه المادة، وأنها لم تبن على أساس من الشرع، ولا أساس من العقل الصحيح. واعتماد هذا النظام في دماء المسلمين، وأموالهم، هو من الفساد في الأرض. كما في قوله تعالى:{وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا} [سورة الأعراف آية: 56]، وقوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ} [سورة البقرة آية: 12-11] .
83-
جاء في المادة (43) ما نصه: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام يعتبر باطلا ولا يعمل به، ولو كان سابقا على صدور هذا النظام. ا?. حسبنا الله ونعم الوكيل، إنا لله وإنا إليه راجعون، يا للمصيبة!! ويا للإسلام! أتنسب العداوة هكذا علنا للقرآن، والسنة، ويضرب بأحكامها عرض الحائط بكل جراءة ووقاحة؟ !!
إذا رزق الفتى وجها وقاحا
…
تقلب في الأمور كما يشاء
أليس هذا مشاقة لله ورسوله؟ {وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [سورة الأنفال آية: 13] . أليس هذا تضليلا للأمة الإسلامية، وحملا لها على التحاكم إلى الطاغوت؟ ألم يخشوا الوقوع في معنى قوله تعالى:{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [سورة النحل آية: 25] .
ويلاحظ: على هذه المادة الشنيعة ملاحظات، منها:
84-
أنها جعلت أحكام هذا النظام فوق كل نظام، حتى الأحكام الشرعية، كما هو صريح المادة؛ فنعوذ بالله من مخالفة شرعه ودينة {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65] .
85-
قوله: كل شرط يخالف أحكام هذا النظام، يعتبر باطلا، هذا رد صريح لقوله صلى الله عليه وسلم "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"1.
وهذا النظام يرد على الحديث ردا قبيحا صريحا، لا يحتمل التأويل، فيقول: كل ما يخالف هذا النظام، فهو باطل، ولو كان شرطا صحيحاً جرى على وفق قول الرسول صلى الله عليه وسلم:"المسلمون على شروطهم" 2 كما لو اشترط أحد المتعاقدين على الآخر نفعا معلوما، لم يذكر في هذا
1 البخاري: الشروط (2729)، ومسلم: العتق (1504)، وأبو داود: العتق (3929)، ومالك: العتق والولاء (1519) .
2 الترمذي: الأحكام (1352) .
النظام، يكون باطلا، ما أجرأهم على الشريعة، وعلى القول على الله بلا علم!
86-
إن هذه المادة أكدت بطلان ما سوى هذا النظام بستة تأكيدات.
أولا: قوله: كل شرط، ومن المعلوم أن لفظ:"كل" يدل على العموم والشمول.
ثانيا: أنه أكد بالإشارة إليه، بقوله: هذا النظام، خوفا من توهم غيره.
ثالثا: توكيده بلفظة: باطل، لأن التعبير بالبطلان من أعلى الألفاظ التي تدل على فساد العقود.
رابعا: توكيده بقوله: لا يعمل به، لأنها تأكيد لقوله: يعتبر باطلا، فإن هذه الجملة كافية في عدم اعتبار غيره.
خامسا: توكيده بقوله: ولو كان سابقا عليه.
سادسا: تأكيده بالإتيان بالظاهر محل الضمير؛ لأن قوله: على صدور هذا النظام يقوم مقامه لو قيل فيه: على صدوره، وهو أليق بالقواعد العربية في مثل هذا، إلا إذا قصد به التأكيد، فأتى به هنا لهذا الغرض. فلأي شيء يحتاط لهذا النظام كل هذا الاحتياط، مع مصادمته بالشريعة، فلو كانت هذه الاحتياطات في الأمر بالتمسك بالأحكام الشرعية لكان هو الألزم والأوجب، كما هو المتعين فرضا.
87-
إن هذه المادة تدل بجملتها، على أنها ناسخة للأحكام الشرعية ومبطلة لها; لأنها ألغت جميع ما تقدم على أحكام هذا النظام، ومن المعلوم: أن الشريعة الإسلامية قبله بقرون، فاعتبر أنه ناسخ لها.
فيا عجبا! يصبح هذا النظام المحتقر، المستمد من زبالة الأذهان، ونحاتة الأفكار، يحكم نفسه على الشريعة المطهرة الغراء، المنزلة من حكيم حميد، حكيم في أحكامه، عليم بما يصلح عباده، سار عليها المسلمون أربعة عشر قرنا في غاية من الطمأنينة، وحفظ الحقوق.
وكلما كمل تطبيقها كمل الأمن والراحة للبشر، وبحسب ما يهمل منها يحصل القلق والخلل؛ أضف إلى هذا كله: كونها أوضحت جميع ما يحتاج إليه الناس في معاشهم ومعادهم.
قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [سورة الأنعام آية: 38]، وقال تعالى في ذم من ابتغى التحاكم إلى غيرها:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [سورة المائدة آية: 50] .
وكل ما خالف القرآن والسنة، فهو حكم جاهلي، بعيد عن العدل والإنصاف، مبني على الجور والميل عن طريق الصواب، وهو المعنى بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [سورة النساء آية: 60] .
وكل ما خالف القرآن والسنة فهو حكم طاغوتي.
88-
جاء في المادة (44) ما نصه: يكون للموظفين الذين تنتدبهم وزارة المالية حق التفتيش، على محال العمال المختلفة، والتحقق من اتباع هذا النظام، وتنفيذه، وإثبات ما يقع من مخالفات لأحكامه
…
إلخ. وحيث أنه قد علم أن هذا النظام لم يبن على أساس من الشرع، فلا يجوز العمل به ولا تنفيذه، فضلا عن المطالبة باتباعه وتنفيذ مواده؛ فالواجب أن يتبع في جميع ذلك أحكام القرآن والسنة، ويطرح ما سواهما من النظم والقوانين المخالفة لهما، كهذا النظام.
89-
جاء في المادة (46) ما نصه: يستحق العامل استراحة أسبوعية قدرها يوم واحد، بأجرة كاملة بعد اشتغاله ستة أيام
…
إلخ. ويلاحظ على هذه المادة: أن إلزام الأجر بدفع أجرة يوم واحد للعامل بدون عمل، أن ذلك غير سائغ في الشرع، ولا يجوز للعامل مطالبة المؤجر بذلك، وهذا يعتبر في الحقيقة من أكل المال بالباطل، والله يقول:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [سورة البقرة آية: 188] .
90-
جاء في المادة (47) إن للعامل أن يتمتع بإجازة
اعتبارية، بأجرته الكاملة عن كل سنة عشرة أيام، على أن يتعين مواعيدها، بموافقة صاحب المشروع
…
الخ. ويلاحظ عليها: أن هذه الإجازة ليست لازمة على المؤجر، إلا بشرط بينهما عند العقد، مع بيان عدد أيامها، وتعيينها من الشهر؛ وأما بدون ذلك فهو غير لازم. أما الإجازة المرضية، فقد تقدم الكلام على حكمها في الملاحظة رقم (39) على المادة (18) وبينا عدم لزومهما للآجر.
91-
جاء في المادة (57) ما نصه: الإصابات التي تعتبر إقعادا جزيئا دائما، أو إقعادا مؤقتا، أو إقعادا كليا، أو تشويه منظر في الجسم أو إخلالا في الحواس، أو ارتجاجا فيها، تجري التعويضات عنها بمقتضى الجدول المربوط ا?. وقد سبق أن أوضحنا الملاحظات على ذلك الجدول، وبيان بطلانه، وأنه في معزل بعيد عن الصواب مخالف للكتاب والسنة، ومخالف للعقل السليم، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله:
ما صادق الحكم المحل ولا هو اسـ
…
توفى الشروط فصار ذا بطلان
92-
جاء في المادة الأولى من المواد الملحقة بجدول التعويضات ما نصه: الشلل العام الدائمي، والإصابة في
المخ التي ينتج عنها عته أو جنون، لا تمكن معالجتها، يعتبران في التعويض كالإقعاد الكلي; ويلاحظ عليها ما يلي:
93-
التسوية بين الشلل والعته والجنون مع الفارق الكبير بين هذه الثلاثة، وهذا خطأ؛ فإن الشرع جعل في ذهاب العقل كله الدية كاملة، وفي ذهاب بعض العقل بالنسبة إلى ما ذهب منه بقدره.
وأما الشلل: فإن كان العضو المشلول قد تعطل نفعه كليا، ففيه ما في ذلك العضو لو قطع، لأن بقاءه بدون فائدة كذهابه من حيث النفع. وأما إن لم يتعطل ذلك العضو، ولكن نقص نفعه، ففيه حكومة، وكذلك في العقل، إذا لم يمكن معرفة مقدار ما ذهب منه.
والحكومة حيث جاءت في هذا الباب، فالمراد منها: أن المجني عليه يقوم عبدا؛ فيقوم سليما من تلك الجناية؛ ثم يقوم وهي به قد برئت، فما نقص من قيمته سليما فله مثل نسبته من ديته الشرعية.
94-
يلاحظ عليها ما لوحظ على المادة (25) منه، وهو أن التفريق بين المصابين إذا كانوا رجالا مسلمين أحرارا، فهو تفريق باطل، ما أنزل الله به من سلطان؛ فالواجب المساواة في الدية الشرعية حسب ما نصت عليه النصوص الشرعية وأجمعت عليه الأمة
95-
لم يوافق الجدول المشار إليه الشرع، بتقدير
الدية في أحد، من المشلول، والمعتوه، والمجنون؛ بل إما زادت أو نقصت. والحق أنه لا يوضع تقدير للدية، ولا لسائر الأعضاء والمنافع، إلا من أحكام الشريعة الإسلامية، التي أوضحت ذلك أتم إيضاح، على وجه العدل والإنصاف.
فإن من له ذوق في الشريعة الكاملة في مصادرها ومواردها، وله أدنى اطلاع على كمالها وعدلها وسعتها ومصلحتها، علم يقينا أن الخلق لا صلاح لهم بدونها البتة، وعلم أيضا بطلان هذا النظام الحقير، من أوله إلى آخره.
96-
جاء في المادة ثلاثة من الملحق بجدول الإصابات: إذا كان المصاب أعسر، تعتبر تعويضات الإصابات التي تلحق بيده اليسرى كيمنى غيره، وبالعكس، ا?. وبناء على ما علم من الشريعة الإسلامية أنه لا فرق بين دية اليمنى واليسرى، من الأعسر وغيره، فيعتبر هذا التفريق مخالفاً لها؛ ولا يجوز العمل بموجبه. وقد سبق بيان بطلان ذلك، في الملاحظة رقم (57) ، على جدول الإصابات.
97-
جاء في المادة (4) من الملحق، ما نصه: فقدان بعض السلامى يعتبر كفقدان السلامى كلها، وفقدان
السلامى الثلاثة من أصبع من أصابع اليد عند انفرادها، يعوض بالفرق الواقع بين السلامتين والأصبع كاملا، ا?. ويلاحظ عليه ما يلي:
98-
أنها مخالفة لما قرره علماء الشريعة، وكون فقدان بعض السلامى كفقدانها كلها خطأ، بل الواجب في بعض السلامى يكون بقدر نسبة ذلك البعض، من دية تلك السلامى كاملة.
99-
أنه لا فرق بين دية السلامى الثلاثة، فإن الواجب في كل واحدة منها ثلث عشر الدية، ما عدا الإبهام، ففيها نصف عشر الدية، لكونها لا تحتوي على أكثر من سلامتين. وقد مر في الملاحظة رقم (52) بيان خطأ ما قرر نحو الأصابع وغيرها مما هو مخالف للشريعة.
100-
نصت المادة الخامسة من الملحق: أن الإصابة التي لم يرد ذكرها في جدول التعويضات من تشويه، أو اختلال، أو تغير في الوضع الطبيعي لأي عضو، أو لأي جزء من الجسم أو الحواس، إذا كانت تتصل بعضو من الأعضاء التي ذكرت في الجدول، يقدر تعويضها منسوبا إلى تعويض كامل ذلك العضو، بنسبة مئوية. وإذا كانت لا تتصل بأي عضو منها، يقدر تعويضها من قبل لجنة
…
إلخ، ويلاحظ على هذه المادة ما يلي:
101-
أن المنصوص عليه في الجدول المشار إليه،
لم يسلك فيه مسلك العدل، الذي جاءت به الشريعة الكاملة، بل هو مشاقة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم واتباع غير سبيل المؤمنين، فالواجب على المسلمين نبذه، وعدم الالتفات إليه.
102-
أن النسبة المئوية غير معتبرة في كل ما ذكر، بل فيه تفصيل: فمنها ما هو مقدر استحقاقه شرعا، ومنها ما هو مقدر فيه النسبة المئوية، وهى الجناية إذا كانت بالحواس، أو المنافع إذا لم تذهب كلها بل ذهب جزء معلوم المقدار، ومنها ما فيه حكومة، وقد سبق بيانها.
103-
إن الذي يحتاج إلى لجنة، هو الذي يكون فيه وجه حكومة، لأجل التقدير السابق بيانه؛ لكن لا يشترط في أعضاء اللجنة ما ذكر في هذه المادة، بل تبعثهم المحكمة الشرعية للتأكد من معرفتهم بالشيء المطلوب؛ ثم المحكمة بدورها تحكم بذلك، وتلزم به. وليس لأحد حق الاعتراض، إذا توفرت شروط الحكم، وانتفت موانعه، وكان جاريا على الأصول الفقهية المستمدة من الشريعة الإسلامية.
104-
جاء في ملحق نظام العمل والعمال، ما نصه: صدر الأمر السامي الكريم، رقم 7218 وتأريخ 1/11/67? باعتماد قرار مجلس الشورى الآتي رقم 212 وتأريخ 29/8/67? كتشريع قانوني، يلحق بنظام العمل والعمال.
وقد جاء فيه: أن يقصد بجملة "أثناء العمل" الواردة في نظام العمل والعمال، من الناحية القضائية، استحقاق الموظف العامل لعمل من الأعمال المنوطة به، لكافة الحقوق الممنوحة بموجب نظام العمل والعمال، مقابل الواجبات المطلوب منه أداؤها، سواء كان ذلك في مقر عمله الرسمي، أو في طريقه إلى عمله الرسمي. وكل إصابة يتعرض لها موظف خلال ذلك، وضمن نطاق الأراضي والتشكيلات التي تتمتع الشركة بامتيازها، يعوض عنه بمقتضى نظام التعويض. إلخ، ويلاحظ على هذا الملحق ملاحظات:
105-
منها: أن هذا النظام لما كان غير متمشيا فيه مع الشرع، بل هو ضد للشريعة، كان مفتقرا في كل حين وآخر إلى زيادة، وتصحيح، وملاحظات، وتصويب أخطاء، وإيضاح مجهول، وتعديل متناقض، وإكمال ناقص؛ فهذا مما يبين ضعفه وفساده، وأنه دائما ناقص متناقض؛ مما يؤدي إلى اشمئزاز نفس كل من رآه أو سمعه.
106-
أن ما ذكر في هذا الملحق مخالف للشريعة؛ وتلك الالتزامات المذكورة غير لازمة للمؤجر، لأنها مبنية على الجهالة والغرر، وعلى الظلم والجور، مع أنه لم يحصل عليها الاتفاق من جانب المؤجر والمستأجر، فصار فيها جملة محاذير: مخالفتها للشريعة، والجهل، والغرر،
وعدم الاتفاق عليها وقت العقد، وقد سبق الكلام على مثل ذلك.
107-
أنه صدر الأمر باعتماد هذا الملحق، كتشريع قانوني، سبحان الله! ياللأسف! يا للمصيبة! هل هناك مشرع غير الله؟ ! أيجترئ مجترئ فيحاد الله في أمره وشرعه، ويقر على هذا الفعل؟ ! أنحن في حاجة إلى تشريع أحد؟ والله تعالى يقول:{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [سورة الشورى آية: 13] الآية. أنحن في حاجة إلى تشريع لأحد، وكتاب الله بين أيدينا، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا؟ ! هل الشريعة قاصرة على حل مشاكلنا؟ ! كلا والله ثم كلا، إنها والله الكاملة الوافية، التي لم تدع شيئا مما يحتاج إليه البشر في ماضي الزمان وحاضره ومستقبله، إلا أتت به على الوجه الأكمل وأوضحه وأعدله. أليس قد أكمل الله لنا الدين وأتم علينا نعمه، ورضي لنا الإسلام دينا، كما قال عز وجل {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [سورة المائدة آية: 3] ؟
أيكفي أن نتسمى بالاسلام بدون أن نطبق أحكامه علينا؟ ! لا والله لا يكفي حتى نتمسك به عقيدة وعملا واتباعا لأحكامه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [سورة النساء آية: 65]
هل هناك مشكلة من مشاكل الحياة، لم تحلها الشريعة
وتوضحها غاية الإيضاح؟ ألم نصدق بقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى} [سورة النحل آية: 89] ؟ ألم يؤكد لنا صلى الله عليه وسلم هذا بقوله: "تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها؛ لا يزيغ عنها إلا هالك"1.
ويا عجبا! أترمى شريعتنا بالتقصير في حل مشاكلنا، ونمد يد الفقر والحاجة إلى أعدائنا، ليعلمونا حل مشاكلنا؟! أيشهد أعداؤنا بكمال الشريعة ونضوجها، وصلاحها لكل زمان ومكان، ونكذبهم بأفعالنا؟! أليس من الواجب علينا أن ننشر محاسنها لمن لا يعلمها، ونبلغها إليهم بكل ممكن؟ ما بالنا عكسنا هذه القضية، وأصبحنا نبث مساويا لها لا تعرفها الشريعة التي هي في غاية البعد عنها، ونقف دون تعلم الناس لها، بتقليدنا لهم، واتباعنا سواها؟ !. أيعدل عن الشريعة الكاملة العدل، إلى نظم في غاية من التناقض والظلم والجور، يشهد بعضها على بعض بعدم ملاءمتها، ووضوح تناقضها؟ ! وليس بأدل على ذلك من كونها في كل زمن يطرأ عليها التعديل والتبديل، والملحقات، كما في هذا الملحق. وكل حاكم يتجدد يجدد نظما وقوانين لم تكن لمن قبله; صدق الله العظيم {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرا} [سورة النساء آية: 82] .
1 ابن ماجه: المقدمة (44) ، وأحمد (4/126) .
لو سبرت أحوال العالم لوجدت أقر الناس عيشا، وأنعمهم بالا، وأوفرهم طمأنينة، وأعظمهم استقرارا، وأكملهم راحة، من تمسك بها؛ وبحسب تمسك هذه الدولة بالدين يحصل لها ولشعبها الأمن والطمأنينة والاستقرار والراحة.
ولذا نرى سائر البلاد تكثر فيها السرقة، والقتل، وهتك الأعراض، وضيق العيش على الأكثر منهم؛ ونرى- ولله الحمد- في هذه البلاد السعودية، لم يحصل فيها ما حصل في غيرها، وما ذاك إلا بسبب ما تمسكوا به، من هذه الشريعة. وإنا نخشى أن يتسرب إليها ما تسرب إلى غيرها، من هذه النظم المخالفة لما شرعه الله في كتابه العزيز وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. وإنا نبتهل إلى الله بأسمائه الحسنى، وصفاته العليا أن يوفق حكومتنا الرشيدة إلى ما فيه صلاحها، وصلاح دينها، وأمرها، ومجتمعها، وشعبها عموما، وأن يجعلنا وإياهم من المتمسكين بدينه عند فساد الزمان، وتغير الأحوال، لتنال بذلك الأجر الوافر، وتتصف بوصف عباده الذين وصفهم الله بقوله:{الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [سورة الحج آية: 41] ،
وأن يهدينا الصراط المستقيم، صراط {الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [سورة النساء آية: 69] . إلى آخر ما دعا به وأمل من الحكومة الرشيدة بأن تكون حصنا منيعا لحفظ هذه الشريعة الحكيمة، وأن تذود عنها بالسيف والسنان، وكل ما أوتيته من حول وقوة، وغير ذلك مما سأل ربه أن يحققه، وأثنى به عليه، وصلى على خاتم النبيين، كعادته رحمه الله في ختام رسائله، مع ذكر اسمه وتاريخ التحرير.
فجزاه الله أحسن الجزاء، ونفع بعلمه النافع، وعمله الصالح. فالقضيه إذا وقعت وبينت بيانا شافيا، تنفع في نظائرها وأشباهها؛ ولعل هذا من أهم أسباب وضعها هنا، لمسيس الحاجة إليها، وكشف حقائق أشباهها، وما تبقى منها، مما هو قائم وموجود الآن، ولكي يعرف موقف العلماء والمسؤولين إزاءها وقت وقوعها، وكيف يعالجونها، ولما يحصل من براءة ودفاع عنهم وعن غيرهم، وغير ذلك مما يتعطش إليه المسترشد، ويطمئن به البصير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم. آخر القسم الثاني من البيان الواضح وأنبل النصائح; ويليه: تراجم أصحاب تلك الرسائل والأجوبة.